أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 مارس 2021

التسديد شرح حديث النزول من كتاب التمهيد -للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري

التسديد شرح حديث النزول من كتاب التمهيد

للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري

القرطبي المالكي (ت 463 هـ)

عناية وتعليق: د. محمد يُسري إبراهيم

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ لما كان توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته من أعظم المهمات المتحتمات، اشتدَّت عنايةُ سلفنا الصالح بتأصيله، وتفصيله، والاستدلال له وتعليله، فتارةً يُفردون له المصنفات المستقلة، وأخرى يعرضون له في ثنايا شروح الآيات البيِّنات، والأحاديث المحكمات، ومن ذلك النوع من العناية بتوحيد الصفات هذه الرسالة التي شرح فيها الإمام ابن عبد البر حديث النزول في كتابه التمهيد الذي هو شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى.

وقد نقل الشيخ المُحقق جزاه الله خيراً في مُقدمة كتابه آثاراً عظيمة، يُبرهن من خلالها اتحاد منهج السلف في الأسماء والصفات نقلاً عن أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب، وغيره من الصحابة، والتابعين، وأصحاب المذاهب المتبوعة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، والأئمة المحدثين كالترمذي، والدارمي، وابن خزيمة، وغيرهم. مُبيناً أن عقيدة السلف تقوم على الإيمان بالصفات جميعاً، وحملها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى، بغير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل.

وذلك في مقابل التردد والتذبذب، والحيرة و التناقض الذي وقع فيه الخلف من أهل الأهواء، والفرق غير المستقيمة.

=============================

● أهمية هذه الرسالة:

1- أن مؤلفها هو إمامٌ مُتفق على إمامته وجلالته، فتوثيقه، والترضي عنه، والإشارة إليه بمنصب الإمامة في الدين، موضع اتفاق بحمد الله من أهل السنة جميعاً مُحدثين وفقهاء.

2- أنه ولد بيقين بعد وفاة أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، وبعد انتشار مذهبهما في الأمصار، فكان سُنياً وسلفياً، ولم يكن مُتكلماً، ولا أشعرياً، ولا ماتريدياً.

3- أن منهج الإمام ابن عبد البر هو التعامل مع أحاديث الصفات على وفق صحيح منهج السلف، وذلك قبل أن يُعرف التأويل والتعطيل، وقبل أن يُسمع تفويض المعاني، أو تحريفها، وهو منهج خير القرون السالفات على الهدى، وهو ما قفاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده في مدرسته، ومن ينظر في كلام ابن تيمية وتلامذته، ويُقارن بينه وبين كلام ابن عبد البر يعلم أنه يخرج من مشكاةٍ واحدة، مع كون ابن عبد البر مات قبل ولادة ابن تيمية بنحو قرنين من الزمان !.

4- وليس هذا هو منهج تفرد به ابن عبد البر ولا غيره، بل هو على التحقيق معتقد أهل الإسلام الصافي من لوثات فلسفات اليونان، وهرطقة المناطقة، وشُبه المتكلمين، والحمد لله رب العالمين.

=============================

● منهج الإمام ابن عبد البر في كتابه هذا:

1- أنه يثبت هذا الحديث، ويوثقه، ويتكلم عن رواياته ورجاله، من باب تثبيت الأصل المستند إليه في بيان العقيدة.

2- أنه تناول إثبات العلو والفوقية له تعالى، لأن النزول يدل عليه، وعرَّج على إثبات الاستواء على العرش؛ لأنه دليل الاستعلاء، وعرَّض بأقوال الجهمية المخالفين مُنكِراً لها.

3- أنه تناول أقوال المخالفين وشبهاتهم بالتفنيد، ورد على دعوى المجاز في الاستواء، وبيَّن أن الأصل في الكلام الحقيقة، وحدَّد معنى الاستواء في اللغة، وردَّ أثراً مُنكراً عن ابن عباس يستدلُّ به المخالفون على ان الله في كل مكان !!.

4- رتب الأدلة على العلو ترتيباً صحيحاً، فجاء بدلالة الفطرة على العلو، ثُم ثنَّى بالأدلة النقلية، ثُم ثلَّث بالأدلة العقلية، ونفى جريان القياس بينه تعالى وبين خلقه.

5- أنه تناول صفة النزول ببيان الموقف الصحيح منها، وذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات إجمالاً، وانتقد طريقة المتكلمين المتأولين، وردَّ على من نقل التأويل عن الإمام مالك وغيره، كما ردَّ على المتكلمين المفوضين لمعاني الصفات.

6- وأنه أثبت لله تعالى الرؤية في الآخرة، وذلك في ثنايا رده الشبهات، وردَّ الشبهة الواردة حول الرؤية.

7- أنه استكمل شرح الحديث ببيان فضيلة الاستغفار وأهميته، والدعاء في ثلث الليل الآخر، ومزيَّتُه.

=============================

● نصُّ حديث النزول (من الموطأ):

(30) قال عُبيد الله بن يحيى الليثي: وحدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا، تبارك وتعالى، كل ليلة إلى السماء الدنيا. حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "

=============================

● قال ابن عبد البر رحمه الله:

1-  درجة الحديث:

قال: وهو حديث منقول من طرق متواترة ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2- الاستدلال على علو الله، واستوائه على عرشه:

قال: وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش .

3- الاستدلال بالفطرة على علو الله عز وجل:

قال: ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم، إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرارٌ لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.

4- الدليل النقلي على علو الله عز وجل:

قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم للأَمَةِ التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة. فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه.

5- الدليل العقلي على علو الله عز وجل:

قال: وأما احتجاجهم بأنه لو كان في مكان لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته مخلوق ؟!

فهذا شيء لا يلزم ولا معنى له؛ لأنه عز وجل ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، لا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، لا إله إلا هو كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسموات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيء وخالق كل شيء لا شريك له.

وقد قال المسلمون وكل ذي عقل أنه: لا يعقل كائن لا في مكان ما، وما ليس في مكان فهو عدم.

6- الرَّدُّ على من قال استوى بمعنى استولى:

قال: وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز.، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، والاستواء معلوم في اللغة، ومفهوم، وهو: العلو، والارتفاع على الشيء، والاستقرار، والتمكن فيه.

7- الردُّ على أثرٍ ضعيفٍ باتفاق:

قال: وأمامن نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن واقد الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}، قال: استوى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان ؟!

فالجواب: أن هذا حديث منكر عن ابن عباس، ونقلته مجهولون ضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي، وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان. وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرف. وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أو أنصفوا .

8- إثبات صفة النزول:

قال: وقد أكثر الناس التنازع في  هذا الحديث (ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا) والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث، ولا يكيفون. والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء والحجة في ذلك واحدة.

9- خُلاصة اعتقاد الإمام أبو عمر ابن عبد البر:

أ- قال أبو عمر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة. والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة.

وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبهٌ. وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحقُّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة والحمد لله.

ب - قال أبو عمر: الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة، وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه.

10- انتقاد ابن عبد البر طريقة المتكلمين من الأشعرية وغيرهم:

قال أبو عمر: الذي أقول أنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازماً ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفا لاستفاض ذلك عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات.

وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) عندهم، مثل قول الله عز وجل: {فلما تجلى ربه للجبل}، ومثل قوله: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً}، كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجي،ء بلا كيف.

ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء ؟ ولا من أين تجلى ؟ ولا من أين ينزل؟  لأنه ليس كشيء من خلقه وتعالى عن الأشياء.

وفي قول الله عز وجل: {فلما تجلى ربه للجبل} دلالةٌ واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلياً للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث التنزيل.

ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله عز وجل {فلما تجلى ربه للجبل}، فلينظر في تفسير بقي بن مخلد، ومحمد بن جرير (9/ 52- 54)، وليقف على ما ذكرا من ذاك ففيما ذكرا منه كفاية. وبالله العصمة والتوفيق

11- فضيلة الاستغفار والدعاء في الثلث الأخير من الليل:

قال أبو عمر: وفي هذا الحديث أيضاً دليلٌ على غفران الذنوب، وإجابة الدعوة. ودليلٌ على أن من أجزاء الليل وقتاً يُجاب فيه الدعاء. ولكن من مقدار ثلث الليل الآخر. وقد قيل من مقدار نصف الليل إلى آخره. وكل هذا قد روي في أحاديث صحاح. ولم يزل الصالحون يرغبون في الدعاء والاستغفار بالأسحار لهذا الحديث، ولقوله عز وجل {والمستغفرين بالأسحار} (آل عمران: 17).

=============================

اختصره، وهذبه: أ. محمد حنونة.



صفة النزول الإلهي وردِّ الشبهات حولها -تأليف: عبد القادر بن محمد بن يحيى الغامدي الجعيدي

صفة النزول الإلهي وردِّ الشبهات حولها

تأليف: عبد القادر بن محمد بن يحيى الغامدي الجعيدي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

[أصل هذا الكتاب رسالة علمية قُدِّمت لنيل درجة الماجستير في العقيدة من كلية الدعوة وأصول الدين، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وتمت مناقشتها في 4/ 7/ 1420 هـ، بإشراف د. عبد الله بن عمر الدميجي، ومناقشة د. عبد الله بن محمد الغنيمان، و أ.د. أحمد بن ناصر الحمد، وقد مُنح الباحث درجة الماجستير، بتقدير ممتاز].

● تمهيد/ لما كانت صفة (النزول) للعلي القدير أغيظُ صفةٍ على الجهميَّة والمُعطِّلة، لكون إثباتها يقتضي هدم كل أصولهم في هذا الباب، غصُّوا بذلك وشرقوا بكتب ومؤلفات أهل السُّنَّةِ التي تُثبت هذه الصفة الإلهيَّة الكريمة، ولذا فإن دراستها أولى ما يشتغل به العالم النحرير، لأن دراسة صفة النزول، والرد على الشبهات الواردة حولها، يعتبر حقيقةً دراسة لعلم الصفات بكامله، دراسة مؤصلة عميقة.

وقد فرحنا بهذا المؤلف أيما فرح، بعدما رأينا أنه جامعٌ لأحاديث النزول، وأنَّ سلفنا الصالح من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم كلهم متوافرون على إثبات صفة النزول، روايةً، ودراية، وأنهم مجمعون على ذلك، ولذا نرى أن نُسمي هذا الكتاب (موسوعة أحاديث النُّزول) إن لم نُخطئ في التعبير.

وبمثل هذه الكتب السلفيَّة النقيَّة تنتكس راية التعطيل، وتقوم راية التوحيد، وتنهزم فلول الملحدين، وتنتصر أحزاب الموحدين، وتظهر تفاهة وتهافت وتناقض المعطلة، نعوذ بالله من معاندة الجهمية، وجحود المعتزلة، وضلال المعطلة…

وفي هذا الكتاب إثبات هذه الصفة الكريمة من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وبيان حقائق هذه الصفة الفعلية الشريفة، بفهم جماهير سلف الأمة، والإجابة عما ورد حولها من الاعتراضات، والاشكالات، والشبهات، ومن أتقن هذا الباب وعلمه، وعمل بمقتضاه، حصل له من العلم والمعرفة والتحقيق والتوحيد والإيمان الشيء الكثير، وانجاب عنه من الشُّبه والضلال والحيرة ما يُصيره في هذا الباب من أفضل الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والصالحين، وصار من سادات أهل العلم والإيمان.

وإن الناظر إلى شبهات حزب التعطيل، من أمثال: الغزالي، والجويني، والرازي، والمريسي وغيرهم ممن تبعهم... يجدها تدور على قياسٍ عقليٍّ باطل، وهو قياس الغائب على الشاهد؛ فمثلوا الله تعالى بخلقه، ثم نزهوه عن تمثيلهم، وعطلوا حقيقة الصفات اللائقة به تعالى، وشبهات أخرى: لا تخلو من حديث مكذوب، أو فهمٍ مرود لم يقل به أحدٌ من الصحابة، ولا التابعين، ولا السَّلف الصالحين، ونحو ذلك.

وجميع هذه الشُّبه سببها الخوض في علوم الفلاسفة وعلم الكلام، وإدخال العقول فيما تحارُ فيه، وفي خارج حدودها، وفي غير الذي خلقها الله من أجله، وهذا هو الذي نهاهم عن الخوض فيه علماء الأمة الأعلام، وأئمتها الكبار.

