الغسل من غسل الميت
[دراسة فقهية حديثية]
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
غزَّة -فلسطين
اختلف العلماء في إيجاب الغسل على من غسَّل ميتاً، على ثلاثة أقوال:
أ- ذهب جمهور الفقهاء من: الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة، إلى استحباب الغسل والوضوء من غسل الميت، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وابن المبارك، الحسن البصري، وهو قول ابن باز من المتأخرين.
ب- وذهب بعض المالكية والشافعية إلى وجوب الاغتسال، وهو مذهب علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، ونقله الترمذيُ في "سننه" مذهباً لبعض الصحابة، وهو قول ابن المسيب، وابن سيرين، والزهري. وهو قول أبي إسحاق الشيرازي من الشافعية.
ج- وذهب الإمام أحمد وإسحاق والنخعي، إلى إيجاب الوضوء من غسل الميت، ووجوب الغسل من غسل الكافر خاصة.
تعليق الشَّافعي على القول به بصحة الحديث
علّق الشافعيّ القول بوجوب الغسل على صحّة حديث (مَنْ غَسَّلَ الميت فليغتسل)، ونقل ذلك عنه في "البويطيّ". وقال الماوردي في "الحاوي": إن من أصحاب الحديث من أخرج لصحته مائة وعشرين طريقاً. وقال الحافظ في "التلخيص": وليس ذلك ببعيد، ولكن الماوردي عاد إلى تضعيفه! وكذلك قال النووي في "شرح المهذب".
وقال الشافعيُّ في "الأم": "وأولى الغسل عندي أن يجب بعد غسل الجنابة: من غسل الميت، ولا أحب تركه بحال، ولا ترك الوضوء من مسه مفضياً إليه"، ثم قال: "إنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع من معرفة ثبت حديثه إلى يومي هذا على ما يقنعني؛ فإن وجدتُ من يقنعني من معرفة ثبت حديثه أوجبت الوضوء من مس الميت مفضياً إليه؛ فإنهما في حديث واحد". وذكر نحوه البيهقي في "المعرفة والسنن"، وفي "الكبير" أيضاً.
وقال الحافظ عبد العظيم المنذري في "مختصر سنن أبي داود": وقال الشافعي في البويطي: إن صح الحديث قلتُ بوجوبه.
السبب الحامل للشافعي على تضعيف الحديث
وأما السبب الذي حمل الشَّافعي -رحمه الله -على عدم القول بصحته، هو ما نقله الإمام البيهقي في "المعرفة والسنن": "وقال في غير هذه الرواية: وإنما لم يقو عندي أنه (أي الحديث) يروى عن سهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح. وبين أبي هريرة: إسحاق مولى زائدة، فدل أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة. وليست معرفتي بإسحاق مولى زائدة مثل معرفتي بأبي صالح، ولعله أن يكون ثقة".
وسيأتي الجواب عن ذلك عند الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المسند": حيث قال: يحتمل أن أبا صالح سمعه من أبي هريرة، وسمعه أيضاً من إسحاق مولى زائدة، وهو ثقة، وإسحاق حدَّث به عن أبي هريرة، ولا تنافي بين الطريقين.
ذكر تضعيف بعض أهل العلم لحديث أبي هريرة
وقد ضعف حديث أبي هريرة جمعٌ من أهل العلم، منهم: محمد بن يحيى الذهلي، وابن المديني، وأحمد، والبخاري، وأبو حاتم، والدارقطني، والبيهقي، وفيهم من صحح وقفه على أبي هريرة.
وقد لخص القول فيه ابن الجوزي في «العلل المتناهية»؛ فقال: «أما حديث أبي هريرة، ففي طريقه الأول: صالح مولى التوأمة، قال مالك: ليس بثقة، وكان شعبة ينهى أن يؤخذ عنه، وفي طريقه الثاني: محمد بن عمرو، قال يحيى: ما زال الناس يتقون حديثه، وفي طريقه الثالث: المحفوظ فيه أنه موقوف على أبي هريرة، وفي طريقه الرابع: رجل مجهول»
ولكن يبقى علينا مناقشة هذا الحديث والتوسُّع في بيان طرقه، والحكم عليها بما يُناسبها، وتفصيلُ ذلك؛ فيما يأتي:
بيان حال حديث أبي هريرة: (من غسَّل ميتاً فليغتسل)
عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم، قال: (مَنْ غَسَّلَ الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً:
أ- فمنهم من صححه مرفوعاً وموقوفاً: كالإمام الترمذي والبغويّ، وابن حبّان، وابن السَّكن؛ وقال الترمذيُّ في "السنن": حديث أبي هريرة حديثٌ حسن، وقال البغويُّ في "شرح السُّنة" هذا حديثٌ حسن. وصححه ابن حبان.
ب- ومنهم من صححه موقوفاً لا مرفوعاً: كالإمام البخاري، وابن أبي حاتم، والبيهقي، فقد قال البخاريّ: الأشبه وقفه على أبي هريرة. وقال البيهقيُّ: والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً غير مرفوع. وقال ابن أبي حاتم في "العلل"، قال أبي: هذا خطأ، إنما هو موقوفٌ عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات.
ج - ومنهم من ضعَّفه مرفوعاً وموقوفاً: كالإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذهلي، وابن المنذر. فقد قال الإمام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء (ذكره الترمذي في العلل الكبير). وقال الذهليّ كما في "سنن البيهقي": لا أعلم فيه حديثا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر في "الأوسط": ليس في الباب خبرٌ يثبت، والرافعي في "نيل الأوطار" قال: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئاً مرفوعاً.
مناقشة طرق هذا الحديث:
أ- أخرجه أحمد في "مسنده"، والترمذي في "سننه"، وابن ماجه في "سننه"، وابن حبان في "صحيحه" كلهم: من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة به، واللفظ للترمذي.
وقال الترمذي: (حديث حسن، وقد روى عن أبي هريرة موقوفًا).
وعلَّق الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المسند" على عبارة الترمذي؛ فقال: (كأنه يريد إعلال المرفوع بالموقوف. وما هذه بعلة، فالرفع زيادة من ثقة -بل من ثقات، فهي مقبولة دون تردد؛ فهؤلاء ثلاث ثقات: ابن جريج هنا: في المسند، وحماد بن سلمة: عند ابن حبان، وعبد العزيز المختار: عند الترمذي، والبيهقي، وابن ماجه، ورووه: عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً، وإسناد المسند هنا على شرط الشيخين، والأسانيد الأخرى على شرط مسلم).
ب- وتابع سهيل بن أبي صالح: القعقاع بن حكيم، وذلك فيما أخرجه البيهقي في "سننه" من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وفي ذلك يقول الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المسند": (ثم إن سهيلاً لم ينفرد بروايته عن أبيه، بل تابعه عليه القعقاع بن حكيم: فرواه أيضاً البيهقي، من طريق محمَّد بن جعفر بن أبي كثير، عن محمَّد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به، مرفوعًا. وأشار البخاري أيضاً إلى هذه الرواية، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم).
ج- وأخرجه أبو داود في "سننه" من طريق: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة، بمعناه.
وقال أبو داود: منسوخ، وسمعتُ أحمد بن حنبل، وسئل عن الغسل من غسل الميت؛ فقال: يجزئه وضوؤه. وقال أبو داود: أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث: إسحاق مولى زائدة.
وفي ذلك يقول الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المُسند": (ثم أعله بعض الأئمة بعلة أخرى، هي زيادة رجل في الإِسناد، بين أبي صالح وأبي هريرة: فرواه أبو داود: عن حامد بن يحيى، عن سفيان -وهو ابن عيينة - عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحق مولى زائدة، عن أبي هريرة، مرفوعًا بمعناه).
ففي هذه الطريق أدخل أبو صالح إسحاق بن عبد الله المدني -مولى زائدة بينه وبين أبي هريرة، وهذا لا يضر؛ فأبو صالح ثقةٌ، وكما قال أحمد: من أجل الناس وأوثقهم، فيحتمل أنه سمعه من أبي هريرة، وسمعه أيضاً من إسحاق مولى زائدة، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في "الصحيح" والبخاري في "القراءة خلف الإمام"، وروى له أبو داود والنسائي. فهذه الطريق إن لم تزد الطريق الأولى قوَّةً فهي لا تُضعفها.
د- وأخرجه أبو داود -أيضاً -من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عُمير، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (من غسل ميتاَ فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)
وقد أخرجه ابن حزم في "المحلى" من نفس الطريق، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق أبي داود، وقال: عمرو بن عمير إنما يُعرف بهذا الحديث وليس بالمشهور. وعمرو بن عُمير قال عنه الذهبيُّ في "الميزان": تفرد بالرواية عنه القاسم بن عباس اللهبي، وقال ابن حجر في "التقريب" مجهول، وعلى ذلك فالحديث بهذا الإسناد ضعيف.
هـ- وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق: محمد بن عبد الرحمن، وإسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء).
و- وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من طريق:سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء) يعني الميت والجنازة.
والحارث بن مخلد الزرقي الأنصاري، قال عنه الحافظ في "التقريب": مجهول الحال. وقال في "الإصابة": تابعيٌّ أرسل حديثاً واحداً، فذكره ابن شاهين في الصحابة!! … والحديث معروفٌ لأبي هريرة. والحارث معروفٌ بصحبة أبي هريرة، وقد ذكره في التابعين الإمام البخاري، وابن حبان، وغيرهما، وقال البزار: ما هو بالمشهور. انتهى.
وعليه: فهذا إسنادٌ صحيح، والحارث بن مخلد وإن كان الحافظ قد ذكر أنه مجهول الحال، إلا أنه لم ينفرد به، بل تابعه غير واحد كما سبق.
ز- وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعتُ أبا هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (من غسَّل ميتاً فليغتسل).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والطيالسي في "مسنده" من طريق ابن أبي ذئب به. وإخرجه البيهقيُّ في "السنن الكبرى" من طريق أحمد، وقال: هذا هو المشهور من حديث ابن أبي ذئب، وصالح مولى التوأمة ليس بالقوي.
وقال الحافظ في "التلخيص": حديث: (من غسل ميتا فليغتسل) رواه أحمد، والبيهقيّ، من رواية ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة بهذا، وزاد: (ومن حمله فليتوضأ). وصالح ضعيف.
وكذا أخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، والبغوي في "شرح السنة" كلاهما من طريق ابن أبي ذئب، وقال البغويُّ: هذا حديثٌ حسن.
وعليه: فهذا الحديث إسناده حسن، وصالح مولى التوأمة، قال عنه الحافظ في "التقريب": ثقة، اختلط بأخرة. ولكن رواية ابن أبي ذئب عنه قبل الاختلاط.
وقد أخبر الإمام أحمد أن سبب ترك مالكٍ وغيره له: أن مالكاً أدركه وقد اختلط، وقال: قد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث، وما أعلم به بأساً. وقال ابن معين: ثقة وقد كان خرف قبل أن يموت فمن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت، وقال ابن معين وأبو أحمد بن عدي: إن مالكاً أدركه بعد أن كبر وخرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف.
ولذا تعقَّب علاء الدين ابن التركماني في "الجوهر النقي" البيهقي لما أورد هذا الحديث، وقال: صالح مولى التوأمة ليس بالقويِّ؛ فقال: (قلت: رواه عن صالح ابن ابى ذئب، وقد قال ابن معين: صالح ثقة حجة، ومالك والثوري أدركاه بعد ما تغير، وابن ابى ذئب سمع منه قبل ذلك، وقال السعدى حديث ابن أبي ذئب عنه مقبول؛ لتثبته وسماعه القديم منه، وقال ابن عدي لا اعرف لصالح حديثاً منكراً قبل الاختلاط).
ح- وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"، من طريق: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليتوضأ). وقال البخاري: لا يصح.
وأخرجه ابن حزم في "المحلى"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" من ذات الطريق، بنحوه. وأخرجه البيهقي في "السنن" من طريق البخاري.
ورجال هذا الإسناد ثقات، ومحمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي، قال عنه ابن حجر في "التقريب" صدوقٌ له أوهام، وقال المزي: روى له البخاري مقروناً بغيره، ومسلمٌ في المتابعات، واحتجَّ به الباقون. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقةٌ مكثر، من رجال الشيخين.
وقد علَّق الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المسند" على إسناد البخاري، بقوله: (وهذا إسناد كالشمس، لا شك في صحته) ثم ذكر أن البخاري رجح رواية الدراوردي، عن محمد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة من قوله موقوفاً وليس مرفوعاً. وقد تبع البخايُّ في ذلك: الترمذي، والبيهقي، حيث قال: (والصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً غير مرفوع).
وأنت ترى أن الحديث مرفوعٌ في هذه الرواية، وكذلك جاء مرفوعاً من طريق أبي يحيى البكراوي عند ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، والبزار في "البحر الزخار" وأبو يحيى هذا: اسمه عبد الرحمن بن عثمان، وهو ضعيف. وجاء رفعه من طريق ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به.
لكن كما قال البيهقي: ابن لهيعة ضعيف، وحنين بن أبي حكيم: لا يُحتجُّ به. وقد روي هذا الحديث موقوفاً من طريق: عبدة بن سليمان، والدار وردي، والمعتمر بن سليمان، وعبد الوهاب بن عطاء. وقال البخاريُّ: وهذا أشبه. وقال: الصحيح عن أبي هريرة من قوله موقوفاً.
وقال الحافظ في "التلخيص": وأما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فإسناده حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً.
ط- وأخرجه البيهقي في "السنن"، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" من طريق: زهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ).
وقال البيهقي: زهير بن محمد، قال البخاريُّ: روى عنه أهل الشام أحاديث مناكير، وقال أبو عبد الرحمن النسائي: زهير ليس بالقوي.
وقال ابن الجوزي: قال الدارقطني: وقد روى هذا اللفظ زهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، وليس بمحفوظ.
وزهير بن محمد من رجال الشيخين، ولكن قال البخاريُّ في "": ما رواه عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما رواه عنه أهل البصرة فإنه صحيح، ونحو ذلك قال أحمد، وأبو حاتم، والنسائي. وهذا الحديث من رواية الشاميين عنه؛ فعمرو بن أبي سلمة دمشقي، فالحديث بهذا الإسناد ضعيف، لكن لا بأس به في الشواهد.
ك- وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف": عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجلٍ يُقال له أبو إسحاق، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من غسَّل ميتاً فليغتسل).
ومن طريق عبد الرزاق رواه أحمد في "المسند". ورواه أحمد من طريقٍ آخر، عن يحيى بن أبي كثير عن رجلٍ من بني ليث، عن أبي إسحاق، أنه سمع أبا هريرة فذكره مرفوعاً. وهذان الإسنادان ضعيفان؛ لجهالة أبي إسحاق، وجهالة الرجل من بني ليث في الإسناد الثاني.
ولذلك قال الشيخ أحمد شاكر في "تخريج المسند": إسناده ضعيف؛ لجهالة أبي إسحاق روايةً، وإن كان المتن صحيحاً.
شواهد أخرى لحديث أبي هريرة:
1- حديث عليِّ بن أبي طالب، قال: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ عمَّك الشيخ الضّال قد مات، قال: (فاذهب فوارٍ أباكَ، ثُمَّ لا تُحدثنَّ شيئاً حتى تأتيني)؛ فذهبتُ فواريته، وجئته، فأمرني فاغتسلتُ، ودعا لي.
أخرجه أحمد في "مسنده"، وابن أبي شيبة في "مصنفه"،أبو داود والنسائي في "سننهما"، وأبو يعلى في "مسنده"، والبيهقي في "سننه": من طريق أبي إسحاق (يعني الهمداني)، عن ناجية بن كعب، عن علي به.
وضعفه البيهقي في"السنن"؛ فقال: وناجية بن كعب الأسدي لم تثبت عدالته عند صاحبي الصحيح، وليس فيه أنه غسله. وقال علي بن المديني: حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يواري أبا طالب لم نجده إلا عند أهل الكوفة وفي إسناده بعض الشيء، رواه أبو إسحاق عن ناجية ولا نعلم أحداً روى عن ناجية غير أبي إسحاق، قال الإمام أحمد: وقد روي من وجه آخر ضعيف عن علي هكذا.
وقال الحافظ في "التخليص": ومدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه، وقد قال الرافعي: إنه حديث ثابت مشهور، قال ذلك في أماليه. وقال الحافظ في "الإصابة" صححه ابن خزيمة.
وهذا الحديث أيضاً: صححه أحمد شاكر في "تخريج المسند"، والألباني في "الإرواء"، وقال: سندٌ صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين، غير ناجية بن كعب، وهو ثقةٌ كما في "التقريب".
ولم ينفرد به ناجية بن كعب، بل تابعه عليه: عبد الرحمن السُّلمي، فيما رواه أحمد في "مسنده"، وابنه عبد الله في "زوائده على المسند"، وأبو يعلى في "مسنده" من طريق: الحسن بن يزيد الأصم، قال: سمعتُ السُّدي، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن علي، وزاد في آخره، قال السُّدي: وكان عليٌّ إذا غسَّل مستاً اغتسل.
وصححه أحمد شاكر في "تخريج المسند" وقال: إسناده صحيح، وقال الألباني في "الإرواء": هذا سندٌ حسن، رجاله رجال مسلم، غير الحسن فإنه صدوقٌ يهم، كما في "التقريب".
2- حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، وغسل الميت).
أخرجه أبو داود في "سننه" من طريق: مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب العنزي، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة. وقال أبو داود: حديث مصعب ضعيف، فيه خصالٌ ليس العمل عليه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، بلفظ: (يغتسل من غسل الميت)، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، وقال الذهبيُّ في التلخيص: رواه أبو نعيم عنها على شرط البخاري ومسلم.
وضعفه ابن عبد البر في "الاستذكار"، وأورد عن عائشة أنها سئلت عن الغسل من غسل الميت؟ فقالت: لا . فدل ذلك على بطلان الحديث؛ لأنه لو صحَّ ما خالفته.
وقال الحافظ في "التلخيص": في إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة، وأحمد، والبخاري، وصححه ابن خزيمة. (والحاكم والذهبي).
3- حديث حذيفة رضي الله عنه: قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غسل ميتاً فليغتسل).
أخرجه البيهقي في "السنن" من طريق: الحسن بن سفيان النسوي، عن محمد بن منهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا معمر بن راشد، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة به. وقال البيهقي: قال أبو بكر بن إسحاق الفقيه: خبر أبي إسحاق عن أبيه، عن حذيفة ساقطٌ، وقال علي بن المديني: لا يثبت فيه حديث.
وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": وعن حذيفة: ذكره ابن أبي حاتم والدارقطني في العلل، وقالا: إنه لا يثبت، قلت: ونفيهما الثبوت على طريقة المحدثين، وإلا فهو على طريقة الفقهاء قوي، لأن رواته ثقات، أخرجه البيهقي، من طريق معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، وأعله بأن أبا بكر بن إسحاق الضبعي، قال: هو ساقط. قال علي بن المديني: لا يثبت فيه حديث، انتهى.
ومما سبق من حديث حذيفة يتبين أن في إسناده من لا يُحتج به، ولكن طرق الحديث وشواهده الكثيرة لا تدع أدنى شك في تصحيحه.
4- حديث المغيرة بن شعبة: أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يقول: (من غسّل ميتاً فليغتسل).
أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق، قال: وكنتُ قد حفظتُ من كثيرٍ من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن المغيرة بن شعبة، أنه حدثه به. وهذا إسنادٌ ضعيف، لجهالة شيوخ محمد بن إسحاق، لكن لا بأس به في الشواهد. والحديث ذكره السيوطي في "الجامع الصغير"، وأشار إلى أنه حسن، وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
والخلاصة في هذا حديث أبي هريرة: أنه: حديثٌ صحيح، وعليه؛ فإنه يصلح الاحتجاج به لمن قال بوجوب الغسل من غسل الميت، وصححه ابن حبان، وحسنه الترمذي، وقال الحافظ ابن حجر: وهو - بكثرة طرقه - أقل أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض. وقال الذهبي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، وصححه الإمام الألباني.
أدلة القائلين بوجوب الغسل:
استدل القائلين بوجوب الغسل، بالأحاديث السابقة؛ كحديث أبي هريرة، وحذيفة، وعائشة، والمغيرة، وفيها: (من غسَّل ميتاً فليغتسل).
وقالوا: إن الغسل هنا تعبّدي، أو هو محمول على نجاسة بدن الآدمي بالموت، وهو قول بعضهم.
أدلة القائلين باستحباب الغسل من غسل الميت:
واستدلَّ القائلين باستحباب الغسل من غسل الميِّت بأمورٍ منها:
1- أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف، ولو صحَّ لكان محمولاً على الاستحباب، وقد ثبتت صحة الحديث فلم يبق إلا القول باستحبابه، وقد استدلوا لذلك بأحاديث منها:
(أ) ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" من حديث عكرمة عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم).
قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط البخاري ولم يُخرجاه، وفيه رفضٌ لحديثٍ مختلف فيه على محمد بن عمرو بأسانيد: (من غسل ميتاً فليغتسل). وقال الذهبيُّ في "التلخيص": على شرط البخاري، ثم تعقب الحاكم برفضة حديث أبي هريرة، فقال: بل نعمل بهما فيُستحبُّ الغسل.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"، والبيهقي في "الكبرى" موقوفاً ومرفوعاً، وضعف المرفوع، وقال ابن القطان في "الوهم والإيهام": فيه عمرو بن أبي عمرو مختلف فيه وأبو شيبة ضعيف، وقال ابن الملقن في "البدر المنير": صحيح على شرط البخاري، وقال ابن تيمية في "شرح العمدة": إسناده جيد ولم يتكلم في أحد منهم إلا في خالد بن مخلد القطواني، وعمرو بن أبي عمرو. وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": إسناده حسن. وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج": صحيح أو حسن، وصححه الإمام الألباني في "صحيح الجامع".
(ب) ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، قال: ثنا وهب، ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (كنا نغسل الميت؛ فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل).
وأخرجه الخطيب في "تاريخه"، وقال الحافظ في "التلخيص": إسناده صحيح، وحضَّ الإمام أحمد ابنه عبد الله إلى كتابة هذا الحديث. قال الحافظ: وهو أحسن ما جمع به بين مختلف الأحاديث، والله أعلم.
(ج) روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل).
أخرجه أحمد في "مسنده"، والدارقطني في "سننه"، والبيهقي في "الكبرى"، والخطيب في "تاريخه"، وقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" صحيح، وقال الحافظ في "التلخيص": إسناده صحيح. ومثله شعيب الأرناؤوط في "تخريج أبي داود"، ومثله الألباني في "تمام المنة".
(د) وروي عن أسماء بنت عميس أن زوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين توفي، سألت من حضرها من المهاجرين؛ فقالت: (إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة، فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا).
أخرجه مالك في "الموطأ"، وأبو داود في "سننه"، وقال البغويّ -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح السنة": رجاله ثقات، لكنه منقطع، عبد اللَّه بن أبي بكر، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم لم يدرك أسماء.
وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه": منقطع جيد، وقال الألباني في "تمام المنة": منقطع. وقال الأرناؤوط في "تخريج شرح السنة" رجاله ثقات، لكنه منقطع.
2- قالوا: ولأن بدن الميت طاهر، وغسل الميت لا ينقض الوضوء فضلاً عن لمسه؛ أو حمله، فتغسيله ليس بحدثٍ، ولو صح: كان معناه أن يتوضأ إن كان محدثاً؛ ليكون على وضوء فيصلي عليه مع المصلين.
المصادر والمراجع:
المنتقى شرح الموطأ؛ للباجي.
المنهل العذب المورود؛ محمود محمد خطاب السبكي
فقه السنة؛ سيد سابق.
الأم؛ للشافعي.
شرح السُّنة للبغوي.
التلخيص الحبير؛ لابن حجر.
ذخيرة العُقبى في شرح المجتبى، محمد بن علي الإثيوبي.
الموسوعة الفقهية الكويتية.
النظر فيما علق الشافعي القول به على صحة الأثر.
المجموع شرح المهذب.
الإقناع شرح ألفاظ أبي شجاع.
مصادر أخرى.