أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 ديسمبر 2020

حقيقة السنة والبدعة =الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع -عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي

حقيقة السنة والبدعة =الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع

تأليف الإمام 

عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي

(المتوفى: 911هـ)

تحقيق: مشهور حسن سلمان


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/الابتداع في الدين فعلٌ ذميم، وخطرٌ عظيم، وهو أكبر ناقضٍ لشِرعة المهديين، من حيث أنه: استحسانُ ما لم يأتِ بتحسينه دليل، وردٌّ لما ثبت بنقل العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا فهو رد".

فكان نقض المبتدع لهذا الأصل العظيم، علَّة السَّقم، وغُصَّة الطَّعام، ولذا كان واجبُ العلماء ومقصدهم الأول بيان البدعةِ، وأقسامها، وما يُكره وما يحرمُ منها، وبيان أثرها السيء على الأُمَّة، وبيان تلك البدع تفصيلاً وإجمالاً، ولهذا أفرد كثيرٌ من العلماء هذا الموضوع بالتصنيف، ومن أبرزهم: الإمام إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، صاحب كتاب "الاعتصام"، وقد أطال فيه النفس جداً، وشفى بُلغة الأنفس، ولكنه لم يكمله رحمه الله.

وقد قال الإمام الشاطبيُّ في الاعتصام (2/ 614- 615): "وأنا أرجو أن يكون  هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفلاً جداً؛ إلا من النقل الجلي؛ كما نقل ابن وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي.

ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين. إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.

وقد شفى بعض ما في أنفسنا ما خطَّه الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، في كتابه "الأمر بالاتباع، والنهي عن الابتداع"، فجاء وافياً بالمقصود، مستوعباً للمطلوب في بابه.

● مكان العثور على هذا الكتاب:

وقد عُثر على نسخة هذا الكتاب في "جامعة كامبريدج" (1/ 890) كما في "دليل مخطوطات السيوطي" (ص: 163)، وعنه صورة في "مركز الوثائق والمخطوطات" في "الجامعة الأردنية"، بخط الناسخ "إبراهيم بن أحمد بن يوسف النجدي التميمي الحنبلي، بتاريخ (1188 هـ).

●  هذا الكتاب:

وقد قسَّم الإمام السَّيوطيُّ كتابه هذا إلى فصول عدة، أورد فيها كثيراً من الأحاديث والآثار التي تأمر بلزوم السنة والجماعة، وتذمُّ البدع والأهواء والفرقة.

ومن ثمَّ ذكر تعريف البدعة اصطلاحاً، وأقسامها، والفرق بينها وبين السنة، وبعد ذلك أخذ في تعداد مفرادات البدع التي كانت شائعةً في زمانه.

وختم كتابه بذكر وصيتين في التمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة، إحداهما: للإمام الثوري والأخرى للإمام الشافعي، وقد تضمنت عقيدتهما.

●  الكتب التي اعتمد عليها السيوطي:

يقول الشيخ مشهور سلمان (ص: 11): "استطعتُ بعد البحث والتمحيص، الاهتداء إلى مصادر الكتاب التي لم يُصرح السيوطي إلا بأسماء اليسير منها، ولكنه رحمه الله ينقل منها، وينسب على الأعم الغالب الكلام لأصحابها".

واعتمد السيوطيُّ مصادر كثيرة منها:

• "تلبيس إبليس"، و"ذمِّ الهوى"، لابن الجوزي (ت 596 هـ)، وأكثر من النقل منه، وإن لم يُصرِّح بذلك.

• "شرح السُّنة" للبغوي (ت 516 هـ).

• "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة المقدسي (ت 665 هـ).

• "الكامل" لابن المبرد.

• "أداء ما وجب" لأبي الخطاب.

● وأكثر الإمام السيوطي النقل من:

• "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 727 هـ)، وقد أكثر النقل عنه، ولم يُصرح بذلك.

• "الأم" للشافعي (ت 204 هـ)، ونقل عنه في موطنين.

• "أداء ما وجب في بيان وضع الوضاعين في رجب" لأبي الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن دحية الكلبي (ت 633 هـ)، ونقل عنه في موطن واحد.

• "الحوادث والبدع" لأبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)، ونقل عنه في أكثر من موضع.

• "البدع والنهي عنها" لأبي عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع (ت 286 هـ).

• "الاعتصام"؛ لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي (ت 790 هـ)، ولم يُصرح به، ونقل عنه في مواطن قليلة.

