حديث افتراق الأمة إلى نيِّفٍ وسبعين فرقة
للإمام المُحدِّث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني
(1099 -1182 هـ)
تحقيق وتخريج: أبو أكثم سعد بن عبد الله بن سعد السعدان
تقديم د. عبد الرحمن بن صالح المحمود
دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1415 هـ
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ لقد اهتمَّ الإسلام بالتعاضد والائتلاف تحت راية الكتاب والسُّنة، وحذَّر من التنازع والاختلاف، وجعل ذلك علامة الخذلان، واتباعٌ لنزغات الشيطان، ذلك أن التفرُّق يقود إلى الضياع، والهلاك، والفشل، وذهاب البركة، وتسلط الأعداء.
وقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: أن أمته ستفترق حتماً لا محالة إلى فرقٍ شتَّى، كُلُّ فرقةٍ ترى أن الحق في قولها، والضلال في قول غيرها، فإذا ما طولبت الأخيرة بإقامة البرهان على دعواها، فإنها تُقيم شُبهاً وأوهاماً لا تقوم بها حجة، ولا يستقيم لها بنيان.
وربما دأبت بعض تلك الفرق: إلى تعداد ما عداها في الفرق الهالكة؛ ليُخلصوا أنفسهم مما توعدهم الله به من الهلاك والعذاب، ووضعوا أنفسهم في لُبِّ الطائفة الناجية كذباً وبُهتاناً، ولو فتشنا في مقالاتهم وعقائدهم لوجدنا فيها ما هو أشنع مما أنكروه على غيرهم من الفرق التي زعموا أنها مُخالفةٌ لأهل الحق.
ولذا نجد أن بعض فرق الضلال -في عصرنا -تدَّعي أنها الفرقة الناجية، وتزيد على ذلك: أن يتهموا أهل السُّنة بأنهم الفرقة الهالكة والمُنحرفة؛ وقد فعل ذلك بعض المُغترين من أهل عصرنا، من أمثال (علي جمعة)، و(محمد سالم أبو عاصي)، و(سعيد فودة)، و(محمد عبد الواحد الحنبلي)، وغيرهم ممن انتكسوا على أعقابهم.
وكل هذا الضلال والافتراء والتشنيع على أهل السُّنة، إنما هو: ابتلاءٌ للمؤمنين الصادقين، وتمحيصٌ لأهل التوحيد والسّنة من هذه الأمة.
وهؤلاء لما أصابهم الكلل من النظر في عيوب أنفسهم، توجَّهوا إلى مناقب غيرهم بالثلب؛ فأولى بهم أن يعتبروا بأحوالهم، ويدعوا ما هنالك من الطعن والغمز واللمز في أهل الحق، فما أرخص ما باعوا به آخرتهم من لُعاعة الدنيا، وشهوة الظهور، لو كانوا يفقهون، وبالجملة:
(فكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى … وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا)
ولو رُزق هؤلاء الذين ذكرتهم، وغيرهم ممن تبعهم على نهجهم -مسكةً من الإنصاف؛ لوزنوا أنفسهم بما يزن به الصالحون أنفسهم؛ وأهون ذلك أن يسألوا أنفسهم، وإنه لعظيم:
هل أنا مُتبعٌ لما كان عليه النبيُّ وأصحابه في العقيدة والعبادة والسلوك أو غير مُتَّبع ؟!
هذا هو السؤال الحقيقي الذي لا حيدة عنه بحال، ومن ادَّعى أنه مُتبعٌ للسُّنة، مُتقيِّدٌ بها:
فلينظر إلى أقواله وأفعاله هل تُصدِّق ذلك أو تُكذِّبه ؟
فإن ما عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهرٌ بحمد الله لكل إنسان، فلا يُمكن التباس المتبع بالمبتدع، ولا المُحقُّ بالمبطل.
ولو ذهبنا نُعدد الفرق الهالكة وتشعباتها لما انتهينا إلى عددٍ معلوم؛ ذلك أن التفرُّق لا يزال في هذه الأمة إلى آخر الدنيا، ففي كل عصرٍ تنشأ فرقةً وطريقةٌ لم تكن معروفةً من قبل، وتكون مختلفة في آرائها ومُتعددة في مشاربها.
وإذا كان بعض علماء أهل السنة صنَّف في تعداد هذه الفرق فلا يُعاب عليه ذلك؛ لأنه إنما قصد موافقة حديث المعصوم صلى الله عليه وسلم، لا لغرضٍ في نفسه كما يفعل أهل الأهواء والبدع، ولكن هذا الأمر لا يخلو من الخطأ والتكلُّف.
