الأربعون المقدسية
د. رائد فتحي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذا الجزء الحديثي يتعلق بنوع من أنواع التصنيف في الحديث، وهو تصنيف الأربعينات، وهي أحاديث تُجمع في باب واحد، او في أبواب شتى، بسندٍ واحد، أو بأسانيد متعددة، وقد جمع فيه مؤلفه أربعين حديثاً في فضائل المسجد الأقصى خاصة، وفي بيت المقدس عامة، وهي أحاديث مقبولة في جملتها، لكونها دائرة بين الصحة والحسن.
وتناول المؤلف في هذه الأربعينية موضوعات شتى، منها:
1-فضائل المسجد الأقصى: كونه القبلة الأولى للمسلمين في الصلاة، وثاني المسجدين اللذين وُضعا في الأرض، وثالث المساجد الثلاثة في الفضيلة، وشد الرحال إليه، ومغفرة الذنوب فيه، وكان الصحابة يعدون الصلاة إلى القبلتين من مناقبهم، وفضل الإهلال منه بحج أو عمرة، وكون رؤيته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه.
2-فضل بيت المقدس: كونه الأرض التي وُلد فيها الأنبياء، وقامت دعوتهم فيها، ووقعت لهم فيها المعجزات والكرامات، فقد حُبست فيه الشمس ليوشع بن نون، ورغبة موسى عليه السلام في أن يموت بقربه، وأن فتحه من علامات الساعة، وأن الطائفة المنصورة فيه، وهم خيار الناس، وأمر النبيّ بلزومه، وتجليته لقريش إبان رحلة الإسراء، ونزول الخلافة فيه آخر الزمان، ومثّل به النبيُّ صلى الله عليه وسلم امتداد حوضه، وأن الدجال لا يقربه، وكون عمرانه علامة من علامات قرب خروج الدجال، وأن إمام المسلمين يكون ببيت المقدس عند خروجه، ثم مسير يأجوج ومأجوج إلى جبل بيت المقدس، وما يجري لهم من الاستدراج والهلاك، وحشر الناس فيها، ورؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجهنم على سورها الشرقي.
3-فضل الشام: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اختارها لأصحابه، وكون عمود الكتاب فيها.
وبيّن المؤلف الدواعي التي حدت به إلى التأليف في هذا النوع، من ذلك:
1-تكرر استخدام القرآن الكريم والسنة العطرة للفظ الأربعين في باب المدح والتكريم، وذلك في كثير من الموطن.
2-استلهام العلماء هذا العدد في مصنفاتهم، فنسج بعضهم تآليف كثيرة في الأربعينات، سواءً في الحديث (كما فعل النووي في الأربعين النووية)، أو في أصول الدين (كما فعل الغزالي والرازي وابن تيمية في الأربعين في أصول الدين)، أو في المناقب (كما فعل ابن عساكر في الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين).
وتتمة لما سبق، نقول: أول من صنّف في الأربعينيات الإمام الحافظ عبد الله بن المبارك ت 181 هـ، ثم تتابع التأليف فيها بعده، وممن ألف فيها الإمام الحافظ أبو نُعيم ت 430 هـ، والحافظ أبو بكر الآجري 360 هـ، والإمام البكري، والنووي، والسيوطي، وغيرهم كثير.
وأما فضل التأليف في الأربعينيات؛ فقد جاءت في أحاديث واهية وضعيفة جداً، ومن ذلك:
1-حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعاً: (من حمل من متى أربعين حديثاً، لقي الله يوم القيامة فقيهاً).
أخرجه البكري في أربعينه (44) من طريق الجوزقي عن زيد بن حريش، عن عبد الله بن خراش، عن عمه العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أنس بن مالك مرفوعاً. وعبد الله بن خراش: اتفق الأئمة على تضعيفه، واتهمه بعضهم، ووصفه ابن عمار بالكذب، وانظر الميزان (2/ 413).
2-حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من السنة حتى يؤديها إليهم، كنتُ له شفيعاً، أو شهيداً يوم القيامة).
أخرجه ابن عبد البر في الجامع (325)، والبكري (33) من طريق يعقوب بن إسحاق العسقلاني، عن حميد بن زنجويه، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر به مرفوعاً.
قال ابن عبد البر في جامعه (205): هذا أحسن إسناد جاء به هذا الحديث، لكنه غير محفوظ، ولا معروف من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، ومن رواه عن مالك فقد أخطأ، وأضاف ما ليس من رواياته إليه اهـ.
وفي إسناده أيضاً: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم العسقلاني، قال الذهبي -وقد أورد الحديث من طريقه في الميزان (4/ 449): وهذا كذاب في السند والمتن.
وقال ابن حجر: الناس يختلفون فيه، فبعضهم يوثقه، وبعضهم يُضعفه، والظاهر: أنه دخل له حديث في حديث اهـ.
3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً فيما ينفعهم في أمر دينهم، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً)
أخرجه ابن عبد البر في الجامع (1/ ٤٣) وغيره من حديث عمرو بن الحصين العقيلي، عن محمد بن عبد الله بن علاثة، عن خصيف، عن مجاهد، عن أبي هريرة به مرفوعاً.
