أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 يوليو 2025

لفظتا عاقر وعقيم ودلالتها اللغوية في القرآن الكريم د. عبد الرحمن بن حسن العارف بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

لفظتا عاقر وعقيم ودلالتها اللغوية في القرآن الكريم

د. عبد الرحمن بن حسن العارف

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد: يتناول هذا البحث الفرق اللغوي والدلالي بين لفظتي "عاقر" و"عقيم" في القرآن الكريم، من خلال تتبع مواضعهما وتحليل السياقات التي وردتا فيها. فقد وردت "عاقر" ثلاث مرات كلها على لسان نبي الله زكريا، للدلالة على حال زوجته التي لا تلد، بينما وردت "عقيم" أربع مرات، استخدم بعضها في المعنى المجازي مثل "ريح عقيم" و"يوم عقيم"، وواحدة في وصف امرأة إبراهيم. وقد تبين من خلال الدراسة أن "عاقر" تُستخدم غالبًا للنساء فقط، وتدل على حالة ملازمة تمنع الحمل، بينما "عقيم" تشمل الجنسين، وتدل على عقم تام أو عدم فائدة مطلق، سواء في الإنجاب أو غيره، مما يجعل دلالتها أوسع.

وأظهر القرآن تمايزًا بلاغيًا في التعبير، فاستعمل عند قصة زكريا "يفعل ما يشاء" لأن الإنجاب وقع بعد زوال الموانع، بينما استعمل مع مريم "يخلق ما يشاء" لأن الحمل وقع دون أب، فالمعجزة خلق من عدم. كما راعى القرآن التقديم والتأخير في ذكر أسباب العقم بما يخدم الفاصلة والسياق البلاغي. وخلاصة القول: أن اللفظتين بينهما شبه ترادف، فكل عاقر عقيم وليس كل عقيم عاقرًا، حيث تدل "عاقر" على معنى خاص بالنساء، بينما "عقيم" أعم وأشمل، مما يدل على دقة التعبير القرآني وإعجازه في اختيار الألفاظ بما يناسب المعنى والمقام.

نصُّ البحث:

حث الإسلام على التناكح والتناسل والإنجاب، والسعي للحصول على الولد. فقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)، وقال: (لا تَزَوَّجُنّ عاقراً، فإني مكاثر بكم)؛ ولذا فإن الرغبة في الأمومة والأبوة تُعد من المظاهر الفطرية عند الإنسان، ومن مظاهر غريزة النوع لديه بشكل عام، فهي مركوزة في جبلته، ذاتية في كيانه.

وقد استوقفني في القرآن الكريم وما أكثر ما استوقفني فيه - ورود لفظتين تدوران في هذا الإطار - أعني الإنجاب، ولكن في الوجه المضاد له سلباً، وهما لفظتا (عاقر) و (عقيم)، فرأيت أن أخصهما بدراسة أسلوبية لغوية، اتتبع فيها مواضع ومواقع ورودهما في القرآن، وتتأمل في استعمال النص أو الأسلوب القرآني لهما، وما فيهما من قيم صوتية ودلالية، سواء أكان ذلك على مستوى المفردة القرآنية، انتقاء واختياراً لها دون سواها، أم على مستوى التراكيب القرآنية، خصوصية وترخصاً.

وقد وردت هاتان اللفظتان في مواضع متعددة من القرآن الكريم، بلغت سبعة مواضع، منها: ثلاثة مواضع للفظة (عاقر)، أولها في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ . . .} والموضعان الآخران هما قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وكانت امراتي عَاقِراً …}، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِياً}.

وأربعة مواضع لفظة (عقيم)، أولها قوله تعالى: { ... حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ يَوْمٍ عَقِيمٍ}، وثانيهما قوله تعالى: {فاقبلت امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}، وثالثها قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العقيم}، ورابعها قوله تعالى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.

وهذه المواضع السبعة منها خمسة متصلة بالمعنى الاصطلاحي لهاتين اللفظتين، وهو عدم إمكانية الإنجاب، أما الموضعان الآخران فيدوران حول الجذر اللغوي لمادة (عقم)، مما يعني أن لفظة (عاقر) جاء استخدامها في القرآن بالمعنى الاصطلاحي لها، أما لفظة (عقيم) فقد استخدمت في المعنى اللغوي لها، وفي المعنى الاصطلاحي أيضاً على أنه ينبغي التنويه إلى أن الجذر اللغوي للفظة (عاقر) لم يكن القرآن خلواً منه، فقد ورد في خمسة، كلها جاءت بصيغة الفعل (عقر)، حديثاً عن قوم صالح عليه السلام، وما صنعوه في آية الله التي أرسلها إليهم وهي الناقة.

فأما لفظة (عاقر) ومواضعها الثلاثة في القرآن الكريم، فقد وردت على لسان نبي الله زكريا - عليه السلام - حينما بشر بحمل زوجه منه، وولادة يحيى عليه السلام - له، على كبر منه وعقر فيها، أو على شيخوخة فيه وداء فيها، وكلتاهما صفتان أو حالتان تحولان دون الحمل والولادة، أو الإنجاب بصفة عامة.

وبتتبع المواضع الثلاثة التي وردت فيها لفظة (عاقر)، نجد أن القرآن أشار في موضع واحد منها إلى العقر مباشرة، واستخدم عبارة {وَامْراتِي}، وهنا لم يُبَيِّن هل كان العقر أيام شباب زوج زكريا أو حدث لها في فترة مأخرة من حياتها؟ والتعبير هنا بالجملة الاسمية يدل على أن كونها عاقراً وصف لازم لها، وليس أمراً طارئاً عليها.

أما الموضعان الآخران فقد استخدم القرآن فيهما عبارة {وكانت امْرَأَتِي عَاقِراً}، مما يدل على أنها كانت عاقراً قبل كبرها. والتعبير بـ {كانت} يدل كما يذكر ابن الجوزي على أحد شيئين: إما للتوكيد، أي وهي عاقر، وإما لإفادة أنها كانت منذ كانت عاقراً، ولم يحدث لها العقر في الكبر ..

وشيء آخر، أن في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بلغني الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ . . } وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِياً} ذكراً لسببين مانعين من الإنجاب وهما: كبَرُ من الزوج، وعقر الزوجة، ولكنه في الموضع الثالث اكتفى بذكر سبب واحد يحول دون الإنجاب، وهو عُقر الزوجة، وفي هذا ما يدل على أن زكريا عليه السلام - كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقراً، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر.

ويستوقفنا في هذين الموضعين - أيضاً - أن القرآن قدم في «آل عمران» على لسان زكريا كبَرُ سنه وأخر عُقر زوجه، ولكنه قدم في «مريم» عفر زوجه، وأخر كبر سنه، ومثل هذا التقديم والتأخير حفي بالنظر والتأمل، والتماس وجهه البلاغي. 

وقد ذكر بعض العلماء تعليلاً لذلك؛ فقالوا: لكي تتناسب رؤوس الآي في «مريم» بقوله: عتياً، ولياً، رضياً، وعشياً ... إلخ، وأيضاً لما قدمه أولاً بقوله: {وَهَنَ العَظمُ مِنِّي} و {وكانت امراتي عَاقِراً} أخره ثانياً، تفناً في الفصاحة. على أنني ألمس شيئاً آخر غير ما ذكر في التقديم والتأخير هنا، وهو أن العقر يُعد السبب الرئيس في عدم حدوث الإنجاب، أما كبر السن فليس فيه في الغالب ما يحول دون ذلك، فقد ينجب الرجل وهو في سن متقدمة من العمر، أما المرأة فتقل - أو تنعدم فرص إنجابها إذا تجاوزت سناً معينة، وذلك حينما ينقطع عنها دم الحيض وتصبح يائساً، وهذا ما أيده الطب الحديث. 

ولذلك اكتفى القرآن في موضع من هذه المواضع الثلاثة بذكر عقر المرأة، سبباً وحيداً لعدم إمكانية الإنجاب - كما تقدم . وإذا كان هناك من العلماء من ذكر أن العاقر من النساء هي التي لا تلد لكبر سنها، وكأنه يجعل كبر السن سبباً للعفر، فإن هناك منهم - أيضاً - من يفسر العاقر من النساء بأنها هي التي لا تلد من غير كبر، وكأنه يعد العقر غاية لا سبباً، أي أنه ينظر إلى العقر على أنه داءً مطلق في ذاته، دون تحديد يكبر سن أو غيره، وهذا ما أميل إلى القول به.

ثم إن في قوله تعالى: {وقَدْ بَلَغَنِي الكبر} إسناداً مجازيا لبلوغ الكبر إياه، بمعنى أن الكبر هو الذي بلغ زكريا، ولم يقل على الحقيقة: وقد بلغت الكبر، وهذا من باب التوسع في الكلام. والتعبير هنا بالجملة الفعلية يدل على أن "الكبر" يتجدد شيئاً فشيئاً، ولم يكن وصفاً لازماً.

ويلاحظ في هذه الآية أنه لم يبين القدر الذي بلغه الكبر منه، ولكنه في آية أخرى حدد ذلك القدر وهو العتي، الذي يعني الغاية (النهاية) في الكبر، واليبس، والجفاف في العظام والمفاصل.

ومما يستوقفنا في هذا المقام هو مدى التشابه الحاصل بين يحيى ابن زكريا - وعيسى - عليهما السلام في المعجزة التي كانت لكليهما . فمعجزة يحيى أنه بشارة الله على لسان الملائكة، أو جبريل عليه السلام وحده، لأبيه وأمه، اللذين كانا على حالة تحول دون الإنجاب، فأبوه زكريا عليه السلام - بلغ من العمر أرذله، حيث ذكر المفسرون أنه يوم بشر بيحيى كان ابن تسعين سنة، وقيل: عشرين ومائة سنة، وأما أمه، فكانت كما ذكر القرآن - عاقراً لا تلد ولهذا فمجيئه إلى الدنيا على كبر سن أبيه وعقر أمه معجزة من المعجزات.

وأما معجزة عيسى فقد كانت أيضاً - بشارة الله به لأمه مريم التي كانت عذراء لم تنكح من قبل، فمجيئه إلى الدنيا من غير أب معجزة وأي معجزة. ومن أجل هذا التوافق في المعجزة والتشابه في الظروف، لا يجيئ القرآن بذكر مولد يحيى إلا ويُعقبه بذكر مولد عيسى، يمهد لإعجاز بإعجاز، فكلتا الولادتين آية تنقطع دونها رقاب البشر.

يقول الله تعالى عن زكريا ويحيى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ونبياً مِّنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونَ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.

ويقول عن مريم وعيسى: {إذ قالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ …}.

ولابد لنا ونحن نستلهم الدلالات اللغوية من خلال خصوصية العبارة القرآنية - أن نتوقف قليلاً عند استخدام النص القرآني لبعض الألفاظ، وإيثاره لها دون بعضها الآخر في الآيات السابقة، وبخاصة تعبيره في الرد على زكريا حينما تعجب من مجى ابن له وهو وزوجه على ما تقدم من حال، وذلك بقوله: {كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ …}، حيث عبر عن تلك المعجزة بالفعل. وكذلك تعبيره في الرد على مريم حينما تعجبت من مجئ ابن لها دون أن يمسها بشر بقوله: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ …}، فهنا عبر عن هذه المعجزة بالخلق.

ويبدو لي والله أعلم - أن معجزة يحيى كانت معجزة فعل إن صح التعبير - لشيء هو كائن أصلاً، أما معجزة عيسى فمعجزة خلق لشيء غير كائن أصلاً.

وبيان ذلك: أن ولادة يحيى تمت بعد أن وجد طرفا الإنجاب الأب والأم، وانتفت - بمشيئة الله وقدرته أسباب عدم الإنجاب: كبر سن الأب، وعُقر رحم الزوجة، فالمعجزة إذن كانت في شفاء داء الزوج، وإصلاح ما فسد من أعضاء الحمل في الزوجة، كما عبر القرآن بذلك فقال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَدَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ . فاستَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ . . .}.

فالإصلاح هنا كما قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين هو أنها كانت عاقراً فجعلت ولوداً، أو كما يقول الفراء: "إنها كانت عقيماً فجعلناها تلد فذلك صلاحها"، أو، أو كما يقول أحد المعاصرين: "استحيينا فيها وهي العجوز العاقر آلة الحمل والولادة"، ولذا كان الأنسب أن تذكر المعجزة على هذه الصفة مقرونة بالفعل يَفْعَلُ.

أما ولادة عيسى عليه السلام - فجاءت دون توفر أحد طرفي المعادلة في الإنجاب، وهو الأب، حيث لم تكن الأم متزوجة قط، فالمعجزة إذن كانت في الخلق، وهو من الوجهة اللغوية والعلمية «إنشاء لشيء ابتداءً، أي إيجاده من عدم.

ويُفسر بعض المعاصرين هذه المعجزة بقوله: هي إخصاب بويضة الأنثى بغير مخصب، أو خلق هذه البويضة مخصبة ابتداء . . .، ولهذا كان الأنسب أن تذكر المعجزة هنا مقرونة بالخلق يَخْلُقُ، دون أي لفظ آخر.

وهكذا نرى أن هاتين الحالتين كانتا مختلفتين في الغرابة، ولهذا آثر القرآن في الحالة الأولى التعبير بلفظة يَفْعَلُ ؛ إذ العادة جرت أن الفعل يُسْتَعْمَل كثيراً في كل ما يحدث على النواميس المعروفة، والأسباب الكونية المألوفة، كما آثر في الحالة الأخرى التعبير بلفظة {يَخْلُقُ}؛ لأن الخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع، ولو بغير ما يُعرف من الأسباب، وهكذا جاء اختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين. 

وقد استوقفتني هذه المغايرة الأسلوبية، وخصوصيتها في النص القرآني، أستاذنا الدكتور تمام حسان، وحاول تفسيرها تفسيراً آخر يختلف كلياً عما ذكر، وهو أن التعبير بلفظ يفعل في حالة زكريا لا يثير خواطر سيئة، لأن زكريا وامرأته زوجان فلا شبهة إن حملت المرأة، لأن زوجها بجانبها، وقد كان إخصابها بواسطة تسخير زوجها لذلك، والتسخير والإخصاب من فعل الله، أما في حالة مريم فإن التعبير بلفظ (يَفْعَل) ربما أثار خواطر سيئة، فاللفظ لهذا غير مناسب، ومن هنا جاء الفعل (يَخْلُقُ).

وقصارى القول: أن هذه الإيحاءات في الدلالات الهامشية للألفاظ والعبارات قد عني بها النص القرآني أيما عناية، فما كان حَسَناً منها ومؤدياً بكل دقة للمعنى المراد توصيله للقارئ أو السامع، اختار له اللفظ المناسب الذي لا يمكن أن يقوم غيره مقامه، وما كان عكس ذلك أطرحه وأهمله. ذلك من جهة، ومن جهة أخرى يستوقفنا - أيضاً - مدى التشابه الواقع بين يحيى وإسحاق عليهما السلام، وزكريا وإبراهيم عليهما السلام، وأم يحيى وأم إسحاق . فيحيى وإسحاق معجزتهما واحدة، وهي مجيئهما إلى الدنيا وأمهما وأبواهما على حالة تحول دون الحمل والولادة، وزكريا وإبراهيم كلاهما شيخ كبير، وأم يحيى وإسحاق كلتاهما عجوز عقيم أو عجوز عاقر.

وقد استخدم القرآن لفظ (عاقر) مع امرأة زكريا، في حين أنه استخدم لفظ (عقيم) مع امرأة إبراهيم (سارة). يقول عز وجل: {... فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}. وشيء آخر، هو أن القرآن ذكر في حق امرأة زكريا أن الذي كان يمنعها ويحول بينها وبين الحمل هو داء واحد هو العُقر، أما امرأة إبراهيم فقد تراوح ذكر المانع لها مرة بين العجز (كبر السن والعقم مجتمعين)، حيث قال تعالى: {... فصكت وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}، ومرة أخرى اكتفى بذكر العجز دون العقم، فقال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُورٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً …}.

وهذا يدعونا إلى التأمل وطرح السؤال التالي: هل العقر والعقم شيء واحد، ومعناهما واحد؟ أو أنهما شيئان مختلفان؟ وإن كانا دوى دلالة واحدة، فلماذا استخدم القرآن لفظ (عاقر) في مواضع ثلاث، واستخدم لفظ (عقيم) في موضع واحد؟

وللإجابة على الشق الثاني من السؤال أقول: إن القرآن آثر استخدام لفظ (عقيم)، وتأخيرها لاعتبارين متلازمين فيما أرى، أحدهما مراعاة الفاصلة القرآنية، أو رؤوس الآيات - كما يسميها الفراء (ت ٢٠٧هـ)، والآخر مراعاة مقتضى المعنى. فأما الاعتبار الأول، فالفاصلة في سورة الذاريات تنتهي بحرف النون في أغلب الآيات، وبحرف الميم في بعضها الآخر، وكلاهما كما هو مُقَرَّرٌ في علم الأصوات - مجهورٌ، متوسط بين الشدة والرخاوة، مرفق، منفتح، مَغْنُونَ (أنفى)، فجاءت الفاصلة بين حروف متقاربة، ولم يكن ممكناً وضع (عاقر) بدلاً من (عقيم)، كما لم يكن ممكناً تقديم لفظ (عقيم) على لفظ (عجوز)؛ لتناسب رؤوس الآي.

وأما الاعتبار الآخر، فبيانه أن العجز قدم هنا - وهو وصف طارئ عليها - على العقم - وهو وصف لازم لها -، فكأنها قدمت سبباً حاضراً يمنع من الحمل على سبب ماض، أو بعبارة أخرى كأنها أضافت مانعاً متجدداً إلى مانع ثابت من باب زيادة المبالغة في استبعاد حصول الشيء أو استحالته، والتعجب من حدوثه لو حدث.

ولذلك ورد في موضع آخر من القرآن على لسان زوج إبراهيم أنها قرنت عجزها بشيخوخة بعلها، حيث قالت: {أألد وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شيخاً …} فتُنُوسيَ هنا ذكر العُقر، وجعل كبر سنهما مانعاً قوياً من حدوث الحمل.

ويُذكرنا تقديم العجز على العقم هناك بالمريض الذي لا يُرجى برء مرضه، وحينما يحدث له عارض آخر فإن الأطباء يوجهون جهودهم لعلاج ما استجد من مرض ويتركون ما عداه؛ لاقتناعهم بأن ما يكون أولى مما كان، وبخاصة أن ما كان هو عندهم في حكم الميئوس شفاؤه فيؤثرون معالجة ماجد على ما قدم.

ويلاحظ أن لفظ (عجوز) جاء على وزن فعول)، وهو بمعنى «فاعل»، أي أنها عاجزة عن المجئ بولد وهي في هذه السن المتقدمة . أما لفظ (عقيم) فعلى وزن (فعيل)، وهو بمعنى مفعول»، أي أنها معقومة الرَّحِم لا تلد.

ونعود لنحاول الإجابة على الشق الأول من السؤال السابق، فنقول: إن مادة (عقم) في اللغة تدل كما يذكر ابن فارس - (على غموض، وضيق، وشدة).

ومن المعنى اللغوي لهذه المادة اشتق أو استعير كما يقول الزمخشري - عقم المرأة والرجل، وهما اللذان لا يولد لهما، وعقم الملك: وهو قتل الرجل لابنه أو الابن لأبيه، إذا خافه على الملك، والداء العقام: الذي لا يُرجى البرء منه، والكلام العلمي: أي العويص الذي لا يُعرف وجهه، والعقل العقيم الذي لا يجدي على صاحبه شيئاً، والريح العقيم التي لا تلقح شجراً، ولا تنشئ سحاباً، ولا تحمل مطراً ... إلخ.

وسبق لنا القول إن الجذر اللغوي للفظ (عقيم) ورد في موضعين من القرآن الكريم، أحدهما كان وصفاً للريح التي أرسلها الله على قوم عاد، والموضع الآخر كان وصفاً ليوم القيامة أو يوم بدر -كما ذكر ذلك المفسرون.

وهكذا نرى أن هذه المادة اللغوية تدل أصلاً واستعارة على الشيء الذي لا فائدة فيه، ولا ثمرة له . والعقيم من النساء التي لا تلد، والعقم وصف للرَّحِم الذي لا يعطي الولد، أو كما يقول أصحاب المعاجم: العقم بفتح العين - والعقم - بضم العين - هَزْمَةٌ تقع في الرحم فلا تقبل الولد، والرحم المعقومة كما يذكر الكسائي: المسدودة التي لا تلد.

وهذا اللفظ مما يستوي فيه المذكر والمؤنث فيقال: امرأة عقيم، ورجل عقيم، يقول سيبويه: (وأما فعيل إذا كان في معنى مفعول، فهو في المذكر والمؤنث سوا)، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ... وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً شاملاً للاثنين الرجل والمرأة، وذلك ما أكده العلم الحديث، فالعقم مرض يصيب الرجال والنساء على حد سواء، وليس كما كان يُعتقد قديماً من أنه خاص بالنساء دون الرجال . وهو من الوجهة الطبية عدم القدرة على الإلقاح، بالرغم من إمكانية الرجل على ممارسة العملية الجنسية.

ويُعَدُّ عُقم الرجال من الأمور الصعبة، حيث قد بلغت نسبة نجاح علاجه كما تذكر بعض الدراسات الإحصائية - (١٥%) في حين أن عقم النساء وصلت نسبة نجاح علاجه إلى (٥٠%).

أما مادة (عقر) في اللغة، فقد ذكر ابن فارس أن لها أصلين متباعد ما بينهما، وكل واحد منهما مطرد في بابه، جامع المعاني فروعه. فالأول: الجرح، أو ما يشبه الجرح من الهزم في الشيء، والثاني دال على ثبات ودوام. وأصل العقر في اللغة قطع الرجل، فكأنه قطع الولادة.

وعقر المرأة يعني أن رَحِمَها يعقد ماء الرجل، أو هو عجزها عن تقبل مني الرجل. وذلك ما يمكن تفسيره في الطب الحديث بأن حموضة المهبل تقتل الحيوانات المنوية بصورة غير اعتيادية، أو وجود تضاد بين خلايا المهبل والحيوانات المنوية مما يؤدي إلى موتها، أو أن إفرازات عنق الرحم تعيق ولوج هذه الحيوانات.

وتتعدد معاني هذه المادة في المعاجم اللغوية، ولكن هذا التعدد الدلالي لا يكاد يخرج عن الأصلين الذين ذكرهما ابن فارس في «المقاييس»، وقد تقدم ذكرهما، والذي يهمنا في هذا الباب هو عقر النساء الذي عليه مدار حديثنا . وهذا اللفظ مما يستوي فيه المذكر والمؤنث أيضاً، فيقال: رجل عاقر، وامرأة عاقر.

وقد سبق القول إن الجذر اللغوي لهذه اللفظة جاء في خمسة مواضع من القرآن الكريم كلها وصف لما فعله قوم صالح عليه السلام- بناقة الله من ذبح ونحر لها . والمتأمل للجذر اللغوي لكل من (عقم) و(عقر)، يجد أنه ثلاثي الأصل، رغم ما قد يبدو فيه من ثنائية.

وتفسير هذه الثنائية أن هاتين اللفظتين أصلهما العين والقاف (عق)، الذي ذكرت معاجم اللغة وما جرى مجراها أنه يدل على الشق والخرق، والحفر، والقطع) . وسبق أن ذكرنا الدلالة الأصلية المركزية بتعبير المحدثين لهاتين اللفظتين التي تتفق إلى حد كبير مع الدلالة العامة لمادة (عق) .

ولعل هذا ما دعا أحد الباحثين المعاصرين إلى القول بثنائية الجذر اللغوي لمادة (عقم)، وذلك بعد أن لاحظ وجود علاقة معنوية تربط بين الثنائي المضعف والثلاثي المشترك معه في حرفين . " والواقع أن هذه النظرة، بالرغم مما قد يبدو من منطقيتها في هذا المقام لا تستقيم في كل مادة من مواد اللغة، وهذا ما يحملني على القول بثلاثة الجذر اللغوي لهاتين اللفظتين.

وقد وردت هاتان اللفظتان - إحداهما أو كلتاهما في مؤلفات غريبي القرآن والحديث، مقرونتين بالمعاني المتعددة لهما، وكذلك في مؤلفات التصويب اللغوي، وبخاصة فصيح ثعلب والشروح التي عليه . كما أوردنا في المؤلفات الخاصة بالأفعال، من حيث ضبط فعليهما، ومصادرهما، ومعانيهما.

وقد تبين لي فيما اطلعت عليه من تلك المصنفات أن العلماء جمعوا بين هاتين اللفظتين في المعنى واشتراكهما في الدلالة الواحدة.

فهذا الخليل بن أحمد يذكر أن العقر: هو العقم، والذي يعني استعقام الرحم، وهو ألا تحمل.

ويؤكد هذا المعنى صراحة أبو بكر السجستاني (ت ۳۳۰هـ)، حيث يقول: «عاقر وعقيم: بمعنى واحد وهي التي لا تلد، والذي لا يولد له».

وذكر ابن فارس (ت ٣٩٥هـ) أنهم يقولون: لقحت الناقة عن عقر، أي: بعد حيال، كما يقال عن عقم.

وذكر أبو سهل الهروي (ت ٤٣٣هـ) أن لفظة العاقر مثل العقيم سواء، وهي التي لا تحبل ولا تلد، كما ذكر الزمخشري (ت ٥٣٨هـ) أنه يقال للمرأة العاقر معقومة، كأنها مسدودة الرحم، وفسر أبو حيان الأندلسي (ت ٧٤٥هـ) لفظ عاقر بقوله: عقيم لا يلد ولا يولد له.

وهكذا يبدو لنا من خلال هذه النصوص مدى اتفاق هاتين اللفظتين واتحادهما في الدلالة اللغوية، المعجمي منها والوظيفي، الأمر الذي يجعلنا نستنتج منه مبدئياً أن هذين اللفظين يُعدان من الألفاظ المترادفة في العربية ! . ولم تكن المعاجم الحديثة بعيدة عن هذا التصور، فهي تسوي بينهما أيضاً في المعنى.

على أن هناك بعض العلماء الذين ألفوا في المشترك اللفظي (Homonymy) أورد هذين اللفظين على أن كل واحد منهما مما يتفق لفظه ويتعدد معناه، وهذا يعني أنهما يقفان في الواقع اللغوي على النقيض من الاعتبار أو التصور السابق.

ومن المقرر في الدراسات اللغوية الحديثة أن قياس درجة التطابق (Range of application) بين الدلالتين المركزية والهامشية من خلال استعمال الكلمة يؤدي إلى وضوح الفرق بينهما، ومن ثم الحكم عليها بأنها من المترادفات أو لا . فإن كان التطابق تاماً بين الألفاظ أو الكلمات بحيث تقبل التبادل أو الاستعاضة بينها في أي سياق فذلك يعني الترادف الحقيقي (Absolute Synonymy)، وإن كان التطابق غير تام، بحيث يتفاوت استعمال الكلمة من سياق إلى آخر، فهذا يعني شبه الترادف (Near synonymy).

وما قيل هنا يجري على المشترك اللفظي أيضاً، سواء بسواء، فدرجة التطابق هذه تصلح معياراً في حالات المشترك اللفظي والترادف، بحيث إذا تطابقتا في الدلالة كان هناك ثمة ترادف أو اشتراك، أما إذا لم تتطابقا في الدلالة فليس ثمة ترادف أو اشتراك.

ونحن حينما نتأمل العبارة القرآنية والمغايرة بين ألفاظها، وإيثار بعض الألفاظ دون بعضها الآخر، ندرك أن وراء ذلك سراً بيانياً، وإيحاء دلالياً، ووجهاً إعجازياً، يدفع بالباحث إلى تتبعه، ومحاولة الوقوف على فقه أساليبه. وإزاء هذا لا يتأتى لنا - وإن جاز لغيرنا أن نفسر لفظة (عاقر) بـ (عقيم)، أو العكس وتسوي بينهما في الدلالات، ونغفل ما بينهما من إشارات؛ حيث صنيع القرآن يومئ إلى وجود فرق دقيق في المعنى بين اللفظتين، إضافة إلى أن الحس الراشد - كما يُسميه أستاذنا الدكتور محمد أبو موسى قد لا يقنع بهذا التفسير وهذه التسوية.

وفي ضوء ذلك، فإني أكاد ألمس في استخدام النص القرآني لهاتين اللفظتين أن كلمة (عقيم) ذات مدلول أوسع من كلمة (عاقر)، فهي أعم دلالة، في حين أن (عاقر) ضيقة الدلالة.

وبيان ذلك أن العقم مرض يقع على الجنسين من الرجال والنساء، يوصف به من كان كذلك منهما. وهو في واقعه الطبي إما أن يكون أولياً، بمعنى أن تكون المرأة لا تستطيع الحمل أصلاً، أو أن يكون الرجل في أصله غير مهيئ للإنجاب، لأسباب تتصل بأعضاء التناسل في كل منهما، وهذا كما يذكر أطباء العقم - من الصعوبة بمكان علاجه إلا عن طريق التلقيح الصناعي أو ما يعرف بطفل الأنابيب.

وإما أن يكون ثانوياً، بمعنى أن يحدث لهما إنجاب ثم يفقدا قدرتهما التناسلية على ذلك، وهذا أكثر قابلية للشفاء، وفي كل هذا ما يدل على عمومية الدلالة في هذه اللفظة. أما لفظة (عاقر) فيظهر لي أنها تُطلق أكثر ما تطلق على النساء، فهي وصف خاص بهن فحسب.

وهذا التصور لم أجد أحداً من العلماء فيما وقع بين يدي من مصادر - أشار أو تنبه إليه سوى بعض المعاصرين المهتمين بتفسير القرآن الكريم، حيث ذكروا في تفسير قوله تعالى: {قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ . . }، أن العاقر وصف خاص بالنساء ولا يوجد في الرجال، ولذا يقال عاقر ولا يُلبس"). مما يعني أنه لفظ وضع خاصاً لمعنى خاص . هذا شيء، وشيء آخر أن هذه اللفظة توحي دلالتها بعدم الإنجاب مطلقاً، واستحالة الحمل والولادة.

وفيما تقدم نلمس خصوصية دلالة هذه اللفظة، وهذا ما يجعلني أميل إلى القول بأن هاتين اللفظتين ليستا مترادفتين ترادفاً تاماً، بحيث يحملان الدلالة نفسها في أي سياق لغوي، بل هما أقرب ما يكون إلى شبه الترادف، أو الترادف غير التام (Incomplete synonymy)، فاللفظتان بينهما تقارب في المعنى إلى درجة الإلباس، دون أن يتحدا فيه.

وهكذا نرى أنه يمكن القول: إن بينهما عموماً وخصوصاً وجهياً -كما يقول المناطقة - فهما يلتقيان في المدلول العام، وتنفرد لفظة (عقيم) بالدلالة الواسعة، في حين تنفرد لفظة (عاقر) بالدلالة الضيقة، فكل عاقر عقيم، وليس كل عقيم عاقراً.

وبعد، فهذا ما اتضح لي في هذه الدراسة الأسلوبية واللغوية للنص القرآني، فإن كان صواباً ما كشفت عنه دراستي، أو كان قريباً منه وآمل أن يكون ذلك كذلك، فهو فضل من الله ونعمة، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني مجتهد في رحاب القرآن ينشد الحقيقة التي هي ضالة المؤمن، ويبتغي ما عند الله من أجر وثواب.

وأختتم هذه المحاولة التي أقدمها على استحياء إلى المكتبة القرآنية -وأنا أعلم الناس بعجزي وقلة بضاعتي - بقول صاحب (مفتاح السعادة): ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار القرآن، وما يرتبط بمقدماتها ولواحقها، لانقطع العمر قبل استيفائها، وما من كلمة في القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك .... وأما الاستيفاء فلا مطمع فيه، ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً لنفد البحر قبل أن تنفد أسرار القرآن).

وهذا كله حق، فما من كلمة أو لفظة يختارها القرآن إلا وهناك سر يقف وراء هذا الاختيار ربما عرفناه فأخبرنا به وربما غمض علينا أو قصر إدراكنا عنه بعد أن نكون قد اجتهدنا في تحصيله، وحاولنا الكشف عن مخبوئه وخفيه، فلم نستطع الاهتداء إليه، والوقوف عليه.

والله أسأل أن يجعل من محبتي لكتابه، ورغبتي الجامحة في إدراك دلائل مفرداته وألفاظه، سبباً في تجنيبي خطل الرأي، وسطحية التأمل، ومزالق التأويل، وزلة القلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله أولاً وآخراً .


التحميل: اكتمل تحميل 1858560 من 4244586 بايت.






الجمعة، 27 يونيو 2025

اقتفاء أهل الأثر بعد ذهاب أهل الأثر أو فهرس أبي سالم العياشي 11 -17 هـ بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

اقتفاء أهل الأثر بعد ذهاب أهل الأثر

أو فهرس أبي سالم العياشي

11 -17 م

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد: عرف أبو سالم العياشي بشغفه بالرواية والسند، فلم يكتف بعلماء المغرب الذين أخذ عنهم، وهم كثيرون، وإنما شد الرحلة أكثر من مرة إلى المشرق العربي مهبط الوحي ومهد الشريعة والحقيقة، متجولا في بلاد الكنانة، مجاوراً في الحرمين الشريفين، باحثاً عن الشيوخ المحليين والوافدين يحضر مجالسهم، ويذاكرهم ويحاورهم، ويستجيز منهم من له أهلية الإجازة.

وكان من حسن حظ أبي سالم أنه عاصر طائفة وافرة من رجال العلم والعمل، والتربية والمجاهدة، وأفاد منهم كامل الإفادة من أمثال الشيوخ عيسى السكتاني المراكشي، ومحمد بن ناصر الدرعي، وعبد القادر الفاسي، وعلي الأجهوري، وإبراهيم اللقاني والشهاب الخفاجي المصريين وتاج الدين المكي، وبدر الدين الهندي، وإبراهيم الكوراني وأضرابهم.

كان أبو سالم يتمتع بحس مرهف وعين لاقطة وأذن واعية وقلم سيال، فسجل كل ما رأى وسمع في رحلته الشهيرة ماء الموائد»، وفي فهرسه الذي نقدم له : اقتفاء الأثر بعد ذهاب أهل الأثر». هذا الفهرس لا يحتوي على مقروءات أبي سالم ومروياته وأسانيده العالية المغربية والمشرقية فحسب، ولكنه سجل شامل للنشاط العلمي في المراكز الثقافية الحضرية والبدوية خلال القرن الحادي عشر (17م) وشاهد على استمرار التواصل العلمي والروحي الذي لم ينقطع قط بين جناحي العالم الإسلامي.

مقدمة التحقيق

يدخل كتاب «اقتفاء الأثر» في إطار ما يسمى بالفهارس أو البرامج التي بدأ الاهتمام بها في المدة الأخيرة وحقق بعضها في نطاق الدراسات الجامعية، وفهرس أبي سالم العياشي الذي يمثل موضوع هذه الدراسة اختلفت عناوينه. فأشهرها هو ما أثبتناه، بينما يحمل في بعض النسخ أسمين آخرين أيضاً هما:

-العجالة الموفية بأسانيد الفقهاء والمحدثين والصوفية.

-مسالك الهداية إلى معالم الرواية.

وهو من الفهارس المغربية التي كتبت في القرن الحادي عشر للهجرة السابع عشر للميلاد، كتبه ليجيز به صديقه أحمد بن سعيد المجيلدي قاضي فاس، وفي بعض النسخ كتب باسم صديقه وتلميذه عثمان بن علي اليوسي. لذلك فهو عبارة عن إجازة عامة، جمع فيه أسانيده، وعرف بشيوخه الذين درس عليهم، أو تبرك بهم، أو اقتفى طريقهم علماً وتصوفاً، كما أورد فيه جل المؤلفات التي أجيز بها أو سمعها في المغرب والمشرق، مما يجعله مصدراً متميزاً إذا روعيت المرحلة التاريخية التي كتب فيها والتي حظيت خلالها كتب الفهارس بعناية عدد غير قليل من المفكرين المغاربة. ويحمل هذا الفهرس الذي نعتني بتقديمه للقارئ سمات مجال جغرافي واسع، كما أنه يرسم صورة عن رجال ذلك الطور، وعن مراكز نشاطهم. سواء منها البدوية الصغيرة الناشئة أو الحضرية المتألقة.

وانطلاقاً منه نتتبع أول مراحل تكوين أبي سالم، وهي المرحلة المغربية التي استفاد خلالها من شيوخ العلم والتصوف. أما المرحلة الثانية من تكوينه، فقد أسهمت فيها رحلاته المشرقية الثلاث، ويبرز هذا الفهرس بشكل واضح حصيلة رحلته المشرقية الثانية وخاصة في تحقيق تطلعاته في ميدان السماع والرواية وتحصيل الأسانيد العالية. وبذلك يعطينا فكرة عن الثقافة المغربية، ويعرفنا بمناهج البلدان الإسلامية الأخرى، وبشيوخها الذين تعرف عليهم عن كثب.

وأول انطباع يخرج به القارئ لهذا النص هو طغيان الطابع المشرقي. فهناك علماء ومذاكرات ولقاءات وإجازات، كما أن هناك تأثيراً متبادلا، وعلاقات مستمرة، وحلقات علمية مفتوحة. وهي رموز جعلتنا نقدمه نموذجاً للفهارس المغربية المشرقية، كما حملتنا على تتبع إشكالية الإزدواجية في تكوين أبي سالم فحرصنا على تأمل مظاهر شخصيته، وإعطائها حيزاً لا بأس به في الدراسة لنرى ذهنيته، ومصادر ثقافته، وخصوصية الذاتي والمكتسب لديه.

أ- النشأة والتكوين:

ولد أبوسالم ونشأ في عهد أمراء الزوايا، وكان والده الشيخ محمد بن أبي بكر من كبار مريدي زاوية الدلاء قبل أن يقوم - بإشارة من الدلائيين - بتأسيس زاوية خاصة في الأطلس الكبير الشرقي، وذلك سنة 1044هـ / 34-1635 م. وتقع الزاوية العياشية أو زاوية سيدي حمزة - كما تسمى اليوم - على ضفاف أحد روافد نهر زيز جنوبي مدينة ميدلت والملاحظ طبيعياً هو أنها محصنة بحدود جبلية تمثلها من الشمال الغربي السفوح الجنوبية الشرقية لجبل العياشي، ومن الجنوب الغربي قمة جبل أفداي. 

وبذلك يكون انفتاح الزاوية أكثر على الجهات الشرقية، والجنوبية الشرقية، حيث تمتد أهم خطوط العبور في اتجاه مدينة الريش، أو إقليم تافيلات. كما أن منطقة الزاوية تتوفر على ثروة مائية هامة اعتماداً على الخزان الجبلي الشمالي وتتمثل في مجموعة من السيول المائية التي تغذيها ثلوج القمم أو تستمد مياهها من الذخيرة الجوفية المكونة من مجموعة من العيون. غير أن الرافد الذي يعبر الزاوية - ويحمل أسمها - يعد أكثر الأنهار حمولة وأهمية.

ولا شك في أن هذه المؤهلات الطبيعية قد شجعت على الاستقرار منذ القديم، ودعت إلى استقبال المنطقة لكثير من الهجرات.

أما طريقة الزاوية العياشية، فكانت شاذلية؛ كما أننا لا نشك في أن الأوراد الملقنة فيها كانت قريبة مما يتلقاه مريدو الزاوية الدلائية فشيوخ محمد بن أبي بكر كلهم شاذليون، وتعاليمه شاذلية، وقد تأصلت هذه المبادئ لدى أبناء الزاوية العياشية وعلى رأسهم أبوسالم.

ب -الأسرة ومرحلة التعليم الأولي:

أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن يوسف بن موسى بن محمد بن يوسف بن عبد الله العياشي يلقب بعفيف الدين المالكي، واشتهر بكنيته أبي سالم كثيرا، ويتصل نسبه حسب روايات مؤلفي هذه الأسرة - بالشرفاء الأدارسة.

ولد لليلة بقيت من شهر شعبان سنة 1037 هـ / 4 مايو 1628م. وكانت وفاته في عاشر ذي الحجة سنة 1090هـ / 13 دجنبر 1679 م على أثر إصابته بوباء الطاعون. وأول من قدم إلى المنطقة من أجداده هو جدهم الأعلى عبد الله بن عبد الرحمن، وموطنهم الأصلي هو قصر ولتدغير بفجيج. 

وقد استقر أول الأمر في الغزلان ثم ارتحل إلى جبل درن حيث تزوج بخنق ملوان وخلف ولده يوسف، وانتقل يوسف إلى قصر آيت يعقوب القديم، فتزوج من آيت معروف، واشتغل في وظائف دينية كالإمامة والأذان وتعليم الصبيان وغير ذلك. ثم انتقل أحفاده فيما بعد إلى تزرفت، وارتبط يوسف - الجد الثاني لأبي سالم - بعلاقات مصاهرة مع أيت عياش فجرى عليهم هذا الاسم، ونسبوا إليهم.

وقد أنجب يوسف خمسة أولاد أربعة منهم عقبوا وهم عمر ولحسن ومحمد وأبو بكر. وهذا الأخير هو الجد المباشر لأبي سالم وأبناء عمومته، وقد أنجب خمسة أولاد ذكور هم حسين وعبد الله ومحمد ويوسف وعبد الجبار.

ج - الرحلات:

بدأ تكوين أبي سالم على يد والده وشيوخ الأسرة، وهي مرحلة أولية تعلم فيها القراءة والكتابة، واطلع على الأصول الإسلامية لكنها امتازت بتعمقه الجيد لما توصل إلى معرفته. فوالده بالرغم من إمكاناته العلمية المتواضعة تكون في الزاوية الدلائية واستفاد من شيوخها ومجالسها الحافلة بالمناقشات والمحاورات العلمية والأدبية. وقد تأكد فضل وعيه الفكري في تربية أبي سالم، وفي جعله يستغل هذا النزر اليسير الذي استطاع أن يلقنه إياه استغلالا طيباً، كما أن جو الزاوية وكثرة المريدين والطلبة ساهم في تشغيل الطفل الناشئ بأمور فكرية محضة. 

وقد سعى أبو سالم منذ اجتياز المرحلة الأولى من التعليم إلى أن يوسع دائرة معارفه عن طريق الرحلة. وإذا كنا لا نملك تفصيلا زمنيا عن الرحلات الداخلية التي قام بها، فإننا نسجل أول رحلة له إلى الزاوية الناصرية بتاريخ سنة 1053هـ / 43 - 1644م حيث حضر مجالس الشيخ محمد بن ناصر الدرعي، وتعرف على إمكاناته العلمية.

وكانت أول رحلة مشرقية لأبي سالم إلى الديار المقدسة سنة 1059 هـ /1649م وهو لا يزال شابا في مقتبل العمر، وقد تجلت خلالها بعض مميزات شخصيته، فهو شديد التمسك بالكتاب والسنة، ولوع بزيارة الآثار المقدسة، متأجج الحماس للإطلاع على الثقافة العربية الإسلامية في الحواضر المزدهرة علميا كالقاهرة والمدينة المنورة وغيرهما. وهذا الهدف العلمي الذي لم يتحقق أثناء هذه الزيارة ظل من بواعث الشوق في نفسه لتكرار هذه الرحلة، والاستعداد لها ماديا ومعنويا. 

لذلك لم يقتنع بأن نتائج هذه التجربة تستحق التسجيل والتدوين. فكل الحجاج يعرفون بالمسالك، ويعددون المراحل، ويذكرون أسماء البلدان، ولن تكون أكثر من عملية ترديد واجترار، في حين سيظل مشروع كتابة رحلة جامعة لمختلف الفوائد هدفا يخامر فكره قبل أن يتحقق وينجز.

أما في مدينة فاس، فيحظى أبو سالم بإجازة الشيخ عبد القادر الفاسي في شهر شعبان سنة 1063 هـ / يونيه أو يوليو 1653 م، بعد أن كتب إلى شيخه يطلب الإجازة باسمه واسم عدد من أبنائه وأفراد أسرته، وكذلك عدد من أصدقائه المشارقة، ويذكر في هذا الاستدعاء العلوم التي درسها، والكتب التي سمعها على شيخه ومنها كتب الصحاح والتفسير والفقه، و «السلم» و «إيساغوجي» وغير ذلك، ويشير إلى حلول موعد السفر، وانقضاء زمن الدراسة، ولا يفصح عن أسباب هذا الإزعاج.

 كما أننا لا نستطيع أن نتبين بوضوح أسباب هذه الرحلة فيما عدا السبب العلمي، لأن أبا سالم اشتغل في العاصمة العلمية بالتحصيل والسماع ومجالسة الشيوخ. وأساس هذا التساؤل هو أننا لا نعرف تاريخ وصوله إلى هذه المدينة من أجل التعلم، وما هي المدة التي قضاها بها. فمصادر الأسرة العياشية تركز على أخبار إجباره مع أسرته على الرحيل إلى مدينة فاس بعد حوالي عشرين سنة من هذا التاريخ، وتقدم بعض الإشارات المتباينة. فمؤلف «الثغر الباسم يذكر أن أبا سالم رفض منصب القضاء الذي عرضه عليه «سلطان الوقت وبالضبط قضاء مراكش. وقد تسبب هذا الرفض في إجلاء الأسرة إلى فاس، ويركز في حديثه على إبراز مكانة أبي سالم الاجتماعية وعزوفه عن المناصب الدنيوية.

وفي إطار الدرس وتوسيع المدارك تزداد شخصية أبي سالم لمعانا في رحلته المشرقية الثانية سنة 1064 هـ / 1654م. وقد اختلفت عن سابقتها في تحقيق رغباته التعليمية فجد في المطالعة والسماع والحضور، حتى تشعبت روايته واتسعت أسانيده واتصلت في ميادين العلوم النقلية والتصوف معا. وقد ضمن فهرسه «اقتفاء الأثر» إيجابيات هذه الرحلة.

وكانت إمكانات أبي سالم الفكرية قوية عندما أقبل على رحلته الثالثة إلى المشرق سنة 1072 هـ / 1661م، وهي الرحلة التي أرخ دقائقها، وسجل مختلف الإفادات والاستفادات التي حصلت له منذ أول يوم غادر فيه الزاوية إلى حين رجوعه إليها. وأول ما يطالعنا من رحلته ماء الموائد التي ألفها بعد عودته، مقدمة مهد بها للموضوع، ندرك منها أن ظروف المغرب وأحواله الداخلية تسببت في تأخير موعد هذا السفر الذي كان ينوي القيام به سنة 1069هـ / 58-1659م. 

فقد عصفت الفتن وانقطعت السبل، وهو لا محالة يقصد الأحداث المتلاحقة التي شهدتها جل المناطق في إطار الصراعات المحلية والمنازعات بين أمراء الزوايا وزعماء الحركات القائمة، ويقترن اختيار هذه السنة بنوع من الاستحسان والاقتداء بحديث نبوي شريف. وفي ذلك تأكيد على تشبثه بالسنة النبوية من جهة، وإشارة ضمنية إلى أنه في سعة من الرزق من جهة أخرى. وإن كان هذا لا يعني أنه موسر واسع الثروة، فهو إفصاح عن طريقة استغلاله لموارد الزاوية والأسرة في أمور دينية وعلمية.

د - الشيوخ المعتمدون:

بدأ أبو سالم تعليمه على يد والده فهو أول شيوخه في التربية والتعليم، وقد خصه بالتقديم والفضل في فهرسه وقال عنه : رباني فأحسن تربيتي، وغذاني بنفائس علومه فأحسن تغذيتي. وبالرغم من كونه لم يتعد في هذه المرحلة مستوى حفظ القرآن والأذكار الشاذلية، فإنها مرحلة أثرت في توجيهه، وأبرزت ما بذله والده في سبيل الاعتناء بنشر العلم في المنطقة.

ومن شيوخ أبي سالم المغاربة الشيخ عبد القادر بن علي الفاسي، وهو من رواد الحركة التعليمية في هذا القرن، تصدر للتدريس والمشاركة، ووسع حلقات دروس اللغة العربية والفقه والأصول، كما أحيا علوم الحديث، واهتم بالتربية والوعظ. وقد استمع إليه أبو سالم في عدة علوم وبين طريقته في تحليل بعض النصوص والاستشهاد عليها. 

ومن جملة ما قرأ عليه من كتب التصوف كتاب «الحكم العطائية» قراءة تفهم وتحقيق، ويقدم إشارة واضحة لتحديد هذا المدلول وهي فتح باب المناقشة مع الطلبة. وقد ذاكره أبو سالم في عدد من المقامات والأحوال. ولا شك في أن هذا المنهج ينطبق على طريقته في تلقين باقي العلوم التي تتوفر فيها نصوص وأدلة نقلية متنوعة. 

ويستمع أبو سالم في مدينة فاس إلى الشيخ الفقيه أبي العباس أحمد الأبار في دروس مختصر خليل في الفقه المالكي. وقد استفاد نظريا وعمليا أيضا، وأكد على علو سند هذا الشيخ ومشاركته للشيخ عبد القادر الفاسي في كثير من شيوخه ثم قال : ويزيد عليه بالأخذ على مولاي عبد الله بن طاهر الحسني، وبالأخذ عن أبي العباس بن القاضي وما أظن بفاس اليوم سندا أعلى من سنده بعد شيخنا سيدي محمد البوعناني، لأن البوعناني خاتمة من روى عن القصار بالسماع.

وفي إطار الاهتمام بتقديم ذوي الأسانيد العالية، احتل الشيخ محمد بن أحمد ميارة المرتبة الثالثة، وهو يشارك الشيخين المتقدمين في أسانيدهما. وقد حضر أبو سالم دروسه، وسمع من لفظه شرحه الصغير على «المرشد المعين» بأكمله، وحظي بإجازة عامة منه.

وإضافة إلى هؤلاء الشيوخ الثلاثة - الذين قدمهم أبو سالم في فهرسه ، أخذ عن أجل شيوخ العاصمة العلمية وحظي بإجازة البعض منهم.

واستفاد من الشيخ أبي بكر السكتاني المراكشي الذي لقنه جميع مروياته وأجازه، كما لقنه ووعظه واعتمد أسانيده في طريق التصوف، وحضر مجالس الشيخ محمد بن ناصر الدرعي عدة مرات في عدة علوم وخاصة علوم اللغة والفقه والتفسير إلى جانب انتفاعه به عن طريق الصحبة والتلقين وهو من شيوخ المغرب الذين حققوا تقدما ملموسا في ميدان التعليم كما أنه صاحب طريقة شاذلية معتدلة انتسب إليها عدد كبير من عامة الناس وخاصتهم.

ويقتصر أبو سالم على هؤلاء الشيوخ المغاربة في فهرسه إيثارا للاختصار. وقد أشارت جل المصادر إلى اتصاله بعدد آخر من العلماء لم يرد ذكرهم في مؤلفاته. وتتسع لائحة مشيخته في المشرق حيث حضر مجالس العلماء في مصر وفي الحرمين الشريفين، وقد عرف بعدد لا بأس به منهم. غير أن درجة انتفاعه درس على بعضهم كتبا وعلوما كثيرة، بينما مثل الآخرون شيوخا تبرك بهم، واقتفى طريقهم. وسوف نقدم صورة عن هؤلاء الشيوخ تبعا للترتيب الموجود في الفهرس. بهم تختلف. 

فقد حظي الشيخ زين العابدين علي الأجهوري بالتقديم بصفة أول شيخ من شيوخ أبي سالم في مصر، وهو ينتسب إلى أسرة لها فضل وتقدم في ميدان الرواية والإسناد، وقد تأكد هذا الجانب في أسانيد الشيخ علي العالية في رواية الحديث كما أنه فقيه مالكي ربطته بشيوخ المغرب وعلمائه علاقات علمية بواسطة المراسلة، وتبادل الأسئلة والفتاوي. وقد سمع أبو سالم عليه - بمنزله - بعض كتب الحديث، وعددا من الأحاديث المسلسلة وأجازه إجازة عامة بكل ذلك.

ومن أشهر شيوخ أبي سالم المصريين وأبعدهم صيتا الشيخ شهاب الدين أحمد الخفاجي أفندي إمام الحنفية وأحد الشيوخ المشاركين في الميدان التعليمي، كان له اهتمام واضح بالتدريس والتأليف. وقد سمع عليه أبو سالم عددا من المؤلفات والأحاديث المسلسلة، وأجازه في كل ذلك إجازة عامة بمؤلفاته.

وضع عبد الله بن عمر العياشي قائمة بكتب أبي سالم، وقصائده في مختلف الأغراض، كما ذكرها حفيده محمد بن حمزة العياشي، وقدم بعض الباحثين جردا مفصلا مبوبا بأسمائها ومواضيعها.

في التوحيد

(1) الحكم بالعدل والإنصاف الرافع للخلاف فيما وقع بين فقهاء سجلماسة من الاختلاف.

(2) في تكفير من أقر بوحدانية الله، وجهل بعض ما له من الصفات

(3) إظهار المنة على المبشرين بالجنة.

(4) تخميس البردة، ويسمى أيضا الكواكب الدرية في مناقب أشرف البرية.

(5) قصائد في مدح الرسول الله على بحور الخليل.

(6) هالة البدر في نظم أسماء أهل بدر.

(7) المغريات في إصلاح الوتريات.

في اللغة

(8) ) كراسة في «لو» الشرطية وتسمى : المباحث المرضية فيما يتعلق بلو الشرطية.

في الفقه

(9) معونة المكتسب وبغية التاجر المحتسب رجز نظم فيه أبو سالم بيوع الشيخ ابن جماعة التونسي.

(10) إرشاد المنتسب إلى فهم معونة المكتسب. وهو شرح للنظم السابق الذكر

(11) أجوبة الخليل عما استشكل من كلام خليل.

(12) القول المحكم في صحة عقود الأصم الأبكم.

(13) العلاوة فيمن ركع محل سجود التلاوة.

(14) شرح المحلى (لم يكمل).

في التصوف

(15) نظم في أصول الطريقة الزروقية ويسمى أيضاً: معارج الوصول إلى أصول أول الأصول

(16) تنبيه ذوي الهمم العالية على الزهد في الدنيا الفانية ويسمى أيضا: سوق العروس وأنس النفوس أو رسالة في ذم الدنيا.

(17) وسيلة الفريق بأئمة الطريق رجز نظم فيه أبو سالم شيوخ التربية الصوفية.

(18) ألفية في التصوف

الرحلات: 

(19) التعريف والإيجاز ببعض ما تدعو الضرورة إليه في طريق الحجاز وتسمى الرحلة الصغرى وهي عبارة عن رسالة مطولة كتبها أبو سالم لصديقه أحمد بن سعيد المجيلدي سنة 1068 هـ.

(20) ماء الموائد أو: الرحلة العياشية.


(21) اقتفاء الأثر بعد ذهاب أهل الأثر». ويسمى: مسالك الهداية إلى معالم الرواية» أو «العجالة الموفية بأسانيد الفقهاء والمحدثين والصوفية».

(22) «إتحاف الأخلاء بأسانيد المشايخ الأجلاء». 

ثاني فهرس كتبه أبو سالم، جمع فيه نصوص الإجازات التي كتبت باسمه واسم عدد من أبناء أسرته وأصدقائه المغاربة ذيل به رحلته الكبرى ماء الموائد. ولم يطبع معها).

قصائد ورسائل:

(23) قصيدة أنشأها عند ختم قراءة الشمائل على الشيخ عبد القادر الفاسي

(24) قصيدة كتبها من طرابلس لشيخه عبد القادر بن علي الفاسي، ضمن كتاب تحفة الأكابر في مناقب الشيخ عبد القادر العبد الرحمن بن عبد القادر.

(25) رسالة وجهها أبو سالم إلى الشيخ العربي بردلة.

دراسة اقتفاء الأثر:

1 - التعريف بالكتاب

أول فهرس كتبه أبو سالم سنة 1068 هـ / 1657 ، ليجيز به بعض تلامذته أو أصدقائه، والفهرس عبارة عن كتاب يذكر فيه المؤلف مختلف المعلومات المتعلقة بحياته الدراسية ويتتبع فيه أسانيد شيوخه في كل العلوم والكتب التي يرويها عنهم بتسلسل متصل بقصد توثيق أصوله العلمية قبل منح الإجازة.

وتستعمل مصطلحات متعددة لتأدية نفس المعنى وهي :

-1 المشيخة.

2 المعجم.

3 - الثبت .

4 - البرنامج.

5 - الفهرست.

6 - الفهرسة.

7 - الفهرس.

8 - أسماء أخرى.

فالكلمات الثلاث الأولى عربية، بينما أصل الكلمات الأخرى فارسي، فكلمة برنامج» معربة عن كلمة «برنامه»، وكلمة «فهرست» من الدخيل، وهي فارسية بقيت محتفظة بصيغتها دون إدخال أي تعديل عليها يتمشى مع قواعد اللغة العربية، أما الكلمتان الأخيرتان فقد عربتا عن كلمة «فهرست» وأخضعتها للوزن والإعراب العربيين.

وأصل هذه التأليف المرتبطة بالإجازة أساسا متصل بعلم الحديث وروايته فالمحدث يروي الحديث بالسند المتصل إلى الرسول الله وهذه الكتب تهتم بتسلسل السند إلى واضع العلم أو مؤلف الكتاب أو شارحه.

وقد دخل هذا النوع من التأليف على يد أحد علماء المشرق إلى الأندلس، كما أنه عرف في المغرب منذ وقت مبكر ثم تطور على مراحل، وتبعا للمناهج الأكثر انتشارا في ترتيب وتبويب هذه الكتب يميز الباحثون بين ثلاث طرق عموما، وتعتمد الطريقة الأولى على تقديم المرويات أي ترتيب الكتاب على أساس الكتب المدروسة تبعا لأهمية كل علم، وهي طريقة يعني فيها المؤلف بالكتب قبل الشيوخ، وقد يضطر المؤلف إلى ذكر الشيخ أكثر من مرة إذا كان سمع عليه أو روى عنه أكثر من كتاب. أما الطريقة الثانية فيقدم فيها المؤلف شيوخه المعتمدين في الدراسة ويترجم لهم ذاكرا ما يتحلون به من الصفات متعرضا من خلال حديثه عنهم إلى عدد من المعلومات التي ترتكز بشكل خاص على نشاطهم، وأساليبهم التعليمية، ووظائفهم وغير ذلك. وقد تصرف كل مؤلف في طريقة ترتيبهم إما تبعاً للمراحل التعليمية حيث يتبدئ المؤلف بوالده أو يتبع ترتيبا هجائيا، أو ترتيباً حسب الاختصاصات، وهناك طريقة ثالثة يجمع فيها المؤلف بين الطريقتين الأولى والثانية فيقسم فهرسة إلى قسمين أحدهما للتعريف بالشيوخ والآخر للمرويات.

والملاحظ عموما أن كتاب هذا الصنف من الكتب يميلون إلى الاختصار والتقليل من الاستطرادات في عرض هذه المواد. وتصور الفهارس الكيفية التي ينتقل بها العلم من شخص لآخر حسب منهاج معين، وهي من هذا الجانب لا تتصل بالدراسات التاريخية بشكل مباشر، غير أن أهميتها تأتي من كونها تملأ الفراغ الذي يمر عليه كتاب التاريخ بحيث يحمل التنوع والمجالات المختلفة التي يتناولها المؤلف من الناحية التوثيقية إشارات غير مقصودة أصلا يتعلق بعضها ببيئة المؤلف وبيئة شيوخه وبعضها الآخر بطرق الاتصال وملامح العصر الثقافية وما يظهر خلال تجربة المؤلف الدراسية من مؤثرات في مختلف الميادين. 

وتظهر أهميتها أيضا في دراسة الحياة الفكرية فهي تؤرخ للأساليب التعليمية والمواد الملقنة والكتب المنتقاة في الدراسة، فضلا عن أنها تحتفظ بأسماء مؤلفات قد يصير بعضها مجهولا أو مفقودا، وتزودنا في باب المشيخة بتراجم أناس يعرفهم المؤلف عن قرب، وينقل عنهم صورة حية، وقد يكون الفهرس أحيانا هو المصدر الوحيد للتعريف ببعضهم.

وقد سلك أبو سالم في كتابة فهرسه نهج الطريقة الثالثة، فخصص قسماً لتراجم الشيوخ، وقسما للمرويات بأسانيدها الموصولة من طرق مغربية أو مشرقية، ورتب شيوخه مبتدئا بوالده، ثم قدم بقية الشيوخ حسب مكان الإلتقاء بهم وبذلك ترجم لشيوخه المغاربة، ثم الشيوخ الذين أخذ عنهم بمصر، وبعدهم شيوخه بالحرمين الشريفين، وقسم حديثه عن هؤلاء الشيوخ على أساس درجة الانتفاع بهم، وملازمته لكل واحد منهم في الدرس والرواية، أو في التربية والتبرك الصوفي، أو فيهما معا. وعلى هذا الأساس صنفهم فئتين، فئة مثلت شيوخ الدرس والتعلم، وفئة ثانية ممن تبرك بهم وانتسب إليهم على سبيل الاقتداء.

أما القسم الثاني من اقتفاء الأثر، فقد خصصه للمقروءات والمرويات بأسانيدها المتصلة، وختم بذكر بعض الإنشادات لإعطاء المادة الأدبية نصيبا، ثم ذكر سلسلة الفقه المالكي، موصولة بأسانيد مغربية.

2 - المضامين المتناولة فيه

أ - مقدمة الكتاب :

تضمنت مقدمة «اقتفاء الأثر» فكرة عن الاتجاه العام الذي سوف يلتزم به في كتابته، وأوضح فيها اهتمامه بعلم الرواية، وجمع الأسانيد العالية، لكون المغاربة المتأخرين غلب عليهم جانب الدراية، وتعاطوا التدريس، والتأليف، في حدود مصنفات أشبعت شرحا، واختصارا، والملاحظ أن هذه النظرة تزامنت مع مرحلة تاريخية عرف فيها هذا الجانب من الثقافة الإسلامية فتورا وإهمالاً، ولم يغفل العلماء المتقدمون الإشارة إلى ذلك منذ نهاية القرن 16م، ومن جملتهم الشيخ عبد الواحد السجلماسي ت 94/1003-1595 م في فهرسه «الإلمام»، والشيخ محمد العربي الفاسي الذي كان له اهتمام واضح بالرواية وجمع الأخبار، والشيخ محمد بن ناصر الدرعي الذي ذكر شدة اعتناء المشارقة بذلك دون المغاربة. 

فأبو سالم ينطلق من واقع ملموس، ويضيف تشنيعا حادا إلى آراء هؤلاء الشيوخ فذوو المؤهلات العلمية في المغرب لا يتجاوزون الطريقة التي يسميها بالصحفية» وهي قاصرة تعتمد على النقل الذي يسد باب الاجتهاد، وقد أشار إلى هذا التساهل بقوله : «واتخذ الناس رؤوسا جهالا، وأفتوا بغير علم استسهالا، وتلقوا العلم من بطون الصحف تقليدا، وصار المتشبث بالرواية بينهم بليدا».

فالشيوخ هم مصدر الثقة الأساسي في ثقافة الطالب وهم الحلقة المباشرة التي يوثق بها رواياته، وهذه هي القاعدة التي سادت في العهود السالفة، وقامت عليها الثقافة الإسلامية ومن أجل هذه الغاية أيضا أكد كل عالم على سنده، وبين رجاله واحدا واحدا.

وربما سعى أبو سالم من وراء هذا التقديم إلى محاربة البدع المنتشرة في أيامه بأسلوب نقدي سليم، وغير مباشر. كما يتضح من هذه المقدمة أن أبا سليم كان يتوق إلى الرحلة، وإلى توسيع ميدان الرواية فهو يعبر عن انشغال المغاربة بالشروح والاستطرادات، بينما ظل المشرق مطبوعاً بنوع من التنوع الثقافي، والاهتمام بالرواية ومن أجل ذلك قصده طلاب العلم، وسعوا إلى الإتصال بعلمائه. لكن أبا سالم بالرغم من انتقاداته الصريحة لهذا الجانب لا يخفي إعجابه بتقدم المغاربة في ميدان الدراية الذي شكل القاعدة الأساسية في التكوين ولولاه لما حقق المؤلف نفس المستوى المرموق الذي شهدت به إجازات شيوخه له. إلا أن التوازن بين الجانبين على ما يبدو - كان من بواعث شغف المغاربة بالرحلة والسماع.

ونقابل نظرة أبي سالم واهتمامه الزائد بالمشرق في هذه المقدمة بما ذهب إليه الشيخ الحسن اليوسي الذي لم تكن له رحلات مشرقية كثيرة كأبي سالم، وهو من الثائرين أيضاً على الجمود الثقافي. ولكنه وجد بعض مراكز المشرق الكبرى كالقاهرة تكاد تخلو من مجالس الدرس باستثناء جامع الأزهر. كما وجد أن عدد الصالحين والمتصوفة قليل جداً بالمقارنة مع البدع المنتشرة، ورأى بذلك أن من وصفوا الإزدهار العلمي ربما ضخموا هذا النشاط الذي تحدثوا عنه.

ونورد - في نفس السياق ما جاء به الباحث عبد الكبير العلوي المدغري الذي اعتمد على الارتسامات التي نقلها أبو سالم في رحلته حول خلو المناصب الشرعية ممن يستحقها ووجود شيوخ أصابهم الهرم ليخلص إلى القول : «فإذا كانت هذه من انطباعات العياشي في رحلته فما عسى أن يستفيد أبو علي اليوسي من علماء تلك الديار». أما صاحب «فهرس الفهارس فقد انتقد هذا الإدعاء من الشيخ اليوسي رغم كونه مكث في القاهرة حوالي أربعة أشهر دون أن يأخذ عن علمائها آنذاك ومن بينهم العجيمي، والخرشي وغيرهما، ونكتفي بصدد صورة المشرق الإسلامي بتقديم بعض الملاحظات مع العلم بأن معلومات «الفهرس سابقة لما تضمنته «الرحلة».

لقد مر أكثر من قرن على الحكم التركي للمشرق، وأخذ الطابع الأعجمي يطبع الثقافة العربية، والفكر العربي بصفة عامة.

زار الشيخ اليوسي المشرق بعد أبي سالم بحوالي ربع قرن من الزمن، وهي مدة كافية لبروز بعض التراجع في هذه المراكز لذلك لم يجد بها ما كان متشوقاً إليه.

ولا نستطيع أن نعرف المستوى العلمي الذي كان يطمح إليه فقد قصد الشرق في نهاية ق 11هـ / 17م وهو عالم مكتمل القدرات. في حين اقترن اهتمام أبي سالم الكبير بالمشرق برغبته الشديدة في استكمال التكوين كما أنه كتب فهرسه وهو شاب.

لا نعتقد أن مقاييس التضخيم والإشادة تنطبق على ما نحن بصدده كما أن ما ورد من انتقادات أبي سالم الصريحة في رحلته بعد ذلك تدل على أن الأحوال قد تغيرت.

ب - المترجم لهم في اقتفاء الأثر:

ترجم أبو سالم لتسعة وعشرين شيخا وهم فئتان كما ذكرنا آنفا، فئة مثلت شيوخ التدريس من أصحاب الكراسي العلمية وعددهم إثنان وعشرون شيخا، أخذوا أكبر نصيب من هذه التراجم بما يعادل ثلثي القسم المخصص لها وهو يقدم كل واحد منهم بما يدل على مساهماته في نشر العلم ومشاركته في الحياة الفكرية والاجتماعية وينتقل بعد ذلك إلى ذكر ما قرأ عليه من كتب وعلوم، مشيرا إلى الأسلوب التعليمي والطرق المتبعة في ذلك من سماع ومذاكرة، وقراءة بين يدي الشيخ، ثم الحصول على الإجازة العامة أو الخاصة تلفظا أو كتابة، ويتعرض من خلال هذا الحديث إلى مراكز الدرس ومجالسه ومدته أحيانا، كما حرص أبو سالم أثناء هذا التعريف على ذكر مشيخة شيوخه فتتبع أسانيدهم وأبرز أكثرها علوا.

وأهم ملاحظة حول تراجم هذه الفئة الأولى هي أن أبا سالم يترجم لهؤلاء بهم ثم يخصص فصلا آخر لأسانيدهم الشيوخ ويعرف بهم تبعا لمراكز التقائه الصوفية، ولطرق انتفاعه بهم في ميدان التربية والسلوك وقد انتقى تسعة منهم في هذا الفصل وركز فيه بالخصوص على الجانب الخلقي وعلى أساليب الأخذ والتلقين، كما تتبع من أسانيد شيوخه المغاربة سند الشيخ عبد القادر الفاسي، ومن المشارقة سند الشيخين علي الأجهوري، وعبد القادر المحلى لأن جل أسانيد شيوخه المذكورين تتصل بهم.

ويعرفنا أبو سالم في هذا الفصل بأساليب معقدة أحيانا ولها قواعد خاصة لا تنطبق عليها مناهج باقي العلوم وخاصة علم الحديث ومن ذلك أن طريقة الأخذ عند المتصوفة تتم بشكل غير مباشر أحيانا، والاتصال أو الإنقطاع في السند عندهم له مقاييس خاصة بهم. ونقدم هذه الأساليب اعتمادا على ما جاء في الفهرس.

. طريقة الأخذ عند المتصوفة: 

وتعتمد عادة على الصحبة والاقتداء عن طريق الإقامة، وخدمة الشيخ، وإنجاز ما يأمر به من أعمال ولا يقدح في هذا التلقين الإنقطاع في أسانيد الرواية بل قد يكون هذا التلقين روحيا غيبيا بين شخصين يفصل بينهما التاريخ والزمن وقد نبه أبو سالم على ذلك بعد أن قدم مثالا عن كيفية هذا الاتصال بقوله : «وإنما نبهت على هذا خشية أن يراه من لا خبرة له بطرق القوم فيظن أنه انقطاع يقدح في اتصال السند، فإن للقوم - رضي الله عنهم -اصطلاحات ليست لغيرهم».

الإتصال أو الإنقطاع في السند عند المتصوفة: 

بالمقارنة مع مقاييس رواية الحديث الدقيقة والالتزام بمنهج الرواية المتصلة والأسانيد العالية نلاحظ أن مقاييس أسانيد التصوف تختلف لأن ميدان التصوف أوسع وقد أشار أبو سالم في هذا الشأن اعتمادا على أقوال الشيخ محمد العربي الفاسي الذي بحث في هذا الموضوع إلى أنه لا يلتزم في باب التصوف، ما يلتزم في باب الحديث لأنه أوسع، ويضيف مؤلف «الإعلام» في هذا الشأن ما يفيد المعنى ذاته بقوله : «إلا أن سند الطريقة لا يسلك مسالك أسانيد المحدثين من الغبطة بالعلو، وقلة عدد رجال السند لأن الصوفيين على ما يقال يرون أن السند كلما كثر رجاله عظم الاستمداد منه والافتخار، خصوصا مع تباعد الأقطار في ذلك الوقت».

وترجم أبو سالم لفئة ثانية من الشيوخ لم يأخذ عنهم إلا طريق التصوف وقد اختار سبعة شيوخ مشارقة تبرك بهم، وانتسب إليهم وتلقن منهم بكيفيات مختلفة اعترافا بدورهم في التكوين العام. ومن خلال تتبع أسانيدهم الصوفية وكيفيات اتصاله بكل واحد منهم نقف على بعض التقاليد والكيفيات التي يتلقى بها المنتسب إلى هذه الطرق. ومن ذلك :

. طريقة أخذ العهد:

العهد أو الإلتزام بالوفاء ويتم بشكل من الأشكال عند المتصوفة، فالشيخ بدر الدين القادري شيخ الطائفة القادرية في القاهرة يأخذ على أبي سالم العهد ويجيزه تبركا : «وأخذ علي العهد على طريق السادات القادرية، ولقنني الذكر وألبسني الخرقة، وأجازني وكتب لي ذلك بخطه».

. طريقة اللباس والتكنية:

اللباس من أساليب التبرك ويتم برواية وقد يصبح اللباس تقليدا عند بعض الشيوخ مثل الشيخ أبي اللطف الوفائي المصري وقد بين أبو سالم هذه الكيفية بقوله : «ألبسني الخرقة، وكناني بأبي سالم وقال لي سالم إن شاء الله في الدنيا والآخرة ... وطريقهم مسلسلة باللباس والتكنية».

. طريقة مناولة السبحة وتلقين الأذكار والمصافحة :

يذكر بعضاً من تلك المظاهر عند المتصوفة، أثناء ترجمة الشيخ عبد الرحمن المكناسي بقوله : «لقيته بداره بمكة، وناولني السبحة، وألبسني الخرقة، ولقنني الذكر» وكذلك ضمن الحديث عن الشيخ محمد باعلوي الحضرمي.

وقد يوظف الشيخ وظيفة معينة، ويختار بعض الأذكار، أو يأمر بعمل ما في وقت معين ومن ذلك ما قام به أبو سالم بأمر من الشيخ صفي الدين القشاش وأوجزه بقوله : «لقنني الذكر بداره بالمدينة المشرفة ... وذلك بعد أن أمرني بالأمس بالمبيت بالحرم الشريف، ووظف لي وظيفة تفعل تلك الليلة ...، أما الشيخ زين العابدين البكري الصديقي فصافح أبا سالم، ولقنه الذكر تجاه البيت الحرام.

. منح حق الانتساب إلى السالك تلفظا :

قد يتم الإنتساب بعد جلسة يستمع فيها المنتسب إلى بعض المواعظ أو الأسانيد تبركا وقد طلب أبو سالم من الشيخ عبد الكريم الفكون ذلك وعبر عن هذا الأسلوب بقوله : وترددت إليه مرارا لزيارته والتماس بركاته، وطلب الدعاء منه... ولما سألته ذلك استعذر فقال ... ولكن مرادك الإنتساب إلينا، فأنت منا وإلينا، منسوب إلينا، لك ما لنا، وعليك ما علينا، كما قال الإمام الشاذلي.

ج - الكتب التي أخذها أبو سالم عن شيوخه :

افتتح أبو سالم الجزء الخاص بالمرويات برواية عشرة أحاديث مسلسلة من عوالي الأسانيد التي حصلت له خمسة فعلية وخمسة قولية ثم قدم الكتب التي أخذها عن شيوخه وأغلبيتها في علم الحديث والتصوف واللغة، والفقه، ثم القراءات والتفسير، والسيرة النبوية، وختم هذه المجموعة بعدد وافر من كتب الفهارس التي احتوت تتأليف المسلمين مشرقا ومغربا، وجمعت جل ما يتصل بالثقافة الإسلامية وهو يحيل المجازين عليها ويقدمها كمصادر للإطلاع والبحث لمن أراد ذلك.

ومن الكتب التي انتقاها أبو سالم في اقتفاء الأثر» كتب معينة قرأها، وسمعها، وأجيز بها كـ «مختصر الشيخ خليل الذي قرأه بأكمله ومنها فهارس شيوخ أجازوه بها، فهو نظريا له سند فيها كلها. ومنها مجموعات كتب لم يعينها، سمى بعضها تصانيف، وبعضها تأليف وغالبا ما يتبع في أسانيدها أسلوب الإحالة على ما سبق ويقدم بعضها بدون تعيين إسم الشيوخ الذين سمعها عليهم، أو طريقة الأخذ مكتفيا بالإشارة إلى أنه يرويها بالسند المتقدم إما من طرق مغربية أو مشرقية.

والملاحظ أن أبا سالم لم يتقيد بترتيب معين في عرض هذه الكتب ولكن بدأ بكتب الحديث وأولها كتاب «الموطأ» وبعده «الصحاح» وباقي الكتب الأخرى ثم ختم بكتب الفهارس».

وسوف نقدم المصنفات في شكل جداول مرتبة ترتيباً زمنياً باعتماد تواريخ وفيات المؤلفين.