تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم
للقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة
( ٦٣٩ - ٧٣٣ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: العلم صلاة السر، وعبادة القلب، وقُربة الباطن، وقد اعتنى العلماء قديماً وحديثاً بتجلية طريق طلب العلم، وحسن الأدب فيه، وصنفوا في ذلك المصنفات المبسوطة والمتوسطة والمختصرة، وكان من أواسطها كتاب (تذكرة السامع والمتكلم) للقاضي الشيخ العالم بدر الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الكنانيـ، الذي ذكر فيه من أخلاق العالم والمتعلم ما ينبغي لهما التحلي به، وجعل ذلك في خمسة أبواب، لكل باب جزء معلوم من الفصول، ولكل فصل أنواعه الشريفة المختصة به.
وليس هذا بدعاً من القول، فإن الإسلام ينصح لأوليائه أن يبتغوا العلوم أينما كانت، ويزينوا طلبها بالأدب، ويحضهم على أن ينظموا شؤونهم الحيوية على مقتضى ما علموا، ولم يجئ الإسلام في عقائده أو أخباره بما يخالف العلم الصحيح، ولم يجئ في نصائحه بما ينقص الرغبة في طلبه على اختلاف فنونه، فشأن الأمة التي تبتغيه ديناً أن تكون أصفى الأمم بصائر، وأغزرها معارف، وأبعدها في البحث نظراً.
وأردف الشيخ المُحقق هذه الآداب العالية والأخلاق الزكيّة، بثلاثة ملاحق نفيسة، تتمم هذا الكتاب، وتؤيد ما فيه:
أولها: كتابة الحديث وضبطه وأدب الراوي طالب الحديث من كتاب «المنهل الروي»، وذكر منه أنواعاً:
-النوع الثالث في كتابة الحديث وضبطه، وأول من صنف فيه.
-النوع الخامس: في أدب الراوي.
-النوع السادس: في أدب طلب الحديث.
وثانيها: قصيدة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني -رحمه الله -في بيان شرف العلم، ورفعته، وبعض آدابه.
وثالثها: صور لبعض المدارس التي تولى المصنف ابن جماعة رحم الله التدريس فيها، وهي (العادلية والشامية البرانية =بدمشق، والناصرية وجامع ابن طولون=في القاهرة) .
وأورد هنا بعض الجمل المفيدة الواردة عن السلف في الحث على طلب العلم، منها ما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: «تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد ، وبذله قربة، وتعليمه من لا يعلمه صدقة»
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله: «تعالم معلم يدعى كبيرا في ملكوت السماء».
وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله: «أرفع الناس عند الله منزلة : من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء»
وقال الشافعي -رحمه الله: «إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله؛ فليس لله ولي».
وعن ابن عمر رضي الله عنه: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة»
وعن سفيان الثوري والشافعي، قالا: «ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»
وعن الزهري، قال: «ما عبد الله بمثل الفقه».
وعن أبي ذر وأبي هريرة، رضي الله عنهما، قالا: «باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل أحب إلينا من مائة ركعة تطوعاً».
وقال عمر رضي الله عنه: «تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار»
وقال يحيى بن معاذ -رحمه الله: «لو كانت الدنيا تبرا يفنى والآخرة خزفا يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على النبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فان والآخرة تبر باق؟»
إسنادي إلى كتاب تذكرة السامع والمتكلم
وقد أنبأنا به بعموم إجازته، جمعٌ من الشيوخ، منهم الشيخ العلامة المعمر عبد الرحمن بن محمد عبد الحي الكتاني، وشيخنا العلامة محمد بن الأمين بوخبزة التطواني المغربي، وشيخنا أحمد ومحمد أبناء السيد أبوبكر بن حسين بن الحبشي (صاحب الدليل المشير)؛ كلهم عن والد الأول حافظ العصر ومسند الوقت ومحدثه العلامة أبو الأسعاد وأبو الإقبال محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي الفاسي (صاحب فهرس الفهارس)
وقال الكتاني: أروي ذلك عن عدد من شيوخنا، منهم: الجزيري والأمير والبيلي ومرتضى والعروسي والجوهري والشبراوي وكلهم عن حسن العدوي، عن محمد بن عقيلة، عن أحمد النخلي، عن أبي مهدي عيسى الثعالبي، عن أبي الحسن عليّ الأجهوري والقصار، كلاهما عن البدر القرافي عن المعمر فوق المائة قريش البصير العثماني المقري، عن الحافظ ابن الجزري عنه عن العز عن أبيه به.
(ح) ويرويه عامةً عن المعمر أحمد بن صالح السويدي، عن الحافظ مرتضى الزبيدي، عن ابن سنة الفلاني، بالإجازة العامة لأهل عصره، عن مولاي الشريف، عن العلقمي عن الحافظ الأسيوطي عن أحمد بن محمد بن عليّ الشهاب الحجازي، ومحمد بن أحمد البوصيري والجمال يوسف بن عليّ السعيدي وغيرهم، كلهم عنه.
(ح) ويرويه عن السكري، عن الكزبري، عن الزبيدي، عن ابن عقيل، عن العجيمي، عن البرهان إبراهيم الميموني، عن الشمس الرملي، عن شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري عن عليّ بن إبراهيم بن عليّ بن راشد الآبي والنجم عمر بن محمد بن فهد وغيرهما عنه.
وبأسانيدنا إلى الحافظ ابن حجر عن الحافظ العراقي عنه.
ملخص لأهم الآداب في كتاب تذكرة السامع والمتكلم
وينبغي على طالب العلم أن يتحلى بجملة من الأخلاق الباطنة؛ كالإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضا، والإيثار وترك الاستئثار، والإنصاف، والتلطف مع الناس، والتودد إلى الفقراء، وذوي الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، وغير ذلك.
وعليه أن يُخلي نفسه عن جملة من الأخلاق الرديَّة، كالحسد، والعُجب، والرياء، والكبر، ويُحلي نفسه بجملة من الأخلاق الرضيّة، مثل: دوام التوبة، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة والشفقة على خلق الله، والحياء من الله ومن الناس.
وإذا أراد الجلوس للدرس فإنه يُصلي صلاة الاستخارة، ثم يَنْوي نشر العلم وتعليمه، وبَثَّ الفوائدِ الشَّرْعيةِ، وتبليغ أحكامِ اللهِ تعالى التي اؤتُمنَ عليها وأُمِرَ ببيانها، وينوي كذلك الازدياد مِنَ العلم، وإظهار الصَّوابِ والرجوع إلى الحَقِّ، والاجتماع على ذِكْرِ الله تعالى، والسلام على إخوانِهِ مِنَ المُسلمين، والدعاء للسلف الصالحين.
ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس، فإذا وصل إليه سلم على من حضر ، وصلى ركعتين إن لم يكن وقت كراهة، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً.
ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبل القبلة -إن أمكن - بوقار وسكينة وتواضع وخشوع متربعاً أو غير ذلك مما لم يكره من الجلسات.
ولا يجلس مقعياً ولا مستوفزاً ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئاً على يده إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بها ، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة.
ويتقي المزاح وكثرة الضحك، فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة، كما قيل: "من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به".
ولا يدرس في وقت جوعه أو عطشه أو همه أو غضبه أو نعاسه أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم وحره المزعج، فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.
ويتلطف بجميع الحاضرين، ويكرم أكبرهم سناً وصلاحاً وعلماً، وإذا جلس خاطبهم بحسن السلام وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام.
ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام، وقد ورد إكرام العلماء وإكرام طلبة العلم في نصوص كثيرة.
ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قصداً، أي: متوسطاً بحسب الحاجة، ويخص من يكلمه أو يسأله أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه، وإقبال عليه؛ وإن كان صغيراً أو وضيعاً، فإن ترك ذلك من أفعال المتجبرين والمتكبرين.
وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلاً يمل، ولا يقصره تقصيراً يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة والتطويل، ولا يبحث في مقام أو يتكلم على فائدة إلا في موضع ذلك، فلا يقدمه عليه ولا يؤخره عنه إلا لمصلحة تقتضي ذلك وترجحه.
والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه.
ولا يسرد الكلام سرداً، بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه؛ ليتفكر فيه هو وسامعه. وقد روي أن كلام رسول الله ﷺ كان فصلاً يفهمه من سمعه، وأنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه.
وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلا حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه -فإنه إذا لم يسكت هذه السكتة ربما فاتت الفائدة.
وإذا أقبل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها.
وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه ثم يعيدها أو يتم تلك البقية؛ كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.
والأولى للمدرس أن يمكث قليلا بعد قيام الجماعة؛ فإن فيه فوائد وآدابا له ولهم:
منها: عدم مزاحمتهم
ومنها: إن كان في نفس أحد بقايا سؤال سأله.
ومنها: عدم ركوبه بينهم إن كان يركب، وغير ذلك.
ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».
وعلى المعلم أن يعلمهم ما لا يسع الفاضل جهله؛ كأسماء المشهورين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وكبار الزهاد والصالحين كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة، والنقباء الاثني عشر، والبدريين، والمكثرين والعبادلة والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، فيضبط أسمائهم، وكناهم، وأعمارهم، ووفياتهم، وما يستفاد من محاسن آدابهم، ونوادر أحوالهم، فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة النفع، ونفائس غزيرة الجمع.
وقد تكلم الناس في أي الأمرين أولى أن يعتمد: امتثال الأمر، أو سلوك الأدب؟.
والذي يترجح مما قدمته من التفصيل، فإن عزم الشيخ بما أمره به بحيث تشق عليه مخالفته فامتثال الأمر أولى، وإلا فسلوك الأدب أولى؛ لجواز أن يقصد الشيخ غيره، وإظهار احترامه، والاعتناء به، فيقابل هو ذلك بما يجب من تعظيم الشيخ والأدب معه (ص/ ١٠٥).
وإن سأله الشيخ عن شيء كان حافظاً له، فلا يجيب بنعم؛ لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل: لا؛ لما فيه من الكذب، بل يقول: أحب أن أستفيده من الشيخ، أو أن أسمعه منه، أو : بعد عهدي، أو: هو من جهتكم أصح.
وإذا احتاج إلى ضبط ما في متن الكتاب فالحبر أولى من المداد؛ لأنه أثبت، ولا يكون القلم صلباً جداً فلا يجري بسرعة، ولا رخواً فيحفى سريعاً.
وجعل ضبطه في الحاشية وبيانه فعل وكتب عليه بياناً، وكذا إن احتاج إلى ضبطه مبسوطاً في الحاشية وبيان تفصيله؛ مثل أن يكون في المتن اسم (حريز) فيقول في الحاشية: هو بالحاء المهملة وراء بعدها وبالياء الخاتمة بعدها زاي، أو هو بالجيم والياء الخاتمة بين راءين مهملتين، وشبه ذلك.
وقد جرت العادة في الكتابة بضبط الحروف المعجمة بالنقط، وأما المهملة : فمنهم من يجعل الإهمال علامة، ومنهم من ضبطه بعلامات تدل عليه من قلب النقط، أو حكاية المثل، أو بشكلة صغيرة كالهلال وغير ذلك.
ويجعل بين كل حديثين دائرة، وقد فعل ذلك جماعةٌ من المتقدمين، ولا يكتب المضاف في آخر سطر والمضاف إليه في أول الآخر؛ مثل: عبد الله، وعبد الرحمن، فيكره كتابه (عبد) آخر سطر واسم (الله) أو (الرحمن) مع ابن فلان أول الآخر، وكذلك رسول الله ونحو ذلك .
وإذا كتب اسم الله تعالى أتبعه بالتعظيم كـ(عز وجل) ونحوه، ويحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله كلما كتبه، ولا يسأم من تكراره وإن لم يكن في الأصل، ومن أغفل ذلك حرم حظاً عظيماً.
ويصلي بلسانه على النبي (صلى الله عليه وسلم) كلما كتبه أيضاً، وكذلك الترضي والترحم على الصحابة والعلماء، ويكره الاقتصار على الصلاة دون التسليم، ويكره الرمز بالصلاة والترضي بالكتابة، بل يكتب ذلك عليه مقابله كتابه بأصل شيخه وإن كان أجازه.
وأفضل المقابلة أن يمسك هو وشيخه كتابيهما حال السماع وينظر معه لا نسخة معه، لا سيما إن كان يريد النقل من نسخته وتكفي مقابلته بفرع قوبل بأصل الشيخ أو بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ، فإن لم يقابل به وكان الناقل صحيح النقل قليل السفط ونقل من الأصل فقد جوز بعضهم الرواية منه.
وينبغي أن يكتب على ما صححه وضبطه في الكتاب، وهو في محل شك عند مطالعته أو تطرق احتمال (صح) صغيرة، ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ: (كذا) صغيرة، ويكتب في الحاشية: صوابه كذا إن كان يتحققه، وإلا فيعلم عليه ضبَّة (أو تمريضاً) - وهي صورة رأس صاد - تكتب فوق الكتابة غير متصلة بها، فإذا تحققه بعد ذلك وكان المكتوب صواباً زاد تلك الصاد حاء فتصير: (صح)، وإلا كتب الصواب في الحاشية كما تقدم.
وإذا وقع في النسخة زيادة فإن كانت كلمة واحدة فله أن يكتب عليها: لا، وأن يضرب عليها، وإن كانت أكثر من ذلك ككلمات أو سطر أو أسطر، فإن شاء كتب فوق أولها (من) أو كتب (لا)، وعلى آخرها (إلى)، ومعناه: من هنا ساقط إلى هنا، وإن شاء ضرب على الجميع بأن يخط عليه خطا دقيقا يحصل به المقصود ولا يسود الورق، ومنهم من يجعل مكان الخط نقطا متتالية.
وإذا تكررت الكلمة سهواً من الكاتب ضرب على الثانية؛ لوقوع الأولى صواباً في موضعها إلا إذا كانت الأولى آخر سطر؛ فإن الضرب عليها أولى صيانة لأول السطر إلا إذا كانت مضافا إليها فالضرب على الثانية أولى؛ لاتصال الأولى بالمضاف.
وينبغي أن يحسب الساقط وما يجيء من الأسطر قبل أن يكتبها، فإن كان سطرين أو أكثر جعل آخر سطر منها إلى الكتابة إن كان التخريج عن يمينها، وإن كان التخريج عن يسارها جعل أول الأسطر مما يليها .
ولا يوصل الكتابة والأسطر بحاشية الورقة، بل يدع مقداراً يحتمل الحك عند حاجته بمرات ثم يكتب في آخر التخريج: صح، وبعضهم يكتب بعد (صح) الكلمة التي تلي آخر التخريج في متن الكتاب علامة على اتصال الكلام.
وإذا صحح الكتاب على الشيخ أو في المقابلة علم على موضع وقوفه: (بلغ)، أو (بلغت)، أو (بلغ العرض)، أو غير ذلك مما يفيد معناه، فإن كان ذلك في سماع الحديث كتب: (بلغ في الميعاد الأول) أو (الثاني) إلى آخرها، فيعين عدده.
وإن غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في (حدثنا) و(أخبرنا)، وشاع بحيث لا يخفى فيكتبون من (حدثنا): (ثنا) أو (نا) أو (دنا)، ومن (أخبرنا) (أنا) أو (أبنا) أو (رنا).
وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد : (ح)، ولم يبين أمرها عمن تقدم لكن كتب بعض الحفاظ موضعها (صح) فأشعر بأنها رمزه، وقيل: هي من التحويل من إسناد إلى إسناد، وقيل: هي من الحيلولة؛ لأنها تحول بين الإسنادين، وليست من الحديث فلا يتلفظ بشيء في مكانها، وقيل: هي إشارة إلى قولنا: (الحديث)، والمغاربة يقولون مكانها في القراءة: (الحديث)، ومن العلماء من يقول: (حا) ويمر، وهو المختار.
وقد رتبه على مقدمة ذكر فيها فضل تعلم العلم وتعليمه، وأردفها بخمسة أبواب، وهي:
البابُ الأَوَّلُ: في فَضْلِ العلم وأهله، وشرفِ العالم وتُبْلِهِ، وفيه فصلان.
الفصل الأول: الإخلاص لله عز وجل.
الفصل الثاني: شرف العالم ومكانته.
وبيّن في هذا الباب أن العلماء العاملين، هم ورثة الأنبياء.
وأنهم الأولياء على الحقيقة، وأن للعلماء شفاعة مقبولة، وهم على منابر من نور.
وأنهم فوق الناس بسبعمائة درجة، وأنهم خير البرية.
وأن مداد العلماء يفوق دماء الشهداء، مع أن الدم هو أعلى ما للشهيد، والمداد هو أدنى ما للعالم.
وفي الخبر: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)، وقَدِ اخْتُلِفَ في مَعْنَى وَضْع أَجْنِحَتِها، فقيل: التَّواضُعُ لَهُ، وقيل: النُّزولُ عِنْدَهُ والحُضورُ مَعَهُ، وقِيلَ: التَّوقيرُ والتَّعظيمُ لَهُ، وقيل مَعْناهُ: تَحْمِلُهُ عليها فتُعينُهُ على بلوغ مقاصِدِهِ.
وأن قوله: (إن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيوان)، قال: وأما إلهام الحيوانات بالاسْتِغْفارِ لَهُمْ، فقيل: لأَنَّها خُلِقَتْ لمصالح العبادِ ومَنَافِعِهِم، والعلماءُ هم الذينَ يُبيِّنونَ ما يَحِلُّ مِنْها وما يَحرُمُ، ويُوصونَ بالإحْسانِ إليها ونَفْي الضَّرَرِ عَنْها.
الباب الثاني: في آدابِ العالم في نفسِهِ، ومَعَ طلبتِهِ ودَرْسه، وفيه ثلاثة فصول.
الفصل الأول: في آدابه في نفسه، وفيه اثنا عشر نوعاً.
١-المراقبة لله في السر والعلن والاتصاف بالسكينة والوقار.
٢-أن يصون العلم عما صانه عنه السلف، ويقوم بما فيه العزة والشرف.
٣-أن يتخلق بالزهد في الدنيا، والتقلل منها.
٤-أن ينزه علمه عن جعله سلماً يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية.
٥-أن يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها طبعاً، وعن مكروهها عادةً وشرعاً.
٦-أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام.
٧-أن يحافظ على المندوبات الشرعية: القولية، والفعلية.
٨-معاملة الناس بمكارم الأخلاق، من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وكظم الغيظ.
٩- أن يُطهّر ظاهره وباطنه من الأخلاق الرديّة، ويُعمرها بالأخلاق الرضيَّة.
١٠-دوام الحرص على الازدياد من العلم والعبادات، وملازمة الجد والاجتهاد.
١١-ألا يستنكف عن الاستفادة ممن هو دونه نسباً أو منصباً أو سناً.
١٢- الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف، لأنه يتدرب على كرة البحث والتفتيش.
الفصل الثاني: في آداب العالم في درسه، وفيه اثنا عشر نوعاً:
١-إذا عزم على مجلس الدرس تطهر من الحدث والخبث، ولبس أحسن ثيابه إجلالاً للعلم.
٢- الإتيان بدعاء الخروج من المنزل، ثم يديم ذكر الله تعالى حتى يصل إلى ذلك المجلس.
٣-أن يجلس بارزاً لجميع الحاضرين، ويوقر أفاضلهم في العلم والصلاح والسن.
٤- أن يُقدم على الشروع في البحث والتدريس تلاوة شيء من كتاب الله تعالى تبركاً.
٥-وإذا تعددت الدروس عليه قدَّم الأهم فالأهم، والأولى فالأولى، بحسب ما يراه.
٦-ألا يرفع صوته زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه لا تحصل معه الفائدة.
٧-أن يصون مجلسه عن اللغط، فإن اللغط تحته الغلط.
٨-أن يزجر من تعدَّى في بحثه، أو ظهر منه لدد أو سوء أدب، أو ترك إنصاف.
٩-أن يلازم الإنصاف في بحثه وخطابه.
١٠-أن يتودَّد لغريبٍ حضر عنده، وينسط له ليشرح صدره، ولا يكثر الالتفات إليه.
١١-أن يختم كل درس له بقوله: (والله أعلم) وعلى ذلك جرت عادة العلماء.
١٢-ألا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً له.
الفصل الثالث: في أدبِ المُتَعلِّمِ في نفسِهِ، ومَعَ شيخِهِ ورُفْقتِهِ، وفيه أربعة عشر نوعاً:
١-أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق.
٢-ألا يمتنع من تدريس طالب لعدم خلوص نيته.
٣-أن يرغب طلابه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات.
٤- أن يُحب للطالب ما يُحب لنفسه، ويكره ما يكره لنفسه.
٥-سهولة الإلقاء في تعليمه، وحُسن التلطف في تفهيمه.
٦-أن يحرص على تعليمه وتفهيمه، ببذل جهده، وتقريب المعنى له.
٧-أن يلقي على الطلبة أسئلة يمتحن بها فهمهم عند الانتهاء من الدرس.
٨-أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظ، ويمتحنهم في ذلك.
٩-أن يوصي الطالب النهم بالرفق على نفسه؛ لئلا يملَّ ويضجر من الطلب.
١٠-أن يُذكّر الطالب بقواعد الفن التي لا تنخرم.
١١-ألا يُظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض في المودة، والرعاية مع تساوي صفاتهم.
١٢-أن يراقب أحوال الطلبة في هديهم، وآدابهم، وأخلاقهم الظاهرة والباطنة.
١٣-أن يسعى في مصالح الطلبة، وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر من مال وجاه.
١٤- أن يتواضع مع الطالب ومع كل مسترشد سائل، ويخفض له جناحه.
البابُ الثالث: في مُصاحبةِ الكُتُبِ، وما يتعلق بها من الأدَبِ، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: آدابه في نفسه، وفيه عشرة أنواع:
١-أن يطهر قلبه من كل غلٍّ وغش وحقد وحسد، وسوء عقيدة وخُلق.
٢-حُسن النية في طلب العلم.
٣-أن يُبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل.
٤-أن يقنع من القوت بما تيسر له، ولو كان قليلاً، ومن اللباس بما ستر.
٥-أن يٌسّم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره،
٦-وأكل القدر اليسير من الحلال، فإنه من أعظم الأسباب المعينة على الطلب.
٧-أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه، ويتحرى الحلال في مطعمه ومشربه وملبسه.
٨-أن يُقلل من استعمال المطاعم التي هي سبب البلادة وضعف الحواس.
٩-أن يُقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه على ثمان ساعات.
١٠-أن يُقلل العشرة سيما عشرة من لا ينفعه، ويقلل الفكرة؛ فإن الفكرة سراقة.
الفصل الثاني: في آدابه مع شيخه وقدوته، وام يجب عليه من عظيم حُرمته، وفيه ثلاثة عشر نوعاً:
١-أن يُقدم الطالب النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه.
٢-أن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، لأنه أعلى عيناً، وأكثر نصحاً.
٣-أن ينظره بعين الإجلال، ويعتقد فيه الكمال، ويخاطبه بما يليق به من الألقاب.
٤-أن يعرف له حقه، ولا ينسى له فضله، ويدعو له مدة حياته.
٥-أن يصبر على جفوةٍ تصدر من شيخه أو سوء خلق بدر منه، ويتأول أفعاله.
٦-أن يشكر الشيخ على هدايته لما فيه خير، وتنبيهه على ما فيه نقيصة.
٧-ألا يدخل على الشيخ في مجلسه العام إلا باستئذان؛ فإن لم يأذن له انصرف عنه.
٨-أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ.
٩-أن يُحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان.
١٠-إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة، أو فائدة مستغربة، أو يُنشد شعراً، وهو يحفظه أصغى إليه إصغاء مستفيدٍ له، متعطشٍ له، كأنه لم يسمعه قط.
١١-ألا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة، أو جواب سؤال منه أو من غيره، ولا يساوقه فيه، ولا يظهر معرفته به، أو إدراكه له قبل الشيخ.
١٢-وإذا ناوله الشيخ شيئاً تناوله باليمين، وإن ناوله شيئاً ناوله باليمين.
١٣-وإذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل، ووراءه بالنهار، وإلا يمشي معه بحسب الحال، ويصون الشيخ بنفسه ما أمكن.
الفصل الثالث: في آدابه في دروسه، وقراءته في الحلقة، وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة، وفيه ثلاثة عشر نوعاً:
١-أن يبتدئ أولاً بحفظ كتاب الله العزيز، وإتقانه، وتعاهده، ودراسة علومه، وتفسيره.
٢-أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات، ولا يغفل عن العمل الذي هو مقصود العلم.
٣-: أن يصحح ما يقرأه قبل حفظه تصحيحا متقنا، إما على الشيخ أو على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظا محكماً.
٤-أن يبكر بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده، ورجاله، ومعانيه، وأحكامه، وفوائده، ولغته، وتواريخه.
٥- إذا شرح محفوظاته المختصرات، وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات : انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة.
٦-أن يلزم حلقة شيخه في التدريس والإقراء، بل وجميع مجالسه إن أمكن.
٧- إذا حضر مجلس الشيخ سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعهم، وخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف.
٨-أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه وهم رفقاؤه ، فيوقر أصحابه، ويحترم كبراءه، وأقرانه.
٩-أن لا يستحيي من سؤال ما أشكل عليه، وتفهم ما لم يتعقله، بتلطف، وحسن خطاب، وأدب، وسؤال.
١٠-مراعاة نوبة أقرانه الدارسين معه، فلا يتقدم عليها بغير رضا من هي له.
١١-أن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدم تفصيله وهيئته في أدبه مع شيخه، ويحضر كتابه الذي يقرأ منه معه.
١٢-وإذا حضرت نوبته استأذن الشيخ كما ذكرناه، فإذا أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرحيم، ثم يسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي ﷺ وعلى آله وصحبه، ثم يدعو للشيخ ولوالديه، ولمشايخه ولنفسه ولسائر المسلمين.
١٣-أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل، ويدلهم على مظانه، ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه، ويهون عليهم مؤنته، ويذاكرهم بما حصله من الفوائد والقواعد والغرائب، وينصحهم.
الباب الرابع: في الأدب مع الكتب التي هي الله العِلْمِ وما يتَعَلَّقُ بِتَضحيحها وضَبْطِها وحَمْلها ووَضْعها وشرائها وعاريتها ونَسْخها وغَيْر ذلك، وفيه أحد عشر نوعاً:
١-ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، شراء، وإلا فإجارة أو عارية؛ لأنها آلة التحصيل.. وإذا أمكن تحصيلها شراء لم يشتغل بنسخها، ولا ينبغي أن أن يشتغل بدوام النسخ إلا فيما يتعذر عليه تحصيله لعدم ثمنه أو أجرة استنساخه .
٢-يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه بها ، وكره عاريتها ،قوم والأول أولى؛ لما فيه من الإعانة على العلم، مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر.
٣- وإذا نسخ من الكتاب أو طالعه فلا بُد من إذن صاحبه، ولا بد يضعه على الأرض مفروشاً منشوراً، بل يجعله بين كتابين أو شيئين أو كرسي الكتب المعروف كيلا يسرع تقطيع حبكه، وإذا وضعها في مكان مصفوفة فلتكن على كرسي أو تحت خشب أو نحوه..
ويقدم القرآن على غيره ثم كتب الأحاديث، ثم ما سواهما فإن استوى كتابان في فن أعلى أكثرهما قرآنا أو حديثا، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة وأكثرها وقوعاً في أيدي العلماء والصالحين، فإن استويا فأصحهما /ص ١٢٨/
٤- وإذا استعار كتابا فينبغي له أن يتفقده عند إرادة أخذه ورده، وإذا اشترى كتاباً تعهد أوله، وآخره، ووسطه، وترتيب أبوابه وكراريسه، وتصفح أوراقه، واعتبر صحته.
٥-وإذا نسخ شيئا من كتب العلوم الشرعية فينبغي أن يكون على طهارةٍ، مستقبل القبلة، طاهر البدن والثياب، بحبرٍ طاهر.
٦-وينبغي أن يتجنب الكتابة الدقيقة في النسخ، فإن الخط علامة فأبينه أحسنه.
٧-وإذا صحح الكتاب والمقابلة على أصله الصحيح أو على شيخ؛ فينبغي له أن يشكل المشكل، ويعجم المستعجم، ويضبط الملتبس، ويتفقد مواضع التصحيف.
٨- إذا أراد تخريج شيء في الحاشية -ويسمى اللَّحق (أو الساقط) بفتح الحاء، علَّم له في موضعه بخط منعطف قليلاً إلى جهة التخريح - وجهة اليمين أولى إن أمكن - ثم يكتب التخريج من محاذاة العلامة صاعداً إلى أعلى الورقة، لا نازلاً إلى أسفلها؛ لاحتمال تخريج آخر بعده، ويجعل رؤوس الحروف إلى جهة اليمين سواء كان في جهة يمين الكتابة أو يسارها.
٩- لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه ولا يكتب في آخره: (صح)؛ فرقاً بينه وبين التخريج، وبعضهم يكتب عليه: (حاشية) أو (فائدة)، وبعضهم يكتب في آخرها.
١٠-ولا بأس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول بالحمرة أو بخط مميز، ويمده فإنه أظهر في البيان، وفي فواصل الكلام.
١١- قالوا الضرب أولى من الحك لا سيما في كتب الحديث؛ لأن فيه تهمة وجهالة فيما كان أو كتب، ولأن زمانه أكثر فيضيع، وفعله أخطر، فربما ثقب الورق وأفسد ما ينفذ إليه فأضعفها، فإن كان إزالة نقطة أو شكلة ونحو ذلك فالحك أولى.
الباب الخامس: في أَدَبِ سُكْنى المدارس، وما يتعلق به من النفائس
١-أن ينتخب لنفسه من المدارس بقدر الإمكان ما كان واقفه أقرب إلى الورع، وأبعد عن البدع.
٢-أن يكون المدرس بها ذا رياسة وفضل، وديانة وعقل، ومهابة وجلالة، وناموس، وعدالة، ومحبة في الفضلاء، وعطف على الضعفاء، يقرب المحصلين، ويرغب المشتغلين، ويبعد اللعابين، وينصف البحاثين، حريصا على النفع، مواظباً على الإفادة.
٣-أن يتعرف بشروطها ليقوم بحقوقها، ومهما أمكنه التنزه عن معلوم المدارس فهو أولى، لا سيما في المدارس التي ضيق في شروطها وشدد في وظائفها.
٤-وإذا حصر الواقف سكنى المدارس على المرتبين بها دون غيرهم لم يسكن فيها غيرهم، فإن فعل كان عاصياً ظالماً بذلك، وإن لم يحصر الواقف ذلك فلا بأس إذا كان الساكن أهلاً لها.
٥-أن لا يشتغل فيها بالمعاشرة والصحبة، أو يرضى من سكنها بالسكة (الدينار والدرهم) والحظوة، بل يقبل على شأنه وتحصيله وما بنيت المدارس له، ويقطع العشرة فيها جملة؛ لأنها تفسد الحال وتضيع المآل كما تقدم، واللبيب المحصل يجعل المدرسة منزلاً يقضي وطره منه، ثم يرتحل عنه.
٦-أن يكرم أهل المدرسة التي يسكنها؛ بإفشاء السلام، وإظهار المودة والاحترام، ويرعى لهم حق الجيرة والصحبة، والأخوة في الدين والحرفة؛ لأنهم أهل العلم وحملته وطلابه ويتغافل عن تقصيرهم، ويغفر زللهم، ويستر عوراتهم، ويشكر محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
٧-أن يختار بجواره - إن أمكن - أصلحهم حالاً، وأكثرهم اشتغالاً، وأجودهم طبعاً، وأصونهم عرضاً؛ ليكون معيناً له على ما هو بصدده، ومن الأمثال: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق والطباع سراقة، ومن دأب الجنس التشبه بجنسه.
٨-إذا كان سكنه في مسجد المدرسة أو في مكان الاجتماع ومروره على حصره وفرشه فليتحفظ عند صعوده إليه من سقوط شيء من نعليه، ولا يقابل بأسفلهما القبلة، ولا وجوه الناس، ولا ثيابه، بل يجعل أسفل إحديهما إلى أسفل الأخرى بعد نفضها، ولا يلقيها إلى الأرض بعنف، ولا يتركها في مظنة مجالس الناس والواردين إليها غالباً.
٩-أن لا يتخذ باب المدرسة مجلساً، بل لا يجلس فيه إذا أمكن إلا لحاجة، أو في ندرة لقبض أو ضيق صدر، ولا في دهليزها المهتوك إلى الطريق، فقد نهي عن الجلوس على الطرقات وهذا منها أو في معناها، لا سيما إن كان ممن يستحيى منه، أو ممن هو في محل تهمة أو لعب؛ ولأنها في مظنة دخول فقيه بطعامه وحاجته.
١٠-أن لا ينظر في بيت أحد في مروره من شقوق الباب ونحوه، ولا يلتفت إليه إذا كان مفتوحاً، وإن سلّم سلّمَ وهو مار من غير التفات.
١١- أن يتقدم على المدرس في حضور موضع الدرس، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام، وربما فيهم معذور فيجد في نفسه منه.
ترجمة موجزة للعلامة بدر الدين بن جماعة
هو أبو عبد الله بدر الدين محمد بن إبـراهيـم بـن سـعـد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الشافعي.
ولد عشية الجمعة الرابع من ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وست مائة.
نشأ في بيت علم وديانة وقضاء، فأبوه القاضي برهان الدين ابن جماعة (ت: ٦٧٥هـ) من أهل العلم، وجده كذلك.
قرأ القرآن على والده، وأتقن كثيراً من المتون.
ولما شبّ سمع من شيخ شيوخ حماة شرف الدين عبد العزيز الأنصاري (ت: ٦٦٢هـ)، وسمع من الرضي ابن البرهان (ت: ٦٦٤هـ)، والرشيد العطار (ت: ٦٦٢هـ)، والتاج ابن القسطلاني (ت: ٦٦٥هـ)، والتقي ابن أبي اليُسر (ت: ٦٧٢هـ) ، وغيرهم أخذ أكثر علومه عن القاضي تقي الدين ابن رزين (ت: ٦٨٠هـ)، وقرأ النحو على الإمام ابن مالك (ت: ٦٧٢هـ).
كان -رحمه الله مكباً على العلم، مجتهداً في التحصيل، ففاق أقرانه، وعُرضت فتواه قديماً على النووي فاستحسن جوابه، وظهرت فضيلته، فولي قضاء القدس سنة (٦٧٥هـ) وهو في مقتبل عمره ثم عُزل، ثم أعيد إلى قضاء القدس سنة (٦٨٧هـ)، وولي مع ذلك الخطابة فيه.
ولم يزل على ذلك حتى طلب إلى مصر، فتولى قضاء الديار المصرية سنة (٦٩٠هـ)، وأضيف إليه الخطابة بالجامع الأزهر، ثم عُزل سنة (٦٩٣هـ)، وفي نفس السنة ولي قضاء الشام، ثم عُزل سنة (٦٩٦هـ)، ثم أعيد سنة (٦٩٩هـ)، وأضيف له الخطابة ومشيخة الشيوخ، ولم تجتمع هذه المناصب الثلاثة لأحد قبله.
ولم يزل على ذلك حتى توفي الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد (٧٠٢هـ) فأعيد إلى قضاء الديار المصرية واستمر حتى سنة (٧١٠هـ) فعزل، ثم أعيد سنة (٧١١هـ)، واستمر إلى أن سنة (٧٢٧هـ) عمي فعزل. ومع طول مسيرته في القضاء إلا أنه كان محمود السيرة، مسدد الأحكام، عفيف النفس.
أما التدريس، فله في ذلك جهود مشكورة، ففي دمشق: درس في القيمرية، والعادلية الكبرى والشامية البرانية، وغيرها. وفي القاهرة درّس في الصالحية والناصرية، والكاملية، وجامع الحاكم، وجامع ابن طولون، وغيرها.
وقد تتلمذ له خلق أبرزهم ابنه عز الدين (ت: ٧٦٧هـ)، والصلاح الصفدي (ت: ٧٦٤هـ)، والشمس الذهبي (ت: ٧٤٨هـ)، والتاج السبكي (ت: ۷۷۱هـ).
وأما التأليف، فله فيه مشاركة جيدة، ومن أشهر تصانيفه: المنهل الروي، والفوائد اللائحة من سورة الفاتحة، والتبيان لمهمات القرآن والمسالك فى علوم المناسك، والنجم اللامع في شرح جمع الجوامع، وغيرها
وتنوع تصانيفه يدلُّ على مشاركته في الفنون، فكان الله صاحب معارف واطلاع.
وكان - مع ذلك - ورعاً ، صيناً، وافر العقل، حسن الهدي، متين الديانة، زاهداً، ذا تعبد وأوراد.
وكانت فيه رياسة، وتودد ولين جانب، وقوة نفس في الحق، وحُسْن تربية من غير عنف ولا تخجيل.
وكان لله مليح الهيئة أبيض، مستدير اللحية، جميل البزة، دقيق الصوت، ساكناً، وقوراً.
وبعد حياة حافلة توفي الإمام ابن جماعة ليلة الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاثة وثلاثين وسبع مائة، فرحم الله ابن جماعة وأجزل له الثواب
- وقد أوسعُ دراسة كُتبت عن القاضي بدر الدين ابن جماعة دراسة أعدها الدكتور عبد الجواد خلف بعنوان «القاضي بدر الدين ابن جماعة حياته وآثاره تقع في (٤٣٨) صفحة، طبعت بالقاهرة سنة (١٤٠٨هـ) ضمن سلسلة منشورات جامعة الدراسات الإسلامية كراتشي - باكستان، فمن أراد التوسع فعليه بها.
- خرَّج عَلَمُ الدين البرزالي (ت : ٧٣٩هـ) مشيخة حافلة لابن جماعة، وقد طبعت في مجلدين عن دار الغرب الإسلامي بتحقيق الدكتور موفق بن بن عبد القادر - وفقه الله.