حقيقة السنة والبدعة =الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع
تأليف الإمام
عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي
(المتوفى: 911هـ)
تحقيق: مشهور حسن سلمان
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/الابتداع في الدين فعلٌ ذميم، وخطرٌ عظيم، وهو أكبر ناقضٍ لشِرعة المهديين، من حيث أنه: استحسانُ ما لم يأتِ بتحسينه دليل، وردٌّ لما ثبت بنقل العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد".
فكان نقض المبتدع لهذا الأصل العظيم، علَّة السَّقم، وغُصَّة الطَّعام، ولذا كان واجبُ العلماء ومقصدهم الأول بيان البدعةِ، وأقسامها، وما يُكره وما يحرمُ منها، وبيان أثرها السيء على الأُمَّة، وبيان تلك البدع تفصيلاً وإجمالاً، ولهذا أفرد كثيرٌ من العلماء هذا الموضوع بالتصنيف، ومن أبرزهم: الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، صاحب كتاب "الاعتصام"، وقد أطال فيه النفس جداً، وشفى بُلغة الأنفس، ولكنه لم يكمله رحمه الله.
وقد قال الإمام الشاطبيُّ في الاعتصام (2/ 614- 615): "وأنا أرجو أن يكون هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفلاً جداً؛ إلا من النقل الجلي؛ كما نقل ابن وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي.
ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين. إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.
وقد شفى بعض ما في أنفسنا ما خطَّه الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، في كتابه "الأمر بالاتباع، والنهي عن الابتداع"، فجاء وافياً بالمقصود، مستوعباً للمطلوب في بابه.
● مكان العثور على هذا الكتاب:
وقد عُثر على نسخة هذا الكتاب في "جامعة كامبريدج" (1/ 890) كما في "دليل مخطوطات السيوطي" (ص: 163)، وعنه صورة في "مركز الوثائق والمخطوطات" في "الجامعة الأردنية"، بخط الناسخ "إبراهيم بن أحمد بن يوسف النجدي التميمي الحنبلي، بتاريخ (1188 هـ).
● هذا الكتاب:
وقد قسَّم الإمام السَّيوطيُّ كتابه هذا إلى فصول عدة، أورد فيها كثيراً من الأحاديث والآثار التي تأمر بلزوم السنة والجماعة، وتذمُّ البدع والأهواء والفرقة.
ومن ثمَّ ذكر تعريف البدعة اصطلاحاً، وأقسامها، والفرق بينها وبين السنة، وبعد ذلك أخذ في تعداد مفرادات البدع التي كانت شائعةً في زمانه.
وختم كتابه بذكر وصيتين في التمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة، إحداهما: للإمام الثوري والأخرى للإمام الشافعي، وقد تضمنت عقيدتهما.
● الكتب التي اعتمد عليها السيوطي:
يقول الشيخ مشهور سلمان (ص: 11): "استطعتُ بعد البحث والتمحيص، الاهتداء إلى مصادر الكتاب التي لم يُصرح السيوطي إلا بأسماء اليسير منها، ولكنه رحمه الله ينقل منها، وينسب على الأعم الغالب الكلام لأصحابها".
واعتمد السيوطيُّ مصادر كثيرة منها:
• "تلبيس إبليس"، و"ذمِّ الهوى"، لابن الجوزي (ت 596 هـ)، وأكثر من النقل منه، وإن لم يُصرِّح بذلك.
• "شرح السُّنة" للبغوي (ت 516 هـ).
• "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة المقدسي (ت 665 هـ).
• "الكامل" لابن المبرد.
• "أداء ما وجب" لأبي الخطاب.
● وأكثر الإمام السيوطي النقل من:
• "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 727 هـ)، وقد أكثر النقل عنه، ولم يُصرح بذلك.
• "الأم" للشافعي (ت 204 هـ)، ونقل عنه في موطنين.
• "أداء ما وجب في بيان وضع الوضاعين في رجب" لأبي الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن دحية الكلبي (ت 633 هـ)، ونقل عنه في موطن واحد.
• "الحوادث والبدع" لأبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)، ونقل عنه في أكثر من موضع.
• "البدع والنهي عنها" لأبي عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع (ت 286 هـ).
• "الاعتصام"؛ لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي (ت 790 هـ)، ولم يُصرح به، ونقل عنه في مواطن قليلة.
• "فتوى ابن الصلاح في صلاة الرغائب" لأبي عمرو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشافعي (ت 643 هـ).
• "فتوى العزِّ بن عبد السلام في صلاة الرغائب"لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام
(ت 660 هـ).
● نسبة هذا الكتاب إلى الإمام السيوطي:
وممن نسبه له من أهل العلم، جماعةٌ منهم:
أولاً: محمد جمال الدين القاسمي في "إصلاح المساجد"، ونقل عنه في مواطن عدة، منها: "ص 96 و108 و 126".
ثانياً: يوسف إسماعيل النبهاني في "دليل التجار إلى أخلاق الأخيار"، ونقل عنه في موطن واحد.
ثالثاً: أحمد الخازندار، ومحمد الشيباني في "دليل مخطوطات السيوطي، ص: 162"، ولم ذكره السيوطي في قائمة مصنفاته التي ذكرها في "التحدث بنعمة الله"، ولا في "حسن المحاضرة"، ولم ذكره من ترجم له ضمن القائمة الواردة، إلا الثلاثة المذكورون آنفاً.
- وقد أشار إلى ذلك الشيخ إياد الطباع في كتابه "الإمام السيوطي" في جملة مصنفاته، رقم (122)، (ص: 323).
● تعريف البدعة عند الإمام السيوطي:
والبدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة، أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان.
قلت (محمد): وتفسير تعريف السيوطيُّ هو أن البدعة (فعلة) والفعل كما هو معلوم يشمل القول والعمل، وعبَّر باسم المرَّة لتشمل المتكررة منها، أو ما هو من جنسها، وما يُشابهها.
(تُصادم الشريعة) احترازاً عن الموافقة للشريعة، فإنها لا تُسمى بدعةً شرعاً، وإن سُميت بدعةً لغوية كما في قول عُمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" إذ أصلها مشروعٌ، موافقٌ لأصول الشريعة، ولا تُعارضها بوجهٍ من الوجوه.
(بالمخالفة) أي أن المقصود منها: مضاهاة الشريعة، على وجهٍ يُخالف السُّنَّة المُقرَّرة قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، بخلاف من عمل أمراً يُخالف الشريعة ولا يقصد المخالفة؛ فعمله يُسمى معصيةً لا بدعةً، وإن شابه البدعة من بعض الوجوه.
وقوله (توجب) أي الفعلة (التعاطي عليها) أي على هذه الفعلة (بزيادةٍ أو نقصانٍ) أي زيادة في الدين أو النقص منه.
قال السيوطيُّ: وقد جرت محدثاتٌ لا تصادم الشريعة؛ ولم يتعاطى عليها (أي يُداوم عليها)، فلم يروا (أي السَّلف) بفعلها بأساً، بل قال بعضهم: إنها قربة، وهو صحيح، ونحن نوافق السيوطيُّ أيضاً في هذا الأمر؛ إذ أنَّه يقصد بذلك البدعة اللغوية، ومنها "البدعة الحسنة"، ومعلومٌ أن البدعة اللغويَّة أعمُّ من البدعة الشرعية المذمومة.
وتفسير كلام السيوطيِّ رحمه الله هو ما جاء في "الباعث"، وهو قول أبي شامة المقدسي رحمه الله: البدعة الحسنة: هِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا، وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي، وَذَلِكَ نَحْو: بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول، فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى.
وعلى هذا يُمكن فهم كلام السيوطيُّ رحمه الله أن الحوادث تنقسم إلى: بدعة مستحسنة، وإلى بدع مستقبحة.
● البدعة الحسنة والسيئة:
وقد عرَّف السيوطيُّ البدعة الحسنة، بأنها: كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء، ولا يلزم من فعله محظور شرعي.
قلت (محمد): فقيَّدها بقيدين:
القيد الأول: الموافقة لقواعد الشريعة، ويلزم من ذلك عدم مخالفة الشريعة بوجهٍ من الوجوه.
الثاني: أنه لا يلزم من فعلها محظورٌ شرعيّ؛ لأن الفعل الذي يترتب عليه محظورٌ مُحرَّمٌ من باب سدِّ الذرائع، وحكمه حكم ما جُعل ذريعةً له.
• أما البدعة الضلالة (المستقبحة)؛ فيُعرِّفها السيوطيُّ بقوله:
"هي ما كان مخالفاً للشريعة أو ملتزماً لمخالفتها، وذلك منقسم إلى محرم ومكروه".
قلت (محمد): وبيان ذلك: أن البدعة المذمومة لها قيود:
القيد الأول: مُخالفة الشريعة: يعني ظاهراً أو باطناً، قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، ويخرج به ما وافق الشريعة فهو سُنَّةٌ لا بدعة.
القيد الثاني: أن يلزم من هذه البدعة مخالفة الشريعة تضمُّناً أو تصريحاً، ولو من بعض الوجوه، ولو من غير قصد المخالفة، فيكون الفعل بدعةً، والفاعلُ ليس مبتدعاً.
● أقسام البدع المستقبحة عند الإمام السيوطيّ (قسمان):
الأول: في العقائد المؤدية إلى الضلال والخسران.
قال: وأهل الفرق الضالة ستٌّ، وقد انقسمت كل فرقة منها اثني عشر فرقة، فذلك اثنان وسبعون فرقة، هم الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم في النار.
الثاني: في الأفعال من البدع المستقبحة: (وينقسم قسمين):
1- قسم تعرف العامة والخاصة أنه بدعة محدثة، إما محرمة، وإما مكروهة.
2- وقسم يظنه معظمهم عبادات، وقربات، وطاعات وسنناً، وليست كذلك.
● فهارس البدع والسُّنن.
وقد أحسن الشيخ مشهور سلمان حينما قام بعمل فهرسين: أحدهما للسُّنن (وتبلغ: 45 سُنَّة) والآخر للبدع (والتي بلغت 180 بدعة).
• أخطاء في التحقيق:
1- (ص: 69، وقال الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هزَّة يمشي على الماء ما قبلته) والصواب: "صاحب هوى".
2- (ص: 69، ما جاء عن الشافعيِّ من قوله: أما إنه قد قصر لو رأيته يمشي في الهواء)، والصواب: "قد قصد"، وإن كان الشيخ حفظه الله نقل ذلك كما هو عن الشافعيِّ، إلا أن المعنى لا يستقيم إلا بما ذكرناه.
3- (ص: 114، قوله في ترجمة الفصل: الشرك باتخاذ أمنة، والتصويب: أمكنة).
هذا ما أمكن الوقوف عليه، والحمد لله رب العالمين.