• "فتوى ابن الصلاح في صلاة الرغائب" لأبي عمرو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشافعي (ت 643 هـ).

• "فتوى العزِّ بن عبد السلام في صلاة الرغائب"لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام

(ت 660 هـ).


●  نسبة هذا الكتاب إلى الإمام السيوطي:

وممن نسبه له من أهل العلم، جماعةٌ منهم:

أولاً: محمد جمال الدين القاسمي في "إصلاح المساجد"، ونقل عنه في مواطن عدة، منها: "ص 96 و108 و 126".

ثانياً: يوسف إسماعيل النبهاني في "دليل التجار إلى أخلاق الأخيار"، ونقل عنه في موطن واحد.

ثالثاً: أحمد الخازندار، ومحمد الشيباني في "دليل مخطوطات السيوطي، ص: 162"، ولم ذكره السيوطي في قائمة مصنفاته التي ذكرها في "التحدث بنعمة الله"، ولا في "حسن المحاضرة"، ولم ذكره من ترجم له ضمن القائمة الواردة، إلا الثلاثة المذكورون آنفاً.

- وقد أشار إلى ذلك الشيخ إياد الطباع في كتابه "الإمام السيوطي" في جملة مصنفاته، رقم (122)، (ص: 323).

●  تعريف البدعة عند الإمام السيوطي:

والبدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة، أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان.

قلت (محمد): وتفسير تعريف السيوطيُّ هو أن البدعة (فعلة) والفعل كما هو معلوم يشمل القول والعمل، وعبَّر باسم المرَّة لتشمل المتكررة منها، أو ما هو من جنسها، وما يُشابهها.

(تُصادم الشريعة) احترازاً عن الموافقة للشريعة، فإنها لا تُسمى بدعةً شرعاً، وإن سُميت بدعةً لغوية كما في قول عُمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" إذ أصلها مشروعٌ، موافقٌ لأصول الشريعة، ولا تُعارضها بوجهٍ من الوجوه.

(بالمخالفة) أي أن المقصود منها: مضاهاة الشريعة، على وجهٍ يُخالف السُّنَّة المُقرَّرة قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، بخلاف من عمل أمراً يُخالف الشريعة ولا يقصد المخالفة؛ فعمله يُسمى معصيةً لا بدعةً، وإن شابه البدعة من بعض الوجوه.

وقوله (توجب) أي الفعلة (التعاطي عليها) أي على هذه الفعلة (بزيادةٍ أو نقصانٍ) أي زيادة في الدين أو النقص منه.

قال السيوطيُّ: وقد جرت محدثاتٌ لا تصادم الشريعة؛ ولم يتعاطى عليها (أي يُداوم عليها)، فلم يروا (أي السَّلف) بفعلها بأساً، بل قال بعضهم: إنها قربة، وهو صحيح، ونحن نوافق السيوطيُّ أيضاً في هذا الأمر؛ إذ أنَّه يقصد بذلك البدعة اللغوية، ومنها "البدعة الحسنة"، ومعلومٌ أن البدعة اللغويَّة أعمُّ من البدعة الشرعية المذمومة.

وتفسير كلام السيوطيِّ رحمه الله هو ما جاء في "الباعث"، وهو قول أبي شامة المقدسي رحمه الله: البدعة الحسنة: هِي كل مُبْتَدع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا، وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي، وَذَلِكَ نَحْو: بِنَاء المنابر والربط والمدارس وخانات السَّبِيل وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْبر الَّتِي لم تعد فِي الصَّدْر الأول، فَإِنَّهُ مُوَافق لما جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة من اصطناع الْمَعْرُوف والمعاونة على الْبر وَالتَّقوى.

وعلى هذا يُمكن فهم كلام السيوطيُّ رحمه الله أن الحوادث تنقسم إلى: بدعة مستحسنة، وإلى بدع مستقبحة.

● البدعة الحسنة والسيئة:

وقد عرَّف السيوطيُّ البدعة الحسنة، بأنها: كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء، ولا يلزم من فعله محظور شرعي.

قلت (محمد): فقيَّدها بقيدين:

القيد الأول: الموافقة لقواعد الشريعة، ويلزم من ذلك عدم مخالفة الشريعة بوجهٍ من الوجوه.

الثاني: أنه لا يلزم من فعلها محظورٌ شرعيّ؛ لأن الفعل الذي يترتب عليه محظورٌ مُحرَّمٌ من باب سدِّ الذرائع، وحكمه حكم ما جُعل ذريعةً له.

• أما البدعة الضلالة (المستقبحة)؛ فيُعرِّفها السيوطيُّ بقوله:

"هي ما كان مخالفاً للشريعة أو ملتزماً لمخالفتها، وذلك منقسم إلى محرم ومكروه".

قلت (محمد): وبيان ذلك: أن البدعة المذمومة لها قيود:

القيد الأول: مُخالفة الشريعة: يعني ظاهراً أو باطناً، قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً، ويخرج به ما وافق الشريعة فهو سُنَّةٌ لا بدعة.

القيد الثاني: أن يلزم من هذه البدعة مخالفة الشريعة تضمُّناً أو تصريحاً، ولو من بعض الوجوه، ولو من غير قصد المخالفة، فيكون الفعل بدعةً، والفاعلُ ليس مبتدعاً.

●  أقسام البدع المستقبحة عند الإمام السيوطيّ (قسمان):

الأول: في العقائد المؤدية إلى الضلال والخسران.

قال: وأهل الفرق الضالة ستٌّ، وقد انقسمت كل فرقة منها اثني عشر فرقة، فذلك اثنان وسبعون فرقة، هم الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم في النار.

الثاني: في الأفعال من البدع المستقبحة: (وينقسم قسمين):

1- قسم تعرف العامة والخاصة أنه بدعة محدثة، إما محرمة، وإما مكروهة.

2- وقسم يظنه معظمهم عبادات، وقربات، وطاعات وسنناً، وليست كذلك.

●  فهارس البدع والسُّنن.

وقد أحسن الشيخ مشهور سلمان حينما قام بعمل فهرسين: أحدهما للسُّنن (وتبلغ: 45 سُنَّة) والآخر للبدع (والتي بلغت 180 بدعة).

• أخطاء في التحقيق:

1- (ص: 69، وقال الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هزَّة يمشي على الماء ما قبلته) والصواب: "صاحب هوى".

2- (ص: 69، ما جاء عن الشافعيِّ من قوله: أما إنه قد قصر لو رأيته يمشي في الهواء)، والصواب: "قد قصد"، وإن كان الشيخ حفظه الله نقل ذلك كما هو عن الشافعيِّ، إلا أن المعنى لا يستقيم إلا بما ذكرناه.

3- (ص: 114، قوله في ترجمة الفصل: الشرك باتخاذ أمنة، والتصويب: أمكنة).

هذا ما أمكن الوقوف عليه، والحمد لله رب العالمين.



البدعة ضوابطها وأثرها السيئ في الأمة -علي بن محمد بن ناصر الفقيهي

البدعة ضوابطها وأثرها السيئ في الأمة

علي بن محمد بن ناصر الفقيهي

الجامعة الإسلامية – الطبعة الثانية 1414 هـ

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

 تمهيد/ قد جاء الآيات، وتواترت الأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تحثُ الأمة على التمسك بالكتاب والسنة، وتُحذِّر من أتباع الأهواء، والآراء، والابتداع في الدين، ذلك أن الله سبحانه أكمل هذا الدين، ولم يكتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، وكُلُّ مُبتدعٍ فلازم فعله وقوله يقول: إن هذا الدين لم يكتمل، أو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أُمر بتبليغه!.

والأول يردُّه قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.

والثاني يردُّه حديث عائشة في الصحيح، قالت: (من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من مما أنزله الله عليه فقد أعظم على الله الفرية).

  • فإن قيل: ما الدليل على أنَّ الرسول قد بلَّغ رسالته ؟

فالجواب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67).

  • ما حكم من اعتقد أن الشريعة لم تكتمل وأن ثمَّة نقصٌ في الدين ؟

ومن اعتقد أن الشريعة لم تكمل، أو أنَّ مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً، فهو ضالٌ مُضل، وقد كفر باعتقاده ذلك، وخرج عن ملة الإسلام، وكان أضلُّ من حمارِ أهله.

  • ما هو خطر البدع على وحدة الأمة وتماسكها ؟

ولا شكَّ أن هذه المحدثات في الاعتقاد، والأفعال، والأقوال، والمناهج، تجرُّ الأمة إلى الشقاق والنزاع المؤدي إلى الاختلاف والفرقة؛ فما لم يكن ديناً في عصر النبوَّة الأول فإنه لا يكون اليوم ديناً.

  • ما هي البدعة ؟

1- البدعة في اللغة: الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أى: مخترعهما من غير مثال سابق,.

2- والبدعة في الشرع: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.

  • محترزات التعريف:

1- قوله (طريقةٌ في الدين) يشمل العبادات والمعاملات والأخلاق، فيخرج منه الأمور الدنيوية التي لا تتعلق بها أحكام الشارع، كالصناعات والتجارات، والمخترعات.

2- (مخترعة) أي لا أصل لها من كتاب أو سُنَّةٍ أو إجماع. فيخرج من البدعة ما كان له أصلٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وإن أطلق عليه لفظ البدعة فالمقصود به البدعة اللغوية.


  • تقسيم البدعة إلى بدعة حقيقية، وبدعة إضافية ؟

أ- البدعة الحقيقة:

هى التي لا أصل لها من كتاب أو سنة أو إجماع.

ومثال ذلك: التعبد لله بالصمت طوال اليوم، أو صلاة الظهر ركعتين، أو الصلاة بغير طهارة، أو إنكار الاحتجاج بالسنة، أو تقديم العقل على النقل، أو القول بارتفاع التكاليف عند الطرق الصوفية، فيكون الدين على حسب الهوى والرغبات، وإشباع الشهوات.

ب- البدعة الإضافية:

وهي إدخال صفةٍ أو كيفيةٍ ليست بمشروعة على أمرٍ أصله مشروع. وأكثر البدع المنتشرة عند الناس من هذا النوع.

ومن أمثلتها: الصوم حالة كونه قائماً في الشمس، ولا يستظل.

أو ذكر الله بكيفيات وهيئات لم يجعلها الشارع طريقةً للذكر، كالاجتماع على الذكر بصوتٍ واحد.

أو الاحتفال بمولد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بطرق وأشياء غير مشروعة، فأصل مولده ليس بدعة، وكذلك محبته في ذلك اليوم ليس بدعة، ولكن الاحتفاء والاحتفال بمولده لا يكون بتخصيص يوم ميلاده بالاحتفاء والاحتفال.

القسم الثاني وهو: تقسيم البدعة إلى: قولية- عملية- اعتقادية:

1- فالبدعة في العمل: تكون في العمل الظاهر ابتداءً أو إضافةً، وهي داخلةٌ كلها تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".

2- والبدعة في الاعتقاد: إذا كان اعتقادًا للشيء على خلاف ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم، كاعتقاد الخوارج، والمشبهة، والمعطلة، والمؤولة.

3- والبدعة القولية: إذا كانت تُخالف لما جاء في كتاب الله عز وجل، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المضاهاة.

  • النهي عن مجالسة أهل البدع:

وقد جاء عن عدد من علماء التابعين، النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وذلك خوفا من أن يؤثر صاحب البدعة في جليسه؛ وصاحب البدعة:

1- إما أن يقذف في قلبك بدعته بتحسينه إياها.

2- وإما أن يمرض قلبك ويؤلمه، لما تشاهد من أعماله، وتسمع من أقواله من الأمور المخالفة للشرع.

قال الحسن: (لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك). 

وعن أبي قلابة قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون).

وعن أبي قلابة قال: (إن أهل الأهواء أهل ضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار).

وعن أيوب السختياني أنه كان يقول: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد بُعدًا من الله)، وكان يسمي أهل البدع خوارج.

وعن يحيى بن كثير قال: (إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر) .

  • ذمُّ المبتدع:

يقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم (الاعتصام 1/ 49):

"إن المبتدع (معاند للشرع)، و(مشاق له)؛ لأن الشارع، قد عيّن لمطَالب العبد طُرقا خاصة، على وجوه خاصة، وقصرَ الخلق عليها، بالأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

فالمبتدع رادٌّ لهذا كله، فإنه (يزعم أن ثَمَّ طرقا أٌخَر)، وأن ما حصره الشارع ليس بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأنّ الشارع يعلم، ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من (استدراكه الطرق على الشارع)، أنه علم مالم يعلمه الشارع".

  • وهذا العمل من المبتدع، إن كان مقصودًا، فهو كفر.

  • وإن كان غير مقصود فهو ضلال".

 "ثم إن المبتدع بعمله هذا (قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع)؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حَكَمَ بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.

  فالشرع ليس من مدركات العقول، حتى يضع كل إنسان تشريعاً من عند نفسه، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشرية، فكأن هذا المبتدع في دين الله قد صيّر نفسه نظيرًا ومضاهياً للشارع، حيث عمل تشريعا مثله، وفتح باب الاختلاف والفرقة".

"ثم إن هذا العمل من المبتدع أيضا، (مُتَّبعٌ للهوى، والشهوات)، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}، فمن لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضلُّ منه".

  • توبة المبتدع :

يرى بعض علماء التابعين أن المبتدع من أبعد الناس عن التوبة، وأن المبتدع لا ينتقل من بدعة إلا إلى شر منها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} .

فعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها".

وقال أكثر العلماء: إن تاب المبتدع قُبلت توبته، كسائر الذنوب والمعاصي.


  • حكم المبتدع:

المبتدع: هو الذي يحدث البدعة، ويدعو إليها، ويوالي ويعادي عليها.

والبدعة: قد تكون مكفّرة، وغير مكفّرة.

فمن اعتقد أن شيخه ينصره ويرزقه ويُغيثه ويُعينه من دون الله، أو أنه يستغني بشيخه عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقا، أو مقيدًا في شيء من الفضل، فهذه البدع كلها مكفرة، وإن أظهروا ذلك فهم كفار، وإن أبطنوه فهم منافقون.

أما البدع العملية، فإنها لا تصل إلى درجة الكفر، وإنما ارتكابها مُحرَّمٌ أو مكروه بحسبها.

  • وضابط البدعة المكفرة:

إنكار أمرٍ مُجمعٍ عليه، أو متواترٍ من الشرع، أو معلوم من الدين بالضرورة، من جحود مفروض، أو فرض ما لم يفرض، أو إحلال محرم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتابه عنه.

  • والبدعة غير المكفرة: 

    هي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب، ولا بشيء من مما أرسل به رسله.

    ومثال ذلك: تأخير بعض الصلوات عن وقتها، وتقديم الخطبة قبل صلاة العيد.





الأحد، 13 ديسمبر 2020

أحكام الهديَّة في الإسلام -تأليف الشيخ إبراهيم بن عبد الله المزروعي

أحكام الهديَّة في الإسلام

تأليف الشيخ إبراهيم بن عبد الله المزروعي

شبكة بينونة للعلوم الشرعية


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة


تمهيد/ الهديَّة تُثمر المحبَّة، وتورثُ المودَّة، وتذهب بالغوائل، وتزيل السخيمة، وتسر العين، وتزيد من بهجة اللقاء، مع تأثيرها البالغ في إمتاع النفس، وغمر شعور المرء بالسرور الظاهر والباطن. ولذلك فقد حثَّ نبينا الكريم على التهادي؛ فقال: (تهادوا تحابُّوا)، وكان عليه الصلاة والسلام: (يقبل الهديَّة، ويُثيب عليها، ويكره ردَّها)، وكان السلف يصطحبون معهم هدية إلى من يقدمون عليه، ولو عودا من أراك؛ فطوبى لمن: يزرعون السعادة، ويحملون للناس الإفادة، وطوبى لمن ينشرون المحبة، ويزرعون السلام، وطوبى لمن يخفون المآسي والأحزان، ويصمدون أمام الأحداث كالجبال الرواسي، وطوبى لمن سهر ليله ليرتاح الآخرون، وطوبى لمن يحملون للناس الهداية، وكان رضى الرحمن لهم أنبل غاية، وطوبى لمن يزرعون الأمل، ويُداوون الألم ولو ببسمة ترتسم على الشفاه، ولو بنظرة رحمة تتسرب إلى القلب فتُحدث فيه العجائب والخيرات.

وهذا كتابٌ نفيس، طرق فيه مؤلفه أهم مباحث الهدية والتهادي في الإسلام، فذكر تعريفها لغةً، واصطلاحاً، ومشروعيتها، وحكمها وحكم قبولها، وردها، وما هي الهدايا التي تُقبل؟ ومتى تُرد الهدايا؟ والمكافأة على الهدية، وحكم الرجوع فيها، والهدية من المجهول، والمنُّ في الهدية، وإذا مات المُهدى إليه إلى من تصير الهدية، والهدية للأقارب، وأنواع الهدايا وأحكامها.

  • أهم مسائل هذا البحث:

  1. تعريف الهدية:

وهي تبرُّع بعينٍ من إنسان بقصد تحصيل الألفة والثواب من غير طلب ولا شرط، وقد يقصد بها إكرام الموهوب، أو إصلاح ذات البين، وزيادة المودة.

  1. الهدية في الكتاب والسنة وأثرها في النفوس:

ورد ذكر الهدية في قصة بلقيس وسليمان عليه السلام، يقول الله عز وجل: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل: 35)، فأرادت بهديتها أن تستميل قلب سليمان إليها وإلى قومها، ليتركهم وما يعبدون، فكان ردُّ سليمان عليه السلام: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ} (النمل: 36، 37)، وهكذا الدعاة إلى الله أصحاب الهمم العالية لا تثنيهم الهدايا عن مبادئهم وأخلاقهم.

أما في السنة فقد مرت معنا الأحاديث؛ ولذلك أجمعت الأمة على جواز أخذ الهدية إذا لم يكن هناك مانع شرعي يمنع أخذها.

  1. حكم الهدية:

الهدية جائزة بإجماع الأمة إذا لم يكن هناك مانع شرعي، وتكون مستحبة مندوباً إليها إذا كانت للصلة والمودة والمحبة، وتكون مشروعة إذا كانت من باب رد الجميل والمكافأة، 

  1. حكم قبول الهدية:

يُستحبُّ قبول الهديَّة ممن أهداها، إلا إذا كانت الهدية في نفسها محرمة أو كانت ذريعة إلى الحرام، مثل الهدية التي تكون من باب الرشوة وما يأخذ حكمها.

  1. حكم رد الهدية وموانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية:

الأصل في ردِّ الهديَّة أنه مكروه، إلا لعذر شرعي، مثل كون الهدية تحرم عليه: كإهداء الصيد المقصود للمُحرِم، وكون الهدية رشوة عن الدين؛ كما في قصَّة سليمان عليه السلام، وكذلك إذا كانت الهدية فيها تشبه بالمشركين في نوع الهدية وصفتها، أو كانت الهدية شيئاً مسروقاً، أو شيئاً مُحرماً؛ كأن أهدى إليه خمراً، أو لحم خنزيرٍ، أو تكون الهدية وسيلةً من أجل إبطال حق وإثبات باطل فلا تقبل، أو يقصد بها معاونته على الإثم والعدوان، كما يفعل كثيرٌ من الناس مع الأمراء والوزراء والقضاة والمسؤولين؛ فيُقدمون لهم الهدايا كي يعطوا صاحبها شيئاً ليس من حقه أو يتجاوزوا له عن شيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه، أو يكون المُهدى إليه يتقذر منها كردِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للضَّبِّ، ويتوقف أيضاً في قبول الهدية إن كان صاحبها يُهديها ليأخذ أكثر منها، أو أن المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك، أو ما كان في أخذها فتنةً له وللآخذ، أو كانت فيها مذلة للمُهدى إليه، كأن يكون المُهدي منَّاناً يمنُّ بهديته، فلا تُقبل منه، 

  1. ما لا يرد من الهدايا:

روى الترمذيُّ بإسنادٍ صحيح، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاثٌ لا تُرَدُّ: الوسائِدُ، والدُّهنُ، واللَّبَنُ).

قال الطيبيُّ: "وهذه الهدايا قليلة المنة، فلا ينبغي أن ترد"

وروى مسلمٌ في صحيحه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (مَن عُرِضَ عليه رَيْحانٌ فلا يَرُدُّهُ، فإنَّه خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ).

قال ابن الأثير: "الريحان: كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم".

وروى البخاريُّ عن أنس، قال: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَرُدُّ الطِّيبَ).

  1. المكافأة على الهدية.

يستحب المكافأة على الهدية بمثلها أو أفضل منها، فإن لم يستطع أن يكافئِ عليها، فليثن على صاحبها ويدع له بقوله: (جزاك الله خيراً)، أو بغيره من الدعاء.

  1. حكم الرجوع في الهدية:

لا يجوز الرجوع في الهدية إلا للوالد على ولده، وأما غير الوالد فقال جمهور أهل العلم يحرم عليه العود في هديته؛ لحديث: (العائد في هبته كالكلب يرجع في قيئه)، فالرجوع في الهبة والهدية صفة ذميمة، والراجع فيها يُشبَّه  بأخس الحيوانات في أخس أحوالها. 

ودليل جواز رجوع الوالد ما رواه أبو داود والترمذي، وغيرهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لا يَحِلُّ لرجُلٍ أن يُعطِيَ عَطيَّةً، أو يهَبَ هِبَةً، فيرجِعَ فيها، إلّا الوالدَ فيما يُعطِي وَلَدَهُ، ومثَلُ الَّذي يُعطِي العَطيَّةَ ثمَّ يرجِعُ فيها كمثَلِ الكَلْبِ يأكُلُ، فإذا شبِع قاء ثمَّ عاد في قَيْئِهِ).

وقال ابن حجر في "الفتح": «قال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والداً والموهوب ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب، لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك".  


  1. حكم المن في الهدية:

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 264).

وروى مسلم، وأبو داود، عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ، ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ: لمُسْبِلُ، والْمَنّانُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذِبِ).

وفي روايةٍ لمسلم: (المَنّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ)؛ فتبين لنا أن المن في الهدية من كبائر الذنوب.

  1. حكم الهدية المجهول صاحبها:

الهدية التي تأتي من طرفٍ مجهولٍ لا يُعرف يجوزُ قبولها، إلا أن يغلب على الظن أن صاحبها أو القاصد بها أخطأ بها من هي له.

  1. الحكم إذا مات المهدي إليه قبل وصول الهدية:

ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدية لا تنتقل إلى المهدي إليه إلا بأن يقبضها هو بنفسه، أو يقبضها وكيله الذي عيَّنه لقبضها، وإذا وصلت إلى الورثة فإنها تكون لهم. 

  1. الهدية للأقرب أفضل:

ولا شكَّ أن الهدية للقريبأفضل، سواءً كانت القرابة متعلقة بالنسب أو قرابة بالجوار.

روى البخاريُّ ومسلم، عن  ميمونةَ قالت: كانت لي جاريةٌ فأعتقتُها فدخل عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرتُه بعِتقِها، فقال: (آجرك اللهُ، أما إنَّك لو أعطيتِها أخوالَك لكان أعظمَ لأجرِك).

روى البخاريُّ، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: يا رسولَ اللهِ إِنَّ لي جارَيْنِ فَإِلى أَيِّهِما أُهْدِي؟ قال: (إلى أَقْرَبِهما مِنْكِ بابًا)

فيستفاد من الحديثين أن القريب يقدم على الغريب وأن الأقارب إذا استووا في درجة القرابة قدم الأقرب باباً، وهذا كله إذا كان هؤلاء محل احتياج، والله أعلم  

  1. أنواع الهدية، وحكم كُلٍّ منها  

(1) هدية الأعلى والنظير للأدنى: 

مثل هدية المسؤول والمدير إلى الموظف أو العامل، أو من المعلم أو الشيخ للطالب وهكذا، ويكون فيها نوع إكرام وتحبب وتشجيع؛ فهذه مُستحبَّةٌ شرعاً. 

(2) هدية الوالدين لأولادهم: 

مستحبَّةٌ أيضاً، ولكن لا بد من العدل بين الأبناء الذكور والإناث استحباباً إلا إذا كان هناك داع أو مقتضى للتفضيل والتخصيص لبعض الأبناء على الآخرين فلا بأس، ويجوز للآباء  الرجوع في عن هديتهم للأبناء.

(3) هدايا الخطوبة والزواج: 

وهي ما يقدمه أحد الزوجين للآخر بعد عقد القران وقبل الدخول، فإن كانت الهدية مستهلكة فلا رجعة فيها، ولا يطالب بقيمتها أو بدلها حال التفرقة بينهما. وأما إذا كانت الهدية هي الشَّبكة أو أشياء ثمينة، فإنها تردها مع المهر كاملاً للزوج في حال عدم إتمام الزواج من قبل الزوجة أو وليها، وهذا للعُرف، ولزوال سبب الهدية.

(4) الهدية لقضاء الحاجة المباحة (الشفاعة): 

والشفاعة هنا معناها الوساطة والتدخل بالجاه ابتغاء وجه الله تعالى، فيكره قبول الهدية لأجل الشفاعة إلا ما كان قبوله يُعينه في قضاء تلك الحاجة، أما إذا اشترط الشافع الهدية فيحرم ذلك لأنه عوض عن الجاه، وأما إذا لم يشترط؛ وأُهدي إليه فالأفضل ألا يأخذها، فإذا أخذها جاز له ذلك.

(5) الهدية للانتفاع بالجاه: 

وهي تقديم الهدية لذوي الجاه والسلطان لأجل أن ينتفع بجاهه وسلطانه ومنزلته عند الآخرين، فيتوصل بذلك إلى أغراضه، وهذا الهدية شبيهة بالرشوة، ويحرم أخذها.

(6) الهدية لنيل حق أو دفع ظلم: 

وذلك بأن يتعذر على المسلم الوصول إلى حقه أو أن يدفع الشر الذي يلحق به، فيدفع الهدية لمن يملك ذلك لتحقيق هدفه؛ فتحرم الهدية على الآخذ، ويجوز للمُهدي إعطاؤها للضرورة عند الجمهور.

(7) الهدية لإحقاق باطل أو إبطال حق: 

وذلك بأن يدفع الهدية ليقلب الحقائق ويغير الأمور، ويظلم الناس، فهذه الهدية محرمة على الجانبين: الآخذ والمُعطي أيضاً، وهي الرشوة بعينها. 

(8) هدية القاضي، وهي على التفصيل:

أ- هدية تعطي للقاضي ممن له خصومة أو قضية:

فهذه الهدية محرمة سواء كانت بينهما هدايا من قبل أو بينهما قرابة أو صداقة أو غير ذلك، ويردُّها إلى صاحبها، أو إلى بيت المال.  

ب- هدية تعطي للقاضي من شخص لا خصومة له قائمة أو منتظرة:

فإذا كانت بينهما مهاداة وجاءت الهدية بسبب المكافأة على الهدية فجائزةٌ أيضاً، وتدخل في هذا القسم الهدايا من الوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والأصدقاء إذا لم تكن للمعطي منهم خصومة أو قضية أو مصلحة.  

(9) هدية الوالي أو مفوض الحاكم "نائبه":

 ومن في حكمهم كالوزراء والمدراء، فهؤلاء يحرم عليهم قبول الهديَّة وأخذها، لأنها بسبب الولاية؛ فهي رشوة والرشوة خيانة، وكل من خان في شيء فقد غل؛ وفي الحديث: (هدايا العمال غلول)، ولحديث ابن اللَّتبيَّة المشهور، وإذا أخذ شيئاً وضعه في بيت المال.

(10) هدية المفتي:

والمفتي يعتبر موظفاً عاماً، لا سيما في هذا العصر.

 - فإذا كانت هدية المفتي نظراً لعلمه وصلاحه وتقواه، بقصد التحبب إليه في الله، فجائزة. - أما إذا كان للهدية تأثير على الفتوى فلا شك أنها محرمة على الطرفين، لأن فيها شرط الإعانة على الإثم. وتأخذ الهدية حكم الرشوة أيضاً إذا كانت الفتوى حسبما يريد المهدي.  

(11) هدية المدرس: 

وشأن المـدرس في عـدم جـواز قبـول الهديـة مقابـل القيام بواجبه شأن سائر الموظفيـن، فـإذا كانـت الهديـة مـن بـاب المحبـة والمـودة والتقـرب إليـه؛ لعلمه وصلاحه فيجـوز قبولهـا. أما إذا كانت الهدية من تلاميذ المدارس التي يُدرس  فيها أو من أولياء أمورهم فغير جائزة لما يترتب عليها من محاباة للطالب ومساعدة له في الامتحان أو زيادة الدرجات، وهذه هي الرشوة بعينها.

(12) هدية الموظف العام:

والموظف: هو كل من كلف بمهمة أو خدمة عامة وما في حكمها، بصفة دائمة أو مؤقتة في الحكومة أو المصالح التابعة لها أو الهيئات العامة، أو الشركات والمؤسسات العامة والخاصة. ويطلق لفظ الموظف العام على العامل بالمصطلح الفقهي، فالعامل هو كل من تولى أمرا من أمور المسلمين، وقد حرم الإسلام هدايا العمال ومن في حكمهم وسماها رشوة تارة وغلولاً تارة أخرى. 

(13) الهدية لغير المسلمين (للمشركين):

الأصل جواز قبول الهدية من المشركين المُسالمين وجواز الإهداء لهم: إذا لم تكن رشوة عن الدين أو للإقرار على باطل أو إعانةً لهم على شركهم، فقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الشاة المسمومة من اليهودية، وقبل من ملك أيلة بغلةً بيضاء وبرداً، وقبل من المقوقس ماريَّة القبطية التي أهداها إليه، وبوب البخاري في صحيحه بقوله: (باب قبول الهدية من المشركين)  

  والخلاصة: 

أن كل هدية كانت بسبب الوظيفة بحيث لو تجرد الموظف منها ما أهدي إليه فهو رشوة لا تجوز، ولو كانت دعوة على طعام أو تملقا له. 

أما إذا كانت الهدية للموظف ممن يعتاد المهاداة معهم كالأقارب والأصدقاء والزملاء ويقصد بها التقرب إلى الله تعالى ولتقوية المحبة والمودة فهي جائزة.