تـــــقـــيـــــيـــد الــــــــــعــــــلـــــــم
لأبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغدادي
تحقيق: سعد عبد الغفار علي
تقديم الشيخ أ. د. محمد بن عمر بازمول
دار الاستقامة، القاهرة/ مصر -الطبعة الأولى -2008م
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنّونة
تمهيد/ إن مسألة تقييد العلم وكتابته وتدوينه من المسائل التي تنازع فيها السَّلف رحمهم الله تعالى، واختلف فيها الصحابة والتابعون اختلافاً كبيراً ما بين مُجيزٍ ومانع، وكُلٌّ منهم له أدلته التي يحتجُّ بها، ويُنافح عنها، فالمانعون متمسكون بما كان عليه الأمر في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بالنهي الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث أو شيء غير القرآن، خوف اختلاطه به، وكان الحديث محفوظاً في صدور الصحابة يسمعون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويروونه عنه فيما بينهم إلى من بعدهم من التابعين مُشافهةً، وفي ذات الوقت لم يخلُ عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتابة بعض الأحاديث وتدوينها بصورة فردية غير منتظمة، ولكن ذلك التدوين كان بإذنٍ خاصٍّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وممن ثبت عنهم ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما أخرج من فمي إلا الحق) [صحيح، رواه الدارمي].
وفي ضوء هذا التعارض بين أحاديث النهي العامة عن كتابة الحديث وتدوينه، وبين إباحة ذلك وإجازته لبعض الأفراد على سبيل الإذن الخاص، كان لا بُدَّ من بيانٍ شافي يُوضح الحق في هذه المسألة، وما جرى بعد ذلك من إجماع الأمة على جواز تدوين الحديث وكتابته.
وقد جمع الخطيب رحمه الله ما يتعلق بمسألة تقييد العلم التي اختلف فيها السلف، من الصحابة والتابعين، وذلك بسوق الأحاديث والآثار بأسانيده مرتبةً، والتي فيها الصحيح المقبول والضعيف المردود، وبيانه لأقوال المانعين من الكتابة والمُجيزين لها، إلى أن استقر إجماع السلف على جواز التدوين وضرورته، ولم يكن همُّ الإمام الخطيب رحمه الله الحكم على الأحاديث، وإنما أراد رحمه الله جمع كل ما ورد في هذه المسألة بالإسناد الموصل إليها، إبراءً للعُهدة، و"من أسند فقد أحال"، وقد اجتهد الأخ المُحقق سعد عبد الغفار علي في الحكم على هذه اللآثار والأحاديث بما يُلائمها، فكان الكتاب تُحفةً علمية رائعة.
وقد قسَّم الباحثون هذا الكتاب إلى أربعة أقسام، وكل قسمٍ تضمَّن فصولاً، وهي من وضع المُحققين، وأما الخطيب فقد وضع أسماء الأبواب فقط، وفيما يلي بيان الأقسام، وما يندرج تحتها من الفصول:
القسم الأول: الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: نهيُ الرسول عن الكتاب، وفيه:
(1) ذكر الرواية عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كتب ما سوى القرآن، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بمحو كل ما كُتب سوى القرآن. (2) وذكر حديث آخر عن أبي سعيد أنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث؛ فلم يأذن له. (3) وذكر الرواية عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. (4) وذكر الرواية عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك.
الفصل الثاني: باب ذكر الأحاديث الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك، وفيه:
(1) ذكر الرواية عن أبي سعيد الخدري. (2) ذكر الرواية عن عبد الله بن مسعود في ذلك. (3) ذكر الرواية عن أبي موسى الأشعري في ذلك. (4) ذكر الرواية عن أبي هريرة في ذلك. (5) ذكر الرواية عن عبد الله بن عباس في ذلك. (6) ذكر الرواية عن عبد الله بن عمر في ذلك.
الفصل الثالث: باب ذكر الرواية عن التابعين في ذلك، وفيه:
عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعَبيدة، ومحمد بن الحنفية، والقاسم بن محمد، وإبراهيم النخعي، وعمرو، وأبي العالية، والضحاك، والليث، ومنصور بن المعتمر، والمغيرة، والأعمش.
