أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 أكتوبر 2020

الأحاديث الموضوعة عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة -اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الأحاديث الموضوعة عند الصوفية وأثرها السيئ على الأمة  

د. يوسف علي فرحات

دكتوراه في الحديث الشريف وعلومه، كاتب ومفكر إسلامي.

ومدير الأوقاف والشؤون الدينية بمنطقة -الوسطى

غزَّة -فلسطين


اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ اتفق العلماء من المحدثين وغيرهم على أن الحديث الموضوع وهو (المختلق المصنوع المنسوب كذباً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، سواءٌ رُكِّب له إسناد، أم جاء بغير إسناد) هو شرُّ أنواع الحديث الضعيف، وأجمعوا على أنه يحرم العمل به، ويحرم روايته، وذلك في كل أبواب الدين، إلا مقروناً ببيان انه موضوعٌ مكذوبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد توعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكذبة الفجرة الذين يتعمدون وضع الأحاديث،بالعذاب الشديد في الآخرة؛ فقال: (إن كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحد، من كذب عليَّ مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار)

وقد قيض الله عز وجل لهذا الدين جملة من الأئمة الجهابذة، الذين تصدوا لكشف هذه الأحاديث وبيان أحوال واضعيها، فوضعوا لذلك القواعد والضوابط للحفاظ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصيانته من الدس والكذب.

وقد تنوعت أسباب الوضع في الحديث، وكان من أخطرها: الأحاديث التي وضعها المتصوفة وبعض من ينتسب إلى الزهد والعبادة، وتكمن خطورة ذلك في اغترار المسلمين بظاهر أحوال هؤلاء، وقبولهم لكلامهم مما يرون من فتنتهم.

ومن المعروف أن الغالب على المتصوفة الجهل بعلم الحديث وعدم تمييزهم فيه بين الصحيح والسقيم، ولا غرو في ذلك ولا عجب، فمن تنكب الهدي النبوي وتجاهل الطريق الحق السوي لا محالة سيضل، وسيكون لضلاله آثار كثيرة.

فالصوفيون بضاعتهم في علم الحديث ضعيفة و مزجاة، ولذلك فشت فيهم الأحاديث الموضوعة والمكذوبة وكل باطل لا أصل له، ومن أقولهم إذا سئل الصوفي عن حديث من أين جاء به ولم يسمع من ذي قبل ولا يعرف له أصل في السنة فيردُّ قائلاً: صح كشفًا ٕوان لم يصحَّ سنداً، وأحيانا يجيب قائلهم: حدثني قلبي عن ربي!!.  

بل ذهب بهم الأمر إلى السخرية بأهل الحديث من أمثال الإمام عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف المشهور بمصنف عبد الرزاق فينكرون علينا بقولهم: أنتم تحدثون عن عبد الرزاق، أما نحن فنحدث عن الرزاق مباشرةً؟، وهذا غاية الجهل والضلال -عياذاً بالله تعالى.

ويقولون أيضا: أنتم تأخذون علمكم عمن يموت أما نحن فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت. ويقولون: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله. 

وقد قال أحدهم: 

إذا طالبوني بعلم الورق… برزت عليهم بعلم الخرق  

وسيقوم الباحث (الدكتور يوسف) في هذا البحث بتسليط الضوء على سبب رئيس من أسباب ضلال الصوفية وهو جهلهم بعلم الحديث، والذي حملهم ذلك أن يبنوا أصولاً على أحاديث لا تصح وهي من أوهى الأحاديث، فهذا حالهم عند كل من عرفهم ، فقلما تجد صوفياً - لاسيما من المتأخرين- عالما بهذا الفـــــن المنيف والعلم الشريف.

و لقد أشار كثير من علمائنا - رحمهم الله تعالى- إلى هذه الحقيقة والمتمثلة بجهل الصوفية بعلم الحديث. قال ابن حجر العسقلاني: "ما زال عوام الصوفية يروون الواهيات" أي يأخذون بها ويعملون بها لجهلهم بالحديث.

أما أسباب تعمد وضع الحديث: وهي الأمور الحاملة للكذابين على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم:

ويرجع لأسباب عدة، تعود جملتها إلى ما يلي:

السبب الأول: الطعن على الإسلام والتشكيك فيه. 

قال حماد بن زيد: "وضعت الزنادقة على رسول االله صلى الله عليه وسلم -اثني عشر ألف حديث" (الضعفاء للعقيلي: 1/ 14). 

ومن هؤلاء المفضوحين: محمد بن سعيد المصلوب، الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث المكذوب: (أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله) (أخرجه الجوزقاني في الأباطيل والمناكير، ر: 116).

السبب الثاني: نصرة الأهواء. ومن سلك هذا أصناف بحسب الأهواء:

1- فمنهم من يضع للسلاطين تزلفاً لهم، في فضائلهم أو مثالب خصومهم، كالذي وضع في بني أمية وبني العباس.

2- ومنهم من يضع نُصرة للمذهب العقدي، كالأحاديث التي وضعت لنصرة عقائد المُشبهة أو المُعطلة، أو كالتي وضعت في فضائل أهل البيت وذم غيرهم.

3- ومنهم من يضع للمذهب الفقهي، كمن ّوضع في فضل أبي حنيفة وذم الشافعي.

4- ومنهم من يضع انتصاراً للأوطان، كمن وضع في فضائل بلد مُعين ومثالب بلد آخر.

السبب الثالث: الترغيب في الأعمال الصالحة. 

وهذا يوجد في طائفة تبيح الكذب في الحديث لمصلحة الدين ، وربما احتسب الأجر في ذلك ، يرغب في طاعة أو ينفر من معصية. 

وهؤلاء زين لهم الشيطان فقالوا نحن نكذب لرسول االله صلى الله عليه وسلم ولا نكذب عليه . ويكثر مثل هذا عند الوعاظ والزهاد والصوفية

السبب الرابع: الرغبة في استمالة السامعين، وصرف وجوه الناس إليه .

كشأن القُصَّاص، الذين يضعون القصص الطويلة لجذب الناس، قال ابن الجوزي في تعليل صنيع هؤلاء: "يريدون أحاديث تنفق وتُرقق، والصحاح َيقل فيها هذا، ثم إن الحفظ يشق عليهم، ويتفق عدم الدين، ومن يحضرهم من جهال" (الموضوعات لابن الجوزي: 1/ 29).

السبب الخامس: ظهور الفرق والخلاف بينها:

 كالخلاف بين الأمويين والعباسيين، وبين الخوارج والأمويين كل ذلك كان من أسباب الوضع في الحديث، حيث حمل التعصب للجماعة وبعض الأشخاص البعض لوضع الحديث انتصاراً للمذهب .

السبب السادس: التعصب للجنس والمكان: 

فوضعت أحاديث في تفضيل بعض القبائل على بعض وبعض الأجناس على بعض، وقد كان للشعوبية أثرها في هذا الباب فوضعوا أحاديث في مدح فارس واللغة الفارسية مثل مرُوي زوراً: (إن االله إذا غضب أنزل الوحي بالعربية، وإذا رضي أنزل الوحي بالفارسية).

 كما وضعت الأحاديث في فضل العرب والعربية وذم الفارسية ومن ذلك ما وضع في فضائل بعض المدن وذم بعضها، وقد أسرف الوضاعون في هذا الباب . فلا يغتر أحد بما يوجد في بعض كتب التاريخ من ذكر فضائل الشعوب والبلدان ومثالها فإن معظم ذلك مما لا يثبت.

السبب السابع: الخلافات الكلامية والفقهية:

فقد انقسم علماء الأمة إلى أهل سنة، ومعتزلة، وجبرية، ومرجئة، واختلفوا في كثير من مسائل الكلام وفي الإيمان، وهل هو يزيد وينقص؟ وهل هو قول وعمل؟ وفي القرآن أهو مخلوق أم لا ؟. 

وقد استباح بعض هؤلاء لأنفسهم أن يؤيدوا آراءهم بأحاديث يختلقونها تنص على الخلافات الدقيقة والآراء المستحدثة التي ليس من شأن الرسول الكريم التعرض لها، ولا كانت البيئة يومئذ تدعو إليها مما يقطع معه المتأمل أنها كذب لا شك فيه، وذلك مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص)، ومثل ما روي زوراً: (كما لا ينفع مع الشرك شيء كذلك لا يضر مع الإيمان شيء). 

وكذلك كانت الخلافات الفقهية من أسباب الوضع فوضعت أحاديث تشهد لبعض الفروع ليس عليها من نور النبوة شيء، وإنما هي أقرب إلى قواعد الفقهاء وكلام العلماء. 

كما وضعت أحاديث في فضل بعض الأئمة وذم بعضهم مثل ما روي كذباً: (سيكون من أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي وسيكون من أمتي رجل يقال له ابن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس). 

ولا يشك مبتدئ في علم الحديث أن هذا موضوع مختلق فقبح االله واضعه، والإمام الشافعي من أعلام الإسلام علماً وديناً، وعملاً وفقهًا وخلقاً.

  • هذا وقد قسم الباحث البحث إلى أربعة مباحث على النحو التالي :

المبحث الأول : الصوفية (النشأة والتعريف).

وذكر فيه الباحث نشأة التصوف، وهو مذهبٌ حادثٌ طارئ، ظهر في نهاية القرن الثاني الهجري، وتطور من مذهب يبحث عن الروح وتعلقاتها الدينية إلى غوصه في الاتجاه الفلسفي وصولاً إلى عقيدة (وحدة الوجود)، وكون التصوُّف مشتقٌّ من الصُّوف في اللغة والدلالة (حيث كان الأولون منهم يتمسكون بلباس الصوف)، وينقل في ذلك آراء الشيخ القرضاوي من كتابه "فتاوي معاصرة"، ويرى الشيخ القرضاوي: تعرُّض التصوف إلى مؤثرات أجنبية جعلته يخرج عن "وسطية الإسلام".


 وقد بدا الانحراف في التصوف في عدة عناصر أساسية، منها:

1- اتخاذ الذوق معياراً رئيساً في المعرفة .

2- التفرقة بين الشريعة والحقيقة .

3-الغلو في تحقير الدنيا والانسحاب منها .

4-الجبرية والسلبية في أكثر الطرق الصوفية .

5- إلغاء شخصية المريد وعقله في تربيته كقولهم : "اعتقد ولا تنتقد" و"سلم تسلم".

6-القول بالحلول: وهي بدعة كفرية أخذها من أخذها عن كفار الهند، ومعناها عندهم أن االله حال في مخلوقاته فلا انفصال بين الخالق والمخلوق، وليس في الوجود إلا االله، وهذا ما يسمى بوحدة الوجود، وقد اشتهر بهذا القول محي الدين ابن عربي، وتبعه في ذلك عامة الصوفية، وأجمع عليها متأخرو الصوفية وإن لم يُصرحوا بذلك.  

7- الغلو في الصالحين وفي مقدمتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، حيث يعتقد الغالون من الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون، وأن الخلق ما خلق إلا لأجله ومن نوره، ويقلُّ منسوب الغلو عند بعضهم؛ فيرى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشراً رسولاً، إلا أنهم يستغيثون به طالبين المدد والعون ولا يستغاث إلا باالله جل جلاله كاشف الضر ورافعه.

8- بناؤهم العبادة على المحبة فقط، فلا يعبدون االله خوفًا من ناره ولا طمعا في جنته، وقد قال بعض السلف: "من عبد االله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد االله بالخوف وحده فهو حروري - أي من الخوارج - ومن عبد االله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد االله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد".


 المبحث الثاني : أقوال العلماء في إثبات جهل الصوفية بعلم الحديث.

إن الغالب على المتصوفة الجهل بعلم الحديث وعدم تمييزهم فيه بين الصحيح والسقيم ، ولا غرو في ذلك ولا عجب، فمن تنكب الهدي النبوي وتجاهل الطريق الحق السوي لا محالة سيضل، وسيكون لضلاله أثار كثيرة. وسيقوم الباحث في هذا البحث بتسليط الضوء على سبب رئيس من أسباب ضلال الصوفية وهو جهلهم بعلم الحديث، لذا قلما تجد ً صوفيا - لاسيما من المتأخرين- عالماً بهذا الفن المنيف والعلم الشريف. 

ولقد أشار كثير من علمائنا - رحمهم االله تعالى - إلى هذه الحقيقة والمتمثلة بجهل الصوفية بعلم الحديث:


1- قال ابن حجر العسقلاني: "ما زال عوام الصوفية يروون الواهيات" (الإصابة: 2/ 528). 


2-وقال الذهبي - رحمه االله تعالى - في ترجمة أحمد بن محمد، أبو سعد الصوفي، الملقب بطاووس الفقراء: "قد ألف أربعين حديثًا، كل حديث من طريق صوفي معتبر، وجاء في ذلك مناكير لا تنكر للقوم، فإن غالبهم لا اعتناء لهم بالرواية" (سير أعلام النبلاء: 17/ 303).


3-  وفي ترجمة أبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي، صاحب كتاب تنبيه الغافلين، وكان من المتصوفة، قال الذهبي: "تروج عليه الأحاديث الموضوعة" (سير أعلام النبلاء: 16/ 323).


4-وقال الإمام جمال الدين القاسمي الدمشقي رحمه االله تعالى: "قد أنكر العلماء على أهل التصوف كثيراً مما ذكروه في كتبهم من الأحاديث التي يعلمون أنها من الموضوعات ومن تفاسير آيات يعلمون أنها مخالفة مع أنهم قوم أحبوا الأعمال"  (قواعد التحديث، ص 175). 


5-وهذا أبو حامد الغزالي على جلالة قدره عند المتصوفة وعلو مكانه عندهم، عاش طوال حياته لا علم له بالحديث، وقد أورد في كتاب إحياء علوم الدين كل متهافت موضوع وكل باطل مصنوع، مما جعل الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي يقول: "شحن أبو حامد (الإحياء) بالكذب على رسول االله صلى الله عليه وسلم؛ فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق" (سير أعلام النبلاء: 19/ 334).


6- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "في (قوت القلوب) أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء كثيرة مردودة. وأما ما في (الإحياء) من الكلام في "المهلكات" مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد ونحو ذلك فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في (الرعاية)، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود ومنه ما هو متنازع فيه. 

و (الإحياء) فيه فوائد كثيرة؛ لكن فيه مواد مذمومة فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد؛ فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. 

وقد أنكر أئمة الدين على "أبي حامد" هذا في كتبه. وقالوا: مرضه "الشفاء" يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة. وفيه أحاديث وآثار ضعيفة؛ بل موضوعة كثيرة. وفيه أشياء من أغاليط الصوفية و ترهاتهم. وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه" (مجموع الفتاوى: 10/ 551- 552).


7- وقال الإمام الذهبي ـ رحمه االله تعالىـ: "أما (الإحياء) ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية" (سير أعلام النبلاء: 19/ 339).


8- وقال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه االله تعالى -عن أبي حامد الغزالي: "ذكر في كتاب الإحياء من الأحاديث الموضوعة وما لا يصح غير قليل، وسبب ذلك قلة معرفته بالنقل، فليته عرض تلك الأحاديث على من يعرف، وإنما نقل نقل حاطب ليل" (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 9/ 169).