قلت: وعمرو بن حصين كذبه أحمد وابن معين، وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وقال: تركت الرواية عنه ولم يحدثنا، وقال : هو ذاهب الحديث، وليس بشيء، أخرج أول شيء أحاديث مشتبهة حساناً، ثم أخرج بعد لابن علاثة أحاديث موضوعة، فأفسد علينا ما كتبنا عنه، فتركنا حديثه .
وقال ابن عدي: مظلم الحديث، وقال الدار قطني: متروك، وقال أبو زرعة: ليس في محل من يحدث عنه، وهو واهي الحديث، ومحمد بن عبد الله بن علاثة، وخصيف فيهما، قال الذهبي في الميزان (3/ ٥٩٥): الظاهر أنه من وضع ابن حصين.
4-حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما من مسلم يحفظ على أمتي أربعين حديثاً يعلمهم بها أمر دينهم، إلا جيء به يوم القيامة؛ فقيل له: اشفع لمن شئت).
وفي إسناده عمرو بن الأزهر، وشيخه أبان بن أبي عياش، كلاهما متروك
5-حديث أبي الدرداء مرفوعاً: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً، وكنت له يوم القيامة شهيداً).
أخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ ۱۳۳) من حديث إبراهيم بن أبي أمية، حدثنا أبو طالب هاشم بن الوليد الهروي قال : حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن أبي الدرداء به مرفوعاً.
وعبد الملك بن هارون قال ابن معین کذاب وقال أبو حاتم: متروك، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الحاكم: ذاهب الحديث جداً، وروى عن أبيه أحاديث موضوعة. وهذا منها، فقد اتهمه ابن حبان به.
وروي مثل هذا عن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وغيرهم، إلا أنه لا يثبت منها شيء.
وأكثر العلماء على عدم صحة هذا الحديث:
قال البيهقي في الشعب (2/ ۲۷۰): هذا حديث مشهور فيما بين الناس وليس له إسناد صحيح. وقال أيضاً: أسانيده كلها ضعيفة.
وقال ابن السكن: ليس يروى هذا الحديث عن النبي من طريق يثبت
وقال الدارقطني: لا يثبت من طرقه شيء.
وقال ابن عساكر: أسانيده كلها فيها مقال، ليس فيها للتصحيح مجال.
وقال ابن حجر: ليس فيها طريق تسلم من علة قادحة.
وقال النووي: طرقه كلها ضعيفة، وليس بثابت.
وقال الرهاوي: طرقه كلها ضعاف، إذ لا تخلو طريق منها أن يكون فيها مجهول لا يُعرف، أو معروف يُضعّف.
وكذا ضعّفه رشيد الدين بن العطاء، والمنذري والنووي في فتاويه (272)، وفي مقدمة كتابه في الأربعين، وابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية (1/ 111)، وابن عبد البر في الجامع (1/ 192 -198).
وقد ذهب بعض العلماء إلى تحسين الحديث؛ لكثرة طرقه وشواهده، ولذا توجه الناس إلى التأليف في الأربعينيات، وممن حسّنه من المتأخرين: الإمام السلفي رحمه الله، وهو ظاهر كلام الكياس الهراسي -من كبار الشافعية، والشيخ ملا علي القاري صاحب "مرقاة المصابيح".
قال السلفي رحمه الله: فإن نفراً من العلماء لما رأوا ورووا قول أطهر مَنْسَل وأفضل مرسل: (مَن حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة فقيهاً)، من طرق وثقوا بها، وعولوا عليها، وعرفوا صحتها، وركنوا إليها، خرج كل منهم لنفسه «أربعين» حتى قال إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي: اجتمع عندي من الأربعينيات ما ينيف على السبعين.
وقال السلفي: وقد استفتيتُ شيخنا الإمام أبا الحسن علي بن حمد الكيا الطبري في رجلٍ أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث في وصيته؟ فكتب بخطه تحت السؤال:
نعم! وكيف لا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة فقيهاً) إلا ان هذا الكلام لم يُعتمد، والراجح في حال الحديث ما قدمناه عن الأئمة الذين ضعّفوه. إلا أن هذا الكلام لم يعتمد، والراجح في حال الحديث ما قدمناه عن الأئمة الذين ضعّفوه.
قال صديق حسن خان في أبجد العلوم (2/ 335): وهذا الحديث من جميع طرقه ضعيف عند محققي أهل الحديث، لا يُعتمد عليه، ولا يصير إليه إلا مَن لم يرسخ في علم الحديث قدمه اهـ.
وانظر في ذلك المقاصد الحسنة (411)، وكلام الألباني رحمه الله في تعليقه على المشكاة (1/ 86)، ومعجم مصطلحات الحديث لمحمد ضياء الأعظمي (27) غير أن بعض العلماء عمل بها استئناساً، مع علمه بضعفها كالإمام النووي، وابن حجر في كتابه الأربعين المتباينة والأربعين العوالي، والسيوطي، وغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق