فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد
بشار ميثاق محمود الذيابي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن الحياة الإسلامية تقوم على الفكر الناضج، والعقل الناضر؛ إذ أن الغباء في ديننا منقصة، توجب على المرء أن يلجأ إلى من هو أوفى منه عقلاً، وأقرب رشداً، وإذا كانت العقول بمفردها عاجزة عن إدراك المصالح كلها، كان لزاماً أن تسترشد بهدي الشرع في إدراك الصواب والخطأ، والصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، ولأجل ذلك شرع الإسلام فقه الموازنات التي يمكن للمرء من خلالها إدراك المصالح وتحصيلها أو تكميلها، وإدراك المفاسد ودرئها أو تقليلها، سواء كانت خالصة أو راجحة، كل ذلك استناداً إلى النصوص الكثيرة التي دعت إلى رفع الحرج، وإزالة المشقة الواقعة والمتوقعة.
وبهذه المرونة الفذة التي تميزت به شريعتنا الغراء، تمكن الإسلام من تعديل وتغيير معتقدات وأخلاق وعادات العرب في أقل من ربع قرن، من خلال إعمال قانون جلب المصالح ودرء المفاسد، وكان هذا التغيير جذرياً وشاملاً في جميع نواحي الحياة.
فإذا أمنت المفسدة عُمل بالمصلحة، وإذا اجتمعت مفسدة ومصلحة؛ فلنا فيها تقديرات: فإن كانت المفسدة أعظم، فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وترتكب المفسدة الأدنى دفعاً للمفسدة الأعلى، وحفظ البعض أولى من تضييع الكل، ويدرأ الأفسد بارتكاب الفاسد،
وفي فقه المصالح والمفاسد: ليس من اللازم أن تكون المصلحة كلية عامة، بحيث تشمل جميع الناس، لأن رعاية المصلحة قد يكون ضرورة خاصة، تختص ببعض الأفراد، وهي مصالح معتبرة في شريعتنا الغراء.
وليس من اللازم أن تكون المصلحة قطعية، فالعمل بالظن الراجح أمر معمول به في الأحكام الفرعية، وقد ناط به الشرع أموراً كثيرة بها.
وتكلم الباحث عن تعريف المصلحة، والمفسدة، والموازنة، وأنواع المصالح المعتبرة، وشروط اعتبارها، والدليل على مشروعية فقه الموازنات، والدليل على اعتبار المصلحة من الكتاب والسنة والإجماع، والقواعد التي وضعها الفقهاء في تأييد هذا المعنى.
أولاً: تعريفات:
1-المصلحة في اللغة: هي كل ما فيه نفع للإنسان، سواء كان بالجلب والتحصيل، كتحصيل الفوائد واللذائذ، أو بالدفع والإتقاء، كاستبعاد المضار والآلام.
2-وأما المصلحة شرعاً: فهي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، وفق ترتيب معين فيما بيَّنَها.
3-والمفسدة شرعاً: هي كل ما يعود على الإنسان بالضرر والألم، ولم يكن مقصوداً شرعاً.
4-الموازنة في اللغة: التقدير، ومعرفة قدر الشيء.
5-الموازنة اصطلاحاً: هي المفاضلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة، والمتزاحمة، لتقديم أو تأخير الأولى بالتقديم أو التأخير.
ثانياً: أنواع المصالح من حيث الاعتبار والإلغاء:
1-مصالح ملغاة: وهي كل مصلحة قام النص، أو الإجماع، أو القياس على إلغائها، وعدم اعتبارها، لما فيها من تحقق الضرر، ولو توهماً.
وموقف الشارع من هذا النوع:
هو الإلغاء والإهدار، فلا سبيل إلى قبوله أو الأخذ به.
مثاله:
إهدار الشرع لمصلحة أكل الربا في زيادة الثروة.
وإهدار مصلحة الجبان في عدم الإقدام على الجهاد، حفاظاً على نفسه.
وإهدار مصلحة المريض في الموت؛ لأنه ميؤوس من شفائه.
وإهدار مصلحة المرأة في التساوي بالرجل في الميراث.
وإهدار مصلحة الزوجة في منع زوجها من التعدد.
2-مصالح مرسلة: وهي المصالح التي سكت الشارع عنها، فلم يشهد لها بالاعتبار ولا بالإلغاء: لعدم وجود النص المعين.
وموقف العلماء منها:
أنها تعتبر بحسب نظر أولي الأمر من المجتهدين؛ فيأخذون بها إذا اقتضى حالها الأخذ، ويتركونها إذا ترتب عليها مفسدة، أو أدت إلى ضرر.
مثاله:
تسجيل عقود الزواج والبيوع، لمصلحة حفظ الحقوق، وصيانة النسل والمال، والمنع من اختلاط الأنساب، أو أكل أموال الناس بالباطل.
ثالثاً: أنواع المصالح من حيث الثبات والتغير:
1-متغيرة: وهي التي تتغير بحسب تغير الأزمان والبيئات والأشخاص، كالتعازير، والنهي عن المنكر، وما شابه ذلك.
2-ثابتة: وهي المصلحة التي لا تتغير على مر الأيام والظروف، وذلك: كتحريم الظلم، والقتل، والسرقة، والزنى.
رابعاً: شروط المصلحة المعتبرة:
1-أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها: فلا مدخل للمصلحة ً إذا في الأمور التعبدية، لأن الأصل فيها أن تؤخذ بالتسليم.
2-أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع في الجملة، بحيث لا تتنافى مع أصل من أصوله، ولا مع دليل من أدلته القطعية، وإن لم يشهد دليل خاص باعتبارها.
3-أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين، فقد تكون مصلحة حاجية يكون فيها تيسير، ورفع الحرج والعنت عن الناس
خامساً: مجموعة من القواعد الضوابط التي قدرها الفقهاء في باب المصالح والمفاسد:
• لا ضرر ولا ضرار.
• الضرر يزال بقدر الإمكان.
• الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.
• يرتكب أخف الضررين، وأهون الشرين.
• يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.
• يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
• تقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة.
• تقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.
• تقدم مصلحة الكثرة على مصلحة القلة.
• تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
• تقدم المصلحة الدائمة على المصلحة المعارضة أو المنقطعة
• وتقدم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.
• درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
• المفسدة الصغيرة تغتفر من أجل المصلحة الكبيرة.
• تغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة.
• لا تترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق