حديث مَسقَط
د. منذر محمد سعيد أبو شعر
وفقه الله وحفظه ورضي عنه
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن من أشرف العلوم وأجلها قدراً -بعد كتاب الله تعالى -علوم السُّنة النبوية، التي أولاها العلماء اهتماماً كبيراً، وصرفوا جُلَّ أوقاتهم في تعلُّمها وتعليمها، ومن أهم هذه العلوم علم الحديث دراية، والذي يعرف من خلاله حقيقة الرواية وشروطها، ويهتم بدراسة رجال الإسناد الذين يتسلسل الخبر بواسطتهم، ضمن شروط محددة وقواعد محكمة، يتم تسليطها على مجموع الروايات الحديثية والمقارنة بينها، لمعرفة الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود.
مع ضرورة التنبه إلى جودة تلك المتون، والتأكد من نظافتها، وخلوها من الشذوذ والعلة والمخالفات بأقسامها، لنتحصل -في النهاية -على خبرٍ متصل الإسناد، بنقل اثقاتٍ عدول عن مثلهم، إلى ما ينتهي إليه السند من المتن، وبذلك يمكننا الاطمئنان إلى سلامة ذلك الخبر، وأنه صدر عمَّن نُسب إليه.
ولا تزال علوم السنة على تنوعها محل اهتمام الباحثين والدارسين في شتى المجالات، ومن أخصِّ ما يعتني به العلماء والباحثون حقيقةً: الإسناد، لما له من أهمية بالغة في تقرير الأحكام وابتناء الأصول، والرد على الشبهات، ولذا قيل: ((الإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء))، ولا شك أن الإسناد أمرٌ اختُصّت به هذه الأمة من القرن الأول دون غيرها من الأمم.
ولم يقتصر ميزان النقد الحديثي على السنة النبوية وحدها، بل تعدى ذلك إلى نقد الروايات التاريخية المتعلقة بأخبار الدول والحضارات وما في الذاكرة الشعبية من أساطير وخرافات، وقد تعامل علماء التاريخ مع هذه الروايات تعاملهم مع الحديث النبوي؛ لأجل تمييز صحيح الرواية التاريخية من مزيفها، وفي كل مرحلة كان العلماء والنقاد يستبعدون ما في التراث المنقول من السخافات والخرافات والأساطير التي تناقض أصول التفكير السليم، ومبادئ العقيدة الصحيحة.
ولا شك أن الرواية التاريخية تحتاج إلى مثل هذا النقد، الذي يجعلها في حالة متوازنة بين إمكان القبول أو الرد، لا سيما في الوقت الذي غلب فيه التساهل في نقل تلك الروايات، ولا يمكن لأحدٍ أن يُقلل من أهمية الرواية التاريخية التي ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في صناعة الأحداث والطوائف والآراء الفقهية والعقدية.
فكان من الطبيعي ظهور طائفة كبيرة من النقاد الجهابذة الذين محصوا لنا الأخبار، وجمعوا الروايات، في نسق تاريخي متسلسل منقطع النظير، وقد أحكم النقاد والمؤرخون في مصنفاتهم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأوضاع الاجتماعية، والثورة الثقافية والمعرفية، وكل ذلك يدفعنا إلى قراءة التاريخ قراءة واعية ومتأنية من منظور علمي موضوعي لا من منظور عاطفي فقط!.
ونقف اليوم مع كتاب نفيس، يتضمن حديثاً لطيفاً أجراه المؤلف مع أحد أبنائه أثناء تواجده في (مسقط)، تلك المدينة العُمانية التي يحتضنها البحر، والتي امتزجت أراضيها بمعالم التاريخ ونفوذ الحضارة، وتألقت بروعة الفكر وحضور القلب، في بلدٍ ترتسم في أفقه الحدود بين السماء والصحراء.
وفي ظل هذه الأجواء الحارة والمتعطشة للمعرفة، نجد أنفسنا أمام بحوث هامة في السنة والتاريخ لأحد علماء سورية الحبيبة، والتي تميزت بالأسلوب العالي في مناقشة قضايا أساسية ومحورية، تبحث في مصادر المعرفة، وطرق تحصيلها، والوثوق منها، وقد تدرج المؤلف بطريقة سلسة خلال الموضوعات، ليقرر كل ما يجيب عن هذه التساؤلات، بطريقة علمية رصينة تتفق مع مبادئ ديننا الحنيف.
وكانت هذه السطور المُحكمة تجاهد تلك الاعتراضات الواهية، والتي سلطها المرجفون على علوم الإسناد والوحي، ليثبت الكتاب أن العقائد تنتصر بالمتجردين والأوفياء، الذين لهم حضورٌ في قلوبنا وإن كانت أعيننا لا تراهم، ولا زلنا نفتقد كثيراً منهم في مجالس العلم، وبين رفوف المكتبات، لكن الخير في هذه الأمة كثير، وإن كانت نسيتهم الحياة في مواكبها المائجة، ولكن الله تعالى يذكرهم في الملأ الأعلى، لأنهم مانسوه صباحاً ولا مساءً.
ولا يمكنني أن أفي بفضل هذا الكتاب، لا سيما وهو ينقل عبارات السلف، ويقرر عقائدهم، وفهمهم لهذه القضايا الخطيرة، بالإضافة إلى أن الكاتب لم يُخلِ الكتاب من التنبيهات النفيسة، والفوائد المثمرة، والملاحظات المهمة.
