أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 15 مايو 2022

تحقيق الوصال بين القلب والقرآن مجدي الهلالي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تحقيق الوصال بين القلب والقرآن

مجدي الهلالي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ إن السر الحقيقي في إعجاز القرآن الكريم هو سلطانه الكبير على القلوب، وصنيعه العظيم في النفوس، وذلك متوافر في خطاباته الكثيرة والمتنوعة التي ينفذ من خلالها إلى القلوب، فيذيقها من رحيق الإيمان، ويمزجها بكؤوس الروعة والمهابة؛ فتغدوا صافيةً نقيَّة، قد ارتوت بروائه، وتجمّلت برونقه، والتذَّت بخطاباته، وسكنت إلى قوة روحه.

ولا شك أن القرآن الكريم إنما نزل من السماء ليُعالج فينا حركة الإيمان، ولذلك قال البخاري في "صحيحه" في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون}: لا يجد طعمه إلا من آمن به. وصدق، كما أن خير ما يشغل به المرء وقته هو الاشتغال بالقرآن، سواء في تلاوته وحفظه، أو في فهمه وتفسيره وتدبره، لكن هذه التلاوة هي تلاوة المتدبر المتأمل، التي تتجاوز الألسنة إلى الأفئدة؛ فالقرآن بآياته وسوره هي رسائل ربانية نزلت إلينا كي نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات، ونُنَفذها في الطاعات.

ولذلك رأينا كيف تأثر الأكابر من الصحابة رضوان الله عليهم بالقرآن الكريم، فعاشوا آياته واقعاً عملياً في سلوكياتهم وأخلاقهم وآدابهم. فكانوا أحق الناس في أداء الرسالة، وحملها إلى من بعدهم، فكانوا ورثة الأنبياء -حقاً -في الأخلاق والسلوك والعبادة والجهاد والتضحيات.

وجاء من بعدهم التابعون الذين تأثروا بمعانيه، وطبقوا أوامره؛ ففتحوا الدنيا بالقرآن، ودانت لهم مشارقها ومغاربها. واستمر أتباعهم من بعدهم في حركة إصلاح الحياة، واتخذوا القرآن مصدراً أساساً في توجيه قواها الدائبة.

واستمر الناس على ذلك إلى أن دبَّ الوهن في أوصال هذه الأمة، لا سيما في الأعصار المتأخرة، وسبب ذلك بعدهم عن هذا الكتاب الكريم، فلم ينتفعوا بما فيه حق الانتفاع، لأنهم جعلوه في ركنٍ بعيد عن العقول والنفوس والحياة. 

وهذا الكتاب هو صفحات قليلة تحدث فيها المؤلف عن القرآن ومكانته العظيمة، وكيفية الانتفاع به، وتأثر القلب بما فيه من مواعظ وأحكام،  والوسائل المعينة على ذلك، ليحدث الوصال الحقيقي بين القلب والقرآن؛ فيتغير تبعاً لذلك الفرد والأمة كما حدث مع الجيل الأول.

وقسم المؤلف كتابه إلى سبعة فصول، جميعها تدور حول كيفية السماح لنور القرآن بدخول القلب، مما يستدعي طريقة خاصة للتعامل مع القرآن لتحقيق هذا الأمر.

وقد تناول في الفصل الأول حالة التيه التي تعيشها الأمة، وأنها لن تستطيع القيام بمهمتها إلا إذا تقوَّت بالإيمان.

وتحدث في الفصل الثاني عن طبيعة العلاقة بين الله وعباده، وكيف أن الله يحب الهداية لهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، ثم بين أن هدف الشيطان هو إضلال الناس، حيث يلج للإنسان من باب التشكيك والشبهات، أو تزيين المحرمات والشهوات. إلا أن القرآن الكريم يغلق البابين السابقين، ويرسم الطريق الموصل للنجاح في الحياة، ويعرفهم بعدوهم والعقبات التي تعترضهم، كما أنه يخلص القلوب من سيطرة الهوى وحب الدنيا، ولهذا فالقرآن هو {هدى وشفاء}.

أما الفصل الثالث، فقد بين فيه أن القرآن متاح في كل الظروف والأحوال، ويخاطب جميع أفراد المجتمع، فهو يخاطب العلماء والأميين، والعوام والخاص وغير ذلك.

وقد خصص الفصل الرابع للحديث عن طبيعة العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، فقد بلغت قوة تأثير القرآن عليه أن شيّب شعره عليه السلام، كما أن معاني القرآن قد اختلطت بشخصيته صلى الله عليه وسلم.

وتحدث في الفصل الخامس عن علاقة الصحابة بالقرآن، حيث أورد العديد من الآثار على تأثر الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن، وكيفية استحواذ معانيه على مشاعرهم.

أما الفصل السادس فقد طرح فيه تساؤلاً مهما، وهو لماذا لم ننتفع بالقرآن؟

ويجيب عن ذلك بأن السبب هو ضعف الثقة بالقرآن والإيمان به كدواء شاف ووسيلة تقويم وتغيير. وهذا حدث بسبب العديد من العوامل.

وخصص الفصل السابع والأخير لبيان كيفية تحقيق الوصال بين القلب والقرآن، حيث يرى أن نقطة البداية الصحيحة تتمثل بالإيمان بقيمة القرآن وبالهدف من نزوله، والعمل على زيادة الإيمان به في القلوب.

وذكر المصنف أن من أهم الأسباب لعدم انتفاع المسلمين بالقرآن، هو ضعف الإيمان به: كدواء كافٍ شافٍ، وكوسيلة للتقويم والتغيير، وقد أجمل العوامل التي أدت إلى هذا الضعف -وفصَّلها في صفحات كثيرة من بحثه، فذكر من هذه العوامل:

أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن: أنه كتاب مُقدس يوضع في زاوية مُعينة دون النظر فيه، وإذا قرأ فيه قارئٌ فإنه يقيم الحروف دون وعي للمعاني التي فيه.

ثانياً: طول الإلف: من أنه يُتلى بطريقة مُعينة ونغمةٍ محددة، دون الالتفات إلى أسراره ومعانيه.

ثالثاً: نسيان الهدف من نزول القرآن: وهو هداية الإنسان وإصلاحه، والسير به في الطريق المؤدي إلى رضا الله وجنته.

رابعاً: الانشغال بفروع العلم والتوسع فيها على حساب القرآن. كعلوم الآلة التي يُفترض أنها علومٌ مُعينة على فهم القرآن، فينبغي أن يُقتصر منها على المهم والضروري.

خامساً: غياب أثر القرآن في حياة كثير من المشتغلين به.

سادساً: كيد الشيطان، الذي أغرى الناس بكثير من الملهيات والوساوس وشرود الذهن، وغياب العقل.

سابعاً: مفاهيم وممارسات ساهمت في عدم الانتفاع بالقرآن.

ثم تحدث المصنف عن كيفية حدوث الوصال بين القلب والقرآن، والتي منها:

1-الإيمان أولاً: وذلك بتحقيق القراءة تلاوةً وفهماً وتطبيقاً وتعلماً وتعليماً.

2-الدعاء والإلحاح على الله عز وجل أن يمن عليك بمعرفة هدايات القرآن وتوجيهاته، وأن يمن عليك بالتأثر والتدبر، ويقوي الصلة بينك وبين هذا الكتاب المتين.

3-الإكثار من تلاوة القرآن الكريم بتفهم وترتيل وصوتٍ حزين، وإطالة المكث معه، والنظر فيه كلما أمكنه.

4-الفهم الإجمالي في الآيات من خلال إعمال العقل في الخطاب، ويستلزم من هذا التركيز التام في القراءة.

5-التعامل مع القرآن وكأنه يتنزل الآن، وأنك أنت المخاطب به فإذا سمع أمراً أو نهياً قدَّر أنه المأمور المنهي، والاجتهاد في التفاعل مع الآيات والأحداث والمواقف والقصص والعبر والعظات.

الفصل الأول: الصخرة أغلقت الغار، فهل إلى خروجٍ من سبيل؟ (للأمة)

فصيلة دم الأمة "الإيمان".

مشكلتنا إيمانية.

العمود الفقري للإيمان.

إنهم صُنعوا ها هنا.

القرآن مخرجنا.

أين السُّنة ؟

القرآن والأعمال الصالحة الأخرى.

هل أدرك المسلمون قيمة القرآن.

الرسول يشكونا بسبب هجر القرآن.

ما الحل لهذه الإشكالية.

الإيمان بالقرآن هو البداية.

الفصل الثاني: حبل الود (القرآن الكريم)

الرحمة الواسعة,

جحود الإنسان.

غواية الشيطان.

طبيعة المعركة مع الشيطان.

أبواب الشيطان التي ينفذ بها للإنسان.

الرحيم الودود.

لماذا أنزل الله القرآن؟

المعرفة وحدها لا تكفي.

القرآن وإغلاق مداخل الشيطان.

ابن القيم وتجربته مع القرآن.

إصلاح الإرادة.

الفصل الثالث: روح القلوب وقوتها:

روحٌ تسري في القلوب.

من دخل فيه فهو آمن.

تأثير يُدرك ولا يُمكن وصفه.

من مظاهر تأثير القرآن.

خشوع الجبال وتصدعها.

القشعريرة والسجود.

أجيبوا داعي الله.

تأثير القرآن على مشركي مكة.

الوليد بن المغيرة.

اعترافات عتبة بن ربيعة.

السجود الجماعي.

خوف المشركين من فتنة أولادهم ونسائهم بسماع القرآن.

القرآن كان السبب الأول لإسلام الأوائل.

كيف أسلم أسيد بن حُضير؟

الدليل الدامغ على بركة هذا القرآن.

أمة عجيبة.

الفصل الرابع: الرسول والقرآن:

تأثر الرسول بالقرآن

التأثير العملي السريع

صفة قراءته صلى الله عليه وسلم.

الحرص على التلاوة اليومية.

دعوته للناس بالقرآن.

صفاء المنبع

ترغيب الصحابة في تعلم القرآن.

النبي -صلى الله عليه وسلم -بيّن لأصحابه معاني القرآن.

لا بديل عن التفهم والتدبر.

متابعته لأصحابه في تلاوة القرآن وتدبره

الوصية بالقرآن.

الفصل الخامس: النموذج العملي والدفعة الأولى لمدرسة القرآن:

الأثر المباشر للقرآن في سلوك الصحابة.

ألا تُحبون أن يغفر الله لكم

أعرض عن الجاهلين

أقرضتُ ربي حائطاً

ثابت بن قيس من أهل الجنة

سمعاً لربي وطاعة

والله لو استطعتُ الجهاد لجاهدتُ

زينوا القرآن بالفعال

انشغال الصحابة بالقرآن ومحافظتهم على الورد اليومي

كيف كانوا يحفظون آيات القرآن.

خوف الصحابة على القرآن.

توجيهات ووصايا الصحابة نحو القرآن.

تحذيرات الصحابة من رفع القرآن.

خوف الصحابة من انشغال الناس بغير القرآن.

منزلة السنة النبوية.

لماذا لم تُدوّن السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

موقف الصحابة من الحديث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

تقييد العلم وكتابته.

من آثار هجر القرآن.

بناء الإيمان من خلال القرآن.

إعادة ترتيب الأولويات من خلال القرآن.

الفصل السادس: لماذا لم ننتفع بالقرآن:

هل اللغة هي السبب؟

تفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته

المرونة في النص القرآني

محمد إقبال

بديع الزمان النورسي

النماذج كثيرة

عودة إلى العصر الأول لتنزل القرآن.

*ولكن ما السبب إذن؟

أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن.

ثانياً: طول الإلف.

ثالثاً: نسيان الهدف من نزول القرآن.

رابعاً: الانشغال بفروع العلم والتوسع فيها على حساب القرآن.

خامساً: غياب أثر القرآن في حياة كثير من المشتغلين به.

سادساً: كيد الشيطان.

سابعاً: مفاهيم وممارسات ساهمت في عدم الانتفاع بالقرآن.

الخوف من تدبر القرآن واللقاء المباشر به.

الإسراع في حفظ القرآن

قراءة الحافظ

حول مفهوم النسيان

أمراض القلوب

قراءتان للقرآن

التعمق في المعنى

مدة الختم

السماع عندي أفضل!

الفصل السابع: كيف يحدث الوصال بين القلب والقرآن:

الإيمان أولاً

نقطة البداية الصحيحة.

أولاً: تقوية الرغبة والدافع للانتفاع الحقيقي بالقرآن.

المحور الثاني: الإلحاح على الله عز وجل.

المحور الثالث: الإكثار من تلاوة القرآن بتفهُّم وترتيل وتحزين صوت.

وسائل عملية مُعينة على الانتفاع بالقرآن.

الفصل الثامن: كلمة أخيرة لكل مسلم.

***




السبت، 14 مايو 2022

أخلاق أهل القرآن لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري

أخلاق أهل القرآن

لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا يخفى على كل ذي لُب الفضيلة السامية، والدرجة الرفيعة العالية التي ارتفع بها القرآن الكريم على سائر الكتب السماوية، فهو الكتاب الذي تعبدنا الله بتلاوته، وتكفل لنا بحفظه، وجمع فيه علوم الأولين والآخرين، وتحدى به أرباب الفصاحة والبيان؛ فتحداهم أن يأتوا بسورةٍ مثله فعجزوا عن ذلك، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، ولا يزال هذا التحدي قائماً إلى يومنا هذا، ما يؤكد عجز عقول البشر وقصورها عن إدراك ذلك، الأمر الذي أكده سبحانه في الآية: بتكرار قوله: (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) في نفس السياق.

ثم قطع طمع الفصحاء والبلغاء عن ذلك، بقوله: (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، أي ولو كانوا مجتمعين متظافرين ومتعاونين، كأنهم يدٌ واحدة، فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو عمدوا وحاولوا ليلاً ونهاراً. وكل ذلك يدل على عظمة شأنه وعلو منزلته.

وقد أنزل الله سبحانه هذا الكتاب المبارك على صفوته من عباده، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة الملك جبريل عليه السلام، منجماً مُفرقاً بحسب الأحداث والوقائع، وضمَّنه الأحكام والشرائع والقصص والمواعظ والأخلاق.

وجعل سبحانه أهله هم أهله وخاصته، وجعل لمن يقرؤه في كل حرفٍ منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وربط الخيرية بمدى التعلق به تعلماً وتعليماً، فأنزله وجعله عصمةً من الفتن، وحرزاً من النار، وشفاءً من الأدواء، ورحمةً وبركة شاملة.

من أجل ذلك وغيره، استنبط العلماء صفاتٍ أخلاقية وآدابٍ سماوية ربانية، ينبغي لحامل القرآن وتاليه والمشتغل به أن يتخلق بها، سواءً كان حافظاً أو معلماً أو داعياً إليه أو ممن يقوم يقوم آناء الليل ويتلوه أطراف النهار، وصنفوا في ذلك المصنفات والكتب الكثيرة، المطولة والمختصرة، فكان من جملتها هذا الكتاب المبارك (أخلاق أهل القرآن) للإمام الآجري، محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى.

وهذا الكتاب تضمن جملة من الآداب العظيمة، والشيم والأخلاق الرفيعة الكريمة التي ينبغي لحامل القرآن أن يتصف بها، ونحن نختصر على أهم ما فيها، مع وضع عناوين فرعية بين قوسين، لعله يُنتفع بها.

[تقوى الله عز وجل، والورع في معاملة الخلق]

 يقول الإمام الآجريّ:

فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَحامل القرآن أَنْ يَسْتَعْمِلَ تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، بِاسْتِعْمَالِ الْوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ، بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ، فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلَى دِينِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمَرِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، مُمَيِّزًا لَكَلَامِهِ. إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا.

قَلِيلُ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ عَدُوَّهُ، يَحْبِسُ لِسَانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ؛ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وَشَرَّ عَاقِبَتِهِ.

قَلِيلُ الضَّحِكِ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، إِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَقَّ تَبَسَّمَ، يَكْرَهُ الْمِزَاحَ خَوْفًا مِنَ اللَّعِبِ؛ فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا.

[بسط الوجه ولين الكلام وحُسن الخُلق]

بَاسِطُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الْكَلَامِ، لَا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟ يُحَذِّرُ نَفْسَهُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلَاهُ، لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَحْقِرُ أَحَدًا، وَلَا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلَا يَشْمَتُ بِمُصِيبِهِ، وَلَا يَبْغِي عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَحْسُدُهُ، وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، وَيَظُنُّ بِعِلْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ عَيْبٍ بِعِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فِيهِ بِعِلْمٍ. وَقَدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ، حَافِظًا لِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ بِعِلْمٍ.يَجْتَهِدُ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.

[الحلم والعدل والصبر والتواضع]

لَا يَجْهَلُ؛ فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ، لَا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا، لَا يَبْغِي، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِمُ غَيْظَهُ لِيُرْضِيَ رَبَّهُ وَيَغِيظَ عَدُوَّهُ، مُتَوَاضِعٌ فِي نَفْسِهِ، إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقُّ قَبِلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.

يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، مَاقِتًا لِلْكِبْرِ، خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لَا يَتَآكَلُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ الْحَوَائِجَ، وَلَا يَسْعَى بِهِ إِلَى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلَا يُجَالِسُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ لِيُكْرِمُوهُ، إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا الْكَثِيرَ بِلَا فِقْهٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، كَسَبَ هُوَ الْقَلِيلَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ، إِنْ لَبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الْفَاخِرَ، لَبِسَ هُوَ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ.

[زاهدٌ، قانعٌ، عالم]

يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُطْغِيهِ يَتْبَعُ وَاجِبَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، يَأْكُلُ الطَّعَامَ بِعِلْمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيَنَامُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الْإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزُورُهُمْ بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاوِرُ جَارَهُ بِعِلْمٍ.

[بر بوالديه]

يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِرَّ وَالِدَيْهِ: فَيَخْفِضُ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفِضُ لِصَوْتِهِمَا صَوْتَهُ وَيَبْذُلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالرَّحْمَةِ، يَدْعُو لَهُمَا بِالْبَقَاءِ، وَيَشْكُرُ لَهُمَا عِنْدَ الْكِبَرِ، لَا يَضْجَرُ بِهِمَا، وَلَا يَحْقِرُهُمَا، إِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةٍ أَعَانَهُمَا، وَإِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَرَفَقَ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُمَا بِحُسْنِ الْأَدَبِ؛ لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَا مِمَّا لَا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُهُ.

[واصلٌ للرحم]

يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَكْرَهُ الْقَطِيعَةَ، مَنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمٍ، وَيُجَالِسُهُمْ بِعِلْمٍ، مَنْ صَحِبَهُ، نَفَعَهُ حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفَقَ بِهِ، لَا يُعَنِّفُ مَنْ أَخْطَأَ وَلَا يُخْجِلُهُ، رَفِيقٌ فِي أُمُورِهِ.

[صبور على تعليم الناس الخير]

صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْخَيْرِ، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرَحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا، مُؤَدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مُؤَدِّبَانِ؛ يَحْزَنُ بِعِلْمٍ، وَيَبْكِي بِعِلْمٍ، وَيَصْبِرُ بِعِلْمٍ، يَتَطَهَّرُ بِعِلْمٍ، وَيُصَلِّي بِعِلْمٍ، وَيُزَكِّي بِعِلْمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِعِلْمٍ، وَيَصُومُ بِعِلْمٍ، وَيَحُجُّ بِعِلْمٍ وَيُجَاهِدُ بِعِلْمٍ، وَيَكْتَسِبُ بِعِلْمٍ، وَيُنْفِقُ بِعِلْمٍ، وَيَنْبَسِطُ فِي الْأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَيَنْقَبِضُ عَنْهَا بِعِلْمٍ قَدْ أَدَبَّهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، يَتَصَفَّحُ الْقُرْآنَ؛ ليُؤَدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرَضَ اللَّهُ بِجَهْلٍ.

[فقيه القلب والنفس]

قَدْ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ إِذَا دَرَسَ الْقُرْآنَ فَبِحُضُورِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ، هِمَّتُهُ إِيقَاعُ الْفَهْمِ لِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ: مِنَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟ هِمَّتُهُ مَتَى أَسْتَغْنِي بِاللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَاشِعِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّادِقِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَائِفِينَ؟ مَتَى أَكُونُ مِنَ الرَّاجِينَ؟ مَتَى أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا؟ مَتَى أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ؟ مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ الْمُتَوَاتِرَةَ؟ مَتَى أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا؟ 

مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَفْقَهُ مَا أَتْلُو؟ مَتَى أَغْلِبُ نَفْسِي عَلَى مَا تَهْوَى؟ مَتَى أُجَاهِدُ فِي اللَّهِ حَقَّ الجِهَادِ؟ مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي؟ مَتَى أَغُضُّ طَرْفِي؟ مَتَى أَحْفَظُ فَرْجِي؟ مَتَى أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ؟ مَتَى أَشْتَغِلُ بِعَيْبِي؟ 

مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي؟ مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي؟ مَتَى أَتَزَوَّدُ لِيَوْمِ مَعَادِي؟ مَتَى أَكُونُ عَنِ اللَّهِ رَاضِيًا؟ مَتَى أَكُونُ بِاللَّهِ وَاثِقًا؟ مَتَى أَكُونُ بِزَجْرِ الْقُرْآنِ مُتَّعِظًا؟ مَتَى أَكُونُ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مُشْتَغِلًا؟ 

مَتَى أُحِبُّ مَا أَحَبَّ؟ مَتَى أُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ؟ مَتَى أَنْصَحُ لِلَّهِ؟ مَتَى أُخْلِصُ لَهُ عَمَلِي؟ مَتَى أُقَصِّرُ أَمَلِي؟ مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلِي؟ مَتَى أُعَمِّرُ قَبْرِي، مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمَوْقِفِ وَشِدَّتِهِ؟ مَتَى أُفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي؟ مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمُنْقَلَبِ؟ 

[يجمع بين الخوف والرجاء]

مَتَى أَحْذَرُ مِمَّا حَذَّرَنِي مِنْهُ رَبِّي مِنْ نَارٍ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ وَعُمْقُهَا طَوِيلٌ، لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا فَيَسْتَرِيحُوا، وَلَا تُقَالُ عَثْرَتُهُمْ، وَلَا تُرْحَمُ عَبْرَتُهُمْ، طَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ، وَشَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

نَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَعَضُّوا عَلَى الْأَيْدِي أَسَفًا عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَرُكُونِهِمْ لِمَعَاصِي اللَّهِ فَقَالَ، مِنْهُمْ قَائِلٌ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) وَقَالَ قَائِلٌ: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون: 100)، وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} وَقَالَ قَائِلٌ: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ وَوُجُوهُهُمْ تَتَقَلَّبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَقَالُوا: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (الأحزاب: 66).

فَهَذِهِ النَّارُ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، حَذَّرَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6). 

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران: 131)، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18).

ثُمَّ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفُلُوا عَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، أَلَّا يَضَعُوهُ، وَأَنْ يَحْفَظُوا مَا اسْتَرْعَاهُمْ مِنْ حُدُودِهِ، وَلَا يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِهِ، فَعَذَّبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 19). ثُمَّ أَعْلَنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الحشر: 20).

[يعرض أقواله وأفعاله على القرآن]

فَالْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ كَالْمِرْآةِ، يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا قَبُحَ مِنْهُ، فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ حَذِرَهُ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ، وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ.

فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَدْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَكَانَ لَهُ الْقُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسًا وَحِرْزًا، وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصَفَهُ، نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ، وَعَادَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

[الإخلاص لله عز وجل في تلاوة القرآن وتعليمه]

يقول الإمام الآجري -رحمه الله: فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلدُّنْيَا وَلِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ، مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ، مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ، قَدِ اتَّخَذَ الْقُرْآنَ بِضَاعَةً، يَتَآكَلُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ يُعَظِّمُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَيُحَقِّرُ الْفُقَرَاءَ، إِنْ عَلَّمَ الْغَنِيَّ رَفَقَ بِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُ، وَإِنْ عَلَّمَ الْفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دُنْيَا لَهُ يُطْمَعُ فِيهَا، يَسْتَخْدِمُ بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَيَتِيهُ بِهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، إِنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ، وَيُصَلِّيَ بِهِمْ؛ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْفُقَرَاءُ الصَّلَاةَ بِهِمْ، ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِقِلَّةِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِيهِمْ.

[ذم القارئ الذي يتفاخر ويتعالى ويتكبر]

إِنَّمَا طَلَبُهُ الدُّنْيَا حَيْثُ كَانَتْ، رَبَضَ عِنْدَهَا. كَثِيرَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ. لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ. 

[ذم القارئ الذي يكثر الضحك والمزاح واللغو]

كَثِيرَ الضَّحِكِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ، هُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ، يُوَرِّي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا، فَهُوَ إِلَى كَلَامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إِلَى كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. 

[ذم القارئ الذي لا يخشع عند تلاوته، ويطلب بقراءته حظوظ نفسه]

لَا يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا يَبْكِي، وَلَا يَحْزَنُ، وَلَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْفِكْرِ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِ، وَقَدْ نُدِبَ إِلَى ذَلِكَ، رَاغِبٌ فِي الدُّنْيَا وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا، لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى، إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ، قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ لَا يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ، يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا لِلَّهِ عَلَيْهَا.

[ذم القارئ الذي يغضب لنفسه، ولا يبالي بكسبه]

يَغْضَبُ عَلَى غَيْرِهِ، زَعَمَ لِلَّهِ، وَلَا يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ، مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلَالٍ، قَدْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ، إِنْ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، حَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ. 

[ذم القارئ الذي يقيم الحروف ولا يُضيع الحدود]

لَا يَتَأَدَّبُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لَاهٍ غَافِلٌ عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِ، هِمَّتُهُ حِفْظُ الْحُرُوفِ، إِنْ أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ سَاءَهُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَنْقُصَ جَاهُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، فَتَنْقُصَ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهِ. 

[ذم القارئ الذي يجهل على الناس بأخلاقه]

أَخْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلَاقُ الْجُهَّالِ، الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، لَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ إِذْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ الْعِلْمِ لِمَعْرِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَهِيَ عَنْهُ.

[ذم القارئ القليل المعرفة بالله وأحكامه ونعمه]

قَلِيلُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ، قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي نَدَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَسُولُهُ لِيَأْخُذَ الْحَلَالَ بِعِلْمٍ، وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِعِلْمٍ.

لَا يَرْغَبُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ، وَلَا فِي عِلْمِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، تِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى كِبْرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَتَزَيُّنٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِنْهُ، لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ، فَيَظْهَرَ عَلَى جَوَارِحِهِ، إِذَا دَرَّسَ الْقُرْآنَ، أَوْ دَرَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هِمَّتُهُ مَتَى يَقْطَعُ، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى يَفْهَمُ.

[ذم القارئ الذي لا يتدبر تلاوته]

لَا يَتَفَكَّرُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ بِضُرُوبٍ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُبَالِي بِسَخَطِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ، وَيُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظَى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَنَاءِ مَنْ جَهِلَهُ.

[ذم القارئ الذي يُتبع نفسه هواها]

يَفْرَحُ بِمَدْحِ الْبَاطِلِ، وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ، يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِيمَا تُحِبُّ نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفِّحٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ، غَضِبَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ إِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالصَّلَاحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ، يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، وَيَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ لِيَضَعَ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ مِنْ نَفْسِهِ، يَتَمَنَّى أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ

وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ شِعَارَ الصَّالِحِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ضَيَّعَ فِي الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ، وَرَكِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مَوْلَاهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا. 

[ذم القارئ المُعجب بنفسه وعمله]

قَدْ فَتَنَهُ الْعُجْبُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، إِنْ مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْ مُلُوكِهَا، فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ سَارَعَ إِلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ مَرِضَ الْفَقِيرُ الْمَسْتُورُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ ضَيَّعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْكَامِهِ.

أَخْلَاقُهُ أَخْلَاقُ الْجُهَّالِ، إِنْ أَكَلَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ شَرِبَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ لَبِسَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ جَامَعَ أَهْلَهُ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ نَامَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ صَحِبَ أَقْوَامًا أَوْ زَارَهُمْ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِمْ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجْرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْفَظُ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ مُطَالِبٌ لِنَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ. 

[خطر القارئ الجاهل إذا اقتدى به غيره]

قال الإمام الآجري: فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلَاقَهُ صَارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ، اقْتَدَى بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِذَا عِيبَ الْجَاهِلُ، قَالَ: فُلَانٌ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا، فَنَحْنُ أَوْلَى أَنْ نَفْعَلَهُ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لَعَظِيمٍ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلَا عُذْرَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ.

وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ قَبِيحِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ؛ نَصِيحَةً مِنِّي لِأَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَتَخَلَّقُوا بِالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَيَتَجَانَبُوا الْأَخْلَاقَ الدَّنِيئَةَ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاهُمْ للِرَّشَادِ وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنِّي قَدْ رَوَيْتُ فِيمَا ذَكَرْتُ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى مَا كَرِهْتُهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ، فَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَنِي؛ لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا يَنْصَحُ نَفْسَهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. 

باب أخلاق المقرئ إذا جلس يقرئ ويلقن لله عز وجل

ماذا ينبغي له أن يتخلق به؟

قال محمد بن الحسين: ينبغي لمن علمه الله كتابه، فأحب أن يجلس في المسجد، يقرئ القرآن لله، يغتنم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». فينبغي له أن يستعمل من الأخلاق الشريفة ما يدل على فضله وصدقه، وهو أن يتواضع في نفسه إذا جلس في مجلسه، ولا يتعاظم في نفسه.

[ندب استقبال القبلة عند التلاوة]

وأحب أن يستقبل القبلة في مجلسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل المجالس ما استقبل به القبلة». 

[أدب الشيخ مع القارئ]

ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالاً جميلاً وينبغي له أن يستعمل مع كل إنسان يلقنه ما يصلح لمثله، إذا كان يتلقن عليه الصغير والكبير والحدث، والغني والفقير، فينبغي له أن يوفي كل ذي حق حقه.

ويعتقد الإنصاف إن كان يريد الله بتلقينه القرآن: فلا ينبغي له أن يقرب الغني ويبعد الفقير، ولا ينبغي له أن يرفق بالغني ويحذق بالفقير، فإن فعل هذا فقد جار في فعله، فحكمه أن يعدل بينهما، ثم ينبغي له أن يحذر على نفسه التواضع للغني والتكبر على الفقير، بل يكون متواضعا للفقير، مقربا لمجلسه متعطفا عليه، يتحبب إلى الله بذلك.

[مراعاة الشيخ لأحوال القراء]

قال محمد بن الحسين: وأحبُّ له إذا جاء من يريد أن يقرأ عليه من صغير أو حدث أو كبير أن يعتبر كل واحد منهم قبل أن يلقنه من سورة البقرة، يعتبره بأن يعرف ما معه من الحمد، إلى مقدار ربع سبع أو أكثر مما يؤدي به صلاته، ويصلح أن يؤم به في الصلوات إذا احتاج إليه، فإن كان يحسنه وكان تعلمه في الكتاب أصلح من لسانه وقومه، حتى يصلح أن يؤدي به فرائضه ثم يبتدئ فيلقنه من سورة البقرة.

 وأحبُّ لمن يُلَقِّن إذا قرئ عليه أن يحسن الاستماع إلى من يقرأ عليه، ولا يشتغل عنه بحديث ولا غيره، فبالحري أن ينتفع به من يقرأ عليه، وكذلك ينتفع هو أيضاً، ويتدبر ما يسمع من غيره، وربما كان سماعه للقرآن من غيره له فيه زيادة منفعة وأجر عظيم، ويتناول قول الله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف: 204). فإذا لم يتحدث مع غيره وأنصت إليه أدركته الرحمة من الله، وكان أنفع للقارئ عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «اقرأ علي»، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».

[استحباب الإقراء للواحد، والتلقين للجماعة]

قال محمد بن الحسين الآجري: وأحب لمن كان يقرئ أن لا يدرس عليه وقت الدرس إلا واحد، ولا يكون ثانياً معه فهو أنفع للجميع. وأما التلقين: فلا بأس أن يلقن الجماعة، وينبغي لمن قرأ عليه القرآن فأخطأ عليه أو غلط: أن لا يعنفه وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، ويصبر عليه، فإني لا آمن أن يجفو عليه فينفر عنه، وبالحري أن لا يعود إلى المسجد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»

[ذم الشيخ الذي يطلب قضاء حوائجه ممن يقرأ عليه]

وقال: إنه ينبغي لمن كان يقرئ القرآن لله أن يصون نفسه عن استقضاء الحوائج ممن يقرأ عليه القرآن، وأن لا يستخدمه ولا يكلفه حاجة يقوم بها، وأختار له إذا عرضت له حاجة أن يكلفها لمن لا يقرأ عليه وأحب أن يصون القرآن على أن يقضى له به الحوائج، فإن عرضت له حاجة سأل مولاه الكريم قضاءها، فإذا ابتدأه أحد من إخوانه من غير مسألة منه فقضاها، شكر الله؛ إذ صانه عن المسألة والتذلل لأهل الدنيا، وإذ سهل الله له قضاءها، ثم يشكر من أجرى ذلك على يديه؛ فإن هذا واجب عليه.

قال: … ومرادي من هذا نصيحة لأهل القرآن لئلا يبطل سعيهم، إن هم طلبوا به شرف الدنيا حُرموا شرف الآخرة، إذ يتلونه لأهل الدنيا طمعاً في دنياهم، أعاذ الله حملة القرآن من ذلك. 

فينبغي لمن يجلس يقرئ المسلمين أن يتأدب بأدب القرآن يقتضي ثوابه من الله عز وجل، يستغني بالقرآن عن كل أحد من الخلق، متواضع في نفسه ليكون رفيعا عند الله.

باب ذكر أخلاق من يقرأ على المقرئ

 قال محمد بن الحسين الآجري: من كان يقرأ على غيره ويتلقن فينبغي له أن يحسن الأدب في جلوسه بين يديه، ويتواضع في جلوسه، ويكون مقبلاً عليه، فإن ضجر عليه احتمله، وإن زبره احتمله ورفق به، واعتقد له الهيبة، والاستحياء منه.

وأحب أن يتلقن ما يعلم أنه يضبط، هو أعلم بنفسه، إن كان يعلم أنه لا يحتمل في التلقين أكثر من خمس خمس، فلا ينبغي أن يسأل الزيادة، وإن كان يعلم أنه لا يحتمل أن يتلقن إلا ثلاث آيات، لم يسأل أن يلقنه خمساً، فإن لقنه الأستاذ ثلاثاًلم يزده عليها، وعلم هو من نفسه أنه يحتمل خمساً سأله أن يزيده، على أرفق ما يكون، فإن أبى لم يزده بالطلب، وصبر على مراد الأستاذ منه، فإنه إذا فعل ذلك، كان هذا الفعل منه داعياً للزيادة له ممن يلقنه إن شاء الله.

[أدب القارئ مع شيخه]

ولا ينبغي له أن يُضجِرَ ممن يلقنه فيزهد فيه، وإذا لقنه شكر له ذلك، ودعا له، وعظم قدره، ولا يجفو عليه إن جفا عليه، ويكرم من يلقنه إن هو لم يكرم، وتستحي منه إن كان هو لا يستحي منك، تلزم أنت نفسك واجب حقه عليك، فبالحري أن يعرف حقك؛ لأن أهل القرآن أهل خير وتيقظ وأدب يعرفون الحق على أنفسهم، فإن غفل عن واجب حقك، فلا تغفل عن واجب حقه، فإن الله عز وجل قد أمرك أن تعرف حق العالم وأمرك بطاعة العلماء، وكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن الحسين: ثم ينبغي لمن لقنه الأستاذ [القرآن] أن لا يجاوز ما لقنه، إذا كان ممن قد أحب أن يتلقن عليه، وإذا جلس بين يدي غيره لم يتلقن منه إلا ما لقنه الأستاذ، أعني بغير الحرف الذي قد تلقنه من الأستاذ، فإنه أعود عليه، وأصح لقراءته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا كما عُلّمتم».

[المواظبة على القراءة والتمكن منها]

قال محمد بن الحسين: من قنع بتلقين الأستاذ ولم يجاوزه فبالحري أن يواظب عليه، وأحب ذلك منه، وإذا أراه قد التقن ما لم يلقنه زهد في تلقينه وثقل عليه، ولم يحمد عواقبه.

وأحب له إذا قرأ عليه أن لا يقطع حتى يكون الأستاذ هو الذي يقطع عليه، فإن بدت له حاجته وقد كان الأستاذ مراده أن يأخذ عليه مائة آية، فاختار هو أن يقطع القراءة في خمسين آية، فليخبره قبل ذلك بعذره، حتى يكون الأستاذ هو الذي يقطع عليه.

وينبغي له أن يقبل على من يلقنه، ويأخذ عليه، ولا يقبل على غيره، فإن شغل عنه بكلام لا بد له في الوقت من كلامه، قطع القراءة حتى يعود إلى الاستماع إليه، وأحب له إذا انقضت قراءته عن الأستاذ، وكان في المسجد، فإن أحب أن ينصرف انصرف وعليه وقار ودرس في طريقه ما قد التقن، وإن أحب أن يجلس ليأخذ على غيره فعل، وإن جلس في المسجد وليس بالحضرة من يأخذ عليه، فإما أن يركع فيكتسب خيرًا، وإما أن يكون ذاكراً لله شاكراً له على ما علمه من كتابه، وإما جالس يحبس نفسه في المسجد، يكره الخروج منه خشية أن يقع بصره على ما لا يحل، أو معاشرة من لم يحسن معاشرته في المسجد، فحكمه أن يأخذ نفسه في جلوسه في المسجد ألا يخوض فيما لا يعنيه، ويحذر الوقيعة في أعراض الناس، ويحذر أن يخوض في حديث الدنيا وفضول الكلام، فإنه ربما استراحت النفوس إلى ما ذكرت مما لا يعود نفعه، وله عاقبة لا تحمد، ويستعمل من الأخلاق الشريفة في حضوره وفي انصرافه ما يشبه أهل القرآن، والله الموفق لذلك.

باب أدب القراء عند تلاوتهم القرآن مما لا ينبغي لهم جهله

 قال محمد بن الحسين: وأحب لمن أراد قراءة القرآن، من ليل أو نهار أن يتطهر، وأن يستاك وذلك تعظيم للقرآن؛ لأنه يتلو كلام الرب عز وجل؛ وذلك أن الملائكة تدنوا منه عند تلاوته للقرآن، ويدنو منه الملك، فإن كان متسوكاً وضع فاه على فيه، فكلما قرأ آية أخذها الملك بفيه، وإن لم يكن تسوك تباعد منه فلا ينبغي لكم يا أهل القرآن أن تباعدوا منكم الملك، استعملوا الأدب، فما منكم من أحد إلا وهو يكره إذا لم يتسوك أن يجالس إخوانه.

وأحب أن يكثر القراءة في المصحف لفضل من قرأ في المصحف، ولا ينبغي له أن يحمل المصحف إلا وهو طاهر؛ فإن أحبَّ أن يقرأ في المصحف على غير طهارة فلا بأس، ولكن لا يمسه، ولكن يصفح المصحف بشيء، ولا يمسه إلا طاهراً. 

