أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 25 يوليو 2020

حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام


حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور: عامر حسن صبري
أستاذ الحديث النبوي وعلومه
بجامعة الإمارات العربية المتحدة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ ما أكثر ما يُثيره المتكلمون حول السُّنة النبويَّة من عجاج الشُّبه، وتخرُّصات الظنون، فالثقة قد ينسى، والفطن قد يغفل، والحافظ قد يخطئ، كل ذلك إيرادات جدليَّة، تُغفل أن علم الرواية علمٌ قائمٌ بنفسه، له أصوله المنهجيَّة، وموازينه الدقيقة، التي لم تُعرف عند أمةٍ أخرى من الأمم...
ولم يكن أهل الحديث في غفلةٍ عن احتمالات الغلط، أو ضعف الرواة، أو حتى وجود الكذابين والوضاعين، كيف وهم الذين وضعوا لذلك أصولاً، وجمعوا أخبار الرواة، وتكلموا عن أحوالهم، كلٌّ بما يليق به، لكن كما أن لكلِّ علمٍ رجاله، ولكلِّ فنٍّ أهله، فهكذا الحديث: له أهله الذين لا يُحابون فيه آباءهم، ولا أبناءهم …
كما أن فتح الباب للتخرُّصات والظنون من غير أصولٍ منهجية، ولا قواعد علمية، يعني -في التحليل الأخير -أننا تركنا العلم ومنهاجه، وأسقطنا باب الرواية من أساسه، وفتحنا الباب لحوارات الطُّرشان، وعبث الصبيان !.
وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك..
وإذا وقف المرء على هذا الذي من شأنهم، وعرف حالهم، وصدق خبرهم، وورعهم، وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ووروه..
ولا يجوز إخضاع هذا الباب إلى قضايا التجويز العقلية، أو استخدامها في إبطال المرويات وأخبار الثقات؛ إذ احتمال الخطأ والوهم لا يُستمد من قضايا التجويز العقلية، بل نعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك ثبوته.. ولا يبطل الخبر بإنكار من أنكره بمجرد الهوى والتخرُّص ...
وأنا أقف هنا على كُتيِّبٍ لا يتجاوز الأربعين صحيفة، ولكنه جمع شتات الأمر إجمالاً، فجزى الله كاتبه خيير الجزاء… ولي أن أُعرِّج على أهم النقاط في هذا المؤلَّف؛ حيث:
1- ابتدأ المؤلف كتابه ببيان علاقة السُّنة بالقرآن الكريم، من حيث: تفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، بل وانفرادها بتشريعات خاصَّة.
2- ومن ثمَّ بيَّن مكانة السنة من علوم الدين، ووجوب امتثالها، والتحاكم إليها.
3- وتحدث -أيضاً -عن خدمة العلماء للسنة النبوية المُشرَّفة، وما وضعوه من علوم المصطلح وعلم الجرح والتعديل، الذي يُفيد في قبول الأخبار أو ردِّها، والتميز بين الحديث الصحيح وغيره.
4- وتحدث عن طائفةٍ من علوم المصطلح؛ وهي: تقسيم الحديث إلى (آحاد) و(متواتر)، وهي قسمة من حيث عدد الرواة في حلقات الإسناد، وبيَّن مذاهب الأئمة في قبول خبر الآحاد في الفروع والعقائد، وبيَّن أن مذهب المُحقِّقين من سلف هذه الأمة، وإجماعها منعقدٌ على قبول خبر الواحد إذا ثبتت صحته. 

وأنقل هنا أهم ما ورد في الكتاب...

تعريف الحديث المتواتر، هو: 
ما رواه جمعٌ تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، ويكون مستند خبرهم الحسُّ والمشاهدة.

والمتواتر قسمان:
1- لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه. 
ومن أمثلته، حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وقد رواه أكثر من ثمانيةٍ وستين من الصحابة رضوان الله عليهم.

2- معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه. 
ومن أمثلته: أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أكثرُ من مائة حديثٍ فيه أنه صلى الله عيله وسلم رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة لم تتواتر بمفردها.

ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أن الحديث المتواتر يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، وهذا عند عامة المسلمين خلافاً للمعتزلة وبعض الفرق الضَّالة، ولذا لا يصح إنكار الحديث المتواتر، ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعاً.

تعريف حديث الآحاد، هو: 
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.

وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
1- الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"؛ فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.

2- العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في طبقة أو أكثر من طبقات الإسناد.
ومثاله: ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"؛ فقد رواه من الصحابة: أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.

3- المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان"، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.

ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:

المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
وهو مذهب داود الظاهري، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، ورواية عن أحمد، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب "الرسالة"، و"اختلاف مالك"، و"جماع العلم"، ونصره ابن حزم في "الإحكام"، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان في كتابه "الدين الخالص"، والعلامة أحمد شاكر في "الباعث الحثيث"، والدكتور صبحي الصالح في كتابه "علوم الحديث"، وهو الذي اختاره المؤلف الدكتور عامر صبري.

المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن، وإلا أفاد الظن، مع كونه حُجَّةٌ يجبُ العمل بها.
ومن هذه القرائن أن يُخرجه الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما، أو يكون مسلسلاً بالأئمة الحُفاظ، وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول وكثير من متكلمي الأشعرية، وعامة الفقهاء من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم، وهو اختيار ابن حجر في "النزهة"، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفراييني، وابن فورك، وأبو عبد الله الحميدي، وأبو الفضل ابن طاهر، وأبو عمرو بن الصلاح، وغيرهم.

المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم في الأحكام العملية. 
وهو مذهب ابن عبد البر المالكي، والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن الأثير.

والحقُّ: أن الخلاف بين أصحاب المذهب الثالث والثاني هو خلافٌ نظريٌّ ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.

وفي إطار الردِّ على المذهبن الأخيرين: ينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر لم يثبت من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم بذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً !.

المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به.
وهو مذهب طائفةٍ من المتأخرين، كالشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمود شلتوت، ويحتجُّ هؤلاء بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي.

وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة المتواترة الآمرة بطاعة الله وطاعة رسوله، وأما النهي عن اتباع الظن، فالمقصود هو النهي عن اتباع الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل. وبهذا يتبين أن قول بعضهم: الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، هي عبارة خاطئة تماماً...

المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
ولا شك أن هذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث.

القول الحق في قبول خبر الآحاد:
 إن الحق الذي ندينُ الله به: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
ولا شك أن نسبة أحاديث الآحاد إلى المتواترة (99 %)، وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام" وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، ومعلومٌ أن كل حديث يُعمل به لا بُدَّ أن يكون للقلب حظُّ اعتقادٍ فيه، بل إن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية..

وأما الأدلة باختصار على حجية خبر الآحاد في العلم والعمل؛ فهي:
1- قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 122): والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة.
2-قوله سبحانه:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6): فإذا كان الفاسق لا يُقبل خبره، فقبول خبر العدل من باب أولى.
3-ومن السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار، لدعوتهم إلى دين الإسلام، فقاموا بذلك وهم فرادى.
والحمد لله رب العالمين..

الاثنين، 20 يوليو 2020

معنى قول المطلبي إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي


معنى قول المطلبي إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي

تأليف: تقيِّ الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السُّبكي

(683 - 756 هـ)
تحقيق وتخريج: كيلاني محمد خليفة
مؤسسة قرطبة

تمهيد/  هذه الرسالة هي تفسيرٌ لقول الإمام المطلبيّ "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، للإمام تقيِّ الدين السُّبكي، وفيها بيان أن هذا أمرٌ ذخره الله للإمام الشافعيِّ وخصَّه به، فلم يبلغنا ذلك عن غيره من الأئمة أنه وُفِّق لمثل هذه العبارة ومعناها.. وإن كان الأئمة في الجملة يقولون بها، فهي إذن قولٌ لبقيَّة أئمة المذاهب إجمالاً، وعند التدقيق نجدُ أنَّ الشافعيَّ رحمه الله عمل بهذه المقولة، وكانت أصلاً يُعمل به في مذهبه رحمه الله، ورضي عنه.
وموضوع هذه الرسالة هو جواب الشيخ تقيِّ الدين السُّبكي على سؤال ابنه تاج الدين، عن قول الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي"، قال تقي الدين: "وهو قولٌ مشهورٌ عنه، لم يختلف الناس في أنه قاله، ورُوي عنه معناه أيضاً بألفاظٍ مختلفة".
وقد بدأ الإمام تقيُّ الدين كتابه بذكر أقوال الإمام الشافعيِّ التي تؤكد اتباعه للسُّنن والآثار، وأن مذهبه هو ما جاء به الحديث إن صحَّ، وختم ذلك بقوله /ص: 88/: "وللشافعيِّ رضي الله عنه كثيرٌ من هذا، وقد روينا منها بأسانيد شئياً كثيراً، لم نر التطويل بذكرها ولا بذكر الأسانيد".
ثم ذكر رحمه الله في الفصل الذي بعده: بعض من حُكي عنه أنه أفتى بالحديث في بعض المسائل في المذهب نقلاً عن أبي عمرو بن الصلاح، مثل: أبي يعقوب البويطي، وأبي القاسم الداركي، وغيرهما من أئمة الشافعية رحمهم الله تعالى.
ثم أعقبه في الفصل الذي يليه: بذكر أقوال أئمة المذاهب المتبوعين وعنايتهم بالسنة واتباعها، وتركهم آراء الرجال إذا خالفت السنة الصحيحة، المعتضدة بأصولهم المعمول بها. فذكر الإمام مالك، وأبي حنيفة، ولم يذكر الإمام أحمد؛ لأن شُهرة أخذه بالسُّنة والعمل بالحديث أشهر من أن يُذكر.
ثُمَّ ذكر رحمه الله أن بناء الشَّافعيِّ لمذهبه هو على الأخذ بالكتاب والسُّنة أصالةً، وذكر بعد ذلك أنه لا يُشنَّعُ على الأئمة بمخالفتهم بعض الحديث؛ لأنهم لم يقصدوا معارضة الحديث ابتداءً، وإنما ثبت عندهم ما يُخالف الحديث -لاسيما أحاديث الآحاد -فعملوا بما ثبت عندهم؛ كعمل أهل المدينة عند مالك، وعموم البلوى عند أبي حنيفة، وذكر التقيُّ السبكي بعض الأمثلة على ذلك في رسالته هذه.

ويُمكننا تلخيص ما في الرسالة كما يلي:
معنى قول الشافعيِّ "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي"، 
أولاً: إذا صحَّ الحديث ولم يأخذ به لعدم بلوغه الإمام، ولم يُوجد من نصوص الإمام أو أصوله ما يُعارضه، فهو مذهبٌ له.
ثانياً: إذا صحَّ الحديث ولم يأخذ به، وجاء نصٌّ عن الإمام يُخالفه، أو كان مُعارضاً لأصول الإمام وقواعد المذهب، وكان هذا المُعارض مُعتبراً عند أهل النظر والاجتهاد، فلا يُعد هذا الحديث مذهباً للإمام.
ثالثاً: إذ علَّق الإمام الأخذ بالحديث على ثبوته، وقد صحَّ الحديث؛ فقال: "لو ثبت لقلتُ به"، والصحيح أن من كانت له أهلية الاجتهاد والنظر في الأدلة من طلبة العلم؛ فله أن ينسبه للإمام، ويكون مذهباً له.

هذا مع أنَّ أبا شامة والنوويُّ تشدَّدا في هذا وحصرا النظر في الأدلة على المجتهد فقط، وهذا غلوٌ، بينما توسط الإمام أبي عمرو ابن الصلاح وحكى أعدل الأقوال في هذه القضية، وهو الذي اختاره السُّبكيُّ رحمه الله، وهو أن كل من تمكَّن من النظر في الأدلة من طلبة العلم -وإن لم يصل إلى درجة الاجتهاد؛ فلهم أن يأخذوا بالحديث ويُعملوه؛ سيما وأن وسائل الاجتهاد في عصرنا أيسر ما تكون.

وهذا التخصيص بالنظر لا بُدَّ أن يكون في طلبة العلم ممن لهم درايةٌ واطلاعٌ واسعٌ في المذهب، ولهم دُربةٌ في تخريج المسائل وتقعيدها، وأما العامة والمقلدون فيخرجون من هذا الباب والموضوع أصلاً؛ لأنهم ليسوا أهلاً للنظر في الأدلة.

أما أسباب عدم الأخذ ببعض الحديث عند الإمام الشافعيِّ مع علمه بها، أمورٌ منها:
1-الطعن في إسناد الحديث، فقد يكون هذا الحديث ضعيفاً عند الإمام أو لم يصح، وقد يكون شاذاً، أو فيه علةٌ تمنع القول به.
2-توجيهٌ مُعتبر ثبت عند الإمام مُعارضته للحديث أو ردُّه، وهذا المُعارض ثبت بدليلٍ آخر، أو شهدت له الأصول العامة للشرع.
3-ثبوت مُعارضٍ آخر صحيح يمنع من الأخذ بهذا الحديث، وقد يكون المُعارض يُخصص العام، أو يُقيد المطلق، وهكذا.

وينبغي الإشارة هنا: إلى أنه لم يخلُ مذهبٌ من المذاهب الأربعة من الأخذ بالحديث الضعيف والعمل به، ولكن الحقَّ الذي نلتزمه وبينه الإمام السُّبكي أن أقرب المذاهب للحديث هو مذهب الشَّافعية، وأصول الحنابلة وطريقتهم أكثرها موافقٌ للشافعية..

وإذا أردنا بيان أهمية هذا المؤلَّف؛ فيُمكننا اختصار ذلك في أمورٍ منها:
1-بيان حُجيَّة الأخذ بالسُّنة عند الإمام الشَّافعي، لا سيما خبر الواحد.
2-بيان علو كعب الشافعيَّة، ومنزلة الإمام الشافعي من بقية أئمة المذاهب، وأنه أقرب المذاهب إلى السُّنة.
3-أن الإمام الشَّافعيّ رحمه الله جمع بين الفقه والحديث، .
4-بيان تعظيم الشَّافعيّ لسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعظيم استمساكه بها.
5-بيان الضابط والمعيار الذي يُوضح قول الإمام الشافعيّ: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي".
6-الاعتذار للإمام الشافعي في تركه لبعض ما صحَّ من الحديث.

7-بيان السبب الذي ترك لأجله الإمام الشافعي بعض الحديث، هل هو: للتأويل، أو للتوجيه، أو للتضعيف، أو للنسخ.

ولا يعني هذا الاستغناء عن بقيَّة المذاهب الإسلامية الأخرى، بل إن هناك بعض المسائل التي لا بُد فيها من العمل بآراء المذاهب الأخرى تيسيراً على الناس، ومراعاةً لمصالح الأمة، وهو مقصدٌ شرعيٌّ شريف.

وأختم كلامي هنا: أن الإمام التقيّ السُّبكي له هِناتٌ في بعض أبواب العقيدة، سيما وأنه يُجيز الاستغاثة بالمقبورين وسؤالهم مما نعدُّه شركاً، وبدعةً، وذلك لا يقدح فيه؛ لأنه فعل ذلك متأوِّلاً، وهو مُخطئٌ في هذا الباب، ويغفر الله لنا وله، ونسأل الله سبحانه أن يرحمه ويُنزل على روحه شآبيب الرحمة والغفران.

وقد طُبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ على البقاعي، وبيَّن في تحقيقه عدداً من المناهج العلميَّة المتنوّعة التي استعملها السُّبكيُّ، مثل المنهج: الوصفيّ، والمقارن، والجدلي، والإستقرائي، وغير ذلك وقدم للكتاب بدراسة علمية، بيَّن فيها: أهمية البحث وسبب إختياره للكتاب، والمناهج المستعملة فيه، ولم أظفر بهذه النُّسخة، لذا اعتمدتُ على طبعة مؤسسة قرطبة.





الثلاثاء، 14 يوليو 2020

فصلٌ فيما جاء عن الخضر عند الفقهاء الشَّافعية

فصلٌ فيما جاء عن الخضر عند الفقهاء الشَّافعية

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ لا شكَّ أن التراث الفقهي للسادة الشافعية لم يخلُ من ذكر نبيِّ الله "الخضر" عليه السلام، لا سيما في باب "التعزية"، و"البكاء على الميت"، فجميعهم متوافرون على ذكره في هذا الباب تقريباً، وقد يذكرونه في باب "الأطعمة"، و"الوصيَّة"، و"التحريق"، ويذكره بعضهم عند ذكر "الصحابي"، وفي غيره من الأبواب.

• وذهب جماهير الشَّافعيَّة إلى أن الخضر نبيٌّ من الأنبياء، وشذَّ من قال بولايته. ونصَّ على ذلك الإمام أبو عمرو بن الصلاح، والإمام النوويّ، وابن حجر، وقليوبي، وابن قاضي شهبة، والبجيرمي، وشكَّ الماورديُّ في "الحاوي".

• واختلفوا في حياته: 

١- فأثبت حياته جماعةٌ: كالإمام أبي عمرو بن الصلاح، ونسبه إلى جماهير الخاصة من العلماء، بينما نسب النوويُّ ذلك  إلى جماهير العلماء، وعمدتهم في ذلك أحاديث واهية أو باطلة، وفي قول الإمام النووي نظر كما سيأتي.

٢- وشكَّ بعضهم في حياته ولم يجزم؛ كالإمام ابن قاضي شهبة، والدُّميري، وغيرهما.

٣- بينما نفى حياته جماعةٌ من مُحقِّقي الشَّافعية؛ كالإمام الحافظ ابن حجر الذي ناقش أدلة القائلين بحياة الخضر وفندها في كتابه "الزهر النضر في أخبار الخضر"، والإمام الحافظ ابن كثير، والسَّخاويُّ، وغيرهما، ويُلاحظ أن الإمام ابن حجر نسب القول بحياة الخضر إلى العوام دون العلماء. 

واستدلُّوا لموته بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إِن على رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن على ظهر الأَرْض مِمَّن هُوَ على أَحَد" (رواه البخاري)، وبما رواه (مسلم) عن جابرٍ أن النبيَّ  صلى الله عليه وسلم، قال: "مَا من نفس منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة وَهِي يَوْمئِذٍ حَيَّة".

وقال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت 643 هـ) في "فتاويه" (1/ 185)، وسئل عن الخضر عليه السلام هل ورد أنه حي إلى الوقت المعلوم ؟ وهل هو نبي أو ولي أم لا ؟

فأجاب رضي الله عنه: وأما الخضر عليه السلام فهو من الأحياء عند جماهير الخاصة من العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكار ذلك بعض أهل الحديث وهو صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا والنبيين وآلهم وسلم نبيٌّ، واختلفوا في كونه مرسلاً والله أعلم.

وقال النوويُّ في "شرح مسلم" (15/ 135): "جمهور العلماء على أنه حيٌّ موجودٌ بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من ان يستر"!!.

* ولا شك أن الاستدلال بالحكايات والقصص ضعيفٌ جداً، إلا إذا كان النوويُّ يُخبر عن نفسه أنَّه رآه، فهذا له حكمٌ آخر ذكره ابن تيمية وسيأتي، وهو رحمه الله لم يخبر أنه رآه أو التقى به.

وقال النوويُّ في "شرح مسلم" (15/ 136): وقال الثعلبي المفسر: الخضر نبيٌّ مُعَمَّر على جميع الأقوال، محجوبٌ عن الأبصار -يعني عن أبصار أكثر الناس -قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن ! وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال، في أن الخضر كان من زمن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أو بعده بقليل أو بكثير كنية الخضر أبو العباس واسمه بليا ... بن ملكان ..، وقيل كليان قال بن قتيبة في المعارف. قال وهب بن منبه اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.


* وأنت ترى ما في نقل الثعلبيِّ حول الخضر من الاضطراب الكبير، وعليه فقوله "مُعمَّر" غيرُ معتبر، لأنه خبر مرسل معلق لا أصل له من الصحة. 

 * وإذا تأملنا عبارتي النووي وابن الصلاح، نجد أن عبارة الإمام ابن الصلاح أدقُّ من عبارة الإمام النوويِّ رحمه الله، مع أن كليهما كان في عصرٍ واحد، والفرق بين وفاتيهما ثلاثة عقود، ولكن ابن الصلاح ينسب القول بحياة الخضر إلى جماهير الخاصة من العلماء، وهم المشتغلون بعلوم التزكية وآداب النفوس -كما قد يُفهم من ظاهر العبارة، بينما يُعمِّمُ النوويُّ ذلك إلى جماهير أهل العلم والصالحين ليشمل النوعين؛ فكأنه اعتبرهما شيئاً واحداً، ولعلَّه عني بجماهير العلماء: الخاصة منهم -أهل التزكية.

وقد يُقال: إن النوويَّ رحمه الله اعتبر في نسبة القول للجماهير كثرة رواة أحاديث الخضر؛ فنسب إليهم القول بحياته، فاعتدَّ بنقلهم -مع ضعف الروايات الشديد -ولم يعتدَّ بقول من نفى من غيرهم، وترى أيضاً أن عمدته في هذا الباب حكايات وقصص في رؤية الخضر والتي كثرت في زمانه عن المتصوفة ومشائخهم، بالإضافة إلى تأويل حديث "مائة سنة" أو جعله من العام المخصوص، فكأنه أنزل اشتهار تلك القصص والحكايات منزلة قول الجماهير في الجملة، بينما نجد الإمام ابن حجر ينسب هذا الاعتقاد إلى العوام، وقوله أحظُّ وأولى.

وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر في "الزهر النضر" (ص: 162): "وَالَّذِي تميل إِلَيْهِ النَّفس، من حَيْثُ الْأَدِلَّة القوية. خلاف مَا يَعْتَقِدهُ الْعَوام، من اسْتِمْرَار حَيَاته، وَلَكِن رُبمَا عرضت شُبْهَة من جِهَة كَثْرَة الناقلين للْأَخْبَار الدَّالَّة على استمراره..".

والحاصل من ذلك: أن الخضر قد مات وليس بموجود، والذي يزعم أنه رآه إما أنه كاذب، وإما أن الذي قال إنه الخضر قد كذب عليه وليس بالخضر، وإنما هو شيطان من شياطين الإنس أو الجن.

ومن المناسب هنا ذكر كلام شيخ الإسلام الحنبليّ في إطار تأكيد معنى المسألة؛ فقد قال رحمه الله في "المجموع" (1/ 249): "أما الصحابة فلم يعرف فيهم - ولله الحمد - من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة... ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بين هذا في غير هذا الموضع".

ومن حصلت له رؤية الخضر وسمع كلامه، يُحمل على ما قاله شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (1/ 157): "ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين؛ فيرونهم بأعينهم، ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان.. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض".

وننقلُ هنا ما ذكره الفقهاء الشَّافعيَّة عن الخضر عليه السلام:

1- وقال الشافعي في "الأم" (4/ 272)، عن ابن عباس أنه كتب إلى "نجدة" أيام قتال الحرورية؛ فقال له: وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل الولدان فلا تقتلهم إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الصبي الذي قتله فتميز بين المؤمن والكافر فتقتل الكافر وتدع المؤمن !.

قلتُ (مُحمَّد): وهذا إن صحَّ عن ابن عباس، فمراده الإنكار على من يقتل الولدان؛ لأنه لا يعلم إيمانهم من كفرهم  إلا بوحي.

وهو ما يُوضحه الإمام النوويُّ في "شرح مسلم" (12/ 192)؛ فقال: ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبياً؛ فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله تعالى له على التعيين -كما قال في آخر القصة {وما فعلته عن أمري}؛ فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، ومعلومٌ أنه لا علم له بذلك، فلا يجوز له القتل...وقال:  ومعلوم أنك أنت لا تعلم ذلك فلا تقتل صبياً.

2- وجاء في الأم (1/ 317): أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي (ت 204 هـ)، قال: أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر: عن جعفر بن محمد: عن أبيه: عن جده (علي بن أبي طالب): قال "لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل ما فات فبالله فثقوا، وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب".

وهذا الأثر: ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 332)، نفلاً عن الشافعي في "مسنده": أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد به نحوه". 

وقال ابن كثير: شيخ الشافعي: القاسم العمري متروك. قال أحمد بن حنبل وابن معين: يكذب، وزاد أحمد: "ويضع الحديث"، ثُم هو مرسل، لا يُعتمد عليه ههنا، والله أعلم". ثم قال: "وقد روي من وجهٍ آخر ضعيف،  عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن علي. ولا يصح".

وقد عدَّه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 435) من الواهيات، وإسناده مجهول. وانظر أيضاً "تفسير القرطبي" (11/ 44) نقلاً عن التمهيد لابن عبد البر، وانظر "زهر النضر" لابن حجر (ص 154 -).

* واستحبَّ الإمام الشافعيُّ هذا الدُّعاء في "التعزية"، واستحبَّ هذا الدُّعاء الإمام أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) في "المهذب" (1/ 257). وذكره الإمام ابن الرفعة (ت 710 هـ) في "كفاية النبيه" (5/ 174)، وذكر استحباب الإمام لذلك الدُّعاء، ثم قال: "قال ابن الصباغ وأبو الطيب: ويُقال: إن قائله الخضر، عليه السلام"، وذكرمثله البجيرمي في "حاشيته" (2/ 306)، وقال ابن الأصير الجزري (ت 606 هـ) في  "شرح مسند الشافعي" (2/ 420) "ويقال: إنه الخضر عليه السلام".

*وأنت ترى أن ابن الرفعة وغيره يُضعفون نسبة الكلام للخضر، واتفقوا على أن الإمام الشَّافعيُّ لم يذكر  الخضر في روايته، لا في كتابه "الأم"، ولا في غيره، وأما نسبة بعض المتأخرين ذلك الصوت للخِضر عن الإمام فلا يُعرف عنه، ولم يُنقل أنه قاله، وكأنه لم يرَى تسميته، أو أنه لم تثبت نسبته للخضر، ولعل من أثبت اسم الخضر حمله على بعض الأحاديث الضعيفة.

وقال ابن علان الشافعي في "دليل الفالحين" (1/ 178) شرحاً لقوله: (فإن المصاب من حرم الثواب): "وأنه ينبغي للإنسان ألا يجمع على نفسه بين ضررين عظيمين: الأذى الحاصل وتفويت ثوابه".

وزاد ابن الرفعة (ت 710 هـ) في "كفاية النبيه" (5/ 175) على رواية الإمام؛ فقال: فلما خرج فقال عليُّ- كرم الله وجهه-: اطلبوه، فطلبوه فلم يجدوه، فقال علي: جاءكم أخوكم الخضر يعزيكم بنبيكم، - صلى الله عليه وسلم -.

3- وقال الماوردي (ت 450 هـ) "الحاوي الكبير" (3/ 65): وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعنا هاتفاً في البيت يسمع صوته، ولا يرى شخصه، ألا إن في الله عزاءً عن كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله ثقوا، وعليه توكلوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فقيل: هذا الخضر جاء يعزي زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -.

* وكذلك هنا، نجد أن الماوردي يُضعف نسبة الكلام للخضر تبعاً للإمام، وغيره من الأصحاب.

4- وقال البجيرمي (ت 1221هـ) في "حاشيته على الخطيب" (1/ 41) عند تفسيره معنى الصحابي: "قال بعضهم: والظاهر أن الخضر - عليه السلام - اجتمع به -أي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم -في الأرض على الوجه المعتاد فراجعه... فليس هذا من الاجتماع المعروف بل من خوارق العادات".

* ولو ثبت هذا اللقاء لنُقل عن أصحابه وزواجه، ولكنه لم ينقل، فلا يثبت.

5- وأجاب النووي في "شرح مسلم" (16/ 90) عن حديث جابر في مسلم: "ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة"؛ فقال: "وقد احتج بهذه الأحاديث من شذَّ من المحدثين؛ فقال: الخضر عليه السلام ميت والجمهور على حياته كما سبق... ويتأولون  -يعني الجمهور -هذه الأحاديث على أنه كان على البحر لا على الأرض، أو أنها عام مخصوص، فيكون معنى الحديث أنه لا يبقى ممن ترونه أو تعرفونه".

* قلت: والمصير إلى التاويل لوجود الأحاديث الواهية، والحكايات الباطلة فيه تعسف، سيما في حديث صحيح ظاهر المعنى، وما ذهبوا إليه من التأويلات فيها تكلف، ولا يخلو شيء منها من قادح،، وقد ردها ابن حجر في "الفتح"، و"الزهر النضر"، وعليه: فيضعف قول النووي، ونسبته إلى الجمهور ليس بشيء.

* وزعم بعضهم أنَّ الخضر هو الذي يخرج للدجال، فيشقه الدجال نصفين !!!

6- وقال ابن حجر في "الفتح" (1/ 277): في قصة الدجال: "فيخرج إليه رجل هو خير الناس يومئذ"، ذكر أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الرازي، عن مسلم -صاحب الصحيح-: أنه يُقال إنه الخضر، وكذا حكاه معمرٌ وجماعة، وهذا إنما يتم على رأي من يدعي بقاء الخضر. والذي جزم به البخاري وإبراهيم الحربي وآخرون من محققي الحديث خلاف ذلك.

يعني أن هؤلاء الكبار جزموا بأن الخضر مات، وهم أعلى عينا، وأبلغ فقها من النووي وابن الصلاح، ولذلك نسب ابن حجر إلى المحققين من أهل الحديث..

7- وقال البجيرمي (ت 1221هـ) في "حاشيته على الخطيب" (1/ 400) في قصة الدجَّال: "فقد ورد أنه -يعني الدجال -يقتل الخضر بالسيف نصفين ويمشي بالحمار بينهما ثم يحييه، ويقول له: ألم تزدد بي إيمانا: فيقول له: ما ازددت إلا تكذيباً لك وتصديقاً بمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أخبر بذلك".

* وفي هذا النص تصريحٌ باسمه.

8- وقال ابن حجر (ت 852 هـ) في "الفتح" (1/ 169): "ويقال إن اسم الخضر بليا بموحدة ولام ساكنة ثم تحتانية، وسيأتي في أحاديث الأنبياء النقل عن سبب تلقيبه بالخضر وسيأتي نقل الخلاف في نسبه وهل هو رسول أو نبي فقط أو ملك بفتح اللام أو ولي فقط وهل هو باق أو مات ؟".

9- وقال ابن حجر في "الفتح" (1/ 220، 221): وأوضح ما يستدل به على نبوة الخضر قوله {وما فعلته عن أمري} وينبغي اعتقاد كونه نبيا؛ لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي حاشا وكلا... وفيه دليلٌ على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله...  والخضر وإن كان نبياً فليس برسول باتفاق والرسول أفضل من نبي ليس برسول ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم، وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي وهو أمر مقطوع به عقلا ونقلاً، والصائر إلى خلافه كافر؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة.. 

10- وقال الماوردي (ت 450 هـ) في "الحاوي الكبير" (4/ 142): روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت في الطواف فلقيني شاب نظيف الثوب حسن الوجه فقال: يا علي ألا أعلمك دعاء تدعو به قلت: بلى. قال: قل " يا من لا يشغله سمع عن سمع يا من لا يغلطه السائلون يا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أسألك يد عفوك وحلاوة رحمتك " قال علي: فقلتها ثم أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فقال: " يا علي ذاك الخضر". 

* وهذا الحديث: اتفق الحفاظ ابن حجر، وابن كثير، وابن الجوزي، على تضعيفه، وقال الذهبي: إسناده مظلم !.

11- قال النوويُّ (ت 676 هـ) في "المجموع" (5/ 305):  "ويستحب أن يعزي بتعزية الخضر عليه السلام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم… وهو أن يقول: إن في الله سبحانه وتعالي عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت؛ فبالله ثقوا وإياه فارجوا فان المصاب من حرم الثواب… (وأما) قصة تعزية الخضر عليه السلام فرواها الشافعي في الأم بإسناد ضعيف، إلا أنه لم يقل الخضر عليه السلام، بل سمعوا قائلاً يقول؛ فذكر هذه التعزية. 

ولم يذكر الشافعي الخضر عليه السلام، وإنما ذكره أصحابنا وغيرهم. 

وفيه دليل منهم لاختيارهم ما هو المختار، وترجيح ما هو الصواب، وهو أن الخضر عليه السلام حيٌّ باقٍ، وهذا قول أكثر العلماء. 

وقال بعض المحدثين ليس هو حيَّاً، 

واختلفوا في حاله؛ فقال كثيرون: كان نبياً لا رسولاً، وقال آخرون كان نبياً رسولاً، وقال آخرون: كان ولياً، وقيل كان ملكاً من الملائكة وهذا غلط، وقد أوضحت اسمه وحاله والاختلاف وما يتعلق به في تهذيب الأسماء واللغات".

* وقد سبق توضيح مقصود النووي بأكثر العلماء، وأنه يجعل من جملتهم العوام، والصالحين، ومبتدعة الصوفية، و خواص العلماء أي بعضهم.

12- وقال العلامة يحيى العمراني في "البيان" (3/ 117 -118): وأما لفظ التعزية: فقال الشافعي: "فإن كان يعزي مسلمًا بمسلم، فأحب أن يعزي بتعزية الخضر أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك: أنه لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وجاءت التعزية ... سمعوا صوتًا، ولا يرون أحدًا، يقول: السلام عليكم، أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب".

13- وقال الرُّوياني في "بحر المذهب" (2/ 596): ويُقال: إنه كان الخضر - صلى الله عليه وسلم - جاء يعزي زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل قرابته، فسمعوا صوته ولم يروا شخصه يعزي الناس بعضهم بعضاً. قال الشافعي: فأحب أن يقول: قائل هذا.

* قلتُ (مُحمَّد): ولم يختلفوا في نقل هذا الدُّعاء عن الإمام، وأنه استحسنه، ومع ذلك فلم يُسمَّي قائله، ولعلَّه كان يرى أن الخضر مات، وهو الظاهر من عبارته.

14- وقال الدُّميري (ت 808 هـ) في "النجم الوهاج" (3/ 86): ويستحب أن يبدأ قبله بما ورد من تعزية الخضر أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فاتت، فبالله فتقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.

* ونسبة المتأخرين دعاء التعزية للخضر، إنما هو لاشتهار ذلك بينهم، في عصرهم، وليس انه قاله حقيقة ، فإنه لم تثبت حياته.

15- وقال الدميريُّ-أيضاً -(6/ 339) قال الشيخ عزالدين: ويجوز تعييب مال اليتيم (اتلاف بعضه) والسفيه والمجنون لحفظ ما خيف عليه الغصب؛ لقصة الخضر عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومثله الخطيب في "مغني المحتاج" (3/ 152، 4/ 124) (ت 977 هـ).

16- وقال الماوردي (ت 450 هـ) في "الحاوي الكبير" (12/ 378): "إن الخضر إما نبي مبعوث أو ولي مخصوص على حسب الاختلاف في نبوته، قد اطلع على مصالح البواطن على ما خالف ظواهرها، ولذلك أنكرها موسى عليه، ولو ساغ في الظاهر ما فعله الخضر لم ينكره موسى؛ فكان في إنكار موسى في الظاهر لنا دليل، وإن كان في فعل الخضر لابن أبي ليلى في الباطن دليل (أي: لا يضمن ما أتلفه)، والحكم في الشرع معتبر بالظاهر دون الباطن فكان دليلنا من الآية أحجُّ". ونقله الرُّوياني (ت 502 هـ)، عن الماوردي في "بحر المذهب" (12/ 346).

* قلتُ (محمد): وأنت ترى أن القول بنبوَّة الخضر في المذهب أقوى وأكثر من القول بولايته المجردة، والنبوَّة أرفع درجةً من الولاية، فتشمل الولاية وغيرها، ونبوة الخضر هو ما رجَّحه النوويُّ والماورديُّ، وعليه فما فعله الخضر ليس عن معنىً قام في ذاته، وإنما هو وحيٌ أوحاه الله به، فلا يجوز لأحدٍ تقليده، ولا ادِّعاءَ أنه أوتي علماً لدُّنيَّاً.

17- وقال ابن قاضي شهبة (ت 748 هـ) في "بداية المحتاج" (4/ 372) في "الأطعمة": "ولو وجد طعام غائبٍ أكل؛ لدفع الإضرار، وغرم، مراعاةً لحق الغير... إلا أن يكون المالك نبيًّا، فيلزمه -يعني صاحب الطعام -بذله وإن لم يستدعه منه، ويتصور هذا في زمن عيسى صلى الله عليه وسلم، أو الخضر على القول بحياته ونبوته". وهو ما قاله الخطيب في "مغني المحتاج" (6/ 161) (ت 977 هـ).

18- وقال الدُّميري في "النجم الوهاج"(9/ 572): وهذه مسألة علمية، وصورها بعضهم في زمن عيسى عليه السلام أو الخضر على القول بحياته.


* قلتُ (محمد): وهذا منهما يُضعِّف القول بحياة الخضر، سيما أنهما أدرجاها في المسائل العلمية النظرية.

19- قال في "إعانة الطالبين" (1/ 18) عند حدثه عن اسم الله "الرحمن": روي عن الخضر عليه السلام: إن من قال بعد عصر الجمعة مستقلاً: يا ألله يا رحمن، إلى أن تغيب الشمس، وسأله الله شيئاً من أمور الدنيا أو الدين أعطاه إياه.

* وهذا الدعاء بهذا اللفظ يحتاج إلى توقيف، والدعاء مشروع في ذلك الوقت وهو وقت فاضل مخصوص بالاستجابة، أما اعتقاد فضل هذا الدعاء على غيره فيحتاج إلى دليل، وإن تضمن توسلات باسماء الله  الحسنى وصفاته الفضلى، وقد ثبت موت الخضر، فلا يعول على ثبوته.

20- وقال أبو بكر الدمياطي (ت 1310 هـ) في "إعانة الطالبين" (1/ 215): ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه، في كتابه المسمى بـ"الدلالة على الله عز وجل"، عن سيدنا أبي العباس الخضر عن نبينا عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين السلام، أنه قال: سألت أربعة وعشرين ألف نبي عن استعمال شئ يأمن العبد به من سلب الإيمان، فلم يجبني أحدٌ منهم حتى اجتمعت بمحمد - صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك ؟ فقال: حتى أسأل جبريل عليه السلام. فسأله عن ذلك فقال: حتى أسأل رب العزة عن ذلك. فسأل رب العزة عن ذلك، فقال الله عزوجل: "من واظب على قراءة آية الكرسي، وآمن الرسول، إلى آخر السورة، وشهد الله إلى قوله الإسلام، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب، وسورة الإخلاص والمعوذتين والفاتحة عقب كل صلاة، أمن من سلب الإيمان". وذكر هذه القصة البجيرمي (ت 1221هـ) في "حاشيته على الخطيب" (1/ 431).

* قلت (محمد): وكتب الشعراني مليئة بالأكاذيب والحكايات الباطلة. فلا يلتفت لمثل هذه القصص والحكايات.

21- وقال محمد بن عمر البنتني (1316هـ) في "نهاية الزين" (ص: 77 -78): فيما يُقال عقب صلاة الصبح من الأذكار: ثم يقرأ المسبعات العشرة المنسوبة إلى الخضر عليه الصلاة والسلام، وهي الفاتحة وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق وقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وآية الكرسي وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…

قال: وهذه المسبعات لقنها الخضر عليه السلام إلى سيدنا إبراهيم التيمي وأخبره أنه أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لما عمل بها رأى ذات يوم في منامه كأن الملائكة احتملته وأدخلته الجنة؛ فرأى ما أعد له فيها من النعيم فقال للملائكة لمن هذا؛فقالوا: للذي يعمل مثل عملك، ثم جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعون نبيا ًوسبعون صفاً من الملائكة كل صف مثل ما بين المشرق والمغرب؛ فسلم عليه وأخذه بيده؛ فقال يا رسول الله: الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث؛ فقال: صدق الخضر! صدق الخضر! وكل ما يحكيه (يعني الخضر) فهو حق وهو عالم أهل الأرض وهو رئيس الأبدال وهو من جنود الله تعالى في الأرض؛ فقال يا رسول الله من فعل مثل ذلك أو عمله ولم ير مثل الذي رأيت في منامي هل يعطي شيئا مما أعطيت؟، فقال: والذي بعثني بالحق نبيا إنه ليعطي العامل بذلك، وإن لم يرني ولم ير الخضر عليه السلام، إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها!، ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة والذي بعثني بالحق نبيا ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيداً.

* قلتُ (مُحمَّد): وهذه الرواية باطلةٌ أصلاً، وعلامات البطلان عليها ظاهرةٌ جداً، وهذا الذكر يحتاج إلى توقيف، وليس لهذه القصة إسنادٌ صحيح ولا ضعيف، وإبراهيم التيمي ذكره الشعراني في "طبقاته" (1/ 35)، وذكر أنه توفي في سجن الحجاج سنة (92 هـ).

22- وقال قليوبي (ت 1069 هـ) في "حاشيته" (1/ 401): (فائدة) الخضر نبيٌّ حي إلى آخر الدهر عند جماهير العلماء، واسمه بران بن ملكان بن قالع بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل إلياس حي أيضا واقف بخراسان عند سد يأجوج.

وقد عزى الخضر - صلى الله عليه وسلم - أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته !.

ورجَّح البجيرمي في "حاشيته" على الخطيب (4/ 323)؛ فقال: والأصح أنه نبيٌّ حيّ.

* قلت (محمد): قول محققي الشافعية الذي يجب المصير إليه هو موت الخضر، وبه نقطع ونجزم.


الأربعاء، 8 يوليو 2020

جزء فيه حديث من كذب عليَّ مُتعمِّداً

جزء فيه حديث من كذب عليَّ مُتعمِّداً

للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني
260 - 360 هـ
دراسة وتحقيق وتخريج:
أبو خالد/ د. محمد حسن الغماري
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة
دار البشائر الإسلامية

اختصره: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا جزءٌ حديثيٌّ بعنوان "جزء فيه طرق حديث من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، للإمام الطبراني رحمه الله تعالى، جمع فيه طرق هذا الحديث مروياً من مائة وثمانين طريقاً عن ستينَ صحابياً، منهم: العشرة المبشرين بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف؛ فلم يُروى عنه هذا الحديث.
والإمام "الطبراني" عالمٌ معروف عند أهل العلم وطلبته، بالإيعاب في التصنيف، والسعة في الرواية.
وقد جمع طرق هذا الحديث أيضاً: الإمام ابن الجوزي في (الباب الثاني من الجزء الأول (1/ 55 -98) من كتابه "الموضوعات" عن ستين صحابياً -أيضاً -، وذكر أنه رواه عن واحدٍ وستين صحابياً، ولكن الموجود فعلياً هم ستين، ومنهم: العشرة المبشرين بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف.

وهذا الحديث متواترٌ بالإجماع، ولا يشك اقلٌ أنه متواتر، يعرف ذلك أهل الفن والمعرفة بعلوم الحديث.
وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" (1/ 64): عن أبي بكر محمد بن أحمد الإسفراييني قال: "ليس في الدنيا حديث اجتمع عليه العشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث: من كذب على متعمداً".
وقال أيضاً -في "الموضوعات" (1/ 65): "ما وقعت لى رواية عبد الرحمن بن عوف إلى الآن، ولا عرفت حديثاً رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وستون نفساً، وعلى هذا قول الحافظ اثنان وستون نفساً إلا هذا الحديث".

● نسبة الكتاب:
قد ذكره الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي في الرقم (55) من مؤلفات الإمام الطبراني، وقال: توجد منه مخطوطة في الظاهرية بدمشق، تحت رقم مجموع (81- ق 29 -47). ويؤكد ذلك أن الشيوخ الذين روى عنهم هنا هم شيوخه الذين ذكره في الأوسط، وأنه لم يدَّعِ أحدٌ نسبتها غيره، بالإضافة إلى وجود السماعات في أول الُّنسخة التي تؤكد أنها للإمام الطبراني رحمه الله.

● تواتر هذا الحديث:
وعدد الصحابة الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب إجمالاً (60) صحابياً، وقد سبق أن قلنا أنه إذا أُضيف إليهم (8) من الصحابة وهم الزائد عليها في كتاب ابن الجوزي؛ فيكون مجموع الصحابة الرواة له (68) صحابياً.
وذكر السيوطيُّ في "الأزهار المتناثرة" (ص: 3 -4) أن هذا الحديث رواه (72) صحابياً؛ وزاد عليهم ثلاثة، وهم: (عبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن عوف، وأبا الحمراء).

● نصُّ الحديث، وذكر اختلاف ألفاظه:
قال عليه الصلاة والسلام: "إن كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ؛ فمن كذب عليَّ متعمداً فليتببوأ مقعده من النار"، وفي روايةٍ: "من كذب عليَّ فهو في النَّار"، وفي رواية: "فليتبوأ مقعده من جهنَّم"، وللطبراني: "فليتبوأ مقعده بين عيني جهنَّم"، وفي رواية: "بُني له بيتٌ في جهنَّم"، وفي لفظٍ: "فليُسهِّل لجنبه مضجعاً من النار"، ولأحمد: "فليتبوأ مضجعاً من جهنَّم"، وفي روايةٍ: "لم يرح رائحة الجنَّة". 
وزاد الحاكم: "ليُضلَّ به الناس.. "،..
وللبخاريِّ ومسلمٌ: "لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ يلج في النار".
وللترمذي وابن ماجه: "من يكذب عليَّ يلج النار"، ولأحمد وابن ماجه: "من حدَّث عني حديثاً -وفي روايةٍ لأحمد والترمذي وابن ماجه: بحديثٍ -ويرى أنه كذبٌ؛ فهو أحد الكذََّابين"، ولهما: "من حدَّث بحديثٍ يرى أنه كذبٌ فهو أحدُ الكاذبين".
ولابن عدي: "من كذب عليَّ متعمداً كُلِّف أن يعقد شعيرةً وإلا عُذِّب". 
وفي رواية: "من قال عليَّ ما لم أقل للكذب عليَّ؛ فليتبوأ مقعده من النار"، وفي رواية البزار: "إن أفرى الفرى أن يقول عليَّ ما لم أقل".. وفي روايةٍ: "من قوَّلني ما لم أقُل"، وفي رواية: "إن أعظم الفرية -ثلاثاُ -أن يفتري على عينيه، أو يقول رأيتُ ولم يرَ، وأن يدعي إلى غير أبيه"، وفي روايةٍ: "أن يقول سمعتُ ولم يسمع". وفي روايةٍ: "الذي يكذبُ عليَّ يُبنى له بيتٌ في النَّار".
ولابن عديٍّ: "ثلاثةٌ لا يريحون الجنَّةرجلٌ كذبَ عليَّ"، ولابن أبي شيبة: "من حدَّث عني فلا يقول إلا حقَّاً"، وفي روايةٍ: "وإن الذي يكذبُ عليَّ لجرئ"..

● سبب ورود الحديث:
روى الطبراني بإسنادٍ صحيح (انظر: ص 397)- في المعجم الأوسط (2/ 318)، برقم: (2091):
عن عبد الله بن عمرو، أن رجلاً لبس حُلَّةً مثل حلة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى أهل بيت من المدينة؛ فقال لهم: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أي أهل بيت شئت استطلعتُ (ولفظه: أمرني أن أصنع في ابنتكم ما شئتُ أصنعه).
فقالوا: عهدنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يأمر بالفواحش.
قال: فأعدوا له بيتاً، وأرسلوا رسولاً إلى رسول الله، فأخبره، فقال لأبي بكر وعمر: «انطلقا إليه، فإن وجدتماه حياً فاقتلاه، ثم حرقاه بالنار، وإن وجدتماه قد كفيتماه فحرقاه، ولا أراكما إلا وقد كفيتماه».
فأتياه فوجداه قد خرج من الليل يبول، فلدغته حية أفعى، فمات، فحرقاه بالنار، ثم رجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه الخبر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»

● عدد أحاديث الكتاب:
وعدد الأحاديث في هذا الكتاب (168) حديثاً، منها (59) حديثاً صحيحاً، و(54) حديثاً حسناً، و(55) حديثاً ضعيفاً.

● الصحابة الذين أخرج لهم الطبراني هذا الحديث:
1-أبو بكر الصديق 2-عمر بن الخطاب 3-عثمان بن عفان 4-علي بن أبي طالب 5-طلحة بن عُبيد الله 6-الزبير بن العوام 7-سعد بن أبي وقاص 8-سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل 9-أبوعُبيدة عامر بن الجراح 10-عبد الله بن مسعود 11-عمّار بن ياسر 12-عبد الله بن عمر بن الخطاب 13-عبد الله بن عباس 14-عبد الله بن الزبير 15-عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين. 16-عبد الله بن عمرو بن العاص 17-معاوية بن أبي سفيان بن حرب 18-أسامة بن زيد 19-أبو هريرة 20-أبو سعيد الخدري 21-حذيفة بن اليمان 22-جابر بن عبد الله 23-أبو قتادة الأنصاري 24-البراء بن عازب الأنصاري 25-زيد بن أرقم الأنصاري 26-أنس بن مالك 27-المغيرة بن شعبة الثقفي 28-سعد بن المدحاس 29-صهيب بن سنان 30-سلمة بن الأكوع 31-السائب بن يزيد 32-عمرو بن عبسة 33-أبو أمامة الباهلي 34-عقبة بن عامر الجهني 35-بُريدة بن الحصيب 36-رافع بن خديج 37-خالد بن عُرفطة 38-أوس بن أوس الثقفي 39-عتبة بن غزوان المازني 40-طارق بن أشيم الأشجعي 41-عمرو بن مرة الجهني 42-يعلى بن مُرة الثقفي 43-قيس بن سعد بن عُبادة 44-أبو قرصافة جندرة بن خيشنة 45-العُرس بن عميرة الكندي 46-عمران بن حُصين الخزاعي 47-أبو موسى الغافقي 48-أبو ذرٍ الغفاري 49-واثلة بن الأسقع 50-سلمان الفارسي 51-معاذ بن جبل 52-نبيط بن شريط الأشجعي.

● من روى هذا الحديث عند الطبرانيِّ فقط (8):
53- جابر بن حابس العبدي 54- سمرة بن جندب 55- عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري 56- عمرو بن حريث المخزومي 57- كعب بن قطبة 58- المنقع بن حصين بن يزيد التميمي 59- النواس بن سمعان الكلابي 60-عبد الله بن زُغب الإيادي.

● من روى هذا الحديث عند ابن الجوزيِّ فقط (8):
1-حذيفة بن أُسيد 2-أبو رافع مولى رسول الله 3-أبو رِمثة رِفاعة التميمي 4-عبد الله بن أبي أوفى 5-عفان بن حبيب -يزيد بن أسد 6-رجلٌ من أسلم 7-رجلٌ آخر 8-أم أيمن حاضنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.