زغل العلم
للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي
(673 -748 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا يماري أحدٌ في فضيلة العلم وشرفه، ومكانة أهله، فذلك معلومٌ ظاهرٌ، فقد رفع الله تعالى من شأن العلم، وحثَّ على الازدياد منه، وأمر بالتزود منه؛ فقال تعالى: {وقل رب زدني علماً} (طه: 114)، وقال سبحانه: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11).
واستشهد الله عز وجل بأهل العلم على أجلِّ مشهودٍ به، وهو توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، وهذه تزكيةٌ لهم وتعديل وتوثيق، لأن الله تعالى لا يستشهد بمجروحٍ، فقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران: 18)، ورويت في هذا الباب عشرات الأحاديث والآثار في فضل العلم ومكانته، وفضل مدارسته وغير ذلك.
وأمام هذه الفضائل المتنوعة والكثيرة للعلم وأهله، نجد أن بعض من سلك سبيل التعليم انحرف عن غاياته النبيلة من عمارة الكون وإثارة التفكير البنّاء، وإصلاح دنيا الناس وأديانهم إلى متاهات العصبية العمياء، والتفتيش عن الحيل، والاشتغال بالمعارك الكلامية، والفتاوى الجدلية، والزغل الذي هو الغش والخديعة، فحطَّ بعضهم على بعض، وافترى بعضهم على بعض، وولج كثيرٌ منهم في الشُّبهات، كُلُّ ذلك تحصيلاً لملاذ الدنيا وحطامها الفاني، وابتغاء الرفعة والرياسة والجاه عند الساسة والأغنياء، فظهر ما يُسمى بعلماء السوء الذين قصدوا من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها.
وهذا الكتاب هو تحفةٌ أثرية رائعة، لواحدٍ من العلماء الأفذاذ وهو الإمام الحافظ الذهبي، الذي تناول فيه أصناف العلوم المنتشرة في عصره، وبيّن رأيه فيها، وحال المشتغلين بها، كعلم القراءات والتجويد وعلوم الحديث، وتكلم عن فقهاء المذاهب في عصره، وعن النحو واللغة وغيرها، مُبيناً مخالفة أهل عصره لسلوك الرعيل الأول من الصحابة والتابعين والأئمة الأوائل رحمهم الله تعالى. ومُشدداً النكير على المُقلّدة والجهلة الجامدين على التقليد الأعمى بلا برهان ولا دليل.
وأوضح المصنف -رحمه الله -أن العلم إذا لم يكن داعياً إلى العمل فلا فائدة منه، بل هو وبالٌ على صاحبه، وخزيٌ وندامة، وقد ذم سبحانه من آتاه علماً فلم يهتدِ به، ولم ينتفع به يوم القيامة، فقال: {ويوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ* فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ* فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} (القصص: 65 - 67).. قد جاءت النصوص في هذا الباب شاهدةً بأن شرَّ الناس منزلةً عند الله تعالى يوم القيامة من كان لا يعمل بعلمه. وعلى رأس هؤلاء العلماء الفجرة الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، نسأل الله العفو والعافية.
وبيَّن المصنف طريقة السلف في طلبهم للعلم وتحصيله وأنهم شدوا الرحال في سبيل ذلك. وإذا كان الإمام الذهبيُّ يشكو من علماء عصره ويتأوَّه من حالهم، فما نقول نحن عن علماء زماننا؟ لا سيما الذين يتبجحون بالألقاب التي أصبحت ديدن كثيرٍ منهم.
وافتتح الحافظ الذهبي كتابه هذا، بقوله: "اعلم أن في كل طائفةٍ من علماء هذه الأمة ما يُذمُّ ويُعاب، فتجنبه…"، وذكر في القراء من يغالي في إقامة الحروف مع غفلته عن معاني الآيات، ومنهم من يعاني التنغيم والتمطيط، ومنهم من يبالغ في إحضار غرائب الوجوه والسكت… وذكر من أهل الحديث من همته جمع الحديث دون فقه ما فيه، ومن يروي عن كل من هبَّ ودب… ثم نعى على قضاة المالكية تسرعهم في الإفتاء بالتكفير والقتل … ونعى على الحنفية تحايلهم على الربا وإبطال الزكاة … ودعا الفقهاء الشافعية إلى التواضع وترك المراء في البحث والمناظرة… وبرَّأ الحنابلة من تهمة التجسيم … وحذر النحويين من ترك علوم الكتاب والسنة … وأنه ينبغي الاعتناء بعلم اللغة وتفسير السلف … وأن من يدرس أصول الفقه عليه أن يجتهد فيه … وأنه في أصول الدين ينبغي ترك المسائل التي ترك السلف البحث فيها … وأنه لا يُعتنى من علم المنطق إلا بما يُفيد … ويجب ترك علوم الفلسفة بالكلية … وأن من يشتغل بعلم الفرائض لا ينبغي أن يستغرق منه كل وقته، بل يتوسط في تعلمه … وأن لا يشتغل بعلم البلاغة والإنشاء إلا من يتقي الله فيما ينشئه … ولا يشتغل بالشعر من رقَّ دينه … ومن باشر علم الحساب ينبغي له أن يتق الله لئلا يسرق … وكذلك علم الشروط "القضاء" … وكذلك الوعظ ينبغي على صاحبه أن يوسع ثقافته وأن يكون من الأتقياء الزُّهاد.
وختاماً، نقول:
إن تصحيح النية والصدق والإخلاص لله تعالى شرطٌ أساسيٌّ في طلب العلم.
وقد بين الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 152 -153) أثر صلاح النية وفسادها على طلاب العلم، فقال ما مُلخصه:
((كان السلف يطلبون العلم لله، فنبلو، وصاروا أئمةً يُقتدى بهم … وقومٌ طلبوه بنيَّةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنى عليهم، فلهم ما نووا … وترى هذا الضرب لم يستضيؤوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله -تعالى-.
وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش، فتبا لهم، فما هؤلاء بعلماء! وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار. وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار)).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق