صفة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف
وفيه تحقيق أنها ركعتان في كل ركعة ركعتان
محمد ناصر الدين الألباني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ اتفق العلماء على أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة في حق الرجال والنساء، وأن الافضل أن تصلى في جماعة، وأنَّه يُنادى لها: (الصلاة جامعة)، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنها: صلاةٌ ذاتُ ركوعين في كل ركعة، وهذا مما تواتر معناه في الأحاديث الواردة في هذا الباب، وذهب الحنفيَّة إلى أن صلاة الكسوف قيامٌ واحد، وركوعٌ واحد كهيئة كهيئة النفل بلا فرق، على أنهم قالوا: أقلها ركعتان، والأفضل أن يصلي أربعاً بتسليمة واحدة أو بتسليمتين، والصَّحيح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن صلاة الكسوف ركعتان بفي كل ركعة ركوعان، وقيامان، وسجدتان.
وأصحُّ ما رُوي في هذا الباب حديثنان، هما: حديث عائشة، وحديث ابن عباس، قال ابن عبد البر: (هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب).
وقال ابن القيم: "السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع في كل ركعة، لحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الاشعري، وكلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة مرتين، وهؤلاء أكثر عدداً وأجل وأخص برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم يذكروه".
وما وقع في بعض الطرق والرويات مما يُخالف ذلك؛ من رواية أنَّ النبيَّ صلى بثلاث ركوعاتٍ في كل ركعة، أو أربعةٍ في كل ركعة، أو خمسة في كل ركعة، أو ركوعٌ واحدٌ في كل ركعة؛ فهو: إما شاذٌ أخطأ فيه الثقة، أو ضعيفٌ مُعلَّل تفرَّد به من لا يُحتجُّ بروايته، وتكون روايته مخالفة لرواية الجماعة، وقد بيَّن ذلك الإمام الألباني رحمه الله تعالى في هذا الكتاب، وقد أوضح علل تلك الروايات وما فيها من الضعف والإرسال والإنقطاع والاضطراب، وبيَّنه بياناً شافياً، بما لا يدع لمعترضٍ قول، ولا لمُخالفٍ حُجَّة.
والصلاة بهذه الكيفية هو المعروف من عمل الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد كُسفت الشمس على عهد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فصلاها عثمان على الصفة المعروفة ركعتين: في كل ركعة ركوعين، وسجدتين، وقد أقرَّه الصحابة على ذلك؛ فكان إجماعاً منهم.
وقد ذكر الألباني رواية اثنان وعشرين صحابياً لأحاديث الكسوف؛ وهم على الترتيب:
عائشة بنت أبي بكر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأم سفيان، وحذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وأبو بكرة نُفيع بن الحارث، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، ومحمود بن لبيد، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن رباح، وأبو مسعود الأنصاري.
ورواية الصحابة في مجملها ثابتةٌ صحيحة، وأصحُّها: رواية عائشة وابن عباس، وبعض الروايات لا تصحُّ أصلاً، ومنها الضعيف الإسناد، ومنها المضطرب؛ ومنها الضعيف المحتمل الذي يُقويه الثابت منها شهادةً واعتباراً ما لم يكن مُنكراً، ومن الأحاديث ما يكون مجملاً ومنها ما يكون مُبيناً؛ فتحمل الأحاديث المجملة على المُبيِّنة.
وأصل ذلك في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما، وقد رويت أحاديث صلاة الكسوف بصور مختلفة ما بين الاختصار تارةً بحسب ما يقتضيه المقام، وعلى سبيل الاستيعاب تارةً أخرى، وتختلف ألفاظه عادةً من راوٍ لآخر، لأن بعضهم قد يرويه بالمعنى، أو أن بعضهم حفظ شيئاً ونسي شيئاً، وبعض تلك الروايات عن الصحابة لها طريقٌ واحد كحديث أبي هريرة، وحذيفة، وعلي بن أبي طالب، وبعضها لها طريقان كحديث ابن مسعود، وبعضها لها أربع، وبعضها أكثر من ذلك أو أقل.
وقد صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكسوفَ مرَّة واحدة بالمدينة في المسجد، وقد ذكر ذلك: الشَّافعيُّ، وأحمد، والبخاريُّ والبيهقيُّ، وابن عبد البر، وكان وقوعها يوم وفاة إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: إنه صلَّى في كسوف القمر، كما نقله صاحب "الهدى"، وحكاه ابن حبَّان: أن القمر خُسف في السنة الخامسة؛ فصلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف، وكانت أول صلاة كسوفٍ في الإسلام.
وقد قال الحافظ في "الفتح": "وعند ابن خزيمة من حديثها (يعني: عائشة) أن ذلك يوم مات إبراهيم عليه السلام". وهو الذي اختاره المحققون من الفقهاء والمحدثين".
وقد قال الصنعاني في "سبل السلام": "التحقيق أن كل الروايات حكايةٌ عن واقعةٍ واحدة، هي صلاته صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، ولهذا عوّل الآخرون على إعلال الأحاديث التي حكت الصور الثلاث".
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقد ذكر جمهور أهل السير أنه (يعني إبراهم ابن النبيِّ صلى الله عليه وسلم) مات في السنة العاشرة من الهجرة؛ فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف".
يقول الإمام الألباني رحمه الله: "وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المُحلى لابن حزم، أن المرحوم محمود باشا الفلكي حقق في رسالة له أسماها (نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام) بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة، وهو يوم وفاة إبراهيم عليه السلام".
قال الشيخ أحمد (٥/ ١٤): "ومنه اتضح أن الشمس كُسفت في المدينة المنورة في يوم الاثنين ٢٩شوال سنة ١٠الموافق ليوم ٢٧ يناير سنة ٦٣٢ ميلادية في الساعة ٨ والدقيقة ٣٠صباحاً".
وهذا ما يؤيد ما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله في (الفتاوى: ١/ ٣٢٠-٣٢١) أن الشمس لا تُكسف إلا وقت استسرار القمر، قال: "ومن قال من الفقهاء: إن الشمس تُكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم".
وقد أجاد الإمام الألباني رحمه الله في تتبع طرق هذا الحديث وجمعه، ودراسة رواياته، والتعليق والحكم عليها بما يُناسبها، وأتبع الإمام الألبانيُّ ذلك بذكر صفة صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُستفادة، وبيان ما رأى النبيًّ صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب: كالجنة، والنار، وخطبته صلى الله عليه وسلم بعدها، ونبّه على أوهامٍ وقعت لبعض الأعلام في صلاة الكسوف،
وقد قسَّم الإمام الألباني الأحاديث التي ذكرها في كتابه هذا إللى ثمانية أقسام:
١- قسمٌ فيه التصريح بأنَّ القصَّة كانت يوم وفاة إبراهيم عليه السلام، وأن الصلاة كانت ركعتين في كل ركعة، وهو الحديث الأول، والثالث، والسابع: وهي حديث: عائشة، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر.
٢- قسمٌ فيه التصريح بالوفاة، وليس فيه ذكر الركوعين؛ فهو مجملٌ يُفسره القسم الأول، وبعض الأقسام الآتية، وهو الحديث: الثامن، والثالث عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرون: وهو حديث ابن مسعود، وأبو بكرة، ومحمود بن لبيد، والمغيرة بن شعبة، وأبي مسعود الأنصاري.
٣-وقسمٌ فيه التصريح بالوفاة، ولكن فيه أربع ركعات في كل ركعة، وهو الحديث الثاني برقم (٣)، والرابع برقم (٢): أي حديث ابن عباس من طريق مقسم عنه، وحديث جابر من طريق عطاء عنه.
٤-قسمٌ فيه التصريح بالركعتين في كل ركعة، مع الإشارة إلى يوم الوفاة، وهو الرابع برقم (١)، والخامس والسادس، وهو حديث جابر من طريق أبي الزبير عنه، وحديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث أبي هريرة.
٥-قسمٌ فيه التصريح بالركعتين فقط، وهو الثاني، والتاسع، وهما حديث
٦- قسمٌ يُشير إلى الوفاة فقط، وهو الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، والعشرون، وهو حديث: أبو موسى الأشعري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب.
٧-قسمٌ فيه التصريح بالزيادة على الركعتين، وهو الحديث العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، وهو حديث: حُذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب.
٨-قسمٌ ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه ما يُمكن تأويله إلى القسم الخامس، وهو الحديث الرابع عشر، وهو حديث عبد الرحمن بن سمرة.
قال الألبانيّ رحمه الله: "فتبيَّن بهذا التلخيص أن هذه الأقسام كلها متفقةٌ مع بعضها، وأنها جميعاً تعود إلى القسم الأول، حاشا القسم الثالث والسابع، وهي ضعيفةٌ معلولة بالضعف والشذوذ -كما سبق تفصيله؛ فلا تنهض لمعارضة الأحاديث الأخرى، وهي أكثر عدداً، وأقوى قوةً، وهذا بيِّنٌ لا يخفى والحمد لله رب العالمين".
ثم ذكر الشيخ رحمه الله: {كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف؟}
قال رحمه الله: ثم بدا لي أن أجمع مما صحَّ من الأحاديث المتقدمة، وقد انحصرت طرقها، وتعيَّنت مواطنها في كتب السُّنة المطهرة -خلاصةً وافيةً نافعةً في صلاته صلى الله عليه وسلم للكسوف، وما رأى فيها من العبر والآيات، وما خطب بعدها من النصائح والعظات، وأكثرها مما تقدم في تلك الأحاديث، وسائرها مما جاء في بعض طرقعا المتقدمة عند بعض مخرجيها، لكن لم يُسبق ذكرها هناك، فأوردتها هنا تتميماً للفائدة، وذكرتُ في الحاشية من أخرجها من أئمة الحديث الذين سبق ذكرهم.
وقد رأتُ أن هذا الجمع والتلخيص واجبٌ عليَّ بعد أن يسَّر الله السبيل إلأيه؛ لما في ذلك من الإعانة على معرفة هذه السُّنة، والعمل بها، وإحيائها بعد أن كادت أن تُنسى حتى من أهل العلم والصلاح! وشجعني على ذلك أنني -فيما علمت -لم أُسبق إليه؛ فلله تعالى وحده الحمد والشكر، ومنه أرجو المزيد من التوفيق والفضل.
أولا كسوف الشمس وفزعه صلى الله عليه وسلم:
"ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم مات ابنه إبراهيم عليهما السلام- وكان يوماً شديد الحرّ؛ فخُسفت الشمس، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مركبه سريعاً (1)، -وذلك ضحىً (٢) -فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحُجَر؛ فخرج فزعاً، فأخطأ (٣) بدرعٍ حتى أدرك بردائه؛ فخرج يجرُّ رداءه، يخشى أن تكون السَّاعة؛ فأتى المسجد، حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يُصلي فيه، وقال الناس: نما انكسفت الشمس لموت إبراهيم (٤)، فبعث صلى الله عليه وسلم مُنادياً، فنادى: الصلاة جامعة، وثاب الناس إليه، واصطفوا وراءة (٥)، وخرجت نسوةٌ بين ظهري الحُجَرِ في المسجد، واجتمع إليهنَّ نساء (٦)؛ فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه.
ثانياً: ابتداء الصلاة:
وبدأ صلى الله عليه وسلم؛ فكبر وكبَر الناس (٧)، فقرأ قراءةً طويلة، فجهر فيها (٨)، وقام قياماً طويلاً جداً، نحواً من سورة {البقرة}؛ حتى قيل: لا يركع، وجعل أصحابه يخرُّون. وقالت أسماء: أتيت عائِشَةَ؛ فإذا الناس قيامٌ، وَإذا هي تُصَلِّي، فَقُلتُ: ما شَأْنُ النّاسِ يُصَلُّونَ؟ فأشارَتْ برَأْسِها إلى السَّماءِ، فَقُلتُ: آيَةٌ، قالَتْ: نَعَمْ، فأطالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم القِيامَ جِدًّا، حتّى تَجَلّانِي الغَشْيُ، فأخَذْتُ قِرْبَةً مِن ماءٍ إلى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ على رَأْسِي من الماء، قالت: فأطال القيام حتى رأيتني أريد أن أجلس، ثم التفتُّ إلى المرأة التي هي أكبر مني، والمرأة التي هي أسقمُ مني، فأقول أنا أحقُّ أن أصبر على طول القيام منك (٩).
الركوع الأول:
ثم ركع صلى الله عليه وسلم مُكبراً، فأطال الركوع جداً؛ حتى قيل: لا يرفع، وركع نحواً مما قام. ثم رفع. ثم رفع رأسه؛ فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد (١٠)، فقام كما هو (١١) ولم يسجد، فأطال القيام جداً حتى قيل: لا يركع، وهو أدنى من القيام الأول، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الاولى، وأطال حتى لو جاء إنسانٌ بعدما ركع -لم يكن علم أنه ركع -ما حدّث نفسه أنه ركع من طول القيام.
الركوع الثاني:
ثم كبر مُكبّراً، فأطال الركوع جداً، حتى قيل: لا يرفع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه؛ فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"(١٢) فأطال القيام حتى قيل: لا يسجد، ورفع يديه فجعل يُسبح ويحمد ويُهلل ويُكبّر ويدعو (13).
السجود الأول:
ثم كبَّر صلى الله عليه وسلم فسجد سجوداً طويلاً مثل ركوعه (14)؛ حتى قيل: لا يرفع، وقالت عائشة: ما ركعتُ ركوعاً قط، ولا سجدتُ سجوداً قط، كان أطول منه. ثم كبَّر (15)، ورفع رأسه وجلس، فأطال الجلوس، حتى قيل: لا يسجد (16).
السجود الثاني:
ثم كبَّر (17)؛ فسجد فأطال السجود، وهو دون السجود الأول.
الركعة الثانية:
ثُمَّ كبَّر (18)؛ ورفع، فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الثاني من الركعة الأولى، وقرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة في القيام الثاني.
الركوع الأول من الركعة الثانية:
ثُمَّ كبَّر (١٩)، فركع، فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول. ثُمَّ كبَّر (٢٠)، فرفع رأسه؛ فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم قرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة الأولى.
الركوع الثاني من الركعة الثانية:
ثُمَّ رفع رأسه؛ فقال:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأطال القيام، حتى قيل: لا يسجد، ثم تأخَّر، وتأخَّرت الصفوف خلفه، حتى انتهت إلى النساء، ثم تقدَّم وتقدَّمت الصفوف حتى قام في مقامه.
السجود الأول والثاني:
ثُمَّ كبَّر، فسجد مثلما سجد في الركعة الأولى، إلا أنه أدنى منه، وجعل يبكي في آخر سجوده وينفخ: أُفْ أُفْ، ويقول/ "ربِّ ألم تعِدني ألا تُعذبهم وأنا فيهم؟ ربِّ ألم تعِدني ألا تُعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحنُ نستغفرك" (٢١)
التسليم:
ثُمَّ تشهَّد (٢٢)، ثُمَّ سلَّم (٢٣)، وقد تجلَّت الشمس، واستكمل أربع ركعات في أربع سجدات.
ثالثاً: الخطبة على المنبر:
فلما انصرف رقى المنبر (٢٤)؛ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: أيا الناس! إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يُخسفان إلا لموت عظيم. وإنهما آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته؛ ولكن يُخوف الله به عباده؛ فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، وإلى الصدقة والعتاقة والصلاة في المساجد حتى تنجلي.
يا أمة مُحمد! إن من أحدٌ أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.
يا أمة مُحمّد! والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً).
ثُمَّ رفع يديه؛ فقال: (ألا هل بلَّغتُ؟!).
ثمَّ قالَ: (إنَّه عُرِضَ عَلَيَّ كُلُّ شيءٍ تُولَجُونَهُ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ، وَذَلِك حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حتّى قُمْتُ في مَقامِي، وَلقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَتَناوَلَ مِن ثَمَرِها لِتَنْظُرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ بَدا لي أَنْ لا أَفْعَلَ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدُّنيا (25)، ولقد عُرضت عليَّ النارُ وذلك حين رأيتموني تأخَّرت، مَخافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِن لَفْحِها، فجعلتُ أنفخُ؛ خشية أن يغشاكم حرّها.
ولقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُها بَعْضًا، فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظه (26)، ورأيتُ أكثر أهلها النساء، قالوا: لم يا رسول الله ؟ قال: (لكفرهنَّ)، قيل: أيكفرن بالله ؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهُنَّ الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً؛ قالت: ما رأيتُ منك خيراً قط).
وفي حديث أسماء: (ولقد أُدنيت مني النار حتى قلتُ: يا ربِّ! وأنا معهم؟! فرأيتُ فيها هرَّةً…).
ورأيتُ فيها امرأةً من بني إسرائيل طويلةً سوداء (27) تُعذَّب في هِرَّةٍ لَها، رَبَطَتْها فَلَمْ تُطْعِمْها، وَلَمْ تسقِها (28)، ولم تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ، حتى ماتت جوعاً، فلقد رأيتًها تنهشها إذا أقبلت، وإذا ولَّلت، تنهش أليتها.
ورأيتُ فيها سارق بدَنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم (29).
ورأيتُ صاحِبَ المِحْجَنِ أبا ثُمامة عمرو بن مالك بن لُحي، وهو الذي سيَّب السوائب (٣٠)، يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ، كانَ يَسْرِقُ الحاجَّ بمِحْجَنِهِ، فإنْ فُطِنَ له قالَ: إنَّما تَعَلَّقَ بمِحْجَنِي، وإنْ غُفِلَ عنْه ذَهَبَ به!.
وإنه قد أوحي إليَّ قد أنكم تُفتنون في القبور كفتنة المسيح الدجال، فيُقال: ما علمُك بهذا الرَّجُل؟ فأمّا المُؤْمِنُ، أَوِ المُوقِنُ، فيَقولُ: هو مُحَمَّدٌ، هو رَسولُ اللهِ، جاءَنا بالبَيِّناتِ والْهُدى، فأجَبْنا وَأَطَعْنا، (ثَلاثَ مِرارٍ)، فيُقالُ له: نَمْ، قدْ كُنّا نَعْلَمُ إنَّكَ لَتُؤْمِنُ به، فَنَمْ صالِحًا، وَأَمّا المُنافِقُ، أَوِ المُرْتابُ، لا أَدْرِي أَيَّ ذلكَ قالَتْ أَسْماءُ، فيَقولُ: لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النّاسَ يقولونَ: شيئًا، فَقُلتُ؛ فيُقال له: أجل، على الشكِّ عشتَ، وعليه مِتَّ، هذا مقعدك من النار.
ثُمَّ أمرهم أن يتعوَّذوا بالله من عذاب القبر (٣١).
قالت عائشة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعوَّذ من عذاب النار، وعذاب القبر.
وبهذا ينتهي ما أردناه من التلخيص، و"سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
وأختم بفائدة جليلة، وهي:
أن أحاديث الكسوف التي رواها ((مسلم) في كتاب الكسوف من (١ إلى ٢٩) جاءت كالتالي:
١-من طريق هشام بن عروة، والزهري، عن عروة، عن عائشة، فيه: كل ركعة ركوعان.
٢-من طريق ابن جريج عن عطاء عن عُبيد بن عُمير (حسبته عن عائشة. ومن طريق قتادة: عن عطاء به، عن عائشة. وفيه: في كل ركعة ثلاث ركوعات.
٣-من طريق عمرة عن عائشة، وفيه كل ركعة ركوعان.
٤-ومن طريق أبي الزبير عن جابر، وفيه في كل ركعة ركوعان.
قال ابن تيمية: والصواب أنه لم يُصلِّ إلا بركوعين لأنه لم يُصلّ الكسوف إلا مرة واحدة أه.
______________________________
(١) بيهقي (٢) بخاري، أبو عوانة، بيهقي. (٣) مسلم في رواية. (٤) نسائي، مسلم. (٥) مسلم، نسائي. (٦) نسائي. (٧) أحمد وبيهقي. (٨) أبو عوانة. (٩) تقدم نحوه، وهذا رواية لمسلم. (١٠) بخاري، مسلم، نسائي، بيهقي. (١١) بيهقي. (١٢) بخاري، مسلم مسائي، بيهقي. (١٣) هو من حديث عبد الرحمن بن سمرة المتقدم (ص ٦٨)، وليس فيه تعيين مكان هذا الرفع، ولكن المتبادر أن هذا هو محله. (١٤- ١٥) نسائي، (16) نسائي، بيهقي، عن ابن عمرو وصححه الحافظ في "الفتح" (٢/ ٤٣٢)، وقال: "لم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في هذا. وقد نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته! فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام، وإلا فهو محجوجٌ بهذه الرواية". (١٧) نسائي. (١٨- ١٩) نسائي (٢٠- ٢١) نسائي، والترمذي في "الشمائل"، وأحمد. (٢٢) نسائي، بيهقي. (٢٣) مسلم. (٢٤) نسائي أحمد.
(٢٥) هذا من الأدلة الكثيرة على أن الجنة مخلوقة، وأن نعيمها مادي؛ ففي الجنة أكل وشرب، وأنهار وأشجار، وفواكه مما يشتهون، كما صرح به القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: ٢٥). وإن من ضلالات القاديانية إنكارهم لهذه الحقائق الشرعية؛ فهم لا يؤمنون بالجنة التي وصفت في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية؛ كهذا الحديث؛ فاسمع ما قاله نبيهم أحمد في "الخطاب الجليل" (ص ١١٣): "وجماع القول أن الجنة والجحيم باعتبار تعاليم الفرقان الحميد، ليستا شيئاً جسمانياً جديداً يأتي من الخارج، وإنما هي من الحقيقة آثار الحياة البشرية، وظلالها، أجل، حق أن كلتيهما ستتمثل مجسمةً، ولكنها لا تكون في نفس الأمر إلا آثار الحالات الروحية وأطلالها، كلا؛ لسنا القائلين بالجنة الغناء بلفيفٍ من الأشجار المغروسة في بقعة من الأرض غرساً جسمانياً. ولا نحن المعتقدين بجحيم وقودها أحجار من كبرين حقاً واقعاً. بل إن الجنة والجحيم -طبقاً للمعتقد الإسلامي -انعكاسات هذه الأعمال التي يعملها الإنسان اليوم في الحياة الدنيا". ونتيجة هذا: إنكار الدار الآخرة وما فيها من نعيم وجحيم حقيقيين، ولذلك تراخ يؤول -بل يُحّرف ويُعطّل -معاني الآيات الصريحة في ذلك؛ فهو يقول (ص ١١٨) من الكتاب المذكور: "والمراد بقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}: أن أهل البر الحقيقي يُسقون من الشراب ما يسكن نفوسهم من لواعج الحياة الدنيا، ويُبدد لها أمرار الحسرات، وينفي عن قلوبهم الشهوات الخبيثة … والمراد بقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}: أنهم شاربون يوم القيامة من النبع الذي هم يشقونه اليوم بأيديهم، وههنا سرٌ غامضٌ من أسرار حقيقة الجنة، فليفهم من شاء"!! وقال (ص ١٧٣): "والمراد من هذه الآية: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}: أن الذين يرفضون الحق، ولا يبغون الله من صميم الفؤاد؛ يبلوهم الله برُداء الفعل، فيُعانون جهد البلاء في بلبال الحياة الدنيا وأواسرها، حتى لكأنهم يقرنون في الأصفاد، وينهمكون في الشواغل الأرضية، كأنما شُدَّت أعناقهم بالأغلال…" وعلى هذا النمط يُفسر كل ما يتعلق بحقائق الآخرة في سبيل إنكارها، وهي طريقة القرامطة الباطنية، والغلاة من الصوفية الكائدين للإسلام! ولكن الله لهم بالمرصاد!.
(٢٦) أبو عوانة. (٢٧) بخاري ومسلم. (٢٨ -٣٠) نسائي وأحمد. (٢٩) مسلم، بيهقي. (٣١) ترمذي، نسائي، أحمد.