أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 13 فبراير 2021

قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج -أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)

قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج

تأليف الإمام الحافظ

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا جزءٌ حديثي نفيس تتجلى فيه عبرقية الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقدرته العلمية في "علم الحديث"، مع ما يتمتع به من فكرٍ ناضج، وعقلية واعية، وهو يتناول طرق حديث العباس بن مرداس الأسلمي والذي يؤكد أن الحاج يُغفر له ما تقدم من ذنبه، وأن المغفرة تشمل الصغائر والكبائر والتبعات وحتى مظالم العباد؛ وأن الله سبحانه يُرضي صاحب المظلمة بما ادخره له من الثواب العظيم والدرجات العالية في الجنة.

ولكن بعض الحفاظ كابن الجوزي تكلم في هذا الحديث، وحكم بوضعه من جميع طرقه، وقد سئل الإمام ابن حجر العسقلاني عن هذا الحديث، فكان ردُّه على ابن الجوزي في هذه الرسالة التي سماها "قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج"؛ فردَّ عليه رداً علمياً بمنهجيةٍ واعية ومستوعبة رحمة الله تعالى عليه.

وافتتح الحافظ كتابه مقدمة موجزة؛ تنمُّ عن براعة الاستهلال، وقوة الأسلوب، والفطنة التامة، ثم شره في ذكر الأحاديث الدالة على عموم المغفرة للحاج، فأورد طرق هذا الحديث وشواهده من حديث عُبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبو هريرة، وزيد، وترى في كل ذلك اليقظة والدقة في الحكم عليها وذكر ما فيها من العلل.

ثم تطرق بعد ذلك لحديث العباس بن مرداس؛ فقال: وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بتمامه، وأخرج أبو داود في "سننه" طرفاً منه، وسكت عنه، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج، وهو على رأي ابن الصلاح ومن تبعه "حسن"، وعلى رأي الجمهور حسنٌ بانضمام الطرق الأخرى إليه لا بانفراده. وعليه فيرى ابن حجر أنه ضعيف يعتضد بكثرة طرقه. وهو بذلك يوافق الإمام البيهقي الذي يرى أن: له شواهد كثيرة.

وختم الحافظ بفصلٍ في ضبط الأسماء والأنساب، وشرح غريب الألفاظ الواقعة في هذه الطرق على ترتيب ورودها في هذه الرسالة، فجاءت في غاية النفاسة والإتقان. وقد ضمنتها هذه الأحاديث دون فصلٍ. وقد انتهى الحافظ من تأليف هذا الكتاب سنة (842 هـ) أي قبل وفاته بعشر سنين.

بيان هذه الطرق التي ذكرها الحافظ ابن حجر

أما حديث (العباس بن مرداس)؛ فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادة المسند (26/ 136):

حدثني إبراهيم بن الحجاج الناجي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري، عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه، أن أباه العباس بن مرداس حدثه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة، لأمته بالمغفرة، والرحمة فأكثر الدعاء)، فأجابه الله عز وجل: أن قد فعلت، وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضاً. فقال: (يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم، وتثيب المظلوم خيراً من مظلمته)، فلم يكن في تلك العشية، إلا ذا. فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة، فعاد يدعو لأمته، فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها، فما أضحكك، أضحك الله سنك. قال: (تبسمت من عدو الله إبليس، حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي، وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل، ويحثو التراب على رأسه، فتبسمت مما يصنع جزعه).

***

وقال الطبرانيُّ في "الكبير": حدثنا معاذ بن المثنى، وآخرون، قالوا: أنبأنا أبو الوليد الطيالسي، زاد معاذ: وأنبأنا عيسى بن إبرايهم، قالا: حدثنا عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي، عن أبيه، عن جده عباس بن مرداس، وذكره. وقال في روايته: (إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها). وقال فيها: فلما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه: (إني قد غفرتُ)، قال: (فتبسم). فذكره مثله إلى قوله: (على رأسه).

***

وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" ولفظه كلفظ رواية الطبراني، وفي أكثر الروايات لم يُسم "ابن كنانة".

وقد سماه بعضهم عن "عبد القاهر بن السري"، فقال ابن ماجه في "سننه": حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي، أن أباه، أخبره عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا لأمته عشية عرفة، بالمغفرة» فأجيب: «إني قد غفرت لهم، ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه» قال: «أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم»؛ فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة، أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال تبسم، فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك قال: «إن عدو الله إبليس، لما علم أن الله عز وجل، قد استجاب دعائي، وغفر لأمتي أخذ التراب، فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه»

***

وأخرجه ابن عدي في "الكامل"، عن "علي بن سعيد"، عن أيوب بن محمد" بهذا السند، وسمى "ابن كنانة" عبد الله، كما عند ابن ماجه.

وقال في سياقه: عن أبيه "العباس بن مرداس"، وفيه: دعا ربه، وفيه: (أن الله أجابه بالمغفرة لأمته، إلا ظلم بعضهم بعضاً، فإنه يأخذ للمظلوم من الظالم، فأعاد الدعاء، فقال: "أي رب إنك قادرٌ على أن تُثيب المظلوم خيراً من مظلمته -أي تعوضه عن مظلمته -الجنة، وتغفر لهذا الظالم).

وفيه: فأجابه الله عز وجل: إني قد فعلتُ"، ولم يقل أو سُرَّ.

وفيه: ضحكتُ أن الخبيثَ "إبليس" حين علم أن الله استجاب دعائي.

***

وأخرج أبو داود هذا الحديث في "السنن"؛ فقال في كتاب "الأدب": حدثنا "عيسى بن إبراهيم البركي"، حدثنا "عبد القاهر بن السري"، عن "ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه عن جده: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر أو عمر أضحك الله سنك، وساق الحديث.

وسكت عليه أبو داود، فهو صالحٌ عنده، وقد أخرجه الحافظ "الضياء المقدسي" في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين" من طرق عن "عبد القاهر بن السري".

قال البيهقي: هذا الحديث له شواهد كثيرة، قد ذكرناها في كتاب "البعث"، فإن صح بشواهده ففيه الحجة.

قلتُ (يعني ابن حجر): جاء عن عبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وزيد "جد" عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد.

أ- أما حديث "عبادة بن الصامت" فأخرجه: عبد الرزاق في مصنفه، و"الطبراني في الكبير، من طريقه، عن معمر، عن من سمع "قتادة"، يقول:

حدثنا خلاس بن عمرو، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «أيها الناس، إن الله تطول -أي تفضل -عليكم في هذا اليوم، فيغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله». 

فإذا كان بجمع، قال: «إن الله قد غفر لصالحكم، وشفع صالحكم في طالحكم، تنزل المغفرة فتعمهم، ثم تفرق المغفرة في الأرضين فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما صنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل ويقول: كنت استفزهم -أي استخفهم واحملهم على المعصية -حقباً من الدهر -والحِقب جمع حقبة، وهي الزمان من الدهر، وقيل: ثمانين سنة -، ثم جاءت المغفرة فغشيتهم -أي شملتهم -؛ فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور».

قال الحافظ: ورجال هذا السند ثقات، إلا الذي سمع "قتادة"، ولم يُسمه معمر؛ فإن كان ثقةً فهو على شرط الصحيح، وإن كان ضعيفاً فهو عَاضِدٌ للسند الذي قبله، وقد سمع معمرٌ من قتادة كثيراً، لكنه بيّن أنه بينه وبين قتادة فيه واسطة.

***

ب- وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في "مسنده" قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج -هو السامي البصري -بالسين المهملة، حدثنا صالح المري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تطول على أهل عرفات، يباهي بهم الملائكة -أي يُفاخر من البهاء والحسن والجمال، والمعنى: يُظهر على فضلهم الملائكة، ويُريهم حُسن أعمالهم -، يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً -والشعث هم متفرقي الشعور، والغبر إذا أصابه الغبار، وأطلق على الحاج لكونه يقع على المسافر غالباً-، أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق -الفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البالغ في الاتساع -، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنيهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جمع -وهي المزدلفة -ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله، يقول: يا ملائكتي، عبادي وقفوا فعادوا في الرغبة والطلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني، وكفلت عنهم التبعات التي بينهم».

قال الحافظ: وهذا السند ضعيف، فإن صالحاً المري، وشيخه ضعيفان.

***

وقد أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" من وجهٍ آخر عن صالح المري. وذكره الحافظ المنذري في "الترغيب" من رواية: عبد الله بن المبارك، عنْ سفيان الثَّوريِّ، عن الزُّبير بن عديٍ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: وقف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ، وقد كادت الشَّمس أن تؤوب، فقال: يا بلال أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنصت الناس فقال: «معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السَّلام آنفاً -أي قريباً -فأقرأني من ربِّي السلام، وقال: إن الله عزَّ وجلَّ: غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر -أي موضع الموقف بالمزدلفة، وسمي بذلك لأنه من معالم العبادة وشعائر الحج -، وضمن عنهمُ التَّبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقال: يا رسول الله: هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكمْ، ولمنْ أتى من بعدكمْ إلى يوم القيامة، فقال عمرُ ابن الخطاب رضي الله عنه كثر خير الله، وطاب».

قال الحافظ: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك؛ فهو على شرط الصحيح. فقد أخرج البخاري من رواية الزبير بن عدي حديثاً ومسلمٌ من روايته حديثاً آخر. وقد أخرج مسدد بن مسرهد في "مسنده" لهذه الطريق شاهداً من وجهٍ آخر مرسلٌ رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه.

***

ج- وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} من سورة البقرة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن مجاهد، قال: «إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي؛ فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة: 199)»

***

ثم قال ابن جرير: حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: ثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا: ثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: «أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم أفيضوا على اسم الله».

فلما كان غداة جمع قال: «أيها الناس إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله».

فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً، وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سألت ربي بالأمس شيئاً لم يجُد -من الجود -لي به، سألته التبعات فأبى علي -من الإباء وهو الامتناع -، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: التبعات ضمنت عوضها من عندي»

قال الحافظ: وأخرجه أبو نُعيم في "الحلية" عن محمد بن عبد الرحمن بن مخلد، عن سهل بن موسى، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري. وأخرجه أبو نُعيم أيضاً من مسند الحسن بن سفيان، قال: حدثنا إسماعيل بن هود، حدثنا أبو هشام، حدثنا عبد الرحيم بن هارون الغساني، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، فذكره باختصار.

ولحديث ابن عمر طرقٌ أخرى، أخرجها أبو حاتم بن حبان في كتاب "الضعفاء"، من رواية يحيى بن عنبسة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وقف بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفات؛ فلما كان عند الدفعة استنصت الناس فأنصتوا؛ فقال: «أيها الناس إن ربكم تطول عليكم في يومكم هذا». فذكر الرواية السابقة بطولها، وقال: «ادفعوا باسم الله».

فقام أعرابيٌّ فأخذ بزمام الناقة، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما بقي من عمل إلا عملته، وإني لأحلف على اليمين الفاجرة، فهل أدخل فيمن وقف؛ فقال: «يا أعرابي، أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»؟ قال: نعم، بأبي أنت. فقال: «يا أعرابي إن تحسن فيما تستأنف يُغفر لك»

***

د- وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه أبو حاتم بن حبان أيضاً في كتاب "الضعفاء"، والدارقطني في "غرائب مالك مما ليس في الموطأ" من رواية: أبي عبد الغني الحسن بن علي الأردني -موضع بالشام-، عن عبد الرزاق عن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي  صلى الله عليه وسلم، قال:

«إذا كان يومُ عرفةَ، غفرَ اللهُ لِلْحاجِّ، فإنْ كان ليلةُ مُزْدَلِفَةَ غفرَ لِلتُّجّارِ، فإنْ كان يومُ مِنًى غفرَ لِلْجَمّالِينَ، فإِذا كان يومُ الجمرةِ غفرَ لِلسُّؤّالِ؛ فلا يشهد ذلك الموضع أحدٌ إلا غُفر له»

قال ابن حبان في "الضعفاء": أبو عبد الغني يضع الحديث على الثقات، لا تحل الرواية عنه بحال. وقال الدارقطني: هذا حديثٌ باطل، وضعه أبو عبد الغني على عبد الرزاق.

***

هـ- وأما حديث زيد؛ فأخرجه أبو عبد الله بن منده في كتاب "الصحابة" من طريق: محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن صالح بن عبد الله بن صالح، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، قال: 

«أيها الناس إنَّ اللَّهَ قد تطَوَّلَ علَيكم في يومكم هذا فوَهبَ مُسيئَكم لِمُحسنِكم، وأعطى مُحسنَكم ما سألَ؛ وغفر لكم ما كان بينكم»

وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" من حديث العباس بن مرداس، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبادة بن الصامت، وقال: قال ابن حبان: كنانة منكر الحديث جداً. ولا أدري التخليط منه أو من ولده.

وقال في (حديث ابن عمر): عبد العزيز بن أبي روّاد، قال ابن حبان: كان يُحدث على الوهم والحسبان. وعبد الرحيم كذبه الدارقطني، وبشار مجهول، ويحيى كذبوه.

وقال في (حديث أبي هريرة): الحسن بن علي أبو عبد الغني، كان يضع الحديث.

وقال في (حديث عُبادة): شيخ معمر الذي حدثه عن قتادة لا يُعرف حاله، وخلاس كان مُغيرة بن مِقسَم لا يعبأ به -أي: لا يأبه به -. وقال: أيوب لا يروي عنه فإنه صحفي -منسوبٌ إلى الصحيفة، وقد يُطلق على من يُوهم أنه سمع ولم يسمع، وإنما يروى في الصحيفة التي يجدها؛ فيُطلق الأخبار والتحديث موضع الوجادة، وهو من جملة التدليس-.

قال الحافظ ابن حجر: حكمه (يعني ابن الجوزي) على هذا الحديث بأنه موضوع لما ذكر من العلل التي في أسانيده مردود؛ فإن الذي ذكره لا ينهض دليلاً على كونه موضوعاً، أما حديث العباس؛ فقد اختلف قول ابن حبان فذكره في "الثقات" وذكره في "الضعفاء"، وذكر ابن منده: أن له رؤية يعني من النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره البخاري في "الضعفاء"، وقال: لم يصح حديثه. وتبعه: أحمد بن عدي، ونقل كلام البخاري فيه.

وأما ولده "عبد الله بن كتانة" ففيه كلام ابن حبان أيضاً، وكل ذلك لا يقتضي الحكم على الحديث بالوضع، بل غايته أن يكون ضعيفاً، ويعتضد بكثرة طرقه. 

وأما حديث ابن عمر، ففيه: عبد العزيز بن أبي رود: وثقه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والعجلي، والدارقطني، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: كان صالحاً، وليس في الثبت مثل غيره. وتكلم فيه جماعةً من أجل الإرجاء، وقال القطان: لا يُترك حديثه لرأي أخطأ فيه. ومن كان هذا حاله؛ فلا يوصف حديثه بالوضع.

وأما بشار؛ فلم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وقد توبع.

وأما عبد الرحيم ويحيى بن عنبسة في حديث أبي هريرة فجرحهما ثابت، لكن الاعتماد على غيرهما، فكأن حديثهما لم يكن.

وأما حديث عبادة فليس فيه إلا الرجل المبهم، ولا يستحق أن يوصف بالوضع بمجرد أن راويه لم يُسمّ.

وأما كلامه في خلاص؛ فمردودٌ، فإنه ممن أخرج له البخاري، ومسلم ،وقال فيه أحمد بن حنبل: ثقة. وكما قال: روى عن علي وأبي هريرة من صحيفة، ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع.

وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق.

وقد ورد ما في الحديث في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها:

-فمنها: ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، والنسائي، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما مِن يومٍ أكثَرُ أنْ يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا مِن النّارِ مِن يومِ عَرَفَةَ وإنَّه لَيدنو فيُباهي بهم الملائكةَ فيقولُ ما أراد هؤلاءِ).

-وعند أحمد وصحح ابن حبان والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ أهلَ السَّماءِ فيقولُ لهم انظُروا إلى عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا)

-وعند أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان يقول: (إنَّ اللهَ يُباهي ملائكته بعبده عشية عرفة…) الحديث.

-وعند ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي، عن جابرٍ رفعه: (ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا؛ فيُباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا ضاجِّينَ -من الضجيج وهو الصياح في المجتمع-من كلِّ فَجٍّ عَميقٍ، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يومٌ أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة).

وزاد البيهقي: (فتقول الملائكة: إن فلاناً فيهم، وهو مُرهق أُشهِدُكم، قال: فيقول الله عز وجل أنِّي قد غَفَرْتُ لهم).

قال الحافظ: وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهدٌ لبعض حديث ابن عمر، رابع أحاديث الباب.

-وقد أخرج مالك في "الموطأ" عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما رؤي الشيطانُ أحقرَ ولا أدحرَ ولا أصغرَ من يومِ عرفةَ، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام) هذا مرسلٌ. وقد وصله الحاكم من حديث أبي الدرداء.

-ومنها: ما أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع، وفيه: (فإذا وقَفَ بِعرفةَ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدنيا فيقولُ: انظُروا إلى عِبادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ لهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وإن كانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّماءِ، ورَمْلِ عالِجٍ)

-ومنها: ما أخرجه البيهقي من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُسلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفةَ بالموقِفِ مُستَقبِلًا بوَجْهِه، ثمَّ يقولُ: لا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ؛ مائةَ مَرَّةٍ، ثمَّ يقرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائةَ مَرَّةٍ، ثمَّ يقولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ كما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، وعَلَينا معهم، مائِةَ مَرَّةٍ، إلّا قال اللهُ تعالى: يا ملائِكَتي، ما جَزاءُ عَبْدِي هذا، سَبَّحَني وهَلَّلَني وكَبَّرَني وعَظَّمَني وَعَرَفَني وأثنى عَلَيَّ، وصَلّى علي نَبِيِّي؟ اشهَدوا يا ملائكَتي أنِّي قد غَفَرْتُ له وشَفَّعتُه في نَفْسِه، ولو سألني عبدي هذا لشَفَّعْتُه في أهلِ الموقِفِ).

قال البيهقي: ليس في سنده من يُنسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48).فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك. والله أعلم.




الجمعة، 12 فبراير 2021

السر الجليل في خواص "حسبنا الله ونعم الوكيل" -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

السر الجليل في خواص "حسبنا الله ونعم الوكيل"

أو "الجواهر المصونة واللآلئ المكنونة"

تأليف أبو الحسن الشاذلي (ت 656 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ علي بن عبد الله الشاذلي "أبو الحسن" أحد صوفية القرن السابع الهجري، اشتهر بالقطبية واشتغل بالسحر والدجل، هاجر من المغرب بعد أن طرده أهلها منها، فارتحل إلى إفريقية، وسكن الإسكندرية؛ وكانت بداياته في التصوف على يد عبد السلام بن بشيش، وأظهر الانتساب إلى آل البيت في بعض كتبه، وأعجب الناس بكثرة الخوارق التي يأتي بها، وفقد بصره في آخر حياته. وكانت وفاته بصحراء عيذاب ودُفن هناك.

وللشاذلي العديد من الكتب المنسوبة إليه، ومنها هذا الكتاب المُسمى (العذب السلسبيل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل) أو (السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل)، وهذا الكتاب منسوبٌ إليه عند كافة الصوفيين، وقد جاءت نسبته إليه في "معجم التاريخ (3/ 2085)، وهو موجود في مكتبة رشيد بمصر، والظاهريّة بدمشق.

ومن يقرأ عنوان الكتاب للوهلة الأولى يبدي إعجابه به، ولكن عند الغوص في أعماق الكتاب، والمرور على فقراته، نجد أنه مليء بالسحر والطلاسم، والتوسلات الشركية، ودعوات تسخير الجان وتحضيرهم، والاستعاثة بخدام الآيات والحروز: أذيَّةً لعباد الله، وتسليطاً للشياطين على خلق الله، ويقوم الشيخ الصوفي أو المريد بدفن هذه الجداول والأوفاق في مكان قريب، أو اصطحابها في عمامة، أو وضعها تحت وسادة، 

وبيّن الشاذلي أن الشياطين تحضر عند صناعة هذه الأختام -مباشرةً -بثياب خضر (29) ثم يطلب الشيخ الصوفي أو المريد منه أن يُسخر له جميع الجن والشياطين العلويين والسفليين؛ فيقول الشيطان: قد سخّرتُ!.ثم يقول الشيطان: اعتقني؛ فيُعتقه، ويعطيه خاتم سليمان (بحسب زعمه)، ويقول له: افعل ما تُريد!!.

كذلك تجد فيه العبارات الغريبة، والأوفاق السحرية، والأختام الشيطانية، والتي يحصل بها حضور الشياطين، وتسليطهم على عباد الله، وتعريض الناس للعنت والشقاء، وأذيتهم في أبدانهم وأهليهم وأموالهم، والتسبب لهم بالأمراض والجنون والطاعون.

وقد زعم الشاذلي بأن هذه الأوفاق السحرية والأختام "الشيطانية" يحصل أمورٌ منها: إقبال الناس على من يستعملها بالمحبة والهيبة، وإذلال الأعداء والانتصار عليهم، وتوسعة الأرزاق، والوصول إلى الأمارة والوزارة والسيادة، أو طلب الجاه وتسخير القلوب عطفاً وصرفاً، أو من أردا أن تمدحه جميع الخلائق، وأنه إذا دخل أي شخصٍ عليه فإنه يُحبه محبةً عظيمة، بعد أن يكون دجَّج نفسه بالروائح والبخور العلوية.

كذلك يستعملها الشيخ الصوفي إذا أراد أن تكون له السيادة والسعادة، أو من أردا أن تظهر له الغيبيات وتحصل له المكاشفات، أو من أراد مشاهدة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أو أراد أن ينعقد لسان فلان (31)، أو كشف الحقيقة، ورعب الظالم، أو إذا أردت أن تُكلم فلاناً فيطيش عقله، وارتعدت فرائصه. 

ومن العجيب حقاً أن يُقحم هذا الشاذلي قضايا الإخلاص والتوحيد في خضم هذا الشرك والكفر المُبين ،أو يجعل هذه البدع والطلاسم ابتغاء مرضات الله، ولنيل القربة منه سبحانه، وهذه هي الطامة الكبرى والداهية العظمى، التي يصدقها السفهاء، ويلتجئ إليها أصحاب العقول الخفيفة، ومن لا حظ له في دين الإسلام.

كذلك تجد من البدع والأذكار التي تؤدي بطريقة مُعينة في مكانٍ خالٍ وبأعداد مُعينة، ويتكون هذا الكتاب من خمس أبواب، وهي:

الباب الأول: في خواص هذه الآية.

الباب الثاني: في خواص خوارق هذه الآية، ودفع الأعداء والتعطيف والتأليف.

الباب الثالث: في كيفية التريض بهذه الآية وأنها تورث المكاشفة.

الباب الرابع: بيان بعض الجداول، وفي خواص الأسماء، وخدام الآيات والحروز، وتحريك الروحانيات للدخول على الحكام و الملوك وأشراف الناس.

الباب الخامس: في نبذة من خواص خوارق خواص هذه الآية في السار والضار، ثم ذكر صلاة "الفتح" لعبد السلام بن بشيش، ومن لازمها حصلت له الفتوحات.






الخميس، 11 فبراير 2021

درء الضعف عن حديث من عشق فعف -تأليف أبي الفيض أحمد بن الصديق الغُماري

درء الضعف عن حديث من عشق فعف

تأليف أبي الفيض أحمد بن الصديق الغُماري

اعتنى به: إياد أحمد الغوج

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا جزءٌ حديثي نفيس، وضعه الشيخ أحمد بن الصديق الغماري جواباً عن سؤالٍ ورده في حديثٍ اشتهر على ألسنة الناس، وهو (من عشق فعفَّ فمات فهو شهيد)، هل هو صحيحٌ ثابت أم باطلٌ موضوع؟ وإذا كان باطلاً فهل البطلان يشمل السند والمعنى أم أنه يقتصر على السند فقط دون المعنى؟ 

 وقد تصدى الغماري لبحث هذا الحديث ومناقشته عرضاً ونقداً، فأراد من خلال ذلك إثبات صحة هذا الحديث، فزعم أن هذا الحديث في أعلى درجات الصحة، ثم شرع في نفي الضعف الثابت له، وسماه (درء الضعف عن حديث من عشق فعف)، وكان فراغه من تأليفه في العام (1376 هـ).

وبالجملة فلم يخلُ نقد الغماري لكلام العلماء حول هذا الحديث من التحكم والمبالغة في الرد، والتمحل لكلام الحُفاظ والأئمة، ولمن يُخالفه في اجتهاده الذي تفرّد به، بالإضافة إلى تطاوله على الأئمة الكبار: كابن عدي، وابن معين، وابن الجوزي، وابن القيم، وكان الغماري يجرح بأي شيء.

ولا شكَّ أن الغماري رجلٌ فيه حدة، وكانت حدته تخرجه عن طور الإنصاف في بعض الأحيان إلى حيز التطاول، وله كلمات سيئة لم يكن له أن يتفوه بها، كما أن له آراء خالف فيها جماهير العلماء، استناداً إلى ما ظنه دليلاً، وإنما هو شبهة دليل.

والقضية الفاصلة في هذا الحديث: هو قبول سويد للتلقين، ولا يُقال إن التلقين جرحٌ غير مُفسّر، بل هو جرحٌ مُفسّر.

ومحاولة الغماري ابعاد التلقين عن سويد لا يُفيده شيئاً، بل قد يضرُّه، لأنه كثرت أحاديثه المناكير، وكثرة منكرات الرجل وغرائبه تجعله مظنةً للتُّهمة، بل قد يتركونه لأجلها.

  • أهمية هذا الكتاب:

(1) التعرف إلى بعض النواحي التطبيقية لتخريج هذا الحديث وتتبع مروياته والحكم عليها.

(2) التعرف إلى طرف يسير من ترجمة أحمد الغماري، والذي بلغت مصنفاته حوالى (250) مؤلف، ومن أشهرها: "المداوي لعلل المناوي"، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية"، و"المستخرج على مسند الشهاب"، و"مستخرج على الشمائل".

خلاصة القول في هذا الحديث:

قال رحمه الله في "المداوي" عند الكلام على هذا الحديث: "وبعد فحديث الباب قد صحَّحته، وأفردتُ لذلك تأليفاً عجيباً سميته (درء الضعف عن حديث من عشق فعف)؛ فعليك به، فإنه مُفيدٌ إلى الغاية. انتهى.

وقد روي حديث العشق عن ابن عباس، والسيدة عائشة رضي الله عنهما. 

(أما حديث عائشة) فروايته عنها وهمٌ مُحقق بلا خلاف؛ حيث رواه محمد بن أحمد بن مسروق، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مُسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن السيدة عائشة رضي الله عنها.

وهذا وهمٌ من مسروق؛ حيث خالف فيه سائر الرواة عن سُويد؛ لذا نصَّ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" (12/ 479) على أن المحفوظ هو روايته عن ابن عباس.

(وتبقى رواية الحديث عن ابن عباس)، وقد رُوي على وجهين:

الرفع والوقف.

أما الرفع؛ فروي بإسنادين:

أ- الأول: سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس.

ب- والثاني: الزبير بن بكار، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، به.

أما الموقوف؛ فروي كذلك بإسنادين:

أ- الأول: أبو سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس.

ب- الثاني: أبو بكر الأزرق، عن سويد عن علي بن مُسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وأبو بكر الأزرق: كان يرفعه أولاً؛ فعوتب فيه، فكان لا يُجاوز ابن عباس، والملاحظ أن لفظه موقوفاً، هو (من عشق فعفَّ فمات دخل الجنة)، وليس فيه ذكر الشهادة!.

وهذا الموقوف ضعيف؛ لأن في إسناده الأول: أبو سعيد البقال: ضعيفٌ مدلس، وفي الثاني: أبو يحيى القتات، وقد ضُعّف، والأزرق ليس حاله بذاك.

وأما حكمه مرفوعاً؛ فقد اختلف فيه العلماء على أربعة أقوال:

(1) التصحيح: صححه الزركشي في "التذكرة"، والبرهان البقاعي في "أسواق العشاق"، وعلاء الدين مغلطاي في "الواضح المُبين في ذكر من استشهد من المحبين"، والغماري في "جزئه هذا.

(2) التحسين: انفرد به الزرقاني في "اختصار المقاصد الحسنة".

(3) التضعيف: وإليه ذهب ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير"، وابن حجر في "بذل الماعون"، حيث قال: وفي سنده مقال. ورمز له السيوطي بالضعف في "ضعيف الجامع"، وتبعه المناوي.

(4) الوضع والبطلان: قال فيه ذلك يحيى بن معين، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم ممن ذهب إلى أن حديث سويد منكر؛ كالبخاري، وشيخه علي بن المديني، ونقل ذلك عن البيهقي أيضاً. وممن بعدهم: ابن طاهر القيسراني، وعدّه الذهبيُّ في "الميزان" من منكرات سويد، وأطال ابن القيم النفس في إبطاله في عدد من كتبه، وعليه توجه كلام الغماري، وحكم بوضعه أيضاً الشوكاني في "الفوائد المجموعة".

وخلاصة هذا الباب هو أن هذا الحديث باطلٌ مرفوعاً، وضعيفٌ موقوفاً، مع ملاحظة أن الموقوف ليس فيه ذكر الحكم بالشهادة للعاشق، وقد ذكر المحقق عدة مناقشات للغماري ردَّ عليه فيها بأسلوب علمي رصين، واختلفوا في صحة معنى الحديث، والظاهر حمله على العفة وحفظ الجوارح من المعصية، فهو من جملة الأعمال التي تدخل صاحبها الجنة. وأما إطلاق الحكم لهذا الحديث فلا يصح. ولا يُقال للمتعفف العاشق شهيد.

كلام ابن القيم على هذا الحديث في "زاد المعاد"

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/ 252 -253): ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

ورواه عن أبي مسهر أيضا، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم، ورواه الزبير بن بكار، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عشق، فعف فمات، فهو شهيد)، وفي رواية: (من عشق وكتم وعف وصبر، غفر الله له وأدخله الجنة) .

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون من كلامه، فإن الشهادة درجة عالية عند الله، مقرونة بدرجة الصديقية، ولها أعمال وأحوال، هي شرط في حصولها، وهي نوعان: عامة وخاصة، فالخاصة: الشهادة في سبيل الله. والعامة خمس مذكورة في " الصحيح " ليس العشق واحدا منها.

وقال رحمه الله أيضاً (4/ 254): ولا يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ العشق في حديث صحيح البتة.

ثم إن العشق منه حلال، ومنه حرام، فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد، فترى من يعشق امرأة غيره، أو يعشق المردان والبغايا، ينال بعشقه درجة الشهداء.

وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة؟ كيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعاً وقدراً، والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما، وإما مستحب.

وقال أيضاً (4/ 255): لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة، بل ولا بحسن، كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث، ورموه لأجله بالعظائم، واستحل بعضهم غزوه لأجله.

وقال أبو أحمد بن عدي في "كامله": هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد، وكذلك قال البيهقي: إنه مما أنكر عليه، وكذلك قال ابن طاهر في "الذخيرة" وذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور" وقال: أنا أتعجب من هذا الحديث، فإنه لم يحدث به عن غير سويد، وهو ثقة، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الموضوعات". 

وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أولاً عن سويد، فعوتب فيه (والذي عاتبه هو محمد بن المرزبان)، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله، لا يحتمل هذا البتة، ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وفي صحته موقوفاً على ابن عباس نظر.

 وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم، وأنكره عليه يحيى بن معين وقال: هو ساقط كذاب، لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه، وقال الإمام أحمد: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال البخاري: كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه، وقال ابن حبان: يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى. انتهى.

وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي: إنه صدوق كثير التدليس، ثم قول الدارقطني: هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه انتهى.

وعيب على مسلمٍ إخراج حديثه، وهذه حاله، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره، ولم ينفرد به، ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

مسائل هذا الكتاب:

ويتكون هذا الكتاب من "مقدمة" للمحقق "الغوج"، وفيه عرض حال حديث "من عشق"، واختلاف العلماء عليه، وبيان أنه حديثٌ ضعيف.

ثم ترجمة موجزة للغماري، وعرض السؤال المرفوع إليه والذي كان سبباً في وضع هذا الكتاب. ثم توالت فصول هذا الكتاب العشرين، كالتالي:

الفصل الأول: بيان أن سويد روى الحديث على وجهٍ واحد.

الفصل الثاني: تعقب ابن القيم بعدم ورود لفظ العشق في الشرع.

الفصل الثالث:مناقشة الحكم بالنكارة على حديث الباب.

الفصل الرابع:مناقشة ابن القيم في قوله: إن العلماء رموا سويداً بالعظائم: واعتبر الغماري أن كلام ابن القيم باطل، ومجازفة من غير تحقيق، وأن غاية ما رموا به سويداً هو التدليس الذي ما نجا منه إلا القليل من الرواة. هذا مع أن سويداً قد عمي وصار يُلقن، وله أحاديث منكرة عديدة ولم يُتابع عليها وكان مسلمٌ رحمه الله يتجنب أحاديثه المنكرة، ويخرج له من أصوله المعتبرة.

الفصل الخامس: مناقشة كلام ابن معين بتوسع، وقوله في سويد: ساقط كذاب: فرمى الغماري ابن معين بالعصبية والتحامل وأنه كان من أتباع أبي حنيفة، فتأثر بمذهبه الفقهي.

الفصل السادس: قول ابن معين: لو كان لي فرسٌ لغزوته يعني سويد: فزعم الغماري أن هذا إنما قاله ابن معين في حديثٍ آخر لسويد لا في هذا الحديث، وأن ابن معين قاله عصبيةً لمذهبه، حيث كان على مذهب أبي حنيفة.

الفصل السابع: تزييف ما نُقل عن أحمد أنه قال في سويد: متروك: فزعم الغماري أن الذي نقل هذا الكلام عن أحمد هو ابن الجوزي، ثم اتهم ابن الجوزي بأنه غير معتمد في نقله، ولا فهمه، وأنه لا يُحسن التصرف في النقول، وأنه يأتي بالطامات!! ووصفه بأمورٍ كثيرة فيها تنقيص وذم، والحق مع ابن الجوزي.

الفصل الثامن: رد طعن النسائي في سويد لما قال عنه: ليس بثقة: وزعم الغماري أن النسائي قال ذلك تقليداً لابن معين.

الفصل التاسع: مناقشة طعن ابن حبان في سويد، وقوله: يأتي بالمعصلات: وزعم الغماري أن ابن حبان اعتمد على كلام ابن معين، وقد اشتد الغماري على ابن حبان فذَّمة، ووصفه بأنه خسّاف مشهور، وهذا -مع كونه لا يليق، فإن لحق مع ابن حبان.

الفصل العاشر: أهمية الاستقصاء في نقل أحوال الرواة، وتوثيق سويد: وفيه استحسن الغماري قول أبي حاتم الرازي أن سويداً صدوقٌ كثير التدليس، وكذلك قول الدارقطني: هو ثقة، وأخذ يُجادل عن ذلك. 

الفصل الحادي عشر: مناقشة كلام ابن القيم أن مسلم لم يخرج لسويد في الأصول: وادعى الغماري بعد ذلك أنه هذا الحديث تابع فيه مجاهدٌ عكرمة، وأنه ليس بشاذٍ ولا منكراً.

الفصل الثاني عشر: الكلام على ذكر ابن الجوزي له في "الموضوعات": وزعم الغماري أن هذا من تساهل ابن الجوزي.

الفصل الثالث عشر: عدم اعتماد ابن طاهر القيسراني في "تذكرة الموضوعات": وقد رماه الغماري بالوهم وقلة التحقيق؛ كابن الجوزي. 

الفصل الرابع عشر: بيان أن تفرد الثبت الثقة مقبول ما لم يتبين وهمه أو غلطه: وقد اعتمد الغماري على كلام الحاكم في "تاريخه"، ووهم الغماري فظنَّ كلام الحاكم تصحيحٌ له، وإنما هو تضعيف للحديث، وهو ما فهمه الذهبي رحمه الله، ونص عليه في "الميزان".

الفصل الخامس عشر: ذكر من صحح حدث الباب أو حسنه بعد نفي ابن القيم صحته وحسنه. وقد صححه ابن القيم في "طوق الحمامة"، وعلاء الدين مغلطاي في "الواضح المبين"، وذكر أن الفقهاء ذكروا هذا الحديث في كتبهم، ونظموا فيه الشعر.

الفصل السادس عشر: الكلام على رواية ابن الماجشون، وقد بينا نكارة طريق ابن الماجشون، وروايته لهذا الحديث لا تصح.

الفصل السابع عشر: متابعة ابن الماجشون لسويد ينفي تفرده: وقد بينَّا أن ضعف سويد لا يُحتمل.

الفصل الثامن عشر: الرد على ابن القيم في أن الشهادة لا تُعطى لعاشق: وأراد الغماري الجواب على ابن القيم في أن العاشق يُعف نفسه، ويجاهدها في سبيل الله. وإعمال القياس في هذا الباب بعيد.

الفصل التاسع عشر: بيان اندماج شهادة العاشق في جملة الشهداء: وقد جمع فيه الغماري أسباب الشهادة، فذكر (37) خصلة، وأن العشق يدخل في عموم الموت في سبيل الله.

الفصل العشرون:خاتمة هذا الجزء، وقد بين المحقق أن الغماري وهم في مثل تصحيح السخاوي، وإنما كان كلامه تعليقاً على كلام العراقي.