تشنيف السمع بأخبار القصر والجمع
تأليف: العلامة يوسف بن محمد البطاح الأهدل (ت 1246 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ تُعد مسألتي القصر والجمع من المسائل المهمة التي ينبغي الاعتناء بها، والحرص على تعلُّمها، والقصر هو الاقتصار على ركعتين من الرباعية في حال السفر، والجمع هو ضمُّ الصلاتين بعضهما إلى بعض عند الجمهور، خلافاً للحنفيَّة الذين يقولون بالجمع الصُّوري.
والقصر جائزٌ عند الجمهور، وعند الحنفية واجب، وأما الجمع فجائزٌ عند جمهور الفقهاء في السفر الطويل الذي هو مرحلتان (48 ميلاً هاشمية =80 كم)، وأما السفر القصير فبينهم خلافٌ، وفيهما قولان للشافعي بالجواز وعدمه. ومذهبه الجديد المنع من الجمع في السفر القصير. ومسائلهما منثورةٌ في كتب الفقه والحديث عموماً.
وقد اعتنى العلماء بالتصنيف فيهما، وأفردوا لهما الرسائل المستقلة، التي تكشف عن دقيق مسائلهما، ومن هذه الرسائل المباركة رسالة: (تشنيف السّمع بأخبار القصر والجمع) للعلامة اليماني: يوسف بن محمد البطّاح الأهدل (ت 1246 هـ)، التي بيَّن فيها أحكام القصر والجمع مما عليه الأئمة الشافعية.
المصادر التي اعتمد عليها الشيخ الأهدل في رسالته هذه:
ومادة هذا الكتاب أغلبها مستمدة من كتب الإمام النووي رحمه الله، وذلك كشرحه على "مٍُسلم"، و"المنهاج"، و"روضة الطالبين" وأصلها (فتح العزيز للرافعي)، كذلك "الفتح" و"بلوغ المرام" لابن حجر العسقلاني، وشرحه للأهدل، وحاشية الجمل على "ألمنهاج"، وحاشية محمد سليمان الكردي على شرح بافاضل، و"حاشية" قليوبي على المحلي، ونظم الزبد لابن رسلان، وشرحه، ولكن يعرضها بأسلوب مختصر، وفيه بعض التصرفات والحذف.
تقريظ العلماء لهذه الرسالة:
ومن العلماء الذين قرظوا هذه الرسالة وأثنوا عليها وعلى صاحبها: الشيخ العلامة عمر بن عبد الكريم الحنفي، والعلامة محمد يس بن عبد الميرغني "مفتي الحنفية"، والعلامة محمد عمر بن أبي بكر الرئيس "مفتي الشافعية بمكة"، والعلامة محمد بن عربي المالكي "مفتي المالكية بمكة"، والعلامة فرّاج بن سابق الأثري الحنبلي،
جنس السفر الذي يجوز فيه القصر:
-ذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة وأحمد والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفرٍ مباح.
-وشرط بعض السلف كونه سفر خوف، وبعضه كونه سفر حجٍّ أو عمرة، أو غزو (وهو قول داود الظاهري وأصحابه إلا ابن حزم)، وبعضهم كونه سفر طاعة (وهي رواية عن الإمام أحمد).
قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون، ولا يجوز في سفر المعصية، وجوّزه أبو حنيفة والثوري (وهو قول ابن حزم، وابن تيمية في "الفتاوى").
حدُّ السفر الذي يُقصر فيه:
ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهم والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين (والمرحلة هي المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم، والجمع مراحل) قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع ربعةٌ وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات (حبات شعير) معترضات معتدلات.
وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاثة مراحل.
وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم.
وقال داود وأهل الظاهر يجوز في السفر الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال.
القصر في المشاعر لأهل مكة وغيرهم:
واعلم أن القصر مشروعٌ بعرفات ومزدلفة ومنى للحاج في غير أهل مكة وما قرب منها، ولا يجوز لأهل مكة ومن كان دون مسافة القصر. هذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة والأكثرين، وقال مالك: يقصر أهل مكة ومنى وعرفات.
علة القصر في تلك المواضع:
فعلة القصر عند أبي حنيفة في تلك المواضع (عرفة والمزدلفة ومنى) النسك، وعند الجمهور علته السفر (وهو اختيار ابن تيمية)، والله تعالى أعلم. (شرح مسلم، للنووي).
وقال النووي في "المنهاج" مع شرح التحفة لابن حجر: (إنَّمَا تُقْصَرُ) مَكْتُوبَةٌ لَا نَحْوُ مَنْذُورَةٍ (رُبَاعِيَّةٌ) لَا صُبْحٌ وَمَغْرِبٌ إجْمَاعًا في الأمن وعلى الأظهر في الخوف المباح، أي الجائز في ظنّه، كمن أرسل بكتابٍ لم يعلم فيه معصيةٌ كما هو ظاهر، سواء الواجب والمندوب والمباح والمكروه.
وَمِنْهُ -أي السفر المكروه -أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ، (وَلَوْ قَضَى فَائِتَةَ السَّفَرِ) الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ (فَالْأَظْهَرُ قَصْرُهُ فِي السَّفَرِ) الَّذِي فَاتَتْهُ فِيهِ أَوْ سَفَرٍ آخَرَ يُبِيحُ الْقَصْرَ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا إقَامَةٌ طَوِيلَةٌ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَصْرِ فِي قَضَائِهَا كَأَدَائِهَا دون الحضر ونحوه، لفقد القصر حال فعلهما.
(وَمَنْ سَافَرَ مِنْ بَلْدَةٍ فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُوَرِهَا) الْمُخْتَصِّ بِهَا، وَإِنْ تَعَدَّدَ؛ فإن كان وراءه عمارة اشترط مجاوزتها في الأصح.
(قلتُ -النووي -الأصحُّ) الذي عليه الجمهور (أنها لا تُشترط)، والله أعلم.
(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) لَهَا (سُورٌ فَأَوَّلُ) سفره (مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ)، وَإِنْ تَخَلَّلَهُ خَرَابٌ لَيْسَ بِهِ أُصُولُ أَبْنِيَةٍ أَوْ نَهْرٌ، وَإِنْ كَبُرَ أَوْ مَيْدَانٌ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ وَمِنْهُ الْمَقَابِرُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ وَمَطْرَحُ الرَّمَادِ وَمَلْعَبُ الصِّبْيَانِ (لَا الْخَرَابُ وَ) لَا (الْبَسَاتِينُ)، وَالْمَزَارِعُ كَمَا فُهِمَتْ بِالْأُولَى، وَإِنْ حُوِّطَتْ وَاتَّصَلَتْ بِالْبَلَدِ لِأَنَّهَا لَمْ تُتَّخَذْ لِلسُّكْنَى.
(وَالْقَرْيَةُ كَبَلْدَةٍ وَأَوَّلُ سَفَرِ سَاكِنِ الْخِيَامِ مُجَاوَزَةُ الْحِلَّةِ) فقط -وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ -بُيُوتٌ مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادِ وَاحِدٍ وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَيُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ مَرَافِقِهَا؛ كَمَطْرَحِ رَمَادٍ وَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ وَنَادٍ وَمَعَاطِنِ إبِلٍ وَكَذَا مَاءٌ وَحَطَبُ اُخْتُصَّا بِهَا.
(وَإِذَا رَجَعَ) الْمُسَافِرُ (انْتَهَى سَفَرُهُ بِبُلُوغِهِ مَا شُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً) مِنْ سُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ.
(وَلَوْ نَوَى) الْمُسَافِرُ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ (إقَامَةَ) مُدَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهَا (بِمَوْضِعٍ) عَيَّنَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ (انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ)، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلْإِقَامَةِ.
أَوْ نَوَاهَا -يعني الإقامة -عِنْدَ وُصُولِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَهُوَ مَاكِثٌ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ. أَوْ مَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ -يعني نوى الإقامة دون الأربعة أيام -لَمْ يُؤَثِّرْ (فيقصر). أَوْ أَقَامَهَا بِلَا نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا. أَوْ نَوَى إقَامَةً وَهُوَ سَائِرٌ لَمْ يُؤَثِّرْ
(تَنْبِيهٌ) يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِنَحْوِ يَوْمٍ أو يومين نَاوِينَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ مِنًى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ. فَهَلْ يَنْقَطِعُ سَفَرُهُمْ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِمْ لِمَكَّةَ نَظَرًا لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِهَا وَلَوْ فِي الْأَثْنَاءِ ؟ أَوْ يَسْتَمِرُّ سَفَرُهُمْ إلَى عَوْدِهِمْ إلَيْهَا مِنْ مِنًى؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَقْصِدِهِمْ فَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ الْقَصِيرَةَ قَبْلَهُ وَلَا الطَّوِيلَةَ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ مِنًى وَوُصُولِهِمْ مَكَّةَ؟
لِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ وَكَلَامُهُمْ مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ.
(وَلَا يَحْسِبُ مِنْهَا يَوْمًا) أَوْ لَيْلَتَا (دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ عَلَى الصَّحِيحِ) ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا الْحَطَّ، وَالتَّرْحَالَ وَهُمَا مِنْ أَشْغَالِ السَّفَرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرَخُّصِ.
(وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ) مَثَلًا (بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ) يَعْنِي قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَوْ عَلِمَ بَقَاءَهَا إلَى آخِرِهِ وَمِنْ ذَلِكَ انْتِظَارُ الرِّيحِ لِمُسَافِرِي الْبَحْرِ وَخُرُوجُ الرُّفْقَةِ لِمَنْ يُرِدْ السَّفَرَ مَعَهُمْ إنْ خَرَجُوا وَإِلَّا فَوَحْدَهُ (قَصَرَ) يَعْنِي تَرَخَّصَ إذْ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ لَهُ سَائِرَ رُخَصِ السَّفَرِ وَلَا يُسْتَثْنَى سُقُوطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى غَلَبَةِ الْمَاءِ وَفَقْدِهِ وَلَا صَلَاةُ النَّافِلَةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِالسَّيْرِ وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا (ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا) كاملةً غير يومي الدخول ولالخروج، (وقيل: أربعة لا زائد عليها)، (وفي قولٍ: أبداً). حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ دَامَتْ الْحَاجَةُ لَدَامَ الْقَصْرُ
فصلٌ في شروط القصر وتوابعه:
شروط القصر، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ شرطاً:
(أَحَدُهَا سَفَرٌ طَوِيلٌ) وَطَوِيلُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا) ذَهَابًا فَقَطْ تَحْدِيدًا -وَلَوْ ظَنًّا -(هَاشِمِيَّةٌ) نِسْبَةٌ لِلْعَبَّاسِيَّيْنِ لَا لِهَاشِمٍ جَدِّهِمْ كَمَا وَقَعَ لِلرَّافِعِيِّ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا أُمَوِيَّةً إذْ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْ هَذِهِ سِتَّةٌ مِنْ تِلْكَ.
وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ وَالْخُطْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ فَهُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ.
(قُلْت -النووي -وَهُو مَرْحَلَتَانِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ) وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ عَلَى الْعَادَةِ وَهُمَا يَوْمَانِ أَوْ لَيْلَتَانِ أَوْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مُعْتَدِلَتانِ أَوْ يَوْمٌ بِلَيْلَتِهِ أَوْ عَكْسُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدِلَا كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ -رحمة الله عليه. وَمَنْ تَبِعَهُ.
(وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ) (فَلَوْ قَطَعَ الْأَمْيَالَ فِيهِ فِي سَاعَةٍ) لِشِدَّةِ الْهَوَاءِ (قَصَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) كَمَا لَوْ قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي بَعْضِ يَوْمٍ عَلَى مَرْكُوبِ جَوَادٍ.
(وَ) ثَانِيهَا عِلْمُ مَقْصِدِهِ فَحِينَئِذٍ (يُشْتَرَطُ قَصْدُ مَوْضِعٍ) مَعْلُومٍ وَلَوْ غَيْرَ (مُعَيَّنٍ) وَقَدْ يُرَادُ بِالْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومُ فَلَا اعْتِرَاضَ (أَوْ لَا) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طَوِيلٌ فَيُقْصَرَ فِيهِ؛ (فَلَا قَصْرَ لِلْهَائِمِ) وَهُوَ مَنْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا أَمْ لَا (وَإِنْ طَالَ تَرَدُّدُهُ) وَبَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُ عَابِثٌ فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّرَخُّصُ، ولا طالب آبقٍ عقد سفره بنية أنه منى وجده جرع ولا يعلم موضعه.
(وَ) ثَالِثُهَا جَوَازُ سَفَرِهِ؛ فَحِينَئِذٍ (لَا يَتَرَخَّصُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَآبِقٍ (وهو الهارب) (وَنَاشِزَةٍ -أي العاصية لزوجها)
(وَ) رَابِعُهَا عَدَمُ اقْتِدَائِهِ بِمُتِمٍّ وَ (لَوْ) احْتِمَالًا؛ فَمَتَى (اقْتَدَى بِمُتِمٍّ) وَلَوْ مُسَافِرًا (لَحْظَةً لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ)؛ كَمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(وَ) خَامِسُهَا نِيَّةُ الْقَصْرِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ كَصَلَاةِ السَّفَرِ أَوْ الظُّهْرِ مَثَلًا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، وإنما اشترطوا (لِلْقَصْرِ نِيَّةٌ)؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَاحْتَاجَ لِصَارِفٍ عَنْهُ بِخِلَافِ الْإِتْمَامِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ نِيَّتِهِ (فِي الْإِحْرَامِ) كَسَائِرِ النِّيَّاتِ
(وَ) سَادِسُهَا (التَّحَرُّزُ عَنْ مُنَافِيهَا) أَيْ نِيَّةِ الْقَصْرِ (دَوَامًا) أَيْ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ بِأَنْ لَا يَتَرَدَّدَ فِي الْإِتْمَامِ فَضْلًا عَنْ الجزم به.
وَسَابِعُهَا دَوَامُ السَّفَرِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ كَمَا قَالَ (وَيُشْتَرَطُ) لِلْقَصْرِ أَيْضًا (كَوْنُهُ) أَيْ النَّاوِي لَهُ (مُسَافِرًا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ) الْمُنَافِيَةَ لِلتَّرَخُّصِ (فِيهَا) أَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهَا (أَوْ بَلَغَتْ سَفِينَتُهُ) فِيهَا (دَارَ إقَامَتِهِ) أَوْ شَكَّ هَلْ بَلَغَتْهَا (أَتَمَّ) لِزَوَالِ تَحَقُّقِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ.
وَثَامِنُهَا كَوْنُهُ عَالِمًا بِجَوَازِ الْقَصْرِ، فَإِنْ قَصَرَ جَاهِلًا بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِتَلَاعُبِهِ.
أيهما أفضل: القصر أم الإتمام؟
(وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا بَلَغَ) السَّفَرُ الْمُبِيحُ لِلْقَصْرِ (ثَلَاثَ مَرَاحِلَ) وَإِلَّا فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ خُرُوجًا مِنْ إيجَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَصْرَ فِي الْأَوَّلِ، وَالْإِتْمَامَ فِي الثَّانِي، نَعَمْ الْأَفْضَلُ لِمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةَ الْقَصْرِ أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ الْقَصْرُ مُطْلَقًا، بل يكره له الإتمام.
الجمع بين الصلوات:
ويجوز الجمع في المطر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في الحضر عند جمهور الفقهاء، وخصَّه مالكٌ بالمغرب والعشاء.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الجمع بين لاصلاتين بسبب السفر ولا المطر ولا المرض ولا غيرها إلا بين الظهر والعصر بعرفات، بسبب النُّسك، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة بسبب النُّسك أيضاً، وما ورد من الأحاديث في الجمع، فهي جمعٌ صوري لا حقيقي. قال النوويُّ في "شرح مسلم": والأحاديث الصحيحة في الصحيحين، وسنن أبي داود، وغيرها حجةٌ عليه.
وأما الجمع للمريض؛ فالمشهور من مذهب الشافعي والأكثرين أنه لا يجوز له، وجوّزه أحمد، وطائفةٌ من أصحاب الشافعي (منهم: أبو سليمان الخطابي، استحسنه الروياني، وهو اختيار النووي)، وهو قويٌّ في الدليل: كما ورد عن ابن عباس.
الجمع للحاجة:
قال النووي في "شرح مسلم": وذهب جماعةٌ من الأئمة إلى جواز الجمع في الحاجة لمن لا يتخذه عبادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي، وعن جماعةٍ من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويريد ظاهر الحديث، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ فلم يعلله بمرضٍ ولا غيره، والله أعلم.
وقال النووي -أيضاً في "المنهاج" مع شرحه للشيخ العلامة "ابن حجر المكي" المُسمى بـ"تحفة المنهاج" ما لفظهما باختصار: قالا: (فَصْلٌ) فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، (يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا) فِي وَقْتِ الْأُولَى، وتأخيراً في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء كذلك، أي تقديماً وتأخيراً في السفر الطويل المجوز للقصر؛ للاتباع الثابت في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي جَمْعَيْ التَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيمِ، (فَإِنْ كَانَ سَائِرًا وَقْتَ الْأُولَى فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ وَإِلَّا فَعَكْسُهُ) لِلِاتِّبَاعِ، وَلِأَنَّهُ الْأَرْفَقُ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا أَوْ نَازِلًا وَقْتَهُمَا فَالتَّقْدِيمُ أَوْلَى فِيمَا يَظْهَرُ، لأن فيه المسارعة لبراءة الذمة، أقول خلافاً للرملي، فإن التأخير عنده أفضل، ومثله الخطيب، وبحث ابن حجر المذكور في "الإمداد" التخيير، وعلّل الرملي ومن تبعه بأن وقت الثانية وقتٌ للأمولى ولا عكس.
وشروط جمع التقديم ثلاثة، بل أربعة:
أَحَدُهَا (الْبُدَاءَةُ بِالْأُولَى فَلَوْ صَلَّاهُمَا فَبَانَ فَسَادُهَا فَسَدَتْ الثَّانِيَةُ) أَيْ لَمْ تَقَعْ عَنْ فَرْضِهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، أَمَّا وُقُوعُهَا لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا فَلَا رَيْبَ فِيهِ لِعُذْرِهِ.
(وَ) ثَانِيهَا (نِيَّةُ الْجَمْعِ -وَمَحَلُّهَا) أي لْأَفْضَلَ (أَوَّلُ الْأُولَى) كَسَائِرِ الْمَنْوِيَّاتِ فَلَا يَكْفِي تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ اتِّفَاقًا (وَيَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا) ومع تحللها في الأظهر.
(وَ) ثَالِثُهَا (الْمُوَالَاةُ، بِأَنْ لَا يَطُولَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ؛ فَإِنْ طَالَ) الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا (وَلَوْ بِعُذْرٍ) كَجُنُونٍ (وَجَبَ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِهَا وَلَا يَضُرُّ فَصْلٌ يَسِيرٌ ولو بنحو جنون)، وكذا ردةٍ والعياذ بالله تعالى.
(وَيُعْرَفُ طُولُهُ -أي الفصل) وَقِصَرُهُ (بِالْعُرْفِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لَهُ ضَابِطٌ.
وَمِنْ الطَّوِيلِ قَدْرُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ بِأَخَفِّ مُمْكِنٍ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ.
وَرَابِعُهَا دَوَامُ سَفَرِهِ إلَى عَقْدِ الثَّانِيَةِ؛ فلو صار بين الصلاتين مُقيماً بنحو نية إقامة أو شك فيها بطل الجمع، وإذا صار مُقسماً في الثانية أو بعدها لا يبطل الجمع في الأصح. انتهى.
وزاد الكردي كما في "الحواشي المدنية": ومن شرط الجمع (العلم بجوازه)، ومن شروط جمع التقديم: (تيقن صحة الأولى)، (وبقاء وقت الأولى إلى تمام الثانية)؛ فلو أخرج في أثناء الثانية بطلت، لأنه تبيّن أنه يُحرم بها قبل دخول وقتها.
ثم قال: "خاتمة": ويجوز جمع الجمعة مع العصر تقديماً لا تأخيراً، ويجوز للمتحيّرة (وهي من نسيت عادتها قدراً ووقتاً لغفلةٍ، وسميت متحيرة لتحيرها في أمرها، أو لأنها حيرت الفقيه) أن تجمع بين الصلاتين تأخيراً لا تقديماً.
قال الزركشيُّ: ومثلها فاقد الطهورين، وكل من لم تسقط صلاته.
فرع: قال في "الروضة" و"أصلها" (فتح العزيز للرافعي): الرخص المتعلقة بالسفر الطويل أربعٌ: القصر والفطر ومسح الخف ثلاثة أيامٍ بلياليها، والجمع على الأظهر.
والذي يجوز فِي الْقَصْيرِ -أَيْضًا -أَرْبَعٌ: تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ - وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفَرِ - وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.
فروع:
الأول: يُسن لمن جمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً أن يؤذن للأولى فقط ويُقيم لكل واحدة؛ ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة وقت الثانية بأذان وإقامتين).
الثاني: قال الإمام النووي: تستحب الجماعة في السفر لكن لا تتأكد كتأكدها في الحضر.
الثالث: تُستحب الرواتب في السفر كالحضر، والأولى لمن جمع بين الظهر والعصر أن يُصلي أولاً سنة الظهر التي قبلها ثم يُصلي الظهر، ثم يُصلي العصر، ثم يُصلي سنة الظهر التي بعدها، ثم سنن العصر، وفي جمع المغربين يُصلي الفرضين، ثم سنة المغرب البعدية، ثم سنة العشاء التي قبلها ثم سنة العشاء التي بعدها.
ويجوز إذا جمع بين المغربين تقديماً أن يُصلي الوتر والتراويح كما يحرم التنفل المطلق بعد فعل العصر تقديماً في وقت الظهر، والله أعلم.
ومن أدلة الجمع تقديماً وتأخيراً -ما أورده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الأحاديث في كتابه المُسمى (بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، وعبارته مه شرح الأهدل عليه، قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا ارتحَل قبْلَ أنْ تزيغَ الشَّمسُ أخَّر الظُّهرَ إلى وقتِ العصرِ ثمَّ نزَل فجمَع بَيْنَهما، وإذا زاغَتْ قبْلَ أنْ يرتحِلَ صلّى الظهر ثمَّ ركب) متفقٌ عليه.
قال الشارح الأهدل في "إفهام الأفهام": في الحديث دلالة على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيراً، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم يُخصص أحاديث التوقيت كما قاله غير واحدٍ من أئمة الشافعية وغيرهم.
وقد اختلف العلماء في الجمع:
فذهب ابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم إلى جواز الجمع تقديماً وتأخيراً عملاً بهذا الحديث، وبما يأتي في التقديم، وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير فقط عملاً بهذا الحديث، وهو مرويٌّ عن مالك وأحمد في إحدى روايتيهما.
مذهب المانعين، وأن الجمع صوري:
وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع لا تقديماً ولا تأخيراً، لا للمسافر ولا لغيره من أهل الأعذار إلا للنسك بعرفة كما سبق، وهو أنه إذا أخَّر الظهر إلى آخر وقتها، وقدَّم العصر في أول وقتها ومثله العشاء.
الرد على هذا المذهب:
ورُدَّ عليهم بأنه وإن تمسّى لهم هذا الجمع فجمع التأخير لا يتم لهم في جمع التقديم، الذي أفاده قوله (ابن حجر في الفتح):
وفي روايةٍ للحاكم في "الأربعين" بإسنادٍ صحيح: (صلى الظهر والعصر -أي إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الفرضين معاً -ثم ركب)؛ فإنها أفادت ثبوت جمع التقديم من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يُتصور في الجمع الصوري.
ومثله الرواية لأبي نُعيم في "مستخرج مسلم" أي في مستخرجه على صحيح مسلم: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفرٍ؛ فزالت الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً وارتحل).
فقد أفادت رواية الحاكم وأبي نُعيم ثبوت جمع التقديم أيضاً، وهما روايتان صحيحتان كما قاله المصنف -رحمه الله تعالى -ويؤيد ذلك قوله: وعن معاذٍ،قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يُصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) رواه مسلم.
إن أن اللفظ محتملٌ لجمع التأخير لا غير، أو له ولجمع التقديم.
ولكن قد رواه الترمذي بلفظ: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر؛ فيصليهما جميعاً، وإن ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّل العصر إلى الظهر وصلّى الظهر والعصر جميعاً)؛ فهو كالتفصيل لرواية مسلم، وقد مرّ ما في صحيح مسلم من حديث أنس، برواياته وغيرها.
وكلام "شرح النووي" على ذلك في فصل القصر السابق على هذا، والله أعلم.
الجمع للمرض:
وأما الجمع للمرض تقديماً وتأخيراً؛ فقد قال به جماعةٌ كما ذكرهم فيما سبق، وهو أيضاً -قول الشافعي كما نصَّ عليه صاحب الفقه الإمام البارزي، التي نظمها الإمام ابن رسلان الشافعيان، قوله في المنظومة رحمة الله عليه:
والجمع للتقديم والتأخير … بحسب الأرفق للمعذور
في مرضٍ قولٌ جليٌّ وقوي … اختار حمدٌ ويحيى النووي
قال شارحها: قوله (جلي) أي ظاهر، (اختاره حمدٌ) الخطابي، والإمام (يحيى النووي) والماوردي والشاشي وغيرهم انتهى.
وقال الإمام النووي رحمه الله في "الروضة": (فرعٌ) الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالْمَرَضِ وَلَا الْخَوْفِ وَلَا الْوَحْلِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ بِالْمَرَضِ وَالْوَحْلِ. مِمَّنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ.
فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الْأُولَى بِالشَّرَائِطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ.
قُلْتُ (يعني النووي): الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَرَضِ ظَاهِرٌ مُخْتَارٌ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ)
وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ الْكَبِيرِ الشَّاشِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ، وَالْمَطَرِ، وَالْمَرَضِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الشيخ العلامة ابن حجر المكي في "التحفة شرح المنهاج": ولا يجوز الجمع لوحلٍ ومرض، وقال كثيرون يجوز، واختير جوازه بالمرض تقديماً وتأخيراً، ويُراعى الأرفق.
وفيها -أيضاً -:ضبط جمعٌ متأخرون المرض -هنا -بأنه ما يشق معه فعل كل فرضٍ في وقته؛ كمشقة المشي في المطر، بحيث تبتل ثيابه.
وقال آخرون: لا بُد من مشقةٍ ظاهرةٍ زيادةً على ذلك، بيث تبيح الجلوس في الفرض، وهو الأوجه على أنهما متقاربان. انتهى.
وقال القليوبي في "حاشيته على المحلي": قوله (فر مرضٍ) أي خلافاً لما مشى عليه صاحب "الروض" تبعاً "للروضة" في جواز الجمع به تقديماً وتأخيراً. قال الأذرعي: وهو المُفتى به، ونقل أنه نصٌّ للشافعي رضي الله عنه، وبه يُعلم جواز عمل الشخص به لنفسه. وعليه فلا بُدَّ منوجود المرض حالة الإحرام بهما، وعند سلامه من الأولى، وبينهما كما في المطر. انتهى.
وقوله (عمل الشخص به لنفسه) أي خلافاً للعناني من عدم تجويز تقليده؛ لأن ذاك في اختيار ما هو خارجٌ عن المذهب، وأما هذا فهو منصوصٌ للشافعي رضي الله عنه كما ترى، والثول الضعيف في المذهب: يجوز تقليده للعمل به لا للفتوى مع الإطلاق، أي عن بيانه. انتهى.
وقال العلامة محمد بن سليمان الكردي في "حاشيته على شرح بافضل": ولا يجوز الجمع بنحو وحلٍ ومرضٍ على المشهور في المذهب، لكن المختار من حيث الدليل جوازه في المرض عند النووي وغيره، وهو مذهب الإمام أحمد، قال الأذرعي: رأيته في "نهاية الاختصار" للمزني من قول الشافعي رضي الله عنه، وذكر عبارته.
وقال الإسنوي: قد ظفرتُ بنقله عن الشافعي رضي الله عنه، وذكر عبارته. قال الزركشي: فإن ثبت له نصٌّ بالمنع كان في المسألة قولان، وإلا فهذا مذهبه، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر سهلة وحمنة رضي الله عنهما بالجمع لأجل الاستحاضة، وهو نوعٌ من المرض. انتهى.
ومن الشافعية -وغيرهم -من ذهب إلى جواز الجمع تقديماً مطلقاً لغير سفرٍ ولا مرضٍ ولا غيرهما من الأعذار.
وقال العلامة صالح بن الصديق النمازي من الشافعية رحمه الله تعالى هذه الأبيات المتضمنة لذلك؛ حيث قال:
جمع الصلاتين تقديماً بلا مرضٍ … وغير عُذرٍ من الأعذار مذكورُ
عن ابن سيرين ركن التابعين، وعن … ربيعة الرأي والقفالُ مأثورُ
عن أشهبٍ مثلُ ما قالا، وقال به … سليلُ منذر، والقفال مشكورُ
أعني الكبير الذي قد فاق حيثُ رأى … ترجيحه ثم حمد ٌوهو مشهورُ
فيما حكى عن جماعاتٍ مُقيّدةٍ … لغير ذي عادةٍ والقيدُ مبرورُ
انتهت الأبيات المذكورة
يعني أن القائلين بجواز الجمع: محمد بن سيرين، وربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، والقفال الصغير، والقفال الكبير، وابن المنذر -كلهم من الشافعية -، وأشهب من المالكية، والإمام أحمد بن حنبل.
وقال أيضاً جماعاتٌ بجوازه ما لم يُتخذ عادةً، وهم غير محصورين لكثرتهم. انتهى. هذا في جمع التقديم. وأما جواز جمع التأخير لغير عُذرٍ فقد قال به جمعٌ غفيرٌ، وعدد كثيرٌ من الشافعية وغيرهم، والله سبحانه أعلم.