تفسير سورة الفتح
وبيان ما يتصل بها من الفتوح الإسلامية والسيرة النبوية
تأليف عبد الله عفيفي بك
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لم تزل أنظار المسلمين الذين أمروا باستقبال الكعبة في المدينة تحنُّ وتشتاق إلى مكة؛ فقد طال عهدهم بها، وبالكعبة التي نشأوا في حجرها، ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطاً بها، وشوقاً إليها، وكانت الكعبة في نظر العرب قاطبةً ليس ملكاً خاصاً بقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل -عليه السلام -ولذا كانوا ينتظرون اللحظة التي يدخلون فيها ذلك البلد الأمين، وقد زالت منه جميع مظاهر الوثنية والتوجه لغير الله.
ويناقش هذا الكتاب الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون في الحديبية على المستوى العسكري والسياسي والإعلامي، وأن هذا الفتح كان حجر الأساس لما بعده من الفتوحات الكبرى، التي أرست هيبة الدولة الإسلامية، وجعلت لها مكانةً مرموقةً بين الدول في تلك الفترة، وذلك من خلال الملامح العامة لسورة الفتح، التي أرَّخت لهذا الحدث الإسلامي العظيم.
ولا شك أن أحداث الحديبية كانت متسارعة وشاقة على المسلمين، ولكن المهم أنها كانت الخطوة الأولى لما بعدها، والخطوة الأولى لا تلدها إلا عزيمةٌ كاملة، وإيمان صادق، وعاطفة ناضجة، الأمر الذي لمسناه في هذه الأحداث بالفعل.
وكان الدرس الرئيس المستفاد من هذا الكتاب: أن الإنسان المسلم يحتاج دوماً إلى منشطات الأمل، وكوابح الغرور، لأن يأسه من النجاح يقوده إلى الفشل والسقوط، واغتراره بما عنده يمنعه السبق واللحاق، وأن الأمل الكبير يتحقق دائماً عندما يتشبث أصحاب المبادئ بالحق والصبر والكفاح. وتبقى الحكمة والتأني هما الوسيلتان الرئيستان لمعالجة المواقف الصعبة والحرجة، لأنه عليها يبتنى ما بعدها.
وتعد هذه السورة من السور المدنية وإن لم تزل بالمدينة، لأن الهجرة كانت حداً فاصلاً بين السور المكية والمدنية. وقد نزل الوحي جبريل بالسورة والنبى بضجنان، ق طريقه إلى المدينة بعد صلح الحديبية. وضجنان مرتفع على مسافة خمسة وعشرين ميلا من مكة.
وفي نزول هذه السورة كاملة مرة واحدة أو على فترات خلاف، وأصح الأقوال أنها نزلت مرة واحدة، وعلى هذا القول يكون الإنباء بالوقائع التي حدثت بعدها من آيات الغيب ومعجزات القران .
وكان هذا الكتاب هديَّةً للملك فاروق الأول حاكم مصر، بمناسبة زواجه السعيد، ولكن ما يُهمنا هنا هو الفائدة التي أثمرها هذا الكتاب القيم من خلال إعادة قراءة السورة من خلال الواقع والعمل بما تقتضيه من الحكمة والموعظة والهدايات.
((مقدمة عبد الله عفيفي بك))
تفسير سورة الفتح
أخرج البخارى والترمذي وأحمد والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في سفر (=وكان ذلك حين انصرف الرسول من صلح الحديبية عائداً إلى المدينة في أخريات ذى القعدة سنة ست من الهجرة )، فسألته عن شيء ثلاث مرات. فلم يرد عليّ.
فحركتُ بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ القران، فما نشبت إذ سمعت صارخاً يصرخ بي! فوجفت (=وجف وجيفا ووجوفاً: خاف واضطرب) وأنا أظن أنه أنزلَ فيَّ شيء.
فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُنزلت عليَّ اللية سورة أحب إلى من الدنيا وما فيها! {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح: 1، 2).
وفى حديث ابن سعد عن مجمع بن جارية: لما نزل جبريل بسورة الفتح قال: تهنيك يا رسول الله، فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.
وبهذا التنويه العظيم نزلت سورة الفتح، و إنها لفتح مبين فى مقاصد الإسلام؛ وفى سياسة الإسلام، وفي أدب الإسلام، وفى تاريخ الإسلام.
وستعلم أن هذا الفتح المبين الذي استحق به الرسول الكريم أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأن يتم نعمته عليه، وأن يهديه صراط مستقيماً، وأن ينصره الله نصراً عزيزاً، ثم استحق به المؤمنون أن يدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأن يكفر عنهم سيئاتهم.
أقول: ستعلم أن هذا الفتح المبين لم بجرد فيه سيف، ولم يسل فيه دم؛ ولم تروع فيه نفس، ولم يهتك فيه ستر، بل كانت جنوده الظافرة، وأسلحته الماضية، هي الحلم، والصبر، والأناة، ورعاية الرحم، وإرصاد النفس والحياة لله، و إعدادها في سبيل الله.
هذه هى الوسائل التى بذلها الرسول الكريم، وشايعه وبايعه عليها صحابته الأبطال الأخيار، فكأن من ثمراتها ذلك الفتح المبين الذي خفقت به راية الإسلام على الأنام. وقبل أن نأخذ في تفسير هذه السورة العظمى نتحدث عن ذلك الفتح الذى نزلت واصفة له ومنوهة به، وهو صلح الحديبية. ثم نذكر ما أعقبه من الفتوح وما أثمره من النعم، والله المسؤول أن ينير لنا المحجة ويهدينا سواء السبيل.
حديث الحُديبية
* رؤيا الرسول:
رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في منامه ملكاً هبط، فبشره بأنه سيدخل البيت الحرام فى جماعة المسلمين، آمنين مطمئنين، فلما أصبح قصَّ رؤياه على أصحابه، واستنفرهم إلى مكة ففرحوا واستبشروا، ولم يخامرهم الشك في أن تحقق الرؤيا سيكون فى عامهم الذي هم فيه، وكان لك حين أهلَّ ذو القعدة من السنة الهجرية السادسة.
فتأهب المسلمون، وتخاذل المنافقون، وثَقُل من حول المدينة من الأعراب، فلم يستجب للدعوة النبوية إلا الأقلون، وخرج المسلمون في زهاء ألف وخمسمائة من صحابته يسوقون أمامهم الهدي، ويثنون على الله بالتكبير (=الهدي ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الأنعام للنحر).
* قريش الموتورة:
وكانت قريشٌ قد أكلتها المحن، وأوهنتها الحروب، ولكنهم ما كادوا يعلمون بمسير الرسول في أصحابه إلى مكة حتى جموا بقاياهم، واستثاروا أحقادهم، وعزموا أن يقفوا للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم -فلا يدعونه يدخل مكه وفيهم حياة .
* الرحمة والعزة:
وبينما الرسول -صلى الله عليه وسلم -في طريقهن لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك، فخرجوا معهم العُوذ المطافيل (= المراد الحديثات النتاج، والمطافيل جمع مطفل ذوات الطفل من الإنس والوحش)، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى (= موطن على مقربة من مكة) "يحلفون بالله تدخلها أبداً.
فقال رسول الله: يا ويح قريش قد أكلتهم الحروب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب! فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش! فوالله لا أزال أجاهدهم على الدين الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة (=السالفة موضع النحر من العنق ومعنى تنفرد تنفصل).
ثم قال: من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل أنا يا رسول الله، فسار الركب في طريق وعرٍ قاسٍ كثير الصلاب والصعاب، وعانى المسلمون منه عنتاً شديداً، ثم أفضوا إلى مهبط الحديبية أسفل مكة . وبينما الركب في طريقه إلى مكة بركت ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال الناس: خلأت ناقة رسول الله (= خلأت الناقة حزنت وبركت)، فقال: ((ما خلأت، وما هو لما لها بخُلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلح إلا أعطيتهم إياها)).
* آيةُ الرّضا:
ثم أقام -صلى الله عليه وسلم -بأصحابه حيث بركت ناقته بالحديبية، ولم كن هناك ماء يستقي منه الركب إلا أثر ماءٍ نضب من قَليب (= البئر القديمة)، فأعطى الرسول الكريم أحد أصحابه سهماً من سهامه، وأمره أن يغرزه حيث نضب الماء، فما لبث أن فاض الماء قوياً مندفعاً بإذن الله، حتى وسع الناس والدواب والأنعام.
* حديث الصُّلح:
وجاءت رسل قريش إلى رسول الله يسألونه عن مقدمه، فقال -صلى الله عليه وسلم - إنا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإنقريشاً قد نهكتهم الرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمُّوا (=استراحوا وحفظوا قواهم).
وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا على تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره. وكان حسب هذا القول الكريم المحكم أن يملك قلوب قريش بأسرها، ولكن سفهاءهم قابلوه بنخوة جاهلية، فلم يقدروه قدره بل أمعنوا في غوايتهم فقتلوا أحد أصحاب رسول الله، ثم أرسلوا أربعين من شذاذهم، فرموا المسلمين بالنبل والحجارة، وقد اعتقل المسلمون كثيرا من هؤلاء. وساقوهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم. وبعث عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان إلى مكة ليلقى أشرافها ويبلغهم رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم -فقصد عقلاء قريش فبلغهم عن النبي ما أرسله به. ولما فرغ من أمره أفسحوا له الطريق ليطوف بالبيت؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فاحتبسه قريش، فاحتبته قريش عندها وأرجف الناس أن عثمان قد مات.
* بيعة الفداء:
هنالك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم -أنا الأمر خرج عن طوق الصفح والحلم، وأن أشراف قريش فيما في تحدث الناس قد اقترفوا أمراً ينكره العرب، ويأباه الشرف، فأذن في الناس: هلموا إلى البيعة! ووقف -صلى الله عليه وسلم -في ظل شجرة من شجر السمر وأقبل عليه أصحابه متدافعين يبايعونه على الثبات حتى الموت. وكانت يد الله فوق أيديهم، ودعيت هذه البيعة بيعة الرضوان، وسميت هذه الشجرة شجرة الرضوان، لما شملها وشمل من تحتها من رضوان الله. و إذن لم يكن الإرجاف بعثمان إلا امتحانا امتحن الله به أصحاب رسول الله، فكانوا كما أحب الله ورسوله من الاعتصام بالله، والفداء في سبيل الله .
* قريش تسأل الصُّلح:
ولما رأت قريش وميض العزم الصادق من النبى -صلى الله عليه وسلم - أرسلت سهل ابن عمرو، وكان من أسمح قريش خلقا وألينهم جانبا، وقالوا له ائتِ محمداً فصالحه، ولا يكن فى صلحه إلا أن يرحل عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة أبدا، فأقبل سهيل، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى سهيل إلى موقفه من رسول الله خطب في الصلح، ورد عليه الرسول، واتفقا على أن يقوم بين الفريقين صلح أساسه: تحاجزهما عن الحرب عشر سنين، وعودة المسلمين دون زيارة البيت الحرام هذا العام، وإخلاء البيت للنبيِّ وأصحابه ثلاثة أيامٍ في العام القادم، وأن من جاء الرسول من أهل مكة بغير إذن وليه رده الرسول فلا يقبلونه، ومن جاء قريشا من فريق الرسول لا يردونه إليه بل يقبلونه، ومن أراد محالفة رسول الله، أو أراد محالفة قريش فله الخيار.
وبذلك كتب عهد الصلح، وكأن كاتبه علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما كتب في ديباجته (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال سهيل: هذا شيء. لا نعرفه اكتب: باسمك اللهم ! فقال رسول: أكتب كما قال، ثم لما كتب: (هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله)، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال رسول الله: امحُ، فقال عليّ: لا والله لا أمحاك أبداً. فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الصحيفة، فمحا وصفه الشريف.
* المسلمون يُفتتون:
ونزل بالمسلمين من أمر هنا الصحل أمرٌ عظيم، فهم يرون أنهم وهم على ما هم عليه من كثرة العدد، وقوة الإيمان يُقدمون لقريش يد الضعيف الراضي باليسير، وهم كانوا يؤمنون بأنهم سيدخلون مكة كما رأى الرسول آمنين ، فإذا هم يُردون عنها وهى مفتحة الأبواب، وما ظنك بموقف تُزلزَلُ فيه قدما البطل المؤمن عمر بن الخطاب فيروح يسأل صاحبه أبا بكر فى غيرةٍ واضطراب ألسنا بالمسلمين ! قال: بلى. قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا.
قال أبو بكر: ((يا عمر الزم غرزه =طريقته ونهجه)) فإني أشهد أنه رسول الله. قال: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم يتقدم فيسأل الرسول: ألستَ رسول الله! قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا! قال: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يُضيعني.
* أم المؤمنين:
وما ظنك بالمسلمين وهم أهل الفداء، وفيهم المهاجرون والأنصار وأهل بدر -ماطنك بهؤلاء حين يأمره الرسول أن يعقر، رءوسهم وينحروا ذبائحهم، فلا يسمع لأمره أحد! فيدخل على زوجه الكريمة، أم سلمة وقد أخذ الغضب منه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: هلك المسلمون .! أمرتهم أن يحلقوا وأن ينحروا فلم يفعلوا! فقالت يا رسول الله إنهم راموا أمراً فى الله فلم ينالوه، فكان حزنهم لما فاتهم من أمر الله، فإن أردت أن تحملهم على طاعة الله ورسوله فاخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا!، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، وبينما هم عائدون سمع الرسول رجلاً من المسلمين يقول: لقد رجعنا ولم نصنع شيئاً ! ولم يفتح لنا بشيء.!. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((بل فتحتم أعظم الفتح)).
* فجرُ السَّلام:
ولقد صدق الله ورسوله فقد فتح الله لنبيه ودينه بهذه السياسة العظمى أعظم الفتح وأعزه، فدانت لهم بهذه الحكمة السامية قلوب العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وحتى كان الذين استجابوا لله ورسوله بعد هذا الفتح أكثر كثيراً من ممن استجابوا يوم البعثة النبوية، وقد تبين أن ما -كان يظنه المسلمون هواناً لهم من شروط الصلح، إنما كان له قوة وعزة وتثبيتاً وتأييداً، فان اللاجئين الذين قصدوا النبي من مكة فردهم، جمع بعضهم بعضاً، وألَّفوا من أنفسهم كتيبة قوية مستبسلة، وقفت بساحل البحر على ممر قريش من الحجاز إلى الشام، فكلما مرت قافلة قتلوا رجالها، وحازوا بضاعتها؛ حتى أرسلت قريش إلى الرسول تناشده بالله والرحم، وتتوسل إليه أن يقبل اللاجئين إليه وهو فى حلٍّ مما جاء في شأنهم في عقد الصلح، ونشدوه أن يدعو الكتيبة الراصدة لقوافلهم، فدعاهم، وآواهم إليه.
ثم علم المسلمون أن الرؤيا الصادقة لا موعد لتأويلها إلا حين يشاء الله، كما أن الدعوة الصالحة لا موعد لإجابتها إلا حين يشاء الله، وأن أولى بالمؤمن أن يُسلم وجهه لله ورسوله: لا توهنه الشدة؛ ولا يذهب بلبه المكروه، ولا يصرفه ظاهر الأمر عن حقيقته، ولا يؤيسه التواء أول الأمر عن الرجاء فى استقامة آخره، على أن هذه الهدنة التى مدها عقد الصلح عشر سنين، لم تدم عليها قريش إلا عاماً و بعض عام، ثم نقضت عهودها وخفرت ذمتها، فأعانت بني بكر وهم حلفاؤها على خزاعة وهم حلفاء الرسول، فكأن من أمر ذلك فتح مكة.
وبينما النبى -صلى الله عليه وسلم -في عودته من الحديبية أنزل الله عليه سورة الفتح، وبها جمع الله لرسوله المختار وصحابته الأطهار أشرف النعم، وفضله على من سبق من الأنبياء وفضلهم على من سلف من الأمم.
وهناك فتح آخر يتصل بهذا الفتح المبين بسبب مكين، بل هو ثمرة من ثمراته، ومثوبة من مثوباته؛ وهو الذي أشارت إليه السورة الكريمة بقول الله تباركت آياته: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح: 18، 19). وهذا الفتح القريب هو فتح خيبر .
فتح خيبر
* الكيد والحسد:
كان أولى باليهود أن يكونوا أسبق الناس إلى نصرة رسول الله، وأسرعهم إلى إذاعة دين الله، لأنهم أهل العلم، وأهل الكتاب، وأعرف الناس بميثاق النبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81).
وهم كانوا يعلمون صفة النبيّ، ووقته، ومكانه، وكل ما يُحيط به، ولكن أدركهم الحسد وغلبت عليهم الشقوة فناصبوا النبيّ العداء؛ وسعوا بينه وبين سائر العرب بالشقاق، واتهموه عندهم بالكذب والبهتان بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتوسلوا بما كان بينهم وبين قريش من الصلات التجارية والمالية فأغروهم به، وسلطوهم عليه، ثم لما هاجر إلى المدينة حالفوا عليه المنافقين، ثم كادوا له عند أحزاب العرب حتى جمعوهم على حربه، فلما هزم الله الأحزاب لم يكن له بد من إجلاء الهود إلى أعماق الجزيرة فأجلاهم عنوة من حول المدينة إلى خيبر.
ولكهم وهم في خيبر مازالوا يفسدون ما بين النبى وبين العرب، فسار إليهم ومعه أهل بيعة الرضوان جميعاً، لم يتخلف منهم إلا جابر بن عبد الله، وانضم إليهم فريق من غيره، وكان مسيرهم في صفر من السنة السابعة، أي بعد انصرافه من الحديبية بشهرين وبضعة أيام، وكنت حصون خيبر أقوى حصون العرب، وأحفلها بالسلاح والمال والطعام، وقد ابتناها اليهود ليعتصموا بها من العرب جميعاً، وكان المسلمون فى سيرهم يكبرون الله بصوت يبعثه الإيمان الكامل فتهتز من روعته الراسيات، وبدأ رسول الله بالأموال السائمة يحتازها مالاً مالاً، ثم ثنى بالحصون يقتحمها حصناً حصناً، حتى انتهى إلى حصن السّلالم وهو أشدها بأساً، وأكثرها عتاداً، وأمنعها على الفاتحين، فلقي المسلمون منه عنتاً شديداً وحاصروه بضع عشرة ليلة، وكلما ذهبت كتيبة لتقتحمه ردت عنه مقهورة.
* حبيب الله وحبيب رسوله:
ولما عز الحصن على الكتائب المُهاجِمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويُحبه الله ورسوله، فما من أحد من أقطاب المسلمين وأبطالهم إلا تمنى الإمارة ليلتئذٍ، فلما أصبح النبي دعا علياً عليه السلام وكان أرمد فتفل في عينه فجليت،ثم أعطاه اللواء ونهض معه من الناس من نهض، فلما بلغ الحصن خرج له مرحب قائد اليهود وكبير أبطالهم، وعلى رأسه خوذة من الرخام وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب … شاكي السلاح بطل مجرب
أطعنُ أحياناً وحيناً أضربُ
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة … أكيلكم بالسيف كيل السندرة
ليثٌ بغاباتٍ شديدٍ قسورة
(=السندرة الكل باغتراف).
فضربه مرحب ضربة اتقاها عليٌ بترسه فانكسر، فلما وقف عليٌّ ولا ترس له نظر فرأى باباً مخلوعاً من الحديد فأخذه فتترس به، ثم ضرب بالسيف مرحباً فوق هامته ضربة اخترقت بينة الرخام وشقت هامته حى عضت بفكيه، وكبر فكبر المسلمون، ثم حملوا عل الحصن واليهود يلقون عليمم من فوقه الصخر والحديد وهم ي يزدادون إلا قوة واستبسالاً، حتى فتحه الله عليهم، وبذلك دانت خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
* الكرم والصفح:
وأرادت زينب بنت الحارث اليهودية أن تثأر لنفسها ولقومها من رسول الله، فزعمت نفسها مسلمة، ثم أعدت له شاة مشوية وحقنتها بالسم، وسألت: أي أعضاء الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع ، فأكثرت من السم فيه. فلما وضعتها بين يدي الرسول تناول الذراع فلاك منه مضغة فلم يسغها، فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بزينب فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك ؟ قالت: بلغتَ من قومي ما لم يخفَ عليك، فقلتُ: إن كان نبياً فسيُخبَر وإن كان مِلكاً استرحتُ منه، فتجاوز عنها عليه الصلاة والسلام.
* حكمة الله العالية:
وكأن لابد من القضاء على اليهود قبل أن يفد العرب من أقطار الجزيرة مسلمين، حسماً لكيدهم، وكفاً لمكرهم، ولينفق النبي إتع من أموالهم ومطاعمهم على قصاد المدينة وهم ضيوف الله ورسوله ، وليزود الكتائب الإسلامية بالعتاد والسلاح لفتح مكة، وهكذا يرفع الله المسملين درجة درجة حتى يصلوا إلى الغاية العليا من عزة الدنيا وسعادة الآخرة.
هذا هو الفتح القريب الذي أثاب الله به المسلمين، وبشرهم به قبل وقوعه، وجعله من دون فتح مكة خيرا عاجلاُ، وقوة عتيدة. وننتقل من بعده إلى فتح مكة، وهو المرحلة الأخيرة من الفتح العظيم.
فتح مكة
* قريش تنقض العهد:
لقد علمت أن مما نص عليه صلح الحديبية: أن من شاء دخل في حلف الرسول ومن شاء دخل في حلف قريش، وللمحالف حق الحليف من العهد والذمة والأمن والسلام. وقد حدث أن نشب الشر بين بنى بكر بن عبد مناة، وهم حلفاء قريش، وبين خزاعة وهم حلفاء النبي، فأعانت قريش بكراً بالسلاح، وبعض الرجال، وأصابوا منهم من أصابوا؛ فانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله، فأنشده في المسجد بين الناس:
لاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فوالداً كُنا وكُنتَ ولداً … ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا … وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُوَكَّدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا … هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا
وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا (لاهُمَّ =اختصار: اللهم).
فقال رسول الله: قد نُصرت يا عمرو بن سالم، وبذلك انتكث صلح الحديبية، وأباح الله رسوله دخول مكة أنى شاء، ونظر الرسول إلى من حوله؛ فقال: كأني بأبي سفيان، قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.
* قريش بين الخوف والندم:
ولقد صدق الله رسوله، فما لبثت قريش أن استشعرت الخوف والندم، فأرسلت أبا سفيان إلى رسول الله، ليشدد العقد ويزيد في المدة، فلما بلغ المدينة ذهب إلى ابنته أم حبيبة، زوج رسول الله، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله، طوته عنه. فقال : بنية، والله ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس ! قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شراً ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله فأبى، ثم أتى عمر لمثل ما أتى به أبا بكر فأبى، فدخل علي عليّ بن أى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وأمامها الحسن بن علي غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة وقد جثت فى حاجة، فلا أرجعنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لنا إلى رسول الله. قال: ويحك يا أبا سفيان. والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة . قال : يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن بجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد، ثم عاد أبو سفيان وما صنع شيتا ذا أثر .
* النبيُّ يتأهب:
وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الناس أن يتجهزوا للحرب، وأنبأهم أنه سائر إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها، وما أراد الرسول من المفاجأة إلا أن تسكن قريش في دارها ذلاً فلا تعرض نفسها للفناء وإلا فهم أعجز من أن يصمدوا للقوة الزاحفة أو يقفوا لها بطريق .
وأراد حاطب بن أبي بلتعة أن يتخذ إلى قريش يداً ويحفظ بها أهله وماله في مكة فكتب إليهم كتابا يخبرهم فيه بما عزم عليه الرسول، وأعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جملاً على أن تضعه فى غدائر شعرها فقامت، وأخذت طريقها إلى مكة.
وجاء الخبر إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - من السماء، فبعث لها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ماقد أجمعنا له فى أمرهم، فخرجا حتى أدركاها، فالتمسا الكتاب فى رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها عليٌّ: إني أحلف ما كذب رسول الله، لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه أخرجت الكتاب. ولما عاد الرفيقان بالكتاب إلى رسول الله دعا حاطبا، فقال: يا حاطب! ما حملك على هذا ؟
فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي فى القوم أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يارسول الله دعني فلأضرب عنقه، فان الرجل قد نافق! فقال رسول الله: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر. وكان حاطب منهم. فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لـكم)).
فأنزل الله في شأنه قوله تباركت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الممتحنة: 1) إلى قوله: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة: 4).
وسار رسول الله في عشرة آلاف رجل مستكمل الأهبة والسلاح، وهو أعظم جيش إسلامى في عهد النبوة، وكان لـكل كتيبة شعار خاص ، واسم خاص، وزى خاص، وهذا أسلوب الفداء عند العرب لكي ندل كل قبيلة على مقدار فدائها وبلائها في سبيل الله.
* بين رسول الله وأبي سفيان:
لم يلق النبي عناء، من أحد مثل ما لقي من أبي سفيان. فهو كبير الأسرة الأموية التي كانت تنازع الأسرة الهاشمية أعنة السيادة فى قريش، وقد رأى أبو سفيان أن ظهو رأمر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -يكفل لبني هاشم سيادة الدهر وعز الأبد، ولا يدع لأموي مجالاً في الفخر مع هاشمي، فناصب النبيَّ -صلى الله عليه وسلم منذ مشرق عهد النبوة أعنف العداء، وسلط عليه أفدح البلاء، وكان من أفظع مواقفه من رسول الله تعاونه هو وامرأته هند على اغتيال سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، فلما سقط صريعا، نزعت المرأة كبد الشهيد لتأكلها بينما أخذ أبو سفيان يمزق جسده ووجهه بسن رمحه...!
فما ظنك بهذا الرجل وهو يعلم أن رسول الله قادم إليه بجيش لا قبل له ولا لقومه به! لقد خرج إلى الصحراء فى نفر من أصحابه يتحسسون أخبار رسول الله، فبينا هو سادر في ظلمة الليل، وفى ظلمة الحيرة مر به العباس بن عبد المطلب عم رسول الله، فعرفه من صوته، فناداه العباس: يا أبا حنظلة ! فأجابه لميك فداك أبي وأمي، فما وراءك ؟ قال هذا رسول الله قد دلف إليكم بعشرة آلاف من المسلمين لاقبل لكم بها، فقال أبو سفيان فما تأمرى؟.
قال: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك! فردفه أبو سفيان وسار به بين نيران الكتائب الإسلامية حتى بلغ به مضرب الرسول، فدخل عليه وهو معه، فاستأمن له. فقال رسول الله اذهب فقد أمَّناه حتى تغدو به عليّ فى الغداة، فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاالله! فقال: بأبي أنت وأمي! ما أوصلك وأحنك وأكرمك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً. ال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؛ فقال : بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأوصلك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء.
قال له العباس: ويلك! تشهَّد شهادة الحق قبل والله يضرب عنقك، فتشهَّد أبو سفيان، فلما تشهد قال الرسول لعمه: انصرف به فكن معه عند خطم الجبل بمضيق الوادى حتى تمر عليه جنود الله، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يُحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال: نعم، ((من دخل دار أبا سفيان فهو أمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن)).
أرأيت إذن كيف سما رسول الله بفطرته وحسن خلقه، حتى بلغ كل غاية، وجاوز كلى مرتقى؛ هذا هو الرجل الذى أجلب عليه بكل صنوف الأذى ثمانية عشر عاماً لا هوادة فيها ولا رفق ولا كرامة ... هذا هو الرجل الذي صب على أصحاب النبيّ كل ألوان العذاب من قتل ونفي وتشريد... هذا هو الرجل الذي سلط على عم النبيّ من اغتاله، ثم أحال على جثمانه فمزقه ومثّل به، وترك امرأته تنتزع كبده لتأكلها فلما لم تسغها ألقت بها في التراب ...
هذا الرجل وذلك بعض شأنه، يقف أمام محمد، ومحمد فى ذروة القوة والصولة والعزة والسلطان، ثم يماريه في رسالته فلا يقتله، ولا يردعه، ولا يعيره، ولا يذكره ببعض ما سلف منه، ولا يتوعده بالثأر من بيته، بل يتفضل عليه فيشرفه ويجعل بيته مثابة آمنة لكل لاجئ. فأيُّ بيان يصف هذه النفس الربانية التي تركت كل مشاعرها ومقاصدها وآلامها وآمالها لله، لاتسأل عما يمسها من سوء، أو ينالها من فجيعةٍ ما دام ذلك لله، وفي الله.
وبعد فقد انطلق الصاحبان "العباس وأبو سفيان" حتى وقفا عند خطم الجبل، فكلما مرت به قبيلة قال أبو سفيان: مالى ولهذه؟ حتى مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلا الحَدق، فقال أبو سفيان: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ قال هذا رسول الله والمهاجرين والأنصار، فقال يا أبا الفضل: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! قال: ويحك، إنها النبوة!
الحق الآن بقومك فحذرهم! فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاء بما لا قبل لكم به، قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري فهو آمن؛ فقالوا ويحك، وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
* دخول مكة:
ورغم هذا الأمان الشامل خرج أناس من فتيان قريش وحلفائهم ليقاتلوا، وقسم رسول الله كتائبه قسمين: قسم يقوده خالد بن الوليد، وآخر يقوده الزبير بن العوام، وأمر أولها أن يدخل مكة من أسفلها، وأن يدخلها الثاني من أعلاها، وقال لهما لا تقاتلا إلا من قائلا، وعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن سعد بن عبادة وهو فى طليعة جيش الزبير يحمل رايته، ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحُرمة! فقال لعلي أدرك سعداً، وخذ الراية منه وأخِّره، ولم يلق جيش الزبير قتالاً، أما خالد فقد لقي شيثاً من المقاومة لم يلبث أن أجلاها، وهكذا دخل المسلمون مكة آمنين، ودخلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حاسر الرأس تواضعاً لله، حتى كاد جبينه الشريف يمس رحل ناقته.
* السياسة الإسلامية:
وأقبل عليه الناس من كل فج يبايعونه بالإسلام، وألقى الأمان على الناس إلا عشرة منهم: ستة رجال وأربع نساء رفع عنهم الأمان، وأمر أن يقتلوا ولو تمسحوا بأستار الكعبة، لأنهم أحدثوا أحداثاً في الإسلام لا تنالها التوبة، ومع ذلك قد نجا بإسلامه من هؤلاء من سبقت له رحمة الله، ومن اعتصم بإسلامه قبل أن يدركه الموت.
ثم جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قريشاً وخطبهم فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت (=سدانة الكعبة خدمتها)، وسقاية الحج (=بهذا المبدأ العظيم طرحت مبادئ السيادة ومآثر الأشراف التي كان يباهي بها الناس بعضهم بعضاً، وتركت الدماء التي أريقت، فلا يؤخذ دم في الاسلام بدم قبل الاسلام).
يا معشر قريش ! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظُّمها بالآباء، لناس من آدم وآدم خلق من تراب، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
* الصفح والمغفرة:
ثم تابع الرسول الكريم خطبته الشريفة؛ فقال: يا معشر قريش! ويا أهل مكة! ما تظنون أنى فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء .. ! » وليس في هؤلاء الطلقاء رجلٌ إلا وقد سقى الرسول ألواناً من العذاب. وهؤلاء لم يقف منهم موقف العفو والصفح وحسب. بل لقد آخاهم وخلطهم بنفسه وأجزل لهم العطاء، و بهذه السياسة العليا كان رسول الله أحب إليهم من أرواحهم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثم حطم رسول الله الأصنام المحيطة بالبيت. وكانت ثلاثة وستين صنماً. وكان شعار الرسول وهو يحطم الأصنام، قول الله تباركت آياته: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81).
وبعد خمسة عشر يوماً أجمع -صلى الله عليه وسلم -على العودة إلى المدينة ولم يشغله وطنه الذى غُرّب عنه ثماني سنين عن المُضي فى سبيل الله. وكان فتح مكة في أخريات رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة النبوية.
يوم حُنين
* الإعجاب بالكثرة:
لم يُغادر النبيُّ مكة حتى انضم إلى جيشه ألفان من أهلها فازداد بهم الجيش إلى اثني عشر ألفاً، وقد أخذ المسلمين الزهو بكثرتهم، فربما نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: لن نغلب بعد اليوم من قلة! وكانت هوازن ومن انضم إليها من قبائل العرب قد أجمعوا أمرهم على أن يقاتلوا رسول الله، فبثوا كتائبهم في الشعاب والمضايق والأحياء المحيطة بوادي حنين.
* المفاجأة والهجوم:
وقد ترامى إلى رسول الله إجماع هوازن ومن معها على حربه، ولم يعلم أنهم سيأخذونه مباغتة ويلقونه مفاجأة، وبينما الجيش الإسلامي في طريقه بوادي حنين انفرجت الجبال والشعاب والمضايق عن كتائب المشركين، وأخذت جيش النبيّ من كل جانب! فارتاع المسلمون وانهزموا بكل طريق لا يلوي أحد منهم على أحد ! ولم يبق في الميدان إلا رسول الله فى بضعة نفر، هم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وأخوه ربيعة بن الحارث ابنا عم رسول الله، وأيمن بن عبيد، وأسامة بن زيد، وامرأة مؤمنة باسلة هي أم سليم بنت ملحان.
وكان -صلى الله عليه وسلم -ينادي في الناس: ((أين أيها الناس! هلم إليّ! أنا رسول الله، أنا محمد ابن عبد الله)) وقد ضربت الهزيمة على أسماع الناس فهم لا يسمعون، ولما رأى النبى -صلى الله عليه وسلم -انكشاف أصحابه وتدافع المشركين عليه نزل عن دابته وشد على الهاجمين، وصال فيهم يميناً وشمالاً، وهو يقول :
أنا النبيُّ لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب
وأرسل ينادي في المسلمين: يا معشر أصحاب الـسُمرة! (شجرة الرضوان)، فأقبلوا بعضهم في أثر بعض، واستبسلوا حول رسول الله.
* جنود الله وسكينته:
ثم أرسل الله ملائكته على المؤمنين فبثت في قلوبهم السكينة فعادوا وهم أحمى قلباً، وأمضى عزماً، وأعنف قوة، من كل موقف سلف، وكل موقعة مضت، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم -حفنة من تراب، فرمى بها وجوه المشركين وهو يقول: {حم، لا يُنصرون}، فكأنهم كانوا جذوعاً خاوية ، وأخذت سيوف المسلمين تتلقفهم من كل صوب وكل جانب حتى فر منهم من فر، وقتل من قتل، وتركوا من السبايا أكثر من ستة آلاف بين امرأة وغلام، وتركوا من السلاح والمال والدواب والأنعام والميرة والطعام ما لا عد له، وكان هذا النصر إيذاناً بانقضاء قوة الجاهلية.
وأنزل الله فى هذه الموقعة قرله جل شأنه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 25، 26).
هذه الفتوح الثلاث التي أثمرتا صلح الحديبية وأثاب بها الله رسوله الأمين وشيعته المجتباة وبهذا البيان عن تلك الفتوح مهدنا الطريق إلى سورة الفتح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق