أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

صفة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

صفة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف

وفيه تحقيق أنها ركعتان في كل ركعة ركعتان

محمد ناصر الدين الألباني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ اتفق العلماء على أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة في حق الرجال والنساء، وأن الافضل أن تصلى في جماعة، وأنَّه يُنادى لها: (الصلاة جامعة)، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنها: صلاةٌ ذاتُ ركوعين في كل ركعة، وهذا مما تواتر معناه في الأحاديث الواردة في هذا الباب، وذهب الحنفيَّة إلى أن صلاة الكسوف قيامٌ واحد، وركوعٌ واحد كهيئة كهيئة النفل بلا فرق، على أنهم قالوا: أقلها ركعتان، والأفضل أن يصلي أربعاً بتسليمة واحدة أو بتسليمتين، والصَّحيح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن صلاة الكسوف ركعتان بفي كل ركعة ركوعان، وقيامان، وسجدتان.

وأصحُّ ما رُوي في هذا الباب حديثنان، هما: حديث عائشة، وحديث ابن عباس، قال ابن عبد البر: (هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب).

وقال ابن القيم: "السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع في كل ركعة، لحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الاشعري، وكلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة مرتين، وهؤلاء أكثر عدداً وأجل وأخص برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم يذكروه".

وما وقع في بعض الطرق والرويات مما يُخالف ذلك؛ من رواية أنَّ النبيَّ صلى بثلاث ركوعاتٍ في كل ركعة، أو أربعةٍ في كل ركعة، أو خمسة في كل ركعة، أو ركوعٌ واحدٌ في كل ركعة؛ فهو: إما شاذٌ أخطأ فيه الثقة، أو ضعيفٌ مُعلَّل تفرَّد به من لا يُحتجُّ بروايته، وتكون روايته مخالفة لرواية الجماعة، وقد بيَّن ذلك الإمام الألباني رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، وقد أوضح علل تلك الروايات وما فيها من الضعف والإرسال والإنقطاع والاضطراب، وبيَّنه بياناً شافياً، بما لا يدع لمعترضٍ قول، ولا لمُخالفٍ حُجَّة.

والصلاة بهذه الكيفية هو المعروف من عمل الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد كُسفت الشمس على عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فصلاها عثمان على الصفة المعروفة ركعتين: في كل ركعة ركوعين، وسجدتين، وقد أقرَّه الصحابة على ذلك؛ فكان إجماعاً منهم.

وقد ذكر الألباني رواية اثنان وعشرين صحابياً لأحاديث الكسوف؛ وهم على الترتيب: 

عائشة بنت أبي بكر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأم سفيان، وحذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وأبو بكرة نُفيع بن الحارث، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، ومحمود بن لبيد، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن رباح، وأبو مسعود الأنصاري.

ورواية الصحابة في مجملها ثابتةٌ صحيحة، وأصحُّها: رواية عائشة وابن عباس، وبعض الروايات لا تصحُّ أصلاً، ومنها الضعيف الإسناد، ومنها المضطرب؛ ومنها الضعيف المحتمل الذي يُقويه الثابت منها شهادةً واعتباراً ما لم يكن مُنكراً، ومن الأحاديث ما يكون مجملاً ومنها ما يكون مُبيناً؛ فتحمل الأحاديث المجملة على المُبيِّنة.

وأصل ذلك في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما، وقد رويت أحاديث صلاة الكسوف بصور مختلفة ما بين الاختصار تارةً بحسب ما يقتضيه المقام، وعلى سبيل الاستيعاب تارةً أخرى، وتختلف ألفاظه عادةً من راوٍ لآخر، لأن بعضهم قد يرويه بالمعنى، أو أن بعضهم حفظ شيئاً ونسي شيئاً، وبعض تلك الروايات عن الصحابة لها طريقٌ واحد كحديث أبي هريرة، وحذيفة، وعلي بن أبي طالب، وبعضها لها طريقان كحديث ابن مسعود، وبعضها لها أربع، وبعضها أكثر من ذلك أو أقل.

وقد صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكسوفَ مرَّة واحدة بالمدينة في المسجد، وقد ذكر ذلك: الشَّافعيُّ، وأحمد، والبخاريُّ والبيهقيُّ، وابن عبد البر، وكان وقوعها يوم وفاة إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: إنه صلَّى في كسوف القمر، كما نقله صاحب "الهدى"، وحكاه ابن حبَّان: أن القمر خُسف في السنة الخامسة؛ فصلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف، وكانت أول صلاة كسوفٍ في الإسلام.

وقد قال الحافظ في "الفتح": "وعند ابن خزيمة من حديثها (يعني: عائشة) أن ذلك يوم مات إبراهيم عليه السلام". وهو الذي اختاره المحققون من الفقهاء والمحدثين".

وقد قال الصنعاني في "سبل السلام": "التحقيق أن كل الروايات حكايةٌ عن واقعةٍ واحدة، هي صلاته صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، ولهذا عوّل الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث".

وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقد ذكر جمهور أهل السير أنه (يعني إبراهم ابن النبيِّ صلى الله عليه وسلم) مات في السنة العاشرة من الهجرة؛ فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف".

يقول الإمام الألباني رحمه الله: "وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المُحلى لابن حزم، أن المرحوم محمود باشا الفلكي حقق في رسالة له أسماها (نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام) بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة، وهو يوم وفاة إبراهيم عليه السلام".

 قال الشيخ أحمد (٥/ ١٤): "ومنه اتضح أن الشمس كُسفت في المدينة المنورة في يوم الاثنين ٢٩شوال سنة ١٠الموافق ليوم ٢٧ يناير سنة ٦٣٢ ميلادية في الساعة ٨ والدقيقة ٣٠صباحاً".

وهذا ما يؤيد ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله في (الفتاوى: ١/ ٣٢٠-٣٢١) أن الشمس لا تُكسف إلا وقت استسرار القمر، قال: "ومن قال من الفقهاء: إن الشمس تُكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم".

وقد أجاد الإمام الألباني رحمه الله في تتبع طرق هذا الحديث وجمعه، ودراسة رواياته، والتعليق والحكم عليها بما يُناسبها، وأتبع الإمام الألبانيُّ ذلك بذكر صفة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُستفادة، وبيان ما رأى النبيًّ صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب: كالجنة، والنار، وخطبته صلى الله عليه وسلم بعدها، ونبّه على أوهامٍ وقعت لبعض الأعلام في صلاة الكسوف، 

وقد قسَّم الإمام الألباني الأحاديث التي ذكرها في كتابه هذا إللى ثمانية أقسام:

١- قسمٌ فيه التصريح بأنَّ القصَّة كانت يوم وفاة إبراهيم عليه السلام، وأن الصلاة كانت ركعتين في كل ركعة، وهو الحديث الأول، والثالث، والسابع: وهي حديث: عائشة، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر.

٢- قسمٌ فيه التصريح بالوفاة، وليس فيه ذكر الركوعين؛ فهو مجملٌ يُفسره القسم الأول، وبعض الأقسام الآتية، وهو الحديث: الثامن، والثالث عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرون: وهو حديث ابن مسعود، وأبو بكرة، ومحمود بن لبيد، والمغيرة بن شعبة، وأبي مسعود الأنصاري.

٣-وقسمٌ فيه التصريح بالوفاة، ولكن فيه أربع ركعات في كل ركعة، وهو الحديث الثاني برقم (٣)، والرابع برقم (٢): أي حديث ابن عباس من طريق مقسم عنه، وحديث جابر من طريق عطاء عنه. 

٤-قسمٌ فيه التصريح بالركعتين في كل ركعة، مع الإشارة إلى يوم الوفاة، وهو الرابع برقم (١)، والخامس والسادس، وهو حديث جابر من طريق أبي الزبير عنه، وحديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث أبي هريرة.

٥-قسمٌ فيه التصريح بالركعتين فقط، وهو الثاني، والتاسع، وهما حديث 

٦- قسمٌ يُشير إلى الوفاة فقط، وهو الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، والعشرون، وهو حديث: أبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب.

٧-قسمٌ فيه التصريح بالزيادة على الركعتين، وهو الحديث العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، وهو حديث: حُذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب.

٨-قسمٌ ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه ما يُمكن تأويله إلى القسم الخامس، وهو الحديث الرابع عشر، وهو حديث عبد الرحمن بن سمرة.

قال الألبانيّ رحمه الله: "فتبيَّن بهذا التلخيص أن هذه الأقسام كلها متفقةٌ مع بعضها، وأنها جميعاً تعود إلى القسم الأول، حاشا القسم الثالث والسابع، وهي ضعيفةٌ معلولة بالضعف والشذوذ -كما سبق تفصيله؛ فلا تنهض لمعارضة الأحاديث الأخرى، وهي أكثر عدداً، وأقوى قوةً، وهذا بيِّنٌ لا يخفى والحمد لله رب العالمين".

ثم ذكر الشيخ رحمه الله: {كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف؟}

قال رحمه الله: ثم بدا لي أن أجمع مما صحَّ من الأحاديث المتقدمة، وقد انحصرت طرقها، وتعيَّنت مواطنها في كتب السُّنة المطهرة -خلاصةً وافيةً نافعةً في صلاته صلى الله عليه وسلم للكسوف، وما رأى فيها من العبر والآيات، وما خطب بعدها من النصائح والعظات، وأكثرها مما تقدم في تلك الأحاديث، وسائرها مما جاء في بعض طرقعا المتقدمة عند بعض مخرجيها، لكن لم يُسبق ذكرها هناك، فأوردتها هنا تتميماً للفائدة، وذكرتُ في الحاشية من أخرجها من أئمة الحديث الذين سبق ذكرهم.

وقد رأتُ أن هذا الجمع والتلخيص واجبٌ عليَّ بعد أن يسَّر الله السبيل إلأيه؛ لما في ذلك من الإعانة على معرفة هذه السُّنة، والعمل بها، وإحيائها بعد أن كادت أن تُنسى حتى من أهل العلم والصلاح! وشجعني على ذلك أنني -فيما علمت -لم أُسبق إليه؛ فلله تعالى وحده الحمد والشكر، ومنه أرجو المزيد من التوفيق والفضل.

أولا كسوف الشمس وفزعه صلى الله عليه وسلم:

"ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم مات ابنه إبراهيم عليهما السلام- وكان يوماً شديد الحرّ؛ فخُسفت الشمس، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم  من مركبه سريعاً (1)، -وذلك ضحىً (٢) -فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحُجَر؛ فخرج فزعاً، فأخطأ (٣) بدرعٍ حتى أدرك بردائه؛ فخرج يجرُّ رداءه، يخشى أن تكون السَّاعة؛ فأتى المسجد، حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يُصلي فيه، وقال الناس: نما انكسفت الشمس لموت إبراهيم (٤)، فبعث صلى الله عليه وسلم مُنادياً، فنادى: الصلاة جامعة، وثاب الناس إليه، واصطفوا وراءة (٥)، وخرجت نسوةٌ بين ظهري الحُجَرِ في المسجد، واجتمع إليهنَّ نساء (٦)؛ فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه.

ثانياً: ابتداء الصلاة:

وبدأ صلى الله عليه وسلم؛ فكبر وكبَر الناس (٧)، فقرأ قراءةً طويلة، فجهر فيها (٨)، وقام قياماً طويلاً جداً، نحواً من سورة {البقرة}؛  حتى قيل: لا يركع، وجعل أصحابه يخرُّون. وقالت أسماء: أتيت عائِشَةَ؛ فإذا الناس قيامٌ، وَإذا هي تُصَلِّي، فَقُلتُ: ما شَأْنُ النّاسِ يُصَلُّونَ؟ فأشارَتْ برَأْسِها إلى السَّماءِ، فَقُلتُ: آيَةٌ، قالَتْ: نَعَمْ، فأطالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم القِيامَ جِدًّا، حتّى تَجَلّانِي الغَشْيُ، فأخَذْتُ قِرْبَةً مِن ماءٍ إلى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ على رَأْسِي من الماء، قالت: فأطال القيام حتى رأيتني أريد أن أجلس، ثم التفتُّ إلى المرأة التي هي أكبر مني، والمرأة التي هي أسقمُ مني، فأقول أنا أحقُّ أن أصبر على طول القيام منك (٩).

  • الركوع الأول: 

  ثم ركع صلى الله عليه وسلم مُكبراً، فأطال الركوع جداً؛ حتى قيل: لا يرفع، وركع نحواً مما قام. ثم رفع. ثم رفع رأسه؛ فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد (١٠)، فقام كما هو (١١) ولم يسجد، فأطال القيام جداً حتى قيل: لا يركع، وهو أدنى من القيام الأول، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الاولى، وأطال حتى لو جاء إنسانٌ بعدما ركع -لم يكن علم أنه ركع -ما حدّث نفسه أنه ركع من طول القيام.

  • الركوع الثاني:

ثم كبر مُكبّراً، فأطال الركوع جداً، حتى قيل: لا يرفع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه؛ فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"(١٢) فأطال القيام حتى قيل: لا يسجد، ورفع يديه فجعل يُسبح ويحمد ويُهلل ويُكبّر ويدعو (13).

  • السجود الأول:

ثم كبَّر صلى الله عليه وسلم فسجد سجوداً طويلاً مثل ركوعه (14)؛ حتى قيل: لا يرفع، وقالت عائشة: ما ركعتُ ركوعاً قط، ولا سجدتُ سجوداً قط، كان أطول منه. ثم كبَّر (15)، ورفع رأسه وجلس، فأطال الجلوس، حتى قيل: لا يسجد (16). 

  • السجود الثاني:

ثم كبَّر (17)؛ فسجد فأطال السجود، وهو دون السجود الأول.

  • الركعة الثانية:

ثُمَّ كبَّر (18)؛ ورفع، فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الثاني من الركعة الأولى، وقرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة في القيام الثاني.

  • الركوع الأول من الركعة الثانية:

ثُمَّ كبَّر (١٩)، فركع، فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول. ثُمَّ كبَّر (٢٠)، فرفع رأسه؛ فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم قرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة الأولى.

  • الركوع الثاني من الركعة الثانية:

ثُمَّ رفع رأسه؛ فقال:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأطال القيام، حتى قيل: لا يسجد، ثم تأخَّر، وتأخَّرت الصفوف خلفه، حتى انتهت إلى النساء، ثم تقدَّم وتقدَّمت الصفوف حتى قام في مقامه.

  • السجود الأول والثاني:

ثُمَّ كبَّر، فسجد مثلما سجد في الركعة الأولى، إلا أنه أدنى منه، وجعل يبكي في آخر سجوده وينفخ: أُفْ أُفْ، ويقول/ "ربِّ ألم تعِدني ألا تُعذبهم وأنا فيهم؟ ربِّ ألم تعِدني ألا تُعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحنُ نستغفرك" (٢١)

  • التسليم:

ثُمَّ تشهَّد (٢٢)، ثُمَّ سلَّم (٢٣)، وقد تجلَّت الشمس، واستكمل أربع ركعات في أربع سجدات.

ثالثاً: الخطبة على المنبر:

فلما انصرف رقى المنبر (٢٤)؛ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: أيا الناس! إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يُخسفان إلا لموت عظيم. وإنهما آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته؛ ولكن يُخوف الله به عباده؛ فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، وإلى الصدقة والعتاقة والصلاة في المساجد حتى تنجلي.

يا أمة مُحمد! إن من أحدٌ أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.

يا أمة مُحمّد! والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً).

ثُمَّ رفع يديه؛ فقال: (ألا هل بلَّغتُ؟!).

ثمَّ قالَ: (إنَّه عُرِضَ عَلَيَّ كُلُّ شيءٍ تُولَجُونَهُ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ، وَذَلِك حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حتّى قُمْتُ في مَقامِي، وَلقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَتَناوَلَ مِن ثَمَرِها لِتَنْظُرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ بَدا لي أَنْ لا أَفْعَلَ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدُّنيا (25)، ولقد عُرضت عليَّ النارُ وذلك حين رأيتموني تأخَّرت، مَخافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِن لَفْحِها، فجعلتُ أنفخُ؛ خشية أن يغشاكم حرّها.

ولقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُها بَعْضًا، فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظه (26)، ورأيتُ أكثر أهلها النساء، قالوا: لم يا رسول الله ؟ قال: (لكفرهنَّ)، قيل: أيكفرن بالله ؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهُنَّ الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً؛ قالت: ما رأيتُ منك خيراً قط).

وفي حديث أسماء: (ولقد أُدنيت مني النار حتى قلتُ: يا ربِّ! وأنا معهم؟! فرأيتُ فيها هرَّةً…).

ورأيتُ فيها امرأةً من بني إسرائيل طويلةً سوداء (27) تُعذَّب في هِرَّةٍ لَها، رَبَطَتْها فَلَمْ تُطْعِمْها، وَلَمْ تسقِها (28)، ولم تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ، حتى ماتت جوعاً، فلقد رأيتًها تنهشها إذا أقبلت، وإذا ولَّلت، تنهش أليتها.

ورأيتُ فيها سارق بدَنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم (29).

ورأيتُ صاحِبَ المِحْجَنِ أبا ثُمامة عمرو بن مالك بن لُحي، وهو الذي سيَّب السوائب (٣٠)، يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ، كانَ يَسْرِقُ الحاجَّ بمِحْجَنِهِ، فإنْ فُطِنَ له قالَ: إنَّما تَعَلَّقَ بمِحْجَنِي، وإنْ غُفِلَ عنْه ذَهَبَ به!.

 وإنه قد أوحي إليَّ قد أنكم تُفتنون في القبور كفتنة المسيح الدجال، فيُقال: ما علمُك بهذا الرَّجُل؟ فأمّا المُؤْمِنُ، أَوِ المُوقِنُ، فيَقولُ: هو مُحَمَّدٌ، هو رَسولُ اللهِ، جاءَنا بالبَيِّناتِ والْهُدى، فأجَبْنا وَأَطَعْنا، (ثَلاثَ مِرارٍ)، فيُقالُ له: نَمْ، قدْ كُنّا نَعْلَمُ إنَّكَ لَتُؤْمِنُ به، فَنَمْ صالِحًا، وَأَمّا المُنافِقُ، أَوِ المُرْتابُ، لا أَدْرِي أَيَّ ذلكَ قالَتْ أَسْماءُ، فيَقولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النّاسَ يقولونَ: شيئًا، فَقُلتُ؛ فيُقال له: أجل، على الشكِّ عشتَ، وعليه مِتَّ، هذا مقعدك من النار.

ثُمَّ أمرهم أن يتعوَّذوا بالله من عذاب القبر (٣١).

قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعوَّذ من عذاب النار، وعذاب القبر.

وبهذا ينتهي ما أردناه من التلخيص، و"سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

وأختم بفائدة جليلة، وهي: 

أن أحاديث الكسوف التي رواها ((مسلم) في كتاب الكسوف من (١ إلى ٢٩) جاءت كالتالي:

١-من طريق هشام بن عروة، والزهري، عن عروة، عن عائشة، فيه: كل ركعة ركوعان.

٢-من طريق ابن جريج عن عطاء عن عُبيد بن عُمير (حسبته عن عائشة. ومن طريق قتادة: عن عطاء به، عن عائشة. وفيه: في كل ركعة ثلاث ركوعات.

٣-من طريق عمرة عن عائشة، وفيه كل ركعة ركوعان.

٤-ومن طريق أبي الزبير عن جابر، وفيه في كل ركعة ركوعان.

قال ابن تيمية: والصواب أنه لم يُصلِّ إلا بركوعين لأنه لم يُصلّ الكسوف إلا مرة واحدة أه.

______________________________

(١) بيهقي (٢) بخاري، أبو عوانة، بيهقي. (٣) مسلم في رواية. (٤) نسائي، مسلم. (٥) مسلم، نسائي. (٦) نسائي. (٧) أحمد وبيهقي. (٨) أبو عوانة. (٩) تقدم نحوه، وهذا رواية لمسلم. (١٠) بخاري، مسلم، نسائي، بيهقي. (١١) بيهقي. (١٢) بخاري، مسلم مسائي، بيهقي. (١٣) هو من حديث عبد الرحمن بن سمرة المتقدم (ص ٦٨)، وليس فيه تعيين مكان هذا الرفع، ولكن المتبادر أن هذا هو محله. (١٤- ١٥) نسائي، (16) نسائي، بيهقي، عن ابن عمرو وصححه الحافظ في "الفتح" (٢/ ٤٣٢)، وقال: "لم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته! فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوجٌ بهذه الرواية". (١٧) نسائي. (١٨- ١٩) نسائي (٢٠- ٢١) نسائي، والترمذي في "الشمائل"، وأحمد. (٢٢) نسائي، بيهقي. (٢٣) مسلم. (٢٤) نسائي أحمد. 

(٢٥) هذا من الأدلة الكثيرة على أن الجنة مخلوقة، وأن نعيمها مادي؛ ففي الجنة أكل وشرب، وأنهار وأشجار، وفواكه مما يشتهون، كما صرح به القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: ٢٥). وإن من ضلالات القاديانية إنكارهم لهذه الحقائق الشرعية؛ فهم لا يؤمنون بالجنة التي وصفت في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية؛ كهذا الحديث؛ فاسمع ما قاله نبيهم أحمد في "الخطاب الجليل" (ص ١١٣): "وجماع القول أن الجنة والجحيم باعتبار تعاليم الفرقان الحميد، ليستا شيئاً جسمانياً جديداً يأتي من الخارج، وإنما هي من الحقيقة آثار الحياة البشرية، وظلالها، أجل، حق أن كلتيهما ستتمثل مجسمةً، ولكنها لا تكون في نفس الأمر إلا آثار الحالات الروحية وأطلالها، كلا؛ لسنا القائلين بالجنة الغناء بلفيفٍ من الأشجار المغروسة في بقعة من الأرض غرساً جسمانياً. ولا نحن المعتقدين بجحيم وقودها أحجار من كبرين حقاً واقعاً. بل إن الجنة والجحيم -طبقاً للمعتقد الإسلامي -انعكاسات هذه الأعمال التي يعملها الإنسان اليوم في الحياة الدنيا". ونتيجة هذا: إنكار الدار الآخرة وما فيها من نعيم وجحيم حقيقيين، ولذلك تراخ يؤول -بل يُحّرف ويُعطّل -معاني الآيات الصريحة في ذلك؛ فهو يقول (ص ١١٨) من الكتاب المذكور: "والمراد بقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}: أن أهل البر الحقيقي يُسقون من الشراب ما يسكن نفوسهم من لواعج الحياة الدنيا، ويُبدد لها أمرار الحسرات، وينفي عن قلوبهم الشهوات الخبيثة … والمراد بقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}: أنهم شاربون يوم القيامة من النبع الذي هم يشقونه اليوم بأيديهم، وههنا سرٌ غامضٌ من أسرار حقيقة الجنة، فليفهم من شاء"!! وقال (ص ١٧٣): "والمراد من هذه الآية: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}: أن الذين يرفضون الحق، ولا يبغون الله من صميم الفؤاد؛ يبلوهم الله برُداء الفعل، فيُعانون جهد البلاء في بلبال الحياة الدنيا وأواسرها، حتى لكأنهم يقرنون في الأصفاد، وينهمكون في الشواغل الأرضية، كأنما شُدَّت أعناقهم بالأغلال…" وعلى هذا النمط يُفسر كل ما يتعلق بحقائق  الآخرة في سبيل إنكارها، وهي طريقة القرامطة الباطنية، والغلاة من الصوفية الكائدين للإسلام! ولكن الله لهم بالمرصاد!. 

(٢٦) أبو عوانة. (٢٧) بخاري ومسلم. (٢٨ -٣٠) نسائي وأحمد. (٢٩) مسلم، بيهقي. (٣١) ترمذي، نسائي، أحمد. 





الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

كشف الشبهات -تأليف الإمام المُجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

كشف الشبهات

تأليف الإمام المُجدِّد

محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

(1115 - 1206 هـ)


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ إن الإنسان بطبيعته مفطورٌ على الإيمان بالله عز وجل، ومجبولٌ على التوحيد الخالص، لكنه في حاجةٍ دائمةٍ إلى صيانة وحماية لهذا التوحيد؛ ليظلَّ التوحيد خالصاً نقيَّاً لا تشوبه شوائب الشرك، ولا أوضار الجاهلية، من خلال كلام العلماء الربانيين، الذين أبصروا الطريق، وأوضحوا المنهج، وساروا على سنن الأنبياء والمرسلين، واقتفوا آثارهم قولاً وعملاً واعتقاداً، فكانوا بمثابة النجوم المُضيئة التي يخلف بعضها بعضاً في هداية الناس إلى الحق والصواب، ويُحذوهم من الوقوع في الخطأ ويمنعونهم من التردي في المحظور بأساليب متنوعة وطرائق مختلفة، ليظل هذا الإنسان على التوحيد الخالص والعقيدة السوية؛ فيسير إلى ربِّه على بصيرة وهداية وكذلك يكون سيره وسلوكه مستقيماً في كل ميدان من ميادين الحياة.

وهذا كتابٌ نافعٌ جداً، تشتدُّ إليه الحاجة في باب التوحيد، للشيخ المُجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى -، والذي من أتقنه فهماً وحفظاً واستدلالاً انتفع به في باب الردِّ على الشُّبه الواهية لمرجئة المتكلمين من عُبّاد القبور، والأضرحة، والتي يحتجون بها على بعض الممارسات الشركية.

ودراسة هذا الكتاب يُقوِّي الملكة العقلية والشرعية للدارس، بحيث لا تنطلي عليه تلك الشُّبه التي يُلقيها المُبتدعة، ولا تروج عليه تلك الأقوال الكاسدة، ويتمكن الدارس من إحكام الأدلة وطرق الاستدلال، ومعرفة الحدود والمحترزات وما يرد على الأدلة وما يُجاب به عن تلك الإيرادات، ويخرج من درسه ليُصبح ترساً في مواجهة الباطل وأعوانه، بل جندياً مُخلصاً في ميدان التوحيد والإيمان يضرب بقذائف الحق أوهام الباطل، فتُصيب عين هذه الشُّبة وما يندرج تحتها من الأقوال الواهية.

ولا شكَّ أن الشبهات تتداعى صغيرها يجرُّ كبيرها، وكبيرها يعضد صغيرها، وتشتدُّ في عقل المبتدع وقلبه حتى توصد عليه أبواب الخير والتوبة، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (إنَّ اللَّهَ حجبَ التَّوبةَ عن كلِّ صاحبِ بدعةٍ حتّى يدعَ بدعتَه).

وقد بيَّن الشيخ رحمه الله بطلان ما عليه أهل الشرك والضلال والبدع، بالحجج الواضحة، والأدلة الساطعة وإن كان كلامه في بعض المواطن يحتاج إلى تفسيرٍ وبيان، ويُعتبر الفصل السابع هو المحور الأساس الذي يدور عليه هذا الكتاب، وقد ذكر فيه جملةً من الشُّبه التي يحتجُّ بها القبوريين والردِّ عليها تفصيلاً وإجمالاً.

وقد طُبع هذا الكتاب في دار الإيمان، بعناية الأستاذ طلعت مرزوق، وقدَّم له الشيخ الدكتور ياسر برهامي، ولكنها طبعةٌ فيها سقطٌ كثيرٌ جداً، وقد أطال التعليق فيها، ومع كون هذه التعليقات نفيسة ونافعة، إلا أنها تحتا إلى ترتيب واختصار والربط بينها، لئلا يشتت ذهنُ القارئ.

وفي ضوء ما تمَّت دراسته في هذا الكتاب، يتبين لنا أن دراسة هذا الكتاب له آثاره التربوية وثمراته السلوكية على المُسلم المُعاصر، والتي من أهمها:

1- تحقيق التوحيد الخالص لله عز وجل، والتعرف إلى معنى العبادة، والدعوة إلى الله على بصيرة.

2- الجد وعلو الهمة في طلب الحق، والثبات على التوحيد والإيمان، ونبذ الشرك والكفر والنفور منهما، وتحذير الناس من ذلك.

3- حماية الفرد المسلم من الانحراف والغواية الذي تترسمه طرق المبتدعة، واتباع الطريق القويم الذي هو سبب الفلاح في الدنيا والآخرة.

4- تحقيق الخشية من الله والالتجاء إليه قولاً وعملاً واعتقاداً، والتوكل عليه مع الأخذ بالأسباب الشرعية لا الأسباب الشركية أو البدعية.

5- تحقيق التوازن العام والشامل في شخصية المسلم، بحيث يطمئن إلى صفاء العقيدة ونقائها من الشوائب، والارتقاء إلى مرتبة الاستزادة من الطاعات.

  • جملة الفصول التي تضمنها هذا الكتاب ستة عشر فصلاً، كما يلي:

الفصل الأول: بيان أن مُهمَّة الرسل الأولى تحقيق توحيد العبادة.

الفصل الثاني: بيان الأدلة على أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرُّون بتوحيد الربوبية، ولم يُخرجهم ذلك من الشرك في العبادة.

الفصل الثالث: بيان أن توحيد العبادة هو معنى "لا إله إلا الله"، وأن الكفار في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا أعرف بمعناها من بعض من يدَّعي الإسلام.

الفصل الرابع: معرفة المؤمن أن نعمة الله عليه بالتوحيد توجب عليه الفرح به، والخوف من سلبه.

الفصل الخامس: أن حكمة الله اقتضت أن يجعل لأنبيائه وأوليائه أعداء من الإنس والجن.

الفصل السادس: وجوب التسلُّح بالكتاب والسُّنة لدحض شُبهة الأعداء.

الفصل السابع: الرد على أهل الباطل إجمالاً وتفصيلاً.

الفصل الثامن: الرد على من زعم أن الدُّعاء ليس عبادة.

الفصل التاسع: الفرق بين الشفاعة الشرعية والشركية.

الفصل العاشر: إثبات أن الالتجاء إلى الصالحين شرك، وإلجاء من أنكر ذلك إلى الاعتراف بأن ذلك شرك.

الفصل الحادي عشر: إثبات أن شرك الأولين أخفُّ من شرك أهل زماننا "بأمرين".

الفصل الثاني عشر: كشف شبهة من زعم أن من أدَّى بعض واجبات الدين لا يكون كافراً، ولو أتى بما يُنافي التوحيد، وبيان أدلة ذلك بالتفصيل.

الفصل الثالث عشر: حكم من وقع من المسلمين في نوعٍ من الشرك جهلاً منه ثم تاب منه.

الفصل الرابع عشر: الرد على من زعم الاكتفاء في التوحيد بقول لا إله إلا الله، ولو أتى بما ينقضها.

الفصل الخامس عشر: الفرق بين الاستغاثة بالحي الحاضر، فيما لا يقدر عليه، والاستغاثة بغير.

الفصل السادس عشر: وجوب تطبيق التوحيد بالقلب واللسان والجوارح إلا لعذرٍ شرعي.

وجملة الشُّبه التي يحتجُّ بها المشركون وأهل البدع:

1. قولهم: نحن لا نُشرك بالله، ولكننا مُذنبون، والصالحون لهم جاهٌ عند لله، ونحن نطلب من الله ونسأله بجاههم.

2. قولهم: أن الآيات التي تنزلونها بنا، إنما نزلت فيمن يعبد الأصنام، فكيف تجعلون الصالحين والأنبياء مثل الأصنام؟!

3. قولهم: أن الكفار إنما يُريدون من أصنامهم وأوثانهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم، فلا أريد إلا من الله ؟!!

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: "واعلم أن هذه الشُّبهات الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضَّحها لنا في كتابه، وفهمتها جيداً، فما بعدها أيسر منها".

4. وقولهم: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة؟!

5. قولهم: إنكم تنكرون شفاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتتبرأون منها؟!!

6. قولهم: النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُعطي الشَّفاعة وأنا أطلبها مما أعطاه الله ؟!!

7. قولهم: نحن لا نُشرك بالله شيئاً، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك؟!!

8. قولهم: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام؛ لأن عبادة الأصنام هو من قصد خشبة أو حجراً أو بُنية على قبرٍ أو غيره يدعونها، ويذبحون بها، والقول بأن هذه الأشياء تدفع عنا الضُرَّ ببركتها، أو تُعطينا ببركتها؟!!.

9. وقولهم: إن المشركين الأولين لم يكفروا بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنما كفروا لما قالوا: الملائكة بنات الله، ونحن لا نقول إن عبد القادر أو الرفاعي ابن الله ولا غيره؟!!

10. قولهم: إن للأولياء كرامات، وقد قال سبحانه: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون}(يونس: 62)، ونحن نطلب منهم بحق ولايتهم وكرامتهم عند الله؟!!

11. قولهم: أن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويُكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُنكرون البعث، ويُكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمداً رسول الله، ونُصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟!!

12. وقولهم: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: (لا إله إلا الله)، وكذلك قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، وأحاديث أخرى في الكف عمَّن قالها، فكيف تُكفروننا، ونحن نقولها؟!!

13. وقولهم: أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكُلُّهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: فهذا يدلُّ على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً.









الاثنين، 7 ديسمبر 2020

بلوغ المنى في حكم الاستمناء -محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)

بلوغ المنى في حكم الاستمناء

محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)

قدم له وعلق عليه، وخرَّج أحاديثه: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.

دار الصميعي- الرياض، الطبعة الأولى، 1994 م.

اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شك أن الاستمناء عادةٌ قبيحة، وفعلةٌ شنيعة، وأنه مما يتنافى مع ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الأدب وحسن الخلق، وقد أفتى عامة العلماء بتحريمه سلفاً وخلفاً، ولكن ذهب بعض العلماء إلى إباحته، كالإمام الشوكاني في كتابه هذا، وأصل هذا الكتاب هو جوابٌ على سؤالٍ ورد من الشيخ محمد عابد السندي الحنفي (ت 1257 هـ/ 1841م) قاضي زبيد باليمن، إلى الإمام الشوكاني (ت 1250 هــ/ 1834 م)، وكان سؤاله: عن حكم الاستمناء بالكف، هل هو محرَّمٌ أم لا؟ وهل عليه عقاب؟، وهل يُثاب فاعله عند الضرورة إذا خشي على نفسه الوقوع في الزنا ؟

وقد جمع فيه الإمام الشوكاني: أقوال المجوزين للاستمناء، وردَّ حُجج المانعين، وقد تكلم على وجه دلالات الآية من سورة (المؤمنون)، وقد أطال المؤلف النفس في ذلك جداً، وقد أغفل مع ذلك، بل حذف كل ما يُشعر بحرمة الاستمناء من كلام السلف، ولا شك أن ما فعله هذاخلاف الصواب، وإن كان قائله بالمنزل المعروفة في الفقه والدراية.

ولا شك أن نقل مثل هذه الرسالة قد لا يُفيد الإنسان العامي، بل ربما يكون فيه مفسدة لبعض من يطلع عليه، خصوصاً من العوام، وقد بذل الشيخ مشهور آل سلمان جهداً كبيراً في بيان الأخطاء في هذه الرسالة، مع تقديمه النصائح والإرشادات للشباب في هذا الزمن الصعب، عملاً على إصلاحهم، ورعايتهم، وتوجيههم، فجزاه الله عنا خير الجزاء.

أضف إلى ذلك جمعه الفتاوى النافعة لكبار علماء هذه الأمة: كالشيخ الشنقيطي، وابن باز، والعثيمين، والألباني، ومحمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد الحامد، وغيرهم.

وقد طُبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ عبد الله بن صالح الوادعي، وهي طبعةٌ ملونة جديدة، في دار الآثار بصنعاء، وقد ترجم للأعلام، وله تعقُّبات مُفيدة أيضاً.

وقد ذكر الإمام الشوكاني فتواه هذه في كتابه (فتح القدير، ج 3، ص 474)، وأصرَّ الشوكاني على إباحة الاستمناء مطلقاً، بل وعلى وجوبه أحياناً في كتابه "وبل الغمام على شفاء الأوام (ج 2، ص 328).

وطريق السلامة أن يبتعد الإنسان عن مثل هذه العادات السيئة، وأن يستشعر خوف الله سبحانه وتعالى، ويشغل نفسه بالطاعات والعبادات، ويغضَّ بصره، ويحفظ بصيرته، وأن يجأر إلى الله تعالى أن يُخصله منها، والله خيرُ موفقٍ، والهادي إلى صراطٍ مُستقيم.

  • تعريف الاستمناء:

الاستمناء شرعاً: هو إخراج المنيِّ بشهوةٍ عن قصدٍ وتعمُّدٍ، من غير مُباشرة الأمة أو الزوجة، بأيِّ طريقةٍ تسمح بذلك.

ويعرفه الطبيب وصفي عدلي، بأنه: دعك العضو باليد أو بعض أصابعها؛ حتى تحثل الشهوة الجنسية خلال (2- 4) دقائق في العادة.

وهذه الرسالة تقع في مبحثين:

المبحث الأول: في النقل عن أهل العلم: 

وقد نقل الشوكاني ما يؤيد مذهبه الذي ذهب إليه من إباحة الاستمناء مطلقاً، بعذرٍ أو بغير عذر، وتأول لفظ الكراهة بدخوله في باب الإباحة عموماً؛ إذ الكراهة لتنزيه، ونقل في ذلك:

ما نقله ابن القيم عن ابن عقيل: أنه يجوز للإنسان أن يستمني ما لم يتزوج.

ونقل عن ابن عباس، وابن عمر، وهو غير ثابتٍ عنهما.

وعن مجاهد، وعطاء، والحسن، وابن جريج، وعمرو بن دينار.

ومن أصحاب المذاهب: الإمام أحمد، وابن نُجيم من الحنفية، ونقل عن السمهودي أن التوقف في تحريمه هو قول الشافعي في القديم.


المبحث الثاني: في الكلام والرد على المانعين:

استدل الشوكاني بأنه لا عموم للمغايرة في قوله: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (سورة المؤمنون: 7)، وأنه لا بُدَّ من تقييده بمن ابتغى نكاحَ فرجٍ غير فرج الزوجات، والمملوكات، وأن هؤلاء هم العادون.

وظاهر كلامه: أن إطلاق القول: بحرمة الاستمتاع بغير الفرج من الزوجة والأمة، كالاستمناء؛ باطلٌ غيرُ مُراد؛ لأن انتفاء اللازم (الاستمناء) يستلزم انتفاء الملزوم (مطلق الاستمتاع)، وقد علمنا أن الاستمتاع بالزوجات والإماء مباح، فيلزم من ذلك إباحة الاستمناء بهن، وبغيرهن؛ لأن انتفاء الملزوم لا يقتضي تحريم لازمه.

قال: وحفظ الفرج باعتبار مدلوله اللغوي، أعمُّ من حفظه عن النكاح وعن غيره، فلا بُدَّ من تقييده بالنكاح، ولا يصدق اسم النكاح على الاستمناء باليد.

قال: وإن الآية مجملة، والمجمل لا يُحتجُّ به إلا بعد بيانه، وقد بيَّن الله تعالى ورسوله  ما يحرم نكاحه: مثل الزنى الذي أوجب الحد فيه.

كذلك لا يجوز قياس الاستمناء على التلوُّط أو الزنى أو حتى العزل، بجامع قطع النسل؛ لأنه قد أباحه للزوجة في زوجها، ولو قيس عليه لأوجب الحد فيه، وهو قياسٌ باطل. أما العزلُ فهو مكروه، وليس بحرام، وقوله هذا صحيح.


  • هذه جملة حجج الشوكانيِّ، وله غيرها، ولكن هذه أقواها:

ويظهر لنا بطلان ما ذهب إليه المصنف، إذا علمنا أن حرمة الزنا مقررة في نصوص كثيرة، والأمر بحفظ الفرج أعمُّ من صيانته عن الزنا، وعند الأصوليون: "أن الكلام إذا احتمل التأسيس أو التأكيد، فلا شك أن حمله على التأسيس أرجح من حمله على التأكيد"، وعلى هذا لا نحتاج إلى التقييد أو التقدير الذي ذكره المصنف.

وعليه، فما ذهب إليه المُحرِّمون للاستمناء هو الراجح بالاستدلال الصحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد ما يُعارضه من كتابٍ ولا سُنَّة.

  • خلاصة القول في الاستمناء:

  1. أنه ينافي مقاصد الشريعة الإسلامية من زيادة النسل، والتكاثر.

  2. أنه يُنافي سُنَّة الترغيب في النكاح، سيما القادر عليه، وهو يعدل عنه إلى الاستمناء.

  3. أن ممارستها بشكل مستمر ودوري يُؤدي إلى إرهاق الجهاز العصبي والتناسلي.

  4. الانحراف الأخلاقي الذي يؤدي بصاحبه إلى الزنى والعياذ بالله.


  • تعقبات على الشوكاني في رسالته:

للشيخ مشهور آل سلمان، تعقبات، وإفادات، ونقولات عن أئمة المذاهب، والمفسرين، وتحقيقات مفيدة في هذا الباب، ولكن نقتصر على بعضها، ومن هذه التعقبات:

  1. أن الشوكاني (ص 22)، زاد كلمة (ابن تيمية) على كلام ابن القيم في نقله عن ابن عقيل، ونصُّ كلام ابن القيم: "قال ابن عقيل: وأصحابنا، وشيخنا"، فالمراد بالشيخ هنا هو شيخ ابن عقيل، وليس ابن تيمية؛ لأن مذهب ابن تيمية في الاستمناء: التحريم.

  2. كذلك، فإن الشوكاني لم يُحسن النقل عن ابن عقيل، ففي نقله حذفٌ وتصرُّف، وصريح قوله يُفيد الحرمة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى: 10/ 573) أن حرمة الاستمناء مطلقاً هو اختيار ابن عقيل في "المفردات.

  3. أيضاً (ص 30) نبَّه الشيخ مشهور إلى أن صحيح مذهب ابن عمر وابن عباس، القول بحرمة الاستمناء، وهو الثابت عنهما بالأسانيد التي رواها الثقات، وما رُوي عنهما من الإباحة، فأسانيدها ضعيفةٌ مغموزة، ومع ذلك قال: لم أرَ من نبَّه على قوله –يعني ابن عباس- بالمنع، واقتصر على الإباحة عنه صاحب "موسوعة فقه ابن عباس": (1/ 170- 171).

  4. أن الشوكاني ينسبُ بعض الأقوال للحنابلة، وإنما هو لابن القيم كما أشار الشيخ عبد الله الوادعي في تحقيقه للرسالة (ص 18).

  5. كذلك ما نقله عن ابن نُجيم، والإمام أحمد، والسمهودي الشافعي من القول بإباحة الاستمناء، مُقيَّدٌ بما إذا خشي العنت: أي الزنا، وقد حذف ما يُفيد ذلك، وهذا تدليس (ص 32- 35).

  6. وما نقله عن الإمام أحمد، وأصحابه من الإباحة مطلقاً (ص 35)، غير صحيح، والمشهور عنه الإباحة لمن خشي العنت، والكراهة لمن لم يخش العنت.

  7. وأنه عندما اعتُرض على الإمام الشوكاني أن للاستمناء أضرارٌ على الجسم من الناحية الطبية، أجاب: الكلام هنا على الحلال والحرام، وليس من الناحية الطبية، وقد اعترض الشيخ مقبل الوادعي على ردِّ الشوكاني (ص 70)، وقال: ألم تأتِ الشريعة للحفاظ على النفس، وصحتها.