فطريقنا -معاشر أهل السنة -أن نؤمن بخبر الصادق الذي نقله الثقات، وأن نعلم: أن سبيل الحقِّ واحدٌ لا يتعدد ولا يختلف ولا يتغير، وهو لزوم طريق أهل السُّنة والجماعة، في أصولهم العقدية، وكلياتهم الشرعية (الممتدُّ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته، إلى يومنا هذا)، وهي المقياس بيننا وبين تلك الفرق المخالفة.
وأخيراً؛ فإن هذه رسالة مختصرة لطيفة في شرح وتوجيه حديث الافتراق؛ للإمام الشريف النسيب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني الحسني رحمه الله، وهي عبارة عن جواب لسؤالٍ عُرض عليه من قبل العلامة إبراهيم بن أحمد العثماني، عن افتراق الأمة، وهو يتعلق بصحة الحديث ومعناه، وقد حررها في شهر ذي القعدة من سنة (1133 هـ).
ولا شك أن الافتراق الذي جاء في الحديث مُقيَّدٌ بنوعٍ مُعين من أنواع الافتراق، فإنه ليس كُلُّ افتراق واختلافٍ يكون مذموماً، وإنما المقصود به هن (الافتراق في أصول الدين، والكليات العامة للشريعة)، من الشرك بالله، وصرف العبادة لغير الله، والقول بالقدر والجبر، والإباحة، والطعن في الصحابة، ونحو ذلك.
ويُمكن تقسم شرح الإمام الصنعاني رحمه الله لحديث الافتراق إلى ستِّ مسائل، رئيسية:
المسألة الأولى: ذكر حديث الافتراق: وهو ما رواه: أحمد وأبو يعلى، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقتْ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وافترقتْ النصارى على اثنتين وسبعين فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ، وستفترقُ هذه الأمةُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةٍ كلُّها في النارِ إلا واحدةٌ. وفي لفظٍ: على ثلاثٍ وسبعينَ ملةٍ، وفي روايةٍ قالوا: يا رسولَ اللهِ مَن الفرقةُ الناجيةُ؟ قال: من كانَ على مثلِ ما أنا عليه اليومُ وأصحابي، وفي روايةٍ قال: هي الجماعةُ يدُ اللهِ على الجماعةِ).
المسألة الثانية: لا يلزم من إثبات حديث الافتراق الحكم على أكثر الأمة بالهلاك والدخول في النار، ذلك أن الحكم على أكثر هذه الفرق بالهلاك ودخول النار، باعتبار ظاهر أعمالها، وهو يدخل ضمن أحاديث الوعيد، ومعلومٌ أنه ليس كل من توعد بالنار يلزمه أن يدخلها، بل قد يتخلف الوعيد لوجود مانعٍ، أو لانتفاء شرطٍ من الشروط التي تُوجب دخولها، فلا يلزم بناء على ذلك أن يكون أكثر أمة الإسلام هالكا أو مخلداً في النار.
المسألة الثالثة: أن الفرقة الناجية، وإن كانت مفتقرةً إلى رحمة الله، لكنها باعتبار ظاهر أعمالها يُحكم لها بالنجاة؛ لإتيانها بما أُمرت به، وانتهائها عما نُهيت عنه.
المسألة الرابعة: أن الافتراق في الأمة، وهلاك من يهلك منها، دائمٌ مُستمرُّ، من بعد زمن تكلم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة إلى قيام الساعة، وبذلك تتحقق أكثرية الهالكين، وأقليَّةُ الناجين.
المسألة الخامسة: أنه كلما تطاول الزمان، وابتعد الناس عن زمن النبوَّة، زادت أعداد الهالكين، وقد وردت أحاديث بفساد آخر الزمان، وخفاء الحق، وأن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ولكن هذا ليس على إطلاقه؛ فقد يقع في زمنٍ بعد زمن القرون الثلاثة المفضلة من أعداد الهالكين ما هو أكثر من أعداد من بعدهم.
المسألة السادسة: أن أهل السنة والجماعة (أتباع السَّلف) هم الفرقة الناجية، وهم السواد الأعظم في هذه الأمة، ذلك أنهم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدُّجى، وأولو المناقب المأثورة، والكرامات المشهورة، وهم الطائفة المنصورة.