ليس من الإسلام
الشيخ محمد الغزالي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا المؤلَّف الأثير، والسِّفر النثير، والفكر المنير، للأديب المشير، والفقيه النحرير، والإمام البصير، الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله، صاحب التراث الفكري الغزير، والقلم السيّال، والفقه العالي، حبَّر فيه الأسس والمبادئ التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع الإسلامي (من الألفة والتعاون ونبذ الخرافات، وتنقية التراث)، وقد جمع فيه بين عناصر التراث الفكري والثقافي، وقدمه بأسلوب أدبي عالي، ليكون عوناً للجيل الحاضر على وحدته النفسية، وعوناً للأمة على وحدتها المستقبلية، وعلى وحدة المجتمع الجغرافية والتاريخية.
ولا شك أن كتب الشيخ الغزالي لها سمات عامة، وخصائص مميزة، فبالإضافة إلى أنها تفتق الأذهان، فإنها تحقق النظرة السامية للإسلام تجاه البشر، والكون، والحياة، كما أنها تتيح الفرصة أمام الفكر الإسلامي الأصيل أن يأخذ دورته في إصلاح الحياة، على أساس من الاجتهاد الخالص والحر، سعياً للإنطلاق بالأمة إلى الأمام، وهي لون من ألوان التربية الإسلامية بأسسها الفكرية والعقدية والتشريعية وبأهدافها، وعلى رأسها هدف عبادة الله وتوحيده والخضوع لأوامره وشريعته.
إضافة إلى ما ذُكر فإنها نقطة الانطلاق في مؤلفاته، تبدأ من التراث الإسلامي الزاخر، ممثلاً في المذاهب الفقهية، وأصحاب الرأي، وعلماء الأصول والكلام، والنظر فيما أنتجوه من ضروب التفكير المختلفة، كما أن عملها الفكري يستوعب مواهب النشء، ويعزز جوانب الأخلاق الحميدة، والعادات الصحية والسليمة.
ويحاول الغزالي في موضوعاته التي يطرحها: صون الفطرة الإنسانية من الزلل والانحراف، وتنمية روح الاعتزاز بالدين الإسلامي في نفوس المسلمين، والتأكيد على التزامهم بتعاليمه قولاً وفعلاً، ولعل أكثر ما يشكر عليه دوره الكبير في ترسيخ الهوية الثقافية الإسلامية، من خلال الجوانب المميزة لهذه الأمة، من: الدين واللغة والعلوم النافعة والقيم والعادات الأصيلة.
وساهم الغزالي بشكل كبير في إبراز الجوانب المضيئة في تاريخنا العربي الإسلامي، بما فيه من انجازات حضارية متنوعة، أسهم فيها العلماء المسلمون عبر التاريخ، محاولاً أن يصف الإيمان والعمل الصالح بطريقة عصرية، لكي ينهض بالحياة، وينقذ الجيل من براثن المادية المفرطة، والشهوات الكثيرة، لأن هذين الأمرين هما اللذان يُصدران الأمة، ويجعلانها أمة تفيض بالخير، حتى يشملها من نواحيها كلها، وينتفي عنها الفساد في كل شؤونها،
ويتجلى فقه الغزالي بصدق عباراته مع وجازتها، وشدة تأثيرها في نفس القارئ، يظهر ذلك في مثل قوله: (فَقْرُ الثَّقافةِ كفَقْرِ الدَّم؛ كلاهما دليلُ ضعْفٍ وَذُبول، وَنذيرُ شؤم وَهزيمَ!)، وقوله: (فرض الضرائب للأهواء الخاصة، لونٌ من السرقات، أو الغصب، وفرضها لمصلحة الجمهور لا شجار فيه)، وقوله: (الأصل أن تؤخذ الأحكام من الأدلة، لا أن تقرر الأحكام ثم يتصيد لها الأدلة)، وقوله: (الأمور العادية موجودة قبل وجود الدين، وقد تسير بعيدة عن هديه، وقد تلتزم بالحدود والآداب التي يصفها لها، ويوصي المسلمين بالتزامها)، وقوله: (نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فالأمور المتشابهة متقاربة)، وقوله (الفضائل الجليلىة لاتكونها المحاريب، قدر ما تكونها المعاملات الدقيقة، والتقاليد السامية)، وقوله (تورث قيادة الأمة كما تورّث التركات، ووراثة المناصب لا يقول بها دين).
ويمكن إجمال موضوعات هذا الكتاب، في ثلاث محاور، وهي:
١) أشبع الغزالي رحمه الله الكلام في البدع: أنواعها، وأقسامها، وأحكامها، وجرَّد أكثر من ثلث الكتاب للحديث عنها، ما يعده كتاباً قيماً يستحق الدراسة في مجال دراسة كل ما يتعلق بالبدع (انظر الكتاب: ص ٦٨ حتَّى ١١٢).
٢) تحدث أيضاً عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذا الانحراف الكبير في مسار التدين لدى الشعوب، وتطرق للفكر الإسلامي، وما يعتريه من قصور ونقص، وما يجب في حقه من النقد والتقويم، والفرق بينه وبين الإسلام كوحي سماوي، وليس اجتهاد بشري!.
٣) ردَّ كثيراً من المحدثات ابتداءً من طقوس المتصوفة، إلى همهمة السحرة، وتعاويذ الكُهَّان، والخوارق المبهمة، وتطرق إلى جملةٍ من بدع العادات في الأفراح، والجنائز، والأعياد، ، كذلك تطرق إلى بدع العقائد مثل: وحدة الوجود، واتخاذ الوسطاء، والتخاذل في ميادين الحياة (التواكل)، وزخرفة المساجد، وبناء القباب على القبور، وتحدث عن جملةٍ من بدع العبادات، مثل: التبتل، وقراءة الأدعية أمام الجنائز، ورفع الصوت بالذكر، وغيرها.
مقتطفات من الكتاب
هكذا يصف الغزالي حال الأمة
١) ما أكثَرَ الَّذِينَ يَجهَلُونَ الحقَّ، والَّذينَ يجحَدُونَه فِي هٰذهِ الحَياة.. وَما احوجَ المُتمَسِّكينَ بكِتَابِ اللهِ، وسُنّةَ رسُولِ الله ﷺ إلىٰ من يُهوِّنُ عليهِم وعثاءَ السَّفرِ وعناءَ المَسير.. وهم بينَ قومٍ غافلينَ، لا يَدرُونَ شيئاً مِن حَقائِق الدِّين وَمبانِيه.. وقومٍ ناقميْنَ يسيرونَ خلف أهْوائِهم وَشهوَاتهِم.
وإِزاءَ هذهِ الحالة لا بُدَّ مِن يقظةٍ قويَّة، تستهدِفُ إصلاحَ الفَساد، وتقويمِ الإِعوجاج.. في الوقت الذي يعيش فيه دُعاةَ الإِصلاحِ فِي غربةٍ حقيقيَّة.. ولكنها ليسَتْ غُربَة عُزلة وانزواء.. إنما هي غُربةَ رفعةٍ وارتِقَاء..
وَينْعَى الشَّيخ مُحمَّد الغزالِي عَلَى العُلماءِ دَوْرَهُم فِي الإِصلاح والتَربِيةِ وتَوجِيهِ النَّاس للحقِّ والصَّواب؛ فيقول: لماذا تقلُّ حظوظُ الجُمهور من المَعارِف الإسلاميَّة العميقة ؟!.. وإلى مَتى يبقون َفقراءَ فِي فَهمِ الحِكَم الدِّينية لما يَروْنَه من احكام ؟!
عناصر الإيمان وتوقير الحق
بقَدرِ ما يَفقِدُ النَّاسُ مِن عناصِر الإِيمان الْحقِّ، وَبِقَدْرِ ما يَقِلُّ فِي نُفوسِهم مِن تَوقِيرِ الله وتعظيمه، يكونُ ولعهُم بالأَهْواء، وَلَعبُهم بالفَضائِل، ولو كانُوا مُنتَمِينَ إلى رسالةٍ من رسالات السَّماء..{كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: ١٤) (ص ١٤- ١٥)
الدافع الأساس لتأليف هذا الكتاب
ونَجدُ أنَّ الدَّافعَ الأَساس لِتأليْفِ هٰذا الكتاب، ينبَثِقُ مِن تلك التساؤلات التي أطلقها الشيخ رحمه الله، ويُعِّقب مُجِيباً عليها وَمُبيناً لأهميَّة هذا الكِتاب؛ فيقول: نُريد أن نُقرِّب من الجماهير المسلمين ألواناً من العلم التي حُرموا منها (سنواتٍ طويلة)، والأصل أن تكونَ بينهم شائعة ذائعة !
وبدايةً: لا بُدَّ أن نفهم مبادئ الشريعة الإسلاميَّة، وهي:
١) أنها كُلها سماحةٌ ويُسرٌ وحُب؛ وأن مبناها هو الرحمة الشاملة، وتحقيق مصالح العباد في المعاش وفي المعاد، فلا مكان لإعناتِ العباد وإشقائهم، أو ظلمهم والإجحاف بحقوقهم، وكبت حُريَّاتهم.
٢) وأن تحرير العقل هو أساس الإيمان المحترم، والعقيدة المقبولة، بعيداً عن الموروثات الخاطئة، فهي مبنيَّةٌ على العلم الغزير المتراكم، والحوار الذكي، والفهم العميق للمعاني والمقاصد.
٣) وأن هدفها الأساسي هو التسامي وإصلاح النفس، وإيجاد الضمير المُهذَّب، الذي يحمل تقوى الله في السر والعلانية.
٤) وأنها تُجسد اليوم الآخر وتصوره، وتجعل الاستعداد له آية الرشد، ودليل الحصافة والفطنة.
٥) أنها توثق العلاقة بين أجيال البشر، وتحرص على ربط الأولين بالآخرين، والأقربين بالأبعدين، على قاعدة (الأخوة العامّة).
٦) أنها تعمل على دعم الفضائل، وقمع الرذائل في أرجاء المجتمع بعد أخذ الأفراد بضروب التربية المختلفة، وآخرها الحدود والعقوبات.
٧) أنها حربٌ على السلطان الطاغية، والفتن المضللة، التي من شأنها بلبلة الأذهان، وتوهين القوى، واستمرار ذلك حتى تتوطد في الأرض حرية الضمير والعقل، فلا يذل حقٌّ، ويضيع إيمان، و(ذلك هو الجهاد الصحيح).
٨) وأن رسالة أبنائها هي إعادة الصدارة لمصدري الوحي (القرآن، والسُّنَّة)، فهما بمنزلة الجذع التي تتفرع عنهما كُلُّ ثمرة.
٩) وأنها رفض ٌ للبدع بكل أشكالها، وصورها، واعتبارها مصدراً للانحراف، والغلو، والبعد عن حقيقة الدين، وسماحته، ويسره.
ذِكرٌ أم نسيان...؟! ص (١٦١- ١٦٦)
أخذ يختفي رويداً رويداً، ما يُعرف بـ"الرقص الديني"، أو "حِلقُ الذكر"..وهي ضرب من الهوس الذي يسود له وجه الدين.. واختفاءُ هذا النوع من العبادات المبتدعة، لا يعود إلى انتشار الفقه الصَّحيح للدين.. بل يعود إلى التمرُّد على الأديان جُملةً، بما فيها من حق، وما فيها من باطل.. وحيثُ لا يُنشر الإسلام الصّحيح، او العلم المجرّد، تجد العوام وأشباههم يدمنون هذا اللّون من الحركات الحمقاء وما يصاحبها من صيحات لا تتبين في بغامها بعض اسما ء الله -جلَّ جلاله- وهم يرددونها في تواجد، لا يُدرى مأتاه، ولا يُعرفُ مبدؤه ومنتهاه..
وفي زورة قريبةٍ للسُّودان، رايتُ في اعقاب الجُمَع جماهير من اتبَاع الطُّرق الصُّوفية المختلفة، يُعالجون هذه الطقوس الخرافية بإجلال واستغراق، ورأيتُ الشباب والشيب يقطرُ العَرَق من جباههم وجسومهم.. لطولِ ما يقفزون ويهتزُّون يمنةً ويسرة، ويَنعِقونَ بألفاظٍ يحسبونها ذِكراً، وما هي إلا النسيانُ التَّام، والحجابُ الغليظ..
فلما خرجتُ من المسجد -حيثُ الصورة المنكرة- واحتوتني ميادين العاصمة المثَّلثة، شاهدتُ ابناء الفرنجة مقبلين على الحياة في عزمٍ وأمل، يديرون المتاجر السامقة، وتسيل الثروة والقوة والجمال من بين أيديهم، ومن خلفهم..
فهززتُ رأسي أسفاً واستخياءً، وتذكرتُ ما قِيلَ أن الفقرَ العَربي يمشي على ارض من ذهب.. وتساءلتُ: ماذا كان على هؤلاء المُصلِّين بعدما فرغوا من صلاة الجُمُعة، لو خرجوا لينتشروا في الأرض، ويبتغوا من فضل الله، كما امرهم الله ؟
إنَّ الذين ابتدعوا هذه "الأذكار"، أضلُّوا المسلمين ضلالاً مزدوجاً.. أضلوهم إذ اضافوا إلى ما شرع الله هذه الزيادات المتخمة السَّامَّة.. وإذ صرفوا الهمم عن اعمال اخرى، كان الإقبال عليها أرجى في دين الله، وادنى إلى نفع الناس.. وقد أنكر الأئمة هذه الُّور الزائدة، وهي في طورها الأول، اي: يوم كان خيرها أظهر من شرِّها، ونفعها أقرب من ضُرِّها.. كما جاء عن ابن مسعود، والإمام احمد، وأبو زرعة وغيرهم..
إن الذكر كلام، والكلام لا بُدَّ -ليستفاد منه معنى معقول- ان يتكون من جملة كاملة..هبك اردتَ ان تذكُرَ شخصاً اسمهُ عُمر؛ فهل يحلو ذكرُه بان تقول: عُمر.. عُمر..الخ؟
وهل إذا قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَليكُمْ} (فاطر: ٣)، كان تنفيذ هذا الأمر بترديد بعض النِّعَم الَّتي نعرفها، فنقول: خبز... خبز.. خبز، او لحم.. لحم.. لحم.. !!
إنَّ فهم النَّاس على هذا النحو سُقوطٌ في التفكير..فكيف تُسَّلط هذه الافهامُ على كلامِ ربِّ النَّاسِ؛ فتنزلَ به بدلاً من ان يرتفعَ بها؟ ومع ذلك وُجِد من العوام جمهورٌ غفيرٌ، يرقص بكلمات مبتورة. ويزعمُ هوسَهُ هذا ذكراً لله..وليس لأحدٍ من البشرِ مهما علا شأنُه ادنى حقٍّ في اختلاقِ صيغٍ لذكر الله، أو إلزام قومٍ -قليلٍ او كثيرٍ- بها..
بل لا يجوز في الصيغِ نفسها، أن تُرسم لها أوقاتٌ مخصوصة، او اعدادٌ مُعيَّنة، ما دام الشارعُ قد اطلقها من هذه القيود.. بل وجدنا من اربب الطُّرق من صَنع للصَّباح والمساءِ اوراداً، وضمَّها إلى الصلواتِ الموقوفةِ دِيناً مع الدِّين..ولا تقُولنَّ: الِّذكرُ خير، والاستكثارُ منه ليس شَناعةً تستحقُّ النكير.. فإن الذِّكرَ خيرٌ حقاً، والاستكثار منه -قي حدود ما شرع الله- أمرٌ ندعو إليه، ولا يُتصوَّرُ ان يعترضَ عليه مسلم..
إن الذَّكر الذي شرعه الله لعباده أوسعُ من ان يكون حديثَ لسان، او ترديد كلام..ومن التهوُّرِ ان تحسب الاستكثارَ من شيء ما لأنَّه الدواء امراً محموداً!! ألا ترى أنَّ تناول قرصين من "الإسبرين" شفاء من الصُّدلع؟
لقد رأينا مُدمنِي "الأوراد والوظائف" ضائعين في ميدان العلم والتربية، ورأينا الإسلام قد تأخر بهم في ميادين الكفايات والإنتاج.. والعلَّةُ في هذا الارتكاس ان القوم قد ضلُّوا عن هدي رسول الله ﷺ؛ فزاغوا عن الصراط المستقيم..
الخلاف بين السنة والشيعة
يقول الغزالي ص ٦٥: أرى أن مسألة الخلاف بين الطائفتين السنية والشيعية قصيرة، وأن الحرص على حقيقة الإسلام ووحدة أمته يستطيع أن يقطع هذه المسافة بخط سراع، وأن استبقاء الجفاء بين أهل السنة والشيعة، لا يعتمد على عقل أو دين.
وينقل الغزالي كلام الشيعة في مصادر التشريع؛ فيقول عن كتاب (مع الشيعة الإمامية) للأستاذ العلامة محمد جواد مغنية (ً ٥٧-٥٨): -التمسك بالقرآن وهو ما في أيدي الناس -وأنه لا تحريف في القرآن -والحديث عندهم: آحاد (صحيح، حسن، موضوع، ضعيف)، ومتواتر وهو حجة، يجب التعامل به، واجتهاد أحد الصحابة، والصحيح هو إذا كان الرواي إمامياً، ثبتت عدالته بالطريق الصحيح. وهناك ٨٠ مليون شيعي مسلم.
الفرق بين الفكر الإسلامي والإسلام
الفكر الإنساني هو: المعالم والكيفيات التي يتم صياغتها في عبارات اصطلاحية، وعبَّرت عن ظروف مُعيَّنة بما يُناسب الأفراد والأجيال والظروف المحيطة، والوقائع المتجددة.. وقد تظهر فجوات في الفكر الإنساني عموما تجعل من بعض الأفكار غير صالحة للتطبيق أو محلاً للنظر..
والفكر الإسلامي لا يخرج عن كونه فكراً إنسانياً في دائرة الإسلام.. ويظلُّ الإسلام نعمة السَّماء.. ويبقى الفكر الإسلامي صنعة الإنسان في أرض المسلمين.. ومن يجعل من الفكر الإسلامي إسلاماً، يجعل في الواقع إسلاميات عديدة مختلفة لدين واحد.. فالفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صِنعةُ المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه..
١) والفكر الإسلامي مستحدث، ويخضع لقانون التطور، ولعوامل الاضمحلال.. أما الإسلام فله كتابه الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من عزيز حميد)..
٢) والفكر الإسلامي غير معصوم عن لخطأ والوهن.. والإسلامُ دينٌ معصومٌ عن ذلك كُلِّه.
٣) والفكر الإسلامي لا تجب له الطاعة إلا قدر ما فيه من تمثيلٍ لكتاب الله، ورسالة السماء.. ذلك لأنه أصالةً يخضع لقانوني النقد والمخالفة.. أما الإسلام، فله قداسته، وله حقُّ الطاعة المطلقة على المؤمنين به..
والخلاصة: الفرق بين الإسلام، والفكر الإسلامي، هو الفرق بين ما لله وما للإنسان!. والصلة بين الأمرين، هي الصلة بين شيئين، قام أحدهما على الآخر، ولا يُصوِّرُه تمام التصوير، أو يُعبِّرُ عنه تعبيراً مثالياً مُطابقاً.. (ص ١١٣- ١١٦)
هل بغضنا وعداوتنا للكفار تؤدي إلى نفورهم من الإسلام، وعدم اعتناقهم له ؟!...
ليس الأمر كذلك؛ بل على العكس تماما؛ فإن بغضنا وعداوتنا لهم حتى أخذ الجزية منهم، لا يعد انتقاما من ذواتهم، او كبتا لحرياتهم، أو تعنيفا لهم على سوء معتقداتهم، بل قد يكون ذلك داعيا لهم إلى إعادة النظر في تلك المعتقدات الباطلة التي يدينون بها: هل هي حق أو باطل؟
وقد يكون هذا مرغبا لهم في التعرف على دين الإسلام بعقائده، وأحكامه، وتشريعاته، وكذلك قهر المسلمين عدوهم بالأسر يدعوهم للنظر في محاسن الإسلام، وحسن خلق المسلمين انتهى..
الفرق بين تقاليد الشرق ومبادئ الإسلام
إن تقاليد الشرق غير مبادئ الإسلام، وأعمال الناس غير أوامر الله، والعُرف -مهما شاع- يُحكم عليه ولا يُحتكم إليه...
والتقاليد مهما استحكمت قد تكون باطلاً محضاً، أو خليطاً من حقٍّ وباطل.. والمرجع في ذلك كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ومن الظلم أن يُحمَّل الإسلامُ هذه الأثقال المترعة من نواحي سلوكنا.. فالعامة تحسب أن الملابس العربية مثلاً، هي بعض ما أوصى به الدِّين.. بل ويعتقدون أن ما فيها يُعدُّ شعاراً للإسلام؛ كالجُبَّة، والعَمامة، والسِّمات التي يظهر فيها عُلماء الأزهر، وهذه خُرافة!..
كذلك نلمح في بلادنا بناءٌ على الطراز الفرعوني، وبعضها عربي، وآخر أوردي، وفنون الهندسة تتفاوت جمالاً وإتقاناً..
ولا ينبغي أن يُوصف أحدها بأنه إسلامي، والآخر بأنه كفراني.. فهذا سُخف!. ومن شدة ما يلقى الناس من البدع في (العادات، والجنائز، والأفراح، والأعياد)؛ فإنهم يأخذون بها مُكرهين على ذلك، وقد رأينا من الفقراء المحتاجين إلى القوت من يستدين ليقيم هذه التقاليد التي استقرت في وهمه؛ حتى حسبها ديناً، أو شيئاً من الدين!..
وكان أولى بالمسلمين أن يتخفَّفوا من أثقال التقاليد التي تجعل أفراحهم وأتراحهم مباريات للنهم والاسترزاق، وغيرهما من المخالفات المادية والمعنوية، تمشِّياً مع تعاليم الدين المادية والمعنوية، وتمشِّياً مع تعاليم الدين، وبصراً بواقع أمرهم.. إن البساطة سُنَّةُ الإسلام في كُلِّ شيء،
ويمضي بعض (صعاليك المتصوفة وأدعياء المعرفة) في هذا الشطط؛ حتى يُقيم على الضريح قبراً، إظهاراً للميت بأنَّه من أولياء الله، أو بأنَّه من سلالة فلانٍ أو فلان، استغلالاً لهذه الرابطة على حساب الدين!..
ثم تتحول الزيارة إلى تقديس لهذه القباب والأضرحة،عبر طقوس تؤدى عند قبور الهالكين، من تقديم الأدعية والنذور، واستصراخ بهم في الأزمات والنوائب!. كل ذلك لأجل انتزاع للبركة المزعومة..
وكذلك كُلُّ ما يخترعه الجُهَّال من طقوس واهية الصِّلة بشرائع الإسلام وآدابه؛ فهي من قبيل الابتداع الخفيّ، كتبتل الرُّهبان، وتزمتهم، وعزوفهم عن الحلال الطيب، زيادةً في عبادة الله..
وكرفض النُّصوص والأقيسة الجليَّة اكتفاءً بما عليه التفكير الخاص، والرأي المُجرَّد، توهُّماً بأنَّ العقلَ يستطيع الوصول إلى مرضاة الله دون استعانةٍ بالوحي!.
كذلك ما حفت به المساجد من حلق الرقص المسماة ذكرا.. استدلالًا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (الأحزاب: ٤١، ٤٢)، فإنَّ الأمرَ بكثرةِ الذِّكرِ، وإدامَة التسبيحِ، لا يُعطِي أحداً من النَّاسِ حقَّ إضافةِ ركعةٍ إلى الصَّلاةِ، أو تشريعِ أذانٍ لصلاةِ العِيدِ، أو تأليفِ وِردٍ يَفرِضُ على الأُمَّةِ التزَامَهُ، أو ما قاربَ من ذلك، فإنَّ هذه العبادات صُبَّت في قوالبها الأخيرة، وليسَ يُسمَحُ لإنسانٍ مهما علا شأنُهُ أن يتزيَّد عليها جديداً..
إنَّ الذين يتواثبون في حفلٍ من أحفال الرقص الدِّيني، المُسمَّاةِ (ذِكراً)، إن اقتيدوا إلى مباراة كرة قدمٍ، لكان أجدى علهم وعلى الدِّين جميعاً... ثُمَّ لماذا نتكلَّف ما أعفانا اللهُ منه؟!.. أو نتعلَّق بما سكت عنه؟!.
ونصيحةٌ خالصةٌ لوجه الله، نرسلها إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يقلعوا عن تضخيم المقابر، فإنها نعرةٌ للفرد، ودعوةٌ إلى الأنانيَّة والتمايز، وإلى الارستقراطية الممقوتة، التي قتلت روح الإسلام والشرق.. وأن يعودوا إلى رحاب الدين، الذي سوَّى بين الناس جميعاً، أحياءً أو أمواتاً، لا فضلَ لأحدٍ على الآخر إلا بالتقوى!.. وما قدمت يداه من أعمال خالصة لوجه الله تعالى.. (ص ١٨١- ١٩٠).
لا مكان لوسطاء بين الله وخلقه في الإسلام
لا مكانَ فِي الإِسلامِ لوُسطَاءَ بينَ اللهِ وخَلْقِهِ، فإنَّ كُلَّ مُسلِمٍ مُكلَّفٌ أن يقفَ بينَ يَدي الله وَحدَهُ، مَهمَا كانَتْ حالتُه، مع يقينِه بأنَّ دُعاءَه ينتهِي إلى سمْعِ الرَّحمٰنﷻ، مِن غيرِ تدخُّلِ بشَرٍ آخرَ، أيَّاً كان شأْنُهُ..
والتَّحرُّج مِنَ الإِتّصال باللهِ مُباشرةً بحُجَّةِ الضِّعَةِ، والهَوان، والتقصيْرِ فِي جَنْبِ اللهِ، كانتْ جريمةَ الوثنيَّة القديْمَة، الَّتِي صَرفَتهُم عن عبادةِ اللهِ ودُعائِه..وَقَوْلُ البَعضِ: إِنِّي مُحتاجٌ إلى وسيطٍ يحمِلُ عنِّي إِلَى اللهِ مَا أُرِيدْ ! ما هُو إلّا رغْبَةٌ صَرِيحةٌ فِي الشِرك والكُفرِ..
وانتَهتْ هذهِ الأُمَّةُ إِلى أنَّ ذلٰك الأمرَ شِركٌ مُحرَّمٌ؛ بنص قوله سبحانه:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} الكهف/ ١٠٢. (ص ١٤٤- ١٤٥).
الفرق بين البدعة والمعصية
إنَّ البدعة شيءٌ آخر غير المعصية..فالمعصية: مُخالفةُ نصٍّ، أو تعطيلُ قاعدةٍ، مع بقاءِ كليهما قائماً واضحاً على ما جاءت به الشريعةُ المُحكمة.
أما البِدعَةُ: فهي إفسادُ النَّصِّ، والقاعدة جميعاً؛ إذ هي الخروج بالخطاب الإلهي عن حقيقته العليا، بإشرابه نوازِعَ الهوى، وإمالته عن الصِّراطِ السُّوى..
والعاصي: يُخالف ما أمر الله، وهو يدري ما أمر الله!.. وقد يتوبُ وتقرَّب إلى الله عاجلاً أو آجلاً..أما المُبتدعُ: فقد اضطربت في ذهنهِ معاني الدِّين؛ فهو يتقرَّبُ إلى الله بما لم يشرعه، وقد يُنفِّذُ له ما لم يفترضه، ولم يأذن له به..
وربما تحوَّلت المعصية إلى بدعة إذا جُعلت ديناً، فإنَّ التأكُّلَ بالقرآنِ حرام؛ لمخالفته قول الرَّسول ﷺ : "لا تأكلوا به". فإذا جَعَل ذلك ديناً، واستؤجرَ القُرَّاءُ لتشييع المُتَوفَّى، يتقرَّبُ بذلك إلى الله؛ فذلك إثمٌ مُركَّب من: عصيانٍ وابتداع!./ص 78/
مفاهيم لا تتماشى مع روح الإسلام
يقول الغزالي رحمه الله: ومن مواريثنا الباطلة، أننا نصف علوم الشريعة بالشرف، ونكاد نَصِمُ علوم الحياة بالهوان، مع أن هذه المعارف كُلُّها سواء في الدلالة على الله، وخدمة دينه!..
وربما يحسب الشاب مظهر الإخلاص لله عز وجل إذا انضمَّ لجماعةٍ من هذه الجماعات الإسلامية، أن يحترف الوعظ والإرشاد، وأن يدأب على قراءات مطولة في كتب التفسير والفقه واللغة، وما إليها، وقد يكون بعد ذلك طبيباً فاشلاً، أو مُهندساً هزيلاً..!.
إننا لننكر ما يشعر به بعض الشباب من أن الطاعة هي إدمان الذكر، والقراءة، والصلاة على نحوٍ مُمل..وهل يحسب هؤلاء أن القاضي المنشغل بالفصل بين الخصومات حين يسهر على تحضير قضاياه أقلُّ إرضاءً لله تعالى من هذا العاكف على قراءة كتابه؟!..
وهل يحسبون المُدرِّس المنشغل بحرب الجهل، حين يسهر على تحضير دروسه، أدنى حالاً من هذا الذكر العالي ؟! .. بالطبع لا!.. إن التمكُّن من الدُّنيا وعلومها أمرٌ لا بُدَّ منه في التمكُّن للدِّين، ولا مكان في الدُّنيا لجاهلٍ بمعارفها.. /ص ١٧٣/ .
خطر: الغلو، والجهل، والهوى
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ». رواه الآجري في الشريعة (١/ ٢٩٦)، مسند البزار (١٦/ ٢٤٧)
يقول الشيخ الغزالي رحمه الله -في شرح هذا الحديث:
● وقوله: (يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ)، يُشيرُ إلى من يقوم بالتشَدُّد والتنطُّع، ومن هذا النُّوع:
١) اختيار أشدِّ الأمرينِ على النَّفس عند تعارض الروايات، مع أنَّ المأثور عن النَّبي ﷺَِّ: "أنَّه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهُمَا". ويُشير إلى ذلك قوله ﷺَ: "لن يُشادَّ الدَّينَ أحدٌ إلا غَلَبه". وقوله: "لا تُشدِّدوا على أنفُسكم، فيُشدِّدَ اللهُ عليكم".
٢) حمل جميع أفعال النَّبيِّ ﷺَ على التعبُّد الذي يجبُ التأسِّي به، مع أنَّ كثيراً منها عاديَّات، لا تعبُّدَ فيها، ومنها ما هو خاصٌّ به ولا يُطلبُ التأسِّي فيها.
٣) اختار عبادات شاقّة، لم يأمر بها الشَّرع؛ كدوام الصيام، والتبتل (ترك الزواج)، والتزام السنن والآداب كالتزام الواجبات، وقد ردَّ النَّبيُّﷺَ على ابن عمر، والرهط الذين تقالُّوا عبادته، وأرادوا مشاقَّ الطاعات.
٤) إلحاقُ غير مشروعٍ بمشروع؛ لأنَّه -بحسب ظنِّ المُتنطِّع- يزيدُ في المقصود من التشريع، كالقراءة بصوتٍ مُرتفعٍ في المسجد، وقراءة الأدعيةِ أمام الجنائز دفعاً -كما يقولون- لتحدُّث الناسِ بكلام الدُّنيا في المساجد، والجنائز.. وكمن يتعبَّدُ بترك السُّحور؛ لأنَّه يُضاعِف من مشقَّةِ الصِّيام، وقهرِ النَّفسِ المقصودين من مشروعيَّة الصيام.. وكمن يتعبَّدُ بتحريمِ الزينةِ المُباحة، التي لم يُحرِّمها الله؛ لأنَّه يزيدُ في الحكمَةِ المقصودةِ من تحريمِ الذَّهبِ والفِضَّة.
● قوله: (وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)، يُشيرُ إلى من قال بتحسينِ الظنِّ بالعقلِ في الشَّرعيَّات ومُتابعةَ الهوى...
١) ومن هذا ما نراه ممن سَعوا في قضايا العقل، وجعلوها أصلاً للتشريع الإلهي، فاستباحوا بعقولهم فيه ما لم يأذن به الله، وما نعلمُ أنه لا يُرضي الله... فابتدعوا..
وأعانهم على الابتداع في العبادات أنهم نظروا فيما أدركه العلماء من أسرار التشريع وحكمته، وزعموا أن هذه الأسرار هي المقصودة لله في تشريع الأحكام، وأنها الأصل الداعية إليه، فشرعوا عبادات أخرى تحصيلاً لمثل هذه الأسرار التي عُهدت في بعض تشريع الله، وقد وقع كثيرٌ من الابتداع بهذا الطريق..
٢) كذلك، فإنَّه بحُكم العقل القاصر رُدَّت كثيرٌ من الأمورِ الغيبيَّة التي صحَّت بها الأحاديث؛ كالصِّراط، والميزان، وحشر أجساد العباد، والعذاب الجسمي، ورؤية الباري جلَّ وعلا..
٣) وبحكم العقل القاصر تُرك العمل بكثيرٍ من الأحكام الشرعيَّة جرياً وراء غيرها، لأنَّها أقوى -في نظرهم- في تحصيل الغرض المقصود من التكليف..
٤) وبحكم العقل القاصر زِيدَت عبادات وكيفيات، ما كان يعرفها أشدُّ الناسِ حرضاً على التقرُّبِ إلى الله..
٥) وكذلك يدخلُ في انتحالِ المُبطلين: اتِّباعُ الهوى، الذي يدفعهم إلى تقرير الأحكام التي تُحقِّقُ أغراضهم ومقصودهم، ثُمَّ يأخذون في تلمُّسِ الدَّليلِ، والمُجادلةِ عَنهُ..
وهذا الواقعُ يجعلُ الهوى أصلاً، تُحملُ عليه الأدلَّةُ ويُحكم به عليها، مما هُوَ قلبٌ لقضيَّة التشريع، وإفسادٌ لغرضِ الشَّارع من نصبِ الأدلَّة، فالأصلُ أن تؤخذ الأحكامُ لا تُقرَّر الأحكام ثُمَّ تُتصيَّدُ لها الأدلَّة.. والواقعُ يشهدُ أن متابعة الهوى من أشدِّ ما يكبَحُ جُماحَ الأديان، ويَفعلُ بها ما لا يفعَلُه شيءٌ سُواها.
● قوله: (وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)، يُشيرُ إلى الجَهلِ بمَصادِرِ الأحكامِ، وبأساليبِ فَهمِها مِن مصادرها.. والجهلُ مصادرهُ كثيرةٌ، منها:
١) الجهلُ بأساليب اللغة العربيَّة، ونشأ عنه، أن فُهمت بعض النُّصوصِ على غير وجهها الصَّحيح، وتسبب في إحداث ما لم يعرفه الأولون.
٢) الجهل بالسُّنَّة، ويشمل الجهل بالأحاديث الصحيحة، مما يُسبِّبُ إهدار الأحكام التي صحَّت بها الأحاديث.
٣) الجهل بمكانة السُّنَّةِ من التشريع، ويترتب عليه إهدار الأحاديث الصحيحة، وعدم الأخذ بها، فتحل مكانها بدعٌ لا يشهد لها أصلٌ من تشريع.
٤) الجهل بمرتبة القياس في مصادر التشريع، وهي التأخر عن السُّنَّة، وترتب عليه: أن قاس قومٌ مع وجود سُنَّةٍ ثابتة، وأبوا أن يرجعوا إليها فوقعوا في البدعة.
٥) الجهل بمحلِّ القياس في التشريع، ونشأ عنه: أن قاس الناس من متأخري الفقهاء في العبادات، وأثبتوا ما لم تُروَ به سُنَّة، ولا نُقل به عملٌ، مع توافر الحاجة إلى عمله، وانتفاء المانع، وهذا النوع من الابتداع هو أغرب أنواع الابتداع. /ص ١٠٦ - ١١٢/. بتصرف.
معنى البدعة في الشرع
يقولُ الشَّيخ مُحمَّد الغزالي رحمه الله: أما إطلاق البدع على كُلِّ جديدٍ في دين الله، ودُنيا النَّاس جميعاً؛ فأمرٌ أقربُ إلى معاني اللُّغةِ منه إلى مُصطلحاتِ الشَّريعةِ.. وقد جنحَ إليهِ القُرافيُّ، وعزُّ الدِّين بن عبد السَّلام، ولكنَّ ذلك لا يُسلَّمُ لهما، وإن كان في نهايته يصلُ إلى إنكار الإضافات المدسوسة على الإسلام كُلِّها؛ إذ لا خلاف بين العلماء على ذلك.. وإن اختلف تحديدهم لمدلول كلمة (بدعة!).
والتعريف الذي نختارهُ هو الذي ارتضاه الإمام الشاطبي، وقد درس في ضوئه المُحدثات الذميمة دراسةً أصيلة جيِّدة في كتابه (الاعتصام). يقول الشاطبي: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. والمبتدعُ في الدِّين يُعطي نفسه منزلةً ليست له، فإنَّ المُشرِّعَ الفرد لعباده جميعاً هو الله عزَّ وجل..
ولا يجوزُ لامرئٍ مهما رَسُخَ عِلمُهُ، ونَضِجَت تجرُبَتُهُ -أن يستحسِنَ عملاً من الأعمالِ، فيُضفِي عليها طابِعَ الدِّينِ، ويُروِّجَهُ بينَ النَّاسِ على أنَّهُ مِن عِند ربِّ العالمين، بل وَيُوهِمُ الأغرار بأنَّ فِعلَهُ مَثُوبةٌ، وتركَهُ تقصير..!. إنَّ هذا الابتداع هو الافتراءُ بعينِه على الوحي، والرُّسل، والرسالات..
وكيف يجيءُ أحدٌ -مهما كانت نيته ومنزلته- ليضُمَّ إلى أحكام الله أحكاماً من عند نفسه، ويقولُ: هذا حسنٌ ينبغي فعله ويقبحُ تركه في أمرٍ ما أنزله الله ولا استنَّه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ؟!. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (الشورى: ٢١).
إنَّ هذه النزعة إلى الألوهيَّة يعدُو بها الإنسانُ قدرَه، وتجاوز حَّده، ولا شكَّ أن التزيُّد على الدِّينِ ميلٌ مع الهوى! وأن ترك الإتِّباع الدَّقيق جَورٌ عن الطَّريق! {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: ٣٢). والَّذين يخلقون هذه المُحدثات يحملون وزر ضلالهم الخاصّ.. ووزر تضليل اللذين ينخدعون بهم ويستجيبون لهم،
وفي الحديث: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" صحيح مسلم (٤/ ٢٠٥٩).
وقال عزَّ وجل: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل: ٢٥).
ولِكُلِّ عِبادةٍ شعبٌ من شعاب القلب، تستقرُّ فيه، وتتعلَّقُ به، ولن يكون للمرءِ قلبان، ولا يُمكن أن تهبِطَ عليه قوى غير ما أُعد له، ووضع فيه!.
ومن ثمَّ لا محالة بين وضعين: إما أن يتجه بقلبهِ وقواه إلى السُّنَّة! وإما أن يتَّجِهَ بهما إلى البدعة!.. وأيُّ نشاطٍ في هذين النَّهجين؛ فهو على حسابِ الآخر.. والذين يشتغلون بالمُحدثاتِ ويتهافتون عليها يُضيِّعونَ من حقائقِ الإسلام الصَّحيح، ومن فرائضه المُحكمة بقدرِ ما عندهم من خرافات، واستهواهم من البدع!..
فليسَ خَطرُ البدعةِ أنها وسخٌ يشوبُ وجهَ الحقيقةِ فحسب! بل هي مرضٌ يُفقدُ الدِّين عافيته.. وينقص قلبه وأطرافه..ولذلك قال ابن مسعود: الاقْتِصَادُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي بِدْعَةٍ. وروى أبو داود، عن معاذ بن جبل أنه قال يوما: إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن، والمنافق، والرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والعبد، والحر.
فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره؛ فإياكم وما ابتدع؛ فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
وكلمةُ مُعاذ هذه تُفسِّرُ لنا كيف أن بعض أهل الدِّين -وخصوصاً المتصوِّفة- ركَّبُوا أوراداً، وأذكاراً للعامَّة؛ كما يُركِّبُ الطَّبيبُ الجاهلُ أدويةً سيِّئة، فيُقبلُ عليها المفتُونونَ بصلاحِ رؤسائهم، ويُضيِّعونَ أوقاتَهُم سُدى في أعمالٍ ما طلبها الله فِي فريضةٍ أو نافِلَة..
وعلى قدر ما ينشغلون في هذه الأذكار المُبتدعة، ينسون من مطالب الإسلام الحقَّة ما يشفي ويرفعُ رؤوسهم!.. ومن المُتيَقَّن أن ابن مسعود لا يقصد بهذه الكلمة إعطاء الأمَّة حقَّ الزيادة في كتابها أو النقص منه.. بل كان ابن مسعود أشدُّ الصَّحابةِ حساسيَّةً بمساربِ الهوى والسلوك العام؛ ولذلك وقفَ للبِدَعِ بالمرصاد، يُطاردها ما هان منها وما جلَّ.. ويُسارعُ إلى المُحدَثاتِ وهي وليدةٌ في مهدها، فيقتُلَها!.. فمن السَّخَف تصيُّدُ كلمةٍ كهذهِ للاستدلال بها على جواز الابتداع في الدِّين!..
وقد وردت آثارٌ أساء البعضُ فهمَها؛ إذ ظنَّ أنها تُعطيهِ الحقَّ فِي تحسينِ أفعالٍ مُعيَّنة وترغيب الناس في إتيانها، بوصفِها قربةً مشروعة..
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ" صحيح مسلم (٤/ ٢٠٥٩).
ومنه أيضاً ما نُسب للرسول صلى الله عليه وسلم: "مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن" الانتصار لأصحاب الحديث (ص: ٢٧). والحديثُ الأوَّلُ الّذي من روايةِ مُسلمٍ لا يُفيد البتَّة أن الاختراع في الدِّين جائز..
إذ ليس هناك سُنَّة حسنةً إلا ولها من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم مُعتمَد.. وهذا الحديث يُشبه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حيثٍ آخر: "مَن دَعا إلى هُدى فَلَهُ أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة..". وقوله: "الدَّالُ على الخير كفاعله..". فالهُدى الَّذي دعا إليه هُو السُّنَّة الحسنة، وهو الخير الذي يرضاه الله لعباده، وليس من الهُدى أن تستدرك على الله شيئاً فاته! أو على رسوله أمراً نَسِيَهُ !..
نعم!.. هناك إرشادات يتسع نطاق تنفيذها، وتتعدد صُوَرُ إقامتها، وتتجدَّدُ على مرِّ العُصورِ طُرقُ الأخذِ بها.. ومثلُ هذا النوعِ من الإرشاد مجالٌ لتسابق الهمم، وإبداع الوسائل.. فالسُّنَّةُ الحسنة -بعدما تمهَّد- يجبُ أن تكونَ وحياً من الله، أو هدياً لنبيِّه، أو عملاً يتماشى مع هذا المنهج، ويُستقى من ذلك النبع!.
إن قبول الزيادة في الدِّين بدعوى أنها حسنةٌ كقبولِ الحذف من تعاليمه، بدعوى أنها رديئة!.. أو غير مسايرة للتطوُّر!.. وكلا الأمرين ضلالة!!..
فلا يُقبلُ من أحدٍ أن يُهدِرَ شيئاً شرعه الله،
كما لا يُقبَلُ من أحدٍ أن يُشرِّعَ شيئاً سكتَ اللهُ عنه!..
وفي الحديث: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَّدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَتَرَكَ أَشْيَاءَ غَيْرَ نَسْيَانٍ؛ رَحْمَةً لَكُمْ، فَلَا تَبْحَثُوهَا".(رواه البيهقي في سننه: ١٩٧٢٥، والحاكم في المستدرك: ٧١١٤). /ص ٦٨- ٨١/.
الفرق بين تقاليد الشرق ومبادئ الإسلام
إن تقاليد الشرق غير مبادئ الإسلام، وأعمال الناس غير أوامر الله، والعُرف -مهما شاع- يُحكم عليه ولا يُحتكم إليه... والتقاليد مهما استحكمت قد تكون باطلاً محضاً، أو خليطاً من حقٍّ وباطل.. والمرجع في ذلك كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ومن الظلم أن يُحمَّل الإسلامُ هذه الأثقال المترعة من نواحي سلوكنا.. فالعامة تحسب أن الملابس العربية مثلاً، هي بعض ما أوصى به الدِّين.. بل ويعتقدون أن ما فيها يُعدُّ شعاراً للإسلام؛ كالجُبَّة، والعَمامة، والسِّمات التي يظهر فيها عُلماء الأزهر، وهذه خُرافة!..كذلك نلمح في بلادنا بناءٌ على الطراز الفرعوني، وبعضها عربي، وآخر أوردي، وفنون الهندسة تتفاوت جمالاً وإتقاناً.. ولا ينبغي أن يُوصف أحدها بأنه إسلامي، والآخر بأنه كفراني.. فهذا سُخف!.
ومن شدة ما يلقى الناس من البدع في (العادات، والجنائز، والأفراح، والأعياد)؛ فإنهم يأخذون بها مُكرهين على ذلك، وقد رأينا من الفقراء المحتاجين إلى القوت من يستدين ليقيم هذه التقاليد التي استقرت في وهمه؛ حتى حسبها ديناً، أو شيئاً من الدين!.. وكان أولى بالمسلمين أن يتخفَّفوا من أثقال التقاليد التي تجعل أفراحهم وأتراحهم مباريات للنهم والاسترزاق، وغيرهما من المخالفات المادية والمعنوية، تمشِّياً مع تعاليم الدين المادية والمعنوية، وتمشِّياً مع تعاليم الدين، وبصراً بواقع أمرهم..
إن البساطة سُنَّةُ الإسلام في كُلِّ شيء، ويمضي بعض (صعاليك المتصوفة وأدعياء المعرفة) في هذا الشطط؛ حتى يُقيم على الضريح قبراً، إظهاراً للميت بأنَّه من أولياء الله، أو بأنَّه من سلالة فلانٍ أو فلان، استغلالاً لهذه الرابطة على حساب الدين!..ثم تتحول الزيارة إلى تقديس لهذه القباب والأضرحة،عبر طقوس تؤدى عند قبور الهالكين، من تقديم الأدعية والنذور، واستصراخ بهم في الأزمات والنوائب!. كل ذلك لأجل انتزاع للبركة المزعومة..
وكذلك كُلُّ ما يخترعه الجُهَّال من طقوس واهية الصِّلة بشرائع الإسلام وآدابه؛ فهي من قبيل الابتداع الخفيّ، كتبتل الرُّهبان، وتزمتهم، وعزوفهم عن الحلال الطيب، زيادةً في عبادة الله..
وكرفض النُّصوص والأقيسة الجليَّة اكتفاءً بما عليه التفكير الخاص، والرأي المُجرَّد، توهُّماً بأنَّ العقلَ يستطيع الوصول إلى مرضاة الله دون استعانةٍ بالوحي!.
كذلك ما حفت به المساجد من حلق الرقص المسماة ذكرا.. استدلالًا بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } (الأحزاب: ٤١، ٤٢).
فإنَّ الأمرَ بكثرةِ الذِّكرِ، وإدامَة التسبيحِ، لا يُعطِي أحداً من النَّاسِ حقَّ إضافةِ ركعةٍ إلى الصَّلاةِ، أو تشريعِ أذانٍ لصلاةِ العِيدِ، أو تأليفِ وِردٍ يَفرِضُ على الأُمَّةِ التزَامَهُ، أو ما قاربَ من ذلك، فإنَّ هذه العبادات صُبَّت في قوالبها الأخيرة، وليسَ يُسمَحُ لإنسانٍ مهما علا شأنُهُ أن يتزيَّد عليها جديداً..
إنَّ الذين يتواثبون في حفلٍ من أحفال الرقص الدِّيني، المُسمَّاةِ (ذِكراً)، إن اقتيدوا إلى مباراة كرة قدمٍ، لكان أجدى علهم وعلى الدِّين جميعاً… ثُمَّ لماذا نتكلَّف ما أعفانا اللهُ منه؟!.. أو نتعلَّق بما سكت عنه؟!.
ونصيحةٌ خالصةٌ لوجه الله، نرسلها إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يقلعوا عن تضخيم المقابر، فإنها نعرةٌ للفرد، ودعوةٌ إلى الأنانيَّة والتمايز، وإلى الارستقراطية الممقوتة، التي قتلت روح الإسلام والشرق.. وأن يعودوا إلى رحاب الدين، الذي سوَّى بين الناس جميعاً، أحياءً أو أمواتاً، لا فضلَ لأحدٍ على الآخر إلا بالتقوى!.. وما قدمت يداه من أعمال خالصة لوجه الله تعالى.. (ص ١٨١- ١٩٠).
الفرق بين البدعة الحقيقية والإضافية
البدعة الحقيقية، هي التي لم يدل عليها دليلٌ من كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماع، أو لم يشهد لها فهمٌ مُعتَبرٌ يصلها بأصول الإسلام.. والبدعة الإضافيَّة، هي: أمورٌ تعتريها اعتبارات مختلفة، تجعلها سُنَّةً من وجه، وبدعةً من وجهٍ آخر..
فإذا نظرت إليها من وجهٍ، وجدتها تستند إلى قاعدة سليمة، أو نصٍّ مُعيَّن.. وإذا نظرتَ إليها من ناحيةٍ أخرى رأيتَ عناصر الاختراع واضحاً فيها، وذلك من الأحوال المُحدثة التي تكتنفها، فختمُ الصلاةِ بالتسبيحِ والتحميد والتكبير لم يختلف العلماء في ندبه للأحاديث الصحيحة التي وردت به.. وكان الرسول وصحابته يختمون صلاتهم فُرادى مُسرِّين.. حتَّى جاء من نظم هذه الأذكار، ورأى أن يقوم أحد المصلين بجمع النَّاس عليها، على نحوٍ يربط أهل المسجد به!..
ثم تأدَّى ذلك إلى أن أصبح المنوط به هذا الختم يُنَعِّمُ صوته بالذكر والدعاء، وجمهور المُصلِّين ويُؤمِّنُ، ثُمَّ ينصرف.. فختمُ الصلاة سُنَّة، ولكنّ هذه الهيئة الجديدة لأدائه بدعة.. والطاعنون فيها يرون الوقوف عند الأدلة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والآخذون بها يحسبون ذلك نوعاً من التعاون المشترك على إقامة سُنَّةٍ قد يُهملها النَّاسُ مُنفردين..
وقريبٌ من ذلك -أيضاً- قراءة سورة الكهف قبل صلاة الجُمُعة.. فالمعروف عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أنهم كانوا يسعون لأداء فريضة الجمعة، فإذا بلغوا المسجد دخلوا صامتين، وجلسوا خاشعين، لا يتغيِّرُ من سكينتهم ووقارهم شيء، حتَّى يستمعوا إلى الخطبة، ويؤدُّوا الصلاة.. ولم يجئ أمرٌ البتَّة بجعل قراءة سورة الكهف من الشعائر المرتبطة بصلاة الجمعة، كما يفعل النَّاس اليوم!!.
غير أنه وردت (سُنَنٌ ضِعافٌ) تستحبُّ قراءة هذه السُّورة، وسورةٍ أُخرى يوم الجمعة أو ليلتها.. روى الحاكم عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف يوم لجُمعة، أضاء له من النُّور ما بينه وبين الجُمعة". وذكر رواية أخرى: "ليلة الجمعة".
ولو غضضنا الطرف عما قيل في هذه الأحاديث الضعيفة، وقبلناها في موضوعها، وما كان إنفاذها يعني جمع النَّاس على قارئ لها بهذه الصورة الجاذبة.. فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاءه الراشدين، وجماهير الأمَّة ظلُّوا قروناً عديدة، يُقيمون الجُمعَة، مُجرَّدة من قراءات سابقة أو لاحقة..
وفعل ما فعله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وترك ما تركه (هو السُّنَّةُ) الحريَّةُ بالنظر.. والمسلمون اليوم يجعلون قراءة سورة الكهف قبل الجُمعَة، وظيفةٌ تربط لها المرتبات، وتُتَخيَّرُ لها الأصوات، وبالتالي تُتَصيَّد لها الفتوى!!.
ومن البدع الإضافية: إلحاق الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآذان، حتَّى إنَّ العامَّة يحسبونها جُزءاً من الأذان نفسه.. والأذان كلمات محفوظة، حددتها النُّصوص الواردة..
وكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وجماهير السَّلف مُجرَّداً من أيَّة إضافة.. أما الصَّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُنَّةٌ أخرى، لها صيغتها، وموطنها، وأحكامها..
والمسلمون إذا سمعوا الأذان نُدب لهم أن يُرددوا كلماته، وأن يُصلُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود..
وقد جاء من اختراع الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، صيغاً غريبة، وضُمت لألفاظ الآذان؛ كي بجمعها الأداء في نسقٍ واحد..
فكان هذا الاستحداث دخيلاً على أسلوب هذه الشعيرة.. وانضمَّ إلى ذلك حرص المؤذنين على التطريب والتمايل وهم يدعون النَّاس إلى الله.. فتحولت سُنَّةُ الآذان إلى لحنٍ هزيل، بعدما كانت نداءً جادَّاً مَهيباً..
ومن هذه الأمثلة نُدرك أن البدع الإضافيَّة أعمالٌ أُخذَ أغلبها من تعاليم الشريعة الثابتة أو المتوهمة، ثُمَّ طرأ عليها تصرُّفات وأوضاع خرجت بها عن حدود العقيدة..
فأصل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سُنَّة، ولكنَّ كيفيته بدعة!.
ولا يُقبل الاستدلال بقوله تعالى: {إنَّ الله وملائكته يُصلُّون على النَّبيّ يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلُّوا عليهِ وَسلِّموا تسليماً}.. لتسويغ هذا الابتداع.. فلن نكون أدرى من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وصحابته بطريقة الأداء المطلوبة!..
وقد اخترع العامَّةُ صلاةً في رجب، وأخرى في شعبان، يؤدونها بنيَّات مخصوصة، وتساهل بعض العلماء في تجويز هذه الصلوات المبتدعة، باعتبار أنَّ الصلاة مُطلقاً ليست أمراً مُنكراً.. وقال النوويُّ مُندِّداً بهم: بدعتان، موضوعتان، منكرتان، قبيحتان، ثُمَّ قال: ولا تغترَّ بذكرهما في كتاب (قوتِ القلوبِ)، و(إحياء العلومِ)؛ فالصَّلاةُ في أصلها مشروعة، وتخصيصها في هذا الوقت بدعة.
كذلك صيامُ السابع والعشرين من رجب، والخامس عشر من شعبان، فأصل الصوم عبادة، وتخصيص هذه الأيام بدعة.. ولعلَّ ما يستدعي العجب في سيرة هؤلاء، إسراعهم في اتِّهامِ من يُعلِّمُهم الدِّين الحقّ!..
فإذا جرَّد الأذان مما لحقه ليعودَ به إلى عصر السَّلف، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا فيمن يُحاول ذلك: يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهم يعلمون أنما ننكرها من جهة أنها ابتداع، وهذا الكلام منهم يُراد منه التشهير بالدَّاعي إلى السُّنَّة..
يقول الأستاذ العدوي: وقد أخبرني أحد أصدقائي، أن أحد الشيوخ إذا أراد التنكيل بصاحبه الذي يُعلم النَّاس الدين!.. دعا العوام، وقال لهم: ما تقولون في الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: هي من الدِّين!..
فيقول: إن فلاناً يُنكرها!!. وماذا تقولون في الاستغفار وقراءة القرآن؟..
فيقولون: الاستغفار عبادة، كذا قراءة القرآن!!.. فيقول لهم: إن فلاناً يُنكرهما..
فلما سُئل الشيخ: كيف تقول ذلك، وأنت تعلم ما يعني؟!..
قال: أريد تنفير العامَّةِ منهُ، حتَّى لا يسمعوا له نصيحةً أخرى!..
ومثل هذا المُفتي يجمع إلى ضلالة الابتداع إثمُ رمي النَّاسِ بالبُهتان! (ص ٩١- ٩٤)