القسم الثاني: باب وصف العلة في كراهة كتاب الحديث، وفيه ثلاث فصول:
* الفصل الأول: خوف الانكباب على درس غير القرآن، وما ورد في ذلك، وفيه:
- عدول عمر عن كتابة السُّنن وحرفه الكتب لذلك، وكان قد بدا له كتابة السُّنن، ثم بدا له ألا يكتبها.
- وكذلك عبد الله بن مسعود كان يمحو الصحف بالماء، وكان يُنكر كتابة الفصص والحديث، ورأى أن ذلك تشبٌُّ بأهل الكتاب الذين أقبلوا على دراسة كتب علمائهم وأساقفتهم، وتركوا كتاب ربهم، وما فيه من الأحكام.
- غير عمر وابن مسعود ينهون عن الكتابة لذلك، ومنهم: أبو موسى، وعمرو بن ميمون، وابن عون، وإسماعيل بن عُليَّة، وغيرهم.
* الفصل الثاني: خوف الاتكال على الكتاب وترك الحفظ وما ورد في ذلك، وفيه:
1- بئس المستودع العلم القراطيس، وأوصى شعبة بن الحجاج بغسل كتبه ودفنها، ودعى عَبيدة بكتبه عند موته فمحاها.
2-من كان يكتب الحديث احتياطاً واستيثاقاً ثم يمحوه لا سيما إن كان الحديث طويلاً؛ كالثوري، ومسروق، وابن شهاب، وخالد الحذّاء، وعاصم بن ضمرة، ومحمد بن القاسم.
3-من ندم على محو الحديث، وذكر ذلك، عن: عروة بن الزبير، وقال عروة: "كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أني فديته بمالي وولدي وأني لم أمحه"، وعلَّق الخطيب على هذه الحاديث بقوله: " ترى أن عروة محا الحديث من كتابه للمعنى الذي ذكرناه من كراهة الاتكال عليه؛ فلما علت سنه، وتغير حفظه، ندم على محوه إياه، وتمنى أنه كان لم يمحه ليرجع إلى كتابه عند تناقض أحواله واضطراب حفظه , والله أعلم".
4-من ندم على أنه لم يكتب الحديث أصالةً، مثل: منصور بن المعتمر، وذكر مع ندمه أنه أخذ ذلك عن شيخ إبراهيم، وتمنى أنه لم يقتدِ به.
* الفصل الثالث: خوف الصيران العلم إلى غير أهله، ومن دفن الكتب وأتلفها لذلك، وكانوا يرون أن بني إسرائيل ضلوا بكتبٍ ورّثُوها ووضعوها في غير موضعها. وكان الإمام أحمد يقول: "لا أعلم لدفن الكتب معنى"، وعلق عليه الخطيب بقوله: "قلت لا معنى فيه إلا ما ذكرته والله أعلم".
قال الإمام الخطيب: "وكان غير واحد من المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه أو أوصى بإتلافها خوفاً من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم؛ فلا يعرف أحكامها ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل، وهذا كله وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه".
القسم الثالث: الآثار والأخبار الواردة في إباحة كتاب العلم، وفيه أربع فصول، وهي:
* الفصل الأول: إباحة الرسول صلى الله عليه وسلم للكتاب.
وفيه: (1) تعليل المؤلف لإباحة الكتابة؛ يقول الخطيب رحمه الله في ذلك: "إنما اتسع الناس في كتب العلم، وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك؛ لأن الروايات انتشرت، والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم -لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك، ونحن نسوق الآثار التي أدت إلينا ما وصفناه بمشيئة الله وعونه".
(2) وذكر ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي شكا إليه سوء الحفظ (وهو رجلٌ أنصاريٌّ) أن يستعين على سوء الحفظ بالخط، وهذا الحديث كما ذكر المُحقق إسناده ضعيفٌ جداً، وهو يُروى عن أبي هريرة.
(3) ذكر ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيدوا العلم بالكتاب)، وهو ضعيفٌ مرفوعاً يُروى عن عبد الله بن عمرو، وصحيحٌ بمجموع طرقه موقوفاً، عن أنس بن مالك وغيره، وقال الخطيب عقب هذا الحديث: "وفي وصف رسول الله صلى الله عليه الكتاب أنه قيد العلم دليل على إباحة رسمه في الكتب لمن خشي على نفسه دخول الوهم في حفظه، وحصول العجز عن إتقانه وضبطه" .
(4) الاستشهاد بآيات القرآن على وجوب الكتاب، قال الخطيب: "وقد أدب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدَّين فقال عز وجل: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} (البقرة: 282)، فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظاً له، واحتياطاً عليه، وإشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين أحرى أن تباح كتابته؛ خوفا من دخول الريب والشك فيه، بل كتاب العلم في هذا الزمان، مع طول الإسناد واختلاف أسباب الرواية، أحج من الحفظ. ألا ترى أن الله عز وجل جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم عوناً عند الجحود، وتذكرة عند النسيان , وجعل في عدمها عند المموهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادعوه فيها… فالكتاب شاهد عند التنازع".
(5) ذكر الرواية عن رافع بن خديج أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذن لهم في كتب ما سمعوه منه؛ وقد قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها)، قال: (اكتبوا ولا حرج)، وهو حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح.
(6) ذكر الرواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كتب حديثه فأذن له.
(7) ذكر الرواية عن أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذن لهم في كتب ما سمعوه منه.
(8) ذكر صحفة عبد الله بن عمرو "الصادقة" التي كان يكتب فيها ما يسمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيها: "إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ فقال: (يا أبا بكر، قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم).
(9) ذكر الرواية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه أن يكتبوا لأبي شاه خطبته التي سمعها منه، وأبو شاه رجلٌ من اليمن، وجاء في هذه الخطبة: "إنَّ اللهَ حبَسَ عن مَكَّةَ الفِيلَ، وسلَّطَ عليها رسولَه والـمُؤمنين، وإنَّـما أُحِلَّتْ لي ساعَةً مِنَ النَّهارِ، ثم هي حَرامٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّرُ صَيدُها، ولا تَـحِلُّ لُقَطَتُها إلا لـمُنْشِدٍ، ومَن قُتِلَ له قَتيلٌ فهو بِـخَيرِ النَّظَرَينِ: إما أنْ يَفْدِيَ، وإما أنْ يَقتُلَ".
وبعد ذكر هذه الروايات، يقول الخطيب: "ولو لم يكن في هذا الباب إلا وقوع العلم بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -يكتبه من عهود السعاة على الصدقات، وكتابه لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن لكفى؛ إذ فيه الأسوة وبه القدوة".
* الفصل الثاني: ذكر من روى من الصحابة أنه كتب العلم أو أمر بكتابته، وفيه:
(1) الرواية عن أبي بكر الصديق في ذلك، وأنه كتب فرائض الصدقة لأنس بن مالك وكان بعثه عليها.
(2) الرواية عن عمر بن الخطاب في ذلك، وقوله: "قيدوا العلم بالكتاب".
(3) الرواية عن علي بن أبي طالب في ذلك، وأنه كتبصحيفةً فيها أسنان الإبل (فرائض الصدقة)، وشيء من الجراحات، وروي عنه: "قيدوا العلم بالكتابة"، وفي رواية: "قيدوا العلم" مرتين.
(4) الرواية عن الحسن بن علي في ذلك، وقوله: "إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين؛ فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه وليضعه في بيته".
(5) الرواية عبد الله بن عباس في ذلك، وأنه كان يسأل أبا رافع بن خديج ويكتب عنه، وكان يقول: "قيدوا العلم، وتقييده كتابه".
(6) الرواية أبي سعيد الخدري في ذلك، وقوله: "كنا لا نكتب إلا القرآن والتشهُّد".
ويُعلِّق الإمام الخطيب على كلام أبي سعيد بقوله: "وأبو سعيد هو الذي روي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تكتبوا عني سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»، ثم هو يخبر أنهم كانوا يكتبون القرآن والتشهد، وفي ذلك دليل أن النهي عن كتب ما سوى القرآن إنما كان على الوجه الذي بيناه من أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يشتغل عن القرآن بسواه، فلما أمن ذلك ودعت الحاجة إلى كتب العلم لم يكره كتبه كما لم تكره الصحابة كتب التشهد، ولا فرق بين التشهد وبين غيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن ولن يكون كتب الصحابة ما كتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطاً كما كان كراهتهم لكتبه احتياطاً، والله أعلم".
(7) الرواية أنس بن مالك في ذلك، وأنه حدَّث بحديثٍ، وأمر ابنه بكتابته.
(8) الرواية أبي أمامة الباهلي في ذلك، وأن الحسن بن جابر سأله عن كتابة العلم؛ فقال له: "لا بأس بذلك".
(9) الرواية جماعة من الصحابة لم يُسموا في ذلك، وفيه ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك.
* الفصل الثالث: ذكر الرواية عن التابعين رضي الله عنهم أجمعين في ذلك، وفيه:
(1) الرواية عن الطبقة الأولى من التابعين، وفيه: عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وبشير بن نهيك، وكثير بن أفلح، وسعيد بن جبير.
(2) الرواية عن الطبقة الثانية والثالثة من التابعين، وفيه: عن قتادة، وأبي قلابة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن حنش، وعُبيد المُكتب، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وصالح بن كيسان، والزهري، ورجاء بن حيوة، وأبو سفيان، وأبان بن أبي عياش، ومعاوية بن قُرة المزني.
(3) الرواية عن الطبقات الأخرى من التابعين في ذلك، وفيه: عن أيوب، وأرطأة، ويحيى بن كثير، وزائدة، وأبو شيبة، ويحيى بن سعيد، وحماد بن سلمة، والأعمش، والمعتمر، وعبد الله بن المدرس، وابن جريج، وعمران القصير.
* الفصل الرابع: الكتاب يحفظ العلم.
القسم الرابع: في الكتب، ومنافعها، والاستئاس بها، وفيه: ستُّ فصول، وهي:
الفصل الأول: فضل الكتب وبيان منافعها، وفيه تفسير قوله (وكان تحته كنزٌ)، وعن ابن عباس أنه كان صحفاً من العلم، قال بعض الحكماء: لن يصان العلم بمثل بذله , ولن تكافأ النعمة فيه بمثل نشره , وقراءة الكتب أبلغ في إرشاد المسترشد من ملاقاة واضعيها.
الفصل الثاني: ومما تترجم به الكتب من الفوائد والفرائد والنُتف.
الفصل الثالث: الإكثار من الكتب.
الفصل الرابع: ذكر من وظف نفسه على الشغل بمطالعة الكتاب ودرسه.
الفصل الخامس: من استوحش من الخليط والمعاشر، فجعل أنسه النظر في الدفاتر.
الفصل السادس: من سلك في إعارة الكتاب طريق البخل وضنَّ به عمَّن ليس له بأهل، وفي الحكمة: "لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير".
خلاصة هذا البحث في تحقيق مسألة تدوين الحديث:
أولاً: الأحاديث التي فيها النَّهيُ عن كتاب الحديث النبوي:
نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أن يُكتب عنه شيءٌ غير القرآن، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم من كتب عنه شيئاً غير القرآن أن يمحوه، ومن أشهر وأصحِّ هذه الأحاديث، ما رواه مسلمٌ وغيره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآنَ، فمن كتب عني غيرَ القرآنِ فلْيمحْه، وحدِّثوا عني ولا حَرَجَ، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا، فلْيتبوأْ مقعدَه من النارِ).
ثانياً: أحاديث الإذن بكتابة الحديث النبويّ:
وقد وردت أحاديث عديدة أذن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابة رضوان الله عليهم، بكتابة الأحاديث الشريفة، أصