أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 18 فبراير 2023

التعصب المذهبي وأثره في التفسير د. عبد السلام محمد قناوي محمد بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

التعصب المذهبي وأثره في التفسير

د. عبد السلام محمد قناوي محمد

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد/ لا بد لكل من أراد فهم كتاب الله تعالى الفهم الصحيح من السير على قواعد محددة، تُنصف النص، وتضبط الفهم، وتكشف عن مراد الله تعالى في كتابه، وهي ما نُسميها (قواعد التفسير الصحيح)، والتي من أهمها التجرد عن الميل والهوى، وفي طليعتها التعصب للمذهب، أياً كان هذا المذهب فكرياً أو عقدياً أو فقهياً أو لغوياً أو سياسياً، بالإضافة إلى مطابقة المعنى للفظ من حيث صدق الدلالة، مع السلامة من التكلف، والبعد عن التعسف.

ولما بدت بوادر التعصب والهوى تكثر في الأمة، وضع هؤلاء المتعصبة على التفسير ما ليس منه، وروجوا من خلاله الحكايات الباطلة والمكذوبة، وادعوا أنها مطابقة لحكاية النص وفحوى النص وإشارة النص، وتشعبت الآراء والفرق وتجاذب كل فريق الآيات بحسب فهمه هو، وكثر الاختلاف إلى الحد الذي صار فيه أهل كل مذهب يتعصب لمذهبه وينتصر له، ضارباً بقواعد التفسير وأصوله عرض الحائط.

وبدأ التفسير يعاني مما داخله من الإسرائيليات، والقصص والحكايات المخترعة، فاختلط الأمر على كثير ممن لا دراية لهم بعلم التفسير، فالتبس الصحيح بالسقيم، فخرج التفسير عن مقصوده وغايته، حيث حملوا كلام الله على وفق أهوائهم، ومقتضى نزعاتهم ونحلهم.

ولعل أهم الأسباب لوجود هذا التعصب أن ينظر الأتباع والمقلدين لنص إمامهم نظرهم إلى نص الشارع، وتقديس التابع للمتبوع، فوقفوا جهدهم العلمي على نُصرة مذهب إمامهم وترويجه، حتى أنهم بذلوا كل ما في وسعهم لإبطال مذهب المخالف وتفنيده وإن كان يحتمل الصواب بوجه من الوجوه،

ويتناول هذا البحث ظاهرة التعصب المذهبي المذموم، ويكشف خطورته على تفسير كتاب الله تعالى، كما يكشف عن أسباب التعصب المذهبي (والتي أوصلها إلى ثمانية أسباب)، ومظاهره (على الصعيد الفقهي والعقدي)، ويكشف أثر الخلافات الفقهية، والعقدية على التعصب المذهبي. 

وقد تعرض الباحث لذكر أكثر الفرق التي اتسمت بالتعصب المذهبي كالشيعة، فالتفسير الشيعي مذهبي إلى حد التطرف والغلو، وكذلك المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل، ويؤولون النصوص تأويلاً يوافق مذهبهم. 

ثم تطرق إلى بيان أثر التعصب المذهبي في التفسير، وكشف عن تسببه في ظهور البدع وانتشارها، ونقل الإسرائيليات، والموضوعات إلى كتب التفسير، ومخالفة نصوص القرآن والسنة مخالفة صريحة رغم ظهور الأدلة والبراهين، وحدوث حالة من الجهل، والفوضى الفكرية فيما يتصل بالقرآن ومعانيه. كما يكشف عن خطره في فتح المجال أمام المستشرقين لمحاولة النيل من التراث الإسلامي، والطعن في نصوص القرآن الكريم من خلال ما يجدونه في كتب التفسير المذهبي من بدع وخرافات.

أهمية اختيار هذا الموضوع:

١-أهمية الموضوع، وخطره على التفسير، لا سيما إذا انتهج البعض في عصرنا الحالي نهج الفرق المتعصبة، فتعصب لشخص أو مذهب دون دراية بعلم التفسير وقواعده.

٢-أن الكلام عن التعصب المذهبي منثور في كتب علوم القرآن، ومناهج المفسرين، ولم أجد من تناول الموضوع باستفاضة، فأردت أن أتناوله وافياً شافياً بقدر الوسع والطاقة.

٣- التنبيه على ما دخل التفسير من الدخيل - خصوصاً الإسرائيليات -بسبب التعصب المذهبي؛ للوقوف على قواعد التفسير الصحيح.

٤- التنبيه على ما يقع من التحريف المتعمد لنصوص القرآن من بعض الفرق المتعصبة، والتحذير من السير على نفس النهج.

٥- بيان ما يترتب على الموضوع من آثار سيئة على التفسير؛ مما يفتح مجالاً لأعداء الإسلام من المستشرقين، وغيرهم للطعن في كتاب الله عز وجل، والنيل من قدسيته.

منهج الباحث في دراسته:

١- ذكر نماذج للتعصب المذهبي في الفقه، والعقيدة، وهي أهم المجالات التي يظهر فيها التعصب المذهبي.

٢- ذكر أمثلة لأهم الكتب التي غلب عليها التعصب المذهبي، ومن أمثلتها كتب "أحكام القرآن" في المذاهب المختلفة

٣- ذكر نماذج لأهم الفرق التي تتسم بالتعصب المذهبي، كالمعتزلة، والشيعة، مع ذكرت النماذج التي تبين تعصبها في تفسيرها للنصوص القرآنية.

٤- عزو الآيات القرآنية، ونسبتها إلى مواضعها من سورها بذكر رقم الآية والسورة.

٥- تخريج الأحاديث والآثار الواردة في البحث من كتب السنة، والحكم عليها بحسب الوسع والطاقة.

٦- ترجمة الأعلام الواردة في البحث ترجمة موجزة بذكر النسب، والنشأة، وأهم المصنفات، وتاريخ الوفاة.

٧- بيان معاني بعض الكلمات الغريبة، والتي قد يشكل فهم معناها على القارئ.

خطة البحث:

اشتملت خطة البحث على الآتي:

أولاً: المقدمة: وقد اشتملت على أهمية علم التفسير، وخطورة التعصب، وخطة البحث، ومنهجي فيه، والسبب الذي دفعني للكتابة فيه.

ثانياً: التمهيد: وقد اشتمل على بيان مفردات البحث، ومصطلحاته.

ثالثاً: موضوع البحث، وقد اشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مظاهر وأسباب التعصب المذهبي.

المبحث الثاني: نماذج من التعصب المذهبي في التفسير.

المبحث الثالث: أثر التعصب المذهبي على التفسير.

رابعاً: الخاتمة: وقد اشتملت على أهم النتائج والتوصيات.

خامساً: الفهارس: وقد اشتملت على فهرس للمراجع والمصادر، وفهرس للموضوعات.

المقصود بالتعصب المذهبي

 والمراد بالعصبية، أو التعصب عموماً: الانتصار للخطأ، وترجيحه على الصواب مما يجعل صاحبه يتشدد فيرى نفسه على حق، ويرى غيره على باطل بلا حجة أو برهان.

فالمتعصب يستعين بعصبة من الناس سواء كانت قومية أو طائفية أو مذهبية ليؤيدوه وينصروه في باطله، وبالطبع فإن هذا التعصب لا يعرف التسامح، ولا يطلب الحق لذاته، ولا ينشده تحت ضوء البحث الحر والنقد البريء.

وهو في الأساس مشكلة نفسية عند نفس الشخص المتعصب، وتنعكس هذه المشاكل على آرائه وأفكاره ومعتقداته، وهي تمثل حاجزاً كثيفاً عن رؤية الحق، ومصدراً قوياً للتمادي في الباطل.

وتكمن أهمية هذا البحث في بيان خطر التعصب المذهبي على التفسير، وما قد يعرض للتفسير من هذا التعصب، وليحذر القارئ من التمذهب المذموم، والسير عن نهج المتعصبين، فيخل بتفسير كتاب الله عز وجل.

ويمكن أن نجمل أسباب التعصب المذهبي ومظاهره فيما يأتي

أولاً: الانتصار لمذهب أو لرأي دون الرجوع للحق:

ذلك أن التعصب ناتج عن شخصية المتعصب الذي لا يرى غير رأيه، فإذا ما وجد ما يخالف رأيه أنكره، وتعصب لرأيه، فينبغي على المفسر أن يكون متجرداً للحق، لا يقوده تفسيره للعصبية، والقول على الله بغير حق.

ثانياً: التقليد:

ويقصد به: العمل بقول غيرك بلا حجة: والتقليد المذموم أنواع:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.

وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه.

ثالثاً: الخلافات السياسية والمذهبية:

وهذا السبب من أهم وأخطر أسباب التعصب المذهبي؛ إذ أن التعصب ناتج عن شخصية المتعصب الذي لا يرى غير رأيه، فإذا ما وجد ما يخالف رأيه أنكره، وتعصب لرأيه، فينبغي على المفسر أن يكون متجرداً للحق، لا يقوده تفسيره للعصبية، والقول على الله بغير حق.

رابعاً: حركة الوضع:

فقد كان التعصب المذهبي سبباً من أسباب الوضع في التفسير، فإَن ما جَّد من افتراق الأُمة إلى شيعة وخوارج، وجمهور جعل كل طائفة من هذه الطوائف تحاول بكل جهودها أن تؤيد مذهبها بشئ من القرآن، وهذا السبب لا يقل خطراً عن سابقه، بل هو أشد؛ إذ أنه يحمل في طياته من الخبث، والكيد ما يربو على مجرد الخلاف؛ حيث يتعمد صاحبه الكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهاه عن ذلك نهياً شديداً، وجعل عقوبته النار، فما أقل عقله!، وما أقبح ذنبه!.

خامساً: التعسف في التأويل:

فكثير من الفرق إنما ينظر من تفسير القرآن، والحديث فيما يقوله موافقوه على المذهب، فيتأول تأويلاتهم، فالنصوص التي توافقهم يحتجون بها، والتي تخالفهم يتأولونها، وكثيرٌ منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلاً، وهذا في البدع الكبار مثل الرافضة والجهمية.

سادساً: السير مع الأهواء والبدع:

فالتعصب الأعمى يدفع الإنسان إلى أن ينسى عقله، ويطرح تفكيره الصائب، ليمشى مع الهوى بعقل فارغ، وعليه فمنشأ البدعة من أمرين: أحدهما: التعصب للمذهب، والنصرة له، ومخالفة مذهب الحق. الثاني: التعسف في التأويل لرد المذهب المخالف، وهذا منشؤه الخطأ في الدليل، أو المدلول.

سابعاً: الترجيح بدون دليل:

وهذا هو الغالب في ظل التعصب المذهبي، وتمسك كل ذي رأي برأيه، فيلجأ كل فريق إلى سرد الأدلة التي تقوي مذهبه، وتضعف مذاهب المخالفين دون نظر إلى قواعد الترجيح، بل يرجح بهواه، وباستحسانه، وهذا خطأ.

ثامناً: تغليب العقل على النقل:

فقد وضع أهل العلوم العقلية، والفنون النظرية قواعد عقلية جعلوها قانوناً كلياً يرجع إليه في أمور الدين، ومسائله ومنها علم التفسير، وهذه القواعد منشأ تحريفهم وانحرافهم، وسبب تقديمهم العقل على النقل، ووسيلة لرد النصوص القرآنية وتأويلها تأويلاً باطلاً. وقد تصدى الإمام ابن تيمية -رحمه الله -في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" للرد على هذا القانون، وهذه النزعة العقلية.

* من  نماذج التعصب المذهبي في الفقه:

- الإمام أبو بكر الجصاص من الحنفية في كتابه (أحكام القرآن) قد تعصب لمذهبه إلى الحد الذي جعل فيه بعض الآيات في جانبه، وذكر  لذلك أمثلة منها (وجوب إتمام صوم التطوع)، (وجواز عقد المرأة النكاح لنفسها).

- والإمام الكيا الهراسي من الشافعية في كتابه (أحكام القرآن)، وقف من الجصاص الحنفي موقفاً كان فيه شديد المراس، قوى الجدال، قاسى العبارة، فاقتص منه، ورماه بالعبارات الساخرة، والألفاظ المقذعة، وذكر لذلك أمثلة منها (تفسيره للعول بكثرة العيال)، و(رده على الجصاص القائل بتحريم أصول وفروع المرأة المزنيّ بها).

-والإمام ابن العربي من المالكية في كتابه (أحكام القرآن)، وحينما قال (بوجوب الثواب في هبة العين).

-والظاهرية الذين قالوا (الرخص حاصلة في كل سفر ولو فرسخاً وأجبوا عليه الفطر)، وقولهم (بنجاسة أبدان المشركين).

* من  نماذج التعصب المذهبي في العقيدة:

- التعصب المذهبي عند الشيعة: وذكر لذلك أمثلة أوردها العياشي والكاشاني والطبرسي، ومن ذلك قولهم (كل آية في ذكر أهل الجنة فهي في شيعتنا، وكل آية فيها ذكر أهل النار فهي فيمن خالفنا)، وقولهم (اهدنا الصراط هو الإمام أو أمير المؤمنين)، وقولهم (قد جاءكم برهان من ربكم ونور: هما محمد وعلي)، وزادوا في آية (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي: "ولا محدث" يعنون به الإمام علي)، وقولهم في (أهل البيت المطهرين هم الخمسة لا غير).

-التعصب المذهبي عند المعتزلة: ولم يصل إلينا من مصنفاتهم في التفسير إلا ثلاثة، وهي: "تنزيه القرآن عن المطاعن" للقاضى عبد الجبار، و"الأمالى" للشريف المرتضى، و"الكشاف" للزمخشري، وقد بنى المعتزلة تفسيرهم على قواعد عقلية وهي التنزيه المطلق، والعدل، وحرية الإرادة، وفعل الأصلح، وذكر لذلك نماذج من كتاب الزمخشري ومنها (استحالة إسناد الختم على قلوب الكفار إلى الله تعالى)، وقوله (بأن رؤية الله ممتنعة في الآخرة)، وقوله (بأن القرآن مخلوق). 

ومن أهم الآثار السيئة للتعصب المذهبي على التفسير ما يلي:

أولاً: تشعب الآراء، وكثرة الاختلاف:

فقد كان للتعصب المذهبي أثره في ظهور الفرق والمذاهب، فتشعبت الآراء والمذاهب، وكثر الاختلاف، وتفرق المسلمون فرقاً وأحزاباً.

ثانياً: تحريف النصوص ومخالفة القرآن والسنة:

فالتعصب المذهبي أدى بأصحاب الفرق والمذاهب إلى مخالفة نصوص القرآن والسنة مخالفة صريحة رغم ظهور الأدلة الصريحة على بطلان أقوالهم، وصحة أقوال المخالف، وقد دفعهم ذلك إلى تحريف هذه النصوص، وتأويلها بما يتفق مع مذاهبهم، ويناسب ميولهم وأهواءهم.

ثالثاً: انتشار البدع:

وسبب ذلك ظهور الوضع حين اختلف المسلمون سياسياً، وتفرقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور، ووُجد من أهل البدع والأهواء من  روجوا لبدعهم، وتعصبوا لأهوائهم، ودخل فى الإسلام من تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له، وتضليل أهله، فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.

رابعاً: ظهور النزعة العقلية والثقافات الغريبة في التفسير:

وقد بدأ ذلك أولاً على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولاً ما دام يرجع الجانب العقلى منهإلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصى تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعدٍ عظيم.

ومن ذلك يتبين أن العامل في ظهور النزعة العقلية في التفسير:

١-محاولات الفهم الشخصي وتغليب العقل على النقل.

٢-ترجيح بعض الأقوال على بعض.

٣-اختلاط العلوم النقلية بالعلوم العقلية، وحشو التفسير بغيره من العلوم.

٣-تأثر المتأخرين من المفسرين بمن سبقهم من المفسرين القدامى.

وكل هذه الأمور مرجعها إلى التعصب المذهبي في الأعم الأغلب

خامساً: شيوع الجهل، والإعراض عن هدايات القرآن وإعجازه:

فالتفرق في الدين ما جاء إلا من الجهل والتعصب للأهواء، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرءوسين والرؤساء. وما تفرقت الأمم إلا من بعد ما علموا أن الفرقة ضلالة، وقد فعلوا ذلك بغياً وطلباً للرياسة، وللحم ّية حمية الجاهلية التي جعلت كل طائفة تذهب مذهباً وتدعو إليه، وتقبح ما سواه، طلبا للأحدوثة بين الناس والسيطرة عليهم.

سادساً: ظهور الإسرائيليات، والضغف في التفسير بالمأثور:

فقد نقل كثير من الأقوال، والآراء المنسوبة إلى الصحابة والتابعين من غير إسناد، وبعض هذه الأخبار المنقولة كانت من الإسرائيليات، فينقلها المفسر أو العالم من غير تحر عن رواتها، فمن ثم التبس الصحيح بالضعيف، والحق بالباطل، ثم جاء من بعدهم من يذكر هذه الروايات والأقوال عنهم، على اعتبار أن لها أصلاً، وتحسينا للظن بقائلها، وهي في نفسها ضعيفة.

سابعاً: فتح المجال أمام المتربصين للطعن في التراث الإسلامي:

وكان التعصب المذهبي له دور كبير في تلمس المستشرقين وأعداء الإسلام المطاعن في القرآن الكريم؛ وكان الانشقاق والانقسام بين الفرق الإسلامية وتبيانها في التفسير في الجانب العقدي والفقهي سبباً في الطعن في الدين، ومن ثم الطعن في النصوص المختلف فيها.

* نتائج البحث:

* كان التفسير في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معتمداً على المأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الاختلاف في التفسير قليلاً، حتى ظهرت الفرق، وظهر التعصب المذهبي، فاختفت معاني القرآن الكريم في لجاجة التعصب المذهبي.

* كان للخلافات الفقهية أثر ظاهر في التعصب المذهبي، كما كانت الخلافات العقدية أكثر أثراً من الخلافات الفقهية.

* أن التعصب انتصار للخطأ، وترجيحه على الصواب بلا حجة أو برهان، وعدم قبول الحق عند ظهور.

* أن التعصب المذهبي منشؤه كثرة الاختلاف بين الفرق الإسلامية، مما جعل الفرق المختلفة تجتهد في تأويل النصوص القرآنية حتى تشهد لها أو لا تعارضها؛ مما أدى ببعضهم إلى التعسف في التأويل، والخروج بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها.

* أن التعصب المذهبي ساهم كثيراً في ظهور الدخيل، ونقل الإسرائيليات، والموضوعات إلى كتب التفسير؛ لأن المتعصبين للمذاهب نقلوا كثيراً من الإسرئيليات، والأحاديث الموضوعة في كتب التفسير، فالتبس الصحيح بالسقيم، فكان لذلك أثره في الضعف في التفسير بالمأثور.

* أن التعصب المذهبي سبب في رواج البدع، وانتشارها في التفسير، فالمتقدمون أصحاب هذه البدع روجوا لها في تفاسيرهم، وجعلوها أصلاً، وبعض المتأخرين من المفسرين نقلوها بحسن نية، فانتشرت في تفسير القرآن، وتناولها العامة والجهال، دون بحث عن حقيقتها.

* من أكثر الفرق التي اتسمت بالتعصب المذهبي الشيعة، فالتفسير الشيعي مذهبى إلى حد التطرف والغلو، فترى المفسر منهم لا يكاد يمر بآية من القرآن إلا ويحاول صاحبه أن يأخذ منها شاهداً لمذهبه، أو دفعاً لمذهب مخالفيه، فيسير مع الهوى، سيراً يخرجه عن دائرة المعقول المقبول.

* وكذلك المعتزلة من الفرق المتعصبة لمذهبها، ويغلب على تفاسيرهم الطابع العقلي، والمذهب الكلامي، فهم يقدمون العقل على النقل، ويؤولون النصوص تأويلاً يوافق مذهبهم ويرد مذهب المخالف.

* أن النص يفهم حسب المراد من كلام صاحبه، لا حسبما يفهمه السامع، فيأوله كما يتراءى له، فالأصل عند الاختلاف في فهم النص الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتجنب المذهبية والتعصب.

* ظهرت النزعة العقلية في التفسير بسبب محاولات الفهم الشخصي، وتغليب العقل على النقل، وترجيح بعض الأقوال على بعض، واختلاط العلوم النقلية بالعلوم العقلية، وحشو التفسير بغيره من العلوم، وتأثر المتأخرين من المفسرين بمن سبقهم.

* أن التفسير قد ناله من التعصب المذهبي ما أخرجه عن مقصوده، وغيره عن وجهه، وحمله ما لا يحتمل؛ بسبب كثرة الوضع، وظهور الإسرائيليات.

* أن التعصب المذهبي أدى بالمتعصبين إلى مخالفة نصوص القرآن والسنة مخالف ًة صريحة رغم ظهور الأدلة والبراهين، وينشأ عن هذا تحريف النصوص، وتأويلها.

* أن التعصب المذهبي سبب في حدوث حالة من الجهل، والفوضى الفكرية فيما يتصل بالقرآن ومعاني القرآن، وكان لهذه الفوضى أثرها في إعراض الناس عن القرآن، وعن الاستماع لمفسري القرآن.

* أن التعصب المذهبي فتح المجال أمام المستشرقين أن يتناولوا التراث الإسلامي بالنقد والتجريح، ومن ثم الطعن في النصوص المختلف فيها، وقد منح التعصب المذهبي هؤلاء الفرصة حتى جعلوا من الاختلاف بين الفرق مجالاً للطعن والتشكيك في تراثنا الإسلامي الأصيل.

وأختم بفصول من كتاب (بدعة التعصب المذهبي) لمحمد عيد عباسي، وهي:

* اقتراح هام لتوحيد الفقه الإسلامي.

* الدعوة إلى الوسطية وعدم الإفراط والتفريط.

* سبيل الخلاص.

أولاً:  اقتراح هام لتوحيد الفقه الإسلامي:

نحن ندعو إلى نهضة إسلامية فكرية وعلمية وخلقية عامة، وندعو لأن يستعيد الفقه الإسلامي حيويته ونشاطه كما كان في العصور الإسلامية الزاهية، وندعو لتهيئة الجو العلمي الرفيع الذي يساعد على إخراج علماء مجتهدين كبار، يحلون المشاكل التي تعترض حياة المسلمين، ويستخرجون الأحكام لكل مسألة من من كنوز الكتاب والسنة، ويعيدون للإسلام مجده العلمي وازدهاره التشريعي.

ولذلك فإننا نقدم الاقتراح الهام التالي إلى رجال الفكر والفقه الإسلامي في العالم بأجمعه ليدرسوه بتدبر وفهم وتأمل، ثم يبدو رأيهم فيه على ضوء المناقشة العلمية البناءة، راجين أن يكون خطوةً طيبة نحو وحدة التفكير الإسلامي، ث نحو النهضة الإسلامية المأمولة إن شاء الله.

الأسباب الموجبة: ما من أحد يشك في أن الوحدة بين المسلمين في الرأي والعمل هي شرط أساسي لتحقيق عزهم ووحدتهم، وهي مفتاح النصر والظفر، وقد حثَّ الله عز وجل عليها، فقال سبحانه: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا))، وقال: ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان))، وقوله: ((ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون))، الخ، وما من شك في أن توحيد الآراء والأفكار لدى المسلمين هو من أعظم الأسس التي توحد بين مشاعرهم وعواطفهم وتساعد على التعاون وتضافر الجهود وتكاتف القوى فيما بينهم بما يكون له فائدة عظمى في تقويتهم، وجمع شملهم وإرهاب عدوهم بل والقضاء عليه.

 ولما كان مرجع المسلمين جميعاً واحداً وهو کتاب ربهم سبحانه وسنة نبيهم وهما المرجع الوحيد حين الاختلاف كما قال تبارك وتعالى: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))، ولما كان تعدد المذاهب الفقهية الاسلامية يفرق بين المسلمين في الآراء والأحكام والعادات ويباعد بينهم وقد يؤدي إلى الخصومات والنزاعات كما حدث كثيراً في عصور الانحطاط، وهو بسبب مشكلة كبرى إذا قامت للمسلمين دولة إسلامية وأرادت تطبيق أحكام الإسلام ونظمه في المجتمع. لأنها ستصاب بحيرة كبيرة بأي مذهب تأخذ وبأي رأي نحكم، ولن تستطيع إرضاء الجميع بل إذا أخذت بمذهب ما أغضت أصحاب المذهب الآخر وهكذا. 

وإذا أرادت أن تطبق أحكام كل مذهب في البلد الذي ينتشر في،ه كان في ذلك الاختلاف الكبير في قوانين كل بلدة إسلامية عن البلدة الإسلامية الأخرى، بالاضافة إلى أنه لا يمكن تطبيقه تماماً لأنه يمكن أن يوجد في البلدة الواحدة مذهبان متساويان أو متقاربان في العدد.

ولما كان من أكبر أسباب الخلاف بين المذاهب الفقهية هو ظهور الفقه ونشوئه قبل استكمال جمع السنة وتدوينها ودراستها، وتحقيقها وشرحها، وكان من الواجب بعد أن تم للسنة الجمع والتمحيص والشرح والتحقيق: أن يعاد النظر في آراء المذاهب المختلفة لتعدل وتنقح بناء على ذلك. ولكن تعصب كل قوم لمذهبهم وإمامهم وضيق صدرهم عن الرجوع عن قوله وضعف عليهم كل ذلك حال دون إعادة النظر في كثير من المسائل الموجودة في كل مذهب مما ظهر بطلانه و تهافت دليله.

ونحن الآن في بداية نهضة شاملة يجدر بنا أن نفعل مافات أهل القرون المتأخرة؛ فتخرج على الناس بمذهب فقهي إسلامي موحد مبني على أصبح الأدلة وأرجح الأقوال في مذاهب المسلمين وخاصة منها الأربعة. 

وقد تنبه بعض الدعاة المسلمين الكبار إلى هذه الفكرة فدشن مشروعاً عملياً لتحقيق ذلك كما فعل الشيخ حسن البنا رحمه الله حين قدم لكتاب (فقه السنة) لسيد سابق وقرظه واستحسنه، ومعروف أن هذا الكتاب يجري على الطريقة التي ندعو إليها ولكنه يؤخذ عليه بعض المآخذ في تطبيقها وتنفيذها. 

ومعلوم أن هذا الكتاب القيم كان له انتشار جيد في أوساط الشباب المسلم المثقف واستحسنه أكثرهم ولم يثر معارضة تذكر مع أن دعوتنا هذه لا تخرج عن الخط الذي سار عليه مؤلف هذا الكتاب ولا تخالف منهجه، كما أنه قد ارتفعت بين الحين والآخر أصوات جريئة تدعو إلى ما ندعو إليه.

ومن ذلك ما قاله العلامة الشوكاني في كتابه (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد)، وصديق حسن خان في كتابه (الروضة الندية) وغيرها، وكذلك ما قاله الشيخ محمد الحضري في كتابه (تاريخ التشريع الإسلامي) ومن ذلك أيضاً ما كتبه الأستاذ بدران أبو العينين بدران أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعتي الإسكندرية وبيروت العربية في كتابه (تاريخ الفقه الإسلامي) وغيرهم كثير. 

ولما كان الله عز وجل لم يلزم المسلمين ولا نبيه إلا باتباع الكتاب والسنة ولم يأمرهم باتباع عالم معين، بل أمر الجاهل منهم بسؤال أهل العلم وكل إمام ومجتهد يصلح أن يأخذ عنه المسلم أحكام دينه ، وكل الأئمة والمجتهدين هم أهل لأن نستفتيهم ونتبعهم وكلهم مفخرة للمسلمين وثروة كرى وذخرهم، فالأولى أن نواليهم جميعاً ونقتدي بهم ونأخذ عنهم جميعاً دون تعصب لواحد منهم على الآخرين ولا تقيد بواحد دون سواه.

ولما كانت طريقة الأئمة المجتهدين والعلماء الحقيقيين كلها واحــــــدة وهي تقضي بالرجوع إلى الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منها، ولما كان كل واحد منهم قد أوصى تلامذته وأتباعه باتباع رأيه حينما يوافق الكتاب والسنة وتركه حين يخالفهما، وكان كثير من العلماء المحققين في كل مذهب يخالفون مذاهبهم في كل مسألة ظهر لهم ضعف دليلها ويأخذون بالمذهب الذين يرون دليله أرجح وحجته أقوى.

ولما كان كثير من العلماء قد رجح أن الأئمة او عاشوا واطلعوا على ما جمع ودون بعدهم لكانوا رجعوا عن كل أقوالهم وقياساتهم واستنباطاتهم التي تخالف هذه الأحاديث

لهذه الأسباب المذكورة كلها فإننا نقترح ما يلي: نص المشروع: 

١ - تؤلف لجنة تضم أكبر علماء المسلمين في العالم الإسلامي وتضم مختلف الاختصاصات الشرعية ويكون مهمتها توحيد المذاهب الفقهية الإسلامية في مذهب واحد.

٢ - تعمل هذه اللجنة حسب الخطة التالية حسب:

أ- تقرر الأحكام المتفق عليها بين فقهاء الإسلام دون خلاف.

ب- في المسائل المختلف عليها اختلاف تنوع يؤخذ بجميع الأقوال ما دامت ثابتة في الشرع ولا يقتصر على واحد منها. 

ج - في المسائل المختلف عليها اختلاف تضاد ينظر في دليل كل مذهب ويؤخذ بأقوى الآراء و أرجحها من ناحية الدليل دون تعصب لرأي على آخر.

 د - في المسائل التي يصعب ترجيح رأي من الآراء فيها وتتساوى أدلتها في القوة يجوز الأخذ بأي رأي منها ويحسن تقديم ما يرجح من ناحية المصلحة للمسلمين. 

هـ - يترك كل رأي ظهر بطلانه وضعفه. 

يسمى هذا المذهب مذهب الكتاب والسنة وجميع الأئمة، هذه خلاصة الاقتراح الذي ندعو اليه ونتبناه ونعتقد أنه يرضي الله سبحانه ورسوله ويحقق للمسلمين كل خير، وإننا لأمل من كل عالم مسلم مخلص غيور أن يدرسه باخلاص وإنصاف ويبدي رأيه فيه بشكل إيجابي وبناء لعل الله الأخذ به وإظهاره وانتشاره وما ذلك على الله بعزيز.

حتى يتحقق ذلك: وحتى يتحقق هذا الاقتراح ويدرس دراسة جدية فإننا نسلك السبيل الممكن إلى تحقيقه والسير خطوة نحوه وتهيئة الأجواء له بجهودنا المتواضعة ، وذلك بدراسة ما تيسر لنا من المسائل الشرعية وتطبيق منهجنا الآنف الذكر فيها ودعوة المسلمين إلى الأخذ بما نصل إليه، ونشيع بينهم حب دراسة الكتاب والسنة والرجوع إليهما عند الخلاف ونحث من يستطيع النظر والبحث منهم على استنباط الأحكام منها. 

وندعو إلى عدم التعصب، ونسعى لنشر روح المحبة والتسامح وتحسين الظن بين الجميع ، ونعمل على الاستفادة من آراء جميع الأئمة والمجتهدين وعلومهم وندعو إلى موالاتهم ومحبتهم ونشر فضائلهم جميعاً، وندعو إلى محاربة التقليد في المسائل التي ظهر بطلانها وضعفها.

وندعو إلى ترك الكتب التي يتعصب فيها مؤلفوها لمذاهبهم حين يظهر لهم الدليل على خلافها. ونحث المسلمين على الرجوع إلى الكتب الفقهية المنصفة غير المتعصبة والتي تذكر الأدلة الشرعية على كل رأي. 

هذا رأينا وهذه دعوتنا فهل فيها ثمة ما يدعو إلى المحاربة والإنكار والتضليل والتسفيه أيها المسلمون ؟ وهل يجوز أن تقابل بمثل ما قابلها به كثير من المشايخ المتعصبين وفي مقدمتهم الدكتور الظالم سعيد البوطي حين سماهما لا مذهبية وعدها أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية؟ أي أنها بزعمه تفوق في الخطر كل المبادىء الكافرة والعقائد الملحدة والنظم الضالة.

إننا لواثقون أن أهل الوعي والإنصاف والعلم من المسلمين سيقولون رأيهم الحق في هذا الموضوع وسيقفون الموقف الصحيح وسيكون معنا إن شاء الله، ولتعلمن نبأه بعد حين.

ثانياً: دعوتنا هى الدعوة الوسط البريئة من الإفراط والتفريط:

ولا يفوتنا أن نبين في هذه المناسبة أن دعوتنا هي الدعوة الوسط فيا يتعلق بمذاهب الفقه الإسلامي في العصر الحاضر. فهناك قوم يصرون على تقليد ما ورثوه عن الآباء والأجداد، ويصعب عليهم مفارقة ما اعتادوه وما ألفوه ، فهم جامدون متعصبون يضيقون ذرعاً بكل جديد، ولو كان فيه خير كثير وصلاح ظاهر، ويحرصون على الاستمرار على دراسة المتون والحواشي والتقريرات، التي يلفظها الذوق السليم ويجها الطبع السوي والتي أصبحت عاجزة عن مسايرة التقدم العلمي.

وهناك قوم آخرون شعروا بسوء المذهبية المتعصة واقتنعوا مضارها ولمسوا نتائجها المؤذية، فأرادوا أن يصلحوا الحال، ويقوموا الاعوجاج ، فأخذوا يدعون إلى إصلاح الفقه بإنشاء فقه جديد، يأخذ بما يوافق العصر الحاضر -زعموا - ويلائم الحضارة الحديثة، وعد هؤلاء كل الأقوال والاجتهادات الموجودة في شتى المذاهب الإسلامية بما فيها مذهب الخوارج والشيعة - ما كان منها صحيحاً وما كان منها سقيماً - عدوها جميعها اجتهادات إسلامية وآراء إسلامية، وأجازوا الأخذ بأي واحد منها دون اعتبار لقوة الدليل ولا مراعاة لصحة القول ولا اهتمام بسلامة الاجتهاد ، بل راحوا يتسقطون من الأقوال ما وافق نظرهم القاصر وما لاءم نفسيتهم المهزومة أمام الحضارة الحديثة.

وما تخيلوه مصلحة ولا يبالون إن خالفوا في ذلك النصوص الثابتة وخرقوا الإجماع وابتدعوا من الغرائب والمنكرات . وقد رأينا من هؤلاء من يحل القليل من الربا بحجة أنه ضرورة عصرية. ويسمح بتوزيع الزكاة على غير المسلمين بحجة أنها عدالة اجتماعية، ويسوي بين الرجل والمرأة في الميراث ، ويقيد تعدد الزوجات وحق الطلاق.. إلخ. 

ومما يؤسف له أن بعض هؤلاء قد استطاع أن يقنع بفكرته هذه دولة عربية شقيقة، ويحملها على تبني فكرته بإصدار موسوعة للفقه الإسلامي، تولى الإشراف عليها بصفته خبيراً فيها . وجرى فيها على ما ذكرناه من الأخذ من أي مذهب كان للسنة أو للشيعة مما يوافق بظنه الحضارة الحديثة ويسايرها وقد وجدنا في بواكير هذه الموسوعة غرائب وعجائب فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن الغريب والعجيب أن دعوتنا الواضحة البينة الأصيلة التي يفهمها كل من شم رائحة العلم، لم يستطع الدكتور (المنصرف إلى كبرى المشاكل الإسلامية ليضع للناس سبيل الحلول لها والمخرج منها) أن يميز بينها وبين دعوة هؤلاء الذين يريدون تطوير الدين كما يهوون ويشتهون، ويدعون إلى الأخذ من شتى الأقوال الصحيحة والسقيمة والمنكرة والشاذة والمتهافتة الدليل، إذا تخيلوا أنها توافق العصر الحاضر وتلائم الحضارة الحديثة، ولذلك سانـــــــد الاحتلال الغربي دعوتهم ودعم رجالهم في مصر وغيرها. لقد اختلط على الدكتور الأمر والتبس مع وضوحه وبيانه ، فادعى (ص ٧٦ و ٧٧) من لا مذهبيته (أننا ندعو إلى دعوة هؤلاء ونسير في طريقهم . مع أن البعد بين الفكرتين كالبعد بين الثرى والتربا والخلاف بينهما كالخلاف بين المتمسكين بالحق وبين المراوغين فيه الذين يريدون أن يقروا الباطل ويزينوه للناس بالباسه بلبوسن الحق.

إنني على يقين أن الدكتور قد خلط عامداً بين دعوتنا وبين دعوة هؤلاء، بقصد إساءة سمعة السلفيين وتنفيراً للناس منهم . لأني لا أعتقد أن ذلك يخفى عليه أبدأ فالقاصي والداني يعرفان أن دعاة السنة في واد وأولئك المسيعين الشريعة في واد آخر. 

وإن أدنى طالب له مشاركة في الثقافة الإسلامية يعرف أن السلفية دعوة قديمة ، وجدت قبل أن توجد دول الغرب الحديثة كلها. وجوهرها العودة إلى الإسلام الصحيح الذي كان عليه سلف هذه الأمة الصائح.

وقد شعر كثير من العلماء بضرورة هذه الدعوة بعد ما ابتدع الناس في دين الله أشياء وأشياء، فغيروا تعاليمه وشوهوا جماله وكنروا رواءه. 

وكان أبرز هؤلاء العلماء المصلحين شيخ الإسلام ابن تيمية الذي وضح الدعوة السلفية وشرحها ونافح عنها وقضى في سبيلها فأي عاقل في الدنيا بسيع نسبة دعوة مضى عليها نحو ألف عام إلى دعوة لم يمض عليها قرن من الزمان ؟ فلماذا هذا الخلط يا ترى ؟ ولماذا هذا التجاهل ؟ ولماذا هذه المغالطة ؟

وما القصد من إيهام الدكتور القراء بأن الذين يلعبون بالشريعة، فيحلون الربا ويقيدون تعدد الزوجات ويسوون بين المرأة والرجل في الميراث هم السلفيون ؟ بل كيف أجاز الدكتور لنفسه أن يوهم القراء بأن الدعوة التي قام بها قاسم أمين لنبذ الحجاب ونشر السفور والاختلاط هي ترى هل وصل به الحقد والتحامل على دعاة السنة، لدرجة أن ينسب إليهم كل فساد وكل انحراف يحدث في البلاد، ولو كان هو نفسه أول مؤمن بكذب دعوة سلفية ؟ ذلك وبطلانه ؟

وهل هذه هي الموضوعية والطريقة العلمية والتجرد الذي وعد أن يراعيه ويحترمه أثناء بحثه الموضوع ؟ أم هذه هي الخصومة الشريفة إن كان يعرف الخصومة الشريفة ؟ إنني في هذه المناسبة أبين بجلاء وحزم، أن دعوتنا هي السلاح الماضي الفعال للقضاء على كل انحراف في فهم الدين، ولاجتثاث فكرة المطورين للشريعة المهزومين نفساً والممثلثة نفوسهم إعجاباً بحضارة الغرب من جذورها، وأما الجامدون المتعصبون فهم أعجز من أن يقفوا في وجه أمثال هذه الدعوات المنحرفة التي تدعي المرونة ومسايرة الزمان وتوحيد المذاهب. 

كما لا يفوتني أن أشير هنا إلى أن التعصب المذهبي هو المسؤول الأكبر عن إقصاء الشريعة الإسلامية عن ميدان القضاء والقانون والحكم في كثير من بلاد الإسلام، وإحلال القانون الأجنبي محله كما يعرف ذلك مؤرخو القانون المعاصر كالأستاذ مصطفى الزرقا الذي بين في كتابه المدخل الفقهي (العام) كيف كان جمود المشايخ وتعصيهم للمذهب الحنفي، الذي كان يعمل به في العهد العثماني سبباً في استبدال القانون الأجنى بالشريعة الإسلامية. 

فقد رأى سلاطين الدولة العثمانية والمسؤولون فيها في القرنين الأخير بن من حياتها أن ما في مجلة الأحكام العدلية التي كانت متقيدة بالمذهب الحنفي - لايفي بمستلزمات الحياة الجديدة ، وفي العمل به مشقة وضرر على الرعية، فعرصوا على القضاة والمفتين والمشايخ آنذاك أن يأخذوا بعض الأحكام من المذاهب الإسلامية الأخرى، فرفض هؤلاء رفضا باتاً وتشبثوا بمذهبهم. فرأى الحكام لذلك أن ينصرفوا عن مجلة الأحكام العدلية وعن الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً ، ويأخذوا بالقوانين الأجنبة.

واستمر الأمر كذلك حتى كانت سنة ١٩٤٩ م وتولى أسعد الكوراني وزارة العدل في سورية فأبطل العمل بالبقية الباقية من مجلة الأحكام العدلية - وأخذ بالقانون الأجنى كله تقليداً للقانون المدني المصري وبهذا أقصيت الشريعة الإسلامية عن ميدان القانون والحياة. ولم يكن سبب ذلك إلا (التعصب المذهبي اللعين).

فقل لي بربك أيها القارى الكريم: أي الدعوتين أحق بأن تتهمها بفصل الإسلام عن ميدان الحياة: السلفية التي ترى الاستفادة من جميع مذاهب الفقه الإسلامي والأخذ منها كلها لكن ليس بشكل عشوائي كما يرى بعضهم، وإنما بحسب قوة الدليل ورجحانه، أم المذهبية المتعصبة التي لا تسمح بأخذ شيء من غير مذهبها . وتعد المذاهب الأخرى كشرائع مستقلة لا يجوز العمل ها ولا الأخذ منها ؟ وأي الدعوتين تؤدي إلى الفكرة التي دعا إليها المستشرق الخبيث شاخت ؟

قلت: ومن أجل ما ذكرته وخوفاً من الوصول إلى إقصاء الشريعة الإسلامية من آخر ميدان لها في التطبيق وهو قانون الأحوال الشخصية، رأت اللجنة المكونة لوضعه في سورية وكان فيها شخصيات علمية وإسلامية كبيرة كعلي الطنطاوي ومصطفى الزرقا أن تأخذ من شتى المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة وغير الأربعة فأخذت برأي الإمام ابن تيمية في مسألة الطلاق الثلاث وغيرها . وهكذا فعلت اللجنة المكونة للأمر نفسه في مصر.

وهذا برهان واقعي يثبت صحة دعوة السلفيين وصلاحها وحدها للتطبيق. وأخيراً فنحن إذ نقدم دعوتنا إلى الإصلاح الفقهي ، نعتقد أنها الدعوة الوسط بين دعوتين متطرفتين خطيرتين، دعوة الجمود والتعصب ودعوة الميوعة والتفلت. فهي المذهب الوسط الاسلام الوسط للأمة الوسط التي أثنى عليها الله عز وجل فقال: ((وكذلك جعلنا كم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس))؛ فالحمد لله الذي هدانا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

ثالثاً: دعوتنا لإصلاح الفقه هي الجديرة بالحياة والانتصار:

هذه دعوتنا أبها المسلمون. وهي دعوة إصلاحية عامة تتلاءم مع عصر النور والنهضة الذي نعيشه اليوم. نحن لا نرضى أبداً بأن ننام والزمان يقظان وأن نقف ودولاب الحياة والتقدم بسير ونجمد على ما خلفه الآباء والأجداد والأمم من حولنا تثب وتتسم ذرا المجد وفهم الحضارة.

إننا نريد أن نبني مجداً جديداً لأمتنا ، نضيفه إلى ما بناه لها الآباء والأجداد الكرام وشعارنا في ذلك قول الشاعر المجد الطموح: إنا وإن أحسابنا كومت لسنا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنــا تبني، ونفعل مثلما فعلوا إننا نحب سلفنا الصالح وعلماءنا المخلصين وأمتنا المجتهدين ، وكل من عمل لإعزاز الشريعة ونصرة الدين، ونكبرهم ونقدرهم . ولكن لا نستجيز لأنفسنا أن تكون أسوأ خلف لأكرم سلف. إننا نريد أن نكون مثلهم في علو الهمة وسمو العزيمة ، نطرق أبواب المجد بكلتا اليدين نجاهد كما جاهدوا ونبحث كما بحثوا ويجتهد أهل الاجتهاد منا كما اجتهدوا.

إنه لمن الخيانة لسلفنا الصالح وأمتنا الماجدة ، أن نكون متواكلين على ما خلفوه لنا، دون أن نضيف إليه مكرمة جديدة، ولا ترفع فوق بنائهم البنات قوية أخرى ولا تجمل بناء هم ونصلحه ونكمله، حتى يغدو تحفة للناظرين وقرة عين للعالمين.

إننا نعتقد أن العلم بحر واسع لم ينفد ولن ينفد ، ومهما وجد في الأمة علماء فهناك المجال الواسع لبحوثهم وتفكيرهم، وشعارنا الحكمة الشهيرة الحقة : كم ترك الأول للآخر . وليس كما حرفها الجهلة المتخاذلون الكسالى فجعلوها: ما ترك الأول الآخر؛ فناموا بل تماونوا بل ماتوا. إننا لا نعتقد أن المواهب والعبقريات والنبوغ والذكاء والعلم والاجتهاد محصورة كلها فيمن مضى ومات، بل نحن نعتقد أن الخير في المسلمين في كل أجيالهم وكل أزمانهم. كما أشار إلى ذلك رسول الله ما في قوله: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره). 

إنه كما وجد سابقاً علماء كبار وأئمة عظام ومجتهدون ومحققون، فيمكن أن يوجد اليوم وغداً وبعد غد مثل ذلك ولكن بشرط واحد هو أن نسلك الطريق التي سلكها أئمتنا وعلماؤنا الأوائل . وما هذه الطريق إلا طريق دعاة السنة رواد المد الإسلامي الجديد إن شاء الله ، وليس هذا بممتنع أبداً ولا يعارض ذلك إلا المتماوتون الكسالى والضعفاء الحائرون والمشاغبون المعاندون والمتعصبون الجامدون. إن باب الاجتهاد قد فتحته يد الله جل شأنه، ولا يمكن لأي يد كائنة ما كانت أن تسده أبداً. إن التاريخ ليشهد أن المسلمين ما انتشر بينهم الاجتهاد وكثر المجتهدون، إلا وكانوا في عزة ومجد. وما أغلقوا بابه ومنعوا من كان أهلا له من دخوله، إلا سيطر عليهم الجهل والحمول والانحطاط والتأخر بل وسيطر عليهم عدوهم واستذلهم. 

إن الخير والهدى موجود في كل زمان. والعلماء المخلصون العاملون قد تكفل الله سبحانه باستمرارهم في الأمة الإسلامية. كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

ما الذي يمنع شرعاً وعقلا أن نعمل لإيجاد مجتهدين جدد، ونهيىء الجو لنهضة علمية وتشريعية كبيرة في عصرنا هذا ؟ إن الاعتقاد بأن العلم والفضل والاجتهاد محصور كله في السابقين وأن باب الاجتهاد قد سد، وأن مفتاحه قد ضاع أو رمي في البحر، وأن المتأخرين ليس لهم إلا أن يكونوا مقلدين وذيولاً لما قال به سابقوهم، هذه الأقوال كلها خرافة كبيرة واعتقاد خاطيء وضلال مبين، بل هي انحطاط ورجعية حقاً وجمود وموت صدقاً. وهي تحجير الواسع رحمة الله سبحانه ، لأن الاجتهاد ، وهو الفهم عن الله والرسول، هو رحمة كبرى ونعمة عظمى ولم يضن الله عز وجل به على المسلمين. 

بل هو الاستفادة العملية من حفظ الذكر الذي امتن الله سبحانه به على عباده حين قال « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون؛ فهل علماؤنا وأئمتنا السابقون هم صالحون وجيدون لأنهم ماتوا ومضى عليهم مئات السنين، أم هم صالحون لأنهم قاموا بأعمال جليلة أفادوا بها العباد والبلاد؟ وماذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضوان الله عليهم في زمانهم الذي عاشوا فيه ؟ ألم يكونوا متأخرين وناشئين ومعاصرين ؟ وهل كان بإمكانهم أن يبدعوا ويبتكروا، لو أنهم اعتقدوا أنه لا خير إلا في جهود السابقين ، وأنه لا يجوز لأحد بعدهم أن يجد ويجتهد ، وأنه لم يترك الأول للآخر شيئاً ؟

هل القديم صالح لأنه قديم ؟ لو كان الأمر كذلك لكان فرعون وهامان وقوم عاد ونوح وثمود أصلح من الصحابة والتابعين ؟ وهل يقول بهذا القول عاقل.

وماذا كان النووي وابن حجر العقلاني والعز بن عبد السلام والزيلعي وابن الهمام والسيوطي وابن تيمية وابن القيم والدهلوي رحمهم الله في عصورهم إلا متأخرين ومسبوقين ؟ 

بل ماذا يكون أحمد محمد شاكر ومحب الدين الخطب والسيد رشيد رضا وأبو الأعلى المودودي وغيرهم إلا معاصرين ومتأخرين ؟ فهل نحتقر ما صنعوه ونحارب ما كتبوه وتنكر عليهم كل ما قالوه ، بحجة أن الفقه الإسلامي فقه كامل وليس بحاجة إلى أي إضافة ، ولا محل فيه لأي شرح أو استدراك أو بحث جديد ؟ كما أبدأ القول في ذلك وأعاد أصحاب كتاب ( الاجتهاد والمجتهدون. 

 وكما صرح البوطي نفسه في (لا مذهبيته ص ٧٣ و ٧٤ ): وهل هذا إلا الموت بعينه والجريمة نفسها جريمة إطفاء نور العلم ووأد البحث والتحقيق العلمي ؟ وهل يحارب العلم رجل عالم ؟ إنه قد صدق من قال: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل. 

وأنى لرجل أعماه التعصب وغضب من البحث العلمي الحر أن يعرف قيمة العلم والاجتهاد وأن يقدر أصحابها ؟ لقد دعا البوطي (ص ٧٤ و ٧٥) إلى الإبقاء على كل ما ورد في كتب المذاهب، ولو كان بعضه مخالفا الأدلة الصريحة الواضحة من الكتاب والسنة ، وادعى أنه قد اكتمل فلا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن كل ما على المسلم عمله هو أن يأخذ كتابا صغيراً خالياً من أي دليل شرعي يتفقه فيه.

وهكذا فبدلا من أن يدعو البوطي إلى نشر العلم والرجوع إلى الكتاب والسنة ودراسات العلماء لهما واستنباط الأحكام منها . وبدلاً من أن يدعو القادر بن على الاجتهاد ليشمروا عن ساعد الجد والنشاط ، وبدلاً من أن يدعو كل من يستطيع الفهم والتمييز للنظر في أدلة الأحكام الشرعية والاستفادة منها؛ إنه بدلاً من ذلك كله يدعو إلى إغلاق باب البحث والفهم ، ويمنع الناس عن النظر في الأدلة الشرعية ويعمل على تجميد العقول والأفهام.

وهو في ذلك لا يخجل من هذه الدعوة مع أنه يعلم أن طلابه وتلامذته سيقرؤون ما كتبه في رسالته وقد يتساءلون: إذن لماذا يتعبوننا في كلية الشريعة بدراسة كل هذه العلوم والمواد الكثيرة الصعبة مادام يكفي المسلم كتاب صغير في مذهب فقهي مادون دليل ولا برهان ؟ وأي فائدة من تدريس مادة الفقه المقارن؟ هذا التدريس الذي لا يعود على الطلاب الأسف إلا بالحيرة مع والاضطراب الكبير ، لأن مدرسيه ليسوا ممن يستطيعون الترجيح بين قول وقول - كما هو المفروض فيمن يتصدى لتدريس هذه المادة - بل يكتفون برواية الأقوال المختلفة وأدلتها المتناقضة ، دون ترجيح لواحد منها على آخر في كل مسألة ، لأن الترجيح عندهم معناه الاجتهاد وهم قد أغلقوه . وإن وجد شيء من الترجيح فهو مع الأسف إما اتباعاً لهوى أو انتصاراً لمذهب. 

إنه ليؤسفنا أشد الأسف أن نرى بعض الشخصيات الإسلامية المؤمنة العصامية المجدة الصابرة، تقدم للمسلمين عصارة جهدها وعملها وخلاصة بحثها وتنقيبها ، وتقدم لهم النمر الطيب المفيد، ثم ترى بعض من ادعوا أنهم يحلون المشاكل الكبرى للمسلمين يكيدون لها ويحاربونها بكل وسيلة ، ويهدمون جهودها بكل حيلة، بدلاً من أن يكونوا لها عونا وظهير أو من عملها مستفيدين كثيراً .

إن واجب المسلم أن يشجع الجهود الطيبة ، ويفرح وبسر إذا وجد علماء نابغين ونقاداً محققين - في وقت عز فيه العلم وندر فيه الفقه الصحيح - وعليه أن يساندهم ويساعدهم . وإذا وجد لهم خطأ أو هفوة - مما لا يمكن أن يخلو منه إنسان مها علا كعبه وسما نجمه - بادر إلى تقديم النصح لهم، بروح مؤمنة بناءة صادقة. لا أن يتسقط الهفوات ليضخمها ويجعل الحبة قبة والمثقال قنطاراً ، ويشيعها بين الناس جاعلها وسيلة للذم والتشهير وذريعة للطعن والتحقير ، ويسخر منهم في مجالسه ويتهكم عليهم كما يفعل بعض الحاقدين مع شيخنا الفاضل وكما فعل البوطي مع المعصومي (رح ) . إننا بهذه المناسبة، نذكر بعض الأصدقاء الطيبين الذين يمكن أن يحملهم بعض أعداء السلفية على سلوك طريقهم الوعو وركوب مركبهم الخشن ، ألا ينساقوا معهم ولا ينجرفوا في تيارهم ، لعل في ذلك ذكرى لهم وإن الذكرى تنفع المؤمنين .

رابعاً: سبيل الخلاص

لقد اعترف البوطي أثناء حديثه عن رأي ابن القيم في مسألة الاجتهاد و التقليد بالواقع المر الذي يعيشه المسلمون من الناحية الفقهية ، واضطره النقاش العلمي إلى تقرير هذه الحقيقة المؤسفة والمخزية في آن واحد ، التي يصارح السلفيون بها الناس ، ويدعونهم للخلاص منها ، ويستحئونهم لإصلاح حالهم ، والارتفاع هذا الدرك الذي وقعوا فيه ، فلا يكون جواب العلماء (مجازا على حد تعبير الدكتور) إلا التضليل والإنكار والسخرية والإيذاء من أن التقليد قد فشا فشوا ذريعاً بين الناس حتى شمل العلماء والشيوخ ولم يكد يبقى أحد من العلماء بالكتاب والسنة، بل صار علماؤهم مقلدين وجهالاً وهذه هي الحقيقة. كل علمهم تقليد السابقين دون معرفة أدلتهم ولا قدرة على حتى صرحوا بأن باب الاجتهاد قد أغلق بعد سنة أربع الاجتهاد منابم منة للهجرة.

قال البوطي (ص ٤٢) من لا مذهبيته: ولكن ما هو مصير العامي عند ما يلتفت حوله فلا يرى مفتياً ) أي مجتهداً مطلقاً ) ولا يرى إلا علماء مقلدين ، كل منهم يلتزم مذهباً معيناً ، ومن يسمى مفتيا بينهم ، إنما أطلق عليه الاسم تشبيها ومجازاَ.

ونحن نعترف بأن البوطي قد أصاب هنا إصابة، لم يصادف مثلها في كل رسالته، ويكفي تسجيله هذه الحقيقة واعترافه بها شهادة على صحة رأي، ونريد أولاً أن نسأل من يدعون علماء في شتى أقطار العالم الإسلامي : هل توافقون البوطي على رأيه ؟ وهل أنتم جميعاً بعيدون عن العلم الصحيح بحيث لا تستحقون أن تدعون علماء إلا على سبيل المجاز ؟ أوليس فيكم من هو عالم بالكتاب والسنة ومن هو خارج عن حظيرة التقليد ؟ ونترك لهؤلاء العلماء الجواب على البوطي، وتفهيمه الحقيقة السلفيين وصدق تحليلهم.

ونحن وإن كنا نعتقد بأن كلامه ينطبق على الكثرة الكاثرة من المشايخ اليوم، إلا أننا نعتقد كذلك أنه ما يزال هناك عدد قليل جداً من العلماء حقيقة لا مجازاً وهم مفرقون في البلاد الإسلامية المختلفة، وكان على البوطي أن يتأدب مع هؤلاء الأفاضل، ويتجنب هذه التعميمات البعيدة عن الصدق والعدل والصواب.

حقاً إنها طامة ونهمس في أذن البوطي وآذان من يقول بمقالته هذه ونقول لهم : إذا کنتم ترون لم يبق في المسلمين علماء حقيقيون، وأن أهل العلم الموجودين إنما أطلق عليهم ذلك على سبيل المجاز، فقد صدق فيكم إذن قول النبي  صلى الله عليه وسلمالذي وصف فيه حال المسلمين في آخر الزمان وحين انتشار الفساد والفتن فيهم فقال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). 

وأنتم بين أمرين لا ثالث لها: إما أن ترفضوا هذه القولة البوطية وتنكروها ، وإما أن تقروا بها ، وحئذ تكونون قد وصمتم أنفسكم بالجهل والتقليد ، وأقررتم بانطباق هذا الحديث عليكم، وهذه شهادة منكم على أنفسكم، وهي نتيجة لا تحسدون عليها.

أما إن أردتم الخلاص من هذه النتيجة وإصلاح هذه الحال، فإن عليكم أن تسلكوا سبيل العلم الصحيح بدراسة الكتاب والسنة، وتنطلقوا من أقفاص المذهبية المتعصبة إلى آفاقها الرحبة الواسعة، وأن لا تتحرجوا من الأخذ والاستفادة من جميع الأئمة والمجتهدين.

ويقيناً إنكم قادرون على ذلك، ولكن ضعف الهمة وسقوط العزيمة وغلبة العادة، كل ذلك يدفعكم إلى التقليد ويزينه لكم ، مع أن العلماء جميعاً قد أقروا أنه ليس يعلم على الاطلاق، وأنه لا يباح إلا عند الضرورة، مثل أكل لحم الميتة لا يجوز أكاه إلا للمضطر الخائف على نفسه من الهلاك، وأنتم لستم كذلك، فإن بعضكم قد صرف سنين طويلة من عمره في طلب علوم الآلة وعلوم الشريعة، وأتقنها وهو مع ذلك يجنح إلى التقليد ، ولا يستفيد شيئاً من العلوم النظرية التي تعلمها.

وهذا شيء غريب وعجيب ، إذا لماذا يتكلف أحدكم دراسة علوم النحو والبلاغة والأدب والتفسير والحديث ومصطلحه والفقه وأصوله وغير ذلك ، ولا يستعمل شيئاً منها ولا يستفيد منها؟ بل يسلك سلوك العامة الجهال الذين لم يتح لهم دراسة شيء من العلم، ويقرن نفسه بهم ، ويقنع بالتقليد إن هذا لإضاعة للجهد بلا طائل، وتكلف للمشقة بغير جدوى، وإنكم كما قال الشاعر: 

كالعيس في البيداء يقتلها الظما .. . والماء فوق ظهورها محمول 

فعسى أن تتأملوا ذلك وتتدبروه، وتراجعوا أنفسكم وتناقشوا ما اعتدتم عليه، فأنتم في الحقيقة أسارى العادة وما ألفتموه وورثتموه عن الآباء والأجداد، أكثر من أي شيء آخر، وعلى الانسان أن يتخلى عن العادة إذا رأى ضررها وأذاها ، واقتنع مخالفتها الحق والرشاد.

ونرجو الله عز وجل ليكم كل توفيق وهداية، ونشهد الله أننا لا نريد لكم إلا الخير والنفع، {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب}.

ونعود الى البوطي وأضرابه فنقول لهم: اذا كنتم ترون حقاً أن البلاد قد خلت من العلماء الحقيقيين ، وأن كل من يدعى عالما فهو على سبيل المجاز، فهل ترضون لأنفسكم وللمسلمين مثل هذه الحالة السيئة ؟ 

إذا كنتم تشكون بصدق من خلو الأمة من مجتهدين، وشيوع الجهل والتقليد واندثار العلم وأهله ، فهل ترضون بذلك وهل تطيب نفوسكم به ؟ وهل تريدون أن تبقى الحال هكذا إلى يوم القيامة ؟ إن بعضكم سيقولون: نحن نوافق معك على فتح باب الاجتهاد، ولكننا لا نرى أحداً أهلا للاجتهاد، ولانرى من توفرت فيه الشروط اللازمة للمجتهد. 

وجوابنا على ذلك هو أن السبب في الوصول بالمسلمين إلى هذه الحالة هو أنتم . إن طريقتكم السيئة القائمة على صرف الناس عن النظر في أدلة الأحكام الشرعية، وقطعكم الصلة بين الناس وبين كتاب رهم وسنة نبيهم، بادعائكم أن العلماء السابقين قد استخلصوا كل شيء يمكن التوصل إليه من الشرعية من الكتاب والسنة ، لذلك فليس على المتأخرين إلا الاكتفاء بما صنعوا ، وأخذه على علاقه ، وتعلمه وتعليمه دون أي تعديل البوطي ص ٧٣.

إن هذا هو السبب في الحيلولة دون وجود العلماء المجتهدين. إن السبب في غيض نبع الاجتهاد من بلاد المسلمين هو طريقتهم الفاسدة المبتدعة، التي تتمثل في تعليمكم الفقه للناس في حدود المذهب، والتعصب له وتحوجكم من مخالفته، واختيار كم كتب الفقه المتأخرة الخالية من الأدلة الشرعية، وانقطاعكم عن دراسة الكتاب والسنة والرجوع إليها عند الخلاف، وزهدكم في آراء المذاهب الأخرى وأدلتها، ومنعكم النظر في الأدلة الشرعية إلا للمجتهد، ثم تضييقكم طريق الاجتهاد وتشديد الشروط المطلوبة للمجتهد، وجعلها أقرب ما يكون إلى التعجيز والاستحالة ، إن ذلك كله السبب في تعذر وجود مجتهدين، وهو الذي شل أي حركة، ووأد كلمحاولة للجتها في مهدها أو محاولة للانتعاش العلم والفقه.

إن طريقتكم القائمة على التقليد والتعصب المذهبي، لا يمكن أن تنتج إلا مقلدين . وكيف يخرج مجتهد من بيئة تحارب كل دافع أوسعي للوصول إلى الاتباع بله الاجتهاد ؟

إن من المستحيل أن يخرج ممن يسير على هذه الطريقة عالم إلى يوم القيامة ، لأن هذه هي سنة الله في الأرض.

كيف يمكن أن يخرج الورد والياسمين والفل والريحان من أرض جافة جدبة، ممتلئة بالأشواك والحنظل، ولا تسقى بالماء ولا تلقى فيها بذور الأنهار والورود ؟ كيف يمكن أن تخرج براعم المجتهدين من أشواك التقليد الأعمى ، ومن تربة التعصب والجهل والبعد عن الكتاب والسنة ؟ إن الأمر مستحيل وهو كما قال الشاعر:  

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها .. .إن السفينة لا تجري على اليبس

 وقريب من ذلك قول الله سبحانه في التعليق على اعتذار المنافقين عن الخروج للجهاد: ((ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ..))، لو أرادوا أن يوجد في الأمة مجتهدون لشجعوا كل من لديه رغبة في التوسع في العلم والبحث، واستكمال نقصه العلمي، ولكانوا عوناً لكل محاولة لتهديم سور التعصب ، والرجوع إلى ميدان الكتاب والسنة الرحب السهل، ولغيروا طريقتهم في البحث والنظر، ولاختاروا لتعليم طلبة العلم كتباً فقهية تذكر الدليل، ونخلو من العيوب الكثيرة التي لحقت بكتب الفقه المتأخرة، ولكانوا تخطوا سدود المذهبية الضيقة، ودرسوا الفقه على الطريقة التي تسمى اليوم الفقه المقارن . . ولكنهم مع الأسف بدلاً من ذلك كله تواهم حرباً على كل من تفتح عقله، وحاول التوسع في العلم والتحرر من أسر التقليد، والانطلاق من خــــارج جدران المذهب.

إننا نواهم يقابلوننا بالإنكار الشديد ، ويحملون علينا الحملات العنيفة لا لشيء إلا لأننا إذا أشكل حكم مسألة فقهية ما ، سألنا عالماً عن حكم الله تعالى فيها ، فيسألنا : ما هو مذهبكم ؟ فنقول له: لسنا ملتزمين بذهب معين ، فكل أئمة المذاهب أئمتنا ونحن نفضل أن نأخذ منهم جميعاً ، ولا نتحرج من اتباع اجتهاد أي مجتهد إذا كان رأيه أقرب إلى الكتاب والسنة، ونحن نريد منك أن تذكر لنا الحكم الراجح من حيث الدليل في هذه المسألة.

إذا قلنا هذا، رأيت الشيخ الذي نسأله تغير شكله وأربد وجهه واشتد غضبه وعلا صوته، وهاج وماج، وأرغى وأزبد ، وراح يمطر نابشتى التهم: أنتم مبتدعون ضالون وهابيون أعداء الأئمة ، أنتم خوارج وأصحاب مذهب خامس .. إلى آخر ما في جعبته من التهم والسباب.

هذا هو واقع الأغلبية العظمى من المشايخ في مجتمعنا، إنهم يضيقون أشد الضيق لو حاولت أن تسألهم عن الدليل الشرعي لحكم مسألة ما . وإن صدف أن كان أحدهم واسع الصدر - وقليل من هو كذلك ـ فإن صدره ممتلىء حقداً وعداوة لك ولكنه يكتم ذلك ويخفيه عنك ماذا فعلنا ونفعل نحن السلفيين أيها الناس، حتى يغضب منا من يدعون فينا علماء ومشايخ ؟ هل عدم التزامنا بمذهب معين جريمة وفسوق وضلال وعصيان ؟

إن صاحبكم الدكتور البوطي نفسه يعترف بصراحة ص ٦٠، من لا مذهبيته بأن التزام مذهب معين غير لازم ، وأنه لا يجب على المسلم أن يتقيد بمذهب ما بل إن كل واجبه إذا لم يكن عالماً بالكتاب والسنة أن يسأل عالماً بها فإن اعتقد أن عليه أن يلتزم مذهباً معيناً فهو مخطىء، وإن اعتقده حكماً من الله فهو آئم.

فماذا تنقمون منا إذن أيها المذهبيون ؟ ولماذا تغضبون إذا فعلنا ما هو جائز بنظر صاحبكم البوطي ، وواجب وسنة للصحابة والتابعين وأتباعهم بنظرنا نحن ؟

إن سبيل الخلاص من الواقع المظلم السيء الذي يعيش فيه المسلمون اليوم. لا يمكن أن يكون إلا سبيل دعاة السنة وأتباع السلف الصالح، إنه وحده الكفيل بتهيئة التربة الحصبة الملائمة للاجتهاد وتقدم العلم، وهو الذي نص بالمسلمين في صدر الإسلام وأحلهم المحل الرفيع بين أمم الأرض . وإنني على يقين أنهم لو أخذوا بهذه الآراء الجامدة السقيمة، كإغلاق باب الاجتهاد ووجوب التقليد على كل أحد لما أمكن وجود عالم واحد فيهم .

إن طريق العودة إلى مجد الإسلام العلمي وازدهاره الفقهي، والوسيله الموصلة إلى إيجاد مجتهدين كبار ، لا يكون إلا بالعودة إلى طريق السلف الصالح ، وبتحكيم الكتاب والسنة في كل أمر ، فذلك هو الذي أوصل المسلمين.

إلى العلم والاجتهاد والتقدم والانتصار، بينما طريقة الخلف لم توصلهم إلا إلى الجهل والتأخر والتعصب والتحجر.

وقديماً قال الإمام مالك رحمه الله : لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.

فيا أيها المسلمون هل أنتم فاعلون ؟









أثر القرآن الكريم في سلوك المجتمع المسلم د. عبد القدوس أسامة السامرائي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

أثر القرآن الكريم في سلوك المجتمع المسلم

د. عبد القدوس أسامة السامرائي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة




تمهيد/ لقد كانت حياة السلف حياة قرآنية بامتياز، لأنهم شهدوا معانيه وأحكامه، وعاشوا مباديه وتنزلاته، وتفاعلت عقولهم مع سوره وآياته، وامتزجت نفوسهم بمواعظه وآدابه، حتى صار لهم منهجاً في الأخلاق والسلوك والمعاملة، ولذلك استغرق عندهم حفظ القرآن وقتاً طويلاً مقارنةً لبمن جاء بعدهم، وذلك لعظيم حرصهم على إتقان فهم النّص الكريم، وسعيهم إلى تطبيقه، والعمل بمقتضاه.

وتوجهت عناية السلف الكرام إلى التعرف إلى كل ما يتعلق بالقرآن من علوم؛ وذلك مثل أسباب النزول، وقصصه، ووعده، ووعيده، وعظاته، وعبره، وتوحيده، وسننه الكونية، وأحكامه الشرعية، وكيفية قراءة آياته، وضبط مخارجها، واختيار من يؤخذ عنه ذلك من أهل العلم والخبرة، دون أهل الادعاء والمن والغل والشهرة.

وهذا الكتاب النفيس القدر، الطويل النفس، يجمع الطرق الصحيحة لتعامل الأمة المسلمة مع القرآن الكريم من خلال شُعع السَّلف، الذين هم منارات الهدى وأعلام الطريق، ويبين الكتاب أثر القرآن الكريم على سلوك الفرد والأُسرة المسلمة، وهما البذرة الأساسية لتكوين المجتمع المسلم، كما فيه تذكير للأمة بعظيم ّ المسؤولية تجاه القرآن العظيم، 

ولا شك أن هذا الموضوع نافع لأبناء الجيل المسـلم، لا سـيما في بعثهم على فهـم مراد الله تعالى في كتابه، وتربيـة الـروح، وتنقية البدن، وانتقاء المنهـج الحق في السلوك، والتعرف على بعض آثار القرآن على أبناء المجتمع المسـلم من السابقين، من حيث انتفاعهم بتوجيهاته التربوية، وتعاملهم معه على أسـاس الفهم العميق لآياته، وإمضاء أحكامه على النّفس والمجتمع؛ ليكون له الدور الفاعل في إصلاح المنظومة الإنسانية، وسائر الشؤون الحياتية

وقد قسم المؤلف كتابه هذا إلى ثلاث محاور (أو ثلاثة شُعع) وعنها تصدر الأضواء والملامح القرآنية للجيل الفريد، وجعل تحت كل محور من هذه المحاور عدة فقرات تعالج الموضوع، وهذه المحاور هي:

المحور الأول: إشراقات في تعامل الأمة مع القرآن الكريم.

وبيان ذلك من حيث:

أ) التمسك بكتاب الله تعالى والتزامه قراءة وتعهداً، مع استحضار كامل هيبته، واستثارة الخشوع في كوامن الذات المتعاملة مع ألفاظه ومعانيه.

ب) انبثاق المدارس لتعليم القرآن الكريم، وحسن تفهمه، ومن هذه المدارس التي اتسمت بالفهم المتميز:

-مدرسـة النفسـير بمكة المكرمـة، والتي تأسست على يد ابن عباس رضي الله عنهما، وتبعه تلاميذه: مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وطاووس بن كيسان، وعطاء بن أبي رباح، وجابر الأزدي وغيرهم، رحمة الله عليهم أجمعين.

- مدرسـة المدينـة النبويـة المنورة، وقد أسسها الصحابي الجليل أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، ولحقه فيها أبو العالية رفيع الرياحي، ومحمد القرظي، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم وغيرهم، رحمة الله عليهم أجمعين.

- ومدرسـة الكوفـة؛ وقد أسسها الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولحقه في إقامة دعائمها علقمة النخعي، ومسروق الأجدع، وابن حبيش، وأبو عبد الرحمن ابن حبيب السلمي، والأسود النخعي، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة السدوسي، وعبيد السلماني وغيرهم،رحمة الله عليهم أجمعين.

ت) تنوع المناهج في فهم القرآن والتعامل معه (وفق ضوابط صحيحة): ومما لا شك فيه أن دين الإسلام أتاح لجميع أهل العلم من المسلمين وغيرهم حرية الحركة الذهنية، والتأملية، والاستنباطية، بناء على توجيهاتّ القرآن الكريم ودعواته إلى التفكر والتدبر والنظر.

ث) تهيئة الأجيال وتأهيلها للتعامل مع القرآن الكريم: وذلك من خلال امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومراقبة الله في كل حركاته وسكناته.

والثاني: أثر الفهم الصحيح لتعاليم القرآن الكريم في السلوك العام.

من حيث:

أ- الالتزام بما جـاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبار الكتاب والسـنّـة المرجع الرئيس في الحياة.

ب- تقديم النصيحة لأهل القرآن الكريم وعموم المسلمين.

ت- الاستقامة، وموافقة الظاهر للباطن، وحفظ الأدب مع الخْلق.

ث- ملازمة الأُسس الصحيحة التي عليها قوام العبادات والمعاملات.

ج- الاستعانة بالصبر على طريق المعرفة وفهم القرآن الكريم.

والشعاع الثالث: شعاع في أثر تعاليم القرآن في سلوك الفرد والأُسرة والمجتمع.

من حيث :

أ- اتهام النفس وعدم الركون إليها، وإعمال الحذر منها.

ب- معرفة علامات السعادة والشقاء، وما يعد من أعظم الذنوب.

ت- المحافظـة علـى تذكير قـراء القرآن بواجبهم، ومكانة السابقين من أئمة المسلمين.

ث- تحقـق السـلوك السوي بناء عـلى تعاليـم كتـاب الله تعـالى وســنَّـة رسوله.

ج- الحرص على الدعاء وحسن الظن بإجابته، والاستغفار للنفس والولد.

ومن الأمور المعينة على الإجابة:

* أن يستحضر التالي لكتاب الله أنه من أهل الله تعالى.

* تذكر ما هو فيه من عظيم فضل الله تعالى، وأنه اختصَّه بتلاوة وحفظ كتابه.

* مباشرة الدعاء بما جاء في القرآن من دعوات ملؤها التضرع والإنابة. 

* تلمُّس الطعام الحلال، والملبس الحلال، والمأوى الحلال.

ح- تحقيق العز، ولاسيما لحملة القرآن، والشهادة بفيض نبلِهم .

خ- المحافظة على العقل وأفضلية الإيمان ببركة القرآن الكريم .

د- ثبوت أجر المتمسك بالحق إذا اتبعت الأهواء وآثر النّاس الدنيا .

ذ- تحريك النّفس والهمة في أن نلقى الله تعالى بأحب الصحف المرفوعة إليه.

ر- تحصيل بشارة من قرأ القرآن الكريم وحافظ على قراءته .

ز- استحقاق من يؤخذ عنه القرآن المدح والتشجيع، وكذلك المتصدر به.

س- تعلم التعامل مع أشد الأعمال.

ش- ظهور البركة على من عاش في ظلال القرآن وتعاليمه في حياته.

وتظهر هذه البركة من خلال:

* التأثير في سلوك الأمة والمجتمعات الإسلامية.

*  التقلل من الدنيا وأثقالها وهمومها.

* الأنس بالله تعالى في الحل والترحال.

* تحقق الاستلذاذ بمناجاة الله تعالى، وكثرة الخشوع له، والورع عن الشبهات

* انتشار الصلاح وإشاعة الزهد، والالتزام بأحكام الإسلام.

* الحرص على تلقي العلم وتحصيله، والإقبال عليه للتمكن من فهم القرآن.

* الحرص على تحصيل الفوائد، وانتظام السلوك، والاستقامة في الحياة.

* الحرص على تربية الروح وتنقية البدن.

* حفظ الأوقات واستثمارها في المفيد، واستعمال السنة في غالب الأمور.

ص- شفاعة القرآن وعودة بركته على المشتغل به بعد مماته.

ض- إصلاح منظومة الأُسرة حضارياً.

ط- رغبة المجتمع المسلم وسعيه إلى الكسب الحلال، والزهد بما سواه.

ظ- تنميـة ثقافة فهم القـرآن بلغة القرآن؛ للتأثر بمناهجـه التربوية والحضارية والسلوكية.

ع- ظهـور تفاعل أبناء المجتمع من الأعيان مـع القرآن وأهله، وتعزز مكانتهما عندهم.

غ- مكانة أهل القرآن عند الملوك والأمراء والوزراء والدولة.

ف- الأمل المتجدد بهذه الأُ َّمـة وأجيالها ومقدراتها