أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 مايو 2022

تفسير سورة الفتح وبيان ما يتصل بها من الفتوح الإسلامية والسيرة النبوية تأليف عبد الله عفيفي بك

تفسير سورة الفتح

وبيان ما يتصل بها من الفتوح الإسلامية والسيرة النبوية

تأليف عبد الله عفيفي بك

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لم تزل أنظار المسلمين الذين أمروا باستقبال الكعبة في المدينة تحنُّ وتشتاق إلى مكة؛ فقد طال عهدهم بها، وبالكعبة التي نشأوا في حجرها، ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطاً بها، وشوقاً إليها، وكانت الكعبة في نظر العرب قاطبةً ليس ملكاً خاصاً بقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل -عليه السلام -ولذا كانوا ينتظرون اللحظة التي يدخلون فيها ذلك البلد الأمين، وقد زالت منه جميع مظاهر الوثنية والتوجه لغير الله.

ويناقش هذا الكتاب الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون في الحديبية على المستوى العسكري والسياسي والإعلامي، وأن هذا الفتح كان حجر الأساس لما بعده من الفتوحات الكبرى، التي أرست هيبة الدولة الإسلامية، وجعلت لها مكانةً مرموقةً بين الدول في تلك الفترة، وذلك من خلال الملامح العامة لسورة الفتح، التي أرَّخت لهذا الحدث الإسلامي العظيم.

ولا شك أن أحداث الحديبية كانت متسارعة وشاقة على المسلمين، ولكن المهم أنها كانت الخطوة الأولى لما بعدها، والخطوة الأولى لا تلدها إلا عزيمةٌ كاملة، وإيمان صادق، وعاطفة ناضجة، الأمر الذي لمسناه في هذه الأحداث بالفعل.

وكان الدرس الرئيس المستفاد من هذا الكتاب: أن الإنسان المسلم يحتاج دوماً إلى منشطات الأمل، وكوابح الغرور، لأن يأسه من النجاح يقوده إلى الفشل والسقوط، واغتراره بما عنده يمنعه السبق واللحاق، وأن الأمل الكبير يتحقق دائماً عندما يتشبث أصحاب المبادئ بالحق والصبر والكفاح. وتبقى الحكمة والتأني هما الوسيلتان الرئيستان لمعالجة المواقف الصعبة والحرجة، لأنه عليها يبتنى ما بعدها.

وتعد هذه السورة من السور المدنية وإن لم تزل بالمدينة، لأن الهجرة كانت حداً فاصلاً بين السور المكية والمدنية. وقد نزل الوحي جبريل بالسورة والنبى بضجنان، ق طريقه إلى المدينة بعد صلح الحديبية. وضجنان مرتفع على مسافة خمسة وعشرين ميلا من مكة.  

وفي نزول هذه السورة كاملة مرة واحدة أو على فترات خلاف، وأصح الأقوال أنها نزلت مرة واحدة، وعلى هذا القول يكون الإنباء بالوقائع التي حدثت بعدها من آيات الغيب ومعجزات القران .

وكان هذا الكتاب هديَّةً للملك فاروق الأول حاكم مصر، بمناسبة زواجه السعيد، ولكن ما يُهمنا هنا هو الفائدة التي أثمرها هذا الكتاب القيم من خلال إعادة قراءة السورة من خلال الواقع والعمل بما تقتضيه من الحكمة والموعظة والهدايات.

((مقدمة عبد الله عفيفي بك))

تفسير سورة الفتح

أخرج البخارى والترمذي وأحمد والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في سفر (=وكان ذلك حين انصرف الرسول من صلح الحديبية عائداً إلى المدينة في أخريات ذى القعدة سنة ست من الهجرة )، فسألته عن شيء ثلاث مرات. فلم يرد عليّ.

فحركتُ بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ القران، فما نشبت إذ سمعت صارخاً يصرخ بي! فوجفت (=وجف وجيفا ووجوفاً: خاف واضطرب) وأنا أظن أنه أنزلَ فيَّ شيء. 

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُنزلت عليَّ اللية سورة أحب إلى من الدنيا وما فيها! {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح: 1، 2).

وفى حديث ابن سعد عن مجمع بن جارية: لما نزل جبريل بسورة الفتح قال: تهنيك يا رسول الله، فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.

وبهذا التنويه العظيم نزلت سورة الفتح، و إنها لفتح مبين فى مقاصد الإسلام؛ وفى سياسة الإسلام، وفي أدب الإسلام، وفى تاريخ الإسلام.  

وستعلم أن هذا الفتح المبين الذي استحق به الرسول الكريم أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأن يتم نعمته عليه، وأن يهديه صراط مستقيماً، وأن ينصره  الله نصراً عزيزاً، ثم استحق به المؤمنون أن يدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأن يكفر عنهم سيئاتهم.

أقول: ستعلم أن هذا الفتح المبين لم بجرد فيه سيف، ولم يسل فيه دم؛ ولم تروع فيه نفس، ولم يهتك فيه ستر، بل كانت جنوده الظافرة، وأسلحته الماضية، هي الحلم، والصبر، والأناة، ورعاية الرحم، وإرصاد النفس والحياة لله، و إعدادها في سبيل الله.  

هذه هى الوسائل التى بذلها الرسول الكريم، وشايعه وبايعه عليها صحابته الأبطال الأخيار، فكأن من ثمراتها ذلك الفتح المبين الذي خفقت به راية الإسلام على الأنام. وقبل أن نأخذ في تفسير هذه السورة العظمى نتحدث عن ذلك الفتح الذى نزلت واصفة له ومنوهة به، وهو صلح الحديبية.  ثم نذكر ما أعقبه من الفتوح وما أثمره من النعم، والله المسؤول أن ينير لنا المحجة ويهدينا سواء السبيل.

حديث الحُديبية

* رؤيا الرسول:

رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في منامه ملكاً هبط، فبشره بأنه سيدخل البيت الحرام فى جماعة المسلمين، آمنين مطمئنين، فلما أصبح قصَّ رؤياه على أصحابه، واستنفرهم إلى مكة ففرحوا واستبشروا، ولم يخامرهم الشك في أن تحقق الرؤيا سيكون فى عامهم الذي هم فيه، وكان لك حين أهلَّ ذو القعدة من السنة الهجرية السادسة.  

فتأهب المسلمون، وتخاذل المنافقون، وثَقُل من حول المدينة من الأعراب، فلم يستجب للدعوة النبوية إلا الأقلون، وخرج المسلمون في زهاء ألف وخمسمائة من صحابته يسوقون أمامهم الهدي، ويثنون على الله بالتكبير (=الهدي ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الأنعام للنحر).  

* قريش الموتورة:

وكانت قريشٌ قد أكلتها المحن، وأوهنتها الحروب، ولكنهم ما كادوا يعلمون بمسير الرسول في أصحابه إلى مكة حتى جموا بقاياهم، واستثاروا أحقادهم، وعزموا أن يقفوا للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم -فلا يدعونه يدخل مكه وفيهم حياة .  

* الرحمة والعزة:

وبينما الرسول -صلى الله عليه وسلم -في طريقهن لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعوا بمسيرك، فخرجوا معهم العُوذ المطافيل (= المراد الحديثات النتاج، والمطافيل جمع مطفل ذوات الطفل من الإنس والوحش)، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى (= موطن على مقربة من مكة) "يحلفون بالله تدخلها أبداً. 

فقال رسول الله: يا ويح قريش قد أكلتهم الحروب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب! فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش! فوالله لا أزال أجاهدهم على الدين الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة (=السالفة موضع النحر من العنق ومعنى تنفرد تنفصل).

ثم قال: من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل أنا يا رسول الله، فسار الركب في طريق وعرٍ قاسٍ كثير الصلاب والصعاب، وعانى المسلمون منه عنتاً شديداً، ثم أفضوا إلى مهبط الحديبية أسفل مكة . وبينما الركب في طريقه إلى مكة بركت ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال الناس: خلأت ناقة رسول الله (= خلأت الناقة حزنت وبركت)، فقال: ((ما خلأت، وما هو لما  لها بخُلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوني فيها صلح إلا أعطيتهم إياها)).   

* آيةُ الرّضا:

ثم أقام -صلى الله عليه وسلم -بأصحابه حيث بركت ناقته بالحديبية، ولم كن هناك ماء يستقي منه الركب إلا أثر ماءٍ نضب من قَليب (= البئر القديمة)، فأعطى الرسول الكريم أحد أصحابه سهماً من سهامه، وأمره أن يغرزه حيث نضب الماء، فما لبث أن فاض الماء قوياً مندفعاً بإذن الله، حتى وسع الناس والدواب والأنعام.

* حديث الصُّلح:

وجاءت رسل قريش إلى رسول الله يسألونه عن مقدمه، فقال -صلى الله عليه وسلم - إنا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإنقريشاً قد نهكتهم الرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمُّوا (=استراحوا وحفظوا قواهم).

وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا على تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره. وكان حسب هذا القول الكريم المحكم أن يملك قلوب قريش بأسرها، ولكن سفهاءهم قابلوه بنخوة جاهلية، فلم يقدروه قدره بل أمعنوا في غوايتهم فقتلوا أحد أصحاب رسول الله، ثم أرسلوا أربعين من شذاذهم، فرموا المسلمين بالنبل والحجارة، وقد اعتقل المسلمون كثيرا من هؤلاء. وساقوهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم. وبعث عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان إلى مكة ليلقى أشرافها ويبلغهم رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم -فقصد عقلاء قريش فبلغهم عن النبي ما أرسله به. ولما فرغ من أمره أفسحوا له الطريق ليطوف بالبيت؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فاحتبسه قريش، فاحتبته قريش عندها وأرجف الناس أن عثمان قد مات.  

* بيعة الفداء:

هنالك رأى النبي -صلى الله عليه وسلم -أنا الأمر خرج عن طوق الصفح والحلم، وأن أشراف قريش فيما في تحدث الناس قد اقترفوا أمراً ينكره العرب، ويأباه الشرف، فأذن في الناس: هلموا إلى البيعة! ووقف -صلى الله عليه وسلم -في ظل شجرة من شجر السمر وأقبل عليه أصحابه متدافعين يبايعونه على الثبات حتى الموت. وكانت يد الله فوق أيديهم، ودعيت هذه البيعة بيعة الرضوان، وسميت هذه الشجرة شجرة الرضوان، لما شملها وشمل من تحتها من رضوان الله. و إذن لم يكن الإرجاف بعثمان إلا امتحانا امتحن الله به أصحاب رسول الله، فكانوا كما أحب الله ورسوله من الاعتصام بالله، والفداء في سبيل الله .  

* قريش تسأل الصُّلح:

 ولما رأت قريش وميض العزم الصادق من النبى -صلى الله عليه وسلم - أرسلت سهل ابن عمرو، وكان من أسمح قريش خلقا وألينهم جانبا، وقالوا له ائتِ محمداً فصالحه، ولا يكن فى صلحه إلا أن يرحل عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة أبدا، فأقبل سهيل، فلما رآه رسول الله  -صلى الله عليه وسلم - قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى سهيل إلى موقفه من رسول الله خطب في الصلح، ورد عليه الرسول، واتفقا على أن يقوم بين الفريقين صلح أساسه: تحاجزهما عن الحرب عشر سنين، وعودة المسلمين دون زيارة البيت الحرام هذا العام، وإخلاء البيت للنبيِّ وأصحابه ثلاثة أيامٍ في العام القادم، وأن من جاء الرسول من أهل مكة بغير إذن وليه رده الرسول فلا يقبلونه، ومن جاء قريشا من فريق  الرسول لا يردونه إليه بل يقبلونه، ومن أراد محالفة رسول الله، أو أراد محالفة قريش فله الخيار. 

وبذلك كتب عهد الصلح، وكأن كاتبه علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما كتب في ديباجته (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال سهيل: هذا شيء. لا نعرفه اكتب: باسمك اللهم ! فقال رسول: أكتب كما قال، ثم لما كتب: (هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله)، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال رسول الله: امحُ، فقال عليّ: لا والله لا أمحاك أبداً. فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الصحيفة، فمحا وصفه الشريف.  

* المسلمون يُفتتون:

ونزل بالمسلمين من أمر هنا الصحل أمرٌ عظيم، فهم يرون أنهم وهم على ما هم عليه من كثرة العدد، وقوة الإيمان يُقدمون لقريش يد الضعيف الراضي باليسير،  وهم كانوا يؤمنون بأنهم سيدخلون مكة كما رأى الرسول آمنين ، فإذا هم يُردون عنها وهى مفتحة الأبواب، وما ظنك بموقف تُزلزَلُ فيه قدما البطل المؤمن عمر بن الخطاب فيروح يسأل صاحبه أبا بكر فى غيرةٍ واضطراب ألسنا بالمسلمين ! قال: بلى. قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا. 

 قال أبو بكر: ((يا عمر الزم غرزه =طريقته ونهجه)) فإني أشهد أنه رسول الله. قال: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم يتقدم فيسأل الرسول: ألستَ رسول الله! قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا! قال: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يُضيعني.

* أم المؤمنين:

وما ظنك بالمسلمين وهم أهل الفداء، وفيهم المهاجرون والأنصار وأهل بدر -ماطنك بهؤلاء حين يأمره الرسول أن يعقر، رءوسهم وينحروا ذبائحهم، فلا يسمع لأمره أحد! فيدخل على زوجه الكريمة، أم سلمة وقد أخذ الغضب منه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: هلك المسلمون .! أمرتهم أن يحلقوا وأن ينحروا فلم يفعلوا! فقالت يا رسول الله إنهم راموا أمراً فى الله فلم ينالوه، فكان حزنهم لما فاتهم من أمر الله، فإن أردت أن تحملهم على طاعة الله ورسوله فاخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا!، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، وبينما هم عائدون سمع الرسول رجلاً من المسلمين يقول: لقد رجعنا ولم نصنع شيئاً ! ولم يفتح لنا بشيء.!. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((بل فتحتم أعظم الفتح)). 

* فجرُ السَّلام:

ولقد صدق الله ورسوله فقد فتح الله لنبيه ودينه بهذه السياسة العظمى أعظم الفتح وأعزه، فدانت لهم بهذه الحكمة السامية قلوب العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وحتى كان الذين استجابوا لله ورسوله بعد هذا الفتح أكثر كثيراً من ممن استجابوا يوم البعثة النبوية، وقد تبين أن ما -كان يظنه المسلمون هواناً لهم من شروط الصلح، إنما كان له قوة وعزة وتثبيتاً وتأييداً، فان اللاجئين الذين قصدوا النبي من مكة فردهم، جمع بعضهم بعضاً، وألَّفوا من أنفسهم كتيبة قوية مستبسلة، وقفت بساحل البحر على ممر قريش من الحجاز إلى الشام، فكلما مرت قافلة قتلوا رجالها، وحازوا بضاعتها؛ حتى أرسلت قريش إلى الرسول تناشده بالله والرحم، وتتوسل إليه أن يقبل اللاجئين إليه وهو فى حلٍّ مما جاء في شأنهم في عقد الصلح، ونشدوه أن يدعو الكتيبة الراصدة لقوافلهم، فدعاهم، وآواهم إليه.

ثم علم المسلمون أن الرؤيا الصادقة لا موعد لتأويلها إلا حين يشاء الله، كما أن الدعوة الصالحة لا موعد لإجابتها إلا حين يشاء الله، وأن أولى بالمؤمن أن يُسلم وجهه لله ورسوله: لا توهنه الشدة؛ ولا يذهب بلبه المكروه، ولا يصرفه ظاهر الأمر عن حقيقته، ولا يؤيسه التواء أول الأمر عن الرجاء فى استقامة آخره، على أن هذه الهدنة التى مدها عقد الصلح عشر سنين، لم تدم عليها قريش إلا عاماً و بعض عام، ثم نقضت عهودها وخفرت ذمتها، فأعانت بني بكر وهم حلفاؤها على خزاعة وهم حلفاء الرسول، فكأن من أمر ذلك فتح مكة.

وبينما النبى -صلى الله عليه وسلم -في عودته من الحديبية أنزل الله عليه سورة الفتح، وبها جمع الله لرسوله المختار وصحابته الأطهار أشرف النعم، وفضله على من سبق من الأنبياء وفضلهم على من سلف من الأمم. 

وهناك فتح آخر يتصل بهذا الفتح المبين بسبب مكين، بل هو ثمرة من ثمراته، ومثوبة من مثوباته؛ وهو الذي أشارت إليه السورة الكريمة بقول الله تباركت آياته: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح: 18، 19). وهذا الفتح القريب هو فتح خيبر . 

 فتح خيبر

* الكيد والحسد:

كان أولى باليهود أن يكونوا أسبق الناس إلى نصرة رسول الله، وأسرعهم إلى إذاعة دين الله، لأنهم أهل العلم، وأهل الكتاب، وأعرف الناس بميثاق النبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81).

 وهم كانوا يعلمون صفة النبيّ، ووقته، ومكانه، وكل ما يُحيط به، ولكن أدركهم الحسد وغلبت عليهم الشقوة فناصبوا النبيّ العداء؛ وسعوا بينه وبين سائر العرب بالشقاق، واتهموه عندهم بالكذب والبهتان بغياً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتوسلوا بما كان بينهم وبين قريش من الصلات التجارية والمالية فأغروهم به، وسلطوهم عليه، ثم لما هاجر إلى المدينة حالفوا عليه المنافقين، ثم كادوا له عند أحزاب العرب حتى جمعوهم على حربه، فلما هزم الله الأحزاب لم يكن له بد من إجلاء الهود إلى أعماق الجزيرة فأجلاهم عنوة من حول المدينة إلى خيبر.  

ولكهم وهم في خيبر مازالوا يفسدون ما بين النبى وبين العرب، فسار إليهم ومعه أهل بيعة الرضوان جميعاً، لم يتخلف منهم إلا جابر بن عبد الله، وانضم إليهم فريق من غيره، وكان مسيرهم في صفر من السنة السابعة، أي بعد انصرافه من الحديبية بشهرين وبضعة أيام، وكنت حصون خيبر أقوى حصون العرب، وأحفلها بالسلاح والمال والطعام، وقد ابتناها اليهود ليعتصموا بها من العرب جميعاً، وكان المسلمون فى سيرهم يكبرون الله بصوت يبعثه الإيمان الكامل فتهتز من روعته الراسيات، وبدأ رسول الله بالأموال السائمة يحتازها مالاً مالاً، ثم ثنى بالحصون يقتحمها حصناً حصناً، حتى انتهى إلى حصن السّلالم وهو أشدها بأساً، وأكثرها عتاداً، وأمنعها على الفاتحين، فلقي المسلمون منه عنتاً شديداً وحاصروه بضع عشرة ليلة، وكلما ذهبت كتيبة لتقتحمه ردت عنه مقهورة.  

* حبيب الله وحبيب رسوله:

ولما عز الحصن على الكتائب المُهاجِمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويُحبه الله ورسوله، فما من أحد من أقطاب المسلمين وأبطالهم إلا تمنى الإمارة ليلتئذٍ، فلما أصبح النبي دعا علياً عليه السلام وكان أرمد فتفل في عينه فجليت،ثم أعطاه اللواء ونهض معه من الناس من نهض، فلما بلغ الحصن خرج له مرحب قائد اليهود وكبير أبطالهم، وعلى رأسه خوذة من الرخام وهو يرتجز:  

قد علمت خيبر أني مرحب  … شاكي السلاح بطل مجرب  

أطعنُ أحياناً وحيناً أضربُ

 فقال علي:  

أنا الذي سمتني أمي حيدرة … أكيلكم بالسيف كيل السندرة

ليثٌ بغاباتٍ شديدٍ قسورة

(=السندرة الكل باغتراف).

فضربه مرحب ضربة اتقاها عليٌ بترسه فانكسر، فلما وقف عليٌّ ولا ترس له نظر فرأى باباً مخلوعاً من الحديد فأخذه فتترس به، ثم ضرب بالسيف مرحباً فوق هامته ضربة اخترقت بينة الرخام وشقت هامته حى عضت بفكيه، وكبر فكبر المسلمون، ثم حملوا عل الحصن واليهود يلقون عليمم من فوقه الصخر والحديد وهم ي يزدادون إلا قوة واستبسالاً، حتى فتحه الله عليهم، وبذلك دانت خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 

* الكرم والصفح:

وأرادت زينب بنت الحارث اليهودية أن تثأر لنفسها ولقومها من رسول الله، فزعمت نفسها مسلمة، ثم أعدت له شاة مشوية وحقنتها بالسم، وسألت: أي أعضاء الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع ، فأكثرت من السم فيه. فلما وضعتها بين يدي الرسول تناول الذراع فلاك منه مضغة فلم يسغها، فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بزينب فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك ؟ قالت: بلغتَ من قومي ما لم يخفَ عليك، فقلتُ: إن كان نبياً فسيُخبَر وإن كان مِلكاً استرحتُ منه، فتجاوز عنها عليه الصلاة والسلام.

* حكمة الله العالية:

وكأن لابد من القضاء على اليهود قبل أن يفد العرب من أقطار الجزيرة مسلمين، حسماً لكيدهم، وكفاً لمكرهم، ولينفق النبي إتع من أموالهم ومطاعمهم على قصاد المدينة وهم ضيوف الله ورسوله ، وليزود الكتائب الإسلامية بالعتاد والسلاح لفتح مكة، وهكذا يرفع الله المسملين درجة درجة حتى يصلوا إلى الغاية العليا من عزة الدنيا وسعادة الآخرة.  

هذا هو الفتح القريب الذي أثاب الله به المسلمين، وبشرهم به قبل وقوعه، وجعله من دون فتح مكة خيرا عاجلاُ، وقوة عتيدة. وننتقل من بعده إلى فتح مكة، وهو المرحلة الأخيرة من الفتح العظيم.

فتح مكة

* قريش تنقض العهد:

لقد علمت أن مما نص عليه صلح الحديبية: أن من شاء دخل في حلف  الرسول ومن شاء دخل في حلف قريش، وللمحالف حق الحليف من العهد والذمة  والأمن والسلام. وقد حدث أن نشب الشر بين بنى بكر بن عبد مناة، وهم حلفاء  قريش، وبين خزاعة وهم حلفاء النبي، فأعانت قريش بكراً بالسلاح، وبعض  الرجال، وأصابوا منهم من أصابوا؛ فانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله، فأنشده في المسجد بين الناس: 

لاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا

فوالداً كُنا وكُنتَ ولداً … ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا

فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا

إنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا … وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُوَكَّدَا 

وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا … هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا 

وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا (لاهُمَّ =اختصار: اللهم).

فقال رسول الله: قد نُصرت يا عمرو بن سالم، وبذلك انتكث صلح الحديبية، وأباح الله رسوله دخول مكة أنى شاء، ونظر الرسول إلى من حوله؛ فقال: كأني بأبي سفيان، قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة. 

* قريش بين الخوف والندم:

ولقد صدق الله رسوله، فما لبثت قريش أن استشعرت الخوف والندم، فأرسلت أبا سفيان إلى رسول الله، ليشدد العقد ويزيد في المدة، فلما بلغ المدينة  ذهب إلى ابنته أم حبيبة، زوج رسول الله، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله، طوته عنه. فقال : بنية، والله ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت بل هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس ! قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شراً ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله فأبى، ثم أتى عمر لمثل ما أتى به أبا بكر فأبى، فدخل علي عليّ بن أى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله وأمامها الحسن بن علي غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمسُّ القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة وقد جثت فى حاجة، فلا أرجعنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لنا إلى رسول الله. قال: ويحك يا أبا سفيان. والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة . قال : يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن بجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد، ثم عاد أبو سفيان وما صنع شيتا ذا أثر . 

* النبيُّ يتأهب:

وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -الناس أن يتجهزوا للحرب، وأنبأهم أنه سائر إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها، وما أراد الرسول من المفاجأة إلا أن تسكن قريش في دارها ذلاً فلا تعرض نفسها للفناء وإلا فهم أعجز من أن يصمدوا للقوة الزاحفة أو يقفوا لها بطريق .  

وأراد حاطب بن أبي بلتعة أن يتخذ إلى قريش يداً ويحفظ بها أهله وماله في مكة فكتب إليهم كتابا يخبرهم فيه بما عزم عليه الرسول، وأعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جملاً على أن تضعه فى غدائر شعرها فقامت، وأخذت طريقها إلى مكة.

 وجاء الخبر إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - من السماء، فبعث لها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ماقد أجمعنا له فى أمرهم، فخرجا حتى أدركاها، فالتمسا الكتاب فى رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها عليٌّ: إني أحلف ما كذب رسول الله، لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه أخرجت الكتاب. ولما عاد الرفيقان بالكتاب إلى رسول الله دعا حاطبا، فقال: يا حاطب! ما حملك على هذا ؟ 

فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي فى القوم أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم أهل وولد  فصانعتهم عليهم، فقال عمر: يارسول الله دعني فلأضرب عنقه، فان الرجل قد نافق! فقال رسول الله: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر. وكان حاطب منهم. فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لـكم)).

فأنزل الله في شأنه قوله تباركت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الممتحنة: 1) إلى قوله: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة: 4). 

وسار رسول الله في عشرة آلاف رجل مستكمل الأهبة والسلاح، وهو أعظم جيش إسلامى في عهد النبوة، وكان لـكل كتيبة شعار خاص ، واسم خاص، وزى خاص، وهذا أسلوب الفداء عند العرب لكي ندل كل قبيلة على مقدار فدائها وبلائها في سبيل الله.

* بين رسول الله وأبي سفيان:

لم يلق النبي عناء، من أحد مثل ما لقي من أبي سفيان. فهو كبير الأسرة الأموية التي كانت تنازع الأسرة الهاشمية أعنة السيادة فى قريش، وقد رأى أبو سفيان أن ظهو رأمر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -يكفل لبني هاشم سيادة الدهر وعز الأبد، ولا يدع لأموي مجالاً في الفخر مع هاشمي، فناصب النبيَّ -صلى الله عليه وسلم منذ مشرق عهد النبوة أعنف العداء، وسلط عليه أفدح البلاء، وكان من أفظع مواقفه من رسول الله تعاونه هو وامرأته هند على اغتيال سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، فلما سقط صريعا، نزعت المرأة كبد الشهيد لتأكلها بينما أخذ أبو سفيان يمزق جسده ووجهه بسن رمحه...! 

فما ظنك بهذا الرجل وهو يعلم أن رسول الله قادم إليه بجيش لا قبل له ولا لقومه به! لقد خرج إلى الصحراء فى نفر من أصحابه يتحسسون أخبار رسول الله، فبينا هو سادر في ظلمة الليل، وفى ظلمة الحيرة مر به العباس بن عبد المطلب عم رسول الله، فعرفه من صوته، فناداه العباس: يا أبا حنظلة ! فأجابه لميك فداك أبي وأمي، فما وراءك ؟ قال هذا رسول الله قد دلف إليكم بعشرة  آلاف من المسلمين لاقبل لكم بها، فقال أبو سفيان فما تأمرى؟. 

قال: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله، فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك! فردفه أبو سفيان وسار به بين نيران الكتائب الإسلامية حتى بلغ به مضرب الرسول، فدخل عليه وهو معه، فاستأمن له. فقال رسول الله اذهب فقد أمَّناه حتى تغدو به عليّ فى الغداة، فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاالله! فقال: بأبي أنت وأمي! ما أوصلك وأحنك وأكرمك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً. ال: ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؛ فقال : بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأوصلك وأكرمك، أما هذه ففي النفس منها شيء.

قال له العباس: ويلك! تشهَّد شهادة الحق قبل والله يضرب عنقك، فتشهَّد أبو سفيان، فلما تشهد قال الرسول لعمه: انصرف به فكن معه عند خطم الجبل بمضيق الوادى حتى تمر عليه جنود الله، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يُحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال: نعم، ((من دخل دار أبا سفيان فهو أمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن)).

أرأيت إذن كيف سما رسول الله بفطرته وحسن خلقه، حتى بلغ كل غاية، وجاوز كلى مرتقى؛ هذا هو الرجل الذى أجلب عليه بكل صنوف الأذى ثمانية عشر عاماً لا هوادة فيها ولا رفق ولا كرامة ... هذا هو الرجل الذي صب على أصحاب النبيّ كل ألوان العذاب من قتل ونفي وتشريد... هذا هو الرجل الذي سلط على عم النبيّ من اغتاله، ثم أحال على جثمانه فمزقه ومثّل به، وترك امرأته تنتزع كبده لتأكلها فلما لم تسغها ألقت بها في التراب ...  

هذا الرجل وذلك بعض شأنه، يقف أمام محمد، ومحمد فى ذروة القوة والصولة والعزة والسلطان، ثم يماريه في رسالته فلا يقتله، ولا يردعه، ولا يعيره، ولا يذكره  ببعض ما سلف منه، ولا يتوعده بالثأر من بيته، بل يتفضل عليه فيشرفه ويجعل بيته مثابة آمنة لكل لاجئ. فأيُّ بيان يصف هذه النفس الربانية التي تركت كل مشاعرها ومقاصدها وآلامها وآمالها لله، لاتسأل عما يمسها من سوء، أو ينالها من فجيعةٍ ما دام ذلك لله، وفي الله.

وبعد فقد انطلق الصاحبان "العباس وأبو سفيان" حتى وقفا عند خطم الجبل، فكلما مرت به قبيلة قال أبو سفيان: مالى ولهذه؟ حتى مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلا الحَدق، فقال أبو سفيان: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ قال هذا رسول الله والمهاجرين والأنصار، فقال يا أبا الفضل: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! قال: ويحك، إنها النبوة! 

الحق الآن بقومك فحذرهم! فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاء بما لا قبل لكم به، قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري فهو آمن؛ فقالوا ويحك، وما تغني عنا دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.  

* دخول مكة:

ورغم هذا الأمان الشامل خرج أناس من فتيان قريش وحلفائهم ليقاتلوا، وقسم رسول الله كتائبه قسمين: قسم يقوده خالد بن الوليد، وآخر يقوده الزبير بن العوام، وأمر أولها أن يدخل مكة من أسفلها، وأن يدخلها الثاني من أعلاها، وقال لهما لا تقاتلا إلا من قائلا، وعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن سعد بن عبادة وهو فى طليعة جيش الزبير يحمل رايته، ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحُرمة! فقال لعلي أدرك سعداً، وخذ الراية منه وأخِّره، ولم يلق جيش الزبير قتالاً، أما خالد فقد لقي شيثاً من المقاومة لم يلبث أن أجلاها، وهكذا دخل المسلمون مكة آمنين، ودخلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -حاسر الرأس تواضعاً لله، حتى كاد جبينه الشريف يمس رحل ناقته.  

* السياسة الإسلامية:

وأقبل عليه الناس من كل فج يبايعونه بالإسلام، وألقى الأمان على الناس إلا عشرة منهم: ستة رجال وأربع نساء رفع عنهم الأمان، وأمر أن يقتلوا ولو تمسحوا بأستار الكعبة، لأنهم أحدثوا أحداثاً في الإسلام لا تنالها التوبة، ومع ذلك قد نجا بإسلامه من هؤلاء من سبقت له رحمة الله، ومن اعتصم بإسلامه قبل أن يدركه الموت.

ثم جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قريشاً وخطبهم فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت (=سدانة الكعبة خدمتها)، وسقاية الحج (=بهذا المبدأ العظيم طرحت مبادئ السيادة ومآثر الأشراف التي كان يباهي بها الناس بعضهم بعضاً، وتركت الدماء التي أريقت، فلا يؤخذ دم في الاسلام بدم قبل الاسلام).

 يا معشر قريش ! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظُّمها بالآباء، لناس من آدم وآدم خلق من تراب، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13). 

* الصفح والمغفرة:

ثم تابع الرسول الكريم خطبته الشريفة؛ فقال: يا معشر قريش! ويا أهل مكة! ما تظنون أنى فاعل بكم؟ قالوا خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء .. ! » وليس في هؤلاء الطلقاء رجلٌ إلا وقد سقى الرسول ألواناً من العذاب. وهؤلاء لم يقف منهم موقف العفو والصفح وحسب. بل لقد آخاهم وخلطهم بنفسه وأجزل لهم العطاء، و بهذه السياسة العليا كان رسول الله أحب إليهم من أرواحهم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. 

ثم حطم رسول الله الأصنام المحيطة بالبيت. وكانت ثلاثة وستين صنماً. وكان شعار الرسول وهو يحطم الأصنام، قول الله تباركت آياته: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81).

وبعد خمسة عشر يوماً أجمع -صلى الله عليه وسلم -على العودة إلى المدينة ولم يشغله وطنه الذى غُرّب عنه ثماني سنين عن المُضي فى سبيل الله. وكان فتح مكة في أخريات رمضان سنة ثمانٍ من الهجرة النبوية.  

يوم حُنين

* الإعجاب بالكثرة:

لم يُغادر النبيُّ مكة حتى انضم إلى جيشه ألفان من أهلها فازداد بهم الجيش إلى اثني عشر ألفاً، وقد أخذ المسلمين الزهو بكثرتهم، فربما نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: لن نغلب بعد اليوم من قلة! وكانت هوازن ومن انضم إليها من قبائل العرب قد أجمعوا أمرهم على أن يقاتلوا رسول الله، فبثوا كتائبهم في الشعاب والمضايق والأحياء المحيطة بوادي حنين. 

* المفاجأة والهجوم:

 وقد ترامى إلى رسول الله إجماع هوازن ومن معها على حربه، ولم يعلم أنهم سيأخذونه مباغتة ويلقونه مفاجأة، وبينما الجيش الإسلامي في طريقه بوادي حنين انفرجت الجبال والشعاب والمضايق عن كتائب المشركين، وأخذت جيش النبيّ من كل جانب! فارتاع المسلمون وانهزموا بكل طريق لا يلوي أحد منهم على أحد ! ولم يبق في الميدان إلا رسول الله فى بضعة نفر، هم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وأخوه ربيعة بن الحارث ابنا عم رسول الله، وأيمن بن عبيد، وأسامة بن زيد، وامرأة مؤمنة باسلة هي أم سليم بنت ملحان.

وكان -صلى الله عليه وسلم -ينادي في الناس: ((أين أيها الناس! هلم إليّ! أنا رسول الله، أنا محمد ابن عبد الله)) وقد ضربت الهزيمة على أسماع الناس فهم لا يسمعون، ولما رأى النبى -صلى الله عليه وسلم -انكشاف أصحابه وتدافع المشركين عليه نزل عن دابته وشد على الهاجمين، وصال فيهم يميناً وشمالاً، وهو يقول :  

أنا النبيُّ لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب

وأرسل ينادي في المسلمين: يا معشر أصحاب الـسُمرة! (شجرة الرضوان)، فأقبلوا بعضهم في أثر بعض، واستبسلوا حول رسول الله.

* جنود الله وسكينته:

ثم أرسل الله ملائكته على المؤمنين فبثت في قلوبهم السكينة فعادوا وهم أحمى قلباً، وأمضى عزماً، وأعنف قوة، من كل موقف سلف، وكل موقعة مضت، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم -حفنة من تراب، فرمى بها وجوه المشركين وهو يقول: {حم، لا يُنصرون}، فكأنهم كانوا جذوعاً خاوية ، وأخذت سيوف المسلمين تتلقفهم من كل صوب وكل جانب حتى فر منهم من فر، وقتل من قتل، وتركوا من السبايا أكثر من ستة آلاف بين امرأة وغلام، وتركوا من السلاح والمال والدواب والأنعام والميرة والطعام ما لا عد له، وكان هذا النصر إيذاناً بانقضاء قوة الجاهلية. 

وأنزل الله فى هذه الموقعة قرله جل شأنه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 25، 26).

هذه الفتوح الثلاث التي أثمرتا صلح الحديبية وأثاب بها الله رسوله الأمين وشيعته المجتباة وبهذا البيان عن تلك الفتوح مهدنا الطريق إلى سورة الفتح.




الأربعاء، 25 مايو 2022

قرة العيون بشرح نظم ابن يامون في آداب النكاح وما يتعلق به لأبي عبد الله محمد التهامي بن المدني بن كنُّون الحسيني الفاسي

قرة العيون

بشرح نظم ابن يامون في آداب النكاح وما يتعلق به

لأبي عبد الله محمد التهامي بن المدني بن كنُّون الحسيني الفاسي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب هو شرحٌ مختصرٌ لنظم ابن يامون فيما يتعلق بالنكاح وآداب المعاشرة الزوجية، من أركان العقد، وأحكام النكاح، وآداب الدخول، والوليمة، والمداعبة، والوطء، وكيفيته، وغير ذلك مما يحتاج لمعرفته الزوجان في هذا الباب، وختم بذكر نصائحَ نفيسة لكلٍّ من الزوجين، وبينا بعض حقوق الأبناء على آبائهم، وتضمن هذا الشرح أموراً من العادات التي ليس عليها دليل، وإنما مصدرها ما ألفه الناس، وكذلك فهو مليء بالأحاديث الواهبة والموضوعة.

 وهناك كتبٌ كثيرةٌ جداً تناولت هذا الموضوع المتعلق بالنكاح وآدابه وأحكامه، منها: (العدة والسلاح في أحكام النكاح) للشيخ محمد بن أحمد بافضل الحضرمي، وشرحه (مشكاة المصباح) للشيخ عبد الله بن عمر بامخرمة، و(قولي في المرأة) لمصطفى صبري، و(دولة النساء) لعبد الرحمن البرقوقي، و(نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان)، و(حُسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله للنسوة) كلاهما لصديق حسن خان، (والرجل والمرأة في الإسلام) لمحمد وصفي، 

وقد بلغت أبيات هذا النظم  (١٠٧) أبيات، وكان ابن يامون نظمها في عام (١٠٦٩ هـ)، وأما الشرح فقد أتمه كنُون في عام (١٣٠٥ هـ)، 

وذكر كُّنون فيه من النفائس والفوائد والتنبيهات الشيء الكثير، ومن ذلك: اختلاف العلماء: هل النكاح أفضل، أم التخلي للعبادة أفضل؟ وذكر أن الأفضل والراجح في ذلك: (الجمع بينهما، لأن النكاح ليس مانعاً من التخلي للعبادة). وقال أبو بكر الورّاق: (كُلُّ شهوةٍ تُقسِّي القلب، إلا شهوة الجماع فإنه تُرقِّقُه).

ترجمة ابن يامون

هو أبو محمد قاسم بن أحمد بن موسى، ابن يامون التّليدي الأخماسي. 

ذكر له سَركيس في "معجمه" (ص 286- 287) منظومته في آداب النكاح وما يتعلق به مما يجب أو يُباح، وأ،ه شرحه بشرٍ أوله: "الحمد لله الذي جعل النكاح من أعظم أسباب الاعتصام…" وأنه طُبع بفاس سنة (1317هـ)، في (112) صفحة، وبهامشه شرحه المُسمى "قرة العيون بشرح نظم ابن يامون".

ترجمة كَنُّون

هو أبو عبد الله محمد التِّهَامي بن المدني بن علي ابن عبد الله كنون، الإدريسي، الحُسيني، الفاسي، (... - 1333 هـ = … - 1915 م).

 فقيه مالكي، من الوعاظ. من أهل فاس.

سكن طنجة وتوفي بها.

مؤلفاته: 

-أربعون حديثاً في فضل الجهاد.

-أربعون حديثاً في فضل الحج.

-أربعون حديثاً في الزكاة.

-أربعون حديثاً في فضل الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

-أربعون حديثاً في فضل الصلاة والمحافظة عليها.

-أربعون حديثاً في فضل صيام رمضان وقيامه.

-أربعون حديثاً في فضل الهيْلَلة.

-أربعون حديثاً في فضل يوم الجمعة، وبركاته المدخرة للأمة المحمدية.

-الأربعينات الحديثية (في موضوعات مختلفة).

-إرشاد القاري لصحيح البخاري.

-أقرب المسالك تعليق على موطأ مالك.

-تقييدات في نية مُريد العقود.

-ختم.

-شرح مسلم.

-مناهل الصفا في حل ألفاظ الشفا.

-نصيحة المؤمن الرشيد في الحض على تعلم عقائد التوحيد.





الثلاثاء، 24 مايو 2022

زيتونة الإلقاح بشرح منظومة ضوء المصباح في أحكام النكاح تأليف الشيخ العلامة عبد الله بن أحمد باسودان

زيتونة الإلقاح بشرح منظومة

ضوء المصباح في أحكام النكاح

تأليف الشيخ العلامة عبد الله بن أحمد باسودان

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا شرحٌ وجيزٌ لطيف على منظومة (ضوء المصباح) في أحكام النكاح، دبجته يراع العلامة باسودان، وقد ضمنها رءوس المسائل في هذا الباب، وبيَّن فيها مقاصد النكاح وغايته وآدابه، توصلاً إلى صحة العقود وإحكامها، وقد ضمن شرحه عليها -أحكام العدة والطلاق والخلع، تتمة لباب النكاح، وزاد في الشرح فروعاً ومسائل وتتمات وفوائد تتعلق بأحكام الخطبة، والظهار والرَّضاع والحضانة، والقسم والنشوز والصَّداق، وغير ذلك.

وقد جاء هذا النظم على بحر "الطويل"، وأجزاؤه: (فعلون مفاعيلٌ، فعولن مفاعلن =مرتين). وبلغت أبياته (٩١) واحدٌ وتسعون بيتاً، وقد شرحها العلامة باسودان شرحاً مختصراً في "زيتونة الإلقاح" كما شرحها العلامة الباجوري في "منح الفتّاح على ضوء المصباح"، وهو شرحٌ مختصرٌ أيضاً، لكنه أيسر وأقرب.

وللنكاح موقعٌ عظيمٌ من ديننا الحنيف، لأن به تحصيلُ الصيانة والعفاف، والحفظ عن الوقوع في الفساد، ولذلك رغَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم في النكاح، ويسَّر وسائله، وأوضح أسبابه، ونهى عن التبتُّل والرهبانية، وأخبرنا أنه من سنن الأنبياء والمرسلين، كلُّ ذلك صيانةً للأعراض وحفظاً للنسل، وتحقيقاً للتوازن بين مطالب البدن ومطالب الروح، حيث أنكر الرسول صلى االله عليه وسلم على نفرٍ غلوا في شأن العبادة والطاعة؛ وأرادوا التبتُّل، فمنعهم من ذلك.

 روى البخاري في "صحيحه" حديث الرهط الثلاثة؛ وفيه: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها؛ فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وقد بيّن الإسلام أهمية النكاح في بناء المجتمع المسلم، وذلك من خلال:

أولاً: الحفاظ على النوع الإنساني وذلك عن طريق الزواج والتكاثر، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (النحل: 72).

ثانياً: الحفاظ على النسب، ومن خلال الزواج لا تضيع الأنساب، بل يتم معرفة نسب كل فرد بعكس الزنا الذي فيه تضيع الأنساب.

ثالثاً- الزواج يؤدي إلى سعة الرزق، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151).

رابعاً- خلو المجتمع من الأمراض الناجمة عن الزنا، أي الحفاظ على صحة المسلم والمجتمع من خلال إشباع الغريزة الجنسية عن طريق الحلال المشروع وهو الزواج.

خامساً- أنه يؤدي إلى الاستقرار النفسي وبناء أسرة صالحة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).

ترجمة الشيخ عبد الله بن أحمد باسودان  

(بقلم/ السيد حسين بن محمد بن هادي السقاف)  

  اسمه ونسبه: 

هو العلامة الفهامة الفقيه المصنف الشيخ عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن باسودان. ينتهي نسبه إلى المقداد بن الأسود الكندي، الصحابي المشهور الجليل المتوفى سنة: (٣٣هـ) رضي الله تعالى عنه.  

اشتهر أجداده المشايخ المقداديون بأل باسودان؛ نسبة إلى قرية (غيل أبي سودان) موطنهم السابق، الكائنة بقرب بلدة (ساه).  

وتعرف قرية (غيل أبي سودان) اليوم بـ (غيل عمر)، ثم انتقلوا منها إلى (الخريبة) كبرى بلدان (وادي دوعن) الأيمن.  

ميلاده، ونشأته، وتحصيله العلمي:  

ولد المؤلف -رحمه الله تعالى -سنة : (١١٧٨هـ) بموضع قريب من مدينة (الخريبة)، ونشأ بها في رعاية والده، وتربى تربية صالحة في رحاب البيت العامر، فعاش حياة علمية نقية منذ نشأته، وجد واجتهد في طلب العلم وتحصيله، والتحق بمعاهد العلم الشرعي وحلقات الشيوخ الأجلاء، فأخذ عنهم ، وتلقى منهم، وراتبط بسلاسل أسانيد أولئك الرجال الأماثل الأفاضل، حتى بلغ إلى ما بلغ إليه من الرتب العوالي .  

شيوخه:  

أخذ صاحب الترجمة عن شيوخ عصره، فابتدأ أولاً بالشيوخ الموجودين بمنطقة (وادي دوعن)، وفي مقدمتهم: 

١- الإمام العلامة الحبيب: عمر بن عبد الرحمن البار الثاني [لأن الأول هو الجد الأدنى للمذكور الاخذ عن الإمام الحداد، وقد توفي سنة: ( ١١٥٨ هـ ) ودفن بمقبرة القرين بـ ( دوعن )]، وهو -أي الحبيب عمر -المعروف بـ: (صاحب جلاجل =جلاجل: هو موضع ساحلي قريب من (الليث) كانت ترسو فيه السفن، ونسب إليه ألحبيب عمر المذكور؛ لأنه دفن فيه).

وهو شيخ فتحه، وعنه جل أخذه في مختلف العلوم الشرعية والعربية وغيرها، ولازمه ملازمة تامة حضرا وسفرا، ورافقه في رحلته إلى الحرمين الشريفين؛ لأداء النسكين، وزيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك سنة: (١٢١٢ هـ ) ولتكن المنية وافت شيخه السيد عمر وهو في السفينة التي كانت تقلهما إلى الحج، ولعل مما يتفاءل به ويستأنس بوفاته متوجها إلى بيت الله الحرام قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: ١٠٠)  

٢-الشيخ: عبدالله بن أحمد بن فارس باقيس الكندي. 

وغيره من شيوخ (دوعن)، كما أخذ عن بقية الشيوخ الموجودين آنذاك بـ (تريم) و(سيؤون) وبقية بلاد حضرموت.

٣- الإمام الحبيب: حامد بن عمر حامد المنفر.

٤- العلامة الحبيب: عمر بن سقاف السقاف ( ت ١٢٢٤ هـ) .  

٥- العلامة الحبيب: طاهر بن حسين بن طاهر (١٢٤٤ هـ ).  

٦ - العلامة الحبيب : أحمد بن عمر بن سميط (١٢٥٧ هـ ).  

٧ـ العلامة الحبيب: حسن بن صالح البحر ( ١٢٧٣ هـ ).  

٨- العلامة الحبيب: شيخ بن محمد الجفري صاحب (مليبار).  

وغيرهم من الشيوخ الحضارمة والشيوخ الذين لقيهم في رحلاته، وأخذ عنهم ممن يطول تعدادهم، ويصعب حصرهم  

تلاميذه:  

وأخذ عنه كثير من العلماء الأجلاء من السادة العلويين وغيرهم، منهم:  

١- ابنه: محمد باسودان.  

٢-الحبيب: عيدروس بن عمر الحبشي .  

٣-الحبيب: أحمد بن محمد المحضار ( ت ١٣٠٤ هـ )  

٤-الحبيب صالح بن عبد الله العطاس ( ت ١٢٧٩ هـ) .  

٥- الشيخ العلامة أحمد بن عمر باذيب الشبامي، المتوفى بـ ( سنغافورة) سنة ( ١٢٦٨ هـ) أو بعدها .  

٦-الحبيب طاهر بن عمر الحداد، صاحب (قيدون) ( ت ١٣١٩ هـ ).  

٧- الحبيب حسين بن محمد البار ( ت ١٣٣٠ هـ ) صاحب ( القرين ) .  

٨- سبطه العلامة الفقيه السيد عمر بن أحمد الجيلاني الحسني من (الخريبة) .  

وأقرانهم ومعاصروهم من رجال تلك الحقبة، الذين يصعب عدهم وحصرهم.

مؤلفاته: 

يعذ المؤلف من الحضارمة المكثرين في مجال التأليف؛ فقد ألف عدة مؤلفات، نذكر منها ما يلي:  

١. «لوامع الأنوار شرح رشفات الأبرار»، المنظومة الشهيرة «بالرشفات» للإمام العلامة الحبيب عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه وقد يسمى «مطالع الأنوار»، منه نسخة بمكتبة الأحقاف بـ ( تريم ) برقم  (١٨٧٨)

٢ـ « فيض الأسرار شرح سلسلة الحبيب عمر بن عبد الرحمن البار» في مجلدين ضخمين، توجد منه نسخ متداولة لدى بعض الناس، ويوجد بمكتبة تريم الجزء الأول فقط ورقمه (٢١٤٨)، ونسخة تامة بالغرفة .  

٣ـ «حدائق الأرواح في بيان طريق الهدى والصلاح» وهو من أهم المراجع التاريخية عن تاريخ ( دوعن ) وأسرة المصنف وشيوخه، منه نسخة بـ ( تريم ) برقم ( ١٥٩٢ ) وبمكتبة آل الحبشي بـ ( الغرفة ) .  

٤ـ منظومة «ضوء المصباح» وهي أصل هذا الكتاب، منها بالأحقاف بـ ( تريم ) رقمها( ٣٠٣٢ )  

٥ - « زيتونة الإلقاح » بشرح «ضوء المصباح الذي يطبع لأول مرة عن مخطوطات موثوقة وهو هذا الكتاب .  

٦ - « تعريف طريق التيقظ والانتباه لما يقع في مسائل الكفاءة من الاشتباه» توجد منه نسخة بمكتبة الأحقاف بـ(تريم) برقم (٣٠٤٦)، ونسخة ( الغرفة )، وأخرى بـ ( تريم ) لدئ بعض الأهالي عليها تعليقات لمفتي حضرموت العلامة عبد الرحمن

٧ـ «الأنوار اللامعة والتتمات الواسعة» شرح «الرسالة الجامعة» للحبيب  أحمد بن زين الحبشي، وقد حققه واعتنى به الأخ محمد أبو بكر باذيب وهو ماثل للطباعة، يوجد من الكتاب نسخة بمكتبة الأحقاف بـ ( تريم ) برقم ( ١٥٣٢ )، وعثر الباحث المذكور على نسخة أخرى منه ببعض المكتبات الخاصة في منزل مهجور بـ ( شبام ) حضرموت .  

٨. «عدة المسافر وعمدة الحاج والزائر» في مناسك الحج والعمرة وفي الزيارة . منه نسخة خطية بمكتبة جامع ( تريم ) برقم (٨٤١) ، وأخرى بمنزل الشيخ أبي بكر بن عبد الله باذيب بـ ( شبام ) حضرموت، وقد طبع هذا الكتاب في ( مصر ) سنة (١٩٧٧ م) بمطبعة المدني.

٩. «تنفيس الخاطر شرح خطبة الحبيب طاهر» . يقع في مجلد ضخم، وبعض نسخه تقع في مجلدين، منه نسختان مكتبة جامع ( تريم ) تحت رقم ( ٢٥٥٨ ) و( ١٥٧٤) ، ونسخة أخرى بمنزل المصنف بـ ( الخريبة )، وسماه السقاف صاحب «تاريخ الشعراء الحضرميين»: «التوشيحات الجوهرية على الخطبة الطاهرية» كذا في تعليقاته على «رحلة باكثير» .  

١٠. «جواهر الأنفاس في مناقب الحبيب علي بن حسن العطاس». واسمه كاملاً: «جواهر الأنفاس بمناقب السيد علي بن حسن العطاس وبعض أصحاب الشيخ عبد الله الحداد والشيخ علي باراس»، كذا ورد اسمه في بعض مصادر ترجمة المصنف . منه نسخة بمكتبة جامع ( تريم ) ورقمها (٢٠٣٦) ، وتوجد نسخ كثيرة منتشرة في حضرموت والمهاجر، ومنه نسخة مصورة بمنزل السيد عمر بن حفيظ بـ (تريم).

١١. «ذخيرة المعاد شرح راتب الإمام الحداد». طبع بـ(مصر) طبعتان: الأولى سنة (١٣١٧ هـ ) بهامش كتاب «عقد اليواقيت الجوهرية» لتلميذه العلامة السيد عيدروس بن عمر الحبشي، والأخرى منفصلة طبعت بمطبعة المدني على نفقة المرحوم الشيخ سراج كعكي رحمه الله.

١٢. «ديوان شعر» في مجلد ضخم . يوجد في مكتبة الأحقاف بجامع ( تريم ) ورقمه (٢٥٥٦) ، وفيه أخطاء كثيرة وجمعه بعضى أبناء المترجم .  

١٣. «ثبت الأسانيد» في جزء  لطيف، ذكره صاحب «تاريخ الشعراء». 

وله غير ذلك من المؤلفات والرسائل الكثيرة والوصايا النافعة القيمة وكلها تدل على سعة اطلاعه، وطول باعه، وغزير علمه، وتمكنه في كثير من العلوم .  

كان صاحب الترجمة من العلماء العاملين، الذين حصل بهم النفع الكثير في نشر العلم والدعوة إلى الله، والاثار دالة وشاهدة على ذلك .  

أخلاقه  

كان - رحمه الله تعالى-ـ على جانب كبير من الأخلاق السامية الكريمة، شديد التعلق بآل البيت والمحبة لهم، يجلهم غاية الإجلال - خصوصاً العلويين - وجل أخذه عنهم -كما تقدم -وسيره على طريقتهم، ومشربه مشربهم، وقد حظي من أكابرهم بالرعاية والاعتناء التأمين .  

وهو أحد العبادلة السبعة الأقران المتعاصرين ، الذين بلغوا المراتب العالية في العلم والعمل، والفضل والصلاح، وحصل بهم النفع الكثير، وهم:  

١ ـ صاحب الترجمة رحمه الله تعالى .  

٢. الحبيب: عبد الله بن حسين بلفقيه المتوفى سنة : (١٢٦٦هـ) .  

٣ـ الحبيب: عبد الله بن حسين بن طاهر المتوفى سنة : (١٢٧٢هـ) .  

٤ـ الحبيب: عبد الله بن عمر بن يحيى المتوفى سنة : (١٢٦٥هـ) .  

٥ـ الحبيب: عبد الله بن علي بن شهاب المتوفى سنة : (١٢٦٤هـ) .  

٦. الحبيب: عبد الله بن أبي بكر عيديد المتوفى سنة : (١٢٥٥هـ) .  

٧ـ الشيخ: عبدالله بن سعد بن سمير المتوفى سنة : (١٢٦٢هـ) .  

وفاته:  

انتقل المصنف إلى رحمة الله في مدينة ( الخريبة ) بتاريخ (٧ ) جمادى الأولى، سنة : (١٢٦٦ هـ) ، ودفن بها.  رحمه الله وضاعف مثوبته ، وأسكنه بحبوحة جناتها. 

ترجمة الشيخ إبراهيم الباجوري

(بقلم/ محمد أبو بكر باذيب)

اسمه ونسبته:

محمد بن أحمد هو العلامة الإمام الفقيه شيخ الجامع الأزهر إبراهيم بن الباجوري، أو البيجوري المنوفي المصري الشافعي.  

ينسب إلى قرية (الباجور)، وقد تمال فيقال لها: ( البيجور )، وهي قرية من قرى محافظة المنوفية غربي ( مصر).

مولده ونشأته: 

ولد سنة: (١١٩٨ هـ)، ونشأ في حجر والده، وقرأ عليه القرآن المجيد وجده. . ولم يذكر المؤرخون له شيوخا ببلدته سوى والده المذكور.

التحاقه بالجامع الأزهر وذكر شيوخه به:  

في سنة : (١٢١٢ هـ) قدم المترجم له إلى الجامع الأزهر رغبة في تحصيل العلوم الشرعية والآداب المرضية . . وسنُّه إذ ذاك (١٤) سنة، ومكث به حتى دخل الفرنسيون (مصر) سنة (١٢١٣ ه)، فغادر ( القاهرة ) إلى ( الجيزة ) ، ومكث بها ثلاث سنوات.  

ثم عاد إلى الأزهر عام (١٢١٦ ه) ، ولازم شيوخه الكبار ، واشتغل  للطلب ليل نهار .  

ومن أجل شيوخه الجهابذة الأفاضل: العلامة ذو القدر الكبير الشيخ محمد الأمير الكبير" ( ت ١٢٣٤ هـ) [=ومما ينبغي التنويه والتنبيه عليه هنا : أن أخذ الشيخ الباجوري عن الأمير الكبير أخذ محقق، وإن كان كثير من أهل الفهارس والأثبات لم يسندوا ذلك لعدم تأكدهم من حصول الأخذ للباجوري عن الأمير ، وأبرز مثال على ذلك أن السيد عبد الحي لم يذكر الباجوري في الآخذين عن الأمير لما سرد أسماء أشهر التلامذة والراوين عنه في الفهارس ( ١/ ١٣٥ -١٣٦) وقد أثبت أخذه العلامة البيطار في «حلية البشر»، ووقفت على مصورة إجازة بخط الشيخ الباجوري في دمشق عند الأخ الفاضل عمر موفق النشوقاتي وذكر فيها أخذه عن الأمير مباشرة بدون واسطة، فقطعت جهيزة قول كل خطيب].

وأخذ عن الشيخ عبد الله الشرقاوي صاحب «الحاشية على شرح التحرير» (ت ١٢٢٧ هـ) ، والسيد داوود القلعاوي أبو هريرة المصري المعمر، الراوي عن الحافظ مرتضى الزبيدي.  

ولكن أكثر تلقيه وملازمته كانت للشيخ محمد الفضالي، والشيخ حسن القويستي (١٢٥٤ هـ) وكانت ملازمته للفضالي أكيدة حتى وفاته رحمه الله، وبعد وفاة شيخه الفضالي.. بدأ التدريس في الجامع الأزهر فأقبل عليه الطلبة من كل فج، وكان الملك عباس الأول ملك ( مصر ) يحضر درسه ويجلس إلى جوار الشيخ رحمه الله، الذي لم يكن يقطع الدرس بل يكتفي بالإشارة إليه بالجلوس.  

وصفه وحليته:

أكتفي بإيراد ما حلاه به مؤرخ عصره الشيخ عبد الرزاق البيطار الذي قال في حقه: (شيخ الوقت والأوان، المستوي في فضائله على عرش كيوان [=كيوان: اسم لزحل، الكوكب المعروف، ممنوع من الصرف]، فهو الذي بهر بإبداعه، وظهر على ذوي الكمال بسعة اطلاعه، وعطل العوالي بيراعه، ومد لتناول المعالي طويل باعه، وأطلع الكلام رائقاً، وجاء به متناسقاً، فهو العالم العامل، والجهبذ الكامل، الجامع بين شرفي العلم والتقوى، السالك سبيل ذلك في السر والنجوى، قد افتخرت به الفضائل، حتى قدمته على الأوائل.. )".  حلية البشر: (١/ ٧- ٨)

ثم قال: (كان ديدنه - رحمه الله -التعلم والاستفادة، والتعليم والإفادة، حتى صار له ذلك سجية وعادة، فكان عمره -رضي الله عنه -ما بين إفادة واستفادة، وكان لسانه دائماً رطباً بذكر الله وتلاوة القرآن، وكان متميزاً بذلك على الأمثال والأقران.  


وله وَلَهٌ عظيم، وحبٌ جسيم، لآل بيت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان مواظباً على زيارتهم، ومتردداً على أبواب حضراتهم، وبالجملة: فإنه -رضي الله عنه -كان صارفاً زمنه في طاعة مولاه، وشاكراً له على ما أولاه .  

فمن جملة نعمه عليه: الانتفاع بتآليفه في حياته في كل ناد، والسعي في طلبها من أقصى البلاد، والاجتهاد في تحصيلها من كل حاضر وباد، والاجتماع بها على كل مرام ومراد) انتهى المراد حلية البشر : ( ١/ ٩ -١٠).

أقول: وما ذكره العلامة البيطار الذي توفي سنة: (١٣٣٥ هـ) رحمه الله، هو الحاصل والواقع إلى اليوم هذا، فإن كتب الشيخ الباجوري لها رونق ومزية على غيرها لا سيما شروحه الشهيرة على «الشمائل » والجوهرة» وغيرها..فرحمة الله عليه  

توليه مشيخة الأزهر:  

في سنة (١٢٦٣ ه) وبالتحديد في شهر شعبان انتهت رئاسة مشيخة الجامع الأزهر إلى صاحب الترجمة، بعد وفاة شيخه الثامن عشر العلامة أحمد عبد الجواد السَّفطي الشافعي [ينسب إلى قرية (سفط) بمحافظة بني سويف ولد بها وتوفي بـ ( القاهرة ) سنة ( ١٢٦٣ ه). النور الأبهر، ص: ١٤] في ذلك العام .  

فكان الشيخ الباجوري هو الشيخ التاسع عشر للأزهر الشريف، واستمر في تلك الوظيفة المنيفة حتى وفاته رحمه الله.  

وقد امتدحه السيد محمد شهاب الدين المصري (ت ١٢٧٤ هـ)   [هو : محمد بن إسماعيل بن عمر المصري الشهير بشهاب الدين ولد بـ ( مكة ) سنة: (١٢١٠ ه)، ثم وفد إلى ( مصر ) والتحق بالأزهر ولازم الشيخ حسن العطار والشيخ العروسي، له: ديوان شعر، طبع بـ(مصر) سنة : (١٢٧٧ه) ينظر : «الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة» لمحمد كامل الفقي]- حين آلت إليه الرئاسة بقوله من الكامل:  

أتـرى الغـمـام بـدره المـنـثور وشــى ريــاض الورد والمــنـثـور

أم ذي تـبـاشـيـر الصباح تنفست  وجـلت أشـعـتـهـا دجـى الديـجـور

كـلا بـل الأفـراح أبـدت طالعاً حـظـى الزمـان بـحـظـه المـوفـور

هـو كـوكـب إيـضـاح بـهـجـة ضوئه مـغـن عـن المـصـبـاح والتنوير

رفــعـت لواء العـز دولة مـجـده وسـطـت بـصـارم فـضـله المـشـهور

أكـرم بـه حـبـراً هـمـامـا رحـلة تـطـوى القـفـار لعلمه المنشور

أيـدي الطـوالع في مطالع فخره ولدا الـمـواقـف سـار بـالتيسير

رقــت حــواشـيـه وراقـت وازدهـت بـمـحـاسـن التـحـبـيـر والتحرير

هــو بــر أفـضـال وبـحـر فـضـائل صــاف عــدتــه شـوائب التـكـديـر

كــررت مــدح حـلاه إذ هـو سـكـر تـقـوى الحلاوة فـيه بالتكرير

هـو روض عـرفـان تـجـلى عـن جني دان وكــــم ليــــس بـــالمـــزرور

لا غـرو إن طـاب الزمـان طـيبه وشـذاه عـم الكـون بـالتـعـطـيـر

يا دهر أعط القوس باريها فقد أفـرطـت فـي التـقديم والتأخير

هـذا مـجـلى حلبـة السـبق الذي حـاز الفـخـار بـسـعـيه المشكور

هــو سـيـد الأبـان سـعـد أوانـه فـخـر الزمـان مـيـسـر المعسور

فـرحـت به الدنيا وأصبح وجهها فــيــه تـلوح بـشـاشـة المـسـرور

وزهـت بـه العليا وقالت أرخوا أبــهــى إمــام شـيـخ البـاجـوري

_______________

٩ + ٨٢ + ٩١٠ + ٢٦٢ = ١٢٦٣

يا صاح حدث عن مآثره وقل  قد صح نقل حديثي المأثور  

طوبى لمن بمقام إبراهيم قد أدّى فريضة حجه المبرور  

وسعى وطاف بكعبة الطول الذي  تمَّت شعائره بلا تقصير  

فليَهنَهُ الإقبال وليقضْ الذي  قد فات من مندوبه المنذور  

وإليه أهدي بنت فكرٍ تنجلـي  في خجلة من جفنها المكسور  

غايات ما ترجوه ففى ختامها  حيث انتهت بتكامل التوقير  


ولما تقدم العمر بالشيخ الباجوري وضعف عن القيام بأعباء المشيخة تطلبت بعض الحوادث إقامة وكلاء له ليعينوه على إصدار الأحكام، فتقرر إقامة أربعة وكلاء وهم: الشيخ مصطفى العروسي - رئيسا للوكلاء -، والشيخ أحمد كابوه المالكي، والشيخ إسماعيل الحلبي الحنفي، والشيخ خليفة الفشني الشافعي.  

تلامذته والآخذون عنه: 

كان من أبرز تلامذته والملازمين له:  

١ - الشيخ العلامة وجيه الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الشربيني المتوفى سنة: (١٣٢٦ هـ) تولى مشيخة الأزهر سنة : (١٣٢٢ ه) واستقال منها سنة (١٣٢٤ ه) . . وهو صاحب التقرير على «حاشية البناني» على شرح «المحلي» على « جمع الجوامع »، وله غيرها .  

٢. الشيخ العلامة أحمد الرفاعي الفيومي المالكي المصري، المتوفى سنة: ( ١٣٢٥هـ ) عن ( ٧٥ ) سنة وهو من شيوخ العلامة الفقيه محمد بن عمر بن سلم الحضرمي الشافعي المتوفى سنة: (١٣٢٩ هـ) صاحب رباط العلم بغيل باوزير بـ ( حضرموت)، ووالد الشيخ أحمد بن سلم شيخ رواق السادة الحضارمة بالجامع الأزهر .  

٣ـ الشيخ العلامة سليم البشري المالكي المصري ، ولد سنة: (١٢٤٨ هـ)، وتوفي سنة : ( ١٣٣٥هـ) تولى مشيخة الأزهر، وهو الشيخ الخام والعشرون، له مصنفات عديدة.  

وهؤلاء الثلاثة من أشهر الاخذين والملازمين للشيخ الباجوري من أهل (مصر).  

ومن سيأتي ذكرهم أخذوا عنه إما إجازة أو قراءة لكن لم يلازموه كهؤلاء.  

٤ - الشيخ العلامة محمد خليل القاوقجي الحنفي المتوفى سنة: (١٣٠٥هـ).  

٥ـ العلامة المسند الشيخ إبراهيم بن محمود العطار الدمشقي المولود سنة ( ١٢٣٢ هـ)، والمتوفى سنة : (١٣١٤هـ) .  

٦ ـ الشيخ إبراهيم العكاوي الطرابلسي .  

٧. الشيخ العلامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى الشركي ( بالكاف المعقودة ) السديري النجدي، شارح نونية ابن القيم المتوفى سنة : (١٣٢٩ هـ) .  

٨ـ الشيخ المسند علي الرهبيني المصري ، دفين (اسطنبول) ، يروي عنه السيد عبد الحي الكتاني بواسطة السيد محمد بن محمد الميرغني.  

٩. الشيخ مصطفى بن خليل التونسي الأزهري.  

١٠. الشيخ العلامة محمد المدني بن عزوز التونسي المتوفى سنة: (١٢٨٥ه).  

١١. الشيخ الإمام العلامة المسند أبو النصر الخطيب الدمشقي المتوفى سنة (١٣٢٥) .  

١٢. الشيخ الصالح المسند حسين منقارة الطرابلسي الحنفي المصري، لقيه السيد عبد الحي الكتاني وأخذ عنه تدبيجاً.  

١٣. الشيخ الفقيه المحقق العلامة سعيد بن محمد باعشن الحضرمي الدوعني الشافعي المتوفى سنة: (١٢٧١هـ). فقد صرح بذكره في كتابه «مواهب الديان» ونقل عنه فائدة مع أنه عاصره وشاركه في الأخذ عن العلامة الشرقاوي كما يعلم ذلك من ترجمته. [ينظر ترجمته في مقدمة «مواهب الديان» بقلم كاتب هذه السطور "باذيب"]

١٤ - الشيخ العالم الأديب الفقيه المعمر محمد بن عبد الله بن إبراهيم العقوري، المصري، الأزهري، مولده في (١٣) محرم (١٢٤٠هـ)، قرب موضع مدينة (مرسى مطروح)، قبل أن توجد هذه المدينة أيام كانت بها بعض الخيام لخفر السواحل. والمتوفى بـ (مصر) بعد سنة (١٣٨٤ هـ)، وهو من قبيلة (العواقر)، المعروفة بـ (البحيرة) بـ (مصر). أخذ الشيخ العقوري عن جماعة من الكبار، منهم: البرهان السقا، والصاوي، وعليش، ومحمد الذهبي، والأمير الصغير، والعدوي الحمزاوي. . وغيرهم .  

