أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 13 يونيو 2023

تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم للقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة ( ٦٣٩ - ٧٣٣ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم

للقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة

( ٦٣٩ - ٧٣٣ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: العلم صلاة السر، وعبادة القلب، وقُربة الباطن، وقد اعتنى العلماء قديماً وحديثاً بتجلية طريق طلب العلم، وحسن الأدب فيه، وصنفوا في ذلك المصنفات المبسوطة والمتوسطة والمختصرة، وكان من أواسطها كتاب (تذكرة السامع والمتكلم) للقاضي الشيخ العالم بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الكنانيـ، الذي ذكر فيه من أخلاق العالم والمتعلم ما ينبغي لهما التحلي به، وجعل ذلك في خمسة أبواب، لكل باب جزء معلوم من الفصول، ولكل فصل أنواعه الشريفة المختصة به.

وليس هذا بدعاً من القول، فإن الإسلام ينصح لأوليائه أن يبتغوا العلوم أينما كانت، ويزينوا طلبها بالأدب، ويحضهم على أن ينظموا شؤونهم الحيوية على مقتضى ما علموا، ولم يجئ الإسلام في عقائده أو أخباره بما يخالف العلم الصحيح، ولم يجئ في نصائحه بما ينقص الرغبة في طلبه على اختلاف فنونه، فشأن الأمة التي تبتغيه ديناً أن تكون أصفى الأمم بصائر، وأغزرها معارف، وأبعدها في البحث نظراً.

وأردف الشيخ المُحقق هذه الآداب العالية والأخلاق الزكيّة، بثلاثة ملاحق نفيسة، تتمم هذا الكتاب، وتؤيد ما فيه:

أولها: كتابة الحديث وضبطه وأدب الراوي طالب الحديث من كتاب «المنهل الروي»، وذكر منه أنواعاً:

-النوع الثالث في كتابة الحديث وضبطه، وأول من صنف فيه.

-النوع الخامس: في أدب الراوي.

-النوع السادس: في أدب طلب الحديث.

وثانيها: قصيدة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني -رحمه الله -في بيان شرف العلم، ورفعته، وبعض آدابه.

وثالثها: صور لبعض المدارس التي تولى المصنف ابن جماعة رحم الله التدريس فيها، وهي (العادلية والشامية البرانية =بدمشق، والناصرية وجامع ابن طولون=في القاهرة) .

وأورد هنا بعض الجمل المفيدة الواردة عن السلف في الحث على طلب العلم، منها ما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد ، وبذله قربة، وتعليمه من لا يعلمه صدقة»

وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله: «تعالم معلم يدعى كبيرا في ملكوت السماء».

وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله: «أرفع الناس عند الله منزلة : من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء»

وقال الشافعي -رحمه الله: «إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله؛ فليس لله ولي». 

وعن ابن عمر رضي الله عنه: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة» 

وعن سفيان الثوري والشافعي، قالا: «ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم» 

وعن الزهري، قال: «ما عبد الله بمثل الفقه». 

وعن أبي ذر وأبي هريرة، رضي الله عنهما، قالا: «باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل أحب إلينا من مائة ركعة تطوعاً». 

وقال عمر رضي الله عنه: «تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار» 

وقال يحيى بن معاذ -رحمه الله: «لو كانت الدنيا تبرا يفنى والآخرة خزفا يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على النبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فان والآخرة تبر باق؟»

إسنادي إلى كتاب تذكرة السامع والمتكلم

وقد أنبأنا به بعموم إجازته، جمعٌ من الشيوخ، منهم الشيخ العلامة المعمر عبد الرحمن بن محمد عبد الحي الكتاني، وشيخنا العلامة محمد بن الأمين بوخبزة التطواني المغربي، وشيخنا أحمد ومحمد أبناء السيد أبوبكر بن حسين بن الحبشي (صاحب الدليل المشير)؛ كلهم عن والد الأول حافظ العصر ومسند الوقت ومحدثه العلامة أبو الأسعاد وأبو الإقبال محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي الفاسي (صاحب فهرس الفهارس)

وقال الكتاني: أروي ذلك عن عدد من شيوخنا، منهم: الجزيري والأمير والبيلي ومرتضى والعروسي والجوهري والشبراوي وكلهم عن حسن العدوي، عن محمد بن عقيلة، عن أحمد النخلي، عن أبي مهدي عيسى الثعالبي، عن أبي الحسن عليّ الأجهوري والقصار، كلاهما عن البدر القرافي عن المعمر فوق المائة قريش البصير العثماني المقري، عن الحافظ ابن الجزري عنه عن العز عن أبيه به.

(ح) ويرويه عامةً عن المعمر أحمد بن صالح السويدي، عن الحافظ مرتضى الزبيدي، عن ابن سنة الفلاني، بالإجازة العامة لأهل عصره، عن مولاي الشريف، عن العلقمي عن الحافظ الأسيوطي عن أحمد بن محمد بن عليّ الشهاب الحجازي، ومحمد بن أحمد البوصيري والجمال يوسف بن عليّ السعيدي وغيرهم، كلهم عنه.

(ح) ويرويه عن السكري، عن الكزبري، عن الزبيدي، عن ابن عقيل، عن العجيمي، عن البرهان إبراهيم الميموني، عن الشمس الرملي، عن شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري عن عليّ بن إبراهيم بن عليّ بن راشد الآبي والنجم عمر بن محمد بن فهد وغيرهما عنه. 

وبأسانيدنا إلى الحافظ ابن حجر عن الحافظ العراقي عنه. 

ملخص لأهم الآداب في كتاب تذكرة السامع والمتكلم

وينبغي على طالب العلم أن يتحلى بجملة من الأخلاق الباطنة؛ كالإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضا، والإيثار وترك الاستئثار، والإنصاف، والتلطف مع الناس، والتودد إلى الفقراء، وذوي الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، وغير ذلك.

وعليه أن يُخلي نفسه عن جملة من الأخلاق الرديَّة، كالحسد، والعُجب، والرياء، والكبر،  ويُحلي نفسه بجملة من الأخلاق الرضيّة، مثل: دوام التوبة، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة والشفقة على خلق الله، والحياء من الله ومن الناس.

وإذا أراد الجلوس للدرس فإنه يُصلي صلاة الاستخارة، ثم يَنْوي نشر العلم وتعليمه، وبَثَّ الفوائدِ الشَّرْعيةِ، وتبليغ أحكامِ اللهِ تعالى التي اؤتُمنَ عليها وأُمِرَ ببيانها، وينوي كذلك الازدياد مِنَ العلم، وإظهار الصَّوابِ والرجوع إلى الحَقِّ، والاجتماع على ذِكْرِ الله تعالى، والسلام على إخوانِهِ مِنَ المُسلمين، والدعاء للسلف الصالحين.

ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس، فإذا وصل إليه سلم على من حضر ، وصلى ركعتين إن لم يكن وقت كراهة، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً.

ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبل القبلة -إن أمكن - بوقار وسكينة وتواضع وخشوع متربعاً أو غير ذلك مما لم يكره من الجلسات. 

ولا يجلس مقعياً ولا مستوفزاً ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئاً على يده إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بها ، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة.

ويتقي المزاح وكثرة الضحك، فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة، كما قيل: "من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به".

ولا يدرس في وقت جوعه أو عطشه أو همه أو غضبه أو نعاسه أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم وحره المزعج، فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.

ويتلطف بجميع الحاضرين، ويكرم أكبرهم سناً وصلاحاً وعلماً، وإذا جلس خاطبهم بحسن السلام وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام.

ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام، وقد ورد إكرام العلماء وإكرام طلبة العلم في نصوص كثيرة. 

ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قصداً، أي: متوسطاً بحسب الحاجة، ويخص من يكلمه أو يسأله أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه، وإقبال عليه؛ وإن كان صغيراً أو وضيعاً، فإن ترك ذلك من أفعال المتجبرين والمتكبرين.

وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلاً يمل، ولا يقصره تقصيراً يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة والتطويل، ولا يبحث في مقام أو يتكلم على فائدة إلا في موضع ذلك، فلا يقدمه عليه ولا يؤخره عنه إلا لمصلحة تقتضي ذلك وترجحه.

والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه.

ولا يسرد الكلام سرداً، بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه؛ ليتفكر فيه هو وسامعه. وقد روي أن كلام رسول الله ﷺ كان فصلاً يفهمه من سمعه، وأنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه.

وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلا حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه -فإنه إذا لم يسكت هذه السكتة ربما فاتت الفائدة.

وإذا أقبل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها.

وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه ثم يعيدها أو يتم تلك البقية؛ كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

والأولى للمدرس أن يمكث قليلا بعد قيام الجماعة؛ فإن فيه فوائد وآدابا له ولهم: 

منها: عدم مزاحمتهم 

ومنها: إن كان في نفس أحد بقايا سؤال سأله.

ومنها: عدم ركوبه بينهم إن كان يركب، وغير ذلك.

ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».

وعلى المعلم أن يعلمهم ما لا يسع الفاضل جهله؛ كأسماء المشهورين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وكبار الزهاد والصالحين كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة، والنقباء الاثني عشر، والبدريين، والمكثرين والعبادلة والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، فيضبط أسمائهم، وكناهم، وأعمارهم، ووفياتهم، وما يستفاد من محاسن آدابهم، ونوادر أحوالهم، فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة النفع، ونفائس غزيرة الجمع.

وقد تكلم الناس في أي الأمرين أولى أن يعتمد: امتثال الأمر، أو سلوك الأدب؟.

والذي يترجح مما قدمته من التفصيل، فإن عزم الشيخ بما أمره به بحيث تشق عليه مخالفته فامتثال الأمر أولى، وإلا فسلوك الأدب أولى؛ لجواز أن يقصد الشيخ غيره، وإظهار احترامه، والاعتناء به، فيقابل هو ذلك بما يجب من تعظيم الشيخ والأدب معه (ص/ ١٠٥).

وإن سأله الشيخ عن شيء كان حافظاً له، فلا يجيب بنعم؛ لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل: لا؛ لما فيه من الكذب، بل يقول: أحب أن أستفيده من الشيخ، أو أن أسمعه منه، أو : بعد عهدي، أو: هو من جهتكم أصح.

وإذا احتاج إلى ضبط ما في متن الكتاب فالحبر أولى من المداد؛ لأنه أثبت، ولا يكون القلم صلباً جداً فلا يجري بسرعة، ولا رخواً فيحفى سريعاً.

وجعل ضبطه في الحاشية وبيانه فعل وكتب عليه بياناً، وكذا إن احتاج إلى ضبطه مبسوطاً في الحاشية وبيان تفصيله؛ مثل أن يكون في المتن اسم (حريز) فيقول في الحاشية: هو بالحاء المهملة وراء بعدها وبالياء الخاتمة بعدها زاي، أو هو بالجيم والياء الخاتمة بين راءين مهملتين، وشبه ذلك. 

وقد جرت العادة في الكتابة بضبط الحروف المعجمة بالنقط، وأما المهملة : فمنهم من يجعل الإهمال علامة، ومنهم من ضبطه بعلامات تدل عليه من قلب النقط، أو حكاية المثل، أو بشكلة صغيرة كالهلال وغير ذلك.

ويجعل بين كل حديثين دائرة، وقد فعل ذلك جماعةٌ من المتقدمين، ولا يكتب المضاف في آخر سطر والمضاف إليه في أول الآخر؛ مثل: عبد الله، وعبد الرحمن، فيكره كتابه (عبد) آخر سطر واسم (الله) أو (الرحمن) مع ابن فلان أول الآخر، وكذلك رسول الله ونحو ذلك .

وإذا كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم كـ(عز وجل) ونحوه، ويحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله كلما كتبه، ولا يسأم من تكراره وإن لم يكن في الأصل، ومن أغفل ذلك حرم حظاً عظيماً.

ويصلي بلسانه على النبي (صلى الله عليه وسلم) كلما كتبه أيضاً، وكذلك الترضي والترحم على الصحابة والعلماء، ويكره الاقتصار على الصلاة دون التسليم، ويكره الرمز بالصلاة والترضي بالكتابة، بل يكتب ذلك عليه مقابله كتابه بأصل شيخه وإن كان أجازه.

وأفضل المقابلة أن يمسك هو وشيخه كتابيهما حال السماع وينظر معه لا نسخة معه، لا سيما إن كان يريد النقل من نسخته وتكفي مقابلته بفرع قوبل بأصل الشيخ أو بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ، فإن لم يقابل به وكان الناقل صحيح النقل قليل السفط ونقل من الأصل فقد جوز بعضهم الرواية منه.

وينبغي أن يكتب على ما صححه وضبطه في الكتاب، وهو في محل شك عند مطالعته أو تطرق احتمال (صح) صغيرة، ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ: (كذا) صغيرة، ويكتب في الحاشية: صوابه كذا إن كان يتحققه، وإلا فيعلم عليه ضبَّة (أو تمريضاً) - وهي صورة رأس صاد - تكتب فوق الكتابة غير متصلة بها، فإذا تحققه بعد ذلك وكان المكتوب صواباً زاد تلك الصاد حاء فتصير: (صح)، وإلا كتب الصواب في الحاشية كما تقدم. 

وإذا وقع في النسخة زيادة فإن كانت كلمة واحدة فله أن يكتب عليها: لا، وأن يضرب عليها، وإن كانت أكثر من ذلك ككلمات أو سطر أو أسطر، فإن شاء كتب فوق أولها (من) أو كتب (لا)، وعلى آخرها (إلى)، ومعناه: من هنا ساقط إلى هنا، وإن شاء ضرب على الجميع بأن يخط عليه خطا دقيقا يحصل به المقصود ولا يسود الورق، ومنهم من يجعل مكان الخط نقطا متتالية.

وإذا تكررت الكلمة سهواً من الكاتب ضرب على الثانية؛ لوقوع الأولى صواباً في موضعها إلا إذا كانت الأولى آخر سطر؛ فإن الضرب عليها أولى صيانة لأول السطر إلا إذا كانت مضافا إليها فالضرب على الثانية أولى؛ لاتصال الأولى بالمضاف.

وينبغي أن يحسب الساقط وما يجيء من الأسطر قبل أن يكتبها، فإن كان سطرين أو أكثر جعل آخر سطر منها إلى الكتابة إن كان التخريج عن يمينها، وإن كان التخريج عن يسارها جعل أول الأسطر مما يليها .

ولا يوصل الكتابة والأسطر بحاشية الورقة، بل يدع مقداراً يحتمل الحك عند حاجته بمرات ثم يكتب في آخر التخريج: صح، وبعضهم يكتب بعد (صح) الكلمة التي تلي آخر التخريج في متن الكتاب علامة على اتصال الكلام.

وإذا صحح الكتاب على الشيخ أو في المقابلة علم على موضع وقوفه: (بلغ)، أو (بلغت)، أو (بلغ العرض)، أو غير ذلك مما يفيد معناه، فإن كان ذلك في سماع الحديث كتب: (بلغ في الميعاد الأول) أو (الثاني) إلى آخرها، فيعين عدده.

وإن غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في (حدثنا) و(أخبرنا)، وشاع بحيث لا يخفى فيكتبون من (حدثنا): (ثنا) أو (نا) أو (دنا)، ومن (أخبرنا) (أنا) أو (أبنا) أو (رنا).

وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد : (ح)، ولم يبين أمرها عمن تقدم لكن كتب بعض الحفاظ موضعها (صح) فأشعر بأنها رمزه، وقيل: هي من التحويل من إسناد إلى إسناد، وقيل: هي من الحيلولة؛ لأنها تحول بين الإسنادين، وليست من الحديث فلا يتلفظ بشيء في مكانها، وقيل: هي إشارة إلى قولنا: (الحديث)، والمغاربة يقولون مكانها في القراءة: (الحديث)، ومن العلماء من يقول: (حا) ويمر، وهو المختار.

وقد رتبه على مقدمة ذكر فيها فضل تعلم العلم وتعليمه، وأردفها بخمسة أبواب، وهي:

البابُ الأَوَّلُ: في فَضْلِ العلم وأهله، وشرفِ العالم وتُبْلِهِ، وفيه فصلان.

الفصل الأول: الإخلاص لله عز وجل.

الفصل الثاني: شرف العالم ومكانته.

وبيّن في هذا الباب أن العلماء العاملين، هم ورثة الأنبياء.

وأنهم الأولياء على الحقيقة، وأن للعلماء شفاعة مقبولة، وهم على منابر من نور.

 وأنهم فوق الناس بسبعمائة درجة، وأنهم خير البرية.

وأن مداد العلماء يفوق دماء الشهداء، مع أن الدم هو أعلى ما للشهيد، والمداد هو أدنى ما للعالم.

وفي الخبر: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، وقَدِ اخْتُلِفَ في مَعْنَى وَضْع أَجْنِحَتِها، فقيل: التَّواضُعُ لَهُ، وقيل: النُّزولُ عِنْدَهُ والحُضورُ مَعَهُ، وقِيلَ: التَّوقيرُ والتَّعظيمُ لَهُ، وقيل مَعْناهُ: تَحْمِلُهُ عليها فتُعينُهُ على بلوغ مقاصِدِهِ.

وأن قوله: (إن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيوان)، قال: وأما إلهام الحيوانات بالاسْتِغْفارِ لَهُمْ، فقيل: لأَنَّها خُلِقَتْ لمصالح العبادِ ومَنَافِعِهِم، والعلماءُ هم الذينَ يُبيِّنونَ ما يَحِلُّ مِنْها وما يَحرُمُ، ويُوصونَ بالإحْسانِ إليها ونَفْي الضَّرَرِ عَنْها.

الباب الثاني: في آدابِ العالم في نفسِهِ، ومَعَ طلبتِهِ ودَرْسه، وفيه ثلاثة فصول.

الفصل الأول: في آدابه في نفسه، وفيه اثنا عشر نوعاً.

١-المراقبة لله في السر والعلن والاتصاف بالسكينة والوقار.

٢-أن يصون العلم عما صانه عنه السلف، ويقوم بما فيه العزة والشرف.

٣-أن يتخلق بالزهد في الدنيا، والتقلل منها.

٤-أن ينزه علمه عن جعله سلماً يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية.

٥-أن يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها طبعاً، وعن مكروهها عادةً وشرعاً.

٦-أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام.

٧-أن يحافظ على المندوبات الشرعية: القولية، والفعلية.

٨-معاملة الناس بمكارم الأخلاق، من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وكظم الغيظ.

٩- أن يُطهّر ظاهره وباطنه من الأخلاق الرديّة، ويُعمرها بالأخلاق الرضيَّة.

١٠-دوام الحرص على الازدياد من العلم والعبادات، وملازمة الجد والاجتهاد.

١١-ألا يستنكف عن الاستفادة ممن هو دونه نسباً أو منصباً أو سناً.

١٢- الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف، لأنه يتدرب على كرة البحث والتفتيش.

الفصل الثاني: في آداب العالم في درسه، وفيه اثنا عشر نوعاً:

١-إذا عزم على مجلس الدرس تطهر من الحدث والخبث، ولبس أحسن ثيابه إجلالاً للعلم.

٢- الإتيان بدعاء الخروج من المنزل، ثم يديم ذكر الله تعالى حتى يصل إلى ذلك المجلس.

٣-أن يجلس بارزاً لجميع الحاضرين، ويوقر أفاضلهم في العلم والصلاح والسن.

٤- أن يُقدم على الشروع في البحث والتدريس تلاوة شيء من كتاب الله تعالى تبركاً.

٥-وإذا تعددت الدروس عليه قدَّم الأهم فالأهم، والأولى فالأولى، بحسب ما يراه.

٦-ألا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه لا تحصل معه الفائدة.

٧-أن يصون مجلسه عن اللغط، فإن اللغط تحته الغلط.

٨-أن يزجر من تعدَّى في بحثه، أو ظهر منه لدد أو سوء أدب، أو ترك إنصاف.

٩-أن يلازم الإنصاف في بحثه وخطابه.

١٠-أن يتودَّد لغريبٍ حضر عنده، وينسط له ليشرح صدره، ولا يكثر الالتفات إليه.

١١-أن يختم كل درس له بقوله: (والله أعلم) وعلى ذلك جرت عادة العلماء.

١٢-ألا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً له.

الفصل الثالث: في أدبِ المُتَعلِّمِ في نفسِهِ، ومَعَ شيخِهِ ورُفْقتِهِ، وفيه أربعة عشر نوعاً: 

١-أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق.

٢-ألا يمتنع من تدريس طالب لعدم خلوص نيته.

٣-أن يرغب طلابه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات.

٤- أن يُحب للطالب ما يُحب لنفسه، ويكره ما يكره لنفسه.

٥-سهولة الإلقاء في تعليمه، وحُسن التلطف في تفهيمه.

٦-أن يحرص على تعليمه وتفهيمه، ببذل جهده، وتقريب المعنى له.

٧-أن يلقي على الطلبة أسئلة يمتحن بها فهمهم عند الانتهاء من الدرس.

٨-أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظ، ويمتحنهم في ذلك.

٩-أن يوصي الطالب النهم بالرفق على نفسه؛ لئلا يملَّ ويضجر من الطلب.

١٠-أن يُذكّر الطالب بقواعد الفن التي لا تنخرم.

١١-ألا يُظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض في المودة، والرعاية مع تساوي صفاتهم.

١٢-أن يراقب أحوال الطلبة في هديهم، وآدابهم، وأخلاقهم الظاهرة والباطنة.

١٣-أن يسعى في مصالح الطلبة، وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر من مال وجاه.

١٤- أن يتواضع مع الطالب ومع كل مسترشد سائل، ويخفض له جناحه.

البابُ الثالث: في مُصاحبةِ الكُتُبِ، وما يتعلق بها من الأدَبِ، وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول: آدابه في نفسه، وفيه عشرة أنواع:

١-أن يطهر قلبه من كل غلٍّ وغش وحقد وحسد، وسوء عقيدة وخُلق.

٢-حُسن النية في طلب العلم.

٣-أن يُبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل.

٤-أن يقنع من القوت بما تيسر له، ولو كان قليلاً، ومن اللباس بما ستر.

٥-أن يٌسّم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، 

٦-وأكل القدر اليسير من الحلال، فإنه من أعظم الأسباب المعينة على الطلب.

٧-أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه، ويتحرى الحلال في مطعمه ومشربه وملبسه.

٨-أن يُقلل من استعمال المطاعم التي هي سبب البلادة وضعف الحواس.

٩-أن يُقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه على ثمان ساعات.

١٠-أن يُقلل العشرة سيما عشرة من لا ينفعه، ويقلل الفكرة؛ فإن الفكرة سراقة.

الفصل الثاني: في آدابه مع شيخه وقدوته، وام يجب عليه من عظيم حُرمته، وفيه ثلاثة عشر نوعاً:

١-أن يُقدم الطالب النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه.

٢-أن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، لأنه أعلى عيناً، وأكثر نصحاً.

٣-أن ينظره بعين الإجلال، ويعتقد فيه الكمال، ويخاطبه بما يليق به من الألقاب.

٤-أن يعرف له حقه، ولا ينسى له فضله، ويدعو له مدة حياته.

٥-أن يصبر على جفوةٍ تصدر من شيخه أو سوء خلق بدر منه، ويتأول أفعاله.

٦-أن يشكر الشيخ على هدايته لما فيه خير، وتنبيهه على ما فيه نقيصة.

٧-ألا يدخل على الشيخ في مجلسه العام إلا باستئذان؛ فإن لم يأذن له انصرف عنه.

٨-أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ.

٩-أن يُحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان.

١٠-إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة، أو فائدة مستغربة، أو يُنشد شعراً، وهو يحفظه أصغى إليه إصغاء مستفيدٍ له، متعطشٍ له، كأنه لم يسمعه قط.

١١-ألا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة، أو جواب سؤال منه أو من غيره، ولا يساوقه فيه، ولا يظهر معرفته به، أو إدراكه له قبل الشيخ.

١٢-وإذا ناوله الشيخ شيئاً تناوله باليمين، وإن ناوله شيئاً ناوله باليمين.

١٣-وإذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل، ووراءه بالنهار، وإلا يمشي معه بحسب الحال، ويصون الشيخ بنفسه ما أمكن.

الفصل الثالث: في آدابه في دروسه، وقراءته في الحلقة، وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة، وفيه ثلاثة عشر نوعاً:

١-أن يبتدئ أولاً بحفظ كتاب الله العزيز، وإتقانه، وتعاهده، ودراسة علومه، وتفسيره.

٢-أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات، ولا يغفل عن العمل الذي هو مقصود العلم.

٣-: أن يصحح ما يقرأه قبل حفظه تصحيحا متقنا، إما على الشيخ أو على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظا محكماً.

٤-أن يبكر بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده، ورجاله، ومعانيه، وأحكامه، وفوائده، ولغته، وتواريخه.

٥- إذا شرح محفوظاته المختصرات، وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات : انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة.

٦-أن يلزم حلقة شيخه في التدريس والإقراء، بل وجميع مجالسه إن أمكن.

٧- إذا حضر مجلس الشيخ سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعهم، وخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف.

٨-أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه وهم رفقاؤه ، فيوقر أصحابه، ويحترم كبراءه، وأقرانه.

٩-أن لا يستحيي من سؤال ما أشكل عليه، وتفهم ما لم يتعقله، بتلطف، وحسن خطاب، وأدب، وسؤال.

١٠-مراعاة نوبة أقرانه الدارسين معه، فلا يتقدم عليها بغير رضا من هي له.

١١-أن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدم تفصيله وهيئته في أدبه مع شيخه، ويحضر كتابه الذي يقرأ منه معه.

١٢-وإذا حضرت نوبته استأذن الشيخ كما ذكرناه، فإذا أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرحيم، ثم يسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي ﷺ وعلى آله وصحبه، ثم يدعو للشيخ ولوالديه، ولمشايخه ولنفسه ولسائر المسلمين.

١٣-أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل، ويدلهم على مظانه، ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه، ويهون عليهم مؤنته، ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والغرائب، وينصحهم.

الباب الرابع: في الأدب مع الكتب التي هي الله العِلْمِ وما يتَعَلَّقُ بِتَضحيحها وضَبْطِها وحَمْلها ووَضْعها وشرائها وعاريتها ونَسْخها وغَيْر ذلك، وفيه أحد عشر نوعاً:

١-ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، شراء، وإلا فإجارة أو عارية؛ لأنها آلة التحصيل.. وإذا أمكن تحصيلها شراء لم يشتغل بنسخها، ولا ينبغي أن أن يشتغل بدوام النسخ إلا فيما يتعذر عليه تحصيله لعدم ثمنه أو أجرة استنساخه .

٢-يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه بها ، وكره عاريتها ،قوم والأول أولى؛ لما فيه من الإعانة على العلم، مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر.

٣- وإذا نسخ من الكتاب أو طالعه فلا بُد من إذن صاحبه، ولا بد يضعه على الأرض مفروشاً منشوراً، بل يجعله بين كتابين أو شيئين أو كرسي الكتب المعروف كيلا يسرع تقطيع حبكه، وإذا وضعها في مكان مصفوفة فلتكن على كرسي أو تحت خشب أو نحوه..

ويقدم القرآن على غيره ثم كتب الأحاديث، ثم ما سواهما فإن استوى كتابان في فن أعلى أكثرهما قرآنا أو حديثا، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة وأكثرها وقوعاً في أيدي العلماء والصالحين، فإن استويا فأصحهما /ص ١٢٨/

٤- وإذا استعار كتابا فينبغي له أن يتفقده عند إرادة أخذه ورده، وإذا اشترى كتاباً تعهد أوله، وآخره، ووسطه، وترتيب أبوابه وكراريسه، وتصفح أوراقه، واعتبر صحته.

٥-وإذا نسخ شيئا من كتب العلوم الشرعية فينبغي أن يكون على طهارةٍ، مستقبل القبلة، طاهر البدن والثياب، بحبرٍ طاهر.

٦-وينبغي أن يتجنب الكتابة الدقيقة في النسخ، فإن الخط علامة فأبينه أحسنه.

٧-وإذا صحح الكتاب والمقابلة على أصله الصحيح أو على شيخ؛ فينبغي له أن يشكل المشكل، ويعجم المستعجم، ويضبط الملتبس، ويتفقد مواضع التصحيف.

٨- إذا أراد تخريج شيء في الحاشية -ويسمى اللَّحق (أو الساقط) بفتح الحاء، علَّم له في موضعه بخط منعطف قليلاً إلى جهة التخريح - وجهة اليمين أولى إن أمكن - ثم يكتب التخريج من محاذاة العلامة صاعداً إلى أعلى الورقة، لا نازلاً إلى أسفلها؛ لاحتمال تخريج آخر بعده، ويجعل رؤوس الحروف إلى جهة اليمين سواء كان في جهة يمين الكتابة أو يسارها.

٩- لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه ولا يكتب في آخره: (صح)؛ فرقاً بينه وبين التخريج، وبعضهم يكتب عليه: (حاشية) أو (فائدة)، وبعضهم يكتب في آخرها.

١٠-ولا بأس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول بالحمرة أو بخط مميز، ويمده فإنه أظهر في البيان، وفي فواصل الكلام.

١١- قالوا الضرب أولى من الحك لا سيما في  كتب الحديث؛ لأن فيه تهمة وجهالة فيما كان أو كتب، ولأن زمانه أكثر فيضيع، وفعله أخطر، فربما ثقب الورق وأفسد ما ينفذ إليه فأضعفها، فإن كان إزالة نقطة أو شكلة ونحو ذلك فالحك أولى. 

الباب الخامس: في أَدَبِ سُكْنى المدارس، وما يتعلق به من النفائس 

١-أن ينتخب لنفسه من المدارس بقدر الإمكان ما كان واقفه أقرب إلى الورع، وأبعد عن البدع.

٢-أن يكون المدرس بها ذا رياسة وفضل، وديانة وعقل، ومهابة وجلالة، وناموس، وعدالة، ومحبة في الفضلاء، وعطف على الضعفاء، يقرب المحصلين، ويرغب المشتغلين، ويبعد اللعابين، وينصف البحاثين، حريصا على النفع، مواظباً على الإفادة.

٣-أن يتعرف بشروطها ليقوم بحقوقها، ومهما أمكنه التنزه عن معلوم المدارس فهو أولى، لا سيما في المدارس التي ضيق في شروطها وشدد في وظائفها.

٤-وإذا حصر الواقف سكنى المدارس على المرتبين بها دون غيرهم لم يسكن فيها غيرهم، فإن فعل كان عاصياً ظالماً بذلك، وإن لم يحصر الواقف ذلك فلا بأس إذا كان الساكن أهلاً لها.

٥-أن لا يشتغل فيها بالمعاشرة والصحبة، أو يرضى من سكنها بالسكة (الدينار والدرهم) والحظوة، بل يقبل على شأنه وتحصيله وما بنيت المدارس له، ويقطع العشرة فيها جملة؛ لأنها تفسد الحال وتضيع المآل كما تقدم، واللبيب المحصل يجعل المدرسة منزلاً يقضي وطره منه، ثم يرتحل عنه.

٦-أن يكرم أهل المدرسة التي يسكنها؛ بإفشاء السلام، وإظهار المودة والاحترام، ويرعى لهم حق الجيرة والصحبة، والأخوة في الدين والحرفة؛ لأنهم أهل العلم وحملته وطلابه ويتغافل عن تقصيرهم، ويغفر زللهم، ويستر عوراتهم، ويشكر محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.

٧-أن يختار بجواره - إن أمكن - أصلحهم حالاً، وأكثرهم اشتغالاً، وأجودهم طبعاً، وأصونهم عرضاً؛ ليكون معيناً له على ما هو بصدده، ومن الأمثال: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق والطباع سراقة، ومن دأب الجنس التشبه بجنسه.

٨-إذا كان سكنه في مسجد المدرسة أو في مكان الاجتماع ومروره على حصره وفرشه فليتحفظ عند صعوده إليه من سقوط شيء من نعليه، ولا يقابل بأسفلهما القبلة، ولا وجوه الناس، ولا ثيابه، بل يجعل أسفل إحديهما إلى أسفل الأخرى بعد نفضها، ولا يلقيها إلى الأرض بعنف، ولا يتركها في مظنة مجالس الناس والواردين إليها غالباً.

٩-أن لا يتخذ باب المدرسة مجلساً، بل لا يجلس فيه إذا أمكن إلا لحاجة، أو في ندرة لقبض أو ضيق صدر، ولا في دهليزها المهتوك إلى الطريق، فقد نهي عن الجلوس على الطرقات وهذا منها أو في معناها، لا سيما إن كان ممن يستحيى منه، أو ممن هو في محل تهمة أو لعب؛ ولأنها في مظنة دخول فقيه بطعامه وحاجته.

١٠-أن لا ينظر في بيت أحد في مروره من شقوق الباب ونحوه، ولا يلتفت إليه إذا كان مفتوحاً، وإن سلّم سلّمَ وهو مار من غير التفات.

١١- أن يتقدم على المدرس في حضور موضع الدرس، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام، وربما فيهم معذور فيجد في نفسه منه.

ترجمة موجزة للعلامة بدر الدين بن جماعة

هو أبو عبد الله بدر الدين محمد بن إبـراهيـم بـن سـعـد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الشافعي. 

ولد عشية الجمعة الرابع من ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وست مائة.

نشأ في بيت علم وديانة وقضاء، فأبوه القاضي برهان الدين ابن جماعة (ت: ٦٧٥هـ) من أهل العلم، وجده كذلك. 

قرأ القرآن على والده، وأتقن كثيراً من المتون. 

ولما شبّ سمع من شيخ شيوخ حماة شرف الدين عبد العزيز الأنصاري (ت: ٦٦٢هـ)، وسمع من الرضي ابن البرهان (ت: ٦٦٤هـ)، والرشيد العطار (ت: ٦٦٢هـ)، والتاج ابن القسطلاني (ت: ٦٦٥هـ)، والتقي ابن أبي اليُسر (ت: ٦٧٢هـ) ، وغيرهم أخذ أكثر علومه عن القاضي تقي الدين ابن رزين (ت: ٦٨٠هـ)، وقرأ النحو على الإمام ابن مالك (ت: ٦٧٢هـ).

كان -رحمه الله مكباً على العلم، مجتهداً في التحصيل، ففاق أقرانه، وعُرضت فتواه قديماً على النووي فاستحسن جوابه، وظهرت فضيلته، فولي قضاء القدس سنة (٦٧٥هـ) وهو في مقتبل عمره ثم عُزل، ثم أعيد إلى قضاء القدس سنة (٦٨٧هـ)، وولي مع ذلك الخطابة فيه.

ولم يزل على ذلك حتى طلب إلى مصر، فتولى قضاء الديار المصرية سنة (٦٩٠هـ)، وأضيف إليه الخطابة بالجامع الأزهر، ثم عُزل سنة (٦٩٣هـ)، وفي نفس السنة ولي قضاء الشام، ثم عُزل سنة (٦٩٦هـ)، ثم أعيد سنة (٦٩٩هـ)، وأضيف له الخطابة ومشيخة الشيوخ، ولم تجتمع هذه المناصب الثلاثة لأحد قبله. 

ولم يزل على ذلك حتى توفي الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد (٧٠٢هـ) فأعيد إلى قضاء الديار المصرية واستمر حتى سنة (٧١٠هـ) فعزل، ثم أعيد سنة (٧١١هـ)، واستمر إلى أن سنة (٧٢٧هـ) عمي فعزل. ومع طول مسيرته في القضاء إلا أنه كان محمود السيرة، مسدد الأحكام، عفيف النفس. 

أما التدريس، فله في ذلك جهود مشكورة، ففي دمشق: درس في القيمرية، والعادلية الكبرى والشامية البرانية، وغيرها. وفي القاهرة درّس في الصالحية والناصرية، والكاملية، وجامع الحاكم، وجامع ابن طولون، وغيرها. 

وقد تتلمذ له خلق أبرزهم ابنه عز الدين (ت: ٧٦٧هـ)، والصلاح الصفدي (ت: ٧٦٤هـ)، والشمس الذهبي (ت: ٧٤٨هـ)، والتاج السبكي (ت: ۷۷۱هـ). 

وأما التأليف، فله فيه مشاركة جيدة، ومن أشهر تصانيفه: المنهل الروي، والفوائد اللائحة من سورة الفاتحة، والتبيان لمهمات القرآن والمسالك فى علوم المناسك، والنجم اللامع في شرح جمع الجوامع، وغيرها

وتنوع تصانيفه يدلُّ على مشاركته في الفنون، فكان الله صاحب معارف واطلاع. 

وكان - مع ذلك - ورعاً ، صيناً، وافر العقل، حسن الهدي، متين الديانة، زاهداً، ذا تعبد وأوراد.

وكانت فيه رياسة، وتودد ولين جانب، وقوة نفس في الحق، وحُسْن تربية من غير عنف ولا تخجيل.

وكان لله مليح الهيئة أبيض، مستدير اللحية، جميل البزة، دقيق الصوت، ساكناً، وقوراً.

 وبعد حياة حافلة توفي الإمام ابن جماعة ليلة الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاثة وثلاثين وسبع مائة، فرحم الله ابن جماعة وأجزل له الثواب 

- وقد أوسعُ دراسة كُتبت عن القاضي بدر الدين ابن جماعة دراسة أعدها الدكتور عبد الجواد خلف بعنوان «القاضي بدر الدين ابن جماعة حياته وآثاره تقع في (٤٣٨) صفحة، طبعت بالقاهرة سنة (١٤٠٨هـ) ضمن سلسلة منشورات جامعة الدراسات الإسلامية كراتشي - باكستان، فمن أراد التوسع فعليه بها. 

- خرَّج عَلَمُ الدين البرزالي (ت : ٧٣٩هـ) مشيخة حافلة لابن جماعة، وقد طبعت في مجلدين عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق الدكتور موفق بن بن عبد القادر - وفقه الله.




الأحد، 11 يونيو 2023

العرب تاريخ موجز فيليب حتّي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

العرب تاريخ موجز

فيليب حتّي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: إن الأمة التي لا تعنى بماضيها لن يكون لها حاضر ولا مستقبل، وللأسف فإن من يكتب في التاريخ يسود الصفحات الكثيرة ظناً منه أن ثقافة القراءة عند شبابنا كبيرة، ولكن العكس هو الصحيح، ولعل عناية الغرب والمستشرقين بتاريخنا جعل أمثال فيليب حتّي الذي يحمل أفكاراً نصرانية، يكتب في هذا الموضوع، مستعرضاً انجازات العرب وفتوحاتهم، وأثرهم على العالم.

ولك أن تتخيل أن هذا الكتاب طبعت منه مئات الآلاف من النسخ، بلغات مختلفة منها الانجليزية والفرنسية، والأسبانية والبرتغالية، بل طبعت نسخة خاصة بالقوات الأمريكية المسلحة، وتم تدريسه بشكل خاص لهم، مدعماً بالخرائط الجغرافية، والرسومات التوضيحية، 

ويتناول موضوع هذا الكتاب جميع الشعوب الناطقة بالضاد في الجزيرة وفي سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن والعراق وفي إيران (أثناء وقوعها في أحضان العروبة) وفي مصر وبرقة وتونس والمغرب الأقصى وفي صقلية والأندلس في إبان ازدهار الحضارة العربية فيهما.

فابتدأ بالحديث عن البدو إذ هم مادة العرب الأصليين، وجغرافيا شبه الجزيرة العربية، ومناخها الصحراوي الحار، والقبائل التي سكنتها، وأشهر الحيوانات فيها، وأهم الحرف التي سادت فيها، واللباس الذي يرتدونه، وطرق اتصال العرب فيها بالأجناس غيرهم.

ثم تحدث عن التوحيد، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، والعقائد الإيمانية، والفروض العملية، والمعالم الدينية والاجتماعية والعلمية والفنية بتأصيلها ونظمها، ثم سير الإسلام من الجزيرة إلى الصين شرقاً وأوروبا غرباً، وأهم الفتوحات والمعارك التي جرت للمسلمين مع غيرهم،وأهم عوامل بقائها، وانحدارها.

وذكر أن أساس الحضارة العربية هي آرامية، يونانية، وفارسية، وإنما عبرت عنها باللسان العربي، بالإضافة إلى إضفاء الشخصية العربية على هذه الآراء، وتحدث عن بدء الحياة الثقافية والاجتماعية، وأن التقدم الفكري والتصور الثقافي هما أخطر ما قدمه المسلمون في النهضة الأدبية والعلمية.

وبين دور الرق في امتزاج العنصر العربي بغيره من الأجناس، والذي بعث على نشأة أنواع مختلفة من العلوم لم تكن معروفة، فكان أبو الأسود الدؤلي (ت ٦٨٨م) هو أول من وضع علم النحو، ونشأت العلوم العربية الذي جاء أكثرها عن طريق الترجمة، وظهر الغناء وأشعار الحب لا سيما في عهد الدولة العباسية، وكان أول شاعر في الحب في العربية هو عمر بن أبي ربيعة ٧١٩ م.

ثم ظهرت العمارة الإسلامية سيما في المساجد التي تفنن المعماريون في بنائها، وتجلى ذلك في بناء قبة الصخرة عام ٦١٩م، والجامع الأموي بدمشق الذي بناه الوليد بن عبد الملك عام ٧٠٥م، واللذان كانا يمثلان رمزاً لفن العمارة الإسلامية، بالإضافة إلى أن المستنصر بالله بنى المدرسة المستنصرية ببغداد، وبنى المتوكل الجامع الأعظم في سامراء، بالإضافة إلى جامع قرطبة العظيم والذي بناه عبد الرحمن في العام ٨٧٧م، وكان يضاهي أجمل مساجد الإسلام، وتحول أخيراً إلى كاتدرائية بعد سيطرة الأسبان على الأندلس.

ثم ظهر فن الخط والكتابة والذي استعاض به المسلمون عن فن التصوير وبناء التماثيل، وقد ولدت فن الخط في عهد العباسيين، وبلغ ذروته في القرن الخامس عشر الميلادي.

ثم ظهر الترف والمجون، والموسيقى، التي قهرت عاصمة الخلافة، وسيطرت على أروقة القصور الملكية في عصر الخلافة العباسية، وكثر الرقيق من النساء والصبيان، واستحدث الخلفاء الغلمان والخصيان، ثم ظهرت الغلاميات، وهن نساء وضعت على رؤوسهن العمائم ولبسن لباس الذكور.

وقسم المؤلف الفتوحات العربية إلى ثلاثة أقسام: الأولى منها السياسية الحربية، والثانية: الدينية، وابتدأت في القرن الأول من حكم العباسيين واعتنق خلالها السواد الأعظم من سكان الدولة دين الإسلام، والثالثة: فوز اللغة العربية على لغات الشعوب المغلوبة، حتى أصبحت في وقت من الأوقات اللغة المعبرة عن العلوم المستجدة.

وتحدث عن ازدهار التجارة، وتطور الصناعة، وتقدم التعليم، ونمو الزراعة، والحركة العلمية في عصور الإسلام، والتي بلغت أوجها في الخلافة العباسية، ونشطت فيها الترجمة قرناً كاملاً من الزمان ٧٥٠ -٨٥٠ م، وبلغت الأندلس مستوىً عالٍ من العلم، حتى قيل:إن كل فرد في الأندلس يُحسن القراءة والكتابة، وبرع المسلمون في عدد منها: كالطب والرياضيات والهندسة والفلسفة والنبات، وأسست المستشفيات، وبنيت دور الشفاء، وكان أول عمل خطير فعله المسلمون التوفيق بين فلسفة اليونان والفكر الإسلامي.

وفي ختام القرن الثالث عشر كان قد تم نقل العلوم العربية وفلسفتها إلى أوروبا الوسطى وألماني، ومدن فرنسا الجنوبية، عن طريق حركة الهدايا، والقرصنات الصليبية على بعض المكتبات، واحتلال الأندلس، وسارت الدراسات العربية من الأندلس إلى سائر أنحاء أوروبا الغربية.

كلمة لا بُد منها

إن الناظر في واقع الأمة اليوم، يجد أن كلّ الوقائع تُرهص بالاكتمال والنُّضج، كما أن الهلال ارهاصٌ باكتمال البدر، ولعل هذه النظرة الإيجابية تأتي في أصعب الأوقات التي تمر به أمتنا، وعلى الرغم من المعارك الضارية التي تجري في أروقة المؤسسات الدينية، والخلاف العميق الذي يزداد عمقه بقدر الظلم الذي تمارسه بعض الأنظمة الفاسدة والخاوية من الداخل، وما نراه من تقريب بعض الفرق الضالة من تلك السلطات النازية، إلا لأنها تخدم سياساته العسكرية في إخضاع وإذلال الشعب.

ومن آثار هذا التقارب بين هذه الأنظمة وشيوخها المخلصين ما نراه من إقصاء كبير للأحزاب الإسلامية، ومحاولة تشويهها، والنيل من رموزها، بل الزج بعدد كبير من المفكرين والدعاة المسلمين في السجون، وقد باضت دجاجة هذه الفرق، لكن لم تكن ذهباً، بل كانت خداجاً من الحماقات المتوالية، والتبعية العمياء، وهم أول من يجني شوكها، ويذوق مُرَّها.

وبعد صعود هؤلاء السَّفلة، افتعل الملوك وأشباههم نزاعاً، طالت ألسنته رموز الطائفة السنية الممزقة أصلاً، ثم نقلوا ذلك بين طوائف السنة المتنحية وطوائف الشيعة، وتعرض هذه الخلافات في أجواء سينيمائية ينتابها التوتر، وصناعة العداوات، لتنقل العبارات التي تقال في الشاشات إلى أحداث دموية عنيفة وتفجيرات تراق فيها الدماء بلا حساب.

عند ذلك لن يلجأ الناس إلا للطائفة الأكثر استقراراً، والتي تمثلها طوائف المخرفين، الذين يُقدسون الحاكم، وينسجون حوله الأساطير، والعلة ليست في الحاكم ولا في تلك الطوائف، ولكن العلة الحقيقية في الأفكار التي يبثونها في الناس من نشر الانحلال الديني والأخلاقي، من خلال حلق الرقص، وثقافة الموسيقى، ونشر الأقوال الإلحادية، وترك الأفكار الإلحادية تسري في المجتمع، وكل هؤلاء مشاركون في هذه الجريمة، علموا ذلك أم لا.

ولك أن تتخيل أن القنوات التي تنقل الكذب، وتعرض الخلاعة والمجون، هي نفسها التي تخصص حلقات لإثارة الفتنة، بل قل الفتن التي تصنع داخل الغرف الإعلامية، لتثير العصبيات المذهبية، وصناعة أجواء الاختلاف حتى في أبسط المسائل العملية، ليتصل الأمر بالسخرية من العلماء، والحط على جزء كبير منهم.

ويمكنك وأنت تشاهد هؤلاء الغوغاء والسفهاء والسَّفلة (ولا حرج عليَّ إن سميتُ بعضهم) يتلون على أتباعهم القذارات والخرافات، ويسترهبون أتباعهم بألوان من الشعوذات والأكاذيب والتهديدات المتعلقة بحياتهم المعيشية والشخصية، فيتعلقون بهم أشد من تعلقهم بالله، ويدوسون على كل القيل والمثل التي درسوها في معاهدهم وكلياتهم، في طاعة أشبه ما تكون بالعمياء، فيتبعون الشيخ الضال، والمفتي الضال، والوزير الضال، لا لأنهم يستحقون الإجلال، بل لأنهم يحققون جزءاً مشتركاً من المصالح الشخصية، ولأنهم أعطوا ولاءهم للمنظومة التي لا يجوز مخالفتها. 

فإن كان بإمكانك أن تصدقهم لحظات، فسوف تشعر بخفة وزنك، وانعدام شعورك بذاتيتك، وعندها لا يحتاج عدوك إلى عاصفة الصحراء ليقتلعك من مكانك، لأنّ النسيم يكفي، وستكون كالريشة في مهب الرياح لا فكر ولا حرية ولا وجود أصلاً.

ولا شك أن البون الشاسع بين ما كان عليه صدر هذه الأمة وما نحن عليه اليوم، إلا أن يقيننا هو أنّ أمّة الصحابة هي المثال البشري الأعلى الذي لن يتكرر، ووجودهم كان ضرورياً ليكون المقياس لنا، ولمن يأتي بعدنا، وكل المؤشّرات تقول إنّ الغد، بإذن الله، خير من اليوم. 

ملخص هذا الكتاب

ذكر ولادة النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عام ٥٧١م، والذي ملك زمام السلطة الروحية والسياسة، وأخرج لهم كتاب (القرآن) الذي يدين به سبع سكان المعمومة، ويعتبرونه القول الفصل في الخصومات، ثم تزوج بخديجة عام ٥٩٦م، ورزق منها بالأولاد، ونزل عليه الوحي، وحصل له الإسراء والمعراج، ودعا إلى توحيد الله وعبادته.

وفي ٢٤ أيلول عام ٦٢٢ م، لحق النبي بالمدينة في حادثة الهجرة، وفي ١٦ تموز ابتدأ التقويم الإسلامي الذي أمر به عمر بن الخطاب.

وفي ٦٢٨ م حج النبيُّ صلى الله عليه وسلم على رأس ١٤٠٠ مؤمن من مكة، في العام ٦٣٠ م، دخل التبيُّ مكة، وحطم نا بها من الأصنام، وعرف هذا العام بعام الوفود، وكان ذلك يوافق العام ٩ هـ، وأعلنت كل القابئل الطاعة والولاء لمحمد صلى الله عليه وسلم.

في ٨ حزيران، ٦٣٢م أعلنت وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وتكونت الدولة المسلمة من المهاجرين والأنصار، الذين فتحوا البلاد، ثم جمع القرآن بعد ١٩ سنة من وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ثم انتقلت الخلافة إلى أبي بكر من سنة ٦٣٢ إلى ٦٣٤ م؛ فحارب المرتدين ووحد الجزيرة.

ثم جاء عمر ٦٣٤ - ٦٤٤م، فأدار الدولة الإسلامية اقتصاياً، وأمّن مصالح العرب في المناطق المختلفة، وقتل عمر بخنجر مسموم سدده إليه أبو لؤلؤة المجوسي، وهو غلام فارسي.

 وفي عهده وبالتحديد في ٢٠ آب سنة ٦٣٦م استطاع خالد بن الوليد أن يهزم خمسين ألفاً من البيزنطيين على أعتاب دمشق، واكتسح جيشه حتى وصل إلى جبال طوروس، وهي تخوم سورية الطبيعية في الشمال.

وفي سنة ٦٣٧م اشتبك المسلمون مع الفرس في سلسلة من الوقائع، وعبر المسلمون دجلة، وفتحوا العراق، ووصلوا إلى إيران وآسيا الشرقية، وتوغل المسلمون في فارس حتى وجدوا أنفسهم على أعتاب الهند سنة ٦٤٣م.

وفي سنة ٦٣٩م نهض عمرو بن العاص إلى فتح مصر وما حاذاها من أرض فلسطين في معركة محكمة، قام فيها بتشتيت الأعداء، ثم حصارهم، ثم الانتصار عليهم، 

ثم تولى عثمان ٦٤٤ -٦٥٤م فجرى في خلافته فتح أرمينية وإيران وأذربيجان، وكان شيخاً حكيماً، وعادلاً منصفاً، إلا أنه عجز عن التحكم في أطماع ذوي قرباه، وقامت عليه الفتنة، وكان أول خليفة فتكت به أيدي مسلمة في ١٧ حزيران عام ٦٥٦م.

ثم تولى الخلافة علي بن أبي طالب ٦٥٤-٦٦١م، وجابه في أوائل خلافته كلاً من طلحة والزبير زعيما الحزب المكي، وانضمت إليهما السيدة عائشة رضي الله عنها، وما كان من عليٍّ إلا أن قمع هذه الفتنة، بالضرب على يد مناوئيه بوار البصرة في ٩ كانون الأول سنة ٦٥٦ م، والتي عرفت بموقعة الجمل، نسبة إلى جمل عائسشة، وفي هذه الوقعة قتل طلحة والزبير وأسرت السيدة عائشة.

واستتب الأمر لعليٍّ رضي الله عنه ظاهراً، لكن معاوية لم يُسلّم له بالخلافة، وامتد الأمر إلى صراع بين بيتين قرشيين، وتناظرت الكوفة ودمشق، والتقى الجيشان مصطفين على ضفة الفرات الغربية، ولما حصل التحكيم، انحازت فرقة من جيش علي ضده، وهم الخوارج، فضربهم علي على ضفة النهروان، عام ٦٥٩ م، وبقيت منهم باقية نزحت إلى شمالي أفريقية وعُمان، وهم الإباضية.

وقتل عليٌّ رضي الله عنه على يد أحد الخوارج ، وهو خارج إلى الصلاة من داره بالكوفة في أواخر كانون الثاني عام ٦٦١م.

ومن ثم استتب الأمر لمعاوية، بعد أن اصطلح مع الحسن أن يُسلمه السلطة بعده، لكن الحسن قُتل مسمواً في سن الخامسة والأربعين، وأما أخوه الحُسين فآثر الاعتزال مدة معاوية، ولما مات معاوية أخرج إلى الكوفة ورفض بيعة يزيد، فقتل في كربلاء في ١٠ من تشرين الأول سنة ٦٨٠م.

وكان معاوية داهية بني أمية، وفي خلافته اتجه إلى مبدأ توريث الحكم، وترك مبدأ البيعة، الذي هو مبدأ شبه انتخابي، وبأثره تعاقبت ثلاث خلافات سلالية عظيمة:

أولها: السلالة الأموية ابتدأ بخلافة معاوية في الشام سنة ٦٦١ م، حكم خلالها ١٤ خليفة من العاصمة دمشق، وكان آخرهم مروان الثاني بن محمد، الملقب بالحمار ٧٥٠ م، وقد استطاع الأمويين تأسيس أقوى دولة إسلامية على مر التاريخ، وابتدأ فتح الأندلس في عهد هذه الدولة عام ١٧١٢م.

ودخل الإسلام مقاطعات كبيرة من الهند، وتوجه المسلمون إلى أسبانيا عن طريق البربر بقيادة موسى بن نصير، ثم أرس موسى القائد الفاتح طارق بن زياد، فافتتح طُليطلة، وتعمق في فتوحاته في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ حتى سقطت الأندلس في يده، ثم جاء بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي وأكمل مسيرته حتى آخر نقطة في أسبانيا وحصلت معركة (بلاط الشهداء) التي أوقفت المد الإسلامي.

وثانيها: الخلافة العباسية ببغداد من ٧٥٠ م إلى ١٢٦٨م، والتي دامت خمسة قرون، تعاقب عليها سبعة وثلاثون خليفة، وقد نشأت على يد عبد الله بن محمد السفاح، حيث قام العباسيون بقيادة السفاح في العام ٧٤٧م، بثورة ضدهم، وسيطروا على الجانب الشرقي من العالم الإسلامي، بينما بقي الجزء الغربي شمالي أفريقية والأندلس تحت حكم الأمويين، وتمثلت هذه الخلافة في ثلاث مراحل: 

المرحلة الأولى (٧٥٠ -٨٤٧): الصعود والذي حافظ فيه العباسيون على العنصر العربي وشملت ٩ خلفاء، وكانت هذه المرحلة هي الذهبية بالنسبة للخلافة العباسية، حيث باشر المنصور فيها بناء بغداد سنة ٧٦٨ م، وفي عهد هارون الرشيد أصبحت بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

وتزامن صعود الدولة العباسية مع تأسيس الدولة الأموية بقرطبة كان ابتداؤها على يد عبد الرحمن الأول بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ٧٥٦ م، وآخرهم عبد الرحمن الناصر ٩٣٩ م، ويشمل هذا العصر ٨ أمراء، وفيه استطاع الأمويين إحياء الدولة الأموية في مغرب العالم الإسلامي، بعد سقوطها على يد العباسيين، كما استطاعوا توحيد الأندلس في ظل إمارة واحدة، والقضاء على جميع الفتن فيها.

وفي عام ٨٣٠ م أنشأ المأمون بيت الحكمة في بغداد، واعتنى بالكتب الفلسفية، وأيد المعتزلة التي تُحّكم العقل على كل شيء، وتعرض المسلمون خلال تاريخهم إلى انتشار الأوبئة والطواعين والتي بلغت في القرون الأربعة الأولى ما لا يقل عن ٤٠ طاعوناً ووباءً كبيراً.

والمرحلة الثانية (٨٤٧ -٩٤٥ م): وهذا العصر هو أول عصور الضعف والانحطاط، وظهور المجون والخلاعة، وتحكم العنصر التركي في العربي، وشملت ١٣ خليفة أولهم جعفر المتوكل وآخرهم المستكفي بالله، وظهر استقلال الولاة والسلاطين في شؤون ولايتهم بل وتأسيسهم دول مستقلة تمامًا في بعضها، كان تدخل الجيش في تعيين الخلفاء. 

والمرحلة الثالثة (٩٤٥ -١٠٥٥م): وبلغ عدد خلفاء هذا العصر ٥ خلفاء، أولهم المستكفي بالله وآخرهم القائم بأمر الله، وقد زادت دولة الخلافة العباسية في هذا العصر ضعفًا.

وفي أثناء المرحلة الثانية من الدولة العباسية ظهرت الدولة الفاطمية عام ٩٠٩ واستمر حكمها في مصر إلى ما بعد المرحلة العباسية الثالثة عام ١٠٧٧م، بينما انتهى حكمها في أفريقية في وقت مبكر سنة ٩٧٢م، وكان أول خلفائها عُبيد الله المهدي، وآخرهم العاضد لدين الله، وتناوب على خلافة الدولة الفاطمية ١٤ رجلاً.

ورافقها في ذلك تحول الدولة الأموية في الأندلس من كونها تابعةً للدولة العباسية إلى حكم شبه مستقل (٩٢٩ -١٠٣١ م)، بعد أن أعلن الأمير عبد الرحمن بن محمد نفسه خليفة قرطبة ولقَّب نفسه بالناصر لدين الله. وفيه ازدهرت الأندلس وبلغت أوج عظمتها سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وعسكرياً، وكان آخر خلفائها هشام المعتد بالله.

ثم سقطت الخلافة الأموية في الأندلس لكثرة الخلافات بين المسلمين لا سيما الدويلات المفتلعة: بني مرين، وبني حفص، وبني زيان، وتخاذل الجميع، وظهرت الدويلات الصغيرة في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، فكان ما لا يقل عن 20 دويلة أقيمت في 20 مدينة، والتي سميت بعهد ملوك الطوائف، وسقطت كلها بأيدي المسيحيين.

وتعرض المسلمين في الأندلس إلى اضطهاد وقتل وتشريد من قبل الأسبان، وجرى إجلاء المسلمين عن أرض أسبانيا في عهد فيليب الثالث سنة ١٦٠٩م، ثم ظهرت دولة المماليك، فالأيوبيين، وعقبها، 

وظهرت الدولة الطولونية في مصر، وهي أول دولة إسلامية تستقل بمصر، فقد عَّين الخليفة العباسي أميرًا تركيًا على مصر هو (بايكباك) وهو بدوره أناب عنه أحمد بن طولون (الذي كان أبوه مملوك تركي من تركستان وكان رئيس حرس الخليفة المأمون)، فاستقل أحمد بن طولون بمصر وكوَّن جيشًا عظيمًا فاستولى على بلاد الشام، ثم زحف شمالًا إلى الروم، لى الروم، وانتصر في طرسوس، وتولى حماية الثغور من الروم،  انهارت الدولة عام ٩٠٥م.

كما ظهرت الدولة اليعفرية في صنعاء، والتي أسسها إبراهيم بن يعفر الحميري ، وكان نائبًا عليها من قبل الوالي العباسي، فاستقل بها، ويعتبر حفيده يعفر بن عبد الرحيم بن إبراهيم  رأس الدولة، ومبدأ استقلالها الحقيقي، وكانوا يدفعون في البداية جزية لآل زياد، وبدأ استقلالهم الحقيقي ٨٦١م.

ثم الدولة الزيادية بزبيد، أسسها محمد بن عبد الله بن زياد (من ولد زياد بن أبيه)، وكان الخليفة المأمون قد أرسله إلى تلك المنطقة كي يقضي على حركة علوية، ويسوي الأمور فيها، فاستولى على المنطقة واستقل بها. وكان عهده عهد السلطة والنفوذ، وهو الذي بنى مدينة زبيد.

ثم الدولة الزيدية الطالبية، وقد نجح الحسن بن زيد (علوي من نسل الحسن بن علي) في تكوين هذه الدولة، حيث اقتطع من ملك بني العباس وآل طاهر طرفًا عظيمًا تحميه الجبال، بطبرستان والديلم (جنوب بحر قزوين)، ثم حكم أخوه محمد بن زيد، وتوالت الأسرة على الحكم، إلى أن استولى (مراداويج بن زيار) على السلطة، وكان من القادة العسكريين للزيديين، وتعاقبت ذريته على الحكم حتى سنة ١٠٧٨م.

ثم الدولة الصفارية، وهي دولة شيعية تأسست على يد يعقوب بن الليث الصفار (وهو من أصل فارسي)، وكان هذا يعمل صفارًا للأواني النحاسية في بداية حياتها ثم انخرط جنديًا في فرقة عسكرية في سجستان، فعلا شأنه، وصار قائدًا عظيمًا، فاستولى على سجستان وما حولها.

أما الدول المستقلة عن الدولة العباسية، فمنها الدولة الحمدانية، وهم شيعة رافضة، ينتسبون إلى حمدان بن حمدون، من قبيلة تغلب العربية، قام حمدان بدور هام في الحوادث السياسية في الموصل ، ثم اشتهر ابنه الحسين بن حمدان بحروبه ضد القرامطة، وعين الخليفة المقتدر أخاه عبد الله بن حمدان على الموصل وما حولها.

وكذلك الدولة البويهية: والبويهيون يعودون إلى بلاد الديلم (جنوب بحر قزوين)، وهم شيعة حاقدون على الإسلام، متعصبون، أتوا بأفعال منكرة، وكانوا في البداية من الرعايا العاديين، على أن الأمجاد العظيمة التي حصل عليها بنو بويه دفعت بعض المؤرخين إلى أن يتوهموا لهم نسبًا رفيعًا، فنسبوهم أحيانًا إلى ملوك آل ساسان.

ثم الدولة الإخشيدية، وأصل الإخشيديين أتراك من فرغانة من بلاد ما وراء النهر، مؤسسها هو محمد الأخشيد بن طغج وهو من موالي أحمد بن طولون، فبعد الدولة الطولونية ظلت مصر تحت الخلافة العباسية مباشرة ٣٠ سنة، فتولاها محمد الإخشيد من قبل الخليفة الراضي، وازدهرت البلاد في عهده، واستطاع أن يضم بلاد الشام، ثم ضم الحجاز وحاول سيف الدولة الحمداني انتزاع الشام منه ففشل، وبعد موته خلفه ابناه وكانا صغيرين، فكانا تحت وصاية مولاه كافور الذي كان عبدًا حبشيا للأخشيد، فحكم الدولة واستبد بالأمر دونها، وحارب الحمدانيين، وراجت التجارة في عصره، وشجع الأدباء والشعراء ومنهم أبو الطيب المتنبي ، وبعد وفاته ضعفت الدولة، حتى قضى عليها الفاطميون.

دولة عمران بن شاهين في البطيح بالعراق، وكان عمران بن شاهين جابيًا لمعز الدولة البويهي، ثم هرب إلى البطيح (بين واسط والبصرة)، فكثر أصحابه حوله، ونظم بهم جيشًا، أرسل معز الدولة ثلاث جيوش متوالية للقضاء عليه فمنيت كلها بالهزيمة فقوي أمره، واستمر يحكم أربعين سنة، كان شوكة في حلق بني بويه.

وظهرت الدولة الزيرية في الجزائر وتونس، وكانت هذه المناطق بيد الفاطميين، ولما تمكنوا من مصر انتقلوا إليها سنة ٩٧٣ م، وأنابوا عنهم بلكين بن زيري الصنهاجي في حكم الشمال الأفريقي، فاستقل هذا بالمنطقة. وأقام دولته، وتولى ابنه حماد بن بلكين ولاية المغرب الأوسط (الجزائر) وأقام بها الدولة الحمادية، وتدين هذه الدولة بالمذهب الشيعي.

وعندما أعلنت هذه الدولة استقلالها وانفصالها عن الفاطميين، أطلق عليهم الخليفة الفاطمي المستنصر قبائل بني سليم وبني هلال البدوية (كانوا يعيشون بصعيد مصر) فجازوا النيل إلى أفريقية، واستباحوا البلاد وألحقوا بآل زيري هزائم منكرة، فضعفت دولتهم واستمرت في الانحدار إلى أن قضت تمامًا.

ثم الدولة العقيلية في الموصل، والتي أسسها أبو الذواد محمد بن المسيب العقيلي، وخلفه أخوه حسام الدولة المقلد بن المسيب، سيطروا على الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، دعوا للخليفة العباسي وبعض عدد خلفاء الدولة العباسي السابقين على المنبر، استمروا إلى أن قضى عليهم السلاجقة عام ١٠٩٥م..

ودولة المرابطين في المغرب ١٠٥٦ -١١٤٧ م، والتي حاول فيها القائد المسلم يحيى بن إبراهيم الكدائي جمع شتات القبائل وتوحيد البلان، فأعلن دولة المرابطين، وأسسها، إلى أن انتهت بسقوطها في أيدي الموحدين.

ثم تلا ذلك دولة الموحدين ١١٢١ -١٢٦٩ م، والتي أسسها ابن تومرت الذي ادعى المهدية، وتبعته قبائل من مراكش وما حولها، وقد تناوب على حكمها ١٣ خليفة، وتهاوت هذه الدولة مع بداية سقوط الأندلس بيد الأسبان.

ثم الدولة الأيوبية في مصر والشام وبعض المناطق الأخرى، ١١٧٤ -١٢٥٠م، وسميت بذلك نسبةً إلى الأفضل نجم الدين أيوب، وكانت عاصمتها القاهرة، وابتدأت بحكم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وانتهت بحكم آخرين، أحدهما كان يملك حكماً حقيقياً، والآخر صورياً.

ثم الدولة المملوكية ١٢٥٠ -١٥١٧م، والتي انتقل الحكم فيها من شجرة الدر، حتى وصلت إلى محمد المتوكل على الله آخر خلفاء المملوكيين، والتي سيطرت على الشام ومصر، وتناوب فيها مماليك البحرية، والبرجية، وتناوب عليها ٥ من الخلفاء.

وأخيراً الدولة العثمانية التي بسطت سيطرتها على معظم العالم الإسلامي، ١٢٩٩ -١٩٢٣م، واختلفت عاصمتها، حتى استقرت في إستانبول، ومؤسسها هو عثمان الأول، أما أول الخلفاء فهو سليم الأول وآخرهم عبد المجيد الثاني، وتناوب على حكمها ٣٠ حاكماً، لكنها سقطت أخيراً بفعل الحملات الصليبية على بلاد المسلمين.

مقدمة الكتاب

لم تمض على وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مئة سنة؛ حتى أصبح العرب أسياد دولة أعظم من دولة الرومان في أوج عزها، دولة امتدت أرجاؤها من بحر الظلمات غرباً الى حدود الصين شرقاً، ومن جبال أورال شمالاً الى حدود السودان جنوباً. 

وردد المؤمنون في كلمتي الشهادة اسم الجلالة والرسول من رؤوس المآذن في جنوبي أوروبا وشمالي أفريقيا وأواسط آسيا، فرجعت جبال الاندلس وسهول الهند والصين، ومجاهل الصحراء الكبرى أصداءها. 

ودخل في دين العرب وفي لسانهم ودمهم من الشعوب والأجناس، ما لم يعهده التاريخ من قبل، حتى في أخبار اليونان والرومان، ولقد دون لنا التاريخ أخبار البابليين والآشوريين والكلدانيين والآراميين وغيرهم ممن ترعرع آباؤهم في مهد الجزيرة العربية، ثم نزحوا عنها الى البلدان المجاورة حيث شادوا دولاً عظيمة ما لبثت أن أتى الدهر عليها فعفت واندرست، أما العرب فكانوا ولا يزالون منتشرين في مركز من أهم المراكز الجغرافية تخترقه طرق هي بمثابة حبـــل الوريد من جسم التجارة العالمية.

ومنذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها أخذ انتباه العرب الى ما في ثقافتهم من ثروة يتزايد، وأخذ شعورهم الوطني ينمو ويستعر، فأخذت مصر تنشد استقلالها، ونودي بفيصل بن الحسين ملكاً على العراق، وبسط ابن سعود عاهل الجزيرة سلطانه على أواسط الجزيرة وشماليها.

