سمات الداعية المؤثر عند ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم
د. محمد بن فهد الحربي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن الإيمان الراسخ هو مطلع كل فضيلة، ومنبع كل إحسان، كما أن فساد القلب واتباع الهوى هما أصل كل شر، والحجاب المانع لقبول الحق، ولذلك ينبغي على كل امرئ أن يعتني بأحوال قلبه، لأن القلب إذا صفا سما، وكان المرآة المجلوة التي تنعكس فيه صور الحقائق، وأملاً أعلى يسري إلى البصيرة فيفتح لها أبواب المشاهدة والفكر واليقين.
ويكفينا من ذلك كله: التمسك بكتاب الله تعالى، والتزم هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن أمضى ذلك على نفسه؛ فقد أخذ بحظه إلى طريق الخيرات، وعاد عليها بمجامع البركات، ولا بد للداعية المتميز أن يخضع لبرامج تربوية ودعوية تمنحه الكفايات اللازمة لممارسة هذا العمل العظيم، بالإضافة إلى ما لديه من قدرات وإمكانات ومواهب، فالإنسان لا يمكنه أن يشيد قصراً في الهواء، ولا أن يشيده على غير أساس، وكل فكرة وموهبة وعمل لا يرتكز على أسس يقوم عليها، فإنما هو بناء في هواء، وما يفسد أكثر مما يصلح.
وموضوع هذا الكتاب عن الداعية المؤثر، وهو القائم بأمر الدعوة، المتميز إيمانياً وروحياً وعلمياً، ولديه رصيد ثقافي جيد، بالإضافة إلى اتصافه برجاحة العقل، وحسن التدبير، وفهم موضوعات الدعوة الملحة، والقادر على توظيف المناهج والأساليب المتنوعة في خدمة دعوته.
وخلاصة ما فيه أته بجيب عن تساؤلين مهمين: الأول مفهوم الداعية المؤثر، والثاني: سمات الداعية المؤثر من خلال استقراء كتاب (جامع العلوم والحكم) لابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى، والموسوم بـ(جامع العلوم والحكم)، ويعد الحافظ ابن رجب أحد الوعاظ الكبار، حيث كان له مجلس في الوعظ والتذكير، وكانت الفرق تجتمع عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه.
وفكرة الكتاب: استخلاص السمات والملامح الدعوية المتصلة بالداعية المؤثر، والتي بلغها ثلاثة عشر سمة، ولعل سبب اختيار هذا الكتاب:
١- أنه حوى جملة من العلوم النافعة، والقواعد المتينة.
٢-كما أن مادته تتعلق بكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ شرح فيه مؤلفه خمسين حديثاً من جوامع الكلم
٣- بالإضافة إلى ما للكتاب من شهرة واسعة، وقبولاً بين يدي طلبة العلم وغيرهم.
٤-ولكون مصنفه من شيوخ الإسلام الكبار، وله جهوده الدعوية المتميزة.
جامع العلوم والحكم
جامع العلوم والحكم كتاب حديثي شهير، واسمه الكامل: (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم)، ألَّفه الحافظ ابن رجب الحنبلي المتوفي سنة ٧٩٥ هجرية.
والكتاب في أصله شرح للأربعين حديثاً النووية (نسبة للإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى ٦٧٦ هجرية)، وقد زاد ابن رجب على هذه الأربعين ثمانية أحاديث على نفس النسق، وقد جاء الكتاب جامعاً لعلوم كثيرة، يسهل على العامي فهمها، ولا غنى للمتعلم عن معرفتها، وبعد دراسة الكتاب وتبين ما فيه، ظهر لنا مجموعة من السمات التي تميز بها هذا الشرح، منها:
أولاً: تناول ابن رجب الكلام على الحديث صحة وضعفا وتخريجاً.
ثانياً: تناول الكلام على العقائد والأحكام فأبدع وأفاد.
ثالثاً: تضمنه جملة كبيرة من أقوال السلف، والتي تصلح مواضيع للوعظ والتذكير.,
رابعاً: جمعه ما يتعلق بعلم الدعوة، وعلم التفسير، وعلم التاريخ، وعلم السيرة، وغيرها.
وقد ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله سبب تأليف كتابه؛ فقال: "وَقَدْ تَكَرَّرَ سُؤَالُ جَمَاعَةٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لِتَعْلِيقِ شَرْحٍ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَمْعِ كِتَابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ مَا يُيَسِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَعَانِيهَا، وَتَقْيِيدِ مَا يَفْتَحُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ تَبْيِينِ قَوَاعِدِهَا وَمَبَانِيهَا، وَإِيَّاهُ أَسْأَلُ الْعَوْنَ عَلَى مَا قَصَدْتُ، وَالتَّوْفِيقَ لِصَلَاحِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ فِيمَا أَرَدْتُ، وَأُعَوّلُ فِي أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وَأَبْرَأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا إِلَيْهِ".
التعريف بالإمام ابن رجب
اسمه ونسبه: هو الإمام العلامة الحافظ المحدث الفقيه الواعظ زين الدين عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي.
كنيته ولقبه وشهرته: يكنى بأبي الفرج ولقبه زين الدين، واشتهر بابن رجب وهو لقب جده عبد الرحمن.
ولادته ونشأته: ولد سنة ٧٣٦ هـ، ببغداد، وأرخ الحافظ ابن حجر في (الدرر الكامنة) ولادته في سنة ست وسبعمائة، ولعله سبق قلم من الناسخ. ونشأ الإمام ابن رجب في بيت والده، وتربى داخل أسرة عريقة في العلم والصلاح، فجده عبدالرحمن له حلقة في بغداد يعلم يدرس فيها الحديث، حضرها الإمام ابن رجب غير مرة وهو ابن خمس سنين. وأبوه أبو العباس نشأ ببغداد وسمع من مشايخها ولقب بالمقرئ فقد قرأ بالروايات وأقرأ بها.
أبرز شيوخه: تتلمذ ابن رجب الحنبلي على جلة من الشيوخ ومن أبرزهم:
١. أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة الفقيه النحوي، شيخ الحنابلة المشهور بابن قاضي الجبل المتوفى سنة ٧٧١هـ.
٢- الإمام عبد الله شمس الدين ابن القيم المتوفى سنة ٧٥١هـ.
٣- عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله بن علي بن مسعود البغدادي الفقيه الإمام الفرضي المتوفى سنة ٧٣٩ هـ.
٤- علاء الدين علي بن زين الدين المنجا المتوفى سنة ٧٤١هـ.
٥- محمد بن عبد الهادي المقدسي.
٦-شمس الدين أبو عبد الله الجماعيلي.
٧- علاء الدين بن الطار الدمشقي الشافعي.
أبرز تلاميذه: تتلمذ على ابن رجب الحنبلي الكثير من طلبة العلم الشريف، ومن أبرزهم:
١- علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد البعلي الحنبلي، المعروف بابن اللحام المتوفى سنة ٨٠٣ هـ.
٢- الإمام المفسر الفقيه المحدث زين الدين عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الكرم الدمشقي الصالحي الحنبلي الشهير بأبي شعر المتوفى سنة ٨٤٤ هـ.
٣- الإمام الواعظ قاضي القضاة صدر الدين أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح المتوفى سنة ٨٢٥هـ.
٤- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن خليل بن طوقان الدمشقي المعروف بابن المنصفي المتوفى سنة ٨٠٣هـ.
٥- الإمام بدر الدين الزركشي.
ثناء العلماء عليه: لقد أثنى على الإمام ابن رجب رحمه الله كثير من العلماء وأشادوا بعلمه وفضله ومكانته، وشهدوا له بالحفظ والإمامة.
قال عنه الحافظ ابن حجر في كتابه (إنباء الغمر): "رافق شيخنا زين الدين العراقي في السماع كثيراً، ومهر في فنون الحديث أسماء ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه".
وقال عنه تلميذه ابن اللحام: سيّدنا وشيخنا الإمامُ العالمُ العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام، مجلى المشكلات، وموضح المبهمات أبو الفرج عبدُ الرَّحمن زين الدين بن رجب البغدادي الحنبلي، والله في عونه، وأعاد على الكافة من بركته بمنه وكرمه.
وقال ابن حجي: أتقن الفن وصار أعرف أهل عصره بالعلل، وتتبع الطرق وكان لا يخالط أحداً ولا يتردد إلى أحد.
وقال أبو المحاسن الدمشقي: الإمام الحافظ الحجة، والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد، والأئمة العباد، مفيد المحدثين، وواعظ المسلمين.
وقال السيوطي: هو الإمام الحافظ الفقيه الواعظ.
وقال ابن العماد الحنبلي: الإمام العالم العلامة، القدوة الزاهد البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي.
وفاته توفي في رمضان رحمه الله -سنة ٧٩٥ هــ بدمشق، وفن بالباب الصغير، بجوار الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي، المتوفى سنة ٤٨٦ هـ، وكان الشيرازي من أعلام الحنابلة، والذي نشر مذهبهم في دمشق، وتخرج بابن رجب غالب الحنابلة بدمشق,
مؤلفاته: ألف الإمام ابن رجب تأليف كثيرة في مختلف العلوم كالتفسير والحديث والفقه والرقائق، فمن ذلك:
١. تفسير سورة النصر، طبع بتحقيق محمد ناصر العجمي، الدار السلفية - الكويت ١٤٠٧هـ.
۲. تفسير سورة الإخلاص، طبع بتحقيق محمد ناصر العجمي الدار السلفية - الكويت ١٤٠٧هـ. .
٣. شرح علل الترمذي ، طبع بتحقيق نور الدين عتر، دار الملاح، دمشق ۱۳۹۸هـ .
٤. الذيل على طبقات الحنابلة، طبعته دار المعرفة، بيروت
٥. جامع العلوم والحكم، تحقيق د. ماهر الفحل، دار ابن كثير، وتحقيق شعيب الأرناؤوط وهي الطبعة التي اعتمدتها في هذا البحث.
٦. فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبع بتحقيق طارق بن عوض الله محمد، دار ابن الجوزي.
۷. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف طبعته دار الجيل، بيروت. وغيرها كثير.
سمات الداعية المؤثر عند ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم
عند قراءة الباحث كتاب جامع العلوم والحكم خرجت بجملة وافرة من القضايا المتعلقة بالدعوة والدعاة، وقد قام الباحث بحصر ما يتعلق بالدعاة في النقاط الآتية:
أولاً: الرفق والشدة في الدعوة:
الرفق من أهم سمات الداعية، وهو أيضاً من أساليب الدعوة إلى الله، يفتح الله به القلوب، وهو سبب للقبول وانقياد النفوس، قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».
وقال تعالى مبيناً لنبيه خطورة الغلظة في الدعوة: ﴿فَمَا رَحْمَةِ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأَعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]
فيتعين على الدعاة إلى الله التحلي به في كل أحوالهم، قال الإمام ابن رجب: "وَبِكُلِ حَالٍ يَتَعَيَّنُ الرِّفْقُ فِي الْإِنْكَارِ"
فالرفق واللين هو الأصل في الدعوة إلى الله، وربما انتقل الداعية عن هذا الأصل وقدم جانب الشدة والعنف حسب موقف المدعو، وما يراه من الحكمة الشرعية حال دعوته، يقول ابن رجب: "فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ يُحِبُّ اجْتِلَابَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى بَابِهِ؛ فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الدَّعْوَةَ بِاللَّينِ وَالرِّفْقِ، احْتَاجَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الشَّدَّةِ وَالْعُنْفِ عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ".
فهذا الأسلوب منشؤه الرحمة بالمدعو، ليس للتشفي والانتصار عليه، وقد استخدمه إمام الدعوة محمد ﷺ في دعوته تجاه بعض القضايا فمن ذلك:
١- القول على الله بغير علم: فعن ابن عباس قال: أصاب رجلاً جرح في عهد رسول الله ثم احتلم فأُمره أصحابه بالاغتسال، فاغتسل فمات فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «قتلوه قتلهم الله ألم يكن شفاء العي السؤال».
۲ – التساهل في إزهاق الأرواح بغير وجه حق، فعن أسامة قال: بعثنا رسول الله ﷺ في جيش إلى الحرقات من جهينة؛ فلما يعني هزمناهم ابتدرت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فقال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وظننت أنه إنما قالها تعوذاً، فقتلته، فرجع الأنصاري إلى النبي ﷺ فحدثه الحديث، فقال النبي ﷺ: (يا أسامة؛ قتلت رجلاً بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟، فما زال يقول ذلك حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ).
ثانياً: البلاغ المبين:
أمر الله عز وجل نبيه ﷺ بالبلاغ والتذكير، فقال: ﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧].
وقال تعالى: ﴿فَذَكَرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنِ وَلَا مَجْنُونِ﴾ [الطور : ٢٩]، وقال الإمام ابن رجب مفسراً الآية وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا عَلَيْكَ تَذْكِيرُهُمْ بِاللَّهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَلَسْتَ مُسَلَّطًا عَلَى إِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ قَهْرًا وَلَا مُكَلَّفًا بِذَلِكَ.
فعلى الداعية أن يهتم بعلم البلاغة فهي أداة التأثير وجذب الألباب حيث تضيف لدعوته ونصحه مزية خاصة؛ يستطيع بها التأثير في نفوس المدعوين، يقول ابن رجب: "وَالْبَلَاغَةُ فِي الْمَوْعِظَةِ مُسْتَحْسَنَةٌ، وذلك لأنها: أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الْقُلُوبِ وَاسْتِجْلَابِهَا".
والبلاغة تكون في عدة أمور:
١-الهيئة: بحيث يكون إلقاؤه على وجه مؤثر، كما كان حال النبي ﷺ، يقول جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ».
٢-حسن اختيار الألفاظ بحيث تكون جزلة، مترابطة محددة الموضوع.
٣-الفصاحة: أن يبلغ غايتها بحسب الإمكان، فيكون كلامه: سليم التركيب، موافقا للغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال.
ثالثاً: معرفة الباعث على الدعوة:
الدعوة إلى الله عز وجل من أجل العبادات، وأفضل الطاعات، وخير القربات، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَلِحَا وَقَالَ إِنَّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت : ٣٣]
رابعاً : اجتناب الشبهات ومواطن الريب:
الداعية الفطن من يجنب نفسه ودعوته مواطن الريب والشبهات، استبراءً لعرضه وإلى ما يدعو إليه، متأسيا بقول النبي ﷺ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
قال الإمام ابن رجب: "فَمَنِ اتَّقَى الْأُمُورَ الْمُشْتَبِهَةَ وَاجْتَنَبَهَا، فَقَدْ حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ الْقَدْحِ وَالشَّيْنِ الدَّاخِلِ عَلَى مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا"، وقال: "مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ، فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالْطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهم، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ".
خامساً: الانتصار للحق لا للأشخاص والأحزاب:
من سمات الداعية الصادق التسليم للحق ، فلا يصده هوى أو تعصب عن قبول الحق والأخذ به أيا كان قائله، ولو استلزم ذلك بطلان قوله؛ لأنه غير باحث عن انتصار شخصي، بل غايته انتصار الحق وإرشاد الناس إليه، لا انتصار شيخه أو حزبه أو جماعته.
قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: (الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا)، قال الشيخ ابن عثيمين: يجب على الإنسان أن يعرف الحق بالحق لا بالرجال؛ فما دام أن هذا الذي قيل قيل حق فاتَّبَعْه من أي كان مصدره؛ فاقبل الحق للحق؛ لا لأنه جاء به فلان، وفلان؛ فالداعية الصادق لا يصده الهوى والتعصب عن قبول الحق والعمل به والالتزام بمدلوله، ولو ترتب على ذلك بطلان قوله، فغايته من ذلك انتصار الحق وظهوره.
سادساً: الدعوة بالبين حلاله أو البين حرامه أولى بالدعوة إلى المختلف فيه:
من معالم المنهج الدعوي تقديم المحكم على المتشابه، والقطعي على الظني، والمبين حلاله والمبين حرامه على المختلف فيه، قال الامام ابن رجب: "وَفِي الْجُمْلَةِ فَمَا تَرَكَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَلَالًا إِلَّا مُبَيَّنًا وَلَا حَرَامًا إِلَّا مُبَيَّنًا، لَكِنَّ بَعْضَهُ كَانَ أَظْهَرَ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ، فَمَا ظَهَرَ بَيَانُهُ وَاشْتَهَرَ وَعُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَكٍّ، وَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهْلِهِ فِي بَلَدٍ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِسْلَامُ".
فالمسائل البين حلالها أو البين حرامها مسائل قطعية مجمع عليها؛ فيحرم الاختلاف فيها، ويجب التسليم بها، والانقياد لها، وأما ما كان من باب الظنيات فالأمر فيه واسع وجائز الاختلاف فيه، قال الإمام ابن رجب: (وَالْمُنْكَرُ الَّذِي يَجِبُ إِنْكَارُهُ: مَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فيهِ... فَلَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ مُجْتَهِدًا فِيهِ، أَوْ مُقَلِدًا لِمُجْتَهِدٍ تَقْلِيدًا سَائِغًا).
سابعاً: الدعوة إلى الله حسب الاستطاعة:
من أهم سمات ديننا الحنيف، وشريعتنا السمحة، رفع الحرج والمشقة عن الأمة، والإتيان بما هو مستطاع للمكلف، فالنصوص الشرعية تضافرت بذلك، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِم".
ثامنا: الإخلاص وتصحيح النية:
الأصل في دعوة الداعية ابتغاء وجه الله، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ۱۰۸].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَلِحَا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: ۳۳]. فلا يريد بدعوته رياء ولا سمعة ولا ينتظر مدح أحد أو ثناءه، بل غايته تبليغ دين الله كما أمره بذلك الله.
تاسعاً: العناية بصلاح قلوب المدعوّين:
الداعية المؤثر يستهدف إصلاح القلوب التي بصلاحها تصلح أجساد الناس وجوارحهم، قال ابن رجب في شرحه حديث النبي ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا الْقَلْبُ».
عاشراً: إقامة مجالس الوعظ:
من الوسائل الدعوية التي يمكن للداعية من خلالها دعوة الناس وتعليمهم دينهم مجالس الوعظ لكي يحرك قلوبهم وتتأثر مشاعرهم مع عدم الإطالة فإن ذلك من فقه الداعية.
فحري بالداعية الحرص على إقامتها، فهي من السنن النبوية التي كان النبي يفعلها، ففي حديث العرباض بن سارية: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَوْعِظَةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب».
قال ابن رجب معلقاً على ذلك: "كَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مَا يَعِظُ أَصْحَابَهُ فِي غَيْرِ الْخُطَبِ الرَّاتِبَةِ، كَخُطَبِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿أَوْلَبِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَليغا﴾ [النساء : ٦٣]، وقال: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النَّحْلِ : ١٢٥]
حادي عشر: تغير حاله عند الموعظة وتنويع أساليب الدعوة:
إن تغير حال الواعظ الداعية- في وعظه مما يلفت انتباه المدعو، ويجعل لكلامه تأثيراً في نفسه، قال الإمام ابن رجب رحمه الله في صفة مواعظ النبي ﷺ: "وَكَانَ ﷺ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، كَمَا قَالَ جَابِرٌ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا خَطَبَ، وَذَكَرَ السَّاعَةَ، اشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاحْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ»
ثاني عشر : الدعوة إلى التوحيد وإصلاح العقيدة:
التوحيد هو الأصل الذي ينطلق إليه كل داعية بصير بما في كتاب الله وسنة رسوله ، فيبصر المدعوين أن التوحيد أساس الإسلام وأصله، وأنه سبب للغفران، ودخول الجنان، به تصلح القلوب، وتستقيم الجوارح، وتحقق الاستقامة على طاعة الله، قال الإمام ابن رجب: "أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ هِيَ التَّوْحِيدُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةَ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ ... فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ إِلَهُهَا الَّذِي تَأْلَهُهُ وَتَعْرِفُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَخْشَاهُ هُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ".
ثالث عشر: النصح بالحسنى لمن أوجب الشارع نصحهم:
بين الإمام ابن رحمه الله في شرحه لحديث الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «الله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
والنصيحة كَلِمَةٌ يُعبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحٍ لَهُ، قَالَ: وَأَصْلُ النَّصْحَ فِي اللُّغَةِ الْخُلُوصُ، يُقَالُ: نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا خَلَّصْتُهُ مِنَ الشَّمْعِ (۳)، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَتَضَمَّنُ قِيَامَ النَّاصِحِ لِلْمَنْصُوحٍ لَهُ بِوُجُوهِ الْخَيْرِ إِرَادَةً وَفِعْلًا
الخاتمة:
بعد هذا التطواف بين أفياء هذا الكتاب الفريد (جامع العلوم والحكم)، أسجل النتائج الآتية:
١. الداعية المؤثر هو الذي يعيش واقع أمته وقومه، ويحاول جذبهم وإصلاح أحوالهم قدر استطاعته.
٢. حوى كتاب جامع العلوم والحكم الحديث عن جميع أركان الدعوة، وكانت سمات الداعية بارزة في ثناياه.
٣. للإمام ابن رجب رؤية ثاقبة وثقافة موسوعية ظهرت عند شرحه للأحاديث النبوية ومعالجتها من كافة النواحي.
٤. الداعية يجب أن يكون وثيق الصلة بمجتمعه لكي يعالج السلبيات التي تظهر في الواقع