الإنصاف والاعتدال عند الحافظ الذهبي
(673 - 748 هـ)
د. هاني فقيه
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن الوفاء للحق، والإنصاف في الأحكام، ليس شقشقة لسان، ولا تزوير بيان، بل إنه إخلاصٌ في السعي وتحمُّلٌ للعنت، واستواءُ الظاهر والباطن في مرضاة الله، جل في علاه. فالرجولة كل الرجولة في أن لا تحقد على بشر، ولا تفجر في خصومة، ولا تهضم حقوق الآخرين، والأتقياء دوماً فوق الأهواء، لأن رغبتهم في انتشار الخير وثبوت الحق أسبق في أفئدتهم من رغبة التشفّي وسرعة الانتقام لأشخاصهم.
الأمر الذي لمسناه واقعاً عملياً في طريقة الحافظ الذهبي في كل من ترجم له أو كتب عنه من الأعلام والمشاهير، فجاءت تراجمه في غاية الوسطية والاعتدال، حتى أنه أنصف المخالفين في قضايا الفكر والمعتقد والسلوك، فأنصف الجميع، وأعطى لكل ذي حقّ حقه، وانتقد ما ينبغي انتقاده، دون إفراط أو تفريط، لا مدحاً ولا ذماً، ودون إعلاءٍ للمساوئ أو طمسٍ للمحاسن، وقد رسم لنا بذلك خطةً محكمة البناء لكل من يتصدى لنقد الأفكار والأشخاص والطوائف.
وهذا الكتاب يُسلط الضوء على نقد بنية الفكر المتطرف، واتجاهات الإرهاب المعاصر وتفكيكها من خلال عرضها على موازين الشريعة، ومن خلال القواعد والأصول التي وضعها مفكرو الأمة ونُقادها وعلمائها الأفذاذ أمثال الإمام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى. الذي حارب التكفير والتبديع والتجهيل لعلماء الأمة وأعيانها لأجل زلة هنا أو خطأ وهناك، محارباً بذلك التحريض على القتل، ومُشدداً في شأن الأرواح والدماء، ومُبيناً أن الغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يُفضي إلى ذلك.
وقد ذمَّ الإمام الذهبي نحلة الخوارج الذين يُكفرون الناس بالذنب، ويستحلون به الدم والمال والعرض، كما أنه حذََر من المسارعة إلى تكفير أعيان المسلمين من غير حُجَةٍ ولا بُرهان، أو التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.
وحذر من التبديع والتفسيق لأجل خطأ أو زلة لها تأويلٌ سائغ، وأن الإنصاف يقتضي النظر في الحسنات والفضائل ومقارنتها بالأخطاء والزلات، وأن العبرة بكثرة المحاسن. ولا شك أن لهذا المنهج البنّاء دوراً ريادياً في إخماد نار الفتنة بين المسلمين، وطمس جذوة العداوات بين الفرق، وتجاوز الخصومات التي قد تتجدد بين الفينة والأخرى بسبب سوء فهم أو سوء نية.
كما نلمس من طريقة الذهبيِّ التماسه الأعذار للأئمة فيما أخطأوا الاجتهاد فيه، وشواهد هذا كثيرة في تراجمه، لا سيما دفاعه عن الأئمة الأعلام الذين تعرضوا لبعض المحن بسبب هنات وزلات، كما أنه دعا إلى الحفاظ على الأخوة برغم الخلاف، وقرر أن كلام الأقران يُطوى ولا يُروى، خاصةً إذا كان منشؤه البغض والحسد، ودعا إلى ترك الإغراق في الصراعات التاريخية، لا سيما ما جرى بين السلف الأوائل.
كما أن الذهبيّ لا يضع الطوائف في بوتقة واحدة، بل يمنح كل إنسانٍ منهم قدره وحظه من الثناء والذم، بحسب حاله وقربه من السًُّنة أو بُعده عنها، وكان يُفرق بين غُلاة المتصوفة والزهاد، وبين غلاة المرجئة ومرجئة الفقهاء، وكان يُفرق بين غلاة القدرية وغيرهم كالمعتزلة، وفرَّق بين الكافر ببدعته وبين الكافر الأصلي، وأنهما ليسوا في المنزلة سواء.
وكان الذهبيُّ قوياً في قول الحق، لا يمنعه شيءٌ عن قوله، ومع ذلك فقد كان يكره كثرة الخوض في مضائق العقائد ومُعضلاتها، لأنها تسببت في كثير من القلاقل والفتن بين العلماء، ويرى السكوت عليها أولى وأسلم. مع إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.
وكره الذهبيُّ القول في المسائل الشاذة، وتوسط في مسألة الاجتهاد والتقليد، فلم يفتحه لكل من هبَّ ودب، ولم يوصده أمام العلماء والمجتهدين، ويرى أن اتباع الحق أولى وأحق، وأن من الفقه ترك التحدث أمام العامة في مسائل تضرُّهم في دينهم، وحذَّر من الغلو في العبادة، والغلو في إطراء الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوسطه في مسألة الأسماء والصفات، واتباعه منهج السلف في الإثبات والسكوت، مع التماسه العذر لمن فوض بعض معاني الصفات.
ومن القواعد المُهمة التي يمكن استنباطها من كلام الإمام الذهبي -رحمه الله:
١ـ عدم رمي المسلم بالكفر بغير برهان قطعي صريح.
٢ـ عدم ادعاء الولاية لمن تأكد ضلاله وتبرهنت زندقته وانحرافه عن الشريعة ونصوصها البينة.
٣ـ أن من عرف عند بجماهير الأمة بالخير والصلاح والاستقامة فهو صالح خير مستقيم إن شاء الله، لأن الأمة شهداء الله في أرضه.
٤ـ أن من عرف بفجوره واشتهر بانحرافه، فهو كذلك بحسب الظاهر، وإن كنا لا نقطع له في باطن الأمر، كا قال الإمام أبو جعفر الطحاوي ( ت: ٣٢١ه): ((نرجوا للمحسن ونخاف على المسيء)).
٥. أن من اختلف فيه علاء الأمة ما بين مادح وقادح، ومعدل ومجرح، فهذا من ينبغي الحذر في الحكم عليه. والأسلم تفويض أمره إلى الله، والاستغفار له في الجملة، لأن إسلامه ثابت بيقين، وكفره مشكوك فيه، وبهذا كما يقول الذهبي: يصفوا قلب المسلم من الغل للمسلمين.
فصول الكتاب:
الفصل الأول: إنصاف الذهبي في تراجمه (الغزالي -ابن حزم -.عياض).
الفصل الثاني: تحذيره من سفك الدماء.
الفصل الثالث: ذمه للخوارج وإنصافه في الحكم عليهم.
الفصل الرابع: تحذيره من المسارعة إلى التكفير بغير برهان قطعي.
الفصل الخامس: تحذيره من التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.
الفصل السادس: تحذيره من التبديع لأجل زلة أو هفوة.
الفصل السابع: دفاعه عن الأئمة والتماسه الأعذار لهم.
الفصل الثامن: دعوته إلى وجوب المحافظة على الأخوة برغم الخلاف.
الفصل التاسع: تقريره بأن كلام الأقران يُطوى ولا يُروى.
الفصل العاشر: دعوته إلى ترك الإغراق في صراعات التاريخ.
الفصل الحادي عشر: تمييزه بين مستويات البدعة.
الفصل الثاني عشر: تقريره بأن العبرة في الرواة الصدق والإتقان وإن تلبسوا ببدعة.
الفصل الثالث عشر: نقده كثرة الخوض في مضائق العقائد ومعضلاتها.
الفصل الرابع عشر: نهيه عن القول بالمسائل الشاذة.
الفصل الخامس عشر: توسطه في مسألة الاجتهاد والتقليد.
الفصل السادس عشر: نقده لعلل وأدواء طلبة العلم.
الفصل السابع عشر: دعوته إلى ترك التحدث بمسائل العلم التي تضر العامة.
الفصل الثامن عشر: تحذيره من الغلو في العبادات.
الفصل التاسع عشر: توقيره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفا.
الفصل العشرون: توسطه في مسألة الأسماء والصفات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق