التسديد شرح حديث النزول من كتاب التمهيد
للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري
القرطبي المالكي (ت 463 هـ)
عناية وتعليق: د. محمد يُسري إبراهيم
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ لما كان توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته من أعظم المهمات المتحتمات، اشتدَّت عنايةُ سلفنا الصالح بتأصيله، وتفصيله، والاستدلال له وتعليله، فتارةً يُفردون له المصنفات المستقلة، وأخرى يعرضون له في ثنايا شروح الآيات البيِّنات، والأحاديث المحكمات، ومن ذلك النوع من العناية بتوحيد الصفات هذه الرسالة التي شرح فيها الإمام ابن عبد البر حديث النزول في كتابه التمهيد الذي هو شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى.
وقد نقل الشيخ المُحقق جزاه الله خيراً في مُقدمة كتابه آثاراً عظيمة، يُبرهن من خلالها اتحاد منهج السلف في الأسماء والصفات نقلاً عن أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب، وغيره من الصحابة، والتابعين، وأصحاب المذاهب المتبوعة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، والأئمة المحدثين كالترمذي، والدارمي، وابن خزيمة، وغيرهم. مُبيناً أن عقيدة السلف تقوم على الإيمان بالصفات جميعاً، وحملها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى، بغير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل.
وذلك في مقابل التردد والتذبذب، والحيرة و التناقض الذي وقع فيه الخلف من أهل الأهواء، والفرق غير المستقيمة.
=============================
● أهمية هذه الرسالة:
1- أن مؤلفها هو إمامٌ مُتفق على إمامته وجلالته، فتوثيقه، والترضي عنه، والإشارة إليه بمنصب الإمامة في الدين، موضع اتفاق بحمد الله من أهل السنة جميعاً مُحدثين وفقهاء.
2- أنه ولد بيقين بعد وفاة أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، وبعد انتشار مذهبهما في الأمصار، فكان سُنياً وسلفياً، ولم يكن مُتكلماً، ولا أشعرياً، ولا ماتريدياً.
3- أن منهج الإمام ابن عبد البر هو التعامل مع أحاديث الصفات على وفق صحيح منهج السلف، وذلك قبل أن يُعرف التأويل والتعطيل، وقبل أن يُسمع تفويض المعاني، أو تحريفها، وهو منهج خير القرون السالفات على الهدى، وهو ما قفاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده في مدرسته، ومن ينظر في كلام ابن تيمية وتلامذته، ويُقارن بينه وبين كلام ابن عبد البر يعلم أنه يخرج من مشكاةٍ واحدة، مع كون ابن عبد البر مات قبل ولادة ابن تيمية بنحو قرنين من الزمان !.
4- وليس هذا هو منهج تفرد به ابن عبد البر ولا غيره، بل هو على التحقيق معتقد أهل الإسلام الصافي من لوثات فلسفات اليونان، وهرطقة المناطقة، وشُبه المتكلمين، والحمد لله رب العالمين.
=============================
● منهج الإمام ابن عبد البر في كتابه هذا:
1- أنه يثبت هذا الحديث، ويوثقه، ويتكلم عن رواياته ورجاله، من باب تثبيت الأصل المستند إليه في بيان العقيدة.
2- أنه تناول إثبات العلو والفوقية له تعالى، لأن النزول يدل عليه، وعرَّج على إثبات الاستواء على العرش؛ لأنه دليل الاستعلاء، وعرَّض بأقوال الجهمية المخالفين مُنكِراً لها.
3- أنه تناول أقوال المخالفين وشبهاتهم بالتفنيد، ورد على دعوى المجاز في الاستواء، وبيَّن أن الأصل في الكلام الحقيقة، وحدَّد معنى الاستواء في اللغة، وردَّ أثراً مُنكراً عن ابن عباس يستدلُّ به المخالفون على ان الله في كل مكان !!.
4- رتب الأدلة على العلو ترتيباً صحيحاً، فجاء بدلالة الفطرة على العلو، ثُم ثنَّى بالأدلة النقلية، ثُم ثلَّث بالأدلة العقلية، ونفى جريان القياس بينه تعالى وبين خلقه.
5- أنه تناول صفة النزول ببيان الموقف الصحيح منها، وذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات إجمالاً، وانتقد طريقة المتكلمين المتأولين، وردَّ على من نقل التأويل عن الإمام مالك وغيره، كما ردَّ على المتكلمين المفوضين لمعاني الصفات.
6- وأنه أثبت لله تعالى الرؤية في الآخرة، وذلك في ثنايا رده الشبهات، وردَّ الشبهة الواردة حول الرؤية.
7- أنه استكمل شرح الحديث ببيان فضيلة الاستغفار وأهميته، والدعاء في ثلث الليل الآخر، ومزيَّتُه.
=============================
● نصُّ حديث النزول (من الموطأ):
(30) قال عُبيد الله بن يحيى الليثي: وحدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا، تبارك وتعالى، كل ليلة إلى السماء الدنيا. حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "
=============================
● قال ابن عبد البر رحمه الله:
1- درجة الحديث:
قال: وهو حديث منقول من طرق متواترة ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2- الاستدلال على علو الله، واستوائه على عرشه:
قال: وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش .
3- الاستدلال بالفطرة على علو الله عز وجل:
قال: ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرارٌ لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
4- الدليل النقلي على علو الله عز وجل:
قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم للأَمَةِ التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه.
5- الدليل العقلي على علو الله عز وجل:
قال: وأما احتجاجهم بأنه لو كان في مكان لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته مخلوق ؟!
فهذا شيء لا يلزم ولا معنى له؛ لأنه عز وجل ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، لا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، لا إله إلا هو كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسموات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيء وخالق كل شيء لا شريك له.
وقد قال المسلمون وكل ذي عقل أنه: لا يعقل كائن لا في مكان ما، وما ليس في مكان فهو عدم.
6- الرَّدُّ على من قال استوى بمعنى استولى:
قال: وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز.، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، والاستواء معلوم في اللغة، ومفهوم، وهو: العلو، والارتفاع على الشيء، والاستقرار، والتمكن فيه.
7- الردُّ على أثرٍ ضعيفٍ باتفاق:
قال: وأمامن نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن واقد الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}، قال: استوى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان ؟!
فالجواب: أن هذا حديث منكر عن ابن عباس، ونقلته مجهولون ضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي، وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان. وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أو أنصفوا .
8- إثبات صفة النزول:
قال: وقد أكثر الناس التنازع في هذا الحديث (ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا) والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون. والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء والحجة في ذلك واحدة.
9- خُلاصة اعتقاد الإمام أبو عمر ابن عبد البر:
أ- قال أبو عمر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة. والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبهٌ. وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحقُّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة والحمد لله.
ب - قال أبو عمر: الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة، وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه.
10- انتقاد ابن عبد البر طريقة المتكلمين من الأشعرية وغيرهم:
قال أبو عمر: الذي أقول أنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازماً ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفا لاستفاض ذلك عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات.
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) عندهم، مثل قول الله عز وجل: {فلما تجلى ربه للجبل}، ومثل قوله: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً}، كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجي،ء بلا كيف.
ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء ؟ ولا من أين تجلى ؟ ولا من أين ينزل؟ لأنه ليس كشيء من خلقه وتعالى عن الأشياء.
وفي قول الله عز وجل: {فلما تجلى ربه للجبل} دلالةٌ واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلياً للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث التنزيل.
ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله عز وجل {فلما تجلى ربه للجبل}، فلينظر في تفسير بقي بن مخلد، ومحمد بن جرير (9/ 52- 54)، وليقف على ما ذكرا من ذاك ففيما ذكرا منه كفاية. وبالله العصمة والتوفيق
11- فضيلة الاستغفار والدعاء في الثلث الأخير من الليل:
قال أبو عمر: وفي هذا الحديث أيضاً دليلٌ على غفران الذنوب، وإجابة الدعوة. ودليلٌ على أن من أجزاء الليل وقتاً يُجاب فيه الدعاء. ولكن من مقدار ثلث الليل الآخر. وقد قيل من مقدار نصف الليل إلى آخره. وكل هذا قد روي في أحاديث صحاح. ولم يزل الصالحون يرغبون في الدعاء والاستغفار بالأسحار لهذا الحديث، ولقوله عز وجل {والمستغفرين بالأسحار} (آل عمران: 17).
=============================
اختصره، وهذبه: أ. محمد حنونة.