قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج
تأليف الإمام الحافظ
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا جزءٌ حديثي نفيس تتجلى فيه عبرقية الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقدرته العلمية في "علم الحديث"، مع ما يتمتع به من فكرٍ ناضج، وعقلية واعية، وهو يتناول طرق حديث العباس بن مرداس الأسلمي والذي يؤكد أن الحاج يُغفر له ما تقدم من ذنبه، وأن المغفرة تشمل الصغائر والكبائر والتبعات وحتى مظالم العباد؛ وأن الله سبحانه يُرضي صاحب المظلمة بما ادخره له من الثواب العظيم والدرجات العالية في الجنة.
ولكن بعض الحفاظ كابن الجوزي تكلم في هذا الحديث، وحكم بوضعه من جميع طرقه، وقد سئل الإمام ابن حجر العسقلاني عن هذا الحديث، فكان ردُّه على ابن الجوزي في هذه الرسالة التي سماها "قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج"؛ فردَّ عليه رداً علمياً بمنهجيةٍ واعية ومستوعبة رحمة الله تعالى عليه.
وافتتح الحافظ كتابه مقدمة موجزة؛ تنمُّ عن براعة الاستهلال، وقوة الأسلوب، والفطنة التامة، ثم شره في ذكر الأحاديث الدالة على عموم المغفرة للحاج، فأورد طرق هذا الحديث وشواهده من حديث عُبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبو هريرة، وزيد، وترى في كل ذلك اليقظة والدقة في الحكم عليها وذكر ما فيها من العلل.
ثم تطرق بعد ذلك لحديث العباس بن مرداس؛ فقال: وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بتمامه، وأخرج أبو داود في "سننه" طرفاً منه، وسكت عنه، وما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج، وهو على رأي ابن الصلاح ومن تبعه "حسن"، وعلى رأي الجمهور حسنٌ بانضمام الطرق الأخرى إليه لا بانفراده. وعليه فيرى ابن حجر أنه ضعيف يعتضد بكثرة طرقه. وهو بذلك يوافق الإمام البيهقي الذي يرى أن: له شواهد كثيرة.
وختم الحافظ بفصلٍ في ضبط الأسماء والأنساب، وشرح غريب الألفاظ الواقعة في هذه الطرق على ترتيب ورودها في هذه الرسالة، فجاءت في غاية النفاسة والإتقان. وقد ضمنتها هذه الأحاديث دون فصلٍ. وقد انتهى الحافظ من تأليف هذا الكتاب سنة (842 هـ) أي قبل وفاته بعشر سنين.
بيان هذه الطرق التي ذكرها الحافظ ابن حجر
أما حديث (العباس بن مرداس)؛ فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في زيادة المسند (26/ 136):
حدثني إبراهيم بن الحجاج الناجي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري، عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه، أن أباه العباس بن مرداس حدثه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة، لأمته بالمغفرة، والرحمة فأكثر الدعاء)، فأجابه الله عز وجل: أن قد فعلت، وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضاً. فقال: (يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم، وتثيب المظلوم خيراً من مظلمته)، فلم يكن في تلك العشية، إلا ذا. فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة، فعاد يدعو لأمته، فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها، فما أضحكك، أضحك الله سنك. قال: (تبسمت من عدو الله إبليس، حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي، وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل، ويحثو التراب على رأسه، فتبسمت مما يصنع جزعه).
***
وقال الطبرانيُّ في "الكبير": حدثنا معاذ بن المثنى، وآخرون، قالوا: أنبأنا أبو الوليد الطيالسي، زاد معاذ: وأنبأنا عيسى بن إبرايهم، قالا: حدثنا عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي، عن أبيه، عن جده عباس بن مرداس، وذكره. وقال في روايته: (إلا ظلم بعضهم بعضاً، فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها). وقال فيها: فلما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه: (إني قد غفرتُ)، قال: (فتبسم). فذكره مثله إلى قوله: (على رأسه).
***
وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" ولفظه كلفظ رواية الطبراني، وفي أكثر الروايات لم يُسم "ابن كنانة".
وقد سماه بعضهم عن "عبد القاهر بن السري"، فقال ابن ماجه في "سننه": حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي، أن أباه، أخبره عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا لأمته عشية عرفة، بالمغفرة» فأجيب: «إني قد غفرت لهم، ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه» قال: «أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة، وغفرت للظالم»؛ فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة، أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال تبسم، فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك قال: «إن عدو الله إبليس، لما علم أن الله عز وجل، قد استجاب دعائي، وغفر لأمتي أخذ التراب، فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه»
***
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"، عن "علي بن سعيد"، عن أيوب بن محمد" بهذا السند، وسمى "ابن كنانة" عبد الله، كما عند ابن ماجه.
وقال في سياقه: عن أبيه "العباس بن مرداس"، وفيه: دعا ربه، وفيه: (أن الله أجابه بالمغفرة لأمته، إلا ظلم بعضهم بعضاً، فإنه يأخذ للمظلوم من الظالم، فأعاد الدعاء، فقال: "أي رب إنك قادرٌ على أن تُثيب المظلوم خيراً من مظلمته -أي تعوضه عن مظلمته -الجنة، وتغفر لهذا الظالم).
وفيه: فأجابه الله عز وجل: إني قد فعلتُ"، ولم يقل أو سُرَّ.
وفيه: ضحكتُ أن الخبيثَ "إبليس" حين علم أن الله استجاب دعائي.
***
وأخرج أبو داود هذا الحديث في "السنن"؛ فقال في كتاب "الأدب": حدثنا "عيسى بن إبراهيم البركي"، حدثنا "عبد القاهر بن السري"، عن "ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه عن جده: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر أو عمر أضحك الله سنك، وساق الحديث.
وسكت عليه أبو داود، فهو صالحٌ عنده، وقد أخرجه الحافظ "الضياء المقدسي" في "الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين" من طرق عن "عبد القاهر بن السري".
قال البيهقي: هذا الحديث له شواهد كثيرة، قد ذكرناها في كتاب "البعث"، فإن صح بشواهده ففيه الحجة.
قلتُ (يعني ابن حجر): جاء عن عبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وزيد "جد" عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد.
أ- أما حديث "عبادة بن الصامت" فأخرجه: عبد الرزاق في مصنفه، و"الطبراني في الكبير، من طريقه، عن معمر، عن من سمع "قتادة"، يقول:
حدثنا خلاس بن عمرو، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «أيها الناس، إن الله تطول -أي تفضل -عليكم في هذا اليوم، فيغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله».
فإذا كان بجمع، قال: «إن الله قد غفر لصالحكم، وشفع صالحكم في طالحكم، تنزل المغفرة فتعمهم، ثم تفرق المغفرة في الأرضين فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما صنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل ويقول: كنت استفزهم -أي استخفهم واحملهم على المعصية -حقباً من الدهر -والحِقب جمع حقبة، وهي الزمان من الدهر، وقيل: ثمانين سنة -، ثم جاءت المغفرة فغشيتهم -أي شملتهم -؛ فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور».
قال الحافظ: ورجال هذا السند ثقات، إلا الذي سمع "قتادة"، ولم يُسمه معمر؛ فإن كان ثقةً فهو على شرط الصحيح، وإن كان ضعيفاً فهو عَاضِدٌ للسند الذي قبله، وقد سمع معمرٌ من قتادة كثيراً، لكنه بيّن أنه بينه وبين قتادة فيه واسطة.
***
ب- وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في "مسنده" قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج -هو السامي البصري -بالسين المهملة، حدثنا صالح المري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تطول على أهل عرفات، يباهي بهم الملائكة -أي يُفاخر من البهاء والحسن والجمال، والمعنى: يُظهر على فضلهم الملائكة، ويُريهم حُسن أعمالهم -، يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً -والشعث هم متفرقي الشعور، والغبر إذا أصابه الغبار، وأطلق على الحاج لكونه يقع على المسافر غالباً-، أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق -الفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البالغ في الاتساع -، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنيهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جمع -وهي المزدلفة -ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله، يقول: يا ملائكتي، عبادي وقفوا فعادوا في الرغبة والطلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألني، وكفلت عنهم التبعات التي بينهم».
قال الحافظ: وهذا السند ضعيف، فإن صالحاً المري، وشيخه ضعيفان.
***
وقد أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" من وجهٍ آخر عن صالح المري. وذكره الحافظ المنذري في "الترغيب" من رواية: عبد الله بن المبارك، عنْ سفيان الثَّوريِّ، عن الزُّبير بن عديٍ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: وقف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ، وقد كادت الشَّمس أن تؤوب، فقال: يا بلال أنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنصت الناس فقال: «معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السَّلام آنفاً -أي قريباً -فأقرأني من ربِّي السلام، وقال: إن الله عزَّ وجلَّ: غفر لأهل عرفات، وأهل المشعر -أي موضع الموقف بالمزدلفة، وسمي بذلك لأنه من معالم العبادة وشعائر الحج -، وضمن عنهمُ التَّبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقال: يا رسول الله: هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكمْ، ولمنْ أتى من بعدكمْ إلى يوم القيامة، فقال عمرُ ابن الخطاب رضي الله عنه كثر خير الله، وطاب».
قال الحافظ: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك؛ فهو على شرط الصحيح. فقد أخرج البخاري من رواية الزبير بن عدي حديثاً ومسلمٌ من روايته حديثاً آخر. وقد أخرج مسدد بن مسرهد في "مسنده" لهذه الطريق شاهداً من وجهٍ آخر مرسلٌ رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه.
***
ج- وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} من سورة البقرة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن مجاهد، قال: «إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي؛ فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة: 199)»
***
ثم قال ابن جرير: حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: ثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا: ثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: «أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم أفيضوا على اسم الله».
فلما كان غداة جمع قال: «أيها الناس إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله».
فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً، وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سألت ربي بالأمس شيئاً لم يجُد -من الجود -لي به، سألته التبعات فأبى علي -من الإباء وهو الامتناع -، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: التبعات ضمنت عوضها من عندي»
قال الحافظ: وأخرجه أبو نُعيم في "الحلية" عن محمد بن عبد الرحمن بن مخلد، عن سهل بن موسى، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري. وأخرجه أبو نُعيم أيضاً من مسند الحسن بن سفيان، قال: حدثنا إسماعيل بن هود، حدثنا أبو هشام، حدثنا عبد الرحيم بن هارون الغساني، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، فذكره باختصار.
ولحديث ابن عمر طرقٌ أخرى، أخرجها أبو حاتم بن حبان في كتاب "الضعفاء"، من رواية يحيى بن عنبسة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وقف بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفات؛ فلما كان عند الدفعة استنصت الناس فأنصتوا؛ فقال: «أيها الناس إن ربكم تطول عليكم في يومكم هذا». فذكر الرواية السابقة بطولها، وقال: «ادفعوا باسم الله».
فقام أعرابيٌّ فأخذ بزمام الناقة، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما بقي من عمل إلا عملته، وإني لأحلف على اليمين الفاجرة، فهل أدخل فيمن وقف؛ فقال: «يا أعرابي، أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله»؟ قال: نعم، بأبي أنت. فقال: «يا أعرابي إن تحسن فيما تستأنف يُغفر لك»
***
د- وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه أبو حاتم بن حبان أيضاً في كتاب "الضعفاء"، والدارقطني في "غرائب مالك مما ليس في الموطأ" من رواية: أبي عبد الغني الحسن بن علي الأردني -موضع بالشام-، عن عبد الرزاق عن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
«إذا كان يومُ عرفةَ، غفرَ اللهُ لِلْحاجِّ، فإنْ كان ليلةُ مُزْدَلِفَةَ غفرَ لِلتُّجّارِ، فإنْ كان يومُ مِنًى غفرَ لِلْجَمّالِينَ، فإِذا كان يومُ الجمرةِ غفرَ لِلسُّؤّالِ؛ فلا يشهد ذلك الموضع أحدٌ إلا غُفر له»
قال ابن حبان في "الضعفاء": أبو عبد الغني يضع الحديث على الثقات، لا تحل الرواية عنه بحال. وقال الدارقطني: هذا حديثٌ باطل، وضعه أبو عبد الغني على عبد الرزاق.
***
هـ- وأما حديث زيد؛ فأخرجه أبو عبد الله بن منده في كتاب "الصحابة" من طريق: محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن صالح بن عبد الله بن صالح، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، قال:
«أيها الناس إنَّ اللَّهَ قد تطَوَّلَ علَيكم في يومكم هذا فوَهبَ مُسيئَكم لِمُحسنِكم، وأعطى مُحسنَكم ما سألَ؛ وغفر لكم ما كان بينكم»
وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" من حديث العباس بن مرداس، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبادة بن الصامت، وقال: قال ابن حبان: كنانة منكر الحديث جداً. ولا أدري التخليط منه أو من ولده.
وقال في (حديث ابن عمر): عبد العزيز بن أبي روّاد، قال ابن حبان: كان يُحدث على الوهم والحسبان. وعبد الرحيم كذبه الدارقطني، وبشار مجهول، ويحيى كذبوه.
وقال في (حديث أبي هريرة): الحسن بن علي أبو عبد الغني، كان يضع الحديث.
وقال في (حديث عُبادة): شيخ معمر الذي حدثه عن قتادة لا يُعرف حاله، وخلاس كان مُغيرة بن مِقسَم لا يعبأ به -أي: لا يأبه به -. وقال: أيوب لا يروي عنه فإنه صحفي -منسوبٌ إلى الصحيفة، وقد يُطلق على من يُوهم أنه سمع ولم يسمع، وإنما يروى في الصحيفة التي يجدها؛ فيُطلق الأخبار والتحديث موضع الوجادة، وهو من جملة التدليس-.
قال الحافظ ابن حجر: حكمه (يعني ابن الجوزي) على هذا الحديث بأنه موضوع لما ذكر من العلل التي في أسانيده مردود؛ فإن الذي ذكره لا ينهض دليلاً على كونه موضوعاً، أما حديث العباس؛ فقد اختلف قول ابن حبان فذكره في "الثقات" وذكره في "الضعفاء"، وذكر ابن منده: أن له رؤية يعني من النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره البخاري في "الضعفاء"، وقال: لم يصح حديثه. وتبعه: أحمد بن عدي، ونقل كلام البخاري فيه.
وأما ولده "عبد الله بن كتانة" ففيه كلام ابن حبان أيضاً، وكل ذلك لا يقتضي الحكم على الحديث بالوضع، بل غايته أن يكون ضعيفاً، ويعتضد بكثرة طرقه.
وأما حديث ابن عمر، ففيه: عبد العزيز بن أبي رود: وثقه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والعجلي، والدارقطني، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: كان صالحاً، وليس في الثبت مثل غيره. وتكلم فيه جماعةً من أجل الإرجاء، وقال القطان: لا يُترك حديثه لرأي أخطأ فيه. ومن كان هذا حاله؛ فلا يوصف حديثه بالوضع.
وأما بشار؛ فلم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وقد توبع.
وأما عبد الرحيم ويحيى بن عنبسة في حديث أبي هريرة فجرحهما ثابت، لكن الاعتماد على غيرهما، فكأن حديثهما لم يكن.
وأما حديث عبادة فليس فيه إلا الرجل المبهم، ولا يستحق أن يوصف بالوضع بمجرد أن راويه لم يُسمّ.
وأما كلامه في خلاص؛ فمردودٌ، فإنه ممن أخرج له البخاري، ومسلم ،وقال فيه أحمد بن حنبل: ثقة. وكما قال: روى عن علي وأبي هريرة من صحيفة، ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع.
وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق.
وقد ورد ما في الحديث في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها:
-فمنها: ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، والنسائي، وابن ماجه، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما مِن يومٍ أكثَرُ أنْ يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا مِن النّارِ مِن يومِ عَرَفَةَ وإنَّه لَيدنو فيُباهي بهم الملائكةَ فيقولُ ما أراد هؤلاءِ).
-وعند أحمد وصحح ابن حبان والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ أهلَ السَّماءِ فيقولُ لهم انظُروا إلى عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا)
-وعند أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كان يقول: (إنَّ اللهَ يُباهي ملائكته بعبده عشية عرفة…) الحديث.
-وعند ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي، عن جابرٍ رفعه: (ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا؛ فيُباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا ضاجِّينَ -من الضجيج وهو الصياح في المجتمع-من كلِّ فَجٍّ عَميقٍ، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يومٌ أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة).
وزاد البيهقي: (فتقول الملائكة: إن فلاناً فيهم، وهو مُرهق أُشهِدُكم، قال: فيقول الله عز وجل أنِّي قد غَفَرْتُ لهم).
قال الحافظ: وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهدٌ لبعض حديث ابن عمر، رابع أحاديث الباب.
-وقد أخرج مالك في "الموطأ" عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ما رؤي الشيطانُ أحقرَ ولا أدحرَ ولا أصغرَ من يومِ عرفةَ، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام) هذا مرسلٌ. وقد وصله الحاكم من حديث أبي الدرداء.
-ومنها: ما أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع، وفيه: (فإذا وقَفَ بِعرفةَ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدنيا فيقولُ: انظُروا إلى عِبادِي شُعْثًا غُبْرًا، اشْهَدُوا أَنِّي غَفَرْتُ لهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وإن كانَتْ عَدَدَ قَطْرِ السَّماءِ، ورَمْلِ عالِجٍ)
-ومنها: ما أخرجه البيهقي من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُسلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفةَ بالموقِفِ مُستَقبِلًا بوَجْهِه، ثمَّ يقولُ: لا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ؛ مائةَ مَرَّةٍ، ثمَّ يقرَأُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائةَ مَرَّةٍ، ثمَّ يقولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ كما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، وعَلَينا معهم، مائِةَ مَرَّةٍ، إلّا قال اللهُ تعالى: يا ملائِكَتي، ما جَزاءُ عَبْدِي هذا، سَبَّحَني وهَلَّلَني وكَبَّرَني وعَظَّمَني وَعَرَفَني وأثنى عَلَيَّ، وصَلّى علي نَبِيِّي؟ اشهَدوا يا ملائكَتي أنِّي قد غَفَرْتُ له وشَفَّعتُه في نَفْسِه، ولو سألني عبدي هذا لشَفَّعْتُه في أهلِ الموقِفِ).
قال البيهقي: ليس في سنده من يُنسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48).فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك. والله أعلم.