فظنَّ هؤلاء المُشغِّبة، وأصحاب النظرات الباهتة: أن أئمة الإسلام إنما لم يخوضوا فيها لقلةٍ في الذكاء، أو ضعفٍ في العقول، وما علموا أنهم أعمقُ الناس علماً، وأقلَّ تكلفاً، وأبرَّ قلوباً، فخالفوهم فيما نهوهم عنه، وتركوا الاهتمام بالكتاب والسنة، وفهم مراد الله تعالى ورسوله ﷺَ، واشتغلوا بعلم الكلام، فآل بهم الأمر إلى الحيرة، والتهوك، وتكافؤ الأدلة، ثم بعد هذه السفسطة، وبعد أن بلغ كبارهم فيه غايةٌ عُظمى، إذا بهم –وبعد فوات الأوان- يوقنون بصحة كلام أئمة الإسلام، ويعلنوا عن حيرتهم، وكثرة شكوكهم وشكواهم، وإفلاسهم من اليقين في العلوم الإلهيَّة!

فعادوا بكامل الحسرة والندم، فهم وإن تاب بعضهم ورجع، إلا أن التبحُّرَ في علوم الإسلام الحقيقية قد فاتهم، وماتوا على إيمان ويقين العجائز أو أقل، أما من طُمس على قلبه، فقد مات ولم يدرك إيمان العجائز ويقينهم، ولا حتَّى فطرة الأطفال وبراءتهم !! فيا لله ما هذا ؟؟!!

ولا شك أن هذا البحث مع أصالته وجدِّيته إلا أنه قبسٌ منيرٌ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وتقريرٌ لمذهب السلف على طريقته في النقد والبيان، مع بعض التعليقات، والترتيبات، والتنسيقات.

ولا أدَّعِي أنَّنِي قرأتُه بسهولة، بل كانت قراءتُه بالنسبةِ لي جهاداً كبيراً؛ إذ يسَّر اللهُ لي تلخيصُها في عدَّةِ وُريقات، ليس هذا محلُّ نشرها، وإنما أُشيرُ إشارةً إلى أهم النِّقاط فيها.

وقد سدَّ هؤلاء المؤولة على الناس طريق معرفة ربهم عز وجل، فحرموهم من خير عظيم، بل أعظم علمٍ في الوجود وهو العلم بالله تعالى، فالله الموعد..

وعليه: فمن سَلِمَ من التعصُّب الذميم، والتقليد الأعمى، فسيعودُ حتماً إلى النهج القويم، ومن لم يُسلِّم، فنقول لهم من ذلك: موتوا بغيظكم، وعليكم أوزاركم، وأوزار من أضللتم بغير علم، ونرجو أن يُدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين، والله تعالى يُثبتنا على الحقِّ، ويعصمنا من الزيغ والبدع، والذبِّ عن رسول الله ﷺَ إلى أن نلقاه، إنه هو البَرُّ الرحيم .

●أهمية هذه الدراسة:

(١) استيعاب كل ما كُتب في موضوع النزول الإلهي، لابن تيمية وغيره، وتحقيق مسائله، سواء ما كتبه بخصوص (شرح حديث النزول)، أو في غيرها من كتبه، مع ما جاء في كتب غيره من الأئمة، مع الترتيب والتوضيح والتعليق.

(٢) جمع الأحاديث المعتمد عليها في هذا الباب، ودراسة أسانيدها، والكلام على طرقها.

(٣) إثبات تواتر حديث النزول، والرد على من عارض ذلك كالإمام الجويني، الذي اعتبره من أحاديث الآحاد.

(٤) جمع أقوال السلف والأئمة حول هذه الصفة، احتجاجاً بفهمهم، وردَّاً على الشبهات التي قد ترد من المبطلين على هذه الصفة.

(٥) بيان الشبهات التي أطلقها الجهميَّة في باب الأسماء والصفات، معتمدين على التمويه والتلبيس بالألفاظ المجملة، التي تحتمل حقاً وباطلاً، وإخلالهم بالمعاني اللغوية الأصلية، وإحداثهم معاني اصطلاحية، تناقض ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺَ.

(٦) الردّ الوافي على الفخر الرازي في كتابه "تأسيس التقديس"، الذي يُعد من أهم كتب الأشاعرة المتأخرين، في زعمه: إبطال صفة النزول، واستدلاله بأربع حجج يزعم أنها قاطعة في إبطال صفة النزول.

(٧) الرد على شبهات الناعقين الجدد من الخلف حول هذه الصفة، وبيان بطلان شبهاتهم بالدليل الصحيح الثابت، وبما يظهر من أقول الأئمة والسلف.

* خلاصة هذا البحث القيِّم:

أولاً: أن حديث النزول (أغيظ حديث على الجهمية)، ولذا اتفقوا بجميع درجاتهم على تعطيل هذه الصفة؛ لأن إثبات النزول يعني هدم كل أصولهم العقلية، والرد على الشبهات الواردة عليها يعتبر ردَّاً على جميع الشبهات الواردة في جميه الصفات.

ثانياً: النزول في لغة العرب حقيقةٌ في إتيان الشيء ومجيئه من علوٍ إلى سُفل، ولا تستعمل العرب هذه الكلمة إلا في هذا المعنى.

ثالثاً: حديث النزول حديثٌ متواتر، رُوي عن تسعةٍ وعشرين رجلاً من الصحابة أو أكثر، وهو قطعيُّ الثبوت والدلالة، وقد حكي تواتره جمعٌ كثيرٌ من الأئمة الحفاظ.

رابعاً: أنواع النزول الواردة في النصوص تسعة، كل نوع منها نصٌّ في معناه، فكيف بالجميع، منها: النزول كل ليلة، وعشية عرفة، وليلة النصف من شعبان (إلى سماء الدنيا)، والنزول يوم القيام لفصل القضاء، والنزول لأهل الجنة، وغير ذلك.

خامساً: يقرب الرب ممن شاء من خلقه، وهو قُربٌ خاصٌّ بالداعين، وليس معنى القرب هو معنى المعية لغةً ولا شرعاً.

سادساً: السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين اتفقوا على إثبات صفة النزول لله تعالى، من غير: تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل.

سابعاً: السلف فهموا معاني الصفات، وفوضوا الكيفية، ونسبة تفويض المعنى إليهم من أشنع البدع، وأعظم الطعون عليهم.

ثامناً: الرب تعالى "ينزل بذاته كل ليلة إلى سماء الدنيا"، قاله جمعٌ من السَّلف، وأنكر عليهم جمعٌ آخر من السلف استخدام لفظة "بذاته"؛ لعدم وروده، مع إقرارهم بصحة معناها، ولأن لفظ النزول يدلُّ عليها، وأن من أضاف هذه الكلمة إنما أضافها للحاجة، وأن القول بخلاف المعنى الذي دلت عليه هو تأويلٌ للصفة.

تاسعاً: ينزل الرب تعالى، ولا يخلو منه عرشه، بخلاف المخلوق من بني آدم ونحوهم، الذي يكون ذلك في حقه من التناقض، وأن منا قال من أهل الحديث: يخلو منه العرش، فإن قولهم هذا ضعيف، يردُّه الشرع والعقل، وأن منشأ كلامهم هو تمثيل الله بخلقه.

عاشراً: أن الحركة والانتقال من الألفاظ المجملة، فلا يُقال: ينزل الله تعالى بحركة وانتقال، ولا بغير حركة وانتقال، بل يقتصر على ما ورد في النصوص وهو إثبات النزول، ويستفصل عن معنى الحركة: فإن كان معنى الحركة خلو العرش (فهذا غير صحيح)، وإن كان المقصود نفي النزول (فهذا باطل).

أحد عشر: القدر المشترك بين الخالق والمخلوق: ضروري في اللغة، وذلك بين ما يُسمى ويوصف به الخالق جل وعلا وبين ما يُسمى ويوصف به المخلوق، وأن وجه شبه المعنى لا يقتضي المماثلة، وأنه من المشترك المعنوي، الذي تتفاضل أفراده (وهو اللفظ المشكك= من أنواع المتواطئ)، وأن إثباته هو منهج أهل السنة والجماعة، وإنكاره هو ما اتفق عليه جميع الجهمية.

الثاني عشر: دلَّ على إثبات الصفات الاختيارية لله جلَّ وعلا: كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه ﷺَ، والعقل الصريح، والإجماع، والفرق بين الصفة والفعل: أن أفعال الله جل وعلا تحدث بمشيئته وقدرته في وقتٍ دون وقت، وأن نوعها قديمٌ وأفرادها حادث، وأما باقي الصفات غير الاختيارية: فهي قديمةٌ لازمةٌ لذات الرب أزلاً وأبداً، كعلمه وحياته وقدرته.

الثالث عشر: اتفق الجهمية جميعهم على إنكار الصفات الاختيارية، بخلاف الصفات الأخرى التي أثبتها الكلابية ونحوهم على الصفات الاختيارية، بخلاف الصفات الأخرى؛ فقد أثبتها الكلابية ومتقدمو الأشعرية، ومنشأ النزاع فيها، هو قولهم: الخلق هو المخلوق.

الرابع عشر: الحجج التي أوردتها المعتزلة والجهمية هي السبب في تسلط الفلاسفة على الإسلام، وأن ما ذهب إليه أهل السنة من إثباتها لله جل وعلا: هو الرد الذي لا يمكن معه تسلط الفلاسفة ولا غيرهم؛ لأنه هو الموافق للنقل الصحيح والعقل الصريح. وأن ما ذهب إليه الفلاسفة بسبب هذا من قولهم بقدم المخلوقات أعظم مما ذهب إليه الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية ونحوهم.

الخامس عشر: المتكلمون: لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا، بل كانوا حجة للفلاسفة على الإسلام.

السادس عشر: الأصول التي انتهى إليها الجهمية في نفي الصفات ثلاثة: حجة الأعراض (والاستدلال على حدوث الأجسام)، وحجة التركيب، وحجة الاختصاص (وأن كل مركب أو مختصٌّ مفتقرٌ إلى من يُخصِّصُه، وأن كل مركبٍ مفتقرٌ إلى جزئه)، وكل ممكن ومحدث مخلوق.

السابع عشر: الرازي، والآمدي: أبطلا جميع ما احتج به قدماء الأشعرية والكلابية على نفي الصفات الاختيارية، واحتجا بحجةٍ هي أضعف مما أبطلاه، فلم يبقَ إلا الإثبات. وتصريح الرازي بأنها لازمةٌ لجميع الطوائف وإن أنكروها يدلُّ على أنه تبين له بطلان نفيها.

الثامن عشر: الشبهات والحجج الواردة على صفة النزول لا تخلو إما من: قياسٍ وتمثيلٍ لله بخلقه، وإدخاله تحت قضية شمولية يتماثل أفرادها، وإما: أثرٌ مكذوبٌ، أو لا دلالة لهم فيه، ونحو ذلك.

التاسع عشر: شبهة نفي النزول لاختلاف ثلث الليل في البلاد سببها قياس الله على خلقه، فإن المخلوق هو الذي يستحيل في حقه النزول إلى قومٍ مع الانصراف عن غيرهم، أما من هو على كل شيء قدير، فإنه: ينزل مع تعدد ثلث الليل في وقتٍ واحد على أكثر من بلد، أو أكثر من ذلك، ومع وجود ثلث الليل في كل الأوقات، وينزل على سماء كل قومٍ الدنيا، في ثلث ليلهم: من غير أن يشغله نزولٌ عن نزول، في الوقت نفسه، أو بعده، أو قبله، و(يصعد) سبحانه من سماء كل قومٍ إذا طلع فجرهم، وقد يكون في الوقتِ نفسه نازلٌ على غيرهم، ومثلُ هذا مُستحيلٌ في حق المخلوق، والرب ليس كمثله شيءٌ، وهو لا يماثل المخلوقات في شيءٍ من ذلك، وهو مع ذلك فوق عرشه، بائنٌ من خلقه، ولا يخلو منه العرش.

العشرون: اختلاف ثلث الليل في البلاد من أعظم الأدلة على أن الرب لا يخلو منه عرشه، وإلا لما كان فوق العرش قط.