وإن كانت المكتبة الإسلامية تعجُّ بالكتب الكثيرة ذات الموضوعات المكررة، لكن نقش هذا الكتاب كان في محله وموقعه ووقته، وقد تضمن هذا الكتاب الحديث عن ثلاث موضوعات أساسية، نذكرها باختصار:
الموضوع الأول: في مفهوم الوحي وطرق إثباته:
وناقش الكاتب أهمية الإسناد باعتباره السُّلم الذي يرتقي من خلاله المسلم إلى المتن. وبين أن الإسناد خصيصة من خصائص هذه الأمة، وحاجة البشرية إلى الوحي الإلهي باعتباره الركيزة الأساسية للنبوة، وهو أيضاً أحد مصادر المعرفة الغيبية عند المسلمين، والذي يتكامل بالضرورة مع مصادر المعرفة العقلية والحسية.
وينتقد المؤلف نظرية الغرب في تجريد المعرفة وقصرها على المحسوس فقط، كما ينتقد استقاء المعرفة عبر الخلوات الشيطانية التي يمارسها المتصوفة والفلاسفة أو استقائها من مكاتب الاستشراق التي عنيت بتزييف التاريخ والعبث به.
ثم انتقل إلى بيان أهمية دور النبيّ في حياة البشر، لأنه المؤسس للطريقة العملية الصحيحة للسير في سبل الحياة، والاستعداد للآخرة. وأن النبوة لها خصوصيتها فليست هي فعلاً اعتباطياً مجرداً عن الحكمة والعدل، وليست هي مرتبةً يمكن الوصول إليه بالرياضة والكسب.
وبين أنه ليس من شروط صحة النبوة وجود المعجزة، وإنما المعجزة دليلٌ عمليٌّ مؤيدٌ لها، ومؤكدٌ لصحتها، وأن معجزات الأنبياء السابقين التي لم ترد عندنا في نصٍّ صحيح تُعد في الروايات التاريخية، التي لا نلتزم بالضرورة قبولها.
وبين أن أعظم معجزات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -هو القرآن الكريم، ومظاهر الإعجاز فيه كثيرةٌ جداً، أبرزها تحدي العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بسورة من مثله، وكان عجزهم دليلاً دامغاً على صدق هذا النبي، وأن القرآن وحيٌ منزلٌ من عند الله.
وتعرض الباحث لنقد طريقة المستشرقين الطاعنين في علوم الوحي والسنة واللغة، الذين قلدهم بعض الكُتّاب والأدباء العرب كطه حسين وغيره، وناقش المؤلف شبهات الغرب حول الوحي المحمدي، والتي كان أهمها: لقاء الرسول بالراهب بُحيرا قبل البعثة ودعواهم أنه مَن ألهم محمداً القرآن، بينما ذهب آخرون إلى دعوى أكثر غباءًا وهي كون ورقة بن نوفل هو الذي ألَّف القرآن، ولا شك أنها دعاوى متهافتة ورخيصة لإنكار الوحي، والطعن في هذا الدين، ولكنها افتراءات هشة وضعيفة.
وردَّ كذلك على دعوى (صرع) النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإصابته بالجنون، وهي الدعوى التي ردها القرآن الكريم في صريح آياته، فنفى عنه الجنون والكهانة والسحر.
الموضوع الثاني: في مفهوم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم:
بيّن فيه معنى النسخ في اللغة، وفي الاصطلاح، وأن السلف توسعوا في استعمال المصطلح ليشمل تقييد المطلق، وتخصيص العام، وتبيين المجمل، بالإضافة إلى رفع الحكم بكليته، وذلك بالنظر إلى ترك العمل بذلك الخبر في بعض الحالات أو مطلقاً، وذكر أمثلة لذلك من كلام العلماء.
ثم خصص فصلاً للحديث عن الحكمة من وقوع النسخ، وتوسع في بيان ذلك توسع العالم المتبحر، الذي له جلد في البحث والنظر، وذكر الأصول التي يعرف بها النسخ في الشريعة الإسلامية، والمؤلفات الإسلامية في هذا الباب، وذكر جملةً تعريفية مختصراً عن كل كتاب من هذه الكتب (والتي بلغت خمسةً وثلاثين كتاباً)، مما يُهم الدارس والباحث المتخصص معرفته.
ثم انتقل للحديث عن جواز النسخ في الشرائع السماوية السابقة، ومخالفة اليهود لهذا الفنون الرباني، فأنكروا النسخ من جهة العقل، وتحججوا بحجج واهية بينها العلماء، ثم تحدث عن أنواع النسخ بالنسبة للتلاوة والأحكام.
وقد أبصرتُ لفتةً إبداعية انفرد بها المؤلف عندما جعل فصلاً خاصاً في تحقيق بعض الأحاديث التي حصل فيها النسخ، لتكون النموذج العملي للقارئ الذي يستشف من خلاله عظمة هذه الشريعة، وجلال علمائها.
فينقلنا من حديث (والشيخ والشيخة إذا زنيا …) إلى (الداجن التي أكلت شيئاً من المصحف…)، وإني لأتوقف ملياً عند هذا المباحث النفيسة التي أُكنُّ لها كل تقدير وإجلال لكاتبها.
والثالثة في مفهوم القضاء والقدر:
ثم ينقلنا الباحث المتميز إلى القضية التي أرقت العلماء، وحيّرت الحكماء، وهي مسألة القضاء والقدر، والتي تعد من أصول عقيدتنا الإسلامية، فذكر تعريفهما، والفرق بينهما، وحقيقة الإيمان بهما، ومذاهب العلماء والفرق الإسلامية في القضاء والقدر، وتعليل أفعال الله بالحكمة بما يوافق مذهب أهل السنة والجماعة في الشرع والقدر، وذكر مراتب القدر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق