أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 5 مارس 2021

تشنيف السمع بأخبار القصر والجمع -تأليف: العلامة يوسف بن محمد البطاح الأهدل (ت 1246 هـ)

تشنيف السمع بأخبار القصر والجمع

تأليف: العلامة يوسف بن محمد البطاح الأهدل (ت 1246 هـ)

 

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ تُعد مسألتي القصر والجمع من المسائل المهمة التي ينبغي الاعتناء بها، والحرص على تعلُّمها، والقصر هو الاقتصار على ركعتين من الرباعية في حال السفر، والجمع هو ضمُّ الصلاتين بعضهما إلى بعض عند الجمهور، خلافاً للحنفيَّة الذين يقولون بالجمع الصُّوري.

 والقصر جائزٌ عند الجمهور، وعند الحنفية واجب، وأما الجمع فجائزٌ عند جمهور الفقهاء في السفر الطويل الذي هو مرحلتان (48 ميلاً هاشمية =80 كم)، وأما السفر القصير فبينهم خلافٌ، وفيهما قولان للشافعي بالجواز وعدمه. ومذهبه الجديد المنع من الجمع في السفر القصير. ومسائلهما منثورةٌ في كتب الفقه والحديث عموماً.

وقد اعتنى العلماء بالتصنيف فيهما، وأفردوا لهما الرسائل المستقلة، التي تكشف عن دقيق مسائلهما، ومن هذه الرسائل المباركة رسالة: (تشنيف السّمع بأخبار القصر والجمع) للعلامة اليماني: يوسف بن محمد البطّاح الأهدل (ت 1246 هـ)، التي بيَّن فيها أحكام القصر والجمع مما عليه الأئمة الشافعية.

 

  • المصادر التي اعتمد عليها الشيخ الأهدل في رسالته هذه:

ومادة هذا الكتاب أغلبها مستمدة من كتب الإمام النووي رحمه الله، وذلك كشرحه على "مٍُسلم"، و"المنهاج"، و"روضة الطالبين" وأصلها (فتح العزيز للرافعي)، كذلك "الفتح" و"بلوغ المرام" لابن حجر العسقلاني، وشرحه للأهدل، وحاشية الجمل على "ألمنهاج"، وحاشية محمد سليمان الكردي على شرح بافاضل، و"حاشية" قليوبي على المحلي، ونظم الزبد لابن رسلان، وشرحه، ولكن يعرضها بأسلوب مختصر، وفيه بعض التصرفات والحذف.

  • تقريظ العلماء لهذه الرسالة:

ومن العلماء الذين قرظوا هذه الرسالة وأثنوا عليها وعلى صاحبها: الشيخ العلامة عمر بن عبد الكريم الحنفي، والعلامة محمد يس بن عبد الميرغني "مفتي الحنفية"، والعلامة محمد عمر بن أبي بكر الرئيس "مفتي الشافعية بمكة"، والعلامة محمد بن عربي المالكي "مفتي المالكية بمكة"، والعلامة فرّاج بن سابق الأثري الحنبلي، 

  • جنس السفر الذي يجوز فيه القصر:

-ذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة وأحمد والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفرٍ مباح.

-وشرط بعض السلف كونه سفر خوف، وبعضه كونه سفر حجٍّ أو عمرة، أو غزو (وهو قول داود الظاهري وأصحابه إلا ابن حزم)، وبعضهم كونه سفر طاعة (وهي رواية عن الإمام أحمد).

قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون، ولا يجوز في سفر المعصية، وجوّزه أبو حنيفة والثوري (وهو قول ابن حزم، وابن تيمية في "الفتاوى").

  • حدُّ السفر الذي يُقصر فيه:

ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهم والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين (والمرحلة هي المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم، والجمع مراحل) قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلاً بالهاشمي، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع ربعةٌ وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات (حبات شعير) معترضات معتدلات.

وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاثة مراحل.

وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم.

وقال داود وأهل الظاهر يجوز في السفر الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال.

  • القصر في المشاعر لأهل مكة وغيرهم:

واعلم أن القصر مشروعٌ بعرفات ومزدلفة ومنى للحاج في غير أهل مكة وما قرب منها، ولا يجوز لأهل مكة ومن كان دون مسافة القصر. هذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة والأكثرين، وقال مالك: يقصر أهل مكة ومنى وعرفات.

  • علة القصر في تلك المواضع:

فعلة القصر عند أبي حنيفة في تلك المواضع (عرفة والمزدلفة ومنى) النسك، وعند الجمهور علته السفر (وهو اختيار ابن تيمية)، والله تعالى أعلم. (شرح مسلم، للنووي).

وقال النووي في "المنهاج" مع شرح التحفة لابن حجر:  (إنَّمَا تُقْصَرُ) مَكْتُوبَةٌ لَا نَحْوُ مَنْذُورَةٍ (رُبَاعِيَّةٌ) لَا صُبْحٌ وَمَغْرِبٌ إجْمَاعًا في الأمن وعلى الأظهر في الخوف المباح، أي الجائز في ظنّه، كمن أرسل بكتابٍ لم يعلم فيه معصيةٌ كما هو ظاهر، سواء الواجب والمندوب والمباح والمكروه.

وَمِنْهُ -أي السفر المكروه -أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ لَا سِيَّمَا فِي اللَّيْلِ، (وَلَوْ قَضَى فَائِتَةَ السَّفَرِ) الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ (فَالْأَظْهَرُ قَصْرُهُ فِي السَّفَرِ) الَّذِي فَاتَتْهُ فِيهِ أَوْ سَفَرٍ آخَرَ يُبِيحُ الْقَصْرَ، وَإِنْ تَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمَا إقَامَةٌ طَوِيلَةٌ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَصْرِ فِي قَضَائِهَا كَأَدَائِهَا دون الحضر ونحوه، لفقد القصر حال فعلهما.

(وَمَنْ سَافَرَ مِنْ بَلْدَةٍ فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُوَرِهَا) الْمُخْتَصِّ بِهَا، وَإِنْ تَعَدَّدَ؛ فإن كان وراءه عمارة اشترط مجاوزتها في الأصح.

(قلتُ -النووي -الأصحُّ) الذي عليه الجمهور (أنها لا تُشترط)، والله أعلم.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) لَهَا (سُورٌ فَأَوَّلُ) سفره (مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ)، وَإِنْ تَخَلَّلَهُ خَرَابٌ لَيْسَ بِهِ أُصُولُ أَبْنِيَةٍ أَوْ نَهْرٌ، وَإِنْ كَبُرَ أَوْ مَيْدَانٌ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ وَمِنْهُ الْمَقَابِرُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ وَمَطْرَحُ الرَّمَادِ وَمَلْعَبُ الصِّبْيَانِ (لَا الْخَرَابُ وَ) لَا (الْبَسَاتِينُ)، وَالْمَزَارِعُ كَمَا فُهِمَتْ بِالْأُولَى، وَإِنْ حُوِّطَتْ وَاتَّصَلَتْ بِالْبَلَدِ لِأَنَّهَا لَمْ تُتَّخَذْ لِلسُّكْنَى.

(وَالْقَرْيَةُ كَبَلْدَةٍ وَأَوَّلُ سَفَرِ سَاكِنِ الْخِيَامِ مُجَاوَزَةُ الْحِلَّةِ) فقط -وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ -بُيُوتٌ مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادِ وَاحِدٍ وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

وَيُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ مَرَافِقِهَا؛ كَمَطْرَحِ رَمَادٍ وَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ وَنَادٍ وَمَعَاطِنِ إبِلٍ وَكَذَا مَاءٌ وَحَطَبُ اُخْتُصَّا بِهَا.

(وَإِذَا رَجَعَ) الْمُسَافِرُ (انْتَهَى سَفَرُهُ بِبُلُوغِهِ مَا شُرِطَ مُجَاوَزَتُهُ ابْتِدَاءً) مِنْ سُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ.

(وَلَوْ نَوَى) الْمُسَافِرُ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ (إقَامَةَ) مُدَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَوْ (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهَا (بِمَوْضِعٍ) عَيَّنَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ (انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ)، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلْإِقَامَةِ.

أَوْ نَوَاهَا -يعني الإقامة -عِنْدَ وُصُولِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَهُوَ مَاكِثٌ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ. أَوْ مَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ -يعني نوى الإقامة دون الأربعة أيام -لَمْ يُؤَثِّرْ (فيقصر). أَوْ أَقَامَهَا بِلَا نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا. أَوْ نَوَى إقَامَةً وَهُوَ سَائِرٌ لَمْ يُؤَثِّرْ 

 (تَنْبِيهٌ) يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِنَحْوِ يَوْمٍ أو يومين نَاوِينَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ مِنًى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ. فَهَلْ يَنْقَطِعُ سَفَرُهُمْ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِمْ لِمَكَّةَ نَظَرًا لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِهَا وَلَوْ فِي الْأَثْنَاءِ ؟ أَوْ يَسْتَمِرُّ سَفَرُهُمْ إلَى عَوْدِهِمْ إلَيْهَا مِنْ مِنًى؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَقْصِدِهِمْ فَلَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّتُهُمْ الْإِقَامَةَ الْقَصِيرَةَ قَبْلَهُ وَلَا الطَّوِيلَةَ إلَّا عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ مِنًى وَوُصُولِهِمْ مَكَّةَ؟

 لِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ وَكَلَامُهُمْ مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ.

(وَلَا يَحْسِبُ مِنْهَا يَوْمًا) أَوْ لَيْلَتَا (دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ عَلَى الصَّحِيحِ) ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا الْحَطَّ، وَالتَّرْحَالَ وَهُمَا مِنْ أَشْغَالِ السَّفَرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرَخُّصِ.

(وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ) مَثَلًا (بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ) يَعْنِي قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ وَلَوْ عَلِمَ بَقَاءَهَا إلَى آخِرِهِ وَمِنْ ذَلِكَ انْتِظَارُ الرِّيحِ لِمُسَافِرِي الْبَحْرِ وَخُرُوجُ الرُّفْقَةِ لِمَنْ يُرِدْ السَّفَرَ مَعَهُمْ إنْ خَرَجُوا وَإِلَّا فَوَحْدَهُ (قَصَرَ) يَعْنِي تَرَخَّصَ إذْ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ لَهُ سَائِرَ رُخَصِ السَّفَرِ وَلَا يُسْتَثْنَى سُقُوطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى غَلَبَةِ الْمَاءِ وَفَقْدِهِ وَلَا صَلَاةُ النَّافِلَةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِالسَّيْرِ وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا (ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا) كاملةً غير يومي الدخول ولالخروج، (وقيل: أربعة لا زائد عليها)، (وفي قولٍ: أبداً). حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ دَامَتْ الْحَاجَةُ لَدَامَ الْقَصْرُ

  • فصلٌ في شروط القصر وتوابعه:

شروط القصر، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ شرطاً:

(أَحَدُهَا سَفَرٌ طَوِيلٌ) وَطَوِيلُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا) ذَهَابًا فَقَطْ تَحْدِيدًا -وَلَوْ ظَنًّا -(هَاشِمِيَّةٌ) نِسْبَةٌ لِلْعَبَّاسِيَّيْنِ لَا لِهَاشِمٍ جَدِّهِمْ كَمَا وَقَعَ لِلرَّافِعِيِّ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا أُمَوِيَّةً إذْ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْ هَذِهِ سِتَّةٌ مِنْ تِلْكَ.

وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ وَالْخُطْوَةُ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ فَهُوَ سِتَّةُ آلَافِ ذِرَاعٍ.

 (قُلْت -النووي -وَهُو مَرْحَلَتَانِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ) وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ عَلَى الْعَادَةِ وَهُمَا يَوْمَانِ أَوْ لَيْلَتَانِ أَوْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مُعْتَدِلَتانِ أَوْ يَوْمٌ بِلَيْلَتِهِ أَوْ عَكْسُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدِلَا كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ -رحمة الله عليه. وَمَنْ تَبِعَهُ.

(وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ) (فَلَوْ قَطَعَ الْأَمْيَالَ فِيهِ فِي سَاعَةٍ) لِشِدَّةِ الْهَوَاءِ (قَصَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) كَمَا لَوْ قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي بَعْضِ يَوْمٍ عَلَى مَرْكُوبِ جَوَادٍ.

(وَ) ثَانِيهَا عِلْمُ مَقْصِدِهِ فَحِينَئِذٍ (يُشْتَرَطُ قَصْدُ مَوْضِعٍ) مَعْلُومٍ وَلَوْ غَيْرَ (مُعَيَّنٍ) وَقَدْ يُرَادُ بِالْمُعَيَّنِ الْمَعْلُومُ فَلَا اعْتِرَاضَ (أَوْ لَا) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ طَوِيلٌ فَيُقْصَرَ فِيهِ؛ (فَلَا قَصْرَ لِلْهَائِمِ) وَهُوَ مَنْ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا أَمْ لَا (وَإِنْ طَالَ تَرَدُّدُهُ) وَبَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُ عَابِثٌ فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّرَخُّصُ، ولا طالب آبقٍ عقد سفره بنية أنه منى وجده جرع ولا يعلم موضعه.

(وَ) ثَالِثُهَا جَوَازُ سَفَرِهِ؛ فَحِينَئِذٍ (لَا يَتَرَخَّصُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ كَآبِقٍ (وهو الهارب) (وَنَاشِزَةٍ -أي العاصية لزوجها)

(وَ) رَابِعُهَا عَدَمُ اقْتِدَائِهِ بِمُتِمٍّ وَ (لَوْ) احْتِمَالًا؛ فَمَتَى (اقْتَدَى بِمُتِمٍّ) وَلَوْ مُسَافِرًا (لَحْظَةً لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ)؛ كَمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(وَ) خَامِسُهَا نِيَّةُ الْقَصْرِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ كَصَلَاةِ السَّفَرِ أَوْ الظُّهْرِ مَثَلًا رَكْعَتَيْنِ،  وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، وإنما اشترطوا (لِلْقَصْرِ نِيَّةٌ)؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَاحْتَاجَ لِصَارِفٍ عَنْهُ بِخِلَافِ الْإِتْمَامِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُ نِيَّتِهِ (فِي الْإِحْرَامِ) كَسَائِرِ النِّيَّاتِ

(وَ) سَادِسُهَا (التَّحَرُّزُ عَنْ مُنَافِيهَا) أَيْ نِيَّةِ الْقَصْرِ (دَوَامًا) أَيْ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ بِأَنْ لَا يَتَرَدَّدَ فِي الْإِتْمَامِ فَضْلًا عَنْ الجزم به.

وَسَابِعُهَا دَوَامُ السَّفَرِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ كَمَا قَالَ (وَيُشْتَرَطُ) لِلْقَصْرِ أَيْضًا (كَوْنُهُ) أَيْ النَّاوِي لَهُ (مُسَافِرًا فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ) الْمُنَافِيَةَ لِلتَّرَخُّصِ (فِيهَا) أَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهَا (أَوْ بَلَغَتْ سَفِينَتُهُ) فِيهَا (دَارَ إقَامَتِهِ) أَوْ شَكَّ هَلْ بَلَغَتْهَا (أَتَمَّ) لِزَوَالِ تَحَقُّقِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ.

وَثَامِنُهَا كَوْنُهُ عَالِمًا بِجَوَازِ الْقَصْرِ، فَإِنْ قَصَرَ جَاهِلًا بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِتَلَاعُبِهِ.

  • أيهما أفضل: القصر أم الإتمام؟

(وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا بَلَغَ) السَّفَرُ الْمُبِيحُ لِلْقَصْرِ (ثَلَاثَ مَرَاحِلَ) وَإِلَّا فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ خُرُوجًا مِنْ إيجَابِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَصْرَ فِي الْأَوَّلِ، وَالْإِتْمَامَ فِي الثَّانِي، نَعَمْ الْأَفْضَلُ لِمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةَ الْقَصْرِ أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ الْقَصْرُ مُطْلَقًا، بل يكره له الإتمام.

  • الجمع بين الصلوات:

 ويجوز الجمع في المطر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في الحضر عند جمهور الفقهاء، وخصَّه مالكٌ بالمغرب والعشاء.

 وقال أبو حنيفة: لا يجوز الجمع بين لاصلاتين بسبب السفر ولا المطر ولا المرض ولا غيرها إلا بين الظهر والعصر بعرفات، بسبب النُّسك، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة بسبب النُّسك أيضاً، وما ورد من الأحاديث في الجمع، فهي جمعٌ صوري لا حقيقي. قال النوويُّ في "شرح مسلم": والأحاديث الصحيحة في الصحيحين، وسنن أبي داود، وغيرها حجةٌ عليه.

وأما الجمع للمريض؛ فالمشهور من مذهب الشافعي والأكثرين أنه لا يجوز له، وجوّزه أحمد، وطائفةٌ من أصحاب الشافعي (منهم: أبو سليمان الخطابي، استحسنه الروياني، وهو اختيار النووي)، وهو قويٌّ في الدليل: كما ورد عن ابن عباس.

  • الجمع للحاجة:

قال النووي في "شرح مسلم": وذهب جماعةٌ من الأئمة إلى جواز الجمع في الحاجة لمن لا يتخذه عبادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي، وعن جماعةٍ من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويريد ظاهر الحديث، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ فلم يعلله بمرضٍ ولا غيره، والله أعلم.

وقال النووي -أيضاً في "المنهاج" مع شرحه للشيخ العلامة "ابن حجر المكي" المُسمى بـ"تحفة المنهاج" ما لفظهما باختصار: قالا: (فَصْلٌ) فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، (يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ تَقْدِيمًا) فِي وَقْتِ الْأُولَى، وتأخيراً في وقت الثانية، وبين المغرب والعشاء كذلك، أي تقديماً وتأخيراً في السفر الطويل المجوز للقصر؛ للاتباع الثابت في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي جَمْعَيْ التَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيمِ، (فَإِنْ كَانَ سَائِرًا وَقْتَ الْأُولَى فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ وَإِلَّا فَعَكْسُهُ) لِلِاتِّبَاعِ، وَلِأَنَّهُ الْأَرْفَقُ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا أَوْ نَازِلًا وَقْتَهُمَا فَالتَّقْدِيمُ أَوْلَى فِيمَا يَظْهَرُ، لأن فيه المسارعة لبراءة الذمة، أقول خلافاً للرملي، فإن التأخير عنده أفضل، ومثله الخطيب، وبحث ابن حجر المذكور في "الإمداد" التخيير، وعلّل الرملي ومن تبعه بأن وقت الثانية وقتٌ للأمولى ولا عكس.

  • وشروط جمع التقديم ثلاثة، بل أربعة:

أَحَدُهَا (الْبُدَاءَةُ بِالْأُولَى فَلَوْ صَلَّاهُمَا فَبَانَ فَسَادُهَا فَسَدَتْ الثَّانِيَةُ) أَيْ لَمْ تَقَعْ عَنْ فَرْضِهِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، أَمَّا وُقُوعُهَا لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا فَلَا رَيْبَ فِيهِ لِعُذْرِهِ.

(وَ) ثَانِيهَا (نِيَّةُ الْجَمْعِ -وَمَحَلُّهَا) أي لْأَفْضَلَ (أَوَّلُ الْأُولَى) كَسَائِرِ الْمَنْوِيَّاتِ فَلَا يَكْفِي تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ اتِّفَاقًا (وَيَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا) ومع تحللها في الأظهر.

(وَ) ثَالِثُهَا (الْمُوَالَاةُ، بِأَنْ لَا يَطُولَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ؛ فَإِنْ طَالَ) الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا (وَلَوْ بِعُذْرٍ) كَجُنُونٍ (وَجَبَ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إلَى وَقْتِهَا وَلَا يَضُرُّ فَصْلٌ يَسِيرٌ ولو بنحو جنون)، وكذا ردةٍ والعياذ بالله تعالى.

(وَيُعْرَفُ طُولُهُ -أي الفصل) وَقِصَرُهُ (بِالْعُرْفِ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لَهُ ضَابِطٌ.

وَمِنْ الطَّوِيلِ قَدْرُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ بِأَخَفِّ مُمْكِنٍ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ.

وَرَابِعُهَا دَوَامُ سَفَرِهِ إلَى عَقْدِ الثَّانِيَةِ؛ فلو صار بين الصلاتين مُقيماً بنحو نية إقامة أو شك فيها بطل الجمع، وإذا صار مُقسماً في الثانية أو بعدها لا يبطل الجمع في الأصح. انتهى.

وزاد الكردي كما في "الحواشي المدنية": ومن شرط الجمع (العلم بجوازه)، ومن شروط جمع التقديم: (تيقن صحة الأولى)، (وبقاء وقت الأولى إلى تمام الثانية)؛ فلو أخرج في أثناء الثانية بطلت، لأنه تبيّن أنه يُحرم بها قبل دخول وقتها.

ثم قال: "خاتمة": ويجوز جمع الجمعة مع العصر تقديماً لا تأخيراً، ويجوز للمتحيّرة (وهي من نسيت عادتها قدراً ووقتاً لغفلةٍ، وسميت متحيرة لتحيرها في أمرها، أو لأنها حيرت الفقيه) أن تجمع بين الصلاتين تأخيراً لا تقديماً.

قال الزركشيُّ: ومثلها فاقد الطهورين، وكل من لم تسقط صلاته.

فرع: قال في "الروضة" و"أصلها" (فتح العزيز للرافعي): الرخص المتعلقة بالسفر الطويل أربعٌ: القصر والفطر ومسح الخف ثلاثة أيامٍ بلياليها، والجمع على الأظهر.

والذي يجوز فِي الْقَصْيرِ -أَيْضًا -أَرْبَعٌ: تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ - وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفَرِ - وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.

فروع:

الأول: يُسن لمن جمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً أن يؤذن للأولى فقط ويُقيم لكل واحدة؛ ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة وقت الثانية بأذان وإقامتين).

الثاني: قال الإمام النووي: تستحب الجماعة في السفر لكن لا تتأكد كتأكدها في الحضر.

الثالث: تُستحب الرواتب في السفر كالحضر، والأولى لمن جمع بين الظهر والعصر أن يُصلي أولاً سنة الظهر التي قبلها ثم يُصلي الظهر، ثم يُصلي العصر، ثم يُصلي سنة الظهر التي بعدها، ثم سنن العصر، وفي جمع المغربين يُصلي الفرضين، ثم سنة المغرب البعدية، ثم سنة العشاء التي قبلها ثم سنة العشاء التي بعدها.

ويجوز إذا جمع بين المغربين تقديماً أن يُصلي الوتر والتراويح كما يحرم التنفل المطلق بعد فعل العصر تقديماً في وقت الظهر، والله أعلم.

ومن أدلة الجمع تقديماً وتأخيراً -ما أورده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الأحاديث في كتابه المُسمى (بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، وعبارته مه شرح الأهدل عليه، قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا ارتحَل قبْلَ أنْ تزيغَ الشَّمسُ أخَّر الظُّهرَ إلى وقتِ العصرِ ثمَّ نزَل فجمَع بَيْنَهما، وإذا زاغَتْ قبْلَ أنْ يرتحِلَ صلّى الظهر ثمَّ ركب) متفقٌ عليه.

قال الشارح الأهدل في "إفهام الأفهام": في الحديث دلالة على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيراً، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم يُخصص أحاديث التوقيت كما قاله غير واحدٍ من أئمة الشافعية وغيرهم.

  • وقد اختلف العلماء في الجمع:

فذهب ابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم إلى جواز الجمع تقديماً وتأخيراً عملاً بهذا الحديث، وبما يأتي في التقديم، وعن الأوزاعي أنه يجوز للمسافر جمع التأخير فقط عملاً بهذا الحديث، وهو مرويٌّ عن مالك وأحمد في إحدى روايتيهما.

  • مذهب المانعين، وأن الجمع صوري:

وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع لا تقديماً ولا تأخيراً، لا للمسافر ولا لغيره من أهل الأعذار إلا للنسك بعرفة كما سبق، وهو أنه إذا أخَّر الظهر إلى آخر وقتها، وقدَّم العصر في أول وقتها ومثله العشاء.

  • الرد على هذا المذهب:

ورُدَّ عليهم بأنه وإن تمسّى لهم هذا الجمع فجمع التأخير لا يتم لهم في جمع التقديم، الذي أفاده قوله (ابن حجر في الفتح):

وفي روايةٍ للحاكم في "الأربعين" بإسنادٍ صحيح: (صلى الظهر والعصر -أي إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الفرضين معاً -ثم ركب)؛ فإنها أفادت ثبوت جمع التقديم من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يُتصور في الجمع الصوري.

ومثله الرواية لأبي نُعيم في "مستخرج مسلم" أي في مستخرجه على صحيح مسلم: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفرٍ؛ فزالت الشمس، صلى الظهر والعصر جميعاً وارتحل).

فقد أفادت رواية الحاكم وأبي نُعيم ثبوت جمع التقديم أيضاً، وهما روايتان صحيحتان كما قاله المصنف -رحمه الله تعالى -ويؤيد ذلك قوله: وعن معاذٍ،قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يُصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) رواه مسلم.

إن أن اللفظ محتملٌ لجمع التأخير لا غير، أو له ولجمع التقديم.

ولكن قد رواه الترمذي بلفظ: (كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر؛ فيصليهما جميعاً، وإن ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّل العصر إلى الظهر وصلّى الظهر والعصر جميعاً)؛ فهو كالتفصيل لرواية مسلم، وقد مرّ ما في صحيح مسلم من حديث أنس، برواياته وغيرها.

وكلام "شرح النووي" على ذلك في فصل القصر السابق على هذا، والله أعلم.

  • الجمع للمرض:

وأما الجمع للمرض تقديماً وتأخيراً؛ فقد قال به جماعةٌ كما ذكرهم فيما سبق، وهو أيضاً -قول الشافعي كما نصَّ عليه صاحب الفقه الإمام البارزي، التي نظمها الإمام ابن رسلان الشافعيان، قوله في المنظومة رحمة الله عليه:

والجمع للتقديم والتأخير … بحسب الأرفق للمعذور

في مرضٍ قولٌ جليٌّ وقوي … اختار حمدٌ ويحيى النووي

قال شارحها: قوله (جلي) أي ظاهر، (اختاره حمدٌ) الخطابي، والإمام (يحيى النووي) والماوردي والشاشي وغيرهم انتهى.

وقال الإمام النووي رحمه الله في "الروضة": (فرعٌ) الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالْمَرَضِ وَلَا الْخَوْفِ وَلَا الْوَحْلِ. 

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ بِالْمَرَضِ وَالْوَحْلِ. مِمَّنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ. 

فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الْأُولَى بِالشَّرَائِطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ.

قُلْتُ (يعني النووي): الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَرَضِ ظَاهِرٌ مُخْتَارٌ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ) 

وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ الْكَبِيرِ الشَّاشِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ، وَالْمَطَرِ، وَالْمَرَضِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وقال الشيخ العلامة ابن حجر المكي في "التحفة شرح المنهاج": ولا يجوز الجمع لوحلٍ ومرض، وقال كثيرون يجوز، واختير جوازه بالمرض تقديماً وتأخيراً، ويُراعى الأرفق.

وفيها -أيضاً -:ضبط جمعٌ متأخرون المرض -هنا -بأنه ما يشق معه فعل كل فرضٍ في وقته؛ كمشقة المشي في المطر، بحيث تبتل ثيابه.

وقال آخرون: لا بُد من مشقةٍ ظاهرةٍ زيادةً على ذلك، بيث تبيح الجلوس في الفرض، وهو الأوجه على أنهما متقاربان. انتهى.

وقال القليوبي في "حاشيته على المحلي": قوله (فر مرضٍ) أي خلافاً لما مشى عليه صاحب "الروض" تبعاً "للروضة" في جواز الجمع به تقديماً وتأخيراً. قال الأذرعي: وهو المُفتى به، ونقل أنه نصٌّ للشافعي رضي الله عنه، وبه يُعلم جواز عمل الشخص به لنفسه. وعليه فلا بُدَّ منوجود المرض حالة الإحرام بهما، وعند سلامه من الأولى، وبينهما كما في المطر. انتهى.

وقوله (عمل الشخص به لنفسه) أي خلافاً للعناني من عدم تجويز تقليده؛ لأن ذاك في اختيار ما هو خارجٌ عن المذهب، وأما هذا فهو منصوصٌ للشافعي رضي الله عنه كما ترى، والثول الضعيف في المذهب: يجوز تقليده للعمل به لا للفتوى مع الإطلاق، أي عن بيانه. انتهى.

وقال العلامة محمد بن سليمان الكردي في "حاشيته على شرح بافضل": ولا يجوز الجمع بنحو وحلٍ ومرضٍ على المشهور في المذهب، لكن المختار من حيث الدليل جوازه في المرض عند النووي وغيره، وهو مذهب الإمام أحمد، قال الأذرعي: رأيته في "نهاية الاختصار" للمزني من قول الشافعي رضي الله عنه، وذكر عبارته.

وقال الإسنوي: قد ظفرتُ بنقله عن الشافعي رضي الله عنه، وذكر عبارته. قال الزركشي: فإن ثبت له نصٌّ بالمنع كان في المسألة قولان، وإلا فهذا مذهبه، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم أمر سهلة وحمنة رضي الله عنهما بالجمع لأجل الاستحاضة، وهو نوعٌ من المرض. انتهى.

ومن الشافعية -وغيرهم -من ذهب إلى جواز الجمع تقديماً مطلقاً لغير سفرٍ ولا مرضٍ ولا غيرهما من الأعذار.

وقال العلامة صالح بن الصديق النمازي من الشافعية رحمه الله تعالى هذه الأبيات المتضمنة لذلك؛ حيث قال:

جمع الصلاتين تقديماً بلا مرضٍ … وغير عُذرٍ من الأعذار مذكورُ

عن ابن سيرين ركن التابعين، وعن … ربيعة الرأي والقفالُ مأثورُ

عن أشهبٍ مثلُ ما قالا، وقال به … سليلُ منذر، والقفال مشكورُ

أعني الكبير الذي قد فاق حيثُ رأى … ترجيحه ثم حمد ٌوهو مشهورُ

فيما حكى عن جماعاتٍ مُقيّدةٍ … لغير ذي عادةٍ والقيدُ مبرورُ

انتهت الأبيات المذكورة

يعني أن القائلين بجواز الجمع: محمد بن سيرين، وربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، والقفال الصغير، والقفال الكبير، وابن المنذر -كلهم من الشافعية -، وأشهب من المالكية، والإمام أحمد بن حنبل.

وقال أيضاً جماعاتٌ بجوازه ما لم يُتخذ عادةً، وهم غير محصورين لكثرتهم. انتهى. هذا في جمع التقديم. وأما جواز جمع التأخير لغير عُذرٍ فقد قال به جمعٌ غفيرٌ، وعدد كثيرٌ من الشافعية وغيرهم، والله سبحانه أعلم.




تشنيف السّمع بإبطال أدلة الجمع 

(جمع الصلاتين في الحضر بدون عذر)

تأليف الإمام: محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ)


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ ينبغي لكل مُسلمٍ ألا يتساهل في أمر دينه، لا سيما في أعظم شعيرة فيه وهي الصلاة، فلا يُقدم على جمع صلاتين في الحضر إلا لحاجة شديدة يكون معه رفع الحرج، وزوال المشقة أو تخفيفها، وأما اعتياد التساهل، واختلاق الأعذار وتتبع الرُّخص، والجمع لغير حاجة فهذا هو الذي نهى الإسلام عنه.

وهذا الجزء في بيان مذهب الإمام الشوكاني في مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر؛ فذهب رحمه الله إلى أن الجمع بين الصلاتين في السفر جائزٌ عند جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، وهو مذهب الصحابة والتابعين وأهل البيت، والزيدية.

وأما في الحضر؛ فذهب الشوكاني رحمه الله -إلى: أنه لا يُجمع بين الصلاتين في الحضر مُطلقاً إلا لعذرٍ شديد فيجمع جمعاً صورياً أيضاً، خلافاً لجمهور العلماء الذين يُبيحون الجمع بين الصلاتين لعذر المطر والخوف والمرض وللحاجة الشديدة: جمعاً حقيقياً تقديماً أو تأخيراً، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور. بينما حكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب، قال وجوزه بن سيرين لحاجةٍ أو ما لم يتخذه عادة.

ويرى الشوكاني أن الجمع الوارد في حديث ابن عباس: (جمع بين الصلاتين في الحضر من غير خوف ولا مطر) كان جمعاً صورياً. 

وقد صرَّح بذلك في قوله: والعجب من رجلٍ يجمع بين الصلاتين في أكثر الأوقات بلا عُذرٍ موجبٍ، ويستدلُّ بحديث ابن عباس، الذي لا يشُكُّ من أمعن في أنه جمعٌ صوري، وهو في الحقيقة توقيت، مع أن ذلك لم يقع من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلا في يومٍ واحد، فما نسبة هذا اليوم من سنيّ النبوة التي ما صلّى صلاةً فيها لغير وقتها، اللهم إلا عند اشتغاله يجهاد أعداء الله.

واستدلَّ لذلك بحديث حمنة بنت جحش -وكانت مستحاضة، فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن قويت على أن تؤخرى الظهر وتعجلى العصر، ثم تغتسلين حين تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي).

واستدلَّ -أيضاً -بما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن ابن مسعود، قال: (ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً إلا لِميقاتِها إلا أنه جمعَ بينَ المغربِ والعشاءِ بِجمعٍ وصلّى الصُّبحَ يومئذٍ لغيرِ ميقاتِها)؛ فنفى ابن مسعود الجمع، وحضره وهو بالمزدلفة، مع أنه أحد رواة حديث الجمع بالمدينة، وهو مُشعرٌ إشعاراً تاماً بأن ذلك الجمع الذي وقع بالمدينة هو جمعٌ صوري، ولو حُمل على الحقيقي لتعارضت روايتاه.

يقول: والجمع بين الروايات ما أمكن المصير إليه واجب، ويؤيد ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر، قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء فيجمع بينهما)، وهذا هو الجمع الصُّوري، وابن عمر كما عرفت أحد رواة الجمع بالمدينة، وقد فسره بهذا.

قال الشوكاني: والتخفيف في تأخير أحد الصلاتين إلى آخر وقتها، وجعل الأولى في أول وقتها بالنسبة إلى جعل كل واحدةٍ منهما في أول وقتها، كما كان ديدنه صلى الله عليه وسلم وهِجِّيراه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما صلَّى صلاةً لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله تعالى)، ولا يشك مُنصِفٌ أن فعل الصلاتين دَفعةً، والخروج إليهما مرة أخفُّ من خلافه وأيسر.

****

الجواب على استدلال الشوكاني بحديث ابن مسعود

وقد أجاب أحمد الغماري في كتابه "إزالة الخطر" على الشوكاني (ص 104 - 109)؛ فأجاب عن استدلال الشوكاني بحديث ابن مسعود بجوابٍ جيد، يقول فيه: والجواب عليه من وجوه:

الأول: أن المثبت مُقدمٌ على النافي كما هو مُقرر في علم الأصول، فخبر ابن مسعود النافي لا يُلتفت إليه، ولا يُعتبر حتى يحتاج إلى الجمع بينه وبين خبر المثبت بمثل هذا الجمع الغريب… ولا يلزم من عدم علم النافي نفي الوقوع بالفعل، وقد ثبت بالفعل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى صلوات لغير وقتها في عرفة وفي أسفاره.

ثانياً: إذا نفى الراوي ما رواه وأنكره، وكان الروي عدلاً ثقةً دلّ ذلك على حصول النسيان منه، فقد يكون ابن مسعود رضي الله عنه نسي حديثه الأول أن النبيَّ جمع؛ لأن اجتماع روايتين متضادين محال، وكذلك لا يمكن ارتفاعهما، فثبت أنه نسي.

ثالثاً: أن النسيان وقع من ابن مسعود في مواطن عدة، فقد أنكر رفع اليدين في المواضع الثلاثة من الصلاة، وليس في ذلك نفيُ أن الصحابة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة، ونسي كذلك كيفية قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي كيفية جمع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعرفة.ونسي وضع المرفق والساعد على الأرض، ونسي كيف كان النبيُّ يقرأ: (وما خلق الذكر والانثى).

رابعاً: ما حصل من نسيان بن مسعود حصل مع غيره من الصحابة رضوان الله عليهم مثل أنس بن مالك في قضية ترك النبيِّ صلى الله عليه وسلم للبسملة في الفاتحة، وعائشة في نفي رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُصلي الضحى مع إخبارها أنه كان يُصليها، ونسي أبو هريرة تحديثه بـ(لا عدوى)، ونسي عُمر تيمم الجنب وأفتى بأنه لا يُصلي حتى يجد الماء مع شهوده لحادثة تيمم عمّار.

****

الجواب على استدلال الشوكاني بحديث ابن عمر

وأجاب الغماريُّ أيضاً على استدلال الغُماري بحديث ابن عمر: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الظهر ويعجل العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء فيجمع بينهما)، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن قوله (كان يؤخر الظهر ويعجل العصر) ليس صريحاً فيما يُريده الشوكاني من الجمع الصوري، بل هو محتمل للتعجيل أول الوقت، والتعجيل قبله كما هو الواقع هنا، وبذلك يكون الجمع حقيقياً؛ لأنه كان يفعل ذلك في وسط الوقت.

ويدلُّ لذلك ما رواه النسائيُّ عن ابن عمر: أنه كان إذا حانَتْ صلاةُ الظُّهرِ، قال له المُؤذِّنُ: الصَّلاةَ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ! لم يلتفِتْ، حتّى إذا كان بينَ الصَّلاتَيْنِ نزَل فقال: أقِمْ، فإذا سلَّمْتُ فأقِمْ، فصلّى ثمَّ ركِب، حتّى إذا غابَتِ الشَّمسُ، قال له المُؤذِّنُ: الصَّلاةَ، لم يلتفِتْ، ثمَّ سار، حتّى إذا اشتبَكَتِ النُّجومُ نزَل، ثمَّ قال للمُؤذِّنِ: أقِمْ، فإذا سلَّمْتُ فأقِمْ، فصلّى، ثمَّ انصرَف، فالتفَتَ إلينا، فقال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إذا حضَر أحدَكم الأمرُ الَّذي يخافُ فَوْتَه، فلْيُصَلِّ هذه الصَّلاةَ)؛ فقوا ابن عمر (كان يؤخر الظهر ويعجل العصر) مُفسَّرٌ بهذه الروايات.

****

الجواب على استدلال الشوكاني أن لفظة (جمع) تشمل الجمع الصوري 

قال الشوكاني رحمه الله: فإن قلتَ المشترك ليس من المجمل إلا عند من لم يجوز حمله على مَعنَييه أو معانية معاً، والمذهب الصحيح المشهور جواز ذلك بلا قرينة، وهذا معنى عموم المشترك، وهذا مذهب الشافعي، وأبي علي، وقاضي القضاة، والمنصور بالله، والقاضي جعفر، والشيخ الحسن، وهو قول الأكثر، وهو الذي صدَّره ابن الحاجب في "المختصر"، وابن الإمام في "الغاية" واستدلالاً له، وأبطلا حجج المخالفين.

قال: القول بجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه على الصيغة الصالحة للاستعمال في الكل، وصيغة (جمع) الأصلح، لذلك؛ إذ لا عموم لها في أقسامها لما عرفت، فلا بُد من حمل ما أطلقوا في المشترك على ما ذكروه في باب العموم من أن بعض الصيغ لا عموم لها كما الفعل المثبت.

ولقد أورد جماعةٌ المشترك في باب العموم: كالغزالي، والجويني، وابن الحاجب في "المختصر"، واعتذر البعض بأن روايات الجمع المطلق مُقيدة كالروايات المصرحة بالجمع الصوري.

وقد ردَّ ذلك الغماري في "إزالة الخطر" (ص 116)، بقوله: وهذا الكلام مردودٌ من وجوه:

أحدها: أنه دعوى باطلة؛ فإن تلك الروايات لم تُعين شيئاً بل الزيادة المذكورة في حديث ابن عباس من ظن عمرو بن دينار، وجابر بن زيد، كذلك ما جاء في حديث ابن عمر مجملة، وأما حديث ابن مسعود فهو نافٍ ، غير مُبين، فبطل أن يكون شيءٌ من تلك الروايات مُبيّنٌ أو مُعيِّنٌ للمراد.

ثانيهما: أن كلام الأصوليين مرود؛ حيث استندوا إلى اللغة؛ فإن الحقائق الشرعية يُرجع فيها إلى عُرف الشرع لا إلى اللغة، وقد خصص عُرف الشرع الجمع بما يقع في الوقت لا في الفعل كما قاله الخطابي.

ثالثهما: أن كون الفعل المثبت لا يُعم أقسامه هو الذي لم يتكرر، ووقع مرة واحدة للإثبات، وادخال الماهية في الوجود، أما تكرره عل أنواع وأقسام فهو دالٌ بتكرره على الجميع لا بمجرد إثباته، وهذا الجمع تكرر من النبيِّ صلى الله عليه وسلم تارةً تقديماً وأخرى تأخيراً؛ ففعله يعمُّ القسمين، ويجب التأسي به فيهما.

رابعهما: أن الجمع الصوري غير داخلٍ في مُسمى الجمع شرعاً؛ لأنه ليس من الجمع في شيء، بل هو أداءٌ لكل صلاةٍ في وقتها؛ فلم يبق الجمع شاملاً إلا لصورتين، وهما التقديم والتأخير، والمكلف مُخيَّرٌ بحسب الاختيار والحاجة كما خيّره الشرع بين أداء الصلاة في أول وقتها ووسطه وآخره.

***

قال الشوكاني: فإن قُلتَ جاء في حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم: (صنعتُ ذلك لئلا تُحرج أمتي)، ولا شك أن جواز الجمع الصوري قد غُرف من الأحاديث المُعينة للوقت، فحمل هذا الجمع على الصوري مع تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه إنما فعل ذلك لرفع الحرج عن الأمة، اطّراحٌ للفائدة وإلغاءٌ لمضمونه.

وأجاب الشوكاني بأن الأحوال الصادرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شاملةٌ للجمع الصُّوري كما ذكرت، فلا يصحُّ أن يكون رفع الحرج منوباً إليها، لأنها غير قاضية بمنعه؛ وحينئذٍ فرفع الحرج بالنسبة إلى الأفعال ليس إلا كما عرفناك من أنه صلى الله عليه وسلم ما صلّى صلاةً لآخر وقتها مرتين، فربما ظنَّ ظانٌ أن فعل الصلاة في أول وقتها مُتحتّمٌ لملازمته صلى الله عليه وسلم لذلك طول عمره، فكان في جمعه صلى الله عليه وسلم جمعاً صورباً تخفيفٌ وتسهيلٌ على من اقتدى بمجرد الفعل.

 ***

قال الشوكانيُّ: فإن قلتَ: قال الخطابيُّ -كما رواه الحافظ عنه في الفتح - رداً على القائلين بأن الجمع المذكور في حديث ابن عباس هو جمعٌ صوري -بأن الجمعُ عُرفاً لا يقع على من أخَّر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجَّل العصر فصلاها في أول وقتها، لأن هذا قد صلاها في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما.

قلتُ: إن أراد عُرف الشرع واللغة؛ فممنوع، والسند ما عرّفناك سابقاً، وإن أراد عُرفاً مختصاً بطائفةٍ من فرق الكلام أو المانعين من الجمع بسبب؛ فمن التمذهب والاعتقاد الناشئ عنه، فليس بحجة على أحد، وعلى تسليم صحة الإطلاق لغةً، وامتناعه عُرفاً تعدم الحقيقة العرفية، وسبب هذا الوهم التباس العرف الخاص لقومٍ بغيره..

 ***

قال الشوكاني: فإن قُلتَ: قال النووي: تأويل الحديث بالجمع الصُّوري ضعيف، أو باطلٌ لمخالفته الظاهرة مخالفةً لا تُحتمل.

فأجاب: أنه قد عرفناك أن الصُّوري هو المتعين، وأيضاً ربطنا ذلك بأدلة لا يعرف قدرها إلا من أغمض في أقوال الرجال، فجرِّد نظرك إلى الأدلة.

-------------------------------------

الصلاة بالقات

لمحمد بن صالح السواري الحسني

والقات: نباتُ بتناول منه أوراقه الطرية الطازجة بالمضغ وتُبلع عُصارته التي تحتوي على منشطات لها تأثير المنبه للجهاز العصبي، ويسبب القات عدم الشعور بالتعب، والشعور بالنشاط وفقدان الشهية، وحكم القات مختلفٌ فيه بين الفقهاء.

ومن البدع المُحدثة في الدين أن البعض استساغ وضع القات في الفم أثناء الصلاة، ويشترط من يقول بجواز الصلاة به عدم ابتلاع الريق أثناء الصلاة.

وهذه المسألة من المعلوم الواضح، ولكن صرنا في زمنٍ يحتاج الناس فيه إلى توضيح الواضح، وشرح المشروح، والاستدلال لما هو واضحٌ وحجة، وقد أفتى الشيخ القاضي محمد بن إسماعيل العمراني بحرمته

ولا يمكن لمن يضع القات في فمه التوقف عن ابتلاع الريق في الصلاة وخارجها، ولا يمكن له كذلك تحريك الفم بالقراءة، وإذا حصلت حركة الفم امتلأ جوف الفم ريقاً، وفتح هذا الباب يعني فتح باب شرٍّ على المسلمين، والاحتياط للصلاة واجب، وعليه فلا يجوز تناول القات في الصلاة أو وضعه في الفم أثناءها.












الاثنين، 1 مارس 2021

إتحاف أهل العصر في مسائل الجمع والقصر -إعداد الأستاذ الدكتور: عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

إتحاف أهل العصر في مسائل الجمع والقصر

إعداد الأستاذ الدكتور

عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ إن مما تفضل الله تعالى به على عباده أن جعل السفر والمرض والمطر أسباباً للتخفيف ورفع الحرج، ففي السفر خففت الصلاة الرباعية لاثنتين، وأبيح الفطر والتيمم، وكذلك زيد في مدة مسحه على الخفين، ولا تجب عليه الجمعة وتسقط عنه النوافل عدا سنة الفجر والوتر، وتسقط صلاة العيدين، وشرع الجمع بين الصلوات حال المطر والمرض، وغير ذلك من الرخص التي أُنيطت بتلك العلل المتضمنة للحرج والمشقة، وهذا كله كما ذكرناه آنفا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده.

وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه". وهذا الأمر من محاسن شريعتنا.

وبين يدينا بحثٌ نفيسٌ جداً، مكونٌ من خمسة مباحث مهمة، حول الجمع والقصر والمسائل المتعلقة بهما: من أحكام التقديم والتأخير، وأحكام السفر والحكمة منه، وآدابه القبلية، وآدابه وأثناء السفر والبعدية، والأمور التي لا ينبغي ارتكابها في السفر، وأحكامه المتعلقة به، وذكر بعض مسائله.

 وما يُهمنا هنا ذكر بعض المسائل الواردة في الكتاب، وهي:

  •  يشترط لجمع الصلوات (3 شروط):

 -النية: والمراد بها نية الجمع وموضعها من أول الصلاة الأولى إلى سلامها.

 -الترتيب: أي تقديم الأولى على الثانية، وهذا مراعاةً للترتيب بين الصلوات. 

- الموالاة: والمراد بها أن لا يفرق بينهما بوقت طويل بل عليه متى انتهى من إحدى الصلاتين فعليه أن يقوم للأخرى، ولا بأس بالفصل اليسير عرفاً.

-الأسباب المبيحة للجمع غالباً (أربعة)، وهي:

1- السفر. 2- المرض. 3- المطر. 4 - الاستحاضة. ويُلحق بها كل ما أوقع الناس في الحرج والمشقة الشديدة.

  • مسائل متفرقة في الجمع والقصر:

-المسافة التي يقصر ويجمع فيها ما تجاوز ثمانين كيلو متر (أي: مسيرة يومين كاملين)؛ وبه قال جمهور الفقهاء، لأن فيه مشقةٌ ظاهرة، ويحتاج إلى استعداد، ولا بُدَّ من كون السفر مباحاً، والمراد به: ما ليس بحرام ولا مكروه.

-وكذلك يُشترط للقصر في السفر:

*النية عند إرادة السفر. *وأن يُفارق آخر بيوت عامر قريته. *وأن ينوي القصر مع نية الإحرام بالصلاة، ولو لم ينو القصر؛ فإنه يُتمُّ احتياطاً. *وأن لا تكون الصلاة وجبت في حضر، وهو الأحوط. *وأن لا يأتم بمقيم فمتى ائتم بمقيم فلا يجوز له قصر الصلاة ويلزمه الإتمام. *ولا بُد أن يكون القصر واقعا في مدته، وهي أربعة أيام فأقل لمن عزم على الإقامة، وهذا هو الصحيح.

لصلوات التي تقصر: هي الصلوات الرباعية يعني صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما الثلاثية والثناية فلا تقصر، ومعنى القصر وكيفيته هو أن يجعل الصلوات الرباعية ركعتين ثم يسلم .

-يجوز التطوع المطلق أثناء السفر؛ كصلاة الضحى وقيام الليل وتحية المسجد وغيرها من الصلوات التي هي غير راتبة أما الرواتب فالسنة تركها عدا سنة الفجر والوتر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهما في حضر ولا سفر كما جاءت السنة بذلك، وما عداها من الرواتب فالأولى تركها.

لجمع للمسافر جائز؛ لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب؛ فإن جمع وهو نازلٌ فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.

-لا يجوز جمع صلاة الجمعة مع العصر؛ فمتى نوى المسافر صلاتها جمعة؛ فإنه لا يصح، أما إن صلاها ظهراً فيجوز له يصلي العصر.

-الأفضل في حق المسافر ما كان أرفق به: من جمع التأخير أو التقديم، فإن كان التأخير أرفق أخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم، وذلك لأن الجمع مشروع رفقا بالمكلف فما كان أرفق فهو أفضل.

-إذا تساوى عند المسافر جمع التقديم والتأخير؛ فالأفضل في حقه التأخير. لأن التأخير غاية ما فيه تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها جائزة مجزئة.

-تشترط نية الجمع في وقت الأولى إذا أراد أن يجمع في وقت الثانية (جمع التأخير). وذلك لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها إلا لعذر، فلا يجوز تأخير الصلاة إلا بنية الجمع إن وجد سببه. 

-إذا ضاق وقت إحدى الصلوات، ولم يبق إلا قدر ركعة فقط ويدخل عليه وقت الثانية، أو عنده وقتٌ لا يستطيع أن يكمل إحدى الصلوات فيه، فلا يجوز له أن ينوي الجمع، ولا نية الجمع؛ لأن الواجب عليه أن يأتي بالصلاة في وقتها الذي حددته نصوص الشريعة؛ فيصلي الصلاة حسب ما يدركه من وقتها ويستغفر ربه على التأخير، ثم يأتي بالثانية.

-النوم ليس عذراً للجمع، فمن نام عن بعض الصلوات لا يجوز له أن يعقد لهذه الصلوات نية الجمع بل عليه أن ينوي القضاء، والنوم ليس عذراً للجمع، بل هو عذر رافع للإثم فقط.

-يجوز الجمع في المطر الشديد الذي يبُلُّ الثياب ويمنع الناس من الخروج إلى المسجد (جمع تقديم) لأنه المناسب في رفع الحرج، في الظهرين والعشائين، وهو مذهب الشافية وقول الشيخين ابن باز وابن عثيمين.

-حد المطر الذي يباح من خلاله الجمع؛ هو الذي يبل الثياب لكثرته وغزارته فإن كان قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز لانتفاء المشقة عن المكلف.

-الوحل "الزلق والطين" الذي يحصل بسبب المطر ويشق على الناس أن يمشوا عليه، يشرع لهم الجمع بسبه.

- يجوز الجمع مع وجود الريح الشديدة الباردة؛ لحصول المشقة بها، وأما الريح المعتادة فلا يباح لها الجمع، وأما الجمع لأجل البرد وحده فمسألةٌ خلافية، ويُرجع فيه إلى العُرف.

-العمل الناتج عن السفر؛ يجوز له الجمع فيه بين الصلاتين، وأما العمل الذي في الحضر وفيه مشقة على العامل فهذا لا يجوز الجمع فيه.

-يجوز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بعمل أو كلام؛ ولكن بشرط عدم الكثرة في العمل أو الكلام؛ بحيث: يجعلهما يفقدان اسم الجمع عليهما لأن الجمع معناه الضم أي ضم وقت هذه إلى هذه.

-إذا كان المسافر إلى بلد ما ووصل إليها وتقرر عنده أنه سيبقى فيها أكثر من أربعة أيام فإنه لا يجوز له الجمع حينئذ؛ أما إن كان غير معروف لديه المدة فإنه يجوز له القصر والأولى في حقه عدم الجمع لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع إذا كان على ظهر سير وهذا هو الغالب من فعله وإن جمع فلا حرج.

-إذا دخل وقت الصلاة على المسافر وهو في البلد ثم ارتحل قبل أن يصلي جاز له الجمع وكذا القصر في أصح أقوال أهل العلم، متى غادر معمور البلد، والعبرة هنا بوقت الفعل لا بوقت الخروج من البلد.

-الحجاج سواء كانوا من أهل مكة أو غيرهم يُشرع لهم الجمع والقصر في الحج بخلاف من قال بأن أهل مكة لا يقصرون ولا يجمعون لأنهم غير مسافرين. والصحيح ما ذكرناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع وحج معه أهل مكة ولم يأمرهم بالإتمام.

-يجوز للحاج الجمع بين الصلوات في منى يوم التروية وأيام التشريق، لكن تركه أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله.

-ليس هناك تلازم بين الجمع والقصر؛ فللمسافر أن يقصر ولا يجمع، بل إن ترك الجمع له أفضل إن كان نازلاً غير ظاعن كما فعله صلى الله عليه وسلم في منى حجة الوداع فإنه قصر ولم يجمع.

-