[استحباب الطهارة عند التلاوة]

وينبغي للقارئ إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح أمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح. ثم إن أحب أن يتوضأ ثم يقرأ طاهراً فهو أفضل، وإن قرأ غير طاهر فلا بأس منه، وإذا تثاءب وهو يقرأ، أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب.

ولا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن، ولا آية، ولا حرفا واحدا، , وإن سبح أو حمد أو كبر وأذن فلا بأس بذلك وأحب للقارئ أن يأخذ نفسه بسجود القرآن كلما مر بسجدة سجد فيها، وفي القرآن خمس عشرة سجدة، وقد قيل: أربع عشرة، وقد قيل: إحدى عشرة سجدة، والذي أختار له أن يسجد كلما مرت به سجدة؛ فإنه يرضي ربه عز وجل ويغيظ عدوه الشيطان

  روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار".

[سجود التلاوة في موضعها]

  وأحب لمن كان يدرس وهو ماش في طريق، فمرت به سجدة أن يستقبل القبلة ويومي برأسه بالسجود، وهكذا إن كان راكبا، فدرس فمرت به سجدة، سجد يومي نحو القبلة إذا أمكنه. 

وأحب لمن كان جالسا يقرأ أن يستقبل بوجهه القبلة، إذا أمكن؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير المجالس ما استقبل به القبلة». 

وأحب لمن تلا القرآن أن يقرأه بحزن، ويبكي إن قدر، فإن لم يقدر تباكى، وأحب له أن يتفكر في تلاوته، ويتدبر ما يتلوه، ويستعمل غض الطرف عما يلهي القلوب، ولو ترك كل شيء حتى ينقضي درسه كان أحب إلي؛ ليحضر فهمه، فلا يشتغل بغير كلام مولاه. 

[سؤال الله الرحمة ودفع العذاب، في مواضعها]

وأحب إذا درس فمرت به آية رحمة سأل مولاه الكريم، وإذا مرت به آية عذاب استعاذ بالله عز وجل من النار، وإذا مر بآية تنزيه لله عز وجل عما قال أهل الكنز سبح الله وعظمه، وإذا كان يقرأ فأدركه النعاس، فحكمه أن يقطع القرآن حتى يرقد، حتى يقرأه وهو يعقل ما يتلو. قال محمد بن الحسين: جميع ما أمرت به التالي للقرآن موافق للسنة وأقاويل العلماء.

[محاسبة القارئ نفسه، وكثرة استغفاره]

قال محمد بن الحسين: جميع ما ذكرته ينبغي لأهل القرآن أن يتأدبوا به ولا يغفلوا عنه، فإذا انصرفوا عن تلاوة القرآن اعتبروا نفوسهم بالمحاسبة لها، فإن تبينوا منه قبول ما ندبهم إليه مولاهم الكريم مما هو واجب عليهم من أداء فرائضه، واجتناب محارمه، فحمدوه في ذلك وشكروا الله على ما وفقهم له، وإن علموا أن النفوس معرضة عما ندبهم إليه مولاهم الكريم، قليلة الاكتراث به، استغفروا الله من تقصيرهم، وسألوه النقلة من هذا الحال الذي لا يحسن بأهل القرآن، ولا يرضاها لهم مولاهم إلى حالة يرضاها، فإنه لا يقطع من لجأ إليه، ومن كانت هذه حاله وجد منفعة تلاوة القرآن في جميع أموره، وعاد عليه من بركة القرآن كل ما يحب في الدنيا والآخرة إن شاء الله

باب في حسن الصوت بالقرآن

قال محمد بن الحسين: ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس.

فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفته أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله عز وجل في السر والعلانية، وكان مراده أن يستمع منه القرآن؛ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس.

قال محمد بن الحسين: فأحب لمن يقرأ القرآن أن يتحزن عند قراءته، ويتباكى ويخشع قلبه، ويتفكر في الوعد والوعيد ليستجلب بذلك الحزن.

ألم تسمع إلى ما نعت الله عز وجل من هو بهذه الصفة؟، وأخبرنا بفضلهم، فقال عز وجل: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (الزمر: 23) الآية.

ثم ذم قوماً استمعوا القرآن فلم تخشع له قلوبهم، فقال عز وجل: {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} (النجم: 60).

[استحباب الترتيل والتؤدة]

ثم ينبغي لمن قرأ القرآن أن يرتل كما قال الله عز وجل: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل: 4) قيل في التفسير: تبينه تبيينا، واعلم أنه إذا رتله وبينه انتفع به من يسمعه منه، وانتفع هو بذلك؛ لأنه قرأه كما أمر الله عز وجل في قوله تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} (الإسراء: 106) على تؤدة.

قال محمد بن الحسين: والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحب إلي من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر، ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة وقول أئمة المسلمين.

قال محمد بن الحسين: جميع ما قلته ينبغي لأهل القرآن أن يتخلقوا بجميع ما حثثتهم عليه من جميع الأخلاق وينزجروا عما كرهته لهم من دناءة الأخلاق , والله الكريم يهدينا وإياهم إلى سبيل الرشاد.

انتهى.



الأربعاء، 11 مايو 2022

شرح حديث ما ذئبان جائعان رسالة في ذم الحرص على المال والشرف تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي

شرح حديث ما ذئبان جائعان

رسالة في ذم الحرص على المال والشرف

تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لقد قدم الإسلام للعالم منهجاً تربوياً متكاملاً، يصقل شخصية الفرد، ويبرزه كعلامة فارقة ومؤثرة في المجتمع، ويعده إعداداً كاملاً لحياة الدنيا والآخرة، وكان من أبرز المرتكزات التي قام عليها هذا المنهج: الخضوع لله وحده، وإخلاص العبودية له، والأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى االله عليه وسلم.

فكانت التربية الإسلامية هي المنقذ الوحيد لأجيالنا من الذوبان وفقدان الهوية في هذه الأوضاع التي طغى فيها حب المال والشهرة على الأهداف الشريفة والغايات النبيلة، وقد أضحى المنهج الإسلامي اليوم ضرورة حتمية وشرعية للحياة الآمنة والمطمئنة، التي توازن بين الروح والمادة، وبين الغنى والقناعة، وبين الرفعة والتواضع.

وسعت التربية الإسلامية إلى إيجاد حالة متوازنة في النفس الإنسانية من خلال ضبط سلوكيات الفرد ضمن إطار الحاجة والمسؤولية، وذلك في نصوص قرآنية كثيرة، قال تعالى:{وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).

وفي إطار هذا الحديث، نجد أن الإسلام كثيراً ما ينعى على ابن آدم حرصه على جمع المال وكنزه، وطلب الرياسة والسعي إليها، دون الوفاء بحقوق أيِّ منهما، فتراه يحرص على طلب المال من جميع وجوهه المباحة والمحرمة، ويطلب الشرف والرياسة من كل طريق نظيف ورذيل، ليُخضع الناس لأمره ونهيه، ويتعاظم بذلك ويتكبر على خلق الله، ثم هو يمنع حق المال الواجب، ويقطع الأرحام، ويسيء في معاملة الناس، ويظلم عباد الله.

وأما الشرف الحقيقي، فهو في طلب الآخرة والسعي لها، والبطولة الحقيقية في إيثار الباقي على الفاني، وقد قال صالح بن الإمام أحمد -وذكر عنده رجل؛ فقال: "يا بُنيّ! الفائزً من فاز غداً، ولم يكن لأحدٍ عنده تبعة" (الحلية: 9/ 179).

وقد علم ذلك الحريص بأن رزقه مقسوم، وأجله محتوم، وأن المال والرياسة كليهما لا يدوم. بل إن الحريص على الشرف والمال -في دنياه مُعذَّبٌ مشغول، مغموم محزون، لا يهنأ له عيش، ولا يرقى له بال.. وإن من الشرف في الجاه الزهد فيه، وكان الإمام أحمد يقول: "الزهد ترك حُب الثناء" (المناقب، ص 195).

وقد قيل لبعض الحكماء : فلانا يجمع مالاً! فقال هل جمع أياماً ينفقه فيها؟ قيل: لا. قال: ما جمع شيئاً. فرزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره.. 

وهذه رسالة لطيفة بديعة بيّن فيها الحافظ ابن رجب آفات الحرص على المال والشرف، من خلال شرح حديث: (ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ، لدِينه). 

وهذا مثلٌ عظيم ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبيان الفساد الذي يُصيب دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، ذلك أنه يُضيع عمره في تحصيل هذين الأمرين، ويغفل عن مراعاة أمور دينه، فكان إفسادهما للدين مثل إفساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، وقد غاب عنها رعاتهما ليلاً، فهما يأكلان في الغنم، ويفترسان فيها من غير أن يشعر أصحابها.

فمثَّل الطمع في المال والحرص على الشرف: بذئبين يأكلان دين المرء ويفترسانه، وهذا التصوير يحمل في طياته غاية التحذير، ذلك أن حرص المرء على المال والشرف ليس إفسادهما لدينه بأقل من إفساد هذين الذئبين لهذه الغنم، بل إما إن يكون مساوياً وإما أن يكون أزيد.

وقد ذكر المصنف أنواع الحرص على المال، والتي منها: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة والمحرمة، وفي الحرص على المال جمعٌ لمن لا يحمده، ويقدم به على من لا يعذره.. 

وهذا الحديث مرويٌّ عن ثمانيةٍ من الصحابة الكرام، وهم: كعب بن مالك الأنصاري، وأبو هريرة، وعاصم بن عدي وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم.

وفي حديث عاصم بن عدي بيان سبب ورود الحديث: (قال عاصم: اشتريت أنا وأخي مائة سهم من سهام خيبر، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال يا عاصم ما ذئبان…).

وفي حديث جابر: (غاب عنها رعاتها بأفسد فيها من التماس الشرف والمال لدين المؤمن)، وفي بعض الروايات: (باتا في حظيرة -وفي لفظٍ: زريبة غنم -يفترسان ويأكلان). وفي حديث ابن عباس (من حُب المال والشرف) بدلاً من (الحرص في الدنيا).

وقد بيَّن المُحقق تخريج هذا الحديث، وطُرقه، واختلاف ألفاظه، مع بيان رجاله، وإسناده، ومدى صحته عند أهل العلم المتقدمين والمعاصرين. وقد صححه من أهل العلم الترمذي، وشعيب الأرناؤوط، والألباني، وغيرهم.

شرح الحديث من التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 395)

(ما ذئبان) ضاريان، (جائعان أرسلا) أطلقا وخليا (في غنم بأفسد لها) أي للغنم بإهلاكها وإتلافها (من حرص المرء) هو المفضل عليه (على المال) متعلق بأحرص (والشرف) طلب العلو والرياسة (لدينه) متعلق بأفسد، وقيل: إنها للبيان كأنه قيل لمن أفسد قال لدينه، أي أن الحرص على الشرف والمال أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئب للغنم فهو زجر عن حب المال والحرص عليه وعلى الشرف وإن ذلك متلف للدين (حم ت) عن كعب بن مالك).

شرح الحديث من التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 349)

(مَا) بِمَعْنى لَيْسَ (ذئبان) اسْمهَا (جائعان ارسلا فِي غنم بأفسد) خبر مَا وَالْبَاء زَائِدَة أَي أَشد افسادا (لَهَا) أَي للغنم، وَاعْتبر فِيهِ الجنسية فأنث وَقَوله (من حرص الْمَرْء) هُوَ الْمفضل عَلَيْهِ (على المَال والشرف) أَي الجاه والمنصب (لدينِهِ) لامه للْبَيَان كَأَنَّهُ قيل لأفسد من أَي شئ قيل لدينِهِ، وَالْمَقْصُود أَن الْحِرْص على المَال الشّرف أَكثر افسادا للدّين من افساد الذئبين للغنم؛ لَان الأشر والبطر يفسدان صَاحبهمَا، اما المَال فُلَانُهُ يَدْعُو الى الْمعاصِي فانه يُمكن مِنْهَا، وَمن الْعِصْمَة أَن لَا تجدو لانه يَدْعُو الى التنعم بالمباحات فينبت على التنعم جسده، وَلَا يُمكنهُ الصَّبْر عَنهُ، وَذَلِكَ لَا يُمكن استدامته الا بالاستعانة بِالنَّاسِ والالتجاء الى الظلمَة وَذَلِكَ يُؤَدِّي الى النِّفَاق وَالْكذب، وَأما الجاه فانه أعظم فتْنَة من المَال فان مَعْنَاهُ الْعُلُوّ والكبرياء والعز وَهِي من الصِّفَات الالهية (حم ت عَن كَعْب بن مَالك) واسناده كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ جيد

شرح الحديث من السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (4/ 201)

(ما) بمعنى ليس (ذئبان) اسمها (جائعان) صفة له (أرسلا في غنم) الجملة صفة ثانية (بأفسد خبر ما والباء زائدة أي أشدّ فساداً (لها) أي للغنم (من حرص المرء) هو المفضل عليه لاسم التفضيل (على المال) متعلق بالحرص (والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه وقوله (لدينه) اللام فيه للبيان كان قيل بأفسد لأي شيء قيل لدينه والقصد أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم (حم ت) عن كعب بن مالك قال العلقمي بجانبه علامة الصحة.