أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 يناير 2025

الحافظ الرحالة أبو علي الصدفي وجهوده في خدمة الحديث النبوي الشريف أ.د. محمد بن زين العابدين رستم بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الحافظ الرحالة أبو علي الصدفي وجهوده في خدمة الحديث النبوي الشريف

أ.د. محمد بن زين العابدين رستم

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

      

       تمهيد: كانت حياة الصدفي العلمية حافلةً بالعطاء، مليئة بالإفادة، طافحةً بالأعمال العلمية، من دريس ورواية وإقراء، وقد ساهم الصدفي في نشر العلوم الإسلامية في الأندلس والغرب الإسلامي عموماً، وتوافد عليه عشرات الطلبة؛ لينهلوا من علمه وإجازاته، حتى بُنيت له في عهد الدولة المرابطية مدرسة خاصة به (المدرسة الصدفية في الحديث)، والتي اشتهرت برواتها الأعلام، كابن بشكوال، والقاضي عياض، وابن فرتون، وغيرهم.

       كما أن أكثر نُسخ البخاري الصحيحة في "المغرب" كانت من روايته عن أبي الوليد الباجي، عن أبي ذرٍ عبد الله بن أحمد الهروي بسنده. كما أن له تقييدات لجملة من كتب الأصول، ونُسخٌ عزَّ نظيرها، وندُر مثيلها، فقد كان حسن الخط، جيد الضبط، وكانت نسخته للبخاري معتمدةٌ عند العلماء، وهي المرجع عند الاختلاف، من لدن القاضي عياض إلى الحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى.

وظهرت آثار الصدفي بارزةً فيما أسنده القاضي عياض عنه من مرويات في تآليفه الحديثية وغيرها، لا سيما في كتابه "الشفا" حيث كان يُحليه في أكثرها بـ"ألقاضي الشهيد" و"القاضي الحافظ"، و"القاضي أبو علي"، و"قاضي القضاة حسين بن محمد الصدفي"، وفي ترتيب المدارك كان ينعته بـ"قاضي قضاة المشرق".

وكثيرون هم الذين ترجموا لهذا الإمام الكبير في كتبهم، كالإمام الذهبي في "سيره"، و"تذكرته"، والسيوطي في "طبقاته" وغيرهما. وذكروا من فضائله ومناقبه ما يعجز القلم عن حصره، فهو الإمام المُبرَّز في الفقه والحديث، فبالإضافة إلى كونه جامعةً للحديث، فقد كان له كلام في الجرح والتعديل، وآراء في قضايا المصطلح.

 وتميز الصدفي باستعماله لطرق التحمل والسماع من القراءة والعرض والكتابة والإجازة مع تلاميذه. بالإضافة إلى نشره الكتب الحديثية في الأندلس؛ فقد كان يتنقل بين مرسية ومرية وبلنسية ودانيه، وهو بذلك يُضاهي "بقي بن مخلد"، و"محمد بن وضاح" وغيرهما ممن صارت الأندلس بفضهم دار حديث وأثر.

 وقد قال ابن عبد السلام الناصري الدرعي في مدحه:

قد قام بالصّدفيّ زمان العلم منتشراً... وجلَّ قدر عياضِ الطاهر السّلفِ

ولا عجبُ ما إذا أبدى لنا دُرراً... ما الدُّر مظهره إلا من الصَّدفِ

وقال ابن العطار -تلميذ النوواي:

رأى البخاري بخط الحافظ الصّدفي... قاض القضاة إمام النبل والسلف

جمـــــــــالُ واسطة العقد الثمين له... ولا عجيـــــــــب بميل الدُّر للصَّدفِ

وتميز عصر الصدفي بكثرة شيوخ الرواية والدراية، كالشيخ أبي محمد عبد الله بن سعيد الجشتالي ت 436 هـ، وأبي زناد القرطبي ت 412 هـ، والمهلب بن أبي صفرة ت 435 هـ، وعلي بن خلف بن بطال ت 449 هـ، كما عُرف عصره بظهور أكابر أهل الحديث في الأندلس كابن عبد البر النميري ت 463 هـ، وأبي الوليد الباجي، ومحمد بن عتّاب القرطبي 462 هـ، وغيرهم. وكل واحد من هؤلاء أدلى بدلوه مساهماً في ازدهار النهضة الحديثية في الغرب الإسلامي، تأليفاً، ومدارسة للحديث، ورواية له.

والمتأمل في السيرة العلمية للحافظ الصدفي يقف على جملة من الأسباب التي جعلته صاحب نبوغ وتميز في الحديث وعلومه في الأندلس في أواخر القرن الخامس الهجري وبداية القرن السادس الهجري، ومن أهمها:

أولاً: الهمة العالية، والدأب في طلب العلم والحرص على التلقي والأخذ، حيث رحل في السماع إلى المشرق، حيث فرسان الإملاء، ورؤساء الجرح والتعديل، وقد حصّل أثناء ذلك جملة كثيرة من الأسانيد العالية، وروى من كتب الفنون صنوفاً مختلفة.

ثانياً: نباهة شيوخه، وجلالة أقدارهم، وكثرة أعداهم، ونقاء العلم الذي تشرفوا بحمله وروياته، فأخذ من مثل أبي الوليد الباجي، وأبي العباس العذري، وأبي عبد الله الطبري، وأبي الفوارس الزينبي، ومحمد بن أحمد القفال الشاشي المستظهري.

ثالثا: سيلان ذهن الصدفي، وجودة حفظه، ووعيه التام لما يُقرأ ويُنقل، ما جعله مُبرّزاً في عدة فنون، أهمها: علم التفسير، والحديث، الفقه وأصوله.

رابعاً: كثرة كتابة الصدفي، وسعة ما قيّده من الفوائد، وغزارة ما حصّله من كتب وتآليفه، ولا بن الصدفي تآليف ذكر بعضها ابن الأبتر في "معجمه"، وذكر بعضها الآخر ابن خيرون الأندلسي. ومن أهم هذه التآليف: جزء طرق حديث: (ما من عبد مسلم يذنب ذنباً، ثم يتوضأ؛ فيحسن الوضوء، ثُم يُصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له). وكتاب فيه شيوخ أبي محمد بن الجارود.

خامساً: تفرُّغ الصدفي للإفادة والأسماع بعد عودته إلى الأندلس، ووفرة تلاميذه والآخذين عنه. وقد عني تلاميذ الصدفي به عناية تامة؛ حتى ألف ابن الأبار كتابه (المعجم في أصحاب الحافظ الصدفي)، وجمع ابن خيران كتابه (تواليف الشيخ الحافظ الصدفي وجميع رواياته عن شيوخه)، وروى القاضي عياض عنه (فهرسةً للحافظ الصدفي) وألف عياض كتابه (المعجم في مشايخ الصدفي)، وروى أبو الحكم بن غلشيان (جزءاً من حديث أبي على الصدفي عن شيوخه البغداديين)، وخرّج له أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي كتاب (السباعيات المخرجة من حديث أبي علي الصدفي)، وألف زياد بن محمد التجيبي كتاب (سِفر من رواية أبي علي وفوائده).

سادساً: شغل الصدفي الذي أتاح له الشهرة الكبيرة والواسعة، حيث شغل وظيفتان: الأولى توليه قضاء الأندلس لصالح أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، وذلك بإيعاز من فضلاء الأندلس وخيارهم، فتولى قضاء مرسية سنة 505 هـ، وكان شديد الكره للقضاء، حتى أنه اعتذر عنه مراراً فلم يُعفه، ثم اختفى مدةً طويلة، حتى أعفي منه سنة 508 هـ. والثانية: التدريس والتحديث، وذلك بعد عودته إلى الأندلس من رحلته المشرقية، وكان عيشه من كسب بضاعةٍ لهمع ثقات إخوانه.

وكان للصدفي عادات حميدة في مجالس التحديث: منها إثبات أسماء السامعين للكتاب، وأسماء الحاضرين، وتكون الكتابة من قبل معروف بالملازمة للإمام الصدفي ممن يقرأ عليه؛ كابن نُميل، وأبي عمر الخضر القيسي (ت 504 هـ)، أو بخط أبي الحسن الأنصاري المعروف بالّلوان (ت 533 هـ)، وكان لا يخلوا مجلسه من ملاطفة ومزاح، أو من ذكر أشعار وظرائف ومُلح وفوائد.  وكان يختم مجلسه بالدعاء المأثور عن ابن عمر: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وأبداننا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منها".

سيرة مختصرة للحافظ الصدفي

هو أبو الحسين بن محمد بن فِيُّره بن حيُّون بن سكرة الصدفي، أبو علي السرقسطي، وفيُّره جده اسم أعجمي بلغة أعاجم الأندلس، ومعناه: الحديد. وحيُّون: اسم مُصغّر من يحيى. وسُكّره مؤنث سُكَّر. والصدفي نسبةً إلى الصدف. قال السيوطي: قبيلة من حمير، وقيل: هو ن كِندة. وقيل: من حضرموت.

ولد في سرقسطة نحو (454 هـ)، وتزوج فيها، وله ابنة وحيدة اسمها فاطمة. وقد تركها أبوها عند خروجه غازياً في الوقعة التي استشهد فيها، وهي في حيز الفطام من الرضاعة. وتوفيت بعد سنة 590 هـ، وقد نيفت على الثمانين.

وتميز الصدفي بجملة من الخصال والخلال التي وهبه الله إياها، والتي منها: تواضعه الشديد، وحسن خلقه وديانته، وإقباله على العبادة، وعمله بعلمه، واشتغاله بإصلاح سريرته، ومراقبته لله تعالى، والزهد في القضاء، واعترافه بحق الله تعالى عليه، ثم الرضا بما قسّم، وعدم الأسف على ما فات وتقدم، بالإضافة إلى الوقار والحلم، وعدم إذلال العلم، ومعرفة حقه.

وتوفي الصدفي في خروجه إلى غزوة "قتندة" بالثغر الأعلى سنة (514 هـ) وهو من أبناء الستين، تحت راية الأمير يوسف بن تاشفين. يقول ابن عساكر يصف نيل الصدفي للشهادة في هذه الغزوة: "ثم خُتمت مساعيه الصالحة بالشهادة، فسعدت وفاته سعادة الولادة، وجُمعت له خدمة السُّنن بين الحُسنى وزيادة".







 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق