أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 أكتوبر 2020

القول التمام- في بيان صحة صلاة المنفرد خلف الإمام

القول التمام

في بيان صحة صلاة المنفرد خلف الإمام

[دراسة حديثية فقهية]

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

اختلف العلماء في صلاة الرجل وحده خلف الصَّف، هل صلاته صحيحةٌ مُجزئة، أم هي باطلةٌ مردودة ؟ على ثلاثة أقوال:

القولُ الأوَّل: أنَّ صلاة المنفرد خلف الصَّف باطلةٌ يجِبُ إعادتُها، وهو مذهبُ الحنابلة، والظاهرية، وهو قول طائفةٍ من السلف؛ مثل: حماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، ووكيع، والنخعي، والحكم، والحسن بن صالح، والحميدي -صاحب الشافعي، وشيخ البُخاري -وأبو ثور، والبغوي، وابن أبي شيبة، وبه قال الشوكاني، واختاره ابن حزم، والصنعاني، وابن باز.

القول الثاني: أن صلاة المُنفرد خلف الصَّف صحيحةٌ مع الكراهة، وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية، والحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والحسن البصري، والأوزاعي، وداود بن علي الظاهري.

القول الثالث: هو قولٌ وسط بين الأول والثاني، وهو أن صلاة المنفرد وحده تصحُّ مع العذر، وهو قول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وابن القيم، والإمام الألباني، وابن عثيمين، والسعدي، ويشترطون عدم وجود فرجةٍ في الصَّف قبله.

  • واستدلَّ القائلون بالبطلان، بأدلةٍ منها:

1-ما رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، من طريق ملازم بن عمرو، قال: حدثنا عبد الله بن بدر، أن عبد الرحمن بن علي حدثه، أن أباه عليِّ بنِ شَيبانَ، أنَّه قال: صليتُ خلفَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانصرفَ، فرأى رجلًا يُصلِّي فردًا خلفَ الصفِّ، فوقَفَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى انصرَفَ الرجلُ من صلاتِه، فقال له: (استقبلْ صلاتَك؛ فلا صلاةَ لفردٍ خلفَ الصفِّ).

وهذا الحديث حسن إسناده ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق"، والعيني في "نخب الأفكار"، وابن القيم في "إعلام الموقعين"، وابن كثير في "إرشاد الفقيه"، والإمام أحمد كما في "البدر المنير"، والبوصيري في "مصباح الزجاجة"، وقال ابن رجب في "فتح الباري": روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، من أجودها رواية ملازم بن عمرو هذه، رواته كلهم ثقات من أهل اليمامة. وصححه من المتأخرين الإمام الألباني في "الإرواء".

قالوا: هذا الحديث يدلُّ بظاهره على أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل أن يُعيد صلاته.

ويُجيب الجمهور: أن الأمر بالإعادة هنا زجرٌ له، وهو محمولٌ عندنا على الاستحباب.

2-وبما رواه أحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، من طريق حصين، عن هلال بن يساف، قال: أخذ زياد بن أبي الجعد بيدي ونحن بالرقة، فقام بي على شيخ يقال له: وابصة بن معبد، من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ أي وابصةَ: (أنَّ رَجُلًا صلى خلفَ الصَّفِّ وَحْدَه، فأمَرَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعيدَ الصَّلاةَ).

وهذا الحديث قد ورد من عدة طرق، عن وابصة:

الأولى: ما سقناه، وهو حصين، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة. وضعف بعض أهل العلم هذه الطريق؛ فقال: حُصين ليس بالحافظ، وزياد بن أبي الجعد مجهول! وكلامهم في حُصين غير صحيح؛ فحُصين ثقةٌ حافظ، مات سنة (163 هـ)، وقال عنه أحمد: ثقةٌ مأمون، من كبار أصحاب الحديث، وفي آخر عمره ساء حفظه، ولذا قال الحافظ في "التقريب": ثقةٌ، تغيَّر حفظه بأخرة، ومات وله ثلاثٌ وتسعون سنة. وقال عنه الذهبيُّ في "السير": الحافظ، المعمر، وقال أيضاً: احتجَّ به أرباب الصحاح، والعجب من أبي عبد الله البخاري، ومن العقيلي، وابن عديّ، كيف تسرَّعوا إلى ذكر حُصين في كُتب الجرح. وأما زياد بن أبي الجعد؛ فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الترمذيُّ حديثاً وحسنه، وقال عنه الحافظ في "التقريب": (مقبول)، أي عن المتابعة، وهنا لم يتفرد به زياد بن أبي الجعد، بل تابعه هلال بن يساف في الحديث الذي سيأتي.

الثانية: ما أخرجه أحمد، والترمذيُّ، وأبي داود، وابن حبان: من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد. وقال بعض أهل العلم: في إسناد هذه الطريق عمرو بن راشد، مجهول العدالة، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد وثقه غير واحدٍ؛ فقد وثقه أحمد بن حنبل، ونقل ذلك عنه الدارميُّ في "السُّنن" أنه كان يُثبت حديثه، وكذلك ابن حزم في "المُحلى"، وأبو بكر بن المنذر في "الأوسط"، وقال عنه الحافظ في "التقريب": مقبول.

الثالثة: ما أخرجه أحمد، والطبراني في "الكبير" من طريق الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، عن وابصة بن معبد، بلفظ (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ صلى خلف الصفوف وحده؟ فقال: يُعيد الصلاة). وأعل بعض أهل العلم هذه الطريق بالإرسال؛ لأن هلال بن يساف لم يُدرك وابصة، ولذا لم يذكر الحافظ المزي هلالاً في كتابه "تهذيب الكمال" في الذين رووا عن وابصة، والصحيح أنها ليست مرسلة، ففي الطريق الأول حدَّث زياد عن وابصة، وهلالٌ حاضر يسمع؛ ولذا قال الترمذيُّ كما سيأتي: وفي الحديث ما يدلُّ على أن هلالاً أدرك وابصة.

الرابعة: ما أخرجه الإمام أحمد، والدارمي، وابن المنذر في "الأوسط"، من طريق حدثني يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عمه عبيد بن أبي الجعد، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة بن معبد بمعنى الحديث الأول.

الخامسة: ما أخرجه الطبراني في "الكبير"، وابن عساكر في "تاريخه"، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيِّ عن وابصة، قال: (صلى رجلٌ خلف الصفِّ وحده؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة).

وقال ابن عساكر: هذا حديثٌ غريب، وأخرجه البيقهيُّ في "الكبرى" من طريق السُّري، عن الشعبي، وقال: تفرَّد به السُّرُّ وهو ضعيف، ورواه أبو داود في المراسيل.. والصحيح أنه لم يتفرد به، بل تابعه إسماعيل بن أبي خالد عند الطبراني وابن عساكر. 

السادسة: ما أخرجه الطبراني في الكبير، من طريق الأعمش، ومنصور كلاهما: عن سالم بن أبي الجعد، عن عُبيد بن أبي الجعد، عن وابصة. وذكر الحديث بمعناه. وأخرجه ابن عساكر من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن وابصة؛ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرأى رجلاً يُصلي خلف الصف وحده، فقال له: (ألا أخذت بيد رجلٍ إلى جنبك، أو دخلت في الصف، قُم فأعد صلاتك). قال ابن عساكر: هذا غريب، والمحفوظ حديث هلال بن يساف. وكذلك يُلاحظ أن طريق ابن عساكر عن الأعمش ليس فيها ذكر "عُبيد"؟!.

السابعة: ما أخرجه الطبرانيُّ في "الكبير" من طريق أشعث بن سوّار، عن بكير بن الأخنس، عن وابصة، قال: (صليتُ صفاً وحدي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني أن أُعيد الصلاة)، وأخرجه ابن عساكر من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن وابصة.

  • ومما سبق: نجد أن حديث وابصة يُروى من عدة طُرق عنه:

1-هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة.

2-هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة.

3-هلال بن يساف، عن وابصة بن معبد.

وحديث وابصة حسَّنه الإمام أحمد وإسحاق، وأبو حاتم والترمذيُّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حزم في "المحلى"، وابن حبان، وقال: وهلال بن يساف سمعه من عمرو بن رشاد، ومن زياد بن أبي الجعد؛ فالخبران محفوظان، وسكت عنه أبو داود؛ وما سكت عنه فهو صالح، وقال أبو بكر بن المنذر في "الأوسط": صلاة الفرد خلف الصف باطلٌ لثبوت خبر وابصة، وخبر علي بن الجعد بن شيبان، وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": عن الأثرم ،قال أحمد: حديثٌ حسن، وصححه من المُعاصرين الشيخ أحمد شاكر في "تحقيق الترمذي"، والإمام الألباني في "إرواء الغليل". 

وضعَّفه الشَّافعيُّ، وقال: قد سمعتُ من أهل العلم بالحديث، من يذكر أن بعض المحدثين من يُدخل بين هلال بن يساف ووابصة رجلاً، ومنهم من يرويه عن هلال عن وابصة سمعه منه، وسمعتُ بعض أهل العلم منهم كأنه يوهنه بما وصفتُ، ذكره عنه البيهقيُّ في "المعرفة"، وضعفه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال: في إسناده اضطراب، ولا يُثبته جماعةٌ من أهل الحديث، وذكر ابن رجب في "شرح البخاري" عن ابن عبد البر، والبزار أنهم يقولون باضطراب الحديث، لكن قال ابن سيد الناس: الاضطراب الذي فيه مما لا يضره.

وبيان ذلك الاختلاف هو: هل أدرك هلال بن يساف وابصة وروى عنه هذا الحديث أم لا ؟ والصحيح: هو ما ذكره غير واحدٍ من أهل العلم أنه ليس في هذا الحديث اضطراب، لأنه هلال بن يساف سمعه مرَّةً عن وابصة مباشرةً، فحدث عنه، وسمعه مرة من زياد بن أبي الجعد بحضور وابصة وإقراره كما في الطريق الأولى، فهو كالقراءة على الشيخ والعرض عليه، فيرويها هكذا مرة، وهكذا مرة،  وصارت هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً

كذلك فإن هلال بن يساف رواه عن عمرو بن راشد، عن وابصة، وله متابعات كثيرة كما قدَّمنا، ويشهد له حديث "علي بن شيبان المتقدم"، وحديث "طلق بن علي" الآتي.

قال الترمذيُّ: وفي حديث حصين ما يدل على أن هلالاً قد أدرك وابصة، فاختلف أهل الحديث في هذا، فقال بعضهم: حديث عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد أصح. 

وقال بعضهم: حديث حصين، عن هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة بن معبد أصح.

وقال الترمذيُّ: وهذا عندي أصح من حديث عمرو بن مرة، لأنه قد روي من غير حديث هلال بن يساف، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة بن معبد. وصححه من المتأخرين الإمام الألباني في "صحيح أبي داود".

قالوا: وهذا الحديث يدلُّ على بطلان صلاة المنفرد خلف الصف، بقرينة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة الصلاة.

3-واستدلوا بما رواه البزار في "مسنده"، قال: حدثنا محمد بن خلف البغدادي، ثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ قال: (رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يُصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يُعيد الصلاة). قال البزار: لا نعلمه يُروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد. وأخرجه الطبراني في "الكبير والأوسط"، وقال الهيثمي في "المجمع": وفيه النضر أبو عمر، أجمعوا على ضعف.

4-واستدلوا بما رواه الطبراني في "الأوسط"، من طريق يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري، عن أبي هريرة، قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يُصلي خلف الصفوف وحده، فقال: أعد الصلاة). قال الطبراني: لا يُروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، تفرد به العبادي. وبه أعله الهيثميُّ في "المجمع".

 وقال القائلين بالبطلان: هذه الأحاديث كلها تدلُّ على بطلان صلاة المنفرد خلف الصَّف، وقوله (لا صلاة) يُحمل على الفعل الشرعي؛ فيكون المعنى نفياً للصلاة الشرعية، وبالتالي بطلان الصلاة، وبناءً عليه فإنه لو جاء أحدٌ إلى المسجد ولم يستطع الوقوف إلى جنب الإمام، ولم يجد فرجةً في الصَّف، فلا يجذب إليه أحداً من الصف ليُصلي معه،  وعليه أن ينتظر الإمام حتى يفرغ من صلاته، ويُصلي بعدها منفرداً (وهو نصُّ فتوى اللجنة الدائمة: 8/ 6).

قالوا: وقد قال الشافعي: لو ثبت حديث وابصة لقلت به؛ وقد ثبت فعليكم العمل به يا معشر الشَّافعيّة، وقد قال البيهقي: الاختيار أن يتوقى ذلك؛ لثبوت الخبر المذكور.

ويُجيب البيهقيُّ في "المعرفة" على هذا الإيراد؛ فقال: وكان الشافعيُّ يقول: لو ثبت الحديث الذي يُروى فيه لقلتُ به، ثُمَّ وهَّنه في الجديد. 

وقال البيهقيُّ في "السنن الصغرى": وضعف الشافعيُّ إسناد حديث وابصة؛ فإنه ادخل هلال بن يساف بينه وبين وابصةً رجلاً، وهو عمرو  بن راشد، وهو مجهول، وكان في القديم يقول: لو ثبت لقلتُ به.

ولكن حديث وابصة قد صحَّ فعلاً؛ وعليه فيعتبر قولاً للشَّافعي؛ لأنه قال: إذا صحَّ الحديث قهو مذهبي!. وقد أجاب الجمهور، بأن قوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) أي لا صلاة كاملة، كقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة بحضرة طعام)، والقرينة التي تدلُّ على صحة هذا التأويل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم انتظر ذلك المُصلي حتى فرغ من صلاته كما جاء في نفس الحديث، ثم قال له (استقبل صلاتك)؛ كما في حديث "عليِّ بن شيبان"، ولو كانت باطلةً لما أقره صلى الله عليه وسلم على الاستمرار فيها، فيكون أمره بالإعادة على الاستحباب جمعاً بين الأدلة. وهو الصواب إن شاء الله.

بينما يُجيب القائلين بوجوب الدخول في الصَّف؛ بأن حديث وابصة في البطلان والأمر بالإعادة محمولٌ على عدم العُذر، وأما مع العُذر بأن لم يجد فرجةً في الصف قبله فصلاته صحيحة.

ولكن القول الأخير ضعيف؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يستفسر من وابصة هل فعل ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذر، وترك الاستفصال في محل الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، وعليه فتخصيص ذلك بالعُذر يحتاج إلى دليل خاص.

  • واستدلَّ القائلون بصحة صلاة المنفرد خلف الصف بأدلَّةٍ، منها:

1- ما رواه البخاريُّ في صحيحه، عن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه انتهى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو راكعٌ، فركَع قبل أن يَصِلَ إلى الصفِّ، فذكَر ذلك للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (زادك اللهُ حِرصًا، ولا تَعُدْ)، وزاد أبو داود فيه: (فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف).

قالوا: هذا الرجل لما شرع في الصَّلاة كان مُنفرداً، ولو كانَ انفرادُه قادحاً في صلاتِه لأَمَره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإعادةِ، وإذا أوقع جزءاً من الصلاة حالة الانفراد .

فأجاب الحنابلة ومن وافقهم: بأنَّ هذه الحال لم تستمر، بل سرعان ما دخل في الصَّف، ويُغتفر في الابتداء ما لا يُغتفر في الدوام، 

2- واستدلوا بما رواه الشيخان عن أنس -رضي الله عنه- قال: (صلى رسول الله فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا).

قالو: فهذه أمُّ سُليم صلت في صفٍّ وحدها، ولم تبطل صلاتها، ولم يأمرها النبيُّ بالإعادة، والنساء شقائق الرجال في الأحكام.

ويُجيب القائلين بالبطلان: بأن موقف المرأة في الأصل كون خلف الرجال، ولو كانت وحدها فإن صلاتها صحيحة، لأن النصَّ جاء بذلك، وقد أقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فلا نتعداها إلى الرجل؛ قالوا: وكذلك فإن النساء لا تجب عليهن الجماعة، وإنما الجماعة ثبتت قولاً وفعلاً وتقريراً خاصَّةٌ بالرجال؛ فلو صلَّت في صفٍّ وحدها فلا حرج ولا بأس.

3-واستدلوا بما رواه البخاريُّ ومسلم، عن ابن عباس، قال: (بتُّ عند خالتي ميمونة؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقمتُ عن بساره؛ فجعلني عن يمينه).

4-واستدلوا بما رواه مسلمٌ، عن جابر، قال: (قمتُ عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار).

قالوا: وهذين الحديثين فيهما أنه لما أدار النبيُّ صلى الله عليه وسلم جابراً وابن عباس، ووقع جزءٌ من صلاتهما منفردين خلفه، فلو كان الانفراد مُبطلاً للصلاة لبطلت صلاة ابن عباس وجابر.

ويُجيب القائلين بالبطلان: بأنه يُغتفر في الابتداء ما لا يُغتفر في الدوام، وأن ذلك كان لمصلحة الصلاة، فهذا كالذي قبله، وعليه فصلاة المنفرد خلف الإمام باطلة، وبقى العموم على عمومه.

5-واستدلوا بما رواه الطبراني من حديث وابصة، وزاد فيه: (ألا دخلت معهم، أو اجتررت رجلا؟!).

وهذا حديثٌ ضعيف، ضعف الصنعاني في سبل السلام، وقال: فيه السري بن إبراهيم وهو ضعيف، وضعفه ابن عثيمين في "الفتاوى"، وهذه الزيادة ضعفها الألباني في "الضعيفة": ضعيفٌ جداً، وضعفها ابن تيمية، وابن القيم كما في "بدائع الفوائد"، وابن باز؛ وهذا الحديث مُعارض لحديث (تراصوا، وسدوا الخلل)، ولذا قالوا: لا يجرُّ إليه رجلاً.

ولكن جمهور الفقهاء استحبوا أن يجذب إليه رجلاً؛ لأن هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، إلا أنه يُعمل به في فضائل الأعمال، بينما اختار ابن تيمية وابن القيم والألباني أن يُصلي وحده إذا لم يجد فرجةً في الصف الذي قبله.

6- واستدلوا من النظر؛ فقالوا: كلَّ مَن صحَّتْ صلاتُه لنفسه، صحَّت صلاته مع غيره ولو كان مُنفرداً خلف الصف في الجماعة؛ والله عز وجل يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال: {لا يُكلِّف الله نفساً إلا وسعها}.

4-واستدل القائلون بالصحة مع العُذر من النظر أيضاً؛ فقالوا:لو جاء إنسانٌ ولم يجد فُرجةً في الصَّفِّ، فإن القاعدة تقول (تسقط الواجبات عند عدم القدرة عليها)، وفي معناها (المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب)، وعليه فلا يجب أن يجذب إليه أحد، ولو جذب إليه فحسن، وتصحُّ صلاته في الصفِّ وحده. 

  • والخلاصة:

الرأي الصواب في هذه المسألة هو ما قاله الإمام النوويُّ في "المجموع": "إذا وجد الداخل في الصف فرجة أو سعة دخلها، وله أن يخرق الصف المتأخر إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه لتقصيرهم بتركها؛ فإن لم يجد فرجة ولا سعة ففيه خلاف حكوه وجهين والصواب أنه قولان:

(أحدهما): يقف منفرداً ولا يجذب أحداً، نص عليه في البويطي لئلا يحرم غيره فضيلة الصف السابق وهذا اختيار القاضي أبي الطيب.

(والثاني): وهو الصحيح ونقله الشيخ أبو حامد وغيره عن نص الشافعي وقطع به جمهور أصحابنا أنه يستحب أن يجبذ إلى نفسه واحداً من الصف، ويستحب للمجذوب مساعدته، قالوا: ولا بجذبه الا بعد إحرامه لئلا يخرجه عن الصف لا إلى صف، وإنما استحب للمجذوب الموافقة ليحصل لهذا فضيلة صف، وليخرج من خلاف من قال من العلماء: لا تصح صلاة منفرد خلف الصف، ويستأنس فيه أيضاً بحديث مرسلٍ ذكره أبو داود في المراسيل والبيهقي عن مقاتل بن حنان إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ان جاء فلم يجد أحدا فليجتلح إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المحتلج)



  • مصادر البحث:

  • الدرر السنية.

  • فقه السُّنة.

  • توضيح الأحكام.

  • النظر فيما علق الشافعي القول فيه على صحة الخبر.



الأربعاء، 30 سبتمبر 2020

شرح أصول في التفسير -بقلم: محمد ناهض عبد السلام حنونة

شرح أصول في التفسير

لفضيلة الشَّيخ محمد بن صالح العُثيمين

بقلم: محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ هذا الكتاب هو كلماتٌ جامعة في علم أصول  التفسير، اشتمل على مسائل كثيرة، وقواعد مهمة في التفسير وطرقه وعلومه، بيَّن فيه الشيخ رحمه الله- أهم الضوابط التي تُعين القارئ والمتدبِّر على فهم كتاب الله عز وجل، وهو علمٌ يحتاج إليه الفقيه والمُحدث، والمُفتي، والقاضي، والمُدرِّس، والخطيبُ، والواعظ، ولا شك أن رتبة التفسير أعلى رتبة من شرح الحديث؛ باعتبار متعلقه الذي هو كلام الله عز وجل.

وأصل هذا الكتاب هو مذكرة كتبها الشيخ العثيمين لطلاب المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد طلب منه بعض أهل العلم أن يُقرِّر لهم مادةً في أصول التفسير يجعلها في رسالة مستقلة؛ فأجابهم إلى ذلك، فكانت بمثابة المتن، وهي مُستمدَّةٌ من مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد تناول العلماء والطلبة هذا المتن المبارك بالشرح والتحليل والحفظ والعناية، وكان من جملة هذه الشروح شرح الشيخ العثيمين لها -وهو الشرح الذي بين أيدينا، وقد شرحها أيضاً شرحاً مُلخصاً الشيخ مُساعد الطيار، والشيخ عبد الرحمن العقل، وغيرهم من الشيوخ المباركين.

وقد لخص الشيخ العثيمين مطالب هذا الكتاب في بداياته على صورة أسئلة؛ فكانت بمثابة الفهرس العام له، وبمثابة التقويم النهائي لمن قرأ هذا الكتاب؛ فيتمكن من الإجابة عليها؛ وهي كما يلي:

* القرآن الكريم:

أولاً: نزول القرآن الكريم:

- متى نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم؟ 

- ومن نزل به عليه من الملائكة؟

- أول ما نزل من القرآن ؟

-  نزول القرآن على نوعين: سببي وابتدائي.

ثانياً: المكي والمدني:

- القرآن مكي ومدني، وبيان الحكمة من نزوله مفرقاً. وترتيب القرآن.

ثالثاً: كتابة القرآن وجمعه:

- كتابة القرآن وحفظه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

- جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.

رابعاً: التفسير:

-معنى التفسير لغة واصطلاحاً، وبيان حكمه، والغرض منه.

- الواجب على المسلم في تفسير القرآن.

- المرجع في التفسير إلى ما يأتي:

أ-كلام الله تعالى بحيث يفسر القرآن بالقرآن.

ب- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلّغ عن الله تعالى، وهو أعلم الناس بمراد الله تعالى في كتاب الله.

ج. كلام الصحابة رضي الله عنهم لا سيما ذوو العلم منهم والعناية بالتفسير، لأن القرآن نزل بلغتهم وفي عصرهم.

د. كلام كبار التابعين الذين اعتنوا بأخذ التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم.

هـ. ما تقتضيه الكلمات من المعاني الشرعية أو اللغوية حسب السياق، فإن اختلف الشرعي واللغوي، أخذ بالمعنى الشرعي إلا بدليل يرجح اللغوي.

-أنواع الاختلاف الوارد في التفسير المأثور.

خامساً: ترجمة القرآن:

- ترجمة القرآن: تعريفها - أنواعها - حكم كل نوع.

سادساً: الصحابة والتابعين الذين اشتهروا بتفسير القرآن:

- خمس تراجم مختصرة للمشهورين بالتفسير ثلاث للصحابة واثنتان للتابعين (عليُّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة).

سابعاً: المحكم والمتشابه في القرآن:

- أقسام القرآن من حيث الإحكام والتشابه.

- موقف الراسخين في العلم، والزائغين من المتشابه.

- التشابه: حقيقي ونسبي.

- الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه.

- موهم التعارض من القرآن والجواب عنه وأمثلة من ذلك.

ثامناً: القسم في القرآن:

- الْقَسَم: تعريفه - أداته- فائدته

تاسعاً: القصص في القرآن:

- القصص: تعريفها - الغرض منها 

- الحكمة من تكرارها واختلافها في الطول والقصر والأسلوب.

- الإسرائيليات التي أقحمت في التفسير وموقف العلماء منها.

عاشراً: الضمير في القرآن:

- الضمير: تعريفه - مرجعه

- الإظهار في موضع الإضمار وفائدته 

- الالتفات وفائدته - ضمير الفصل وفائدته.

  • ومن الفوائد المُهمَّة التي أخصُّ بها طلبة العلم (والتي ذكرها الشيخ أثناء شرحه في الكتاب) ما يلي:

1-كل مثلٍ في القرآن فهو إثباتٌ لدليل القياس.

2-إذا جاءت (ما) بعد (إذا)؛ فهي زائدة/ مثال: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ..) أي: وإذا أنزلت سورة.

3-إذا دار الكلام بين الحذف وعدمه؛ فحمل الكلام على عدم الحذف أولى.

4-خصوص السبب إذا كان عينياً؛ فإنه لا يُخصص العموم، أما إذا كان خصوص السبب وصفياً فإنه يُخصص العموم؛ ويُمكن التعبير عنها بقولنا (الحكم العام الوارد على سبب خاص لا يُخصصه إلا بقرينةٍ وصفية).

5-ترك بعض المشروع: مشروع درءاً للفتنة (وهذا في باب المستحبات والسنن).

6-النهي عن الشيء لا يلزم منه وقوع الشيء، ولا جواز وقوعه أيضاً.

7- الضمائر إذا تتابعت؛ فمرجعها واحدٌ إلا بدليلٍ يصرفها؛ فيكون مرجع كل ضميرٍ إلى ما يُناسبه.



الاثنين، 28 سبتمبر 2020

الرحلة في طلب الحديث -الخطيب البغدادي -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الرحلة في طلب الحديث

تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت

الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ الرحلة في طلب العلم والحديث سُنَةٌ ذكرها الله عز وجل في كتابه في قصة موسى والخضر عليهما السلام، وذكرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سُّنته، وقد رحل أكابر الصَّحابة لسماع حديثٍ بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت القبائل تفد إليه صلى الله عليه وسلم فتسمع منه القرآن، وتحفظ عنه أمور الإسلام، وقد قال الله عز وجل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) /التوبة 122/، فكان أعظم مقاصد طلب العلم: حفظ هذه الشريعة، ثُم تبليغها للناس، وقد نبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك  بقوله: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سلَك اللهُ به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ والملائكةُ تضَعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ) /صحيح ابن حبان/

وقد جمع الإمام الخطيب البغدادي في كتابه هذا (الرحلة في طلب الحديث) مُلحاً رائقة من أخبار بعض الأئمة الحفاظ من الطبقة الثانية والثالثة، الذين رحلوا في طلب العلم، ولم تشتهر أخبارهم، جمعها من متفرقات كتبه، وأودعها في هذا الجزء اللطيف، وهو أول من أفرد (الرحلة) بتصنيفٍ مستقل.

وقد كتب الأئمة قبله في الرحلة وجمعوا فيها بعض الأخبار، وضمنوها كتبهم، فقد بوَّب الإمام البخاريُّ في صحيحه: "باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله"، وكذلك ابن أبي شيبة قال في "المصنف": "باب في الرحلة في طلب العلم"، ولكن الخطيب هو أول من أفرد الرحلة في التصنيف.

أما صفة الرحلة؛ فيقول الحافظ ابن حجر في كتابه "النزهة": وصفةِ الرحلة فيه، حيث يبتدئ بحديثِ أهل بلدِهِ، فيستوعبه، ثم يرحل، فيحصِّل في الرحلة ما ليس عنده، ويكون اعتناؤه بتكثير المسموع أَوْلى من اعتنائه بتكثير الشيوخ.

  ومن جميل ما يُذكر أن كلمة الرحلة وردت في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه (لإيلاف قريشٍ إيلافهم، رحلة الشتاء والصَّيف)، وكذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الرِّحلةُ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: إلى المسجِدِ الحرامِ ومسجِدِكم هذا وإِيلِياءَ)/صحيح ابن حبان/؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا المعنى في كلامه كما هو ظاهرٌ من الحديث.

وقد قسَّم الخطيب البغدادي كتابه إلى خمس فصول، وبدأه بذكر (الرحلة في طلب الحديث والأمر بها والحثُّ عليها، وبيان فضلها) وذكر فيه ثمانيةً وعشرين أثراً. وأعقبه بذكر (رحلة نبي الله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفتاه في طلب العلم) وما اشتملت عليه من الآداب وقوانين الطلب، وفيها أنه كلما طالت الرحلة عظمت الفائدة. وأتبع ذلك بذكر (من رحل في حديث واحد من الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين)، وذكر فيه رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنيس، ورحلة أبي أيوب الأنصاري إلى عُقبة بن عامر، ورحلة رجلٍ من الصحابة إلى فَضالة بن عُبيد،  ثم ذكر (الرواية عن التابعين والخالفين في مثل ذلك) يعني في طلب العلم، والرحلة فيه، وذكر فيه أخبار سعيد بن المسيب وغيره، وبيَّن فيه مقاصد الطلب؛ فمنهم من رحل في طلب أصل الحديث؛ كالأوزاعي إلى الحسن البصري، وابن سيرين، ومنهم من رحل لأجل التثبُّت من الحديث؛ مثل رحلة شعبة في حديث: "من توضأ فأحسن الوضوء؛ ثم صلى ركعتين فاستغفر الله إلا غفر له"، ومنهم من رحل لطلب علو الإسناد، مثل رحلة زيد بن الحُباب، وختم كتابه بذكر (ذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده)، ونذكر هنا بعض الفوائد التي يستفيد منها القارئ بين يدي الكتاب.

  • أولاً: ومن أعظم الفوائد التي يجنيها طالب العلم من رحلته:

1- حفظ الشريعة التي هي الكتاب والسنة؛ وهذا عملٌ دينيٌّ محض؛ فيحتاج إلى إخلاص اليَّة لله عز وجل.

2- الاستزادة من العلم، والظفر بعلوم جديدة لم يكن يُتقنها؛ لأنك ستلقى في رحلتك من هو واسع العلم، ومن هو متوسط العلم، ومن هو أقل علماً، وتجد عند كل صنفٍ من هؤلاء ما لا تجده عند غيره، فيؤثر فيك الأعلى في فهم علوم الشريعة، وسعة الفهم، ويؤثر فيك الأدنى بحسن سمته، وهديه ودلِّه، وتطلع على شروحات جديدة، قد لا تكون متوفرة في بلدك الأصل.

3-حسن الفهم عن الله في كتابه، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، لأن من يرحل يرى من طبائع الناس وعاداتهم وثقافاتهم ما تُوسع عنده مدارك الفتوى، وطرق الاستدلال، وتنزيل الأحكام على الواقع، والتعرف على معاني آيات الله في الكون والآفاق والنفس، فيتفتق ذهنه، ويتسع أفقه، ولا يكون نسخةً مطابقةً عن شيوخ بلده.

رابعاً: زيادة الخبرة في طرق التعليم والتدريس، وتعلم الحكمة، وسعة الصدر، والدقة في النظر والاستدلال، وفهم اختلافات الفقهاء، ورؤية آثار السلف وجهادهم، ومنازلهم، ومدى صبرهم في الرحلة، والالتقاء بالإخوان الصالحين، والتعاون معهم على نشر الخير، وبذل العلم، والاستفادة منهم، وترسيخ الإيمان في القلب بما يراه من النوازل والأحداث والعجائب والأمور في سفره.

خامساً: نشر العلم في المناطق التي يغلب عليها الجهل في طريق سفره، ونشر الخير والتوحيد، وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ونصح الناس بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وهذه هبةٌ وكرامةٌ لك في طريق التحصيل والطلب.

سادساً: زيادة الإيمان والخلوة بالله، ومعرفة حقيقة صدق اللجوء إلى الله، وزيادة الأنس به سبحانه، فترى أن الإيمان يزيد زيادةً مُضاعفة عما أنت عليه في الحضر، بما تراه من كفاية الله، وإعانته، وكرامته، لا سيما إذا خرجت تقصد وجه الكريم سبحانه، وخرجت من محبوبك إلى محبوبه.

سابعاً: التثبت في العلم والمسائل، ومعرفة وجه الحقِّ فيها من خلال سؤال العلماء والرحلة إليهم، وطلب العلوم غير المتوفرة في بلدك مثل علوم القراءات، أو علوم اللغة، أو علوم الصرف والبلاغة، أو علوم أصول الفقه والحديث، وطلب الإسناد العالي، وجمع الطرق والأسانيد.

ثامناً: الرحلة هي وسيلة تربوية يحصل الإنسان خلالها شيم الصبر، والتفاني، والجد، والبذل، والسخاء، وسعة الصدر، والاحتساب، وتعظيم الله، وحسن الخلق، ولين النفس والطبيعة.

  • ثانياً: قواعد الرحلة في طلب العلم وقوانينها:

1- الصدق مع الله عز وجل في طلب العلم، لا التباهي بكثرة المسموعات، والتفاخر بعدد الإجازات، وتقوى الله عز وجل بامتثال ما أمر، واجتناب ما نهى عنه من المعاصي والذنوب.

2-الاشتغال بصغار العلم قبل كباره، فلا يهجم على المسائل الكبيرة، وإرادة تحريرها قبل النضوج، واكتمال العقل وعلوم الآلة، ولذا ترى كثيراً من طلبة العلم يعتنون بترجيح الشذوذات؛ لأجل هوى النفس، وأكثر ما تجد ذلك عند أهل الأهواء والبدع.

3-البداءة بالأهم فالأهم من كتب أهل العلم؛ فيبدأ بقراءة كتب أهل السنة من أصحاب الاعتقاد السَّلفيِّ الصحيح، والحرص على استغلال الوقت، والنوم مبكراً، والاستيقاظ مبكراً، وعلى قدر انفاق الوقت في طلب العلم تكون بركة العلم، والاستفادة منه، وكان السلف يتواصون بالإكثار من المسموعات والمقروءات على المشايخ، مع تقليل المحفوظ، وتكثير زمن المراجعة، وكذلك ضبط ألفاظ الكتب والمسموعات.

4- الحرص على طلب العلم عند العلماء الثقات الأثبات، حتَّى كان السَّلف يتفقدون صلاة من يطلبون عندهم العلم، هل هي موافقةٌ للسُّنة أم لا ؟ ورأينا كثيراً من طلبة العلم من انحرفوا أثناء طلبهم بسبب سوء اختيار شيوخهم الذين أخذوا عنهم، وتساهلهم في ذلك.

5- مراعاة العادات العامة والأعراف في البلدان المختلفة التي تطلب فيها العلم؛ وألا يفخر طالب العلم بما منَّ الله به عليه من حسن الفهم، وسرعة الحفظ أو يُبدي ذلك أمام شيخه أو أقرانه، وتجنُّب آفات الرحلة والطلب من الحسد، والبغضاء، والمشاحنة، وسوء الأدب، والكذب، والرياء، وغيرها من الأخلاق الذميمة.