الواحد والعشرون: التأويل بدعةٌ شنيعة، وهي تتضمن الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، إما: في فصاحته، أو في علمه وبيانه.

الثاني والعشرون: التأويل لا يصحُّ عن أحدٍ من السَّلف، بل المتواتر عنهم إنكاره، وأن ما نُسب إليهم من ذلك: إما أنه لا يصح عنهم، وإما: أنه لا يدلُّ على ما يُريده أهل التأويل، وأنهم أجمعوا على ترك التأويل، وبيان خطره.

الثالث والعشرون: جميع التأويلات التي ذكرها المتأخرون لصفة النزول: هي بعينها التي ذكرها المريسي، وردَّ عليها الإمام أبو محمد الدارمي في نقضه على المريسي، ويدلُّ هذا: أن أصلها من الصابئة، والفلاسفة، والمجوس، ونحوهم، لأن المريسي إنما أخذها عنهم.

الرابع والعشرون: القرآن والسنة ليس فيهما ألفاظٌ مُجملة، كلفظ (الجسم، والحيز، والجهة، والحركة، والعرض، والحوادث، ونحو ذلك)، ومنهج أهل السنة في الألفاظ المجملة: عدم الإثبات، وعدم النفي، حتى يُستفصل عن المعنى: فإن كان المعنى صحيحاً، موافقاً لما جاء في الكتاب والسنة (قُبل، ورُدَّ اللفظُ، واستُبدِلَ بما ورد)، وإن كان المعنى باطلاً (رُدَّ ورُدَّ اللفظ).

الخامس والعشرون: افترق الناس في صفة النزول على فرق:

● الأولى: (المفوضة) وقالوا: نؤمن باللفظ، ولا نفهم المعنى، وهم مُعطلة، ومنهم: البيهقي، والخطابي.

● الثانية: (المؤولة)، وهم أكثر الجهميَّة، ومنهم من تأول النزول: بنزول الملك، أو الرحمة، أو الأمر، أو هو تنزُّل بمعنى تعطُّف ومزيد إقبال.

● الثالثة: (المُعطِّلة) وهم من كذَّبَ بحديث النزول، وردَّه، وهم المعتزلة القدامى والجدد، وكذلك الخوارج.

● الرابعة: (المُمثِّلة): وهم من مثلوا الله تعالى بخلقه، فجلعوا نزوله كنزولهم، بحيث يخلو منه مكان ويشغل آخر، وجلعوا أن المخلوق فوقه، أو يُحيط به حال النزول، ونحو ذلك، وكل هذا مخالفٌ للكتاب والسنة والإجماع والعقل.

● الخامسة: (المثبتة)، وهم أهل السنة والجماعة، الذين يمرون النصوص على ظاهرها، مع إثباتهم للمعنى الذي دلت عليه، فيؤمنون بالنزول ويثبتونه بلا تكييف، ولا تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق والصواب

------------------------

اختصره: ا. محمد حنونة.

مكتبة دار البيان الحديثة- المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 2000 م.



شرح حديث النزول تأليف الإمام الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية -اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

شرح حديث النزول

تأليف الإمام الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية.

تحقيق وتعليق: محمد عبد الرحمن الخميس.

[ أصل هذا البحث رسالة ماجستير، قدمت لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ]

دار العاصمة- المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1993 م.

 

اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

             هذا الكتاب: بلاغٌ، وبيان لمن أراد سبيل الرشد، وآثر الحقّ، وتجرَّد عن الهوى والعصبية.

    تمهيد/ تنازعت الفِرق الكلامية في فهم حديث النزول، فمن مُنكرٍ، مُعطِّلٍ، مُعاند، كالجهمية، وأكثر المعتزلة، والخوارج، ومن مُحرِّفٍ متأول، كمتأخري الأشاعرة والباطنية، وقد وضع كل فريق من هؤلاء بإزاء ذلك قواعد فلسفية مزيفة؛ لهدم أصول الدين، وردِّ النصوص الصريحة الصحيحة، وسموا ذلك بزعمهم: حُكميات، وعقليات، وما هي إلا جهالات وضلالات، قطعت على عقولهم طريق الهداية والإيمان، ذلك أنهم ما فهموا من هذه الصفات إلا صفات المخلوقين، وهذا خلاف ما فطر الله عليه العباد من أنه ليس كمثله شيءٌ في ذاته، ولا في صفاته .

وقد ثبت نزول الرب تبارك وتعالى في كتاب الله عز وجل، وسُنَّة النبي ﷺَ، واتفق سلف الأمة وأئمتها على قبول ذلك، والتصديق به، وكانت الصحابة والتابعون يذكرونه، ويروونه في مجالسهم الخاصة والعامة، وقد اشتملته كتب الإسلام المعتمدة، منها الصحاح والسنن، وقد قصد هؤلاء المعطلة، وأولئك المحرفة إلى إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، من خلال تشكيك الناس في أصول دينهم، وصحيح عقيدتهم، فساروا إلى غير يقين في دين الله عز وجل وصفاته..

وأبعد من ذلك، أن صارت المعطلة النفاة إذا أثبت أحدٌ شيئاً من الصفات؛ كان ذلك مستلزماً لأن يكون الموصوف عندهم جسماً -وعندهم الأجسام متماثلة -فصاروا يسمونه مشبهاً بهذه المقدمات العقلية التي تلزمهم، ولا تلزم غيرهم،

وقد علم من العقل والشرع والفطرة بطلانها وتناقضها، ودخل على دين الناس ما دخل بسبب هذه الأغاليط والشبهات التي أثاروها؛ حتى إن الرجل ليبقى منهم حائراً، وأهون شيءٍ عليه حينئذ إبطال عقله ودينه، والخروج عن الإيمان والقرآن، وصحيح أخبار النبيِّ العدنان ﷺَ، وأدنى ما يقعون فيه هو التشكيك بصدق الخبر، إن لم يكذبوا ما جاء به الرسول ﷺَ، وجعلوا المرء منهم مرتداً عن بعض ما كان عليه من الإيمان.

ومجرد الحيرة في قبول هذه الأخبار يُعدُّ قادحاً صعباً في إيمان المرء ودينه وعلمه وعقله، وأهل الكلام –أعني المتضلعين منهم يعرفون من حقائق أصولهم، ولوازمها، ما لا يعرفه من وافقهم على أصل هذه المقالة، ولم يعرف حقيقتها ولوازمها، فلذا يوجد كثيرٌ من أتباعهم من يتناقض كلامه في هذا الباب، فتجده يُثبت ما المثبتين، وينفي مع المعطلين، وليس له إمام مُرشد، ولا عالمٌ ناصحٌ..

ومن رأى هذا الأمر كان واجباً عليه أن يرُدَّ عليهم شبههم وأباطيلهم، ويقطع حجتهم وأضاليلهم، فيبذل جهده في كشف عوار منطقهم، وزيف دلائلهم، ذباً عن الملة المحمدية، والسنة الصحيحة الجلية…

وقد انبرى شيخ الإسلام حقاً وإمام المسلمين صدقاً شيخ الإسلام ابن تيمية، في بيان معنى (نزول الرب) تبارك وتعالى، كما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله ﷺَ، بفهم الصحابة وسلف الأمة، وحارب التأويلات المنحرفة..

ولما رأى المبتدعة عجزهم عن مدافعة حجج هذا الجبل الأشم الراسخ، دسُّوا عليه من الآراء ما يُشينه في عقيدته، وذلك بقصد التشويه، وإثارة مشاعر الحقد ضده، ولكن يأبى الله إلا إعزاز دينه، رحمه الله تعالى، وحشرنا معه في زمرة المتقين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

فأهل السُّنَّةِ والجماعة؛ فيثبتون صفات الرب جل وعلا، الذاتية والفعلية، ويرون ذلك من كمال الخالق سبحانه، وبهائه، وجلاله، مع مراعاتهم فيما يثبتون وينفون ألفاظ القرآن والحديث، فلا يأتون بلفظٍ مُحدَثٍ مُبتدع، في النفي والإثبات، وقد اشتهر تأويل هذا الحديث عند نُفاة الصفات، بأن المراد بالنزول نزول أمر الله تعالى أو نزول رحمته، أو نزول ملائكته، ومع أن هذا التأويلات جميعها باطلة، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المؤلَّفِ الفريد، ويكفيهم من سياق الحديث، قوله: أنا الملك..."، صريحٌ في أن الله تعالى هو الذي ينزل.

ولو قدروا الله حقَّ قدره، وعظموه حقَّ تعظيمه، ما توهموا أن يحصره مخلوقٌ من مخلوقاته، سماءٌ أو غيرُ سماءٍ، حتى يُقال: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا، صار العرش فوقه؟! أو يصير شيء من مخلوقاته يحصره ويُحيطُ به!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً..

وهذه دراسةٌ جامعة مانعة لحديث النزول، خطَّها شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وتكلم فيها، عن:

-  الرد على المنطقيين، والفلاسفة الذين يردُّون صحيح الأخبار بالقياسات العقلية،

- وبيَّن معنى التجسيم، وحقيقته، وأن إثبات هذا الخبر لا يستلزم ذلك.

- وفيه الحديث عن حركات الروح والملائكة،

- وعن قرب الله تعالى من خلقه،

- وبيَّن أن الله عز وجل لا تراه العيون في الدنيا، وأن الرؤية حاصلةٌ للمؤمنين في الآخرة،

- وأن القرب الوارد في الآيات للمحتضر هو قربٌ خاصٌّ، يُراد به قرب الملائكة، وقد دلَّ عليه ظاهر النص، فلا نحتاج إلى تأويله بقرب المعية أو بناءً على توهُّم قُرب الذات، وهناك قُربٌ خاصٌّ بمن دعاه سبحانه والتجأ إليه، بما يهبه سبحانه من معاني الإيمان والمعرفة والخشية له سبحانه، وعن كلام الله عز وجل، وأنه غير مخلوق، وأنه سبحانه يتكلم بما شاء، وقتما شاء.

● وما أسعدني بهذا المختصر الذي أُقِّدم له بين يدي القراء خُلاصةً للكتاب، وتتجدَّدُ سعادتي وامتناني على الدوام بمعرفة صفات الرب جل وعلا، ونسأله سبحانه أن يرزقنا الفهم السديد والقول الرشيد، والحكم الصواب، وأن يرزقنا الجنة من غير حساب، ولا عذاب، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه..

● أهمية هذا الكتاب:

(١) أنه من الكتب السلفية المهمة التي تبين عقيدة أهل السنة والسلف في قضية النزول الإلهي، وعلاقة ذلك باختلاف المواقيت، والمطالع، تبعاً لاختلاف البلدان.

(٢) التعرض لقضايا عقدية مهمة، مثل: الاستواء، والمجيء، والإتيان، والمعية، والقرب، وغير ذلك من صفات الباري جل وعلا.

(٣) أن المصدر الرئيس لابن تيمية في هذا الكتاب، هو: القرآن، والحديث الصحيح، والآثار عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء.

(٤) أن مؤلف الكتاب هو من علماء السلف المشهود لهم بالرسوخ في العلم، سواء في الأصول، أو الفروع، وفي علوم السمع والعقل، وفي هذا الكتاب مناقشات كثيرة للقضايا العقلية والمنطقية تكشف عن قوة استحضار شيخ الإسلام، وصفاء ذهنه.

(٥) بيان كذب المبتدعة على ابن تيمية، وبطلان ما رموه به من التجسيم والتشبيه، وبيان ما افتروه عليه بأنه يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا!.

(٦) أن الباحث قد بذل جهداً كبيراً في تحقيقه وإخراجه بصورة جميلة متكاملة بين أيدي القراء، فحققه من أربع نُسخٍ مختلفة، مع تتبعه للأخطاء الواردة في النسخة المطبوعة من مجموع الفتاوى (٥/ ٣٢١- ٥٨٢) سواءً ما يتعلق بالآيات الكريمة، أو تكرير بعض الكلمات، وما يعكس المعنى، والخطأ في الأعلام، والنحو، وغيرها.

(٦) الإجابة عن الإشكالات والتساؤلات الكثيرة التي قد تطرأ على الذهن في مسألة النزول الإلهي، أو يُثيرها المبتدعة في كل زمان.

(٧) استعراض آراء الفرق المخالفة في هذه القضية، وتناولها بشكل تحليلي، وبيان حقيقة معناها، وبيان خطأ ذلك من صوابه، بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وبفهم الصحابة رضوان الله عليهم.

(٨) بيان الردود المفحمة على نُفاة الصفات عن الله، لا سيما نفاة الصفات الفعلية، مفوضين كانوا أو مؤولين.

----------------------------------------

وقد قسم الباحث هذا الكتاب إلى قسمين:

القسم الأول: في ترجمة المؤلف، والتعريف بالكتاب، وجعل ذلك على فصلين:

الفصل الأول: في ترجمة المؤلف، وجعله في ثلاث مباحث:

● المبحث الأول: في حياته الشخصية: وذكر فيه :

1. اسمه ونسبه:

وهو شيخ الإسلام حقاً وصدقاً، الإمام العالم الرباني: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، ثم الدمشقي،

2. ومولده وموطنه:

وأنه ولد بحران، ثم انتقل مع أبيه إلى دمشق، وأبان أنه من أسرة كريمة عريقةٍ في العلم، ذكوراً، وإناثاً، وُعاظاً، وفقهاء، ومحدثين، وقُرَّاء، وصالحين وأن وفاته كانت في ٢٠ من ذي القَعدة، من سنة (٧٢٨ هـ) بقلعة دمشق" (انظر: ص ١٤ - ١٧).

● المبحث الثاني: في حياته العلمية:

وذكر فيه "نشأته العلمية، وما تمتع به من صفات شخصية جعلت فيه أهلية الإمامة والنبوغ، وذكر من هذه الصفات:

الجد والاجتهاد، الذاكرة الحادة، والذكاء المتوقد، وإقباله على شتى العلوم العربية والإسلامية، وتخصصه في الفقه والتفسير والحديث،

وذكر أشهر شيوخه، وعدَّ منهم ثمانيةً وعشرينَ شيخاً وشيخة، ثم ذكر أشهر تلامذته، وعدَّ منهم خمسةً وعشرين تلميذاً كلهم من الأعلام، الذين تُعقد عليهم الخناصر.

ثم تحدث عن مكانته العلمية، والعلوم التي نبغ فيها، مثل: علوم العقيدة، والحديث، والتفسير، والفقه، ثم ذكر طرفاً من ثناء الناس عليه، وسبعاً من مؤلفاته" (انظر ص ١٨ - ٣٣).

● المبحث الثالث: "تفنيد قصة تُنسب إلى ابن تيمية تتعلق بحديث النزول" (ص ٣٤ – ٣٨)، وقد ذكر هذه القصة ابن بطوطة في رحلته، والكتاني في فهرس الفهارس، ولا شك في كذب هذه الحكاية، وأن ابن بطوطة لم يلتق بابن تيمية، ولا سمع منه، كما حقق ذلك الشيخ "بهجت البيطار" في كتابه (حياة شيخ الإسلام ابن تيمية)، كما أن ابن بطوطة لم يكن يحقق الأقوال في كتابه، بل ينقلها بعجرها وبجرها، فهو من المقمشين الذين لم يفتشوا في صحة الأخبار، وفي القصة من القرائن والعمومات الموهمة ما يدلُّ على بطلانها أصالةً وتفصيلاً.

----------------------------------------

الفصل الثاني:

وفيه التعريف بالكتاب ووصف المخطوطة، وفيه مبحثان:

● المبحث الأول: التعريف بالكتاب.

● المبحث الثاني: التعريف بالمخطوطة.

ونختصر الكلام على الكتاب في سطورٍ قليلة،

فنقول: لم يضع المؤلف عنواناً مُعيناً لهذه الرسالة، لأنه كان جواباً عن سؤالٍ ورد بخصوص صفة النزول، وقلما كان يُسمي رحمه الله مؤلفاته، وكان مع ذلك يؤلفها بسرعةٍ عجيبة، ناقلاً عن الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وأحداث التاريخ.

أما عن اسم الكتاب ففي بعض النُّسخ "إثبات النزول بالبراهين وقواطع النقول"، وفي نسخةٍ أخرى: "سؤال في حديث النزول وجوابه"، وفي ثالثة: "شرح حديث النزول".

وسماه ابن القيم: "مسألة النزول، واختلاف وقته باختلاف البلدان"، ولا خلاف بين المترجمين لشيخ الإسلام أن هذا المؤلَّف له رحمه الله تعالى. (انظر: ص ٣٤- ٥١).

----------------------------------------

القسم الثاني:

وهو ما يتعلق بصلب الكتاب ومتنه، تحقيقاً، وتخريجاً، وتعليقاً، وبياناً.

أولاً: الحديث رواية:

الأحاديث المتعلقة بنزول الله عز وجل إلى سماء الدنيا، كثيرة، منها:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺَ، قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ " (رواه البخاري ومسلم).

ثانياً: بيان أن هذا الحديث متواتر:

وهذا الحديث متواترٌ عند أهل العلم بالحديث، حيث رواه جمعٌ من الصحابة، بلغ عددهم ثمانية وعشرين صاحبياً، وممن قال بتواتر حديث النزول من أهل العلم:

(١) ابن تيمية رحمه الله في "شرح حديث النزول" (ص ٣٢٣).

(٢) وابن القيم في "تهذيب السنن" (٧/ ١٠٨).

(٣) والذهبي في كتاب "العلو" (ص ٧٣ - ٧٩).

(٤) وابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص ٣٠٤).

(٤) وأبو زُرعة كما في "عمدة القاري" (٧/ ١٩٩).

(٥) والكتاني في "نظم المتناثر" (ص ١٩١).

(٦) وعبد الرحمن بن سعدي في "توضيح الكافية الشافية" (ص ١٤٧).

● ألفاظ الحديث:

وقد رُوي هذا الحديث بألفاظٍ متعددة، ومتنوعة فيها فوائد، وزيادات:

ففي رواية لمسلم: (يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ)، وفي لفظٍ: "إذا بقي من الليل ثلثاه، يهبط الرب إلى سماء الدنيا"، وفي لفظٍ: (حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح)، وفي رواية عمرو بن عبسة: (أن الرب يتدلى في جوف الليل إلى السماء الدنيا).

فَيَقُولُ: (أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ... فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ )، وفي لفظٍ: (حتى ينشق الفجر، ثم يرتفع)، وفي لفظٍ: (ثُم يعرج)، وفي لفظٍ: (ثُمَّ يصعد). (ص ١٩٧- ٢٠٠، ٣٢٣).

● تفسير ألفاظ الحديث (ص ٣٢٣):

ذكر النبيُّ ﷺَ النزول إذا مضى ثلث الليل الأول، وإذا انتصف الليل، وقوله في ذلك حقٌّ، وهو الصادق المصدوق، ويكون النزول أنواعاً ثلاثة:

* الأول: إذا مضى ثلث الليل الأول.

* ثم:  إذا انتصف وهو أبلغ.

* ثم: إذا بقي ثلث الليل وهو أبلغ الأنواع الثلاثة.

● ولفظ: (الليل والنهار) في كلام الشارع إذا أطلق؛ فالنهار من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق.

● وهو سبحانه ينزل إلى عباده في ذلك الوقت من ثلث الليل الآخر، أو منتصف الليل حتى طلوع الفجر، ويبقى نزوله ودعاؤه لأهل كل بلادٍ على من ثلث ليلهم إلى طلوع فجرهم: هل من سائل، هل من داعٍ، هل من مُستغفرٍ، وثُلث ليلِ كُلِّ بلادٍ يُقدَّر بقدارها، وكما أن ثلث الليل يختلف بطول البلد؛ فهو يختلف بعرضها أيضاً.

فكلما كان البلد أدخل في الشمال؛ كان ليله في الشتاء أطول وفي الصيف أقصر.

وما كان قريباً من خط الاستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك، وليله في الصيف أطول من ليل ذاك؛ فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي.

وحينئذٍ فالنزول الإلهي لكل قومٍ هو مقدارُ ثلث ليلهم فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب.

وأيضاً؛ فإنه إذا صار ثلث الليل عند قوم؛ فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد؛

فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدق أيضاً عند أولئك إذا بقي ثلث ليلهم، وهكذا إلى آخر العمارة.

● الأحاديث التي تضمنت نزول الرب سبحانه وتعالى:

 وبالإضافة إلى ما سبق من نزوله سبحانه (كل ليلةٍ) إلى سماء الدنيا، فقد جاء ذكر نزوله تعالى (عشية عرفة) من عدة طرق، وكذلك (ليلة النصف من شعبان)، وذكر نزوله (يوم القيامة) في ظلل من الغمام، وحديث (يوم المزيد) في يوم الجمعة من أيام الآخرة، وما يعنينا هنا هو الوقوف على إثبات صفة النزول عموماً.

● تفسير النزول من المخلوقين ومن الخالق (ص ٢١٨- ٢٣٢):

والنزول منا يكون بمعنيين:

أحدهما: الانتقال من مكان إلى مكان كنزولك من الجبل إلى الحضيض ومن السطح إلى الدار.

والمعنى الآخر: إقبالك إلى الشيء بالإرادة والنية.

كذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير وأشباه هذا من الكلام.

● أما معنى النزول في حقِّ الله عز وجل:

فهو أنه سبحانه ينزل بذاته في ثلث الليل إلى سماء الدنيا قي ثلث كل بلد، وهو في نزوله مستو على عرشه، ولا يخلو منه العرش.

وكذلك ينزل يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك.

--------------------------------

● تعقُّبات على كتاب شرح حديث النزول لابن تيمية:

يقول الباحث عبد القادر بن محمد الغامدي الجعيدي في كتابه

(صفة النزول الإلهي وردِّ الشبهات حولها، ص ١٦- ١٨) عن كتاب ابن تيمية  "شرح حديث النزول":

أولاً: أن شيخ الإسلام لم يقصد في هذا الكتاب أن يستوفي كل ما يتعلق بموضوعه، ذلك أن أصل الكتاب هو جواب عن سؤال وجه إليه حول مسألة النزول، وقد ركز رحمه الله على الجواب عما جاء في السؤال، وأشار إشارات -بعضها سريعة وبعضها عميقة- إلى أصول الضلال في هذا الباب، مُخاطباً من له خبرة ومعرفة بمذاهب القوم، وأصولهم في التعطيل، الأمر الذي جعل كتابه من الكتب المركزة والصعبة، وأضاف أموراً مهمة في الباب، وأموراً أخرى لا تتعلق بالنزول.

ثانياً: أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يعتني بجمع الأحاديث المعتمد عليها في هذا الباب، ولا بجمع أقوال الصحابة والتابعين التي تزيد مباحث صفة النزول قوة وصلابة.

ثالثاً: أن هناك شبهات كثيرة للنفاة حول النزول، لم يتعرض لها شيخ الإسلام، لعدم تعلقها بالسؤال الذي وُجِّه إليه، والذي من أجلها كتب هذه الفتوى، ومن ذلك: الحجج التي أوردها الرازي في "تأسيس التقديس"، وهي أربع حجج، وقد زعم الرازي أنها قطعية في نفي النزول، ومعلومٌ أن هذا الكتاب من أهم كتب الأشاعرة المتأخرين، وقد أجاب شيخ الإسلام في فتواه على حجة واحدة فقط، وأجاب على الأخرى في بعض كتبه، وبقيت حجتان ردَّ عليهما في كتابه "بيان تلبيس الجهمية"، ومع ذلك فإن الرد عليهما ساقطٌ بكامله من المخطوط، ومن النسخة المحققة من الدكتور الخميس.

رابعاً: أن أهم مسألتين تعرض لهما شيخ الإسلام في كتابه هذا، هما:

(١) مسألة خلو العرش: وبيَّن أن نزوله سبحانه لا يقتضي خلو العرش عنه.

(٢) مسألة اختلاف ثلث الليل في البلاد: وقد بيَّن أن ذلك لا يؤثر في صفة النزول.

خامساً: كثرة استطرادات الشيخ، وإجماله في بعض المواطن المهمة، وتفريقه الكلام حول مسألة النزول، توهم القارئ بوجود سقطٍ في الكتاب، ونحو هذا.

-----------------------

اختصره: ا. محمد حنونة.