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها استطاع لبنان أن يحرز استقلاله ويتحرر من الانتداب ويؤسس أول جمهورية عربية، وتلته سورية، ثم نال الأردن استقلاله وأصبح مملكة تعرف بالمملكة الاردنية الهاشمية، وأطاحت ثورة ١٩٥٢م بالملكية في مصر وأصبحت جمهورية. 

وكذلك فعل العراق، ونالت الجزائر والمغرب وتونس استقلالها، وأسست الجامعة العربية التي تضم الآن ثلاث عشرة دولة عربية مستقلة، لكل منها مندوب في هيئة الأمم المتحدة، ولأكثرها ممثلون دبلوماسيون في لندن وباريس وواشنطن وموسكو، وكثير غيرها من العواصم في العالم.

فمن وسط الرماد الهامد انبعثت اليوم العنقاء حية - والعنقاء من طيور الجزيرة - قوية الجناحين . فالاسلام دين الجزيرة، منتشر اليوم في انحاء العالم بأسره. 

وعدد المؤمنين يبلغ أربعمائة وثلاثين مليوناً، وأصوات المؤذنين ترتفع من على رؤوس المآذن في جميع أنحاء العالم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار؛ فتملأ الفلك المحيط بالكرة الأرضية، وتتصاعد الى السماء، ولم يقتصر ما شاده العرب في تاريخ العصور على إنشاء دولة، بل تعدى ذلك إلى الثقافة والعمران؛ فلقد ورث العرب المدنيات القديمة التي ارتفعت معالمها على شواطىء الرافدين وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية وفي وادي النيل. 

واقتبسوا عن الإغريق والرومان القيم من مآثرهم، ثم أضافوا إليه كثيراً مما ابتدعوه، ومن ثم نقلوه الى أوروبا في عصورها المظلمة ونشروه فيها، فكان من جراء ذلك أن بزغ في أوروبا فجر تلك اليقظة العلمية التي لم يزل العالم الغربي، ومنه أميركا حتى اليوم يتمتع بحسناتها.

وليس من شعب آخر قام في القرون الوسطى بما قام به العرب في سبيل تقدم البشرية (ونحن هنا لا نطلق كلمة عرب على أبناء الجزيرة فحسب بل على سائر الشعوب اتخذت العربية لساناً)؛ فبينما كان فلاسفة العرب مكتين على دراسة تأليف أرسطو، كان شارلمان ورجال بطانته يحاولون إتقان كتابة أسمائهم. 

وبينما كان علماء العرب في قرطبة يترددون على خزائن كتبها السبع عشرة، (ومنها خزانة حوت ٤٠٠,٠٠٠ مجلد) ويعودون إلى بيوتهم فينعمون بالاستحمام في حمامات بلغت الغاية في النظافة والاناقة كان الاساتذة والتلامذة في جامعة اكسفورد يستنكرون الاستحمام ويحسبونه من ملذات العيش الشهوانية التي يجب الترفع عنها. 

ولتاريخ العرب أهمية أخرى عندنا؛ لأنه يدور على محور ثالث الأديان الموحدة وآخرها من حيث الزمن هو الدين الحنيف، الذي يمت إلى اليهودية والنصرانية. فقد نشأت هذه الأديان الثلاثة في بيئة روحية واحدة -في أحضان الروح السامية. 

فالمسلم يعترف بأكثر العقائد اليهودية والنصرانية، والعكس بالعكس ولقد عرف العرب في تاريخهم معنى النصر والهزيمة، غير أن الفكرة التي دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكرة التوحيد، هي التي لازمها النصر؛ فتغلبت على مختلف الشعوب على الرغم من تغلب بعض هذه على العرب في ميادين القتال كالاتراك والمغول مثلاً. 

ومن أهم حقائق التاريخ الراهنة في عصرنا هذا أن الإسلام لا يزال قوة فعالة في حياة الملايين من البشر من مراكش غرباً حتى الهند الصينية شرقاً؛ بل لا يزال ديناً حياً يدين به سُبُع البشرية جمعاء. 

أما اللغة العربية فهي اليوم وسيلة للتعارف والتفاهم بين ثمانين مليوناً من الناس. ولقد كانت لغة العرب في أثناء بعض القرون الوسطى هي لغة العلم والثقافة والتقدم والعمران في العالم قاطبة. فكان عدد المؤلفات الفلسفية والطبية والتاريخية والدينية والفلكية والجغرافية التي كتبت بها في خلال المدة الواقعة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر للميلاد أعظم مما كتب بأي لغة أخرى. 

ولا يزال أثر اللغة العربية ظاهراً في لغات الغرب التي استعارت منها مفردات علمية وفنية جمة. ولا تزال حروفها أوسع الحروف انتشاراً بعد اللاتينية وعرب اليوم أبعد عراقة في السلالة السامية وأكثر تمسكاً بتقاليدها من غيرهم من ابنائها. 

فقد حافظ العرب أكثر من سواهم على مميزات الأرومة السامية من جسدية وذهنية واجتماعية. وعلى الرغم من أن اللغة العربية هي أحدث اللغات السامية من حيث الأدب المدون فقد حافظت اكثر من العبرانية وشقيقاتها من اللغات السامية جميعاً على خصائص اللغة السامية الأم.

 والإسلام هو غاية الكمال ديناً في مطابقة العقلية السامية. على ان لفظة «سامي» اتخذت في اوروبا واميركا معنى غير معناها الصحيح، واقتصر استعمالها للدلالة على اليهودي دون سواه من الشعوب السامية. ولا مبرر لهذا الخطأ سوى الجهل. فما يحسبه الأوروبيون والأميركيون من "الملامح السامية" كالأنف اليهودي مثلاً - ليس هو بالسامي على الاطلاق. بل هو ما يميز اليهودي من غيره من الساميين. وقد ورثه اليهود عن الحثيين والحوريين ما اختلطوا بهم قديماً عن طريق التزاوج بهم.

وتنحصر الأسباب التي تجعل العربي وعلى الأخص البدوي - أفضل ممثل للأرومة السامية بيولوجياً ونفسياً واجتماعياً ولغوياً في عزلته الجغرافية في الصحراء، وعدم تبدل وسائل الحياة فيها وبقاء طرق العيش على ما كانت عليه منذ البدء. 

وما أصالة النسب وتجرد السلالة عن الهجانة والاختلاط إلا نتيجة العزلة والانقطاع في وسط بيئة منزوية وعيش ضيق كما هي الحال في أواسط الجزيرة. ولدينا في جزيرة العرب مثال فريد للبداوة، ولطريقة تكيف الإنسان بحسب مقتضيات الإقليم الذي يعيش فيه والتربية التي يدرج عليها . 

وإذا كانت هناك شعوب هاجرت إلى جزيرة العرب واستوطنت انجادها وواحاتها واختلطت بسكانها الأصليين، كما هاجرت شعوب مختلفة إلى بلاد الهند مثلاً واليونان وإيطاليا وبلاد الإنكليز والولايات المتحدة وأقامت بين ظهراني السكان الأصليين، واختلطت بهم، لم يترك لنا اثراً منها، ولا هو ترك لنا اي خبر عن فاتحين استطاعوا أن ينفذوا وراء الحواجز الرملية ويثبتوا أقدامهم في تلك الأرض. 

فسكان الجزيرة وعلى الأخص البدو - بقوا على ما كانوا عليه منذ بدء التاريخ، وفي جزيرة العرب نشأ اولاً أجداد الشعوب السامية من بابليين وآشوريين وكلدانيين وعموريين وآراميين وفينيقيين وعبرانيين وعرب وأحباش. وفيها قطنوا برهة من الزمن قبل أن ينزحوا عنها وصاروا الى ما صاروا إليه.

وإذا كانت الجزيرة موطن الساميين الأصليين؛ فالهلال الخصيب الممتد من الخليج العربي إلى سيناء وفيه العراق وسورية ولبنان وفلسطين كان مربع مدنيتهم الأولى. ففي وادي الفرات الذي نزح اليه الساميون حوالي ٣٥٠٠ ق. ازدهرت الثقافة البابلية التي تركت لنا إرثاً من النظم القياسية منها ما هو للأوزان والمكاييل ومنها نظام ستيني للوقت. 

وتحدر الى شمالي سورية حوالي ٢٥٠٠ ق. م. الآشوريون ومنهم الكنعانيون، الذين سماهم اليونان (فينيقيين) فاحتلوا شواطىء لبنان، وأصبحوا أسبق المستعمرين والتجار العالميين. وإن مآثرهم في نشر الحروف الهجائية وحدها تكفي في أن يعدوا بين عظماء المحسنين إلى الإنسانية.

إن العرب المسلمين قد أصبحوا بعد فتحهم للهلال الخصيب ورثة هؤلاء الساميين الاوائل. وقد ورثوا كذلك ثقافة بلاد العرب الجنوبية التي ازدهرت قبل الاسلام بألف وقد كان أصل ملكة سبأ التي تذكرها التوراة من جنوبي الجزيرة العربية.

مقدمة الطبعة الثالثة ... ٥

فاتحة الطبعة الأولى ... ٧

مكانة العرب في التاريخ ..... ٩

 قبل فجر الإسلام ...  ٢٧

محمد رسول الله ...... ٣٥

القرآن والإيمان ٤٧

سير الإسلام ....٦١ 

الخلافة ...... ٧٦ 

فتح الأندلس... ٨٨

بدء الحياة الثقافية والاجتماعية ١٠٢

بغداد في أوج مجدها ...  ١١٢

 مناحي حياة العامة ... ۱۲۸ 

 العلوم والآداب ... ١٤٦ 

 الفنون الجميلة ١٦٠ 

قرطبة جوهرة العالم .. ١٦٨ 

فضل العرب على المدنية الغربية ..١٨١

 أفول نجم العروبة في الشرق والغرب  ..٢٠١

الحروب الصليبية ... ۲۳۰

دولة المماليك .. . ٢٥٢

 العصور المظلمة وفجر النهضة الحديثة ... ٢٦٨

 فهرست الأعلام ٢٧٦