أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 6 سبتمبر 2020

حديث افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فرقة؛ للصنعاني

حديث افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فرقة

للإمام المُحدِّث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني 

(1099 -1182 هـ)

تحقيق وتخريج: أبو أكثم سعد بن عبد الله بن سعد السعدان

تقديم د. عبد الرحمن بن صالح المحمود

دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1415 هـ


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ لقد اهتمَّ الإسلام بالتعاضد والائتلاف تحت راية الكتاب والسُّنة، وحذَّر من التنازع والاختلاف، وجعل ذلك علامة الخذلان، واتباعٌ لنزغات الشيطان، ذلك أن التفرُّق يقود إلى الضياع، والهلاك، والفشل، وذهاب البركة، وتسلط الأعداء.

وقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق حتماً لا محالة إلى فرقٍ شتَّى، كُلُّ فرقةٍ ترى أن الحق في قولها، والضلال في قول غيرها، فإذا ما طولبت الأخيرة بإقامة البرهان على دعواها، فإنها تُقيم شُبهاً وأوهاماً لا تقوم بها حجة، ولا يستقيم لها بنيان.

وربما دأبت بعض تلك الفرق: إلى تعداد ما عداها في الفرق الهالكة؛ ليُخلصوا أنفسهم مما توعدهم الله به من الهلاك والعذاب، ووضعوا أنفسهم في لُبِّ الطائفة الناجية كذباً وبُهتاناً، ولو فتشنا في مقالاتهم وعقائدهم لوجدنا فيها ما هو أشنع مما أنكروه على غيرهم من الفرق التي زعموا أنها مُخالفةٌ لأهل الحق.

ولذا نجد أن بعض فرق الضلال -في عصرنا -تدَّعي أنها الفرقة الناجية، وتزيد على ذلك: أن يتهموا أهل السُّنة بأنهم الفرقة الهالكة والمُنحرفة؛ وقد فعل ذلك بعض المُغترين من أهل عصرنا، من أمثال (علي جمعة)، و(محمد سالم أبو عاصي)، و(سعيد فودة)، و(محمد عبد الواحد الحنبلي)، وغيرهم ممن انتكسوا على أعقابهم.

وكل هذا الضلال والافتراء والتشنيع على أهل السُّنة، إنما هو: ابتلاءٌ للمؤمنين الصادقين، وتمحيصٌ لأهل التوحيد والسّنة من هذه الأمة.

وهؤلاء لما أصابهم الكلل من النظر في عيوب أنفسهم، توجَّهوا إلى مناقب غيرهم بالثلب؛ فأولى بهم أن يعتبروا بأحوالهم، ويدعوا ما هنالك من الطعن والغمز واللمز في أهل الحق، فما أرخص ما باعوا به آخرتهم من لُعاعة الدنيا، وشهوة الظهور، لو كانوا يفقهون، وبالجملة:

(فكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى … وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا)

ولو رُزق هؤلاء الذين ذكرتهم، وغيرهم ممن تبعهم على نهجهم -مسكةً من الإنصاف؛ لوزنوا أنفسهم بما يزن به الصالحون أنفسهم؛ وأهون ذلك أن يسألوا أنفسهم، وإنه لعظيم:

هل أنا مُتبعٌ لما كان عليه النبيُّ وأصحابه في العقيدة والعبادة والسلوك أو غير مُتَّبع ؟!

هذا هو السؤال الحقيقي الذي لا حيدة عنه بحال، ومن ادَّعى أنه مُتبعٌ للسُّنة، مُتقيِّدٌ بها:

فلينظر إلى أقواله وأفعاله هل تُصدِّق ذلك أو تُكذِّبه ؟ 

فإن ما عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهرٌ بحمد الله لكل إنسان، فلا يُمكن التباس المتبع بالمبتدع، ولا المُحقُّ بالمبطل.

ولو ذهبنا نُعدد الفرق الهالكة وتشعباتها لما انتهينا إلى عددٍ معلوم؛ ذلك أن التفرُّق لا يزال في هذه الأمة إلى آخر الدنيا، ففي كل عصرٍ تنشأ فرقةً وطريقةٌ لم تكن معروفةً من قبل، وتكون مختلفة في آرائها ومُتعددة في مشاربها.

وإذا كان بعض علماء أهل السنة صنَّف في تعداد هذه الفرق فلا يُعاب عليه ذلك؛ لأنه إنما قصد موافقة حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، لا لغرضٍ في نفسه كما يفعل أهل الأهواء والبدع، ولكن هذا الأمر لا يخلو من الخطأ والتكلُّف.

فطريقنا -معاشر أهل السنة -أن نؤمن بخبر الصادق الذي نقله الثقات، وأن نعلم: أن سبيل الحقِّ واحدٌ لا يتعدد ولا يختلف ولا يتغير، وهو لزوم طريق أهل السُّنة والجماعة، في أصولهم العقدية، وكلياتهم الشرعية (الممتدُّ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته، إلى يومنا هذا)، وهي المقياس بيننا وبين تلك الفرق المخالفة.

وأخيراً؛ فإن هذه رسالة مختصرة لطيفة في شرح وتوجيه حديث الافتراق؛ للإمام الشريف النسيب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني الحسني رحمه الله، وهي عبارة عن جواب لسؤالٍ عُرض عليه من قبل العلامة إبراهيم بن أحمد العثماني، عن افتراق الأمة، وهو يتعلق بصحة الحديث ومعناه، وقد حررها في شهر ذي القعدة من سنة (1133 هـ).

ولا شك أن الافتراق الذي جاء في الحديث مُقيَّدٌ بنوعٍ مُعين من أنواع الافتراق، فإنه ليس كُلُّ افتراق واختلافٍ يكون مذموماً، وإنما المقصود به هن (الافتراق في أصول الدين، والكليات العامة للشريعة)، من الشرك بالله، وصرف العبادة لغير الله، والقول بالقدر والجبر، والإباحة، والطعن في الصحابة، ونحو ذلك. 


ويُمكن تقسم شرح الإمام الصنعاني رحمه الله لحديث الافتراق إلى ستِّ مسائل، رئيسية:

المسألة الأولى: ذكر حديث الافتراق: وهو ما رواه: أحمد وأبو يعلى، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقتْ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وافترقتْ النصارى على اثنتين وسبعين فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ. وفي لفظٍ: على ثلاثٍ وسبعينَ ملةٍ، وفي روايةٍ قالوا: يا رسولَ اللهِ مَن الفرقةُ الناجيةُ؟ قال: من كانَ على مثلِ ما أنا عليه اليومُ وأصحابي، وفي روايةٍ قال: هي الجماعةُ يدُ اللهِ على الجماعةِ).


المسألة الثانية: لا يلزم من إثبات حديث الافتراق الحكم على أكثر الأمة بالهلاك والدخول في النار، ذلك أن الحكم على أكثر هذه الفرق بالهلاك ودخول النار، باعتبار ظاهر أعمالها، وهو يدخل ضمن أحاديث الوعيد، ومعلومٌ أنه ليس كل من توعد بالنار يلزمه أن يدخلها، بل قد يتخلف الوعيد لوجود مانعٍ، أو لانتفاء شرطٍ من الشروط التي تُوجب دخولها، فلا يلزم بناء على ذلك أن يكون أكثر أمة الإسلام هالكا أو مخلداً في النار.


المسألة الثالثة: أن الفرقة الناجية، وإن كانت مفتقرةً إلى رحمة الله، لكنها باعتبار ظاهر أعمالها يُحكم لها بالنجاة؛ لإتيانها بما أُمرت به، وانتهائها عما نُهيت عنه.


المسألة الرابعة: أن الافتراق في الأمة، وهلاك من يهلك منها، دائمٌ مُستمرُّ، من بعد زمن تكلم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة إلى قيام الساعة، وبذلك تتحقق أكثرية الهالكين، وأقليَّةُ الناجين.


المسألة الخامسة: أنه كلما تطاول الزمان، وابتعد الناس عن زمن النبوَّة، زادت أعداد الهالكين، وقد وردت أحاديث بفساد آخر الزمان، وخفاء الحق، وأن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ولكن هذا ليس على إطلاقه؛ فقد يقع في زمنٍ بعد زمن القرون الثلاثة المفضلة من أعداد الهالكين ما هو أكثر من أعداد من بعدهم.


المسألة السادسة: أن أهل السنة والجماعة (أتباع السَّلف) هم الفرقة الناجية، وهم السواد الأعظم في هذه الأمة، ذلك أنهم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدُّجى، وأولو المناقب المأثورة، والكرامات المشهورة، وهم الطائفة المنصورة.



السبت، 5 سبتمبر 2020

غسل بول الجارية ورشُّ بول الصَّبي

غسل بول الجارية ورشُّ بول الصَّبي

بحث فقهي مُقارن

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

غزة -فلسطين

اتفق العلماء على نجاسة بولٍ الآدميّ ورجيعه، سواءً كان الآدميُّ كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، أكل الطعام أو لم يأكل الطعام. 

واتفقوا على وجوب إزالتها من البدن، والثوب، وموضع الصلاة.

ونقل الماورديُّ الإجماع على ذلك في كتابه "الحاوي"، والنوويُّ في "شرح مسلم"، والعراقيُّ في "طرح التثريب"، وغيرهم من العلماء.


واتفقوا أيضاً على وجوب غسل بول الجارية، والصبيِّ الذي أكل الطعام، واختلفوا في كيفية تطهير بول الصبيِّ، الذي لم يأكل إلا اللبن

1- فذهب الشَّافعية والحنابلة، وطائفةٌ من السَّلف؛ كعطاء والحسن، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه إلى أنه يُنضح من بول الصبيِّ الذي لم يأكل الطعام، بأن يعمَّ بالرش موضع النجاسة بدون سيلان، وهو قول الشوكاني من الظاهرية، والإمام ابن باز، وابن عثيمين من المتأخرين.

2- وذهب المالكية والحنفيَّة إلى أن بول الصبيِّ الذي لم يأكل الطعام يُغسل قياساً على سائر الأبوال، ومن جملتها بول الجارية، وأقلُّ ذلك صبُّ الماء عليه وإن لم يدلكه ويفركه، وهو قول الثوري والحسن بن حي .


  • واستدلَّ الشافعية والحنابلة ومن وافقهم؛ بأدلَّةٍ منها:

1- ما رواه البخايُّ ومسلمٌ، عن أمِّ قيسٍ (جذامة) بنتِ مِحصَن: (أنَّها أتَت بابنٍ لها صغيرٍ، لم يأكلِ الطَّعامَ، إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأجْلَسه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَجرِه، فبال على ثَوبِه، فدعَا بماءٍ فنَضَحه ولم يَغسِلْه)، وفي روايةٍ لمسلمٍ بلفظ: (فَلَمْ يَزِدْ على أنْ نَضَحَ بالماءِ).

قال الحنابلة والشافعية: في هذا الحديث دلالةٌ على التفريق بين من أكل الطعام من الصبيان، وبين من لم يأكل الطعام منهم؛ فيُغسل من الأول، ويُنضح ويرش من الثاني؛ وإلا فما فائدة قولها (ابن صغير لم يأكل الطعام)؟.

وأجاب المالكية والحنفية؛ فقالوا  النَّضح عندنا غير الرَّشِّ، لأن العرب تُسمي صب الماء نضحاً، وتُسمي الغسل نضحاً، والنضح في هذا الموضع هو صبُّ الماء من غير عرك. قالوا: ودليل ذلك عندنا، هو حديث عائشة عند مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم (دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ). 

وقالوا: كذلك جاء في رواية عند مسلمٍ: (فنضح على ثوبه ولم يغسله غسلاً)؛ فأخبر أنه صبَّ الماء على ثوبه ولم يغسله، فتعيَّن أن المراد هو صب الماء وليس مجرد الرش.

وردَّ عليهم الشافعية والحنابلة، بأن النضح هو الرَّش؛ بدليل ما جاء في الرواية الأخرى لمسلم: (فَدَعا بماءٍ فَرَشَّهُ)، فتعيَّن أن المُراد بالنضح هو الرش، وليس صبُّ الماء.

وأجاب عليهم المالكية والحنفية: بأن المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو تنقيط الماء وانتهى إلى النضح وهو صب الماء، فلا تعارض بين الروايتين.

وردَّ عليهم الحنابلة والشافعية، إن الأصل عندنا في تطهير بول الصبي هو (الرش)، وإذا استمر ذلك الرش إلى حد السيلان فلا تنافي، وأما عندكم معشر المالكية والحنفية فلا يكفيكم مجرد الرش.


2-واستدلوا بما وراه البخاريُّ ومسلم، عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُؤتَى بالصِّبيانِ، فيَدعو لهم، فأُتِيَ بصبيٍّ، فبال على ثَوبِه، فدعَا بماءٍ، فأتْبعَه إيَّاه، ولم يَغسِلْه).

قالوا: في هذا الحديث دليلٌ على اتباع بول الصبيان بالماء، وذلك بنضحه؛ بقرينة قوله (ولم يغسله).

واعترض عليهم المالكية والحنفية؛ بأن اتباع الماء هو النضح، وهو صبُّ الماء، وليس مجرد الرش.

وأجاب الشافعية والحنابلة: بأن الأصل في تطهير بول الصبي الذي لم يأكل الطعام الرش، بمثل ما سبق.


3-واستدلوا بما رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، عن أبي السَّمحِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (كنتُ أخدُمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان إذا أراد أن يَغتسلَ قال: ولِّني قفاك، فأُولِيه قفاي، فأَسْتُرُه به، فأُتي بحَسَنٍ أو حُسَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فبال على صَدرِه، فجئتُ أغْسِلُه، فقال: يُغسَلُ مِن بَولِ الجارية، ويُرشُّ مِن بَولِ الغُلامِ).

وهذا الحديث صحيح، صححه ابن خزيمة، والحاكم، والذهبيُّ، وغيرهم، وقال الحافظ في "التلخيص": قال البُخاريُّ: حسنٌ.

قالوا: والعطف بين الغسل والنضح يقتضي المُغايرة، فالنضح يُحمل على الرش بالنسبة للصبي، والغسل يكون للجارية.


4-واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في بَولِ الغلامِ الرَّضيعِ: (يُنضَحُ بولُ الغُلامِ، ويُغسَلُ بَولُ الجاريةِ).

قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما، غُسل بولهما.

والحديث صحيح، صححه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط البخاريِّ ومسلم، ووافقه الذهبيّ. وقال الحافظ في "التخليص": وإسناده صحيح، ورواه سعيد عن قتادة فوقفه، وليس ذلك بعلَّةٍِ قادحة.

وقال في "التلخيص": " إسناده صحيح؛ إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني، وقال البزار: تفرد برفعه معاذ بن هشام، عن أبيه، وقد روي هذا الفعل من حديث جماعة من الصحابة، وأحسنها إسنادا حديث علي".

وقال البيهقيُّ في "معرفة السنن": "وقد قرأت في كتاب العلل، لأبي عيسى الترمذي، أنه سأل محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه، وهشام الدستوائي رفعه، وهو حافظ".


5-واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، عن لبابة بنت الحارث (أم الفضل): كان الحُسينُ بنُ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ في حِجرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فبال عليه؛ فقلتُ: الْبَسْ ثوبًا وأعطِني إزارَك حتى أغسلَه، قال: (إنما يُغسلُ من بولِ الأنثى ويُنضحُ من بولِ الذَّكرِ).

وهذا الحديث صحيح، صححه ابن خزيمة، والحاكم، والذهبي، وأشار الحافظ إلى صحته في "الفتح"، فقال: أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغيره.

قالوا: وهذا نصٌّ صحيحٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم، في التفريق بين بول الصبي الذي لم يطعم الطعام وبول الجارية؛ فاتباعه أولى.


6-وتستدلوا بما رواه عبد الرزاق في مصنفه، عن زينب بنت جحش، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (يُنضح من بول الغلام، ويُغسل بول الجارية).

قال الحافظ في "التلخيص": في سنده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.


7-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث عمرو بن شعيب عن أم كرز الخزاعية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل).

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": في إسناده انقطاع؛ فإن عمرو بن شعيب، لم يُدرك أمر كرز. وقال الألباني في "الإرواء": صحيحٌ لغيره.


8-واستدلوا بما رواه الطبراني في الأوسط، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بصبيٍّ؛ فبال عليه فنضحه، وأُتي بجاريةٍ؛ فبالت عليه فغسله).

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": إسناده حسن، وحسنه العيني في "نخب الأفكار"، وانظر تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر.


9-واستدلوا بالنظر؛ فقال الشافعية والحنابلة: إن ظاهر قوله (فنَضَحه ولم يَغسِلْه) صريحٌ في أنه لم يُرد الغسل، وإنما أراد النضح؛ لأنه أثبت النضح ونفى الغسل.

ويُجيب المالكية والحنفية: بأن قوله  (ولم يَغسِلْه) دليلٌ على عدم  وجوب الفرك والدعك، قالوا: فأثبت الصبَّ والسكب، ونفى الغسل، ومعنى ذلك أن الغسل شيءٌ زائدٌ لى الصبِّ والسكب، وهذا الشيء الزائد هو "الدلك".

وردَّ عليهم الشافعية والحنابلة: أن قولكم هذا مُتَّجهٍ إذا كان المُراد بالنضح هو الصب والسكب، وأما على القول بأنه الرشُّ؛ فلا دلالة لكم على ذلك، وما تطرق إليه الاحتمال ارتفع به الاستدلال؛ فتعيَّن مذهبنا معشر الشافعية والحنابلة.


  • واستدلَّ المالكيَّة والحنفيَّة، ومن وافقهم؛ بأدلَّةٍ، منها:


1-بما رواه مالك في "الموطأ"، عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ).

قالوا: والاتباع هنا هو الصبُّ، كما فسرته الروايات الأخرى، وهو النضح أيضاً؛ لأن النضح يجيء في اللُّغة بمعنى الصب.


2-واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه، عَائِشَةَ، قَالَتْ: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يَرْضَعُ فَبَالَ فِي حَجْرِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ).

قالوا: والصبُّ، والسكب، والغمرُ بمعنى، وكلها ألفاظٌ تدلُّ على الغسل، ووجوب ذلك.

واعترض على الشافعية والحنابلة بأن الرشَّ في اللغة لا يأتي بمعنى الصب؛ فتعيَّن الفرق بينهما.


3-واستدلوا بما رواه أبو داود، والبيهقي، عن خيرة أم الحسن البصري: "أنها أبصرَتْ أمَّ سلمةَ تصبُّ الماءَ على بولِ الغلامِ ما لم يَطعَمْ؛ فإذا طعم غسلَتْه وكانت تغسلُ بولَ الجاريةِ".

قال البيهقيُّ في "الكبرى": هذا الحديث صحيح عن أم سلمة من فعلها (أي أنه موقوفٌ عليها)، وقال الحافظ في "التلخيص": وسنده صحيح.

قالوا: وهذا حديث مفسرٌ للأحاديث كلها مستعمل لها.

واعترض عليهم الشافعية والحنابلة: بأنكم لم تُعملو أحاديث الرشِّ، وهو المراد بقوله (فنضحه)، وأما الصبُّ فهو الزيادة في النقط حتى السيلان.

4-واستدلوا بما راه الطبراني في الأوسط، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الغُلامُ لَمْ يطعَمِ الطَّعامَ صُبَّ على بولِه وإذا كانتِ الجاريةُ غُسِل غَسْلَةً).

وقد أشار البيهقيُّ في "الكبرى" أنه ضعيفٌ مرفوعاً، والصحيح وقفه، ويشهد له الحديث الذي قبله. 

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"، والحافظ في "التلخيص": فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف.


5-واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن المراد بالنَّضْح هنا الغسل، وذلك معروف في لسان العرب، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذيُّ وابن ماجه، عن سهل بن حنيف في غسل المذي؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك بأن تأخذَ كفًّا من ماءٍ فتنضحَ بها من ثوبَك حيث ترى أنه أصابَه)؛ قالوا: والنضح هنا الغسل كما ذهب إليه أكثر العلماء؛ وقد ورد هذا الحديث بألفاظٍ أخرى تُصرح بالغسل، وهي الأكثر.

وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، وصححه ابن حبان، وصححه الألباني رحمه الله.

قالوا: إن رواية النضح هنا محمولةٌ على الغسل.

وأجاب الشافعية والحنابلة: بأن النضح هنا يحتمل معنى الرش ومعنى الغسل والصب، وقد قيَّده حديث (الغسل) به، بخلاف النضح من بول الصبيِّ؛ فإنه نفى وقوع الغسل؛ فلا يحتمل إلا معنىً واحداً وهو الرشُّ كما صرحت به الروايات.


4-واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن الغسل هو الأصل في تطهير النجاسات، ولا يُصار إلى الرش إلا بدليلٍ صريح صحيح.

وأجاب عليهم الشافعية والحنابلة بأن بول الصبي الرضيع يخرج من هذا الأصل، برواية مسلم لحديث أم قيس بنت محصن، وفيها (فَدَعا بماءٍ فَرَشَّهُ).


5-واستدلوا من النظر -أيضاً؛ فقالوا: إذا كان يُغسل من بول الصبيِّ والجارية بعد أن يطعما غير اللبن بالإجماع، فكذلك ينبغي أن يُغسل منهما قبل أن يطعما اللبن؛ لأن الشرع لا يُفرق بين المتماثلات، ولا يُماثل بين المتفرقات.

وأجاب الشافعية والحنابلة أن الفرق بين البولين ثابتٌ بالنص، ولا يُصار إلى القياس إلا عند عدم النص.


6-وقالوا: يا معشر الشافعية والحنابلة إن قلنا بأن النضح هو الرش؛ فإن الرش لن يزيد النجاسة إلا شراً واتساعاً، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرنا بالاستنزاه من البول، فتعيَّن صب الماء على موضع بول الصبيِّ.

وأجاب الشافعية والحنابلة: بأن هذه النجاسة مُخففة، ولذلك أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم برشها دون غسلها.


  • مناقشة الأدلة والترجيح:

بعد استعراض أقوال الأئمة رضي الله عنهم؛ ورأينا كيف أعملوا النصوص كلها، وفسروها، ورأينا أن مذهب الشافعية والحنابلة، هو: أن بول الرضيع مستثنى من عموم الغسل. وأن مذهب المالكية والحنفية هو سلك مسلك الترجيح، والقياس، نقول: إن إعمال جميع النصوص أولى من تطيل بعضها، وأنه لا قياس مع وجود النص. وعليه فالأقوى دليلاً، هو مذهب الشافعية والحنابلة، والأحوط هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والخروج من الخلاف مستحبٌّ. وما يُقال في بول الصبيِّ الصغير يُقال في قيئه، والله أعلم.


وذكر العلماء الحكمة من رش بول الصبيِّ الذي لم يأكل الطعام، وغسل بول الجارية؛ فقالوا:

1-قيل: خُفف في بول الصبيِّ لولوع الناس بحمله المفضي إلى كثرة بوله عليهم، ومشقة غسل ثيابهم، فخفف فيه ذلك.


2-وقيل التخفيف؛ لأن بوله أرق من بولها؛ فلا يلصق بالمحل كلصوق بولها به.


3-وقيل: إن بول الغلام من الطين، وبول الجارية من اللحم والدم، والطين مركب من تراب وماء والأصل فيهما الطهارة: فينضح، وأما اللحم والدم فالأصل فيهما النجاسة فيُغسل.


  • المصادر والمراجع:

  • فقه السنة.

  • توضيح الأحكام من بلوغ المرام.

  • الموسوعة الفقهية الكويتية.

  • بداية المجتهد ونهاية المقتصد.

  • المغني؛ لابن قدامة المقدسي.

  • التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد.

  • الأوسط في السنن والإجماع؛ لأبي بكر بن المنذر.

  • الإفهام شرح عمدة الأحكام.

  • الفقه الإسلامي وأدلته.

  • الإقناع حل ألفاظ أبي شجاع.



الثلاثاء، 1 سبتمبر 2020

(200) سؤال وجواب في العقيدة -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

(200) سؤال وجواب في العقيدة

حافظ بن أحمد الحكمي

(ت 1377 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ إن الناس كلهم مطبوعون على الإيمان بالله عز وجل، واعتقاد كماله من كل وجه: في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ فهم لا يحتاجون إلى أدلَّةٍ تدفعُ عنهم الشُّبهات أو الشُّكوك، وإنما يحتاجون إلى ما يزيدُ إيمانهم، ويُعمِّق معرفتهم بربهم جل وعلا، وإذا ساعدت عناية الله عز وجل هذا الإنسان في سلوك طريق الهداية واتباع طريق السَّلف، واستجابت فطرته الصافية إلى صحيح الإيمان، فإن قلبه سيفيض تعظيماً وحُبَّاً وتوحيداً لله عز وجل.

وبين أيدينا كتابٌ صغير الحجم، عظيم النفع، من أبسط كتب العقيدة المُعاصرة، وأسهلها عرضاً، قد تضمَّن أهم قضيَّةٍ في الوجود، وهي (التوحيد)، الذي هو أصل كُلِّ خير، كما تضمن النهي عن الشرك؛ لأنه أصل كل شرٍّ، وكلاهما موجبان؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"، و"من مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار" (رواهما مٍُسلمٌ).

ولا شكَّ أن تربية المسلم المعاصر تحتاج إلى مثل هذا المختصر، لا سيما مع ضعف الهمم، وقلة العلم في الناس، وهو مختصرٌ يفي بالحاجة؛ بحيث إنه يغرس في قلب المؤمن عقيدة متكاملة ومتوازنة، ويُعطي صورة واضحة للإيمان، كما أنه يدعو للعمل بمقتضى ذلك الإيمان . 

فحقٌ على من قرأ هذا الكتاب أن ينتفع به، ولا يكن كمن جنّ عليه الليل في سفره فرأى سراجاً يُشعُّ نوراً على أول الطريق؛ فتركه وقطع طريقه في الظلمات بلا سراج منير أو هادي سبيل، وإذا عرفتَ فالزمْ، والله المستعان.

 

 

 

  • من هو الشيخ حافظ الحكمي ؟

هو: العلامة، الفقيه الأديب: حافظ بن أحمد بن علي الحكمي: من علماء (جيزان)، ولد بها سنة (1923م). وقرأ القرآن في صغره، ولما بلغ السادسة عشرة من عمره بدأ بطلب العلم، وله رسائل كثيرة مطبوعة، منها: (الجوهرة الفريدة في العقيدة) و (اللؤلؤ المكنون في أحوال السند والمتون) و (النور الفائض في علم الفرائض) و (الأصول في نهج الرسول) و (منظومة) في الحث على طلب العلم، و (سلم الوصول إلى علم الأصول) ارجوزة، و (معارج القبول) شرح لها، و (أعلام السنة المنشورة في اعتقاد الطائفة المنصورة)، وهو الكتاب الذي بين أيدينا، وتوفي رحمه الله سنة (1958 م) عن خمسةٍ وثلاثين عاماً، ودُفن في مكة.

 

  • منهج الشيخ الحكمي في الكتاب:

الطريقة العامة في الكتاب هي طريقة السؤال والجواب، وهي من أجمل الطرق التي تُحفّز العقل تلقائيًا على البحث عن الجواب، وبالتالي قياس مدى المعرفة، وكذلك يجعل النفس تتوق للبحث والرغبة في الاستزادة ومعرفة الجواب. الكتاب يسير جدًا وعرضه جميل وسلس ومترابط، أرى أنه من الأهمية بمكان لكل مسلم وليس الشارع فقط في دراسة العقيدة.

 

● موضوعات الكتاب إجمالاَ:

بدأ الشيخ حافظ بتعريف العبادة وشروطها، وعرض حديث جبريل وتحدث عن أركان الإسلام الخمسة وأولها الشهادة ثم الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم انتقل إلى تعريف التوحيد وأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وعرض بعض الشبهات التي يلقيها المتشككين حول كل نوع منه هذه الأنواع الثلاثة وأجاب عنها، ثم تناول أنواع الشرك من أكبر وأصغر، وأنواع الكفر وأنواع النفاق، وأقسام كل منهم، مع تأييد ما يثبته من الكتاب والسنة.

ثم تطرق لأبواب الإيمان الباقية: الإيمان بالملائكة وأوصافهم، وما ورد فيهم في الكتاب والسنة، ثم الإيمان بالكتب، ثم الإيمان بالرسل، ثم الإيمان باليوم الآخر، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره، وفي كل باب منها يذكر أقسامه وفصوله ثم ما يثبته من كتاب وسنة ويذكر بعض الشبهات والرد عليها.

ثم تحدث عن الإحسان ومراتبه، وقد جعل الثلث الأخير من الكتاب كاملاً للرد على الشبهات التي تفسد المعتقد؛ فيعرض الشبهة وردها، كالبدع والبناء على القبور، والسحر، والتمائم، والكهانة، والطيرة، والاستسقاء بالأنواء.

ثم تحدث عن الذنوب وأنواعها والكبائر والصغائر وما يكفرها، والحدود والتوبة، ثم تحدث عن الصحابة رضوان الله عليهم وحقوقهم علينا وواجبنا نحوهم والخلافة ومدتها وما يجب نحو ولي الأمر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والطائفة المنصورة بإذن الله.

 

 

  • طبعات كتاب (200 سؤال وجواب):

طبع هذا الكتاب في كثيرٍ من المطابع ودور النشر العربية؛ أشهرها: طبعة ابن حزم، ودار الاعتصام، ودار الآثار، ودار التوحيد، والرشيد، والوادي، وابن رجب، وغيرها الكثير جداً، وهو متوفرٌ على الإنترنت بصيغة (pdf).

 

كذلك توجد منه نسخة الكترونية في جوجل بلاي:

(https://play.google.com/store/apps/details?id=net.bahja.akeda200qa).

 

وتوجد منه طبعات ترجمت باللغة الانجليزية بعنوان:

 (FAQ on Islamic Beliefs, by: Shaikh Hafiz Ibn Ahmed Al Hakami, Dar Al-Manarah) وهو موجود في الرابط.

 

كذلك طُبع بالإنجليزية تحت عنوان:

(The Signposts of the Propagated Sunnah (Creed of the Saved and Aided Group), [Sheikh HaadfidhIbn Ahmed 'Alee Al-Hakamee)

 

  • الشروحات الصوتية والمرئية لكتاب (200 سؤال وجواب):

1- شرح الدكتور عبد الله البيومي (97 درس). 

2-شرح الدكتور شريف فوزي (17 درس).

3-شرح الدكتور محمد جمال القاضي (24 درس) -معهد الفرقان.

4-شرح الدكتور محمد الصغير (24 درس).

5-شرح سعيد محمود (39 درس).

6-شرح رامي فريد (20 درس).

7- شرح محمود مداد (12 درس)، وهو ما أنصحُ به طلبة العلم.

8-شرح محمد سعيد رسلان (31 درس).

9-شرح سعد يوسف أبو عزيز (35) درس.

10-شرح بشر خنفر (14 درس).

11-شرح عصام حسنين (11 درس).

12-شرح عبد الحميد اللبيشي (8 دروس) -أكاديمية الحويني.

13-شرح محمد عبد المقصود (57 درس).

14-شرح رامي فريد (20 درس).

15-شرح محمد طه عبد الله (20 درس).

16-شرح أحمد أبو العينين (6 دروس).

17-شرح متولي موسى (8 دروس).

18-شرح محمد محروس -السويس.

19-شرح عادل الشوربجي

20-شرح مصور على قناة "أزرقاني" (Azr8any) على (يوتيوب)، وهو يعرضها بطريقة مميزة في (11 فيديو).

وغيرها من الشروح المرئية والمسموعة.

 

  • التعليق على المُقدمة للحافظ الحكمي:


قال رحمه الله: (أما بعد؛ فهذا مختصرٌ جليلٌ، عظيم النفع، جمُّ المنافع) أي كثير الفوائد، (يشتمل على قواعد الدين) من أمور الإسلام، والإيمان، والإحسان، (ويتضمن أصول التوحيد): الربوبية، والألوهية، والٍماء والصفات، (الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، ولا نجاة لمن بغيره يدين) أي يعتقد أو يعمل؛ فإن هذا الدين هو الذي (يدلُّ ويُرشد إلى سلوك المَحجَّة البيضاء)، أي الطريق الواضح المستقيم، (ومنهج الحق المستبين، شرحتُ فيه أمور الإيمان وخصاله) أي صفاته وعلاماته وأركانه، (وما يُزيل جميعه) مما يُنافي أصله ويُخرج من الدين بالكلية، (أو يُنافي كماله) أي كماله الواجب؛ فيتسبب بنقصانه كالفسوق والعصيان، (وذكرتُ كل مسألةٍ مصحوبةٍ بدليلها) من القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، (واقتصرت فيه على مذهب أهل السُّنة) سموا بذلك لملازمتهم إياها، (والإتباع) لها، (وأهملت) فيها الرد على (أقوال الأهواء والابتداع؛ إذ هي) أي أقوالهم (لا تُذكر إلا للرد عليها، وإرسال سهام أهل السنة إليها، وقد تصدى لكشف عوارها) أي نقضها بالحجج والبراهين، (الأئمة الأجلة) كالإمام أحمد، والبخاري، والدارمي، وابن تيمية وابن القيم، (وصنفوا في ردها وإبعادها المصنفات المستقلة) سواءً في الرد على الجهمية، أو على القدرية، ونحوهم، (مع أن الضد يُعرف بضده، ويخرجُ بتعريف ضابطه وحدِّه) فإذا عُرف الحق، علمنا أن ما سواه ضلالٌ، ثم بيَّن رحمه الله طريقته في الكتاب؛ فقال: (ورتبته على طريقة السؤال والجواب؛ ليستيقظ الطالب وينتبه، ثم أُدرفه بالجواب الذي يتضح الأمر به ولا يشتبه)، فيكون الجواب شافياً كافياً، قال: (وسميته أعلام السنة المنشورة) أي راياتها المرفوعة العالية، إشارةً إلى اشتهارها، وانتشارها، وكونها علامات مُميزة لأهل السُّنة عن غيرهم من أهل البدع والضلال، (لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة)، التي أخبر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" /رواه مسلم/، قال البخاري: هم أهل العلم. وقال أحمد: هم أهل الحديث، وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، وقال النوويُّ: وهذه الطائفة متفرقةٌ في الأمة، منهم المقاتلون الشجعان، والفقهاء، والمحدثون، والزهاد، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بقعةٍ من الأرض، بل قد يكونوا متفرقين أيضاً، ثم قال: (والله أسأل أن يجعله ابتغاء وجهه الأعلى، وأن ينفعنا بما علمنا، نعمةً منه وفضلاً، إنه على كل شيء قدير، وبعباده لطيفٌ خبير، وإليه المرجع والمصير، وهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير).

والحمد لله رب العالمين.