ولقيه عدد من أهل العلم، منهم العلامة الشيخ محمد الحافظ التجاني المصري، والعلامة الشيخ حسن بن محمد المشاط المالكي المكي، وشيخنا السيد العلامة محمد بن علوي المالكي، إبان دراسته بـ (مصر)، وأجاز للشيخ محمد ياسين الفاداني المكي مكاتبة من (مصر) في ذي الحجة (١٣٨٤هـ) .  [ كتاب: «تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع» للعلامة المحدث المسند: الشيخ محمود سعيد ممدوح المصري: ص (٤٨٤- ٤٨٥) . وكتاب: «الإرشاد بذكر ما لي من الإجازة والإسناد» للعلامة الشيخ حسن المشاط: ص (٥)]

وفاته:  

بعد أن أجهده المرضى وألزمه الفراش، نزل به الحمام بعد أن استوفى عمره بالتمام. . وكانت وفاته يوم الخميس (٢٨) الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة: (١٢٧٦ هـ)، ست وسبعين ومئتين وألف من الهجرة، ودفن بتربة المجاورين [حلية البشر: (١/ ١١ )].  

ونقل الزركلي في "الأعلام" عن «مقدمة شرح الأم» للحسيني و«خطط مبارك» و«معجم المطبوعات» أنها سنة: ( ١٢٧٧ ه). وأغرب جداً محيي الدين طعمي فذكر أنها سنة: ( ١٢٨١هـ). ونقله عن د. خفاجي، وأحمد تيمور كما في «النور الأبهر»: ( ١٢ ).

مصنفاته:

صنف الشيخ - رحمه الله تعالى - مصنفات عديدة جامعة مانعة مفيدة، في جميع الفنون من توحيد وأصول، ومعقول ومنقول. منها:

أولاً: في علم التوحيد .  

١- «حاشية» على رسالة شيخه العلامة الفضالي في شرح كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، صنفه سنة: ( ١٢٢٢هـ ) .  

٢-حاشية تُسمى «تحقيق المقام على كفاية العوام فيما يجب عليهم من علم الكلام» ومتن الكفاية هو لشيخه العلامة الفضالي أيضاً، صنفه سنة: (١٢٢٣ هـ) في حياة شيخه، وقد طبع مرات في مطبعة الحلبي.  

٣- «فتح القريب المجيد بشرح بداية المريد» وهو شرح على متن للعلامة الشيخ صالح بن محمد السباعي المصري العدوي، المولود سنة (١١٥٤ هـ)، والمتوفى سنة: (١٢٢١ هـ)، وهو مالكي المذهب.صنف الشيخ الباجوري شرحه هذا سنة: (١٢٢٤هـ ) .  

٤- حاشية على «متن السنوسية» المعروفة با أم البراهين، صنفه سنة: (١٢٢٧ هـ)، وقد طبع مرات.  

٥- حاشية على «متن منظومة الجوهرة» للعلامة اللقاني المالكي، صنفه سنة: (١٢٣٤ هـ). وهو من أجل شروح الجوهرة، إن لم يكن أجلها. وقد اعتنى به المتأخرون جداً، وصار كتاباً مقرراً في حلقات الجامع الأزهر، واعتمد عليه طلاب العلم في العالم الإسلامي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، طبع مرات. واختصره كثيرون، منهم العلامة بكري رجب الحلبي، والعلامة نايف العباس الحوراني، رحمهما الله، وغيرهما .  

٦- رسالة لطيفة (متن) في العقيدة..صنفها سنة: (١٢٥١هـ)، وعليها شرحان مطبوعان: (أحدهما): «تيجان الدراري في شرح عقيدة الباجوري» للعلامة الفقيه الشيخ محمد نووي الجاوي الشافعي ، المتوفى بـ (مكة) سنة: (١٣١٤ هـ) وهو مطبوع بمطبعة الحلبي بمصر .  

٧- (والشرح الثاني): وهو المسمى «نوافح الورد الجوري» شرح عقيدة الباجوري ألفه حضرة العلامة الإمام الكامل الشريف اللوذعي الفاضل نابغة حضرموت وأشعر شعرائها السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرمي ثم الهندي . مولده بقرية ( حصن فلوقة ) قرب ( تريم) سنة : (١٢٦٦هـ) ، ووفاته بـ ( حيدر أباد الهند) سنة (١٣٤٢ هـ). طبع قديماً في مطبعة (فخر نظامي ) ويقع في (١١٤) صفحة . . وهو كتاب قيم ونادر جدا لدي نسخة منه .  

هذا . . وللشيخ الباجوري أيضا مصنفان في علم التوحيد لم يتمها، هما:  

٨- شرح على العقائد النسفية,

٩- شرح على منظومة الشيخ محمد النجاري في التوحيد .  

ثانياً: مصنفاته الفقهية:

١-حاشية على (شرح ابن قاسم الغزي) على متن أبي شجاع أحمد بن الحسن الأصفهاني؛ في فقه الشافعية كبيرة تقع في مجلدين، طبعت مرات عديدة، وهي حاشية ضخمة من أنفع الحواشي . 

ومع تحذير كثير من الشيوخ طلابهم من مطالعة كتب الحواشي وإيرادهم قولتهم المشهورة: من طالع الحواشي خرج بلا شيء، ومن حفظ المتون حاز الفنون. .  إلا حاشية الباجوري  -هذه فقد كان فقهاء ( حضرموت ) خاصة ينصحون طلابهم بمطالعة هذه الحاشية القيمة، وقالوا: إنها كلها علم، هذا ما حفظته عن كثير من شيوخي . صنف الباجوري هذه الحاشية سنة: (١٢٥٨ هـ).

٢- "منح الفتاح شرح ضوء المصباح في أحكام النكاح ».. وهو هذا الكتاب الذي نقدم له وكتبنا هذه الترجمة، صنفه سنة (١٢٣٤ هـ).  

٣- حاشية على «الإقناع » للخطيب الشربيني شرح متن أبي شجاع . لم تتم .  

٤- حاشية على «منهج الطلاب» لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري في الفقه . لم تتم .  

٥- التحفة الخيرية  على «الفوائد الشنشورية» شرح على كتاب العلامة الشنشوري المصري في علم الفرائض طبع مرات، صنفه سنة: (١٢٣٦ هـ).

ثالثاً: مصنفاته في السير والشمائل: 

١- حاشية على «الشمائل المحمدية» للإمام الترمذي.. وهي المسماة «المواهب اللدنية» صنفها سنة: (١٢٥١ هـ) ، وقد طبعت مرات. 

٢- «تحفة البشر على مولد ابن حجر» يعني به الهيتمي المكي، سنة (١٢٢٥هـ) .  

٣- «حاشية» على «مولد الدردير».. صنفه سنة : (١٢٢٧فـ) .  

رابعاً: مصنفاته في النحو وعلوم اللغة:

١- حاشية على «متن السمرقندية» في علم البيان، صنفها سنة: (١٢٧٢ هـ).

٢ - شرح على «منظومة العمريطي» التي نظم بها «متن الأجرومية» وهي للشرف يحين بن موسى العمريطي المصري، صنفه سنة: (١٢٢٩هـ) .  

٣- فتح الخبير اللطيف شرح «نظم الترصيف في التصريف» للشيخ عبد الرحمن عيسى، صنفه سنة: (١٢٢٧هـ) .  

خامساً: مصنفاته في علم المنطق:

١- حاشية على «مختصر السنوسي» في المنطق، صنفها سنة (١٢٥٢ هـ). 

٢- حاشية على «متن نظم السلم» للأخضري، وهي حاشية قيمة. . صنفها سنة : (١٢٢٦هـ) .  

سادساً: مصنفات أخرى:  

١ - الدرر الحسان على «فتح الرحمن»، وهو شرح على متن لطيف للعلامة الشيخ محمد بن زياد الوضاحي الزبيدي اليمني الشافعي المتوفى سنة: (١١٥٣ هـ). واسم هذا المتن كاملا «فتح الرحمن فيما يحصل به الإسلام والإيمان والإحسان».. صنف الباجوري شرحه هذا سنة: (١٢٣٨هـ ).  

٢- حاشية على «قصيدة البردة» الشهيرة للإمام البوصيري - رحمه الله - وتسمى البرأة ومطلعها. صنفها سنة: (١٢٢٩هـ) .  

٣ -حاشية على قصيدة كعب بن زهير وتسمى هي الأخرى بالبردة، وهي الأحق بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -ألقى بردته على كعب رضي الله عنه بعد أن أتمها.

فهذه خمسة وعشرون مصنفاً، صنفها العلامة الباجوري رحمه الله تعالى .  

وقد زرقت هذه المصنفات قبولاً لدى أهل العلم، ولاقت إقبالا منقطع النظير. وما زال طلاب العلم اليوم يعكفون على حاشية الباجوري» الفقهية، وعلى حاشيته على «الشمائل » للترمذي.. وغيرها مما ذكر، ولا غرو فهي مملوءة علما، بالإضافة إلى التحقيق والعلم الغزير الذي أودعه مصنفها فيها. . . رحم الله شيخ الأزهر ، الإمام العلامة الباجوري. . فقد كان يكن لأهل ( اليمن ) عموما ولأهل ( حضرموت ) خصوصا محبة كبيرة، وقد أبان شرحه هذا على متن «الزيتونة» عما يضمره من عميق احترام وشديد ولاء لأهل ( حضرموت ). . لاسيما لصاحب « الزيتونة » ، المعاصر له.

وأما إجلاله لعلماء اليمن من غير الحضارمة فيتمثل في شرحه لكتاب «فتح الرحمن» لابن زياد ، السابق الذكر.. ومن العجيب والغريب جداً.. توافق هذين الرجلين الجبلين. . الإمام باسودان والإمام الباجوري في جانب روحاني هام ألا وهو شدة حبهما وإخلاصهما لآل البيت النبوي عليهم السلام.  

وهذا توافق عجيب ، وكأن هناك صلة.. جمعت بين هذين الإمامين، وجعلت أحدهما ينساق بكل روية إلى شرح كتاب الاخر. . ولا ندري فلعل هناك صلات لم نعلم بها كانت قد جرت بين الرجلين. . ولعل أحد الشيخين: الشيخ باعشن، أو الشيخ باصبرين.. كان له قصب السبق في تعريف أهل ( مصر ) بمصنفات الشيخ عبد الله باسودان! .