أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أغسطس 2020

عندما يكون العم سام ناسكاً (دراسة تحليلة نقدية لموقف مراكز البحوث الأمريكية من الصُّوفية)

عندما يكون العم سام ناسكاً

(دراسة تحليلة نقدية لموقف مراكز البحوث الأمريكية من الصُّوفية)

د. صالح عبد الله مسفر الغامدي

تقديم أصحاب الفضيلة الشيوخ

علوي بن عبد القادر السقاف -د. عبد العزيز آل عبد اللطيف -مازن مطبقاني

دار الوعي للنشر والتوزيع -المملكة العربية السعودية

الطبعة الأولى، 1436 هـ

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ أصل هذا البحث هو رسالة دكتوراه، تقدم بها المؤلف إلى كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ويتناول البحث حقيقة الموقف الأمريكي من الصوفية بشكل علمي وموثق، من خلال مراكز البحوث الأمريكية، والدور الاستشراقي المُعاصر. و

قد تجشَّم الباحث -حفظه الله -عناء السَّفر داخل المملكة وخارجها، وسافر إلى العديد من البلاد؛ كقطر والإمارات والبحرين وتركيا ومصر وتونس والمغرب وفرنسا؛ لأجل تحصيل معلومة أو إجراء لقاء قد يُفيده في بحثه هذا.

 وقد تناول فيه أيضاً موقف تلك المراكز البحثية من الدعوة السلفية، وكذلك تناول واقع الدعوة السلفية والصوفية بعد الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001م.

ومحور هذه الدراسة يدور حول الدعم المادي والمعنوي الذي حظي به التصوف من قبل المستشرقين ومن يقف خلفهم، وبيان أن ذلك يعود إلى عمق معرفة المستشرقين بمضامين التصوف العقدية، ومعايشتهم واقعه، وقد ساعدهم في ذلك الإرجاء في العقائد الذي يدين به المتصوفة.

وهناك شواهد كثيرٌ جداً لدعم المستعمر للحركات الصوفية في الدول العربية والعالم الإسلامي، كدعم التيجانية في الجزائر، والسمانية البكرية في مصر، والميرغانية الخاقانية في السودان، والقادرية في موريتانيا، والرفاعية في العراق، والبريلوية في الهند، والنقشبندية في أفغانستان.

وقد بدأت هذه العلاقة الحميمية بين حركتي التغريب والعلمنة وحركة التصوف مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت تُسمى تلك الحركات زوراً "حركة التجديد والإصلاح"!

وقد بيَّن الباحث في دراسته أن مهمة المراكز البحثية هو بث الأفكار والتوصيات للسَّاسة الغربيين من أجل تبنِّي مشاريع وسياسات تهدف إلى ترويض المسلمين عبر تطويع الإسلام من خلال دعم الصوفية في العالم، واتخاذها حليفاً وشريكاً في الحرب ضد الإرهاب "السَّلفي"، ومن العجيب أن مقرات بعض هذه المراكز في بعض البلاد العربية؛ كقطر، ولبنان، والبحرين، وغيرها.

والخلاصة في شأن الدعوة الصوفية المعاصرة بعد 11 سبتمبر أنها باتت بكل مضامينها، وتطوراتها تقف في مواجهة الدعوة السلفية بشكل واضح وصريح، وبطريقةٍ لا تقبل التأويل، منتظمةً بذلك في الخط الأمريكي المواجه أيضاً بصراحة ووضوح الدعوة السلفية بمنهجها ورموزها وطريقتها، ويا له من تحالف من البعيد الكاره مع القريب الناقم !.

 

  • خطة البحث:

وقد قسَّم الباحث بحثه إلى تمهيد ومُقدمة، وأربعة فصول؛ وهي:

المقدمة:

وتحتوي على أهمية موضوع البحث، وسبب اختياره، وأهداف البحث، وخطته، والمنهج العلمي الذي سلكه الباحث.

الفصل التمهيدي:

وفيه التعريف بالاستشراق والتصوف، وبه ثلاث مباحث: 

المبحث الأول: تعريف موجز بالاستشراق ودوافعه، وأهدافه.

المبحث الثاني: مراكز البحوث الأمريكية: نشأتها، وتطورها.

المبحث الثالث: نبذة عن نشأة الصوفية، وتطورها.


الفصل الأول: موقف المستشرفين من الصُّوفية، ونقده:

وفيه أربعة مباحث؛ وفيها: موقف المستشرقين من:

المبحث الأول: تعريف التصوف، ونشأته، ونقده.

المبحث الثاني: عقائد الصُّوفية ونقده.

المبحث الثالث: مؤلفات الصوفية ونقده.

المبحث الرابع: بعض رموز التصوف ونقده.


الفصل الثاني: موقف الصوفية من بعض القضايا المهمة في العالم الإسلامي، ونقده، وفيه خمسة مباحث: تدور حول موقف الصوفية من:

المبحث الأول: السلفية.

المبحث الثاني: العلمانية.

المبحث الثالث: الولاء والبراء.

المبحث الرابع: الجهاد.

المبحث الخامس: الاستعمار الغربي.


الفصل الثالث: موقف مراكز البحوث الأمريكية من السلفية والصوفية، ونقده، وفيه أربعة مباحث:

 المبحث الأول: السلفية في تقارير مراكز البحوث الأمريكية.

المبحث الثاني: مفهوم التصوف في تقارير مراكز البحوث الأمريكية.

المبحث الثالث: موقف مراكز البحوث الأمريكية من رموز التصوف.

المبحث الرابع: توصيات المراكز الأمريكية المتعلقة بالصوفية.


الفصل الرابع: الحراك الصوفي المُعاصر في العالم الإسلامي:

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: الدعم الأمريكي المُعاصر للصُّوفية.

المبحث الثاني: الدعم الإعلامي للصُّوفية المُعاصرة.

المبحث الثالث: الدعوة الصُّوفية المُعاصرة.

المبحث الرابع: الواقع الصُّوفي السياسي المُعاصر.


الخاتمة

وتشمل ملخص البحث، وأهم النتائج، والتوصيات.


وقد سلك الباحث في هذه الرسالة عدة مناهج في العرض والتحليل والبيان، وأبرزها وأهمها: المنهج التاريخي، ويتجلى في تأريخ الاستشراق وامتداده حتى يومنا هذا. والمنهج التحليلي: وذلك فيما يتعلق بتحليل التقارير الغربية وجمع المتشابه منها والمختلف. والمنهج الوصفي: المتعلق بوصف العلاقة بين مراكز البحوث الأمريكية والإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى موقف الصوفية من كثير من القضايا السياسية والدينية. والمنهج النقدي أيضاً: والذي لازم هذه الدراسة في جميع مباحثها وموضوعاتها.


  • أهمية البحث، وسبب اختياره:

ويعرض الكاتب أهم الأسباب الدافعة لاختياره هذا الموضوع للبحث فيه، وأهمية هذا البحث، والذي يتجلى في عدة أمور:

الأول: تصاعد الحديث في الغرب عن وجوب تغيير الإسلام من داخله، وذلك بتوصيات كثيرة من مراكز البحوث الأمريكية.

الثاني: أن مراكز البحوث الأمريكية لها دور كبير في رسم سياسات الولايات المتحدة، وهي امتدادٌ طبيعي لدوائر الاستشراق الغربية؛ وكلها سيان في المضمون والأهداف.

الثالث: استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر للدخول في حملات متوالية تهدف إلى إضعاف الإسلام، من خلال تقوية أطراف تُضعف المنظومة القيمية والدينية في المجتمع، والمتمثلة في (الصوفية).

الرابع: حديث مراكز البحوث الأمريكية في الكثير من تقاريرها عن أن الصوفية هم الإسلام المعتدل المتسامح، والذي يجب على الغرب دعمه وتقويته، وأن السلفية هم منبع الإرهاب والتطرف، وهي ما يجب أن يُحارب.

الخامس: أن الصوفية المعاصرة تحمل إرثاً كبيراً وطويلاً من عداء الدعوة السلفية المعاصرة؛ منذ قيام الدعوة النجدية على يد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

السادس: أن الكره الغربي (المصلحي) للدعوة السلفية، انتظم اليوم في صفٍ واحدٍ مع الكره الصوفي (العقدي) للدعوة السلفية، وهنا مكمن الخطر!.

السابع: أن المؤمن مأمورٌ بأخذ الحذر، وبذل الأسباب، وهذا الأمر -أعين التحالف الصوفي الغربي" مما يجب الحذر منه، وبذل الأسباب الشرعية لدفعه.


وحتى لا نُطيل الكلام، أنقل هنا أهم النتائج والتوصيات التي خلُص إليها الباحث؛ وهي:

1-أن مراكز البحوث الأمريكية المهتمة بالعالم الإسلامي لا تختلف في أهدافها ومضامينها عن الاستشراق التقليدي، بل إنها امتدادٌ وتطوُّر طبيعي له، وإن اختلفت الأسماء، وتطوت بعض الآليات.

2-أن المستشرقين اعتنوا بالتصوف عنايةً فائقة؛ فبحثوا في تاريخه، واعتنوا بتراثه، فألفوا فيه الكثير  من المؤلفات، وترجموا تراثه إلى لغاتهم، وقد فاقت عنايتهم به عناية المتصوفة أنفسهم.

3-أن عناية المستشرقين بالتصوف جاءت من فهمهم الدقيق لمآلات التصوف، وأهمها بالنسبة لهم: التخاذل، والتخذيل عن الجهاد، وإضعاف الولاء والبراء، والقبول بالأديان الأخرى على قاعدة مشتركة، وذلك ناتجٌ عن القول بوحدة الوجود، والانحراف الكبير عن الكتاب والسنة، والتي وجد فيها الغرب بغيته.

4-أن مراكز البحوث الأمريكية تقف من التصوف ذات الموقف الإيجابي الاستشراقي القديم، ويُعبرون عنه: بالروحانية الإسلامية، أو الإسلام الشعبي، أو الإسلام التقليدي المعتدل !، المُهدد دائماً من التطرف السلفي !!.

5-أن مراكز البحوث الأمريكية تقف من السلفية ذات الموقف العدائي الاستشراقي القديم، وهي في تقارير مراكز البحوث الأمريكية تعني: التطرف، والعنف، والإرهاب، وهذا الموقف ينبع من إدراكهم؛ بأن السلفية تعني: العودة إلى إسلام القوة والحضارة، والذي يرى فيه الغرب مُهدداً -تاريخياً -له.

6-أن الصوفية تحمل إرثاً كبيراً من العداء للسَّلفية، ومنبع هذا العداء هو بُعدهم عن هدي الكتاب والسُّنة (عقيدةً وعبادة)، ولو التزموه لطُوي ذلك العداء منذ القدم.

7-أن التصوف بعقائده وسلوكه، كان الجسر الذي عبرت من فوقه العلمانية إلى جسد العالم الإسلامي، إذا خدراو الأمة عن مقاومتها، حتى تمكَّنت، ولما تمكَّنت رضوا بها وصانعوها، ثم دعموها فدعمتهم العلمانية، وقبلوا بها فقبلتهم، إلى أن بات بعض الصوفية اليوم يقود بنفسه زمام الحكم العلماني!.

8-أن أحداث (11 سبتمبر 2001 م) حملت معها إعلاناً أمريكياً عن (حربٍ فكرية) طويلة المدى  ضد منابع الإرهاب والتطرف الإسلامي !.

9-أن مراكز البحوث الأمريكية -كان ولا يزال -لها الدور الكبير في ترشيد تلك الحرب الفكرية المُعلنة، ودعمها بالأبحاث والتقارير، ومن خلال تلك الأبحاث نجد أنها تستهدف الدعوة السلفية، والتي زعموا زوراً وبهتاناً أنها مصدر التطرف والعنف والإرهاب.

10-أن الحكومة الأمريكية تبنَّت عملياً دعم وتشجيع الصوفية، وقد ورد في هذا الحث الكثير من الأمثلة الحقيقية للدعم الأمريكي العلني للصوفية.

11-أن الصوفية لم ينكروا التوجُّه الأمريكي نحوهم، بل اعترفوا به، ثم اختلفوا في تفسيره وتبريره، فبعضهم رأى فيه أمراً طبيعياً لا غضاضة فيه، وبعضهم قلَّل من شأنه، والبعض الآخر رأى أنه أمرٌ أملتهُ المصلحة فقط، إلى غير ذلك من الأقوال. وقد حاول الجفري إخفاء ذلك التوجُّه الأمريكي وإنكاره، إما بنفسه أو بما تُصدره مؤسسته، مؤسسه طابة!، وقد بين الباحث هذ الأمر بالتفصيل.

12- أن العديد من الحكومات في العالم الإسلامي انسجمت تماماً مع ذلك التوجُّه الأمريكي، وباتت تُجاهر بدعم الصُّوفية، وتُعلن الحرب على السلفية.

13- أن الدعم والتشجيع الأمريكي للصوفية أنتج حراكاً صوفياً كبيراً من داخل العالم الإسلامي وخارجه، وذلك في جوانب كثيرة، يأتي في مقدمتها الجانب الإعلامي.

14- أن الصوفية طورت من أساليبها الدعوية، وخطابها العام، وذلك بما يتناسب مع المرحلة الجديدة من الدعم الأمريكي، فعلت في مطالبها ثقافة (وحدة الأديان)، وضرورة (محاربة الفكر السلفي)، وغيرها من الشعارات.

15- أن الدعوة السلفية هي المستهدف الأول من الحرب الفكرية التي أعلنتها أمريكا بعد 11 سبتمبر، وقد بيَّن الباحث ذلك بالدلائل والشواهد، وبيَّن أن الدعم الأمريكي للصوفية إنما هو دعمٌ لأهم أداة من أدوات هذه الحرب الفكرية.

16- أن المتصوفة بشكل عام ليسوا سواء في إدراك التوجُّه الأمريكي الداعم للصوفية، فمنهم العالم به ،المساند له، ومنهم من لا يعلم عن هذا الأمر شيئاً، وإن كان يستفيد من هذا الدعم الغير مباشر بشكل عام.


أما التوصيات في مجابهة هذه الحرب الفكرية، فأثبت منها ثلاثة:

أولاً: العمل على تقوية الدعوة السلفية وتفعليها، فهي المستهدفة بكل حراكٍ غربي ضد الإسلام، وحركتها ونشاطها الدائم هو أكبر كسرٍ لذلك الاستهداف.

ثانياً: التحذير على أوسع نطاق من خطر التحالف الأمريكي مع الصوفية، والذي بانت ملامحه، وظهر أمره، حتى أصبحت الصوفية أداة رئيسية من أدوات الحرب الفكرية الجديدة للسيطرة على الإسلام.

ثالثاً: التركيز على كشف ضلال رموز التصوف، فهم -عبر الطاعة العمياء -معقد قوة التصوف، وكسرهم كسرٌ للبدعة بإذن الله.

والحمد لله رب العالمين.







ظاهرة الافتراق في الدين وأدلة صحة مذهب السلف

ظاهرة الافتراق في الدين وأدلة صحة مذهب السلف

إعداد: سلطان بن عبد الله العُميري

كتاب الكتروني، لا يوجد رقم طبعة، ولا تاريخ نشر.

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

تمهيد/ لقد شهد التاريخ الإسلامي ظهور كثير من الفرق والمذاهب المختلفة في مناهجها الكلية ومنطلقاتها المعرفية، ودارت بين أتباعها حوارات واختلافات واسعة الأرجاء، وكل طائفة من تلك الطوائف تدعي أنها الموافقة للحق، والمتابعة لما كان عليه النبي صلى االله عليه وسلم، دون أن تلمس من هذه الادِّعاءات أيَّة حقائق عملية تُوحي بصدق تلك الدعوى أو ثبوتها.


وقد دلَّت النصوص المستفيضة على أنه لا بد أن تكون طائفةٌ قائمة بالحق في الواقع، وتكون هذه الطائفة مُستمسكةٌ بما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالقدر الواجب، وتسعى إلى تحقيق القدر المستحب في اتباعهم قدر الطاقة، وتُحقق سبيل "المتابعة الفعلية" لهم، ولا تخرج عن هديهم لا في مسائل الاعتقاد الأساسية، ولا في الأصول الكلية العلمية والعملية، وهذه الطائفة هم (أهل السُّنة والجماعة) الذين ذهبوا مذهب السلف في الاعتقاد، والعلم والعمل عموماً. 


وفي هذه الورقة يناقش الباحث (العُميري) عدداً من القضايا المتعلقة بحديث الافتراق: حول ثبوته، ومعناه، ومقتضاه… من أجل إيجاد أجوبة واضحة لعدد من الإشكالات والأسئلة المثارة حول قضية افتراق الأمة !. 


  • أهمية هذا البحث (إجمالاً):

1-بيان أن حديث الافتراق متعلق بأمة الإجابة وليس بأمة الدعوة، ومعنى ذلك أن الطوائف المندرجة في ظاهرة الافتراق، معها قدر من إصابة ما كان عليه النبي- صلى االله عليه وسلم- وأصحابه، ولكنها خالفت السلف في مسائل إجماعية وأصول كلية، ولو لم يتفق لها قدرٌ من الحق، لكانت كافرة خارجة عن دائرة الإسلام.


2-بيان أن الافتراق في الحديث متعلق باختلاف مخصوص، له طبيعة وماهية منضبطة، لأن الحديث جاء بتركيبة دلالية معينة، فلا بد من فهم فقرات الحديث وجمله بناء على ذلك التعلق وتلك التركيبة الدلالية.


3-بيان أن إصابة الحق في المسائل الإجماعية وأصول الدين لا يقبل التفرق في الطوائف المختلفة، وأنه لا بد أن تكون طائفة واحدة من طوائف الأمة تجمع الحق في أصول الدين ، ولا يخرج الحق عنها ولا تخرج عنه.


4-بيان أن المسلمين مُطالبون بالسعي إلى الاجتماع، والحرص على الألفة والابتعاد عن التفرق والتشرذم، وأن الحقَّ محصورٌ في طائفة واحدة، وهم أهل السُّنة والجماعة.


5- بيان بطلان قول من جعل هذا الحديث دليلاً على مشروعية التعددية العقدية في الدين الإسلامي؛ لأنه لم يأتِ في سياق مدح الافتراق، بل جاء في سياق الذم للفُرقة والاختلاف.


6-الرد على من قال بأن الافتراق والاختلاف والتنازع قدر حتم لا راد له، وما علينا إلا أن نستسلم له ونرضخ ونتنازع من هي الفرقة الناجية والهالكة ؟! وبيان أن المقصود الصحيح منه: هو النفور من كل تلك الفرق الضالة، والدخول في الفرقة الناجية، وهم (أهل السُّنة والجماعة).


7-بيان أنَّ الفرقة الناجية لا تتحمَّل مسؤولية انحراف أي طائفة من الطوائف، وأخصُّ بالذكر الشيعة والصوفية المعاصرة وغيرها ممن فرط وأخطأ في تعامله مع الدين، لأنَّ مسؤولية أهل السُّنة هي بيان الحقِّ (الذي هو سبيل النجاة)، ودعوةُ الناس إليه.


8-الرد على من قال: إن الحق موزع بين طوائف الأمة، بحيث أن كل طائفة يمكن أن تتفرد بالحق الذي كان عليه الصحابة في مسألة ما، وتختص به دون غيرها من الطوائف، بل الحق لا يخرج عن طائفة أهل السنة، وإن كانت الطوائف الأخرى تشاركهم في إصابة قدر من الحق يقل ويكثر بحسب اقترابهم مماكان عليه النبي- صلى االله عليه وسلم- وأصحابه الكرام .

ويخلص الكاتب إلى أن المقصود بالافتراق في الحديث، أمران:


الأول: الافتراق الذي يعني مخالفة الأصول الكلية، والأمور الإجماعية التي استقر عليها إجماع السلف؛ ومن الأمور الإجماعية عند الصحابة كل ما يدخل في أصول الدين وأمور الاعتقاد.


الثاني: الافتراق الفعلي الذي يُفضي إلى انشطار الأمة الواحدة إلى طوائف وأحزاب وجماعات بناءً على أسس ومنطلقات وأصول حقيقية؛ وبالتالي وجود مدارس مُتباينة وكيانات متمايزة؛ لها معتقداتها ومواقفها المخصوصة؛ كالخوارج مثلاً.


 ما هي الأدلة على أن أئمة السلف لم يخرجوا عما كان عليه الصحابة في الاعتقاد والعمل ؟

الدليل الأول: الترابط العلمي:

فإن أئمة التابعين كانوا في جملتهم من تلاميذ الصحابة- رضي االله عنهم، فقد تتلمذوا عليهم عشرات السنين، وأخذوا منهم ، وفقهوا طريقتهم في العلم والنظر والعمل، فهم من أخبر الناس على الإطلاق بما كان عليه الصحابة  رضي االله عنهم- في الدين والدنيا، وهم أولى الناس بإصابة ماكانوا عليه من الحق؛ وكذلك من جاء بعدهم من تلاميذهم، ومن جاء بعدهم من أهل الحديث والسُّنة من الفقهاء والعلماء والمحدثين والمُفسرين.

 الدليل الثاني: استقامة المنهج الاستدلالي:

فإن المنهج الذي يعتمد عليه أئمة السلف لا يخرج في مجمله عما كان متبعاً عند الصحابة، فلا يوجد عند أئمة أهل السنة والجماعة أصلٌ كليٌّ يعارضون به النصوص الشرعية وما جاء عن الصحابة- رضي االله عنهم-، وأما من عداهم من الطوائف المشهورة في التاريخ الإسلامي، فإنه ما من طائفة إلا ولديها أصل كلي أو أكثر تحاكم إليه نصوص الشريعة وأقوال الصحابة.

ومن أمثلة هذا المنهج: أنه لا يقبل من أحدٍ قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده ولا مكاشفاته؛ ولذا قالوا: لا قياس مع النص. وقالوا: إذا تعارض العقل مع النقل، قُدِّم النقل على العقل

الدليل الثالث: اكتمال الأدوات والمؤهلات:

فإن أئمة السنة من لدن التابعين إلى أتباعهم ومن جاء بعدهم، يملكون كل الأدوات التي تؤهلهم لإصابة ما كان عليه الصحابة من الحق، فقد اتصفوا بكثرة العلم ودقته، وقوة الذكاء والفطنة وحدته، وعمق الإدراك وانضباطه، وكثرة الاشتغال بما كان عليه الصحابة والتوغل في أرجائه، وبقوة البلاغة والفصاحة وسلامة اللغة، فاجتماع هذه الأوصاف وغيرها يجعل من المستبعد في العقل والواقع أن يكون أئمة السلف ممن فاتهم شيءٌ من الحق الذي كان عليه الصحابة- رضي االله عنهم.


الدليل الرابع: تحقيق التطابق الشرعي:

ويعني تحقيق التطابق بين ما يُقرره أئمة السلف والصحابة رضوان الله عليهم، وهذا الأمر مبثوثٌ في كتب العقائد كما هو معلوم، ومعنى هذا الدليل أن الاستقراء يثبت أن أئمة السلف لم يجمعوا على خلاف ما كان عليه الصحابة- رضي االله عنهم- في أصول الدين ولا فروعه.

أما أصول الدين –المسائل والدلائل العلمية والعملية- فقد كانوا مجمعين عليها، وأما  فروع الدين العلمية والعملية، فقد كان يقع الخلاف بينهم فيها، ولكن لم يكن الحق الذي كان عليه الصحابة خارجاً عن مجموع ما اختلفوا فيه من الأقوال.

  الدليل الخامس: تحقيق التطابق الحالي (الواقعي):

وذلك أن أئمة أهل السنة حققوا أهم الأوصاف الحالية التي تبين اتفاقهم مع الصحابة- رضي االله عنهم-، وهو تحقيق الاجتماع في أصول الدين، ونبذ الفرقة والتحزب، فأئمة أهل السنة من أكثر طوائف الأمة اتفاقاً وإجماعاً على أصول الدين؛ فلو جمعت كل ما جرى على ألسنتهم من العقائد وما نقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، على اختلاف أقطارهم، وتباعد أمصارهم.









الخميس، 27 أغسطس 2020

وضوء المستحاضة لكل صلاة -إعداد: أ. محمد حنونة

وضوء المستحاضة لكل صلاة

إعداد: 

أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

غزَّة -فلسطين


ذهب جمهور السلف، والفقهاء الأربعة إلأى أنَّ المُستحاضة لا يجب عليها  الغسل لشئ من الصلاة إلا عند انقطاع حيضها؛ فتغتسل مرةً واحدةً حينما ينقطع حيضها.


واختلف الفقهاء في وضوء المستحاضة لكلِّ صلاة:

1-فذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية والحنابلة إلى أن المستحاضة تتوضأ وجوباً لكلِّ صلاة؛ واختلفوا في الموجب:

فذهب بعضهم إلى أن الموجب لذلك هو الأثر الذي فيه ذكر زيادة (الوضوء) وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وذهب بعضهم إلى أن موجب ذلك هو القياس، وهو قول الشافعيّ؛ وذلك أن زيادة (الوضوء) ضعيفةٌ عنده؛ لاضطرابها بين الرفع والوقف.

2-وذهب مالكٌ في المشهور عنه، والظاهرية: أنها تتوضأ استحباباً، لا وجوباً إلا بحدثٍ آخر، وهو قول ربيعة، وأيوب، واختاره الشوكاني، وابن عثيمين من المتأخرين.


  • واستدلَّ المالكية بأدلَّةٍ كثيرةٍ، منها:


1-ما رواه مالك في "موطأه": عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّي».

قال المالكية: فأمرها بالغسل والصلاة، ولم يذكر لها الوضوء، فدلَّ ذلك على عدم وجوبه، ولو كان واجباً لأمرها به، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مُمتنعٌ، فدلَّ ذلك على أنه غير واجبٍ.


2-واستدلوا من النظر؛ فقالوا: إن الدمُ الخارج من المستحاضة هو دمُ عرق؛ والدمُ الخارجُ من العروق لا يُوجب الوضوء؛ فهو يُشبه خروج الدم من أيِّ عرقٍ من أيِّ موضعٍ من الجسم؛ فيغسل موضعه ثُم يُصلي.


3-وقالوا: إنكم يا معشر الجمهور توجبون الوضوء على المستحاضة كلما دخلت وقت صلاةٍ مكتوبة، ومعلومٌ أن دخول الوقت وخروجه لا ينقض الوضوء هذا بالاتفاق؛ ومن قال إن الوقت ينقض الوضوء؛ فليس على أثارةٍ من علمٍ ولا عقل.


4-وقالوا: أيها الجماهير إن كنتم تعدُّون خروج دم الاستحاضة حدثاً في الوقتِ، فإنَّها لا تكون حَدثًا بعد خروجه، فخروجُ الوقتِ ليس من نواقِضِ الوضوءِ، ونحن متفقون وإباكم على أنَّه إذا خرج الدَّمُ في الصَّلاةِ أتمَّتها وأجزَأتْها.


5-وقالوا: كيف لكم يا معشر الجمهور أن تُفرقوا بين الدم الخارج من المستحاضة قبل دخول الوقت والشروع في الصلاة وبين الدم الخارج بعد دخول الوقت والشروع في الصلاة، وفي الحقيقة أنَّه لا فَرقَ بين الدَّمِ الذي يخرُجُ من المستحاضةِ قبل الوضوءِ، والدم الذي يخرجُ في أثناء الوُضوءِ، وكذلك الدَّم الخارج بعد الوضوءِ؛ لأنَّ دمَ الاستحاضة إن كان يوجِبُ الوضوءَ؛ فقليلُ ذلك وكثيرُه في أيِّ وقت كان يوجِبُ الوضوءَ، وإن كان لا يوجِبُ الوضوءَ فقليلُ ذلك وكثيرُه في أيِّ وقت كان، لا يوجِبُ الوضوءَ.


  • ويستدلُّ الجمهور، بأدلَّةٍ كثيرةٍ، منها:


1-ما رواه البخاريُّ ومُسلمٌ في "صحيحيهما" وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها؛ قَالَتْ: جَجاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِإني امرأةٌ أُسْتَحَاضُ فلا أطهُر، أفأدع الصلاة؟ قَالَ: «لا، إنما ذكل عرقٌ ولس بحيض، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، ثُمَّ صَلِّي». وَلِلْبُخَارِيِّ: قال: وقال أبي: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حتَّى يجيء ذلك الوقت».

قال الجمهور: وهذه الزيادة فيها إثبات الوضوء لكل صلاة للمُستحاضة.

ولكن يُجيب المالكية ومن وافقهم؛ بأن هذا الحديث رواه مالكٌ في موطأه، وليس فيه هذه الزيادة، وهو -أي الإمام مالكٌ إنما ذهب إلى ما رواه؛ فكأنَّ مالكاً رأى أن هذه الزيادة موقوفةٌ على عروة، ففصل بين المرفوع والموقوف.

وأجاب عليهم الجمهور: إن القول بأن هذه الزيادة من كلام عروة خلاف الظاهر؛ لأنه لما كانت على مشاكلة الكلام الأول؛ لزم كونه من القائل الأول، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان حجةً لنا.


  • مناقشة زيادة هذه اللفظة (ثم توضئيي لكلِّ صلاة):

وقد اختلف العلماء في زيادة (قال) أي هشام بن عروة، (وقال أبي) عروة: (ثم توضأي لكل صلاة حتَّى يجيء ذلك الوقت) فذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الزيادة موقوفةٌ على عروة، وأن رفعها غير محفوظ. 

وهو قول الشَّافعيِّ في "الأم"، والبيهقيِّ في "السنن الكبرى"، وإليه ذهب مُسلمٌ في "صحيحه"؛ حيث أخرجها بدون هذه الزيادة، وهو قول ابن رجب الحنبلي في "شرحه على البخاري"، والزيعلي في "نصب الراية".

 وقال البيهقيُّ في "الكبرى": "وكأنه يعني -مسلماً -ضعَّفه لمخالفته سائر الرواة عن هشام". وزعم النسائيُّ أن (حماد بن زيد) هو الذي تفرَّد بهذه الزيادة عن هشام بن عروة.

ولكن هذه الزيادة ثبتت عن تسعةٍ غير حماد، كلهم يرويها عن هشام بن عروة؛ فهي محفوظةٌ -إن شاء الله -.

وقد فنَّد الحافظ ابن حجر في "الفتح" زعم من قال بأن الزيادة موقوفة على عروة وليست مرفوعة؛ فقال: وفيه نظر! لأنه لو كان كلامه لقال: ثم تتوضأ بصيغة الإخبار، فلما أتى به بصيغة الأمر، شاكل الأمر الذي في المرفوع، وهو قوله (فاغسلي)".

وقال الحافظ أيضاً: "وادعى بعضهم أن هذا مُعلَّقٌ، وليس بصوابٍ بل هو بالإسناد المذكور عند الترمذيّ، وفيه تابع أبو مُعاوية حماداً، ورفعه"؛ فزال بذلك أنه مُعلَّق أو ليس موصولاً.

وتابع حماد بن زيد أيضاً-(في رواية ذكر الوضوء): حماد بن سلمة كما في سنن "الدرامي"، وأبو حمزة السُّكري، وأبو عوانة كلاهما كما في "صحيح ابن حبان"، وأبو حنيفة كما في "المعجم الكبير للطبراني، وشرح معاني الآثار للطحاوي"، والحجاج بن أرطأة كما "المعجم الكبير للطبراني"، ومحمد بن عجلان كما في "السنن الكبير" للبيهقي، ويحيى بن سُليم كما في "الفتح" لابن حجر، ويحيى بن هاشم كما في "التمهيد" لابن عبد البر.

ولكن رواة هذا الحديث الذين لم يذكروا زيادة هذه اللفظة أكثر:

وممن رواه عن عروة بدون هذه الزيادة (خمسةٌ وعشرون راوياً)، وهم: مالكٌ في "موطأه"، وسفيان بن عُيينة ، وزُهير بن معاوية، وحماد بن أسامة كما في "البخاري"، ووكيع بن الجراح، وعبد العزيز بن محمد الدارودي، وجرير بن عبد الله، وعبد الله بن نُمير كما في "صحيح مسلم"، ويحيى بن سعيد القطان كما في "مسند أحمد"، وجعفر بن عون كما في "سنن الدارمي"، ومعمر كما في "مصنف عبد الرزاق"، وابن جريج كما في "مصنف عبد الرزاق"، وعبدة كما في "سنن الترمذي"، ومحمد بن كناسة كما في "سنن البيهقي"، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد،  وأيوب السختياني كما في "مسند أبي عوانة"، وخالد بن الحارث كما في "السنن الكبرى للنسائي"، وسفيان الثوري، وشعبة، وزائدة، ومسلم بن قعنب، وعبد العزيز بن أبي حازم، ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري كما في "المعجم الكبير للطبراني". 

بل إن بعض من روى ذكر الوضوء، جاءت عنه روايات بدون ذكر الوضوء؛ كأبي معاوية رواها عنه "البخاري" و"الترمذي" بذكر الوضوء، ورواه عنه "مسلم"، و"النسائي" بدون ذكر الوضوء، وأبو حنيفة رواها عنه "ابن عبد البر في التمهيد" بدون ذكر الوضوء، ورواها الطبراني في "الكبير" بذكر الوضوء.

والإمام الشافعي رواه في "الأم" عن شيخه مالك بدون ذكر الوضوء، ورواها عنه البيهقي في "المعرفة" بذكر الوضوء موقوفاً على عروة.

وروى مالك في "موطأه" الحديث عن عائشة مرفوعاً بدون ذكر الوضوء، وعن عروة موقوفاً بذكر الوضوء.

ولكن هذه الزيادةُ صحَّت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وزيادة الثقة مقبولة، فالمصيرُ إليها مُتعيِّنٌ؛ فالأظهر هو ما ذهب إليه الجمهور.


2-واستدلوا بما رواه عبد الرزاق في "مصنفه" من طريق عاصم بن سليمان قُمير امرأة مسروق، عن عائشة أنها سئلت عن المستحاضة، فقالت: «تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلاً واحداً، وتتوضأ لكل صلاة».

وذكر ابن عبد البر في "التمهيد": متابعة عامر الشَّعبي، لعاصم بن سليمان، عن قُمير، به. فيتقوى بهذه المتابعة إلى درجة الحُسن.


3-واستدلوا بما رواه أبو داود في "سننه" عن عكرمة: أن أم حبيبة بنت جحش استُحيضت؛ «فأمرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئاً من ذلك توضأت وصلت».

وهذا الحديث سكت عليه أبو داود؛ فو صالحٌ عنده، وقال الخطابيُّ في "معالم السنن": منقطع، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في "مقدمة الأحكام الصغرى"، وقال ابن رجب في "شرحه للبخاري": والظاهر أنه مرسل، وقد يكون آخره موقوفاً على غكرمة"، وقال العظيم آبادي في "غاية المقصود": "فيه إرسالٌ وانقطاع"، وقال الأرناؤوط: "رجاله ثقات، ولكن فيه انقطاع"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" بشواهده.


4-واستدلوا بما رواه الحاكم في "المستدرك" من حديث عثمان بن سعيد القرشي، عن ابن أبي مليكة؛ قال: جاءت خالتي فاطمة بنت أبي حُبيش إلى عائشة؛ فقالت: إني أخاف أن أقع في النار، إني أدعُ الصلاة السنة والسنتين لا أُصلي، فقالت: انتظري حتى يجيء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء فقالت عائشة: هذه فاطمة تقول كذا وكذا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها، ثم لتغتسل في كل يوم غسلاً واحداً، ثم الطهور عند كل صلاة، ولتنظف ولتحتشِ، فإنما هو داءٌ عَرَضَ، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع».

وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وعثمان بن سعيد الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث يُجمع حديثه"، وقال الذهبيُّ في "التلخيص": "كلا، صورته مُرسل". وقال البيهقيُّ في "الخلافيات": فيه عثمان بن سعيد تكلم فيه، وفيه لين، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وتابعه الحجاج بن أرطأة. وعليه يرتقي الحديث إلى مرتبة الحسن.


5-واستدلوا بما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طريق شريك، عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المُستحاضة: «تدعُ الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، والوضوء عند كل صلاة»

وهذا الحديث: ضعيف، ضعفه أبو داود. وقال الترمذيُّ: "هذا حديثٌ تفرَّد به شريك عن أبي اليقظان، وقال البُخاريُّ: لا أعرف اسم جدِّ عديّ، وقال: ذكرتُ له قول يحيى ابن معين: أن اسمه دينار، فلم يعبأ به"، وضعفه أحمد شاكر في "حاشية الترمذي"، وقال: أبو اليقظان: اسمه ععثمان بن عُمير، وهو ضعيفٌ جداً. قال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، كان شعبة لا يرضاه. وجدُّ عدي بن ثابتٍ لم يُعرف، وتضاربت فيه الأقوال جداً. والحديث صححه الإمام الألباني رحمه الله في "الإرواء" لشواهده.


6-واستدلوا بما رواه أبو داود في "سننه"، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت حُبيش، أنها كانت تُستحاض، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا كان دمُ الحيضِ فإنَّه دمٌ أسودُ يُعرَفُ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاةِ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلِّي، فإنما هو عِرْقٌ».

وقال أبو داود: قال ابن المثنى: حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه هكذا، ثم حدثنا به بعدُ حفظاً؛ فقال: عن عروة عن عائشة: أن فاطمة.

ورواه النسائيُّ، وقال مثل قول أبي داود، ثم أعقبه بقوله: "قد روى هذا الحديث غير واحدٍ، ولم يذكر أحدٌ منهم ما ذكر ابن أبي عديّ، والله أعلم (يقصد ذكر الوضوء). وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبيُّ في "التلخيص"، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": مضطرب. وقال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الصغرى": صحيح الإسناد. وقال الحافظ ابن حجر في "إتحاف المهرة": له طريقٌ بمعناه في "المراسيل"،  وحسَّنه في "تخريج مشكاة المصابيح". وحسنه الإمام الألباني في "صحيح أبي داود"، وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج أبي داود": صحيحٌ لغيره.


7-واستدلوا بما رواه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فذكر خبرها، وقال: «ثم اغتسلي، ثم توضئي لكل صلاة وصلي». وزاد كلهم إلا أبا داود «وإن قطر الدم على الحصير»

قال أبو داود: حديث الأعمش عن حبيب ضعيفٌ لا يصح، ودل على ضعف حديث الأعمش عن حبيب أن حفص بن غياث أوقفه عن الأعمش على عائشة، وأنكر حفص أن يكون حديث حبيب مرفوعاً، وأوقفه أيضاً أسباط عن الأعمش على عائشة، قال العظيم آبادي في "عون المعبود": ضعيف. 

ورواه أبو داود عن الأعمش مرفوعاً أوله، وأنكر أن يكون فيه الوضوء عند كل صلاة. ودل على ضعف حديث حبيب أن رواية الزهري عن عروة عن عائشة؛ قالت: فكانت تغتسل لكل صلاة، وأنكر يحيى بن معين هذا الحديث كما في "تهذيب الكمال"، وأعلَّه أبو زُرعة بأن حبيب لم يسمع هذا الحديث من عروة. وقال الترمذيُّ عن البخاري: لم يسمع -يعني حبيب -من عروة بن الزبير شيئاً. وقال أبو داود: روي عن الثوريِّ أنه قال: ما حدثنا حبيبٌ إلا عن عروة المزني.

ويُلخصُ لنا ذلك الحافظ ابن حجر؛ حيثُ يقول في "التلخيص": 

"لم ينسب أبو داود عروة، ونسبه ابن ماجه في روايته فقال: ابن الزبير، وكذا الدارقطني… وقد أخرج البزار وإسحاق بن راهويه هذا الحديث في ترجمة عروة بن الزبير، عن عائشة؛ فإن كان عروة هو المزني فهو مجهول، وإن كان ابن الزبير فالإسناد منقطع؛ لأن حبيب بن أبي ثابت مدلس".

 ومع ذلك؛ فهذا الحديث صححه الإمام الألبانيّ في "الإرواء"، وفي "صحيح أبي داود"، بمتابعة هشام بن عروة لحبيب في الرواية عن عروة، وشعيب الأرناؤوط في "تخريج سنن أبي داود"، دون زيادة: "وإن قطر الدم على الحصير".


8-واستدلوا من القياس؛ بأن خروج النجاسة من أحد السبيلين مؤثر في زوال الطهارة شرعاً، وإذا زالت الطهارة؛ فعند إرادة الصلاة يتوجه عليه خطاب الوضوء، وهو تطهير الأعضاء الأربعة.

وأجاب المالكية: بأن دمها هذا نادرٌ غير مُعتاد لأنه دم عرق؛ فالأولى قياسه على غيره من الدماء، وأنه لا ينقض الوضوء.

وردَّ عليهم الجمهور؛ فقالوا: إن القياس هنا جرى على غير المعتاد، وهو الودي، فكما أن الودي ينقض الوضوء، كذلك دم الاستحاضة ينقض الوضوء؛ وبناءً عليه؛ فتتوضأ لكل صلاةٍ قياساً على أصحاب الأعذار.

وقال الجمهور أيضاً: إن العلة التي أوجبت الوضوء هو خروج الدم من مخرج مخصوص، وليست العلة في الخارج.


والخلاصة

أن جملة ما يستدل به المالكية أن الأحاديث التي فيها ذكر الوضوء مضطربة، وأن الأحاديث التي ليس فيها ذكر الوضوء هي أصحُّ ما جاء في هذا الباب، ولذا قال الإمام ابن عبد البر الأندلسي: " وأما الأحاديث المرفوعة في الوضوء لكل صلاة، فكلها مضطربة، لا تجب بمثلها حجة"، وقال ابن رجب: "والصواب أن هذا من قول عروة". والصحيح أن هذه الزيادة مرفوعة، وقد رواها مرفوعة أيضًا أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححها؛ فالمُتعيِّنُ هو قول الجمهور، والله أعلم



المصادر والمراجع:

-الدرر السنية؛ علوي بن عبد القادر السقاف.

-فقه السُّنة؛ سيد سابق.

-الموسوعة الفقهية الكويتية.

-توضيح الأحكام من بلوغ المرام.

-التلخيص الحبير؛ لابن حجر.

-الأم؛ للشافعي.

-بحر المذهب؛ للروياني.

-التمهيد؛ لابن عبد البر

-روضة المستبين في شرح كتاب التلقين؛ لابن بزيزة..

-النظر فيما علق الشافعي عليه بصحة الأثر.

-الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني.

-المحيط البرهاني في الفقه النعماني؛ لبرهان الدين البُخاري.

-التنبيه على مشكلات الهداية؛ لابن أبي العز الحنفي.

-الجامع لعلوم الإمام أحمد.

- كلمات السداد عَلى مَتنِ الزّاد.

-منية الساجد بشرح كفاية العابد.