أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 6 أبريل 2021

الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة -جمال الدين يوسف بن محمد بن مسعود السُّرمرَّي الحنبلي

الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة

جمال الدين يوسف بن محمد بن مسعود السُّرمرَّي الحنبلي 

(696 - 776 هـ)

تحقيق: محمد خير رمضان يوسف


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنونة


تمهيد/ هذا جزءٌ حديثيٌّ نفيس في موجبات الجنَّة، وهي الأعمال التي تُدخل صاحبها الجنَّة، استقرأ فيه الجمال السَّرمرّي أربعين خصلة من أعمال البر اليسيرة التي تُعد مثل منيحة العنز أو دونها، وهذه الخصال كلها من سُنن الهدى، وأعمال البر، وقد أمر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وحضَّ على فعلها، وفي كل خصلة من هذه الخصال منافع عظيمة، وفوائد كبيرة، تعود على المرء بعظيم الثواب والأجر، وحسن المآل والعاقبة.

وذكر -رحمه الله -في كل خصلة حديثًا أصله من الصحيحين أو أحدهما، وعلّق عليه بما يوضح معناه من تفسير غريبٍ أو استنباط معنى، مستدلا لذلك بعدة أحاديث في الباب، يخرج بعضها دون بعض.

وينبغي التنبُّه إلى أن بقية الأحاديث المذكورة في التعليقات والشرح؛ فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، بل والموضوع؛ فينبغي على القارئ معرفة ذلك، والنظر في هامش التحقيق.

ويذكر -هنا -أنَّ السَّرمرّي بنى جمعه لهذه الأربعين على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما مـن عامل يعمل بخَصلة منها؛ رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله االله بها الجنة)، ولـم يبنهـا على حديث (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمرِ دينِها بعثهُ اللهُ يومَ القيامةِ في زُمرةِ الفقهاءِ والعلماءِ)؛ لأن الناس تكلموا في صحة الأخير، وبيَّنوا ضعفه.

قال: والترغيب في هذه الأربعين أولى من الترغيب في تلك؛ لأن كل خصلة منها موجبة للجنة، أمـا تلك الأربعون فهي بجملتها موجبة للحشر مع الفقهاء والعلماء... وأشار إلى أنه لم يسبق إلى هـذا الموضوع.

والمراد بالمنيحة هي المنحة أو العطيَّة أو العاريّة، التي يمنحها المسلم لغيره لينتفع بها، وهو حديثٌ يُكرِّس قاعدة التكافل الاجتماعي في الإسلام، وأهميَّة مواساة المسلمين لبعضهم، وتفقُّد أحوالهم، والتشارك في الخير، حيثُ يُعطي الرجل جاره أو صاحبه أو المحتاج شاةً ينتفع بلبنها زمناً ثُم يردُّها، 

  • وموضوعات الأحاديث بحسب ترتيبها:

1.في رحمة الله تعالى بمن يرحم المخلوقات: 

(بينَما رجلٌ يمشي بِطريقٍ اشتَدَّ بهِ العَطشُ، فوجدَ بئرًا فنزلَ فيها، فشرِبَ ثمَّ خرجَ، فإذا كلبٌ يلهَثُ، يأكُلُ الثرى من العَطشِ، فقال الرَّجُلُ: لقد بلغَ هذا الكلبُ من العَطشِ مِثلَ الَّذي كان بلغَني، فنزلَ البِئرَ فملأَ خُفَّهُ ثمَّ أمسكَه بفيِه فسَقى الكلبَ فشكرَ اللهُ لهُ، فغَفرَ لهُ. قالوا: يا رسولَ اللهِ وإنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟ قال: في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ).

2.فيه عدَّة خصال من تنفيس الكرب عن المؤمنين:

(مَنْ نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِهِ نَفَّسَ اللهُ كُرَبَهُ يومَ القيامَةِ ومَنْ سَتَرَ على مؤمِنٍ عورَتَهُ ستَرَ اللهُ عورتَهُ ومن فرَّجَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً فرَّجَ اللهُ عنه كُرْبَتَهُ).

3. في اتقاء النار بيسير الصَّدقة:

(ما منكُم من أحدٍ إلّا سيُكلِّمُهُ ربُّه، ليسَ بينَهُ وبينَهُ ترجمانٌ، فينظرُ أمامَهُ فتستقبلُهُ النّارُ، وينظرُ عن أيمنَ منهُ فلا يرى إلّا شيئًا قدَّمَهُ، وينظرُ عن أشأمَ منْهُ فلا يرى إلّا شيئًا قدَّمَه، فمنِ استطاعَ منْكم أن يتَّقيَ النّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ فليفعَل).

4. في رفع الأذى عن الطريق:

(رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنَّة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس).

5. في إيثار العيال على النفس:

(جاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَها، فأطْعَمْتُها ثَلاثَ تَمَراتٍ، فأعْطَتْ كُلَّ واحِدَةٍ منهما تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إلى فِيها تَمْرَةً لِتَأْكُلَها، فاسْتَطْعَمَتْها ابْنَتاها، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتي كانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَها بيْنَهُما، فأعْجَبَنِي شَأْنُها، فَذَكَرْتُ الذي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ أَوْجَبَ لَها بها الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَها بها مِنَ النّارِ.).

6. في إنظار المعسر:

(من أنظر مُعسراً، أو وضع له، أظلَّه الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه).

7. في المشي إلى المساجد:

(من غدا إلى المسجد أو راح، أعدَّ الله له في الجنَّة نُزلاً كلما غدا أو راح).

8. في سؤال الوسيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه:

(إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثلما يقول، ثُمَّ صلوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً).

9.في حفظ اللسان والفرج:

(من توكل لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، تركلتُ له بالجنَّة).

10.في احتساب المصيبة عند الله:

(ما من مُصبةٍ يُصاب بها المؤمن إلا كُفِّر عنه من خطاياه؛ حتى الشوكة يُشاكها، والنكبة يُنكبها).

11.في السلام وما يؤدي إليه من المحبّة والإيمان ودخول الجنة:

(لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ على شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ).

12.في الصدق وما يؤدي إليه:

(إنَّ الصدق يهدي إلى البّر، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة).

13.فيه عدَّة خصال في التي تجعل صاحبها في ظلِّ العرش يوم القيامة: 

(سبعةٌ يظلُّهمُ اللَّهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلّا ظلُّهُ الإمامُ العادلُ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابّا في اللهِ اجتمعا علَيهِ وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبتهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقالَ إنِّي أخافُ اللَّه. ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ أخفاها حتّى لا تعلمَ يمينُه ما تُنفقُ شمالُه، ورجلٌ ذَكرَ اللَّهَ خاليًا ففاضت عيناهُ).

14.في حُبّ أهل الدين والخير من الأنبياء وغيرهم:

جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسأله: متى السَّاعة؟ فقال له: (وماذا أعددت لها؟) قال: حُبُّ الله ورسوله، فقال له: (المرء مع من أحبَّ).

15.في ترك التهاجر والتشاجر:

(تفتَّحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ فيغفرُ فيهما لمن لا يشرِكُ باللَّهِ إلّا المُهتَجرَينِ، يقال: ردُّوا هذينِ حتّى يصطلِحا).

16.في عيادة المرضى:

(من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنَّة) أي جناها.

17. في الحمد والشكر على الأكل والشرب:

(إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها، ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها).

18.في التسمُّح في المعاملة:

(رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى).

19.في عدَّة خصال، ما اجتمعت في امرئٍ إلا دخل الجنَّة:

(مَن أصبحَ منكُم اليومَ صائمًا؟ فقال أبو بكرٍ: أنا فقالَ: مَن أطعَم منكُم اليومَ مِسكينًا؟ فقال أبو بكرٍ: أنا فقالَ: من تبعَ منكُم اليومَ جنازةً؟ قال أبو بكرٍ: أنا قال: مَن عاد منكُم اليومَ مَريضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا فقالَ رسولُ اللهِ: ما اجتَمعَت هذهِ الخِصالُ قطُّ في رجُلٍ في يومٍ إلادخلَ الجنَّةَ).

20.في الخوف من الله عزَّوجل:

(لقد دخَل رجُلٌ الجَنَّةَ ما عمِل خَيرًا قَطُّ، قال لأهلِه حين حضَره الموتُ: إذا أنا مِتُّ فأَحْرِقوني، ثُم اسحَقوني، ثُم اذْروا نِصْفي في البَحرِ، ونِصْفي في البَرِّ، فأَمَر اللهُ البَرَّ والبَحرَ فجَمَعاه، ثُم قال: ما حمَلكَ على ما فعَلْتَ؟ قال: مَخافَتُكَ، قال: فغَفَر له لذلك).

21.في القناعة بالميسور:

(قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتاهُ).

22.في الحِلم والأناة:

(إنَّ فيكَ خَصلتينِ يحبُّهُما اللَّهُ: الحِلمُ، والأناةُ).

23.في تقبيل العيال ورحمتهم:

(من لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ)، (الرّاحمون يرحَمُهم الرَّحمنُ ارحَموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السَّماءِ).

24.في حُسن الخُلُق:

(البِرُّ حسنُ الخلقِ والإثمُ ما حاكَ في صدركَ وخشيتَ أن يطلعَ عليهِ الناسُ).

25.في فضل مجالسة أهل الذكر:

(إنَّ لِلَّهِ تَبارَكَ وَتَعالى مَلائِكَةً سَيّارَةً، فُضُلًا يَتَبَّعُونَ مَجالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذا وَجَدُوا مَجْلِسًا فيه ذِكْرٌ قَعَدُوا معهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بأَجْنِحَتِهِمْ، حتّى يَمْلَؤُوا ما بيْنَهُمْ وبيْنَ السَّماءِ الدُّنْيا، فَإِذا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إلى السَّماءِ، قالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهو أَعْلَمُ بهِمْ: مِن أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فيَقولونَ: جِئْنا مِن عِندِ عِبادٍ لكَ في الأرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قالَ: وَماذا يَسْأَلُونِي؟ قالوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قالَ: وَهلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لا، أَيْ رَبِّ قالَ: فَكيفَ لو رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قالوا: مِن نارِكَ يا رَبِّ، قالَ: وَهلْ رَأَوْا نارِي؟ قالوا: لا، قالَ: فَكيفَ لو رَأَوْا نارِي؟ قالوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قالَ: فيَقولُ: قدْ غَفَرْتُ لهمْ فأعْطَيْتُهُمْ ما سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ ممّا اسْتَجارُوا، قالَ: فيَقولونَ: رَبِّ فيهم فُلانٌ عَبْدٌ خَطّاءٌ، إنَّما مَرَّ فَجَلَسَ معهُمْ، قالَ: فيَقولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ القَوْمُ لا يَشْقى بهِمْ جَلِيسُهُمْ).

26.في العدل في الحكم فيما استرعاه الله تعالى:

(المقسِطونَ على منابرَ من نورٍ على يمينِ العرشِ الَّذينَ يعدِلونَ في حُكمِهم وأَهاليهم وما وُلُّوا).

27. في حُسن الظن بالله عز وجل:

(أنا عندَ ظنِّ عبدي بي فلْيظُنَّ بي ما شاء).

28. في التوكل على الله تعالى في ترك التداوي:

(سَبعونَ ألْفًا يَدخُلُونَ الجنةَ بِغيرِ حِسابٍ ولا عذابٍ، هُمُ الذينَ لا يَرقُونَ، ولا يَسترقُونَ، ولا يَتطيَّرُونَ، ولا يَكتَوُونَ، وعلى ربِّهمْ يَتوكَّلُونَ).

29.في رجاء العبد العفو من الرّب مع المعاودة إلى فعل الذنب:

(يقول الله عز وجل: أذنَب عبدي ذنبًا. فقال: أيْ ربِّ أذنَبْتُ. فقال: أذنَب عبدي ذنبًا فعلِم أنَّ اللهَ يغفِرُ الذُّنوبَ ويأخُذُ بالذُّنوبِ ثمَّ عاد فأذنَب فقال: أيْ ربِّ أذنَبْتُ فقال: أذنَب عبدي وعلِم أنَّ ربَّه يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ بالذَّنبِ اعمَلْ ما شِئْتَ فقد غفَرْتُ لك).

30.في الصبر على ذهاب البصر احتساباً:

(إنَّ اللَّهَ قالَ: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ؛ عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ. يُرِيدُ عَيْنَيْهِ).

31.في ترك الحسد والغش للمسلمين:

(لا تباغَضوا، ولا تحاسَدوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا).

32.في الدلالة على الخير:

(مَن دَلَّ على خيرٍ، فلَهُ مِثلُ أجْرِ فاعِلِهِ).

33.في النهي عن المنكر بالقلب:

(مَن رأى منكم مُنكرًا فليغيِّرْهُ بيدِهِ فإن لم يستطعْ فبلسانِهِ فإن لم يستطعْ فبقلبِهِ)

34.في التأمين خلف الإمام عند قوله {ولا الضّالين}:

(إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا، فإنَّه مَن وافَق تَأمينُه تَأمينَ المَلائِكَةِ غُفِر له ما تقَدَّم من ذَنْبِه).

35. حديث فيه عدة خصال من عيادة المريض، وإطعام الجائع، وسُقيا العطشان:

(إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي. يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي).

36.في الحثِّ على القُربات والنوافل مجملاً:

( إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ).

37.في المسلم يُحبُّ للمسلم ما يُحبُّه لنفسه:

(لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).

38. في التواضع والمسكنة لله تعالى وترك التكبُّر والتجبُّر:

( ألا أخبرُكم بأَهلِ الجنَّةِ؟ كلُّ ضعيفٍ متضعِّفٍ، ألا أخبرُكم بأَهلِ النّارِ؟ كلُّ عتلٍّ جوّاظٍ مستَكبرٍ).

39. في الرجل يسأل ربَّه ما يُوجب له الجنَّة بصدق نيَّة:

(مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ بصدقٍ بلَّغه اللهُ منازلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه).

40.في الرجل يُظهر الخير ويموتُ ويشهدُ له النَّاس به:

(مُرَّ بجَنازَةٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُثْنِيَ عَلَيْها خَيْرًا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: وَجَبَتْ (ثلاثاً)، وَمُرَّ بجَنازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْها شَرًّا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: وَجَبَتْ (ثلاثاً)، قالَ عُمَرُ: فِدًى لكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بجَنازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْها خَيْرٌ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَمُرَّ بجَنازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْها شَرٌّ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: مَن أَثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا وَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وَمَن أَثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا وَجَبَتْ له النّارُ، أَنْتُمْ شُهَداءُ اللهِ في الأرْضِ، أَنْتُمْ شُهَداءُ اللهِ في الأرْضِ، أَنْتُمْ شُهَداءُ اللهِ في الأرْضِ).

41. حديثٌ يجمع عدة خصال من الخير ليس من الكتابين (يعني البخاري ومسلم).

(مَن بَلَغَهُ عنِ اللهِ شيءٌ فيه فضيلةٌ، فأخذ به إيمانًا به، ورجاءَ ثَوابِهِ، أعطاه اللهُ ذلك، وإن لم يَكُنْ كذلك). وهو حديث موضوع.




الاثنين، 5 أبريل 2021

رسالة موجزة في بيان براءة الإمام مالك وأصحابه وكبار أتباعه من مذهب الأشاعرة أ. د. أحمد محمد عبد الحفيظ -بقلم. أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

رسالة موجزة في بيان براءة الإمام مالك وأصحابه وكبار أتباعه 

من مذهب الأشاعرة

أ. د. أحمد محمد عبد الحفيظ

رئيس لجنة الإفتاء بليبيا

بقلم. أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ جاء الإسلام ليُخاطب في الإنسان عقله وقلبه معاً، ولهذا ذمَّ الذين لا يعقلون، ولا يتفكرون، كما أنه ذمَّ الذين لا يُذعنون لآيات الله الشاملة لخبره وأمره ونهيه، وما أنزل من الحقِّ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي قضيتنا الأولى مع الفرق الكلامية، الذين يجعلون من العقل حاجزاً سميكاً، يحول بينهم وبين معرفة الحق وإدراكه، بينما أهل السُّنة يُوظفون طاقات العقل في فهم مراد الشَّارع ومعرفة مقاصده.

وفي هذا الكتاب نجد إشارات بليغة وكلماتٍ نفيسة تُعلن بوضوح عن براءة الإمام مالك (ت 179 هـ) رحمه الله تعالى، وأصحابه من مذهب الأشاعرة، باعتباره مذهب كلاميٌّ منحرف، يقضي بتحريف صفات الباري سبحانه، وتعطيلها عن معانيها، مع بيان زيغهم في باب الأسماء والصفات، وهو تلخيصٌ لكتاب (الردود الأثرية على شُبه أدعياء المالكية) للمؤلف نفسه.

والأشعرية فرقة تنتسب لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله في مذهبه الثاني بعد رجوعه عن الاعتزال، وكان تلميذاً لأبي علي الجبائي، رئيس المعتزلة، ثم خالفه وعارضه، وبل وأعلن برائته من مذهب المعتزلة، وذلك لما رأى فيه من الضلال والفساد.

وعامة الأشاعرة ينفون عن لله تعالى جميع الصفات الخبرية عدا سبعة صفات، يسمونها بالصفات العقلية (أو صفات المعاني)، بمعنى أن لها معانٍ زائدةٍ على الذات، وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وإنما أثبتوها لأن العقل لا يُحيلها، دون أدنى التفاتةٍ إلى وجوب التسليم للشَّرع بما جاء به، كذلك هم موافقون للمرجئة في الإيمان، والجبرية في القدر، ووما هم عليه مخالفٌ لمذهب أهل السنة والجماعة.

وقد ثبت رجوع الإمام أبي الحسن الأشعري عن مذهبه في التعطيل إلى طريقة أهل السُّنة والجماعة في الإثبات، ونقل ذلك عنه كبار الأئمة؛ كابن كثير، والذهبي وغيرهما. واستقرَّ على عقيدة السلف إجمالاً، وقد أودع ذلك في آخر كتبه وهو (الإبانة عن أصول الديانة)، وأصرَّ جماعةٌ من الأشاعرة على هذا المسلك في التحريف، واهتموا بإقامة البراهين على أنَّ الألوهيَّة تختصُّ بالقدرة على الخلق والاختراع، كابن فورك والباقلاني، ومن تبعهما من متأخري الأشعرية.


وقد ركَّز المؤلف على ثلاث محاور أساسية:

الأولى: لمحة تاريخية موجزة عن مذهب الأشاعرة ومؤسسه أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، وكيف ابتُلي أهل المغرب الإسلامي به، وعلى يد من كان ذلك، ومن الذي قدم به إليهم؟ ومن نشره بينهم؟! وفيه بيان أنه لا قيمة لهذا المذهب الكلامي وكتبه عند المالكيين علماء ودعاة وعامة، وقد نقل ذلك ابن خلدون في (تاريخه)، والسَّلاوي المالكي في تاريخه (الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى).

وأول من أظهر الأشعرية في المغرب الإسلامي هو السَّفاح محمد بن تومرت (ت 524 هـ)، وفكره خليطٌ ما بين التشيُّع والتصوف، وكان قد ادَّعى لنفسه العصمة، وأنه الإمام المهدي، وأنه يعلم الغيب، وأنه من الذي يخطُّون على الرمل، وقد سمَّى أتباعه وطريقته في التحريف (الموحدين)، وألف في العقائد الأشعرية (المرشدة في التوحيد).

الثاني: بيان أن مؤسس هذا المذهب ترك مذهبه وتبرأ منه، وعاد إلى ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، والأئمة الفقهاء مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، الذين أثبتوا لله ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته من غير تحريفٍ، ولا تعطيل، ولا تمثيلٍ، ولا تأويل.كذلك ذكر شيء من تراجعاته التي أعلنها في كتبه مثل (مقالات الإسلاميين)، و(الإبانة عن أصول الديانة)، و(الموجز والمسائل)، و(رسالته إلى أهل الثغر).

وذكر توبة أكابر أئمة المذهب الأشعري؛ كالفخر الرازي، والغزالي، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الشهرستاني، وغيرهم، وعليه فالمذهب الأشعري هو مذهب مخذولٌ متروكٌ،، فلا يتمسَّك به إلآ جاهلٌ لا يعي خطورة ما هو عليه من الانحراف، أو إنسانٌ متَّبعٌ لهواه.

الثالث: نقل كلام كلام أئمة كبار المالكية الذين ذمُّوا طريقة أهل الكلام والفلسفة من الأشاعرة وغيرهم، وحضِّهم على اتباع سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

ومن أعيان علماء المالكية الذين ذمُّوا المذهب الكلامي والأشعري على وجه التحديد وحاربوه، وذموا المتكلمين:

1.الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (ت 212 هـ).

2.الإمام أصبغ بن الفرج (ت 225 هـ).

3. والقاضي عبد السلام بن سعيد التنوخي (ت 240 هـ).

4. والإمام ابن أبي زيد القيرواني (ت 386 هـ).

5.والإمام الأديب أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين (ت 399 هـ).

6.والإمام أبو بكر محمد بن وهب التجيبي (ت 406 هـ).

7.والإمام القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي (ت 422 هـ).

8. والإمام أبو عمر أحمد بن محمد  المعافري المالكي (ت 429 هــ).

9. والإمام الفقيه أبو عمرو الداني المالكي (ت 444 هـ).

10. والإمام أبو الحسن بن بطَّال البكري (ت 449 هـ).

11. وحافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر (ت 463 هـ).

12.الإمام ابن خويز منداد المالكي في كتابه في الخلاف.

13. والإمام أبو الوليد بن رشد المالكي (ت 520 هـ).

14.  أبو محمد عبد الواحد المراكشي المالكي  (ت 647 هـ).

15.والعلامة أحمد بن مشرف التميمي (ت 1285 هـ).

وعليه فإن من نَسب الأشعرية إلى مالك أو أحدٍ من أصحابه؛ فهو جاهلٌ أعمى، لأن مالكاً وأصحابه قد ماتوا قبل أن يولد الأشعريّ ذاته، ومن ينسب الأشعرية إلى مالكٍ أو إلى أحدٍ من أصحابه فهو مُفترٍ كذّاب.





الجمعة، 2 أبريل 2021

رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سُنَنه -للإمام أبي داود سليمان بن اشعث السجستاني (ت 275 هـ)

رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سُنَنه

للإمام أبي داود سليمان بن اشعث السجستاني (ت 275 هـ)

تحقيق: د. محمد لطفي الصّباغ

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ هذه رسالةٌ ثمينة، وبحثٌ ماتع، نتعرف من خلاله على سُنن الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، المولود بسجستان سنة (٢٠٢ هـ)، والمتوفى بها سنة (٢٧٥ هـ)، وهو كتابٌ نفيس، ألَّفه أبو دواد وهو في طَرَسُوسَ مرابطٌ في أحد ثغور المسلمين على بلاد الروم، ومكث في تأليفه ما يُقارب العشرين سنة، وقد أراد بذلك جمع السننِ الواردةِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم -على سبيل الاستقصاء، ولكنه مع ذلك لم يستوعب جميع السُّنن، وفي ذلك يقول الإمام التوويُّ رحمه الله: إن سنن أبي داود لم تستوعِب الصحيحَ من أحاديث الأحكام ولا مُعظمها، وكم في "صحيح البخاري" و"مسلم" من حديث حُكميّ ليس في "سنن أبي داود".

وعدد أحاديث كتابه (٤٨٠٠) حديث، وقد اختارها من بين (٥٠٠) ألف حديث، حيث قال: "كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ ما ضمنته وجمعتُ في كتابي هذا أربعة آلاف وثمانمئة حديث من الصحيح، وما يُشبهه وما يُقاربه" يعني من الحسن والضعيف المنجبر.

ويعتبر الإمام أبو داود أحد الأئمة الكبار المعروفين في زمانه، وقيل في كتابه السنن: من كان في بيته سنن أبي داود؛ فكأنَّ فيه نبياً يتكلم.

  وقد بيَّن فيه الإمام أبي داود كثيراً من مقاصده وأصوله في كتابه "السنن"، ووضحَّ فيه نهجه الذي سلكه في تأليفه له، وما ميَّز كتابه عن غيره، وكان أبو داود يفتحر بكتابه "السُّنن"؛ حتى قال: لا أعلم شيئاً بعد القرآن ألزم للناس تعلُّمه من هذا الكتاب، ولا يضرُّ رجلاً ألا يكتب من العلم بعده شيئاً، ومن نظر فيه عرف مقداره.

وهذه الرسالة برواية: الإمام عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت ٦٠٠ هـ). عن أبي الفتح ابن البطي (ت ٥٦٤ هـ)، عن أبي الفضل بن خيرون (ت ٤٨٨ هـ)، عن أبي عبد الله الصُّوري (ت ٤٤١ هـ)، عن أبي الحُسين الغساني (ت ٤٠٢ هـ)، عن محمد بن عبد العزيز الهاشمي، عن أبي داود (ت ٢٧٥ هـ).

  • دلالة هذه الرسالة على شخصية أبي داود:

١) التعرف إلى التفكير المنهجي الذي تمتع به الإمام أبي داود.

٢) التعرف إلى المستوى العلمي الرفيع الذي بلغه الإمام أبي داود.

٣) معرفة اطلاعه الواسع على الكتب المؤلفة في السُّنن والآثار.

٤) عنايته الكبيرة بالأحاديث الواردة في الكتاب حيث عدَّ ما فيه من المتصل والمرسل.

٥) التزام أبي داود بأدب الإسلام في نقل الخلاف، ونقد الرجال.

وقد طُبعت هذه الرسالة بمصر سنة (١٣٦٩ هـ) في مطبعة الأنوار بتحقيق الكوثري، الذي كانت طريقته سيئة في التحقيق، حيثُ يتصرف بكثيرٍ من عبارات الكتاب، تصرفاً يُفسد المعنى. وله سوابق في هذا المضمار، وله تعليقات غير مناسبة؛ فيُطيل أحياناً في الدفاع عن أبي يوسف، أو أبي حنيفة، بالإضاف إلى نيله من بعض الأعلام كابن المبارك، والرجل لا يؤمن جانبه في التحقيق العلمي، لا سيما وأنه مُحاربٌ لعقيدة السَّلف، وهو حاقدٌ أشدَّ الحقد على أئمة الهُدى، ومتعصِّبٌ إلى الغاية لمذهبه الحنفي، وكان يمله تعصُّبه على النيل من كبار أئمة السلف، ويقع في أعراض العلماء الصالحين، وانظر (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل) لعبد الرحمن المُعلمي اليماني، و (حول ترحيب الكوثري بنقد تأنيبه) لمحمد عبد الرزاق حمزة..

تنبيه: في الجواب على أبي داود السجستاني في قوله في كتابه إلى أهل مكة (ص: ٢٤): "وَأما الْمَرَاسِيل فقد كَانَ يحْتَج بهَا الْعلمَاء فِيمَا مضى مثل سُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَالك بن أنس، وَالْأَوْزَاعِيّ، حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فَتكلم فِيهَا، وَتَابعه على ذَلِك أَحْمد بن حَنْبَل وَغَيره رضوَان الله عَلَيْهِم".

يقول الشيخ مشهور حسن: وهذا مردود؛ فقد قال سعيد بن المسيب وهو إمام التابعين: إنه ليس بحجة، كذا نقله الحاكم في المدخل، ونقله ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول عن الزهري، والأوزاعي، وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره، وفي مقدمة صحيح مسلم، عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين، وصح ذلك عن ابن سيرين، وكان يحيى بن سعيد القطان -وكنت وفاته قبل الشافعي- شديد الإنكار للمرسل.

مسألة قبول منقطع ابن المسيب دون قيد أو شرط

إن هذا الأمر ليس صحيحاً، وهو قبول منقطع سعيد بن المسيب دون قيد أو شرط، ومذهب الإمام الشافعي في ذلك كمذهب غيره، وبيَّن أن الذي استقر عليه الشافعي هو عدم قبوله، وهو المقرر في مذهبه، وكتبه، وكتب أصحابه بخلاف مراسيله، فكان يُرجح بمراسيل سعيد بن المسيب خاصة، لأن أكثرها وُجد متصلاً من غير حديث.

ولم يجعل منها الشافعيُّ أصلاً يُحتجُّ به على إثبات الحكم، وإنما يحتج بها إذا اعتضدت بقول صحابيٍٍّ، أو جاءت من وجهٍ آخر مرسلاً عن غيره، وهو الصحيح في مذهب الشافعية على ما قرره الخطيب البغدادي.

وقد بيَّن البيهقي في المدخل: أن الشافعي لا يقبل المراسيل إلا إذا انضم إليها ما يؤكدها، وإلا لم يقبله سواء كان مرسل سعيد بن المسيب أو غيره.

فالإمام الشافعي وضع شروطاً وضوابط لقبول الحديث المرسل، وبيَّن ذلك في كتابه (الرسالة)، وعقَّب عليها بقوله: "ومتى خالف- أي التابعي- ما وصفتُ، أضرَّ بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله، وقرَّر هذا الذي وصلنا إلأيه، جمعٌ من العلماء المُحررين المُدققين.

قال النووي في (الإرشاد) بعد كلام: "فهذا كلام الخطيب والبيهقي، ولهما المنتهى في التحقيق، ومحلهما من العلم مطلقاً، ثم منصوص الشافعي، ومذهبه معروف".

وأيد ذلك الحافظ الزركشي في نكته على قواعد ابن الصلاح، ثم قال: "والمذاهب إنما تُعلم من كلام أربابها، فاشدد يديك بهذه الفائدة، فإنها تُساوي رحلة". كذلك أيده ابن دقيق العيد في (شرح العيون).

وهناك مرسلات لسعيد بن المسييب لم يقل بها الشافعي، حيث لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قد قال بها، حيث انضم إليها ما يؤكدها، كمرسل الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وسليمان بن يسار، وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا: أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ، والله أعلم. 

وقد احتجَّ الشافعي في (أحكام القرآن) بمرسل الحسن البصري: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". واحتج بمرسل طاوس في كتاب الزكاة والحج والهبة وغير ذلك، واحتج بمرسل عروة بن الزبير، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وغيرهم من كبار التابعين في مواضع من كتبه، اقترن بها ما أكده، أو وُجد ما هو أقوى منه.

كذلك فإن الشافعي لم يقل بمرسل سعيد بن المسيب، حيث رُوي عنه بإسناد صحيح أن النبي فرض زكاة الفطر مُدين من حنطة، وبمرسله أن النبيَّ، قال: لا بأس بالتولية في الطعام قبل أن يستوفى، وبمرسله أن النبيَّ، قال: ديةُ كُل ذي عهدٍ في عهده ألف دينار، وبمرسله أن النبي قال: من ضرب أباه فاقتلوه.

والخلاصة، هو ما قاله البيهقي في رسالته إلى (أبي محمد الجويني): "وعلى هذا فتخصيص مرسل ابن المسيب بالقبول دون من كان مثل حاله من كبار التابعين على أصل الشافعي لا معنى له، والله أعلم".

فمذهبه في ذلك هو مذهب غيره، وقد صح عن يحيى بن معين، والإمام أحمد، وغيرما: أصحُّ المراسيل هي مراسيل سعيد بن المسيب.

وقد فصَّل الإمام الماوردي في الحاوي الكبير(٦/ ١٧٨- ١٧٩)، فقال: "وإنما خُصَّ سعيد بن المسيب بقبول مراسيله؛ لأمور:

١-منها: أن سعيداً لم يرسل حديثاً قط إلا وُجد من طريق غيره مُسنداً.

٢-ومنها: أنه كان قليل الرواية، لا يروي أخبار الآحاد، ولا يُحدث إلا بما سمعه عن جماعة، أو عضده قول الصحابة رضوان الله عليهم، أو رآه منتشراً عند الكافة، أو وافقه فعل أهل العسر.

٣- ومنها: أن رجال سعيد بن المسيب الذي أخذ منهم، وروى عنهم، هم أكابر الصحابة، وليس كغيره الذي يأخذ عمن وجد.

٤-ومنها: أن مراسيل سعيد كانت مأخوذة عن أبي هريرة، وكان يرسلها لما قد عرفه الناس من الأنس بينهما والوصلة، وإن سعيداً كان صهر أبي هريرة على ابنته، فصار إرساله كإسناده عن أبي هريرة.

ثم قال: ومذهب الشافعي الجديد: أن مرسل سعيد وغيره ليس بحجة، وإنما قال: مرسل سعيد عندنا حسنٌ لهذه الأمور، التي وصفنا استئناساً بإرساله، ثم اعتماداً على ما قاربه من الدليل، فيصيرُ المرسل حينئذٍ مع ما قاربه حجة.

 والذي يصير به المرسل حجة أحد سبعة أشياء:

"إما قياس، أو قول صحابي، وإما  فعل صحابي، وإما أن يكون قول الأكثرين، وإما أن ينتشر في الناس من غير دافعٍ له، وإما أن يعلم به أهل العصر، وإما أن لا يوجد دلالة سواه، وقد اتصل بمراسيل سعيد هذا أكثر هذه السبعة".

مسألة: الزعم بأن للشافعي في مراسيل سعيد مذهبين، فيه نظر. 

وهذا الإطلاق فيه نظر، وإن حكاه جمعٌ من الشافعية، مثل: ابن السبكي في تكملة المجموع، وابن الملقن في المقنع، والأمر على ما قررناه، وينبغي أن يُلتفت إلى هذا، وعدم ضرب كلامه بعضه ببعض.

 مسألة: 

اعتراض تاج الدين الفزاري، وإلكيا الطبري، على قول من قال: 

(إن مرسلات سعيد بن المسيب إنما احتج بها؛ لأنه وجدت  مُسندة من طرق أخرى)

يشكل على هذا أنها إذا كانت مسندة فلا أثر للمرسل إذاً، لأن الاعتماد والحالة هذه يكون على المسند ؟! 

ويُمكن أن يُجاب على هذا الإشكال، بأن الاحتجاج بالمسند، إنما يُنهض به إذا كان في نفسه حجة، ولعل الشافعي أراد بالمسند هنا ما لا ينهض بنفسه، فإذا ضُمَّ إلى المرسل قام به المرسل وصار حجة، وهذا ليس عملاً بالمسند بل بالمرسل، إذا زالت التُّهمة عنه، وسكتا لمُصنف عن اعتراضهم في الاعتماد عليه إذا جاء من وجهٍ آخر مرسلاً، فإن ضُمَّ الضعيفُ إلى مثله لا يُفيد كما في شهادة الفاسق مثله.

وقد يُجاب بأنه إذا تعددت طرق الحديث الضعيف أنه يرتقي إلى رتبة الاحتجاج به، وغرض الشافعي من هذه الأشياء حرفٌ واحد، وهو أن إذا جهلنا عدالة الراوي للأصل لم يحصل عليه الظن بصدق الخبر، فإذا انضمت إليه قَوِي بعض القوة، فيجبُ العمل به دفعاً للضرر المظنون.

ما هو شرط الإمام أبي داود في سننه ؟

يشترط أبو داود في "سننه" أن يكون صالحًا للاعتبار والاحتجاج به، ويترك ما هو شديد الوهن، ولا يروي عن من اجتُمِعَ على تركه حديثه من الرجال، حيث قال: "ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".

وكذلك يحتجُّ بالمراسيل؛ قال: "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره. فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة".

وأما الحديث الغريب فيتركه ولو كان مرويًا من الثقات، ويستند إلى أقوال السلف في ذلك مثل قول إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون الغريب من الحديث"، وقول يزيد بن أبي حبيب: "إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه".

منهج الإمام أبي داود في سُننه (باختصار):

١) أن أحاديث السُّنن أكثرها مشاهير يعرفها أهلُ الحديثِ؛ وعبَّر عن ذلك بقوله (وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث).

٢) ولم يورد في كتابه حديثاً غريباً؛ لأن الغريب لا يسلم من الطعن، وقد قرَّر أن الغريب لا يُحتجُّ به، ولو كان من رواية الأئمة المعروفين.

٣) ذكر أحاديث ليست بمتصلةٍ، وهي مرسلة أو مدلسة، إذا لم يجد في الباب حديثاً مقبولاً يغني عنها، ولم يوجد حديثاً يخالفه مما هو أصحُّ منه.

٤) وإذا سكتَ عنه؛ فهو صالحٌ: يُحتجُّ به، وبعضها أصحُّ من بعض

٥) ليس في سنن أبي داود حديث رجلٍ متروك، فما دونَه -والمتروك هو المجمع على ضعفه ولا يعتد به في المتابعات والشواهد.

٦) اشتراطه أن يُبين الحديث الذي فيه وهنٌ شديد؛ فإذا ذكر حديثاً مُنكراً أو فيه ضعفٌ شديد بيَّن ذلك.

٧) اختياره أحد الحديثين الصحيحين؛ لقدم حفظ صاحبه (لأنه أعلى إسناداً) أو أقوم إسناداً، ولا يوجد ذلك في كتابه سوى عشرة أحاديث.

٨) قلة أحاديث الأبواب؛ فيكتفي بحديثٍ واحدٍ أو حديثين، وقد يزيد بحسب الحاجة. 

٩) جمع أصول المسائل الفقهية التي احتجَّ بها مالك والشَّافعي، واقتصاره على الأحكام، ولم يذكر فيه الزهد وفضائل الأعمال.

١٠) إعادة الحديث الواحد في الباب؛ لزيادة لفظة، أو كلمة.

١١) اختصاره في الحديث، واقتصاره على موضع الشاهد دون تطويل.

١٢) استقصاؤه في جمع السُّنن الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى لم يُبقِ منها شيئاً بحسب علمه، وهو محمول على ما انتهى إليه مِن السنن، وإلا فقد فاته عدد غير قليل منها حتى الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ولكن الإمامَ أبا داود إذا ما قُورِنَ بأصحاب السنن، كان أكثَرَهم إيراداً لها.

١٣) جمع في "سننه" بعض ما أُثِر عن الصحابة الكرام من اجتهاداتهم واختياراتهم؛ فأضافها إلى السنن الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بحسب ما يناسِبُ المقام.

١٤) التزم أبو داود ترتيب كتابه على الموضوعات الفقهية على طريقة الأبواب، فجمع الأحاديث الدالة على مسألة خاصة وأطلق عليها لفظة (باب)، وأطلق على الأبواب المجتمعة من جنس واحدٍ لفظة (كتاب) كالطهارة والصلاة والبيوع، وأطلق لفظة.

أهمية سُنن أبي داود:

عدَّ بعض العلماء كتاب الإمام أبي داود في المرتبة الثالثة بعد "الصحيحين"، وعوّل أهلُ العلم على ما دوَّنه فيه من أحاديث وآثار، لأنه رحمه الله قد تكرر منه النظر فيه والمراجعة والتثبت، وقُرىْ عليه مراتٍ عدة، حتى إنَّ تلميذه أبا علي اللؤلؤي قد قرأه عليه في مدةِ عشرينَ سنة.

وقال الإمام النووي: وينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتبار بسنن أبي داود بمعرفته التامة فإن معظم الأحاديث التي يحتج بها فيه، مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه.

من الشُروح المتعلقة بسنن أبي داود:

ولما كان كتاب أبي داود عمدة لأهل الفقه وأهلِ الحديث، أقبل أهلُ العلم عليه دراسة وشرحاً وتعليقاً وتهذيباً واختصاراً، ومن ذلك:

١- "معالم السنن" للإمامِ أبي سليمان حَمْد بنُ محمد بن إبراهيم ابن خطاب الخطابي.

٢ - "شرح الإمام النووي" (ت ٦٧٦ هـ) لكنه لم يتمه.

٣ - شرح الشيخ قطب الدين أبي بكر بن أحمد دَعْسَين (ت ٧٥٢ هـ).

٤ - شرح الحافظ علاء الدين مُغَلْطاي (ت ٧٦٢ هـ).

٥ - شرح الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد المقدسي (ت ٧٦٥ هـ).

٦- شرحُ الحافظ أبي زرعة ولي الدين العراقي (ت ٨٣٦ هـ).

٧- شرحُ الإمام أحمد بن حُسين أرسلان (ت ٨٤٤ هـ).

٨- شرح الإمام محمود بن أحمد الحلبي (ت ٨٥٥ هـ).

٩- شرحُ الحافظِ جلال الدين السيوطي (ت ٩١١ هـ).

١٠ - شرح العلامة أبي الطيب شمسِ الحق العظيم آبادي (ت ١٣٢٩ هـ)، واسمه (عون المعبود شرح سنن أبي داود).

١١- شرحُ المحدثِ العلامة خليلُ أحمد السهارنفوري (ت ١٣٤٦ هـ)، واسمه (بذل المجهود في حلّ أبي داود).

١٢- "مختصر سنن أبي داود"  لزكي الدين عبد العظيم  المنذري (ت 656 هـ).

١٣- "تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته" لابن قيم الجوزية (٧٥١ هـ)، وهو أشبه ما يكون بالحاشية منه بالتهذيب.

١٤- شرح الإمام سراج الدين علي بن الملقن (ت ٨٠٤ هـ).