9- وقد جمع الإمام السبكي في طبقاته الأحاديث الواقعة في كتاب الإحياء التي لم يجد لها إسناداً، وعدتها (٩٤٣) حديثًا ً تقريباً (طبقات الشافعية الكبرى، 6/ 287 -388). فإن كان هذا شيخ المتصوفة ٕوامامهم لا علم له بالحديث فكيف بالبقية الباقية من المشايخ والمريدين؟! 

وقد أشار بعض أهل العلم إلى أن مصاحبة الصوفية تنسي طالب العلم الحديث الذي حفظه.

1- ذكر العُقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 35)، عن يحيى بن معين، قال: داود بن المحبر ليس بكذاب، ولكنه كان رجلاً قد سمع الحديث بالبصرة، ثم صار إلى عبدان فصار مع الصوفية، فعمل الخوص والأسل، فنسي الحديث وجفاه، ثم قدم بغداد، فجاء أصحاب الحديث؛ فجعل يخطئ في الحديث؛ لأنه لم يجالس أصحاب الحديث، ولكنه كان في نفسه ليس يكذب.

2-وذكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" (7/ 227) عن جعفر الخلدي، قال: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا، مضيت إلى عباس الدوري وأنا حدث فكتبت عنه مجلساً واحداً، وخرجت من عنده فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فقال: أيش هذا معك؟ فأريته إياه، فقال: ويحك تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق، قال: ثم خرق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي؛ فلم أعد إلى عباس.

وقال الذهبي رحمه االله تعالى -معلقًا على هذه القصة: ماذا إلا صوفي جاهل يمزق الأحاديث النبوية، ويحض على أمر مجهول، فما أحوجه إلى العلم. (سير أعلام النبلاء: 15/ 559).

المبحث الثالث : وضع الحديث عند الصوفية

من المذاهب المعروفة عن بعض المتصوفة أنهم يرون جواز الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع الأحاديث عليه ونسبتها إليه، وقد نص العلماء والأئمة على ذلك وحكوه مذهباً لبعض المتصوفة، ونصوا على ذلك في سياق كلامهم على أصناف الوضاعين في كتب مصطلح الحديث النبوي، ومن ذلك:

1- ما قال الحافظ ابن حجر -رحمه االله تعالى: "بعض الكرامية وبعض المتصوفة نُقل عنهم إباحةُ الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأٌ من فاعله، نشأَ عن جهل، لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية" (نزهة النظر؛ لابن حجر، ص 111). 

2- وقال الشيخ العلامة الجليل والفهامة النبيل محمد الأثيوبي الولوي: "الصنف الرابع: قوم ينسبون إلى الزهد، حملهم التدين الناشئ عن الجهل على وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس بزعمهم على الخير ويزجروهم عن الشر، وجوز ذلك الكرامية، وكذا بعض المتصوفة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله" (الجليس الأمين شرح تذكرة الطالبين في بيان الوضع وأصناف الوضاعين، ص 226).

3-وقال الإمام زين الدين العراقي في "ألفيته في الحديث" (1/ 114):

وَالوَاضِعُوْنَ لِلحَدِيْثِ أضْرُبُ ... أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ نُسِبُوا

 قَدْ وَضَعُوْهَا حِسْبَةً، فَقُبِلَتْ ... مِنْهُمْ، رُكُوْنَاً لَهُمُ ونُقِلَتْ

 فَقَيَّضَ اللهُ لَهَا نُقَّادَهَا ... فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا

وَجَوَّزَ الوَضْعَ عَلَى التَّرْغِيْبِ ... قَوْمُ ابنِ كَرَّامٍ، وَفي التَّرْهِيْبِ

4-وقال الإمام القرطبي -رحمه االله تعالى -في سياق كلامه عن أصناف الوضاعين وهو يقصد الصوفية: "حذار مما وضعه أعداء الدين وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك، وأعظمهم ضرراً أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم، وركوناً إليهم، فضلوا وأضلوا" (الجامع لأحكام القرآن: 1/ 80).  

5-وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه االله تعالى: "شر أصناف الوضاعين وأعظمهم ضرراً قوم ينسبون أنفسهم إلى الزهد والتصوف، لم يتحرجوا عن وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، احتساباً للأجر عند االله، ورغبة في حض الناس على عمل الخير واجتناب المعاصي فيما زعموا، وهم بهذا يفسدون ولا يصلحون، وقد اغتر بهم كثير من العامة وأشباههم، فصدقوهم ووثقوا بهم لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح، وليسوا موضعاً للصدق، ولا أهلاً للثقة، وبعضهم دخلت عليه الأكاذيب جهلاً بالسنة، لحسن ظنهم وسلامة صدرهم، فيحملون ما سمعوه على الصدق، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب، وهؤلاء أخف حالاً وأقل إثماً من أولئك" (الباعث الحثيث: 89 -90)

أمثلة على بعض وضَّاعي الحديث من الصُّوفية المتقدمين:

1- أحمد بن عطاء الهُجيمي:

وكان أحد شيوخ الصوفية يدعى أحمد بن عطاء الهجيمي يكذب على رسول االله صلى الله عليه وسلم هو يحدث تلاميذه بحجة أنه يقربهم إلى الله تعالى ويرغبهم في العمل الصالح، ويرى جواز ذلـك ما دامــــت ليست مخالفة للسنة الثابتة مع أنه من أجهل الناس بالسنة ولا عجب في ذلك. قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: "شيخ الصوفية، العابد القانت، أحمد بن عطاء الهجيمي، البصري القدري المبتدع، فما أقبح بالزهاد ركوب البدع" (سير أعلام النبلاء، 9/ 408).

قال ابن المديني: "أتيته يوماً فجلست إليه فرأيت معه درجاً يحدث به؛ فلما تفرقوا عنه، قلت له: هذا سمعته، قال: لا، ولكن اشتريته، وفيه أحاديث حسان أحدث بها هؤلاء، ليعلموا بها، وأرغبهم أقربهم إلى االله، ليس فيه حكم ولا تبديل سنة، قلت له: أما تخاف االله تقرب العباد إلى االله بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" (لسان الميزان؛ لابن حجر، 1/ 221).

قال الذهبي -رحمه االله تعالى -معلقًا على هذه القصة: "ما كان الرجل يدري ما الحديث، ولكنه عبد صالح، وقع في القدر، نعوذ بالله من ترهات الصوفية، فلا خير إلا في الاتباع، ولا يمكن الاتباع إلا بمعرفة السنن" (سير أعلام النبلاء، 9/ 408).

2-أحمد بن محمد بن محمد أبو الفتوح الغزالي الطوسي:

.وفي ترجمة أحمد بن محمد بن محمد أبو الفتوح الغزالي الطوسي أخو أبى حامد. قال عنه ابن الجوزي -رحمه االله تعالى: "كان متصوفاً متزهداً في أول أمره ثم وعظ فكان متفوهاً وقبله العوام". وقال عنه أيضا: "الغالب على كلامه التخليط ورواية الأحاديث الموضوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة وقد علق عنه كثير من ذلك" (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، 9/ 260 -261).

3- : علي بن عبد االله بن جهضم:

قال الذهبي في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (3/ 142): "علي بن عبد االله بن جهضم الزاهد أبو الحسن شيخ الصوفية بحرم مكة ومصنف كتاب بهجة الأسرار متهم بوضع الحديث، وروى عن أبي الحسن علي بن إبراهيم، وأحمد بن عثمان الآدمي والخلدي وطبقتهم قال ابن خيرون : تُكلم فيه، وقيل إنه يكذب. وقال غيره: اتهموه بوضع صلاة الرغائب".


المبحث الرابع : شواهد وأمثلة على جهل الصوفية بعلم الحديث.  

الشاهد الأول: حديث: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرام على أهل الله".

 قال الألباني  "موضوع" (سلسلة الأحاديث الضعيفة، 1/ 103 -105)، وقال - رحمه االله تعالى: "والذي أراه أن واضع هذا الحديث هو رجل صوفى جاهل أراد أن يبث في المسلمين بعض عقائد المتصوفة الباطلة التي منها تحريم ما أحل االله بدعوى تهذيب النفس، كأن ما جاء به الشارع الحكيم غير كاف في ذلك حتى جاء هؤلاء يستدركون على خالقهم".

الشاهد الثاني: حديث "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم".

قال الشيخ الألباني: "موضوع". رواه ابن عبد البر في جامع العلم (2/ 166)، من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا به قال: "وفيه الحارث بن غصين مجهول". 

ورواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 82)، وقال: "هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك". 

وقال الألباني في "الضعيفة" (1/ 145): "وأما قول الشعراني في (الميزان) (1/ 28): "وهذا الحديث ٕوان كان فيه مقال عند المحدثين، فهو صحيح عند أهل الكشف، فباطل وهراء لا يلتفت إليه! ذلك لأن تصحيح الأحاديث من طريق الكشف بدعة صوفية مقيتة، والاعتماد عليها يؤدي إلى تصحيح أحاديث باطلة لا أصل لها، كهذا الحديث؛ لأن الكشف أحسن أحواله - إن صح - أن يكون كالرأي، وهو يخطئ ويصيب، وهذا إن لم يداخله الهوى، نسأل االله السلامة منه، ومن كل ما لا يرضيه".

الشاهد الثالث: عن عبد الله بن عمرو قال: أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما: يقرءون القرآن ويدعون الله، والأخرى: يتعلمون ويعلمون؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلٌّ على خير، هؤلاء يقرأون القرآن، ويدعون الله؛ فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون، وإنما بُعثتُ معلماً؛ فجلس معهم.

ضعفه الألباني في "السلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (1/ 66 -67). وقال رحمه االله: "وقد اشتهر الاحتجاج بهذا الحديث على مشروعية الذكر على الصورة التي يفعلها بعض أهل الطرق من التحلق والصياح في الذكر والتمايل يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً مما هو غير مشروع باتفاق المتقدمين، ومع أن الحديث لا يصح كما علمت، فليس فيه هذا الذي زعموه، بل غاية ما فيه جواز الاجتماع على ذكر االله تعالى، وهذا فيه أحاديث صحيحة في مسلم وغيره تغني عن هذا الحديث، وهي لا تفيد أيضا إلا مطلق الاجتماع، أما ما يضاف إليه من التحلق وما قرن معه من الرقص فكله بدع وضلالات يتنزه الشرع عنها". 

الشاهد الرابع: حديث: "أذيبوا طعامكم بذكر االله والصلاة، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم".

قال الألباني في "السلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (6/ 297): "موضوع": 

أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 19 -20) والعقيلي في "الضعفاء" (ص 57)،  وابن عدي في "الكامل" (2/ 40)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 96)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة (ص 156، رقم" 482)، والبيهقي في " الشعب " (1/ 211/ 2): من طريق بزيع أبي الخليل: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً.

وقال رحمه الله: "واعلم أن أسعد الناس بهذا الحديث المكذوب هم أولئك الأكلة الرقصة الذين يملؤون بطونهم بمختلف الطعام والشراب، ثم يقومون آخذا بعضهم بيد بعض يذكرون االله تعالى، زعموا - يميلون يمنة ويسرة ً وأماما وخلفًا، وينشدون الأشعار الجميلة بالأصوات المطربة حتى يذوب ما في بطونهم؟ ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".

الشاهد الخامس: حديث: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه". 

قال الألباني في "السلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (6/ 297): "موضوع": 

رواه أبو عبد الرحمن السلمي في (الأربعين في أخلاق الصوفية، 2/ 4)، وعنه الديلمي (1/ 1/ 116): أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن أحمد الرازي حدثنا علي بن سعيد العسكري حدثنا عباد بن الوليد حدثنا أبو شيبان كثير بن شيبان حدثنا الربيع بن بدر عن راشد بن محمد قال قال ابن عمر ... فذكره مرفوعاً. قلت: وهذا إسناد ضعيف جداً، بل موضوعٌ؛ لأن السلمي نفسه متهم بوضع الأحاديث للصوفية، والربيع بن بدر متروك والراوي عنه لم أعرفه  

الشاهد السادس: حديث: "من زهد في الدنيا؛ علمه االله تعالى بلا تعلم، وهداه االله بلا هداية، وجعله بصيراً وكشف عنه العمى".

قال الألباني في "السلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (10/ 114): "موضوع": 

أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 72)، عن علي بن حفص العبسي: حدثنا نصير بن حمزة عن أبيه عن جعفر بن محمد عن محمد بن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن علي بن أبي طالب مرفوعاً

قلت: وهذا إسناد مظلم ؛ من دون أهل البيت رضي االله عنهم لم أعرف أحداً منهم. وقال المناوي: ورواه أيضاً الديلمي، وفيه ضعيف! قلت : ولم أعرف الضعيف الذي أشار إليه ! فلعل في سند " الحلية" تحريفاً .

والحديث عندي موضوع؛ لوائح الوضع عليه بادية، وظني أنه من وضع بعض الصوفية؛ الذين يظنون أن لطلب العلم طريقاً غير طريق التلقي والطلب له من أهله الذين تلقوه خلفاً عن سلف، وهو طريق الخلوة والتقوى فقط بزعمهم ! وربما استدل بعض جهالهم بمثل قوله تعالى : {واتقوا االله ويعلمكم الله} ! ولم يدر المسكين أن الآية لا تعني ترك الأخذ بأسباب التعلم.

قال الإمام القرطبي في تفسيره (3/ 406): "وعد من االله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي: يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل االله في قلبه ابتداء فرقاناً، أي : فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا االله يجعل لكم فرقاناً}".

الشاهد السابع: حديث نوم على علم؛ خير من صلاة على جهل. 

قال الألباني في "السلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" (10/ 231): "ضعيف":

أخرجه أبو نعيم في "الحلية (4/ 385)، وعنه الديلمي (4/ 93) عن عبدالرحمن بن الحسن قال: أخبرنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: أخبرنا محمد بن يحيى الضرير، (وفي الديلمي: ابن الضريس)، قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن إسماعيل عن الأعمش عن أبي البختري عن سلمان مرفوعاً . قلتُ : وهذا إسناد مظلم ؛ من دون الأعمش لم أعرفهم .

وأحمد بن يحيى الصوفي؛ الظاهر أنه أبو عبداالله المعروف بابن الجلاء، ترجمه الخطيب في "التاريخ" (5/ 213) بما يدل على أنه من كبار مشايخ الصوفية، وأصحاب الشطحات منهم . واسماعيل؛ يحتمل أنه ابن أبان الغنوي الخياط الكوفي؛ فإنه يروي عن الأعمش، فإن يكن هو؛ فهو متروك كذاب . وهناك راو آخر يدعى إسماعيل الكندي، روى عن الأعمش، قال في "اللسان": "منكر الحديث. قاله الأزدي". فيحتمل أن يكون هو هذا، كما يحتمل أن يكون هو الخياط نفسه. وأما المناوي؛ فأعله بقوله: "وفيه أبو البختري، قال الذهبي في "الضعفاء": قال دحيم: كذاب. 

قلت : وهذا وهم فاحش؛ فإن أبا البختري الكذاب - واسمه وهب بن وهب - متأخر عن هذا، يروي عن هشام بن عروة وطبقته. وأما هذا؛ فتابعي روى عن سلمان وغيره، واسمه سعيد بن فيروز، وقد أورده الذهبي في كنى "الميزان" - عقب الأول، وقال : "صدوق. قال شعبة: لم يدرك علياً".

قلت: اسمه سعيد بن فيروز، وقد أشار أبو أحمد الحاكم في "الكنى" إلى تليين رواياته ، وما ذاك إلا لكونه يرسل عن علي والكبار .. فما كان من حديثه سماعاً فهو حسن، وما كان "عن" فهو ضعيف.  

 الشاهد الثامن: حديث "من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمسة عشر عقوبة : ستة منها في الدنيا، وثلاثة عند الموت، وثلاثة في القبر، وثلاثة عند خروجه من القبر .."

قال ابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (2/ 114): "من حديث أبي هريرة، قال في الميزان: حديث باطل، ركَّبه محمد بن علي بن العباس على أبي بكر بن زياد النيسابوري، وقال في اللسان: هو ظاهر البطلان من أحاديث الطُّرقية".

وقال أبو إسحاق الحويني في "الفتاوي الحديثية" (1/ 317): "يعني: من أحاديث الصوفية أصحاب الطرق الصوفية".  

الشاهد التاسع: حديث: "إذا ألف القلب الإعراض عن االله تعالى ابتلاه االله بالوقيعة في الصالحين". 

قال ابن عراق الكناني في (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، 2/ 114): "من حديث علي من طريق الأشج أبي الدنيا قال المؤتمن الساجي هذا باطل وقد كتبناه من طريق عن بعض مشايخ الصوفية، وأما عن رسول االله فلا أصل له".

  • الآثار المترتبة على وضع الصوفية للحديث.

1-إشاعة ثقافة التواكل والقعود عن العمل. 

وقد ذكروا في ذلك جملة من الأحاديث الموضوع مثل: (من زهد في الدنيا؛ علمه االله تعالى بلا تعلم، وهداه االله بلا هداية، وجعله بصيراً وكشف عنه العمى).

2-الترويج لبعض العقائد الفاسدة:

مثل قولهم: (إن محمداً عليه الصلاة والسلام خلق من نور). و (أن الخضر عليه السلام ما زال على قيد الحياة). و (أن محمداً هو أول المخلوقات).

3- إشغال الناس بالأوراد والأذكار المبتدعة:

من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري: أنهم وضعوا أدعية، وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، ونشروها بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، حتى اشتغل الناس بها عن القرآن والأدعية المأثورة.

4-إشاعة ثقافة الاستخذاء والقعود عن الجهاد:

وذلك من خلال ما ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، والمقصود بالجهاد الأكبر عندهم: جهاد النفس.

5- نشر بعض البدع، والشركيات:

 مثل الرقص في الذكر والاستغاثة بالمقبورين والغائبين، ممن يوصفون بأنهم من أولياء الله.


النتائج والتوصيات:

أولاً : النتائج :

1-أن الغالب على المتصوفة الجهل بعلم الحديث وعدم تمييزهم فيه بين الصحيح والسقيم، فالصوفيون بضاعتهم في علم الحديث ضعيفة و مزجاة، ولذلك فشت فيهم الأحاديث الموضوعة والمكذوبة وكل باطل لا أصل له.  

2-من المذاهب المعروفة عن المتصوفة أنهم يرون جواز الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الأحاديث عليه ونسبتها إليه، بحجة أنهم يكذبون له. وقد نص العلماء والأئمة على ذلك وحكوه مذهباً لبعض المتصوفة ونصوا على ذلك في سياق كلامهم على أصناف الوضاعين في كتب مصطلح الحديث النبوي.

3-تحفل كتب التصوف والزهد والرقائق، بالمئات من الأحاديث الواهية، والتي قام جهابذة علماء الحديث في الماضي والحاضر بكشفها  

ثانياً : التوصيات :

1- دعوة طلاب العلم لدراسة كتب الزهد والرقائق والكشف عن الضعيف والموضوع فيها .

2- إصدار نشرة دورية تعنى بكشف الأحاديث الواهية وتعريف الجمهور بها ولاسيما من يتصدى للوعظ والخطابة .

3- عقد الدورات العلمية في علم مصطلح الحديث .

4- التعاون مع وزارة الأوقاف لتدريب الخطباء على استخدام البرامج الحديثية المحوسبة .

5-العناية بنشر الأحاديث الصحيحة من خلال تشجيع الكتب التي تعنى بذلك والعمل على توزيعها على طلاب العلم .

6- عقد المسابقات في حفظ الأحاديث الصحيحة .

7- تدشين مركز خاص بالسنة النبوية على غرار مركز القرآن الكريم .

8- إصدار مجلة فصلية خاصة بالسنة النبوية . 










الخميس، 29 أكتوبر 2020

رسالة الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم -نظم العلامة الشيخ محمد سعيد صفر المدني


رسالة الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم

نظم العلامة الشيخ محمد سعيد صفر المدني

رحمه الله تعالى

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالة فريدةٌ في بابها، عجيبةٌ في نظمها، تضمنت تفضيل شرف العلم والاقتداء على شرف النسب والتقليد، وقد رد بها العلامة محمد سعيد صفر على رسالة للسيد عبد الله المحجوب الميرغني، التي فضَّل فيها شرف النسب على شرف العلم، وقد قرظ له علماء عصره؛ كالعلامة عفيف الدين عبد الله الفطان المكي، والشيخ محمد حياة السندي المدني، والمحدث أبي الحسن السندي، وغيرهم، وسماها بـ(الهدى في اتباع المُقتدى صلى الله عليه وسلم).

ولا شك أن البلد الذي تكثر فيه مقلدة المذاهب لا بُد أن يؤول أمره إلى البدعة والدمار، والتفرُّق والتشتت، فالواجب على الفقهاء أن يجعلوا الصولة والقول الأخير للرسول صلى الله عليه وسلم.

  • التعريف بالمؤلف رحمه الله:

وهو العلامة الفقيه المحدث: محمد سعيد صفر بن أمين الحنفي المدني، ثم المكي، والأثري، نزيل مكة والمدرس بحرمها، ولد بمكة سنة (1114 هـ)، تفقه على جماعة من فضلاء مكة، وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة، والشيخ تاج الدين القلعي، وطبقتهما، وبالمدينة على أبي الحسن السندي الكبير، وغيره. 

وله ثبتٌ منظوم في أشياخه على حرف النون، وعدة من ذكر فيه منهم خمسة وعشرون، وله أيضاً قصيدةٌ في الشكوى على لسان أهل المدينة، تُشبه قصيدة السيد جعفر البرزنجي، وله قصيدة في الحض على السنة والعمل بها رداً على متعصبة المقلدة، سماها "رسالة الهدى".

وكان حسن التقرير لما يُمليه في دروسه، حضره السيد عبد الرحمن عيدروس في بعض دروسه وأثنى عليه، وفي آخر عمره كف بصره حزناً على فقد ولده، وفي أثناء سنة (1174 هـ) ورد مصر، ثم توجه إلى الروم عن طريق حلب، فقرأ هناك شيئاً من الحديث، وحضره علماؤها، ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى، وذكره في جملة شيخه، وأثنى عليه، ورجع إلى الحرمين، وقطن بالمدينة المنورة، وتوفي سنة (1194 هـ) ليلة الجمعة من رمضان.

  • دعوة الأئمة الفقهاء إلى العودة إلى الكتاب والسنة وترك التقليد:

ومن الجدير بالذكر أن الأئمة الأربعة المجتهدين أنفسهم قد دعوا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد سعيد صفر في "منظومته"، وما يدعو إليه كل مسلمٍ حُر من تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل الخلاف، وترك آرائهم واجتهاداتهم إذا ظهر أنها تُخالف الكتاب والسنة، لأن الله سبحانه لم يفرض على الناس إلا اتباع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة نسوق جملةً من أقوال الأئمة التي تدعو إلى الاتباع:

1-الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150 هـ):

وهو أول الأئمة الفقهاء، وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: "لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا ما لم يعلم من أَيْن أخذناه"، وفي رواية: "حرامٌ على من يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي"، وزاد في رواية: "فإننا بشرٌ نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً"، وقال رحمه الله: "إذا قُلتُ قولاً يُخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي".

وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار": "ونظير هذا ما نقله العلامة بيري في أول شرحه على "الأشباه" عن شرح الهداية لابن الشحنة، ونصُّه: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عُمِلَ بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة".

وقال الشعراني في "الميزان" ما مختصره : "واعتقادنا واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ أنه لو عاش حتى دُوِّنَت الشريعة، وبعد رحيل الحفاظ في جَمْعِها من البلاد والثغور، وظفر بها؛ لأخذ بها، وترك كل قياس كان قاسه، وكان القياس قلَّ في مذهبه، كما قل في مذهب غيره بالنسبة إليه، لكن لما كانت أدلة الشريعة مفرقة في عصره مع التابعين وتابعي التابعين في المدائن والقرى والثغور؛ كثر القياس في مذهبه بالنسبة إلى غيره من الأئمة ضرورةً؛ لعدم وجود النص في تلك المسائل التي قاس فيها؛ بخلاف غيره من الأئمة؛ فإن الحفاظ كانوا قد رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها في عصرهم من المدائن والقرى، ودوّنوها؛ فجاوبت أحاديث الشريعة بعضها بعضاً، فهذا كان سبب كثرة القياس في مذهبه  وقلته في مذاهب غيره".

ونقل الفلاني في "إيقاظ الهمم": عن الشعراني في "الميزان"، أنه قال: "فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها فالجواب ينبغي لك أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فاته خيرٌ كثير كما عليه كثيرٌ من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذاً لوصية الأئمة؛ فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو ظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بما فيها، وتركوا كل قياسٍ كانوا قاسوه، وكل قولٍ كانوا قالوه".

2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ)

وأما الإمام مالك بن أنس، فقد قال رحمه الله: "إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي كل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ ومالم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه". وقال رحمه الله: "لَيْسَ أحد من خلق الله إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم".

وقد جاء في "مقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، عن ابن وهبٍ، قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؛ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس. 

فقلت له: عندنا في ذلك سنة؛ فقال: وما هي؟

قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه). فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.

 3- الإمام محمد بن إدريس الشَّافعيّ (ت 204 هـ)

وأما الإمام الشافعي رحمه الله، فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب، قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله: "لم أسمع أحدا نسبته إِلَى الْعلم، اَوْ نسبته الْعَامَّة إِلَى علم أَو نسب نَفسه إِلَى علم يحْكى خلافًا فِي أَن فرض الله تَعَالَى اتِّبَاع أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالتَّسْلِيم لحكمه؛ فَإِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل لأحد بعده إِلَّا اتِّبَاعه، وَأَنه لَا يلْزم قَول رجل قَالَ إِلَّا بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن مَا سواهُمَا تبع لَهما، وَأَن فرض الله تَعَالَى علينا وعَلى من بَعدنَا وَقَبلنَا قبُول الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم". 

وَقد قَالَ الشَّافِعِي: "مَا من أحد الا وَيذْهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعزب عَنهُ. وَقَالَ رحمه الله: أجمع النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد".

وقَالَ أيضاً: "لَا قَول لأحد مَعَ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم"، وقد اشْتهر عَن الشَافِعِيّ قوله: "إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي".

وقال رحمه الله: "كل مَسْأَلَة صَحَّ فِيهَا الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا قلت فَأَنا رَاجع عَنْهَا فِي حَياتِي وَبعد موتِي" (انظر: إيقاظ الهمم).

وقال ابن حزم في "الإحكام": "إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي؛ فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والأخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرَّأ من أن يُقَلَّدَ جملة، وأعلن بذلك، نفع الله به، وأعظم أجره؛ فلقد كان سبباً إلى خير كثير".

وقال الفلاني في "إيقاظ الهمم" عن الشعراني في "الميزان" في شرح قول الإمام الشافعي (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، قال: "قال ابن حزم: صح عنده، أو عند غيره من الأئمة".

وقال الإمام النووي رحمه الله في "مقدمة المجموع" ما مختصره: وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب، وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث من أصحابنا:

أبو يعقوب البُويطي، وأبو القاسم الدَّارَكي، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين: الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه؛ عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث".

وقال الشيخ أبو عمرو: "فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر: إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقاً، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به. وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جواباً شافياً، فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذراً له في ترك مذهب إمامه هنا، وهذا الذي قاله حسن متعين والله أعلم".

قال الألباني في "صفة الصلاة": "وهناك صورة أخرى لم يذكرها ابن الصلاح، وهي فيما إذا لم يجد من عمل بالحديث من الأئمة؛ فماذا يصنع؟ أجاب عن هذا تقي الدين السُّبكي في رسالة (معنى قول المطلبي إذا صحَّ الحديث): "والأولى عندي اتباع الحديث وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به؟ لا والله وكل أحد مكلف بحسب فهمه".

وقال الشَّافعيُّ للإمام أحمد: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني؛ فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً".

وعلق على ذلك الإمام الفُلاني الذي يقول في "إيقاظ الهمم": "قال البيهقي: ولهذا كثر أخذه -يعني الشافعي -بالحديث وهو أنه جمع علم أهل الحجاز والشام واليمن والعراق وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه، ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده، مهما بان له الحق في غيره وممن كان قبله من اقتصر على ما عهد من مذاهب أهل بلده، ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه والله يغفر لنا ولهم".

4-الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ):

وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكاً بها، حتى قال أحمد رحمه الله: "لَا تقلدني وَلَا تقلد مَالِكًا وَلَا الشَّافِعِي وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَلَا الثَّوْريّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال". 

وقال رحمه الله: "من ردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة".

وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار"

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "مجموع رسائله": "الواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه: أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فَإِذَا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غيره؛ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع".

ومما سبق نرى كمال علم الأئمة، وتقلهام، حيثُ أشاروا إلى أنهم لم يُحيطوا بالسنة كلها، وقد صرَّحوا بذلك، ونحن مأمورون بالتمسُّك بالسُّنن، وأن نجعلها من مذهبهم رضوان الله تعالى عليهم.

وفيما يلي نثبت الأبيات الشهيرة التي تتحدث عن ذمِّ التقليد المتعصب الذي لا ينبني على دليل، قال الشيخ محمد سعيد صفر المدني:

  • منظومة (رسالة الهدى):

1-الحمد لله العظيم الشان … من أنزل القرآن والمثاني

2-وحقق التوحيد والأحكاما … وبين الحلال والحراما

3- أَرسلَ بالهدى ودين الحقِّ … رسولَه ورحمةً للخلقِ

4-على الأنام أوجب اتباعه … فقد أطاع الله من أطاعه

5-ومن عصاه فهو عاصِ الله … مخالفٌ له بلا اشتباه

6- صلى عليه الله بالسلام… مؤيداً بالعز والإكرام

7-والآل والأصحاب والأتباع … لهم بإحسانٍ وكلُّ داعٍ

* * * 

8- وبعد إن هذه الرسالة … فيها اتباعُ صاحب الرسالة

9- فقد أُمرنا باتباع هديه … في أمره وننتهي عن نهيه

10- قال: (وما آتاكم الرسولُ) … قد ضلَّ من عن هديه يميلُ

* * * 

الشاهد من هذا الكتاب

85- وقول أعلام الهدى: "لا يُعمل … بقولنا بدون نص يقبلُ"

86- فيه دليل الأخذ بالحديث … وذاك في القديم والحديث

87- قـــــــــــال أبـــــو حنيفة الإمامُ:  … "لا ينبغي لمن له إســــلام

88- أخذاً بأقوالي حتى تعرضا … على الكتاب والحديث المرتضى"

89- ومالك إمام دار الهجرة … قال وقد أشار نحو الحجرة: 

90- "كل كلام منه ذو قبول… وكلُّ مردود سوى الرسول"

91- والشافعي قال: "إن رأيتموا … قولي مخالفاً لما رويتموا 

92- من الحديث فاضربوا الجدارا …  بقولي المخالف الأخبارا"

93- وأحمد قال لهم: "لا تكتبوا … ما قلته بل أصل ذلك أطلبوا"

94- فاسمع ما قالت الهداة الأربعة … واعمل بها فان فيها منفعة

95- لقمعها لكل ذي تعصب … والمنصفون يكتفون بالنبي

* * *



ومعها مقال في حكم قتال الكفار من كتاب 

هداية الحيارى من اليهود والنصارى 

للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فيقول محمد بن حسين نصيف: "لما طبعت مجموعة الرسائل للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتضمنة خمسة رسائل، الأولى: رأس الحسين رضي الله عنه، وأين هو؟ والرابعة: قاعدة في حكم قتال الكفار، استبعد بعض الناس نسبتها لشيخ الإسلام، فاقتضى الحال لنشر ما هو أصرح منها من كتاب هداية الحيارى للإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تلميذ الإمام ابن تيمية، وهي من آخر صحيفة (10) إلى أول صحيفة (11)، قال رحمه الله:

"فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَجَابَ لَهُ وَلِخُلَفَائِهِ بَعْدَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا قَطُّ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَاتِلُ مَنْ يُحَارِبُهُ وَيُقَاتِلُهُ. 

وَأَمَّا مَنْ سَالَمَهُ وَهَادَنَهُ: فَلَمْ يُقَاتِلْهُ، وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256)، وَهَذَا نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدِّينِ.

وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ، قَدْ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ: أَسْلَمَ الْآبَاءُ وَأَرَادُوا إِكْرَاهَ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتَارُونَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَالصَّحِيحُ: أن الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا فِي حَقِّ كُلِّ كَافِرٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُكْرَهُونَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، بَلْ: إِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الدِّينِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، كَمَا تَقُولُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَإِنِ اسْتَثْنَى هَؤُلَاءِ بَعْضَ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ. 

وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى دِينِهِ قَطُّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَاتَلَ مَنْ قَاتَلَهُ، وَأَمَّا مَنْ هَادَنَهُ فَلَمْ يُقَاتِلْهُ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى هُدْنَتِهِ، لَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ، بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7).

ولَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَالَحَ الْيَهُودَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا حَارَبُوهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَبَدَءُوهُ بِالْقِتَالِ قَاتَلَهُمْ، فَمَنَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَأَجْلَى بَعْضَهُمْ، وَقَاتَلَ بَعْضَهُمْ. 

وَكَذَلِكَ لَمَّا هَادَنَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَبْدَأْهُمْ بِقِتَالٍ حَتَّى بَدَءُوا هُمْ بِقِتَالِهِ وَنَقْضِ عَهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ غَزَاهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، وَكَانُوا هُمْ يَغْزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَصَدُوهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَيَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا هُمْ جَاءُوا لِقِتَالِهِ وَلَوِ انْصَرَفُوا عَنْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ. 

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ دَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْيَمَنِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَكْثَرُهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -وَذَكَرَ الْحَدِيثَ). 

ثُمَّ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مَذْكُورُونَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، لَمْ يُسْلِمُوا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَلَا رَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، بَلْ أَسْلَمُوا فِي حَالِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ، بَلْ تَحَمَّلُوا مُعَادَاةَ أَقْرِبَائِهِمْ وَحِرْمَانَهُمْ نَفْعَهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ مَعَ ضَعْفِ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ. 

فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُعَادِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، لَا لِرِئَاسَةٍ وَلَا مَالٍ، بَلْ يَنْخَلِعُ مِنَ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ، وَيَتَحَمَّلُ أَذَى الْكُفَّارِ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَصُنُوفِ أَذَاهُمْ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.









الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

قضاء صلاة العيد لمن فاتته مع الجماعة -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

قضاء صلاة العيد لمن فاتته مع الجماعة

دراسة فقهية حديثية

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

غزة -فلسطين

اتفق الفقهاء على استحباب صلاة العيد جماعةً في المُصلى، وأن وقتها: ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى أول الزوال، واختلف الفقهاء في جواز قضاء صلاة العيد بعد فوات وقتها، ولذلك صورتين:

الصورة الأولى: أن يصليها الناس في وقتها، وتفوت بعض الأفراد:

أ- فعند الحنفية في قول أنه لا يقضيها مطلقاً.

ب- وعند جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية في رواية: أنه يقضيها استحباباً، على هيئتها المعروفة، وبنفس العدد من التكبيرات (وهو الصحيح).

وقالت الشافعية والحنابلة: له أن يُصليها في جماعة أيضاً، بينما يمنع من ذلك المالكية، وبه قال قتادة، ومعمر، وأبي ثور، والأوزاعي.

وفي روايةٍ عند الحنابلة أنه يقضيها أربعاً، وهو قول الثوري، وفي روايةٍ ثالثة عند الحنابلة أنه مُخيَّرٌ بين الثنتين والأربع، وهو قول الأوزاعي.

  • واستدلَّ القائلون بأنه يقضيها أربع ركعات:

1- بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، والطبرانيُّ في "الكبير"، عن عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: (من فاته العيد فليصل أربعاً). 

وهذا الأثر ضعيفٌ عن ابن مسعود، وقال الألبانيُّ في "الإرواء": منقطع، وضعفه الإمام ابن المنذر في "الأوسط"، وقال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد ركعتين، فكل من صلى صلاة العيد صلاها كما سنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز الزيادة في عدد الصلاة لمن فاته العيد بغير حجة، ولا أحسب خبر ابن مسعود يثبت"، ولذلك فالأظهر هو ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية، وأنه يقضي صلاة العيد على نحو ما فاتته تلك الصلاة بدون زيادة فيها.

ولكن هذا الأثر صحَّح إسناده القسطلاني في "إرشاد الساري"، وابن حجر في "الفتح"، وقال الحافظ عن أثر ابن مسعود: "أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح"، وهذا الأثر لم نجده عند سعيد بن منصور في المطبوع الذي بين أيدينا، ولكن إن صحَّ ما قاله ابن حجر رحمه الله، وكان هذا الأثر له طريقٌ صحيح، لم يطلع عليه ابن المنذر ولا غيره من المتقدمين، فحينئذٍ يكون استدلال الحنابلة بهذا الحديث ظاهرٌ، ولكنه مع ذلك لا يسلم من المناقشة.

2-واستدلوا بما رواه البيهقيُّ في الكبرى" وابن حزم في "المحلى" عن على رضي الله عنه، أنه قال: (إني أمرت رجلاً أن يصلي بضعفة الناس، أمرته أن يصلي أربعاً). 

وهذه الرواية صحح إسنادها ابن حزم، وقال في "المحلى": إن ضعفوا هذه الرواية، قيل لهم : هي أقوى من التي تعلقتم بها عنه أو مثلها. وفيها عاصم بن على بن عاصم، قال ابن حجر: "صدوقٌ ربما يهم"، وقال الذهبيُّ: "ثقة مكثر، لكن ضعفه ابن معين، و أورد له ابن عدى أحاديث منكرة". 

وروى ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، عن علي أنه "أمر رجلاً أن يصلي بضعفة الناس يوم العيد في المسجد ركعتين"، ورجاله ثقات، وعليه فقد ثبت ما يُعارض المتقدم عنه، ولذا قال الشَّافعيُّ في "معرفة السنن" عن هذا الحديث والذي قبله: وهذان حديثان مختلفان.

وقال البيهقيُّ: "ويحتمل أن يكون أراد ركعتين تحية المسجد ثم ركعتي العيد مفصولتين عنهما"، ولذا ساق بعده في "الكبرى" بإسناده عن علي بن أبي طالب: "صلوا يوم العيد في المسجد أربع ركعات: ركعتان للسنة، وركعتان للخروج"، وإسنااد ضعيف، ضعف البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة"، فيه حنش بن المعتمر.

وفيه أيضاً: "ليث بن سليم"، قال ابن حجر في "التقريب": "صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك"، وقال الذهبيُّ: "فيه ضعف يسير من سوء حفظه ، بعضهم احتج به"، وهذا الحديث ضعيف. و

3- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة صلاها أربعاً قضاءً في الوقت، فكان قضاؤها أربعا، كقضاء الجمعة، وهذا منطقيٌّ من حيث أن صلاة العيد تُشبه صلاة الجمعة،فصلاة العيد والجمعة ركعتان، وكلاهما فيه خطبة؛ فلما اشتبهتا في نواحٍ متعددة، كأنه قيس عليها.

ولكن إن كان هذا هو مناط الحكم (أي بالقياس) فهذا فيه نظرٌ ظاهرٌ جداً؛ لأن من فاتته صلاة الجمعة يرجع إلى فرض الظهر (أربع ركعات)، بخلاف العيد فإنه ليس يرجع إلى شيءٍ آخر، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُبين ذلك، وإنما يقضي ذلك على النحو الذي فاته، وهو ما قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح".

  • واستدلَّ القائلون بأن من فاتته صلاة العيد مع الإمام؛ يُصليها على هيئتها مع أهل بيته في جماعة، بأدلةٍ منها:

1-ما رواه ابن أبى شيبة في "مصنفه"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، من طريق هُشيم، عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس، عن جده أنس بن مالك: "أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة، جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبى عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما". 

قال الألباني في "الإرواء": ضعيف. وفيه هشيم بن بشير، قال الحافظ في "التقريب":  ثقة ثبت كثير التدليس و الإرسال الخفى، وقال الذهبيُّ:  إمام ثقة، مدلس، وقد عنعنه. وقال العيني في "نخب الأفكار": طريقه صحيح.

2-أنَّها قضاءُ صلاةٍ؛ والأصل في قضاء الصلوات أن يؤتى بها على هيئتها المعتادة، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، وأما القياس على صلاة الجُمعة فلا يصحُّ دليلاً، لأن القياس في العبادات ممنوع، وقد ثبت عن عليِّ بن أبي طالب أنه أمر أن تُصلى ركعتين، وهذه هو الراجح، والله أعلم.

3-واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يقول: (إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا تأتوها تَسعَونَ، وأتُوها تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ؛ فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتمُّوا)؛ فكما جاز لمن فاتته ركعةٌ من صلاة العيد أن يشفعها بركعةٍ أخرى يُتمم بها صلاته، فكذلك يُشرع له إنشاء صلاة العيد ابتداءً إذا لم يدرك شيئاً منها.

الصورة الثانية: أن لا يصليها الناس في وقتها من أول يومٍ؛ لعدم علمهم بدخول وقت العيد:

أ- فذهب المالكية والظاهرية إلى عدم القضاء مُطلقاً، وهو قولٌ عند الشافعية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن العثيمين..

ب- وذهب الحنفية وأظهر القولين عند الشافعية والمشهور عند الحنابلة إلى أن لهم تأخيرها إلى اليوم الثاني، ويُصليها الإمام بالناس جماعة (وهو الراجح، والمسألة محتملة).

  • استدلَّ المانعون من القضاء لمن فاته وقت صلاة العيد، بأدلةٍ منها:

1-النظر؛ فقالوا: إنها صلاة مؤقتة إلى قبل الزوال، فإذا فات وقتها لم يصح فعلها، وذلك مثل صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر.

  • واستدل القائلون باستحباب القضاء من اليوم الثاني، بأدلَّةٍ منها:

1- بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيُّ ،وابن ماجه  عن أبي عمير بن أنسٍ عن عمومةٍ له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ركبًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأَوُا الهلال بالأمس، فأمَرهم أن يُفطروا وإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاَّهم).

ويُقال: إن اسم أبي عُمير: عبد الله، هو أكبر أولاد أنس بن مالك، وهو من صغار التابعين، روى عن جماعةٍ من الصحابة، وعمّر بعد أبيه زمناً طويلاً، وروى عن أبي عُمير كُلاً من: جعفر بن أبي وحشية، وأبو بشر، وروى شعبة الحديث من طريقهما، ورواه هُشيم من طريق أبي بشر.

وهذا الحديث صححه: ابن المنذر في "الأوسط"، وابن السكن، وابن حزم في "المحلى"، والبيهقي في "الكبرى"، والخطابي في "معالم السنن"، والدارقطني في "سننه"، وابن حجر في "بلوغ المرام، والتلخيص"، والنووي في "المجموع".

وقال ابن المنذر: والقول بهذا الحديث واجب، ومثله الخطابيّ، قال: والمصير إليه واجب. 

وقال ابن حزم: "وهذا سند صحيح، وأبو عُمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته، وإنما هذا يكون علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا، والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم، قال: وهذا قول أبو حنيفة والشافعي".

2- ما رواه البخاري ومسلم، عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَن نسِي صلاةً، أو نامَ عنها، فكفَّارتها أن يُصلِّيَها إذا ذكَرها).

قالوا: ويُقاس السهو والخطأ على النسيان والنوم؛ لحديث: "رُفِعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانَُ وما اسْتُكْرِهوا عليه"، وعليه فلهم قضاء هذه الصلاة من اليوم التالي، وهذه المسألة لا يُمكن تصورها إلا في عيد الأضحى؛ لأن الوقت لا يزال باقياً.

  • وأختم بهاذين القولين عن الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله تعالى:

قال الشَّافعيُّ في "الأم" إذا دخل وقت الزوال ولم يُصلِّ الناسُ العيد: "لم يكن عليهم أن يصلوا يومهم بعد الزوال، ولا الغد لأنه عمل في، وقت فإذا جاوز ذلك الوقت لم يعمل في غيره".

قال: "ولو ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس من الغد إلى عيدهم قلنا به". 

قلتُ (محمد): وقد ثبت ذلك من حديث أبي عُمير بن أنس.

وقال رحمه الله: "وقلنا أيضاً فإن لم يخرج بهم من الغد خرج بهم من بعد الغد، وقلنا: يصلي في يومه بعد الزوال إذا جاز أن يزول فيه، ثم يصلي جاز في هذه الأحوال كلها، ولكنه لا يثبت عندنا".


  • مصادر البحث:

  • فقه السنة؛ سيد سابق.

  • الدرر السنية.

  • موسوعة الفقه الإسلامي.

  • الموسوعة الفقهية الكويتية.

  • الشرح الكبير على المقنع؛ لابن قدامة.

  • الشرح الممتع على زاد المستقنع

  • نهاية المطلب في دراية المذهب.

  • روضة الطالبين.
  • أسنى المطالب، والإقناع، ومغني المحتاج.