أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 يناير 2021

استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال -تأليف الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الشهير بالصنعاني

استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال


تأليف الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الشهير بالصنعاني

مكتبة دار القدس -صنعاء/ اليمن، ط1، 1992 م.

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذه رسالة وافيةٌ ومختصرة للإمام الصنعاني في بيان حكم إسبال الإزار، وقد بسط فيها الجواب، واستوفى الأقوال، وسماها "استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال"، جمع فيها جملةً طيبةً من الأحاديث التي تدل بظاهرها على تحريم إرخاء الثوب تحت الكعبين، وردَّ فيها على الذين يُبيحون ذلك لغير الخيلاء، وجمع بين الأدلة جمعاً طيباً، وتوصل إلى أن الإسبال محرم مطلقاً؛ سواء قُصد به الخيلاء أم لم يقصد، على أن في المسألة خلافاً معتبراً لا يُمكن إلغاؤه أو تجاهله، وهو في حق من أسبل ثوبه من غير خيلاء.

وبيَّن المؤلف -رحمه الله -ما ورد من الوعيد بالنار لمن أسبل الإزار، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم أمر من صلَّى مُسبلاً بإعادة الوضوء والصلاة -مرتين، وقال له: (إن الله لا يقبل صلاة رجلٍ مُسبلٍ إزاره) /رواه أبو داود والبيهقي/، وصححه النوويُّ، وفي حديث أبي هريرة: (أنه -صلى الله عليه وسلم -نهى عن السدل في الصلاة) /رواه أبو داود والترمذي/.

وقد جاء النهي عن الإسبال في أحاديث كثيرة، منها: حديث ابن عمر، وقوله له: (يا عبد الله، ارفع إزارك) /رواه مسلم/، وقوله في حديث أبي هريرة: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) /رواه البخاري/.

واختلف أهل العلم في هذا الأمر: هل المقصود بهذا النهي هو الإسبال عموماً، أو الإسبال مع المخيلة ؟ مع اتفاقهم على أن الإسبال مع المخيلة حرامٌ، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر إليهم.. وذكر منهم المُسبل إزاره خيلاء)، وأما إن كان الإسبال بدون كبر أو خيلاء، فذهب بعض أهل العلم إلى: التحريم، لعموم الأحاديث الناهية عن الإسبال، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإسبال مع عدم الخُيلاء: مباح وتركه أولى، لأن عدم الإسبال هو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان إزاره -عليه الصلاة والسلام -فوق كعبيه. 

ولكن قد يُقال إن نفس الإسبال مدعاةٌ إلى الكبر والخُيلاء، وإن لم يقصد المُسبل ذلك ابتداءً، وهذا يُقوي جانب الحرمة عند من قال بذلك. بالإضافة إلى اختلاف العقوبة في الحالتين: فيمن أسبل خيلاء، وفيمن لم يُسبل خيلاء، فموجبها في النوع الأول هو الكبر المقرون بالإسبال، وموجبها في النوع الثاني هو الإسبال فقط.

وكما قال ابن حجر في"الفتح": وحاصله أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء.

ولكن كيف تعامل الفقهاء مع أحاديث الإسبال؟.

أ- نظر جمهور الفقهاء إلى النصوص الواردة في تحريم الإسبال نظرة كلية، فرأوا أن الأحاديث الواردة في هذا الباب: منها ما هو مطلقٌ؛ كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) /رواه البخاري/، ومنها ما هو مُقيَّدٌ بالكبر والخُيلاء، كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إن الله لا ينظر إلى من جر إزاره بطراً) /رواه مسلم/؛ فحملوا المطلق على المُقيد، وخصُّوا التحريم بما يُقارنه الكبر.

بالإضافة إلى قولهم بمفهوم الصفة، وهي هنا "الخيلاء": ولا شكَّ أن الخيلاء علَّةٌ مؤثرة في الأحكام الشرعية، وتجعل الشيء من باب المُحرَّم لغيره. 

ب- وأما المُحرمون مطلقاً؛ فلم يحملوا المطلق على المقيد، وإنما رأوا أن المطلق يبقى على إطلاقه، والمُقيّد يبقى على قيده، وذلك أن المُقيَّد إنما هو فردٌ من أفراد العام، وليس مُخصصاً له، ويؤيده ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، عن أبي جري الهجيمي مرفوعاً: (وإياك والإسبال؛ فإنه من المخيلة) /صحيح/؛ فجعل نفس الإسبال من الكبر والمخيلة؛ فيكون لفظ الإسبال متناولاً للأمرين.

 كما أنه لو جاز الإسبال لغير المخيلة: لما جاز أن يطلق صلى الله عليه وسلم النهي؛ فإن المقام مقام بيان، ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وأي حاجة أشد من مقام النهي؛ فدلَّ على حرمة الاسبال سواءٌ كان مقروناً بالمخيلة أم لا.

وقالوا -أيضاً: إن الوصف المُقيّد (الخُيلاء) خرج مخرج الغالب؛ وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له عند جمهور الأصوليين؛ وعليه فلا يحل الإسبال ولو مع عدم الخيلاء. 

ولكن الجمهور يُجيبون عن ذلك؛ فيقولون: نعم، إن التقييد بـ(الجر خُيلاء) خرج مخرج الغالب، ولكن لا يعني ذلك إلغاء اعتبار هذا الوصف في غيره من الصور، فالبطر والتبختر مذمومٌ شرعاً، ولو لمن شمر ثوبه، وعليه فالخيلاء وصفٌ معتبر، ويصلحُ علَّة للنهي في كلا الحالتين؛ فيكون ذكر في بعض النصوص تصريحاً، ويُفهم من النصوص الأخرى تقديراً، فالمقصود هو مراعاة الزينة وترك الإسراف جمعاً بين الأدلة.

وقال المُحرِّمون: ومما يدل على عدم النظر إلى علة (الخيلاء) أمره صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه برفع ثوبه وتشميره، وهل يظن بأن ابن عمر يخبل ذلك للخيلاء؛ حتى يأمره بذلك، هذا مع شدة تأسيه به صلى الله عليه وسلم ؟ فهذه قرينةٌ حالية تدلُّ على عموم النهي.

بالإضافة إلى أن توعُّده بالنار، لا يكون إلا على فعل محرم؛ ويؤيده -أيضاً -أنه جمع الأمرين كلا الأمرين في حديث أبي سعيد مرفوعاً: (ما أسفل من الكعبين ففي النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً)، فجعل لكل حديثٍ مورده، وهذا مبحثٌ أصولي.

وفي ذلك يقول الإمام الصنعاني رحمه الله: "وقد دلت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين فى النار. ودل على أن من جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه، وكلاهما دال على التحريم، وفيه أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة وهى عدم نظر الله إليه، وهو مما يبطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء".

إشكالٌ في هذا الباب يقوي كلام الجمهور

ولكن يُشكل على كلام الصنعاني: أنه جاء في بعض أحاديث الإسبال المقرون بالكبر: عقوبةٌ مماثلة لمن أسبل ولم يقرن ذلك بالخيلاء، كما في حديث أبي ذر مرفوعاً: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وذكر منهم: المسبل إزاره) /رواه مسلم/، وكما في حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وذكر منهم: والمسبل إزاره خيلاء) /رواه الطبراني، ونسبه الهيثمي في "المجمع" إلى البزار"؛ فلا يُقال حينئذٍ إن هناك فرقاً بين المُسبل أصالةً وبين المُسبل مع الخيلاء، لأنكم تُفرقون بين الأمرين، وعليه فيكون الحكم مختصاً بمن أسبل خُيلاء.

الأحاديث التي تؤكد قضية الخيلاء 

وأنه يختصُّ بالقصد لا بالفعل

جاء في سنن أبي داود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام) /صحيح أبي داود/، قال النووي: معناه قد برئ من الله وفارق دينه. وفي حديث ابن عمر مرفوعاً: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) /متفق عليه/، وأصرح منهما حديث ابن عمر مرفوعاً: (من جر إزاره -لا يريد بذلك الا المخيلة - فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة) /رواه مسلم/، والخيلاء والمخيلة فسرها ابن الأثير في "النهاية" بالعجب والكبر.

النهيُ عن الإسبال خاصٌّ بالرجال دون النساء

والنهي عن الإسبال حكمٌ خاصٌّ بالرجال دون النساء، وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء؛ ويدلُّ لذلك ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقالت أم سلمة رضى الله عنها: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: (يرخين شبراً)؛ فقالت أم سلمة رضى الله عنها: اذا تنكشف أقدامهن. قال: (فيرخين ذراعاً لا يزدن عليه)، وهذا في حالة خوف انكشاف شيءٍ من قدميها.

 وأما الواجب ستره عليهنَّ هو ظهور أقدامهنَّ، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة تصلى بدرع وخمار من غير إزار؟ قال: (لا بأس إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها).

هل الإسبال خاصٌّ بالقميص فقط 

أم أنه يشمل العمامة والعباءة والإزار وغيرها ؟

والظاهر أن الإسبال ليس خاصاً بالقميص فقط؛ بل يدخل فيه العمامة والإزار أيضاً، بل يدخل في النهي عموم ما يُلبس؛ ويدلُّ لذلك ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، عن ابن عمر: (الاسبال فى الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئاً فيها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة).

وهل النَّهيُ عن الإسبال خاصٌّ بالصلاة فقط  ؟

والظاهر أن النهي يتناول الإسبال داخل الصلاة وخارجها، كما قال النوويُّ رحمه الله: "إنه فى الصلاة وفى غيرها سواء، فان كان للخيلاء فهو حرام. وإن كان لغير الخيلاء فهو مكروه"، وعلى تقدير الكراهة فصلاته صحيحةٌ عند من قال بها، وعلى تقدير الحرمة فالصلاة صحيحةٌ، ومبنى هذا الأمر على قاعدة: هل النهي يقتضي الفساد ؟ وهذه المسألة تُشبه الصلاة في الدار المغصوبة، فهي صحيحةٌ وإن كان آثماً.

الصلاة خلف الإمام المُسبل

ومع أن الإمام الصنعاني يرى حرمة الإسبال مطلثاً إلا أنه يرى صحة الصلاة خلف من يُسبل ثوبه وإزاره، وكذلك عدُّه لها من المسائل الخلافية، واستدلاله بحديث: (تصلون فما صح فلكم ولهم، وما فسد فعليهم دونكم). قال: وفي معناه أحاديث الصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، والأمر بالصلاة معهم. 

ولا شكَّ أن من صحَّت صلاته بغيره إماماً، صحَّت صلاته لنفسه منفرداً أو مأموماً، وهذا قياسٌ صحيح، ولم يأتِ في كلام الصنعاني ما يُشير إلى وجوب إعادة الصلاة على المأموم. بل إنه قال: "واعلم انه لم يصرح ببطلان صلاة المسبل خيلاء إلا ابن حزم ودليله نفى القبول فى الأحاديث عن صلاة المسبل".

وهذا -أيضاً -يُقوِّي مذهب الجمهور. ثم يُشير الصنعاني إلى أن الإمام إن كان جاهلاً بالتحريم فهو غير آثم، وإن كان يتأول الإسبال بما كان على وجه الخيلاء؛ فتصحُّ الصلاة خلفه أيضاً.

تفرُّد ابن حزم بإبطال صلاة المُسبل 

وذهب ابن حزمٍ إلى بطلان صلاة من أسبل ثوبه من الرجال، وهو عالمٌ عامدٌ، سواءٌ فعل ذلك خُيلاء أم لا. أما لو فعل ذلك خوفاً أو نسياناً؛ فلا تبطل؛ يقول الصَّنعاني: "واعلم انه لم يصرح ببطلان صلاة المسبل خيلاء إلا ابن حزم ودليله نفى القبول فى الأحاديث عن صلاة المسبل".

واستدل ابن حزم بعموم الأحاديث المصرحة بعدم قبول صلاة المُسبل، وأن نفي القبول دليلٌ على عدم الصحة، مثل عدم قبول صلاة الآبق، وعدم قبول صلاة الحائض إلا بخمار، وعدم قبول صلاة المحدث حتى يتوضأ.

واستدلَّ أيضاً بحديث: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام). وبما روي عن مجاهد: كان يقال من مس إزاره كعبه لم يقبل الله له صلاة. قال (يعني ابن حزم): فهذا مجاهد يحكى ذلك يحكى ذلك عمن قبله وليسوا إلا الصحابة. وعن ذر بن عبد الله المرهبى (من كبار التابعين)، قال: كان يقال: من جر ثوبه لم يقبل الله له صلاة. 

ولكن الأصوليين يُفرقون في هذا الباب بين النهي العائد إلى ذات المنهي عنه، أو شرطه فهذا لا شكَّ أن يُبطل العبادة أو العمل، وبين النهي العائد إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه، فلا يكون باطلاً؛ وهذا الثاني هو محل البحث، فالإسبال أمرٌ خارجٌ عن حقيقة الصلاة وماهيتها، وعليه فلا تبطل صلاة المسبل وفقاً للجمهور والصنعاني خلافاً لابن حزم.

وأما قول ابن حزم: "لو فعل ذلك خوفاً أو نسياناً؛ فلا تبطل"؛ فاستدل له: بما أخرجه البخارى والنسائى من حديث أبى بكرة رضى الله عنه: (أنها لما كسفت الشمس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر إزاره)، وبما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى من حديث عمران بن حصين رضى الله عنه فى قصة سجود السهو: (وأنه صلى الله عليه وسلم خرج غضباناً يجر إزاره).

حديث أبي بكر في الإسبال

أخرج الشيخان وأبو داود والترمذى من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن إزارى يسترخى إلا أن أتعاهده؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء). 

فقال من يرى حرمة الإسبال مطلقاً: أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر (إنك لست ممن يفعله خيلاء) هو من باب نفي القيد والمُقيّد معاً؛ أي إنك لست ممن بتعمَّد الإسبال، ولا ممن يفعله مخيلة، وذلك أنه قال: (إن إزاري يسترخي) وهذا ليس بإسبال؛ فإنه لا بُدَّ أن يكون ذلك من فعل المُسبِل نفسه، وإنما ذلك كان يعرض له من أجل السير والحركة. 

قال الصنعاني: ويؤيد ذلك الرواية التي ذكرها ابن عبد البر في "التمهيد"، ولفظها: (إنك لست ممن يرضى ذلك ولا يتعمده، ولا يُظن بك ذلك).

ويُجيب الجمهور على هذا القول: بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر علة التحريم وهي "الخيلاء"، ولا يُفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأبي بكر الإسبال، وإنما يُفهم منه أن الإسبال بغير خيلاء لا يحرم.

رد الصنعاني على دعوى الهيتمي

قال الصّنعاني: وأما ما نقل عن ابن حجر الهيتمي: أن الإسبال صار الآن شعار العلماء، وكأنه يريد علماء الحرمين لا غيرهم، قال: (فلا يحرم عليهم بل يباح لهم)، فهو كلام يكاد يضحك منه الحبر والورق!! وكأنه يريد إذا صار شعاراً لهم لم يبق فيه للخيلاء مجال. 

ولكنه يقال (يعني جواباً عليه): وهل يجعل ما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم حلالاً إذا صار شعاراً معتاداً لطائفة، لا سيما أشرف الطوائف، وهم هداة الناس وقدوتهم وأعيانهم فيصير حلالا وينتفي عنه النهي؟ 

وهل قدوة العلماء والعباد وإمام المبدأ والمعاد، سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله معلماً للعباد كل ما يقربهم إلى ربهم ويبعدهم عن معصيته ؟!!

الإسبال في عصرنا

وأكثر الذين يُسبلون الإزار في عصرنا لا يفعلونه كبراً، وإنما يفعلونه من أجل الزينة، كما في الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل: إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسناً؛ فقال: (ليسَ ذلكَ مِنَ الكِبْرِ، إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ)، ولكن الحق أن الإسبال في صورته وحقيقته هو ترك لسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفاعل ذلك مُتعرِّضٌ للوعيد. 

ومن المصائب العظيمة في عصرنا أن تنقلب الصورة فتجد أن الرجال يُسبلون، والنساء يرفعون ثيابهن، بل وإذا رفع المرء ثيابه أنكر الناس عليه، وعدُّوا ذلك رجعيَّة وتخلفاً، وهذا هو الانتكاس في إنكار المعروف، والعياذ بالله.

وينبغي التنبيه إلى أن من به مرضٌ مُعيَّن ويحتاج إلى الإسبال لإخفاء ذلك العيب؛ فهذا لا بأس به؛ كما جاء عن ابن مسعود أنه كان يُرخي إزاره؛ فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أحمش الساقين..فالأولى بالإنسان أن يرفع ثوبه وإن لم يكن يُدنيه خُيلاء، ومع ذلك فلا يُقال لمن أسبل إنه مُبتدع أو تُجعل عقيدةً يُوالى عليها ويُعادى عليها.

الخميس، 7 يناير 2021

دفع شبه من شبَّه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد

دفع شبه من شبَّه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد

منسوب إلى: تقي الدين الحصني الدمشقي 

(ت 829 هـ)

النسخة الخطية الوحيدة لمحمد زاهد الكوثري

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

نشر: المكتبة الأزهرية للتراث

تمهيد/ لا يخفى ذلك العداء الذي أبداه علماء دمشق والشام لشيخ الإسلام ابن تيمية في تلك الحقبة المظلمة من أمراء السوء، وعلماء السلطان، وما دبَّ إليهم من داء المنافسات والمنازعات والأحقاد، التي يُهيجها الحسد، فيدفن الفضائل، وينثر الرذائل، ومن هؤلاء التقي الحُصني الذي خصص كتابه (دفع شبه من شبه وتمرد)، للطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ولم نعجب من كون النسخة الخطية الوحيدة لهذا الكتاب موجودةً عند أحد مجرمي زمانه، وأحد الحاقدين على شيخ الإسلام ابن تيمية، والسلفيين بشكل عام، وهو الكوثري الذي الذى ملأ الكتب التي صححها بحواشٍ كلها سباب وشتائم لأعلام أهل السنة ولشيخ الإسلام ابن تيمية، تبعاً لشيخه الحُصنيُّ الموسوم بالتقي، وليته اتقى الله فيما زعم وافترى، سيما رميه لشيخ الإسلام بالكفر والزندقة والعياذ بالله تعالى، وأجيبه بما التزمه من أن من ضيَّع حُرمة أولياء الله، فقد عرَّض نفسه للهلكة..

ويكفي في إبطال كلام الحُصني في ابن تيمية، ما ذكره الكثيرون من العلماء وشهدوا به على الحُصني من أنه كان شديد التعصُّب، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، وابن قاضي شهبة، والمقريزي، والسخاوي، والتعصُّب يُعمي عن الحق، ويؤدي إلى ظلم الآخرين.

وكان الحُصني يُصرِّحُ بكفر ابن تيمية، فأهانه القُضاة والحنابلة، وأهالي دمشق إهانات كثيرة واحتقروه لأجل ذلك.

ونرى الإمام السخاوي ينقل عن الإمام المقريزي شدة عصبية الحُصني، وغلوه تجاه ابن تيمية، بل وتجاه الحنابلة بشكل عام. فيقول: "وذكر المقريزي في عقوده أن الحصني كان شديد التعصُّب للأشاعرة، مُنحرفاً عن الحنابلة، انحرافاً يخرجُ منه عن الحد، وتفحَّش في ابن تيمية، وتجهَّر بتكفيره من غير احتشام، بل يُصرِّحُ بذلك في الجوامع والمجامع، بحيثُ تلقَّى ذلك عنه أتباعه واقتدوا به جرياً على عادة أهل زماننا في تقليد من اعتقدوه، وسيُعرضان جميعاً على الله الذي يعلم المُفسد من المُصلح، ولم يزل على ذلك حتى مات" ()الضوء اللامع: 6/ 83- 84).

وذكر السخاويُّ أيضاً أن الشيخ إبراهيم بن محمد الطرابلسي اجتمع الحُصني، وقال له لعلك التقي الحُصني، ثم سأله عن شيوخه فسمّاهم، فقال له: إن شيوخك الذين سميتهم عبيدٌ عند ابن تيمية، أو عبيد من أخذ عنه، فما بالك تحطُّ عليه أنت ؟! فما وسع الحُصني إلا أن أخذ نعله وانصرف، ولم يجسُر يردُّ عليه" انتهى قول السخاوي (الضوء اللامع: 1/ 145).

فهذا الموقف من الحُصني دليلٌ على شذوذه في التعصُّب، لا سيما وان عامة أهل العلم لم يُعرف عنهم مثل هذا الموقف، ولذلك كان كلام المقريزي والسخاوي مُشعران بتوبيخه.

أما سند هذا الكتاب، فقد نقل هذا الكتاب: الكوثري، عن ابن طولون (ت 953 هـ)، عن شيخه، وتلميذ المصنف عبد القادر النعيمي، عن المؤلف الحصني.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقي الحصني (752- 829 هـ)، وابن تيمية (661- 728 هـ) لم يكونا من الأقران ولم يتعاصرا، فإن أحدهما كان سابقا للآخر؛ فقد ولد التقي الحصني بعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية، بعقدين ونيف من الزمان ولم يدركه؛ فلم يدرك شيخ الإسلام، ولم يشاهد أحواله، ولا أفعاله، فكان كل ما كتبه هنا هو نقلٌ عمن لم تثبت عدالته، وقراءة مجتزأة للنصوص دون روية أو فكر، وكأنَّ منهجه في ذلك هو أن أرُدَّ وفقط !!.

ذلك الحُصني الذي تفقه وتقشَّف على طريقة معاصريه من الدمشقيين، الذين عطلوا عقولهم حتى في فهم مذاهبهم، مع الضعف الشديد جداً في الحديث، روايةً ودراية.

أضف إلى ذلك تخبطه في باب التوحيد، وإثبات الصفات لله جل وعلا، وكذلك في فهم الأحاديث حتى تجده يتناقض في الموطن الواحد مراتٍ كثيرة، فلا هو يُحسن النقل، ولا حتى يتقن الاستدلال في هذا الباب، وأكثر ما يُتقنه هو السبُّ والشتم بلا بيِّنةٍ ولا برهان، سيما على شيخ الإسلام ابن تيمية وأتباعه. انظر مثلاً (ص 146).

ويظهر من مُصنفه هذا إغراقه في نفي الصفات  والتأويل الفاسد، على طريقة أهل الاعتزال، وصار أخيراً يطلق لسانه في القضاة والعلماء بغير تورُّعٍ ولا إنصاف، ويرى بذلك قُربةً يتقرب بها إلى الله عز وجل، والعياذ بالله تعالى، كل ذلك وهو يدين لله بالتصوُّف، الذي يُفترض أن يُحجِّم لسانه عن إطلاق العنان له في أعراض المسلمين، سيما أفاضلهم وعلمائهم، ولكن ثائرته لم تُخمد حتى نال من شيخ الإسلام ابن تيمية ما لم ينله من أعداء الملة والتوحيد؛ فبالغ في ذلك جداً، وثارت بسببه فتنة عظيمة..

ويعتقد الحُصني أن فعلته هذه قُربةٌ تُقربه إلى الله عز وجل؛ فيقول  (ص 181): "ثم من الأمور المهمة المقربة إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، وإلى وزيريه رضي الله عنهما بسط الألسن والأيدي فيهم  -يعني شيخ الإسلام رحمه الله وأتباعه- جرياً على ما درج عليه العلماء والسلاطين منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث…!!".  

وتبعه على ذلك مُصحح هذا الكتاب فيقول (هانش/ ص 181): "هذا حُكمٌ من هذا الإمام -يعني الحُصني- على كُل من يتبع ابن تيمية، بأنَّه هالكٌ في دينه ..!!".

وقد وجدنا في كلام الحُصني أنه يستدلُّ بأحاديث باطلة، وبأقوالٍ وآثارٍ موضوعة، وغير ثابتة عمن أُسندت إليه، وذلك عند كلامه في التوحيد بما يُشبه الفلسفة وكلام أهل الاتحاد، مع بعض المبالغات والغلو على طريقة أهل التصوُّف في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، توسلاً، واستغاثةً، وتشدده في مسائل الفقه (كمسألة الطلاق مثلاً) حتى رفعها إلى قضايا العقدية، فأخذ يوالي عليها، ويُعادي عليها أيضاً، مع أن الخلاف فيها مشهور..

بالإضافة إلى أنه ينقل آثاراً موضوعةً نُسبت النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولا تثبت، ويستند مع ذلك إلى آثارٍ رواها غير أهل الفن من المحدثين، فكان اعتماده على مصنفات المتصوفة عن جعفر الصادق، وأبو الحسن الدينوري، ومحمد بن علي الترمذي، والجنيد المُتستر، ومحمد بن الفضل، وأبو العباس الصوفي، وابن أبي ذرعة الصوفي، والكلاباذي صاحب (التعرُّف إلى مذهب أهل التصوُّف)، وأبو محمد المكي، وأبو الليث السمرقندي، وغيرهم، وله كتابٌ ينقل فيه العجائب، أسماه( تنبيه السالك في فصل الكرامات)، قال عنه (ص 126): "فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب يعني من الكرامات- فلينظر فيه" .

أما سبب تأليف الحصني للكتاب، فيقول (ص 53- 54): "رأيتُ أن أتعرض لسوء عقيدة هذا الزائغ عن طريق أهل الحق من العلماء-يعني ابن تيمية-، وأذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق الأئمة، ولو كان أحرفاً يسيرة، إما بالتصريح، أو بالتلويح، فاستخرتُ الله عز وجل في مُدَّةٍ مديدة…وذلك بعد أن تأملت ما حصل بسببه من الإغواء، والمهالك.. وها أنا أذكر الرجل، وأُشير باسمه الذي شاع وذاع، واتسع له الباع، وصار بل طار في أهل القرى والأمصار، وأذكر بعض ما انطوى عليه باطنه الخبيث عليه !! وما عول في الإفساد بالتصريح والإشارة إليه مما ذكره في كتبه المختصرات والمبسوطات وما فيها من الزيغ والقبائح النحسات !!"

أما عن تسمية الكتاب بهذا الاسم، فمما له علاقة بذلك يقول الحصني (ص 94): "فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد، والإمام أحمد وأتباعه براء منه ومما هم عليه، وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله

ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه..".

ذنوب ابن تيمية في نظر التقي الحُصني (ص 54- 159):

(1) أنه سلك المكر والخديعة بانتمائه إلى مذهب الإمام أحمد أولاً، وإظهاره التعفف والتقشف ومزيد التعبد والطاعة.

(2) أنه شرع في كتابه المسودات، والتصنيف، حتى ظن الناس أن له قوةً في التصنيف والمناظرة؛ فيزعم أنه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس له حقيقة، فيكتب على صورة الجواب.

(3) أنه يكتب في الأجوبة ما لا يُنتقد عليه إظهاراً للصورة الحسنة، وفي بعضها ما يُنتقد عليه، إلا أنه يُشير لذلك على وجه التلبيس، ولا يقف على مراده إلا عالمٌ حاذقٌ مُتقن !!.

(4) وأنه أخذ يتلقى الناس بالأنس، وبسط الوجه، ولين الكلام، وبأشياء يحلو ذكرها للنفس، لا سيما الألفاظ العذبة، مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.

(5) وأنه إذا جاءه أحدٌ يستفتيه عن مسألة قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه أحدٌ يسأله عن مسألة، قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه، قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج، أقوله لك، بشرط -فإني أتقلدها في عنقي- فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم علي، فيُعطيه العهود والمواثيق على ذلك، فيُفتيه بما فيه فرجة، حتى صار له أتباع كثيرون يقومون بنصرته !!.

(6) أنه كان إذا عرض له عارض، وعلم أنه لا يخلص منه، كان يقول في بعض المجالس: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد، ولو كان لي حكمٌ لكنتُ أجعل فلاناً وزيراً، وفلاناً محتسباً، وفلاناً دويداراً، وفلاناً أمير البلد، فيسمع به أتباعه وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.

(7) وأنه كان يستعمل التقية مع العلماء إذا قاموا في نحره، فإذا قيل له ما عقيدتك، قال: عقيدة إمامك خديعةً، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انقضى ذلك المجلس أشاع أتباعه عقيدة الشيخ.

(8) وأن من قواعده المقررة التي جرى عليها هو أتباعه التوقي بكل ممكن، حقاً كان أو باطلاً، ولو بالأسمان الفاجرة، سواءً كانت بالله عز وجل، أو بغيره !! .

(9) وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة، ولا يعتبره، سواءً كان بالتصريح، أو بالكناية، أو التعليق، أو التنجيز، وهذا مذهب فرقة الشيعة، فإنهم لا يرونه شيئاً.


(10) وأن إشاعته هو وأصحابه أن الطلاق الثلاث واحدة هو خزعبلات ومكر، وإلا فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به، ولو أتى به في اليوم مائة مرة، على أي وجه، سواء كان حثَّاً، أومنعاً، أو تحقيق خبر، فاعرف ذلك.

(11) وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تستراً وخديعة، وقد وقفتُ على مصنف له في ذلك، وكان عند شخص شريف زينبي (يعني هذا المُصنَّف)!!.

(12) وأنه كان يردُّ الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني (يعني الزينبي) لأنه ظن أني منهم، فقلتُ له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد، وقول بقية الأئمة لقول ابن تيمية !!. فقال: أشهد أني تُبتُ، يقول الحُصني: وظهر لي أنه (يعني الزينبي) كذب في ذلك، ولكنه جرى على قاعدتهم في التستر، والتقية.

(13) وأنه كان يذكر في بعض مصنفاته كلام رجلٍ من أهل الحق، ويدسُّ في غضونه شيئاً من مُعتقده الفاسد، فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خلقٌ كثير.

(14) وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك الرجل (يعني من أهل الحق) ذكر مسألة في الكتاب الفلاني، وليس لذلك الكتاب حقيقة، وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول: ما يَبعُد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه ..

(15) وأنه جاء من مطلع قرن الشيطان "العراق"، يعني حران، قال الحصني: وهذا المبتدع من حران الشرق، بلدةٌ لا تزال يخرج منها أهل البدع كجعدٍ وغيره!.

(16) قال: ورأيتُ في فتاويه(ص 65) ما يتعلق بمسألة الاستواء، وأنه يقول إنه استواءٌ حقيقي، وأنه سبحانه يتكلم بحرفٍ وصوت، وقد أطنب فيها، وذكر أموراً كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق.. ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويلة: أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة.

(17) ولقوله (ص 72) بأن زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، وأنه لا يُرخص بالسفر لزيارة الأنبياء.

(18) قال (ص 73) وأنهم وجدوا نص فتوى له يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع. وزعم أن هذه الفتوى وقف عليها الحكام، وشهد بذلك القاضي جلال الدين  محمد بن عبد الرحمن القزويني، وأنهم لما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا للرسول غيره عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن.

(19) ويقول الحصني (ص 74): ذكر أبو حيان النحوي الدمشقي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر: وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماَّه كتاب العرش: (إن الله يجلس على الكرسي) وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه، وقد تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه ظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه !!.

(20) ويقول الحصني (ص 74): ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين، وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه… وأنه قال في الكلام على حديث النزول المشهور: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعلان من ذهب ؟!)، قال: وهذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصاً على ظاهرها واعتقادها !!.

(21) ويقول الحصني(ص 90): واعلم أنه مما انتُقد عليه -يعني ابن تيمية- زعمه أن النار تفنى، وأن الله تعالى يُفنيها، وأنه جعل لها أمداً تنتهي إليه وتفنى فيه، وأنه يزول عذابها.

(22) ويقول الحصني (ص 92): ومما انتُقد عليه: مُصنفه المسمى بـ(حوادث لا أول لها)، وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله، فإن الحادث مسبوقٌ بالعدم، والأول ليس كذلك، وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال، ونفي المجاز في القرآن، وهو من الجهل أيضاً.. وتضمن هذا المُصنف مع صغره شيئين عظيمين: أولهما: تكذيب الله عز وجل في قوله {هو الأول}، وتكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله "كان الله ولا شيء معه".

(23) يقول الحصني (ص 93): ومما انتُقد عليه: تكذيبه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن نبوته في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قالوا يا رسول الله: متى وجبت لك النبوة؟ قال عليه الصلاة والسلام: (وآدم بين الروح والجسد)، وفي رواية: (وإن آدم لمُجندلٌ في طينته)، قال: وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئي الأفهام يقصد بذلك الإزدراء برسول الله والحط من قدره ورتبته !!.

(24) يقول الحصني (ص 93- 94): وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة؟ فأجاب: مكة أفضل بالإجماع، وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي، وعليها خطه، وأنا أعرف خطه، وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد!!. 

(25) ويقول الحصني (ص 94): "ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق فإن الإمام أحمد الذي أخبرنا بأن الطلاق واحدة، أخبرنا بأن الطلاق ثلاث، وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق ؟!"... ويُضيف: "وكيف يجعل الإمام أحمد في ماله فيه غرض أعلم الناس، بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه.. وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله".

(26) وقول الحصني (ص 94- 95): "ومن فجوره إدعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى -يعني في قضية التفضيل بين مكة والمدينة- مع شهرة الخلاف في المسألة، حتى أنه مشهورٌ في أشهر الكتب المتداولة بين الناس وهو (الشفاء)؛ فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة، وإن مالكاً وأكثر أهل المدينة قائلون: بأن المدينة أفضل من مكة. وقال أهل مكة والكوفة: مكة أفضل. ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضم سيد الأولين والآخرين. وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع. وممن حكى الإجماع القاضي عياض في الشفاء، حيثُ قال: ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض. وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان)، وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في (شرح مسلم)، وأقره على ذلك".  

(27) يقول الحصني (ص 95) في ابن تيمية: "وأنه يمنعُ من إطلاق القول الله ورسوله في أي أمر؛ لأن ذلك التشريك يقتضي الشرك!! والعياذ بالله تعالى.

(28) ويقول الحصني (96- 97): "نعم، وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه -يعني ابن رجب، وابن الدين القرشي في كون ابن تيمية رافضياً- وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح، وبعض أتباعه الذين هم رسلٌ في التبعية، وقد وقع منه ما يدل على ذلك !! ".

(29) ويقول الحصني (ص 97): "ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكاسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك، فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك".

(30) ويقول الحصني (ص 98): "ومن الأمور المنتقدة عليه وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة بين حياته في قبره وحياته في الدنيا، وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته، والتي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي !!.

(31) ويقول الحُصني (ص 98): وقد وقفت في كلامه -يعني في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم- على المواضع التي كفر فيها الأئمة الأربعة! وكان بعض أتباعه يقول أنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يُريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار. وليس وراء ذلك زندقة!!.

(32) ويقول الحُصني (ص 112): "وقصة أبو جعفرٍ مع مالك، والتي أوردها القاضي عياض في الشفاء، وفيها أنه سأل مالكاً: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم  استقبل رسول االله فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله عز وجل.. قال الحُصني: والقصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان، ومنهم الإمام العلامة هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان.. إلى أن قال: ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر ابن تيمية؛ فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه؛ إذا وجد شيئا له مساس فيه ابتدعه، وقال به وقبله ولم يطعن. وإذا وجد شيئاً على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتفق على صحته.. قال: ولو أمكنه أن يطعن في الآية -يعني قوله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}- لفعل إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة، وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه !!".

(33) ويقول الحُصني (ص 138): "وقول هذا الزائغ أن المسلمين متفقون على أن الميت لا يُسأل ولا يدعى ولا يطلب منه سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك قطعت بفجوره وببهتانه، وأنه من أخبث الناس طوية وأنه لا إعتقاد له وهذه عادته..!! وجعل هذا الزنديق آدم عليه السلام بتوسله بالنبي ظالماً، ضالاً، مشركاً، وليس وراء ذلك زندقة وكفر".

(34) ويقول الحُصني (ص 140): "ومن الأمور المنتقدة عليه قوله زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذا ثابت عنه أنه قاله، وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني، فانظر هذه العبارة ما أعظم الفجور فيها، فضلاً من كون ذلك معصية.."  .

(35) ويقول الحُصني (ص 159): "وقوله إنما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي فكلها ضعيفة بإتفاق أهل العلم بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها. أعوذ بالله من مكر االله عز وجل، فانظر أدام االله لك الهداية وحماك من الغواية إلى فجور هذا الخبيث  !! يقول: وقد جعل ضعفها باتفاق أهل الحديث، ولم يجعل الأئمة الذين أذكرهم من أهل الحديث ؟!! والعجب أنه روي عنهم في مواضع عديدة من كتبه، وهذا من جهله وبلادة ذهنه وغمارة قلبه من أنه لا يعلم تناقض كلامه ونقضه بذلك ثم انه لم تخمد نار خبثه بما ذكره من الفجور حتى أردف ذلك بأن الأحاديث المروية في زيارة القبر المكرم موضوعة يعني أنها كذب وهذا شيء لم ير أحد من علماء المسلمين ولا من عوامهم !! ولقد أسفرت هذه القضية عن زندقته بتجرئه على الإفك على العلماء، وعلى انه لا يعتقد حرمة الكذب والفجور ولا يبالي بما يقول، وإن كان فيه عظائم الأمور ".

 وبلغ من الكذب والحقد على شيخ الإسلام أن يقول الحصني (ص 54): "قال بعض الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس: لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه؛ لأخرجه من من قبره، وأحرقه .. وأكد هؤلاء أن أتعرَّض لبعض ما وقفتُ عليه، وما أفتى به مُخالفاً لجميع المذاهب، وما خُطِّأ فيه، وما انتقد عليه، وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات، وما جاءت به المراسيم العاليات، وأتعرض لبعض ما سلكه من المكايد التي ظنَّ بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات، وهيهات.. ".

يقول الحصني (ص 55): "وبسبب ذلك افتتن كثيرٌ من العوام، فلما تكرر منه ذلك، علموا أنه إنما يفعل ذلك مكراً وخديعة، فكانوا مع ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عز وجل في سجن (الزندقة)..".

ولا يغرنك إطراء الكوثري عليه في أول الكتاب، من جعله للمصنف: حُجَّة لله على عباده، وأنه مفزع الناس وملاذهم، فإنها من تلبيسات الكوثري المعروف بعدائه لأهل الحديث والأثر، وخاصة لشيخ الإسلام ابن تيمية، مع ما فيه من الحدَّة، وقلة الإنصاف.

ومن ذلك تأييد المُصحح للحصني بما رمى به شيخ الإسلام ابن تيمية، فيقول (هـامش/ ص 56) عند ذكر مسائل الطلاق: "هذا مُدهشٌ جداً جداً، وهذا الذي يحكيه الحصني المعروف بشحه على دينه ! ما وجد من يحكيه إلى القلوب سبيلاً !!".

ويقول بعدها: "ولا يتردد عاقل في أن مثل ما سيحكيه الإمام الحصني بعدُ من فعل الدجاجلة لا العلماء، فليقرأ العاقل، وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمةً في دين الله ..". 

وتجد ذلك في عباراته الفظَّة، وسبابه المتكرر، وتعقبه لقضايا لم تثبت عن شيخ الإسلام وتقريرها بالكفر والزندقة، ومثال ذلك قوله (هامش/ ص 97) عن تناسخ الأرواح: "فهو -يعني ابن تيمية- مُصادمٌ للأنبياء، وبما جاء به الأنبياء، وكيف لا يكون ما هذا حاله كفراً..".وتفخيمه لكل من يقدح في شيخ الإسلام، وزعمه أن بناء الشيخ قد انقضَّ من أساسه، وهذه والله دليل ضعف هذا المُصحح المنحرف.

ويظهر لؤم المصحح عندما يُصادق على كذب الحُصني في قوله (هامش/ ص 99): "أُحبُّ أن لا يستغرب القارئُ شيئاً منسوباً إلى هذا الرجل، بعد تصريح العلماء عن أنه يستخفُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزدريه، ويُصغِّرُ من شأنه، فإن الذي يجترئ على أسمى مقامٍ في الوجود لا يتهيَّب ما دونه، فليُعلم".

ويقول المُصحح مؤيداً لمذهب أهل الاتحاد القائلين بالجمع والفرق، الذي هو نهج المتصوفة، والحُصنيُّ واحدٌ منهم (هامش/ ص 106): "وهذا الكلام الغامض، كأن قائليه يريدون أن يقولوا أن حقيقته صلى الله عليه وسلم مَلكيَّة، وإن كانت صورته بشرية، وهو معنى يكون مدحاً إن سُلِّمَ أن الحقيقة الملكية أفضل من الحقيقة البشرية، وليس لنا قسمٌ  آخر يُراد إلحاقه صلى الله عليه وسلم به إلا الإلهية، ولا يتصور أن يكون مُراداً للقائلين، فليُعلم".

وكذلك قول المُصحح (هامش/ ص 109) في حديث توسل آدم بمحمد: "ولا التفات بعد هذا التصحيح من الحاكم، وهو الحاكم! إلى طعن الطاعن في هذا الحديث، وقد رأينا من يطعن فيه، وفي أمثاله من الأحاديث التي يُصححها الحاكم"!!. 

وكذلك يقول المُصحح (هامش/ ص 112): "الواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث، ولا تضعيفهم -يعني أهل السنة- فإنهم للهوى يُصححون ويُضعفون، وأُحبُّ أن يأخذ القارئ قول الحُصني: ولو أمكنه -يعني ابن تيمية أن يطعن في الآية لفعل".

ثم هو يزيدُ في الكتاب بحسب ما يؤيد هواه، غير ملتزمٍ أدبيات التحقيق، فتراه يُضيف أشياء ويحذف أشياء، أضف إلى ذلك الطبعة الرديئة جداً لمكتبة التراث الأزهرية، ولا يظهر أي تحقيقٍ في الكتاب للنصوص النبوية..

وقد اختصر هذا الكتاب بعض أفراخ الأحباش أصحاب العقيدة الصوفية القبورية، وسبب تأليف الحصني لهذه الرسالة على ما يذكر هو -من الزعم بالباطل- أن شيخاً يُدعى ناصر الدين التكنزي اجتمع بابن تيمية، فرآه يقول: بتناسخ الأرواح، وأنه لا يقطع بأطفال المسلمين بالجنة، وأنه ينهى عن التوسل بجاه محمد، وينسب إليه أنه يقول: "لا تتوسل بمحمد فإنه قد بقي قفة عظام"!!.. وأنه يتكلم في صفات الله بالزندقة، ورأى هذا الناقل الكذاب، أن يؤلف الحصني كتاباً يردُّ به على هذا الجاهل بحسب زعمه !!

وقد دسَّ بعض من لا خلاق له بعد أن طلب الحصني شيئاً من كلام شيخ الإسلام، ليرد عليه، 

فأصل هذا الكتاب كذبات مجتمعات، أُلصقت بشيخ الإسلام، فأراد الحصني إظهار قوة حجته، والتهافت إلى الرد دون روية أو تفكير، ومسارعته إلى الخصومة بالباطل (انظر مثلاً ص 66، عند الحديث عن صفة المعية والاستواء)، مع أنه لو أعمل عقله قليلاً لوجد أن ذلك لا يقوله من لديه أدنى مسكة من إيمان، فكيف بحبرٍ جليل، وعالم فاضل كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى..


* مؤاخذات على كتاب الحصني:

1 - تعمُّد الكذب والافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية في قضايا نُسبت إليه ولم تثبت عنه، ولا نقلها عنه أتباعه ومريدوه، وإنما أشاعها الكذبة من الصوفية والأشاعرة، من الذين لا يتورعون عن الكذب والدس، 

2 - دخوله في أبواب التأويلات الباطلة للصفات، وإعماله العقل في قبولها وردها.

3 - زعمه (ص 36) أن إيمان العامي ضعيف، ويقبل التشكيك؛ لضعف عقله.

4 - إغرابه في بعض النقولات، فزعم (ص 37) أن آدم عليه السلام كان يتكلم سبعمائة ألف لغة، وإكثاره من الأحاديث الباطلة والموضوعة، وقصة سبعين ألف ملك يزورون قبره عليه السلام كل يوم، ومن صلى عليَّ مائة مرة قضى الله له مائة حاجة (سبعين في الدنيا، وثلاثين في الآخرة)، وكذلك ما نقله في باب الزيارة، وأنه (من زار قبري وجبت له شفاعتي). انظر (ص 122- 123، 142).

5 - الصفحة رقم ( 41) غير واضحة تماماً، كأنها أخفيت بشيء،  فيها آخر قوله: (على قلبين …) إلى قوله (وأشربوا في قلوبهم العجل). وكذلك الصفحتين (ص 57- 58) محذوفتين تماماً.

6 - خلط المصنف للحنابلة بأصناف المشبهة (ص 42 - 43) أمثال المغيرية من اتِّبَاع الْمُغيرَة بن سعيد العجلى، وهو شيعي إمامي (مات في حدود العشرين ومائة)، محمد بْن كرّام السجستاني (ت 260 هـ) (ص 44)، ممن ليس لهم علاقة بالحنابلة لا من قريب ولا من بعيد، وقد زعم المغيرة هذا أن معبوده ذُو اعضاء وَأَن اعضاءه على صور حُرُوف الهجاء.

7- استعماله التوسل الممنوع والمحرم، وهو التوسل بذوات الأنبياء والمرسلين (ص 51)، وقوله: "فهو -يعني صلى الله عليه وسلم- أعظم الوسائل، ولا يخيب من وسل به ولو كان من أهل الجحود!!". وهذا من الإفراط والغلو، والعياذ بالله تعالى. وكذلك قوله (ص 110):

بدا مجده من قبل نشأة آدمٍ … وأسماؤه في العرش من قبل تُكتب

8- زعمه (ص 51- 52) أن معنى الآية {وكانوا يستفتحون على الذين كفروا} أن اليهود كانوا يتوسلون بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؟!!

9- خلط المسائل والأوراق ببعضها، تموهياً للقاريء، وتجنياً على الشيخ رحمه الله، بحيث يدمج مسائل الفقه بقضايا التوحيد، والمنع من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باعتقاد محبته، والتفضيل بين مكة والمدينة بمسائل الطلاق، وإثبات الصفات لله جل وعلا بالكفر والتشبيه، وخلطه مسألة التوسل بإنكار رسالته صلى الله عليه وسلم، 

10- تناقضه المستمر، وتصرُّفه الأعمى في المسائل، حتى يقوده ذلك إلى القدح في الشيخ رحمه الله، وتفننه في إخراجه من ملة الإسلام، فتارةً ينسبه إلى المشركين، وأخرى إلى الروافض، وثالثة إلى اليهود، بل يعتبره أسوأ عقيدةً من اليهود، بل هو عنده زنديقٌ مُطلق، والعياذ بالله تعالى.

11- وأن الحُصني يؤيد العبدري المالكي في شرح الرسالة، حيثُ يقول (ص 158): "إن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ من المشي إلى الكعبة وبيت المقدس"، ويتعقبه بقوله: وقد صدق وأجاد؛ لأنه أفضل البقاع بالإجماع !!.

12- أن طريقة الحصني في الاعتقاد تقديم العقل على النقل، كما يقول (ص 87): "أن يُثبت العبد لله عز وجل ما قضى العقل بجوازه، ونصَّ الشرعُ على ثبوته.."، كأنه جعل نص الشارع شاهداً لما انقدح في عقله من الأوهام والتخيلات..

13- جهله التام بالحديث وعلومه.


اختصره: أ. محمد حنونة.



الأربعاء، 6 يناير 2021

قاعدة في الجرح والتعديل -للإمام تاج الدين عبد الوهاب بن علي السُّبكي

قاعدة في الجرح والتعديل

للإمام تاج الدين عبد الوهاب بن علي السُّبكي

(727 -771 هـ)

تحقيق: عبد الفتاح أبو غُدَّة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذه رسالة نافعة تتناول نقد قاعدة ذكرها الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"، حيث أشار إلى أن القاعدة العامة عند أهل الجرح والتعديل، هي "قبول الجرح في الراوي إذا جاء مُفسراً"، وقد انتقد التاج عبارة ابن عبد البر هذه، ووصفها بأنها قاصرة وغير صافية من القذى والكدر، وأنه ينبغي النظر في السبب الحامل على مثل هذا الجرح، لا سيما فيمن اشتهرت عدالته، والذي ربما يكون الحامل عليه هو إرادة الوقيعة، أو التعصُّب المذهبي، أو المنافسة الدنيوية، أو الغضب والحسد، واختلاف العقائد، فالذي يراه التاج السُّبكي هو وجوب تقييد كلام ابن عبد البر بعدم ووجود قرينة دالة على التحامل.

هذا مع أن ابن عبد البر رحمه الله أتبع ذلك بقوله: "الصحيح في هذا الباب أن من ثبتت عدالته، وصحت في العلم إمامته، وبانت ثقته وبالعلم عنايته، لم يُلتفت فيه إلى قول أحدٍ إلا أن يأتي جارحه ببيِّنةٍ عادلة، تصحُّ بها جَرحَتُه على طريق الشهادات". وهو نفس المعنى الذي أراد التاج تقريره في هذه القاعدة، وعليه تكون عبارة التاج هي ضبط وتقييد، وليس استدراكاً على الحافظ أبو عمر. 

فالذي يراه التاج السُّبكي في هذه المسألة: أنه يقبل الجرح فيمن اشتهرت عدالته إذا جاء مُفسَّراً، وكان غير صادرٍ عن عداوةٍ أو حسد أو اختلاف مذهب، فإن كان كذلك؛ فلا يقبل الجرح. ولا اعتبار له ولو فُسّر، بل يحكم فيه بالعدالة والتوثيق، وكان جرحه كالخبر الغريب الذي لا يُقبل؛ لأن فيه مقتاً زائداً وإساءةً كبيرة لمن يجرحه.

وبين -رحمه الله -أنه إذا لم يعمل بهذه القاعدة، فسوف يفتح باباً يصعب إغلاقه؛ لأنه ما من إمام من الأئمة إلا وقد تٌكلم فيه من بعض حاسديه ومناوئيه. وإليه أشار الرافعيُّ رحمه الله: "وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من ان يحملهم ذلك على جرح عدل او تزكية فاسق".

ثم أصل رحمه الله لمسألة حكم كلام الأقران في بعضهم، وبين أنه غير مقبول، بدليل السنة وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء؛ فذكر حديث الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، والبغضاء" (رواه الترمذي).


وعند تأمُّل كلام التاج يتبين لنا أن هذا النقد لا يتوجَّهُ إلى ذات القاعدة، ولكن يتوجه إلى ذات الناقد، الذي تصدر عنه الأحكام، لأن الأصل في الناقد أن يكون ورعاً عدلاً ذا أمانة وديانة، وفقدان بعض النُّقاد لهذا الشرط أدى إلى تعصب الكثيرين منهم، فجرحوا أئمة بسبب مخالفتهم في الاعتقاد، أو في المذهب الفقهي، وهم المخطئون لأنهم جروا إلى أنفسهم الملامة، والمجروح هو المصيب لأنه بريء من الجرح، ويمكن اعتبار كلام التاج ضابطاً يُصحِّح مسار القاعدة؛ حيث التريث والتثبُّت من كلام النُّقاد في الثقات المجروحين.

وقوع التاج السُّبكي في شيخة الشَّمس الذهبيّ

ومن القضايا العجيبة أن نجد التاج السُّبكي يقع فيما قصد التحذير منه، والتنبيه إليه، فقد أسرف ابن السبكي، وبالغ في التشنيع على شيخه الذهبي، فعاب عليه فاتهمه بأنه يجرح عن تعصب وهوى، وتسرُّعٍ وغضب،  بسبب المخالفة في العقيدة ! وهو نفسه قد وقع فيما رمى به شيخة الذهبي؛ إذ بالغ في جرح شيخه بسبب المخالفة في العقائد، ووصفه بأوصاف شنيعة غير لائقة، ولا نشك أن السُّبكي هو المخطئ والإمام الذهبي هو المصيب؛ لأن عدالته ثابتة قطعا، وكان التاج السبكي تلميذاً عاقاً، ونسي أن عمدته في أخذه لها العلم هو الإمام الذهبي، ولولاه لما جاء ولا راح، وقد ذكر هذا الأمر عن السُّبكي الإمام الحافظ شمس الدين السخاوي رحمه الله.

وقال الحافظ السخّاوي رحمه الله في "الإعلان بالتوبيخ" (ص 56)، بعد أن أشار إلى طرفٍ مما نقد به السُّبكيُّ شيخة الحافظ الذهبي رحمهما الله تعالى: "فالذي نسبه التاج السُّبكي إلى شيخ الذهبيّ، على تقدير تسليمه، إنما هو في أفراد، مما وقع التاج في أقبح منه"، ثم ذكر السخاوي نموذجاً لما وقع فيه التاج السُّبكي؛ فانظر هناك.

وقد انتقد القاضي الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 111) تشنيع السُّبكي في مواضع من "بقاته" على شيخة الحافظ الذهبي، وقال: "وَمن جملَة مَا قَالَه السبكي فِي صَاحب التَّرْجَمَة أَنه كَانَ إِذا أَخذ الْقَلَم غضب حَتَّى لَا يدرى مايقول!! وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فمصنفاته تشهد بِخِلَاف هَذِه الْمقَالة، وغالبها الْإِنْصَاف والذب عَن الأفاضل، وَإِذا جرى قلمه بالوقيعة فِي أحد لم يكن من معاصريه؛ فَهُوَ إنما روى ذَلِك عَن غَيره، وَإِن كَانَ من معاصريه فالغالب أَنه لَا يفعل ذَلِك إلا مَعَ من يسْتَحقّهُ وَإِن وَقع مَا يُخَالف ذَلِك نَادرا فَهَذَا شَأْن الْبشر وكل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إلا الْمَعْصُوم، والأهوية تخْتَلف والمقاصد تتباين، وَرَبك يحكم بَينهم فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".

تعقبات الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة 

على إسراف السُّبكي في ذمِّ الإمام الذهبيّ بغير علمٍ ولا إنصاف

ويقول الشيخ عبد الفتاح أبو غُدة (ص 37) في تعليقه على الكتاب: وما عاب به (يعني التاج) شيخة الإمام شمس الدين الذهبي، وقاله فيه -رحمهما الله تعالى -لا يخلو من مبالغة وتحامل بسبب المخالفة في العقيدة أيضاً، نسأل الله أن يرزقنا العدل في الرضا والغضب.

وعلق على قول السُّبكي (اني اعتقد ان الرجل كان اذا مد القلم لترجمة احدهم غضب غضباً مفرطاً وقرطم الكلام!!): فيه مبالغةٌ طافحة، وتحاملٌ مكشوف! ومتى كان هذا الإمام الفذ الفريد، الصاعقة في الحفظ والذكاء والفهم ولمعان الذهن، لا يعقل ما ينطلق؟! نسأل الله السلامة من الشطط وسوء الأدب.

وعلَّق الشيخ عبد الفتاح على قول السُّبكي: (ثم هو -أي الذهبي -مع ذلك غير خبير بمدلولات الالفاظ كما ينبغي؛ ودائماً اتعجب من ذكره الإمام فخر الدين الرازي في كتاب الميزان في الضعفاء وكذلك السيف الامدي)، فقال: صحيح اَن أَصل الكتاب: "ميزان الاعتدال" بني على نَقد الرواة من حَمَلة الأثار، ولكنْ العلماءَ- بصرف النظر عن الفخر الرازي والسيف الآمدي- الذين وقع منهم ما ينتقد في سيرتهم أوعقيدتهم، ولا رواية لهم، هل يؤاخذ الذهبى رحمه الله نعالى إذا تَرجم لهم بما هم عليه، ليعرَفوا لمن بعدهم؟ وقانا الله العصبية لغير الحق وأَهله.

وعلق الشيخ عبد الفتاح على قول السُّبكي: (واذا وصل الى هذا الحد والعياذ بالله فهو مطبوع على قلبه؟!!)؛ قال: لقد أَسرف الشيخ تاج الدين في حق شيخه الإمام شمس الدين الذهبي- لقباً ومعنى، وبالغَ حتى أَفرط! ومال حتى قسط! ووقع في الشطط والغلط! وكيف ساغ له التعبير بهذه الكلمة الكبيرة؟ وإنها لكبيرة. وإذا كان الإمام شمس الدين الذهبي (مطبوعاً على قلبه) وحاشاه من ذلك، فمن الذي أَعاذه الله من (الطبع على قلبه) ؟ نسأل الله العدل في الرضا والغضب، والعافية من الإفراط والتفريط.

وقال الحافظ السخاوي في "الإعلام بالتوبيخ" (ص 76) تعقيباً على كلام التاج السُّبكي هذا، في حق شيخة الشمس الذهبي رحمه الله تعالى: "بالغ السُّبكيُّ في كلامه! مع أن الذهبي عمدته في  جُلِّ التراجم، وكونه -أي السُّبكي -قد زاد في التعصُّب على الحنابلة، كما أسلفته، فشاركه فيما زعمه من التعصب ودعوى الغِيبة. مع أني لا أنزه الذهبيَّ عن بعض ما نُسب إلأيه، وقد نَسَبَ إليه -أي الذهبي -ابن الجوزي إلى أنه في كتابه في "الضعفاء" يذكر من طعن في الراوي، ولا يذكر من وثقه. وعندي تحسيناً للظن به -أي ابن الجوزي -أنه لم يقف على التوثيق، والكمال لله تعالى. ويكفينا في جلالة الذهبي شربُ شيخنا الحافظ ابن حجر ماء زمزم لنيل مرتبته، وهل انتفع الناس في هذا الفن بعده وإلى  الآن بغير تصانيفه؟ والسعيد من عُدَّت غلطاته".

وقوع التاج السُّبكي في يحيى بن معين

ولم يسلم النُّقاد الأكابر من تطاولات السُّبكي؛ لتي امتدت إلى مثل الإمام الناقد يحيى بن معين؛ لأجل أن ابن معين تكلم في الشَّافعي، وقد شنَّع السُّبكي على ابن معين تشنيعاً شديداً، وعيَّره بوقوعه في فتنة خلق القرآن!!، وقد علَّق الشيخ عبد الفتاح (ص 19): الذي يبدو من كلام المؤلف غفر الله له، أن الراجح عنده أن ابن معين لم يطعن في الإمام الشافعي المطلبي رضي الله عنه (وإنما أراد الطعن في ابن عمه)، وإذا كان كذلك، فما كان ينبغي أن يغمز في ابن معين هذا الغمز، ويشطَّ عن الجادَّة !... وتعييره لابن معين بسبب فتنة خلق القرآن، وهذا غير لائقٍ بمثله، رحمه الله تعالى، فإن المرء لا يدري ماذا يكون موقفه لو كان في موضع يحيى بن معين؟! ورأى ما رآه يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو نصر التمّار وغيرهم، من عرضهم على السيف والعذاب، بشأن الامتناع عن الإجابة في تلك المسألة، نسأل الله العافية من كل بلاء، والعدل في القرباء والبعداء.

شروط المعدل والمُجرّح التي ذكرها تاج الدين السُّبكي

وقد وضع العلماء شروطاً ضابطة لمن يقوم بعملية الجرح والتعديل، وهذه الضوابط والشروط تكفل سلامة الناقد من الوقوع في الخطأ والزلل، وتصونه من الهوى، والغرض الفاسد، و لذا لم يقبل العلماء صدوره من أي عالم؛ حتى تتوافر فيه هذه الشروط، ومن شروط المعدل والجارح التي ذكرها التاج السبكي: 

(1) الخبرة بمدلولات الألفاظ، لا سيما الألفاظ العرفية، والتي تختلف باختلاف أعراف الناس، وتكون في بعض الأزمان مدحاً وفي بعضها ذماً، ومثال ذلك إذا قال ابن معين في الراوي: "ليس بشيء"؛ ففي الغالب يعني به أن أحاديثه ضعيفة، وفي غير الغالب يُريد به تضعيف حديثه، وقيل: إنه مجهول.

(2) العلم بالأحكام الشرعية؛ لأن الناقد إذا كان جاهلاً بالحلال والحرام، ربما جرح بما يعتقده حراماً وليس بحرام: مثل من جرح لكونه بال قائماً، أو مدح بما يظنه مباحاً وليس بمباح، مثل: من يعتقد إباحة زواج المتعة.

(3) ومن ضوابط الجرح والتعديل التي ذكرها التاج السبكي، أنه لا يقبل جرح من اشتهر بالعدالة ولو فسر إذا كانت قرينة دالة على سبب جرحه.

ذكر مسائل الجرح والتعديل 

التي ذكرها التاج السُّبكي في هذا الكتاب

أ- كلام الأقران في بعضهم البعض يُطوى ولا يُروى، إلا إذا جاء الجرح من عدلٍ وكان مُفسَّراً، ولم يكن الحامل عليه العصبية أو اختلاف المذهب.

ب-  من شهد على آخر وهو مخالف له في العقيدة، مثل شهادة السني على المبتدع وعكسه؛ فإن أوجبت شهادته ريبة عند الحاكم المتبصر فإنه يقبله، والاحتياط في شهادة المبتدع على السُّني أشد. وأن الصحيح في المذهب قبول شهادة المبتدع إذا لم نكفره.

ج- وهل من جرح غيره بغير مُجرِّحٍ، هل يُجرح به ؟ قال: أما من تكلم بالهوى ونحوه فلا شك فيه، وأما من تكلم بمبلغ ظنه، وكان ثقةً: فيجوز أن يكون واهماً، أو جرح متأولاً (بما يظنه جارحاً وليس بجارح)، أو يكون نقله عمَّن يظنه صادقاً وهو مطعونٌ فيه، ففي هذه الحالات لا يُجرح الجارح بجرحه.

د - إذا تعارض جرحٌ وتعديل، واستويا من جهة الظن، قُدِّم الجرح المُفسَّر، لأنَّ فيه زيادة علم، وأما إذا لم يقع فيهما استواء الظن، فلا تعارض، ويكون العمل بأقوى الظنين من جرحٍ أو تعديل.

خاتمة القاعدة

وختم - رحمه الله - هذه القواعد والضوابط بوصية هامة نافعة لطالب العلم، وهي: اتباع طريق التأدب مع العلماء، وعدم الخوض فيما وقع بين الأقران من المشاحنات بغير دليل، وأن يلتمس لهم العذر والتأويل، وأن يترضى على جميعهم؛ لأن الاشتغال بعد معايبهم ليس من السداد والرشاد في شيء وربما جر على طالب العلم ذلك هلاكا وفسادا كبيراً.

أين ذكر السُّبكي هذه القاعدة ؟

وهذه القاعدة لم يذكرها الإمام السبكي في كتاب مستقل، وإنما أوردها استطراداً في كتاب "طبقات الشافعية الكبرى"، في ترجمة أحمد بن صالح المصري، لأنه طُعن عليه، وقد قال فيه النسائي: ليس بثقةٍ ولا مأمون، وقد قام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بتحقيقها والتعليق عليها، ضمن مجموعة من الرسائل المطبوعة.

وقد ذكر الشيخ أبو غُدَّة أوردها التاج السُّبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" في ترجمة "أحمد بن صالح المصري"، وكان من المناسب ذكرها في ذلك الموضع، لما قيل في المترجم له من طعنٍ وتجريحٍ لا يُلتفتُ إليه، 

وقام المحقق رحمه الله بمقابلة هذه الرسالة بمصدرين هامين لإمامين كبيرين، نقلا هذه القاعدة، وأولياها الاهتمام والتقدير:

المصدر الأول: للمؤرخ الأديب صلاح الدين الصفدي في مقدمته الجامعة النفيسة التي صدَر بها كتابه "الوافي بالوفيات"، فقد جعل نصَّ تلك القاعدة في الفصل العاشر من فصول مقدمته (1/ 56)، واستهله بقوله رحمه الله: الفصل العاشر في أدب المؤرخ: نقلتُ من خط الإمام الحجة شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السُّبكي الشافعي، ما صورته: قَالَ يشْتَرط فِي المورخ الصدْق…".

المصدر الثاني: الحافظ المؤرح شمس الدين السخاوي رحمه الله تعالى في كتابه "الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ أهل التوريخ" (ص 72 -76) ط- الترقي، بدمشق، سنة 1349 م.

وقد تناول هذه القاعدة بالدراسة والتحليل الشيخ الفاضل السعيد الصمدي، ضمن مقال بعنوان: قراءة في الجرح والتعديل؛ لابن السُّبكي، موقع الألوكة، وهو في غاية النفاسة، ولا مزيد عليه:

https://www.alukah.net/sharia/0/106640/

تميم لقاعدة السُّبكي من كتاب ابن ناصر في "الرد الوافر"

ومن المناسب هنا ذكر ما كتبه الإمام محمد بن أبي بكر ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي في كتابه "الرد الوافر "تتميماً للفائدة، والذي أرى أنه يخدم هذه القاعدة ويزيد في بيانها؛ قال رحمه الله: وَالْكَلَام فِي الرِّجَال ونقدهم يَسْتَدْعِي أمورا فِي تعديلهم وردهم:

(1) مِنْهَا أَن يكون الْمُتَكَلّم عَارِفًا بمراتب الرِّجَال وأحوالهم فِي الانحراف والاعتدال ومراتبهم من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال. 

(2) وَأَن يكون من أهل الْوَرع وَالتَّقوى مجانباً للعصبية والهوى، خَالِيا من التساهل عَارِيا عَن غَرَض النَّفس بالتحامل. 

(3) مَعَ الْعَدَالَة فِي نَفسه والاتقان.

(4) والمعرفة بالأسباب الَّتِي يجرح بِمِثْلِهَا الانسان.

 وَإِلَّا لم يقبل قَوْله فِيمَن تكلم، وَكَانَ مِمَّن اغتاب وفاه بِمحرم

وَإِذا نَظرنَا فِي طَبَقَات النقاد من كل جيل الَّذين قبل قَوْلهم فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل رأيناهم أَئِمَّة بِمَا ذكر موصوفين، وعَلى سَبِيل نصيحة الْأمة متكلمين" وذكر طبقاتهم من المائة وستين الهجرية، إلى نقاد القرن السادس الهجري ممن هو في طبقة شيوخه.

وذكر الحافظ ابن ناصر الدمشقي -رحمه الله -في "الرد الوافر" أن هؤلاء النُّقاد توافرت فيهم الشروط السابقة، وأنهم لم يكونوا يطعنون في الثقات، لأجل الهوى واختلاف المذهب، فقال: "وَلم نر أحدا مِنْهُم عمد إِلَى إِمَام جليل ثِقَة نبيل رَمَاه عَن الْإِسْلَام بالتحويل وَلَا أفْصح بِكُفْرِهِ تَصْرِيحًا وَلَا حكم عَلَيْهِ بعد مَوته بالْكفْر تجريحا حاشا أَئِمَّة هَذِه السّنة من الْميل عَن سنَن الْهدى أَو الانحراف إِلَى قلَّة الانصاف بِاتِّبَاع الْهوى لَكِن بعض الْأَعْيَان تكلم فِي بعض الأقران مثل كَلَام أبي نعيم فِي ابْن مَنْدَه وَابْن مَنْدَه فِيهِ فَلَا نتَّخذ كَلَامهمَا فِي ذَلِك عُمْدَة بل وَلَا نحكيه لِأَن النَّاقِد إِذا بحث عَن سَبَب الْكَلَام فِي مثل ذَلِك وانتقد رَآهُ إِمَّا لعداوة أَو لمَذْهَب أَو لحسد وَقل أَن يسلم عصر بعد تِلْكَ الْقُرُون الثَّلَاثَة من هَذِه المهالك وَمن نظر فِي التَّارِيخ الاسلامي فضلا عَن غَيره حقق ذَلِك وَمَا وَقع مِنْهُ فِي الْأَغْلَب كَانَ سَببه الْمَذْهَب".

  • وأنقل هنا خاتمة البحث، الذي ذكره الأخ الصمدي:

وبعد هذه الجولة الممتعة في رياض علم الجرح والتعديل، من خلال قراءة في (قاعدة في الجرح والتعديل) للتاج السبكي تبين لنا ما يلي:

- أن هذه القاعدة التي ذكرها التاج السبكي هامة ونافعة في بابها؛ لأنه حملت لنا بعضا من قواعد وشروط الجرح والتعديل مقرونة بأمثلة تطبيقية.


- أن العلماء وضعوا قواعد في الجرح والتعديل تعتبر ميزاناً لنقد المنقول، وهي تمثل أفضل ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري المجرد نقاء وطهارة، وسلامة من الهوى والعصبية.

  -  ومن ضوابط الجرح والتعديل التي فصل فيها القول وجوب تفقد حال الجارح والمعدل عند اختلاف العقائد.

  - تبين لنا أن ابن السبكي قد بالغ في التشنيع على شيخه الذهبي، ونسي أن عمدته في أخذه للعلوم هو الذهبي، ولولاه لما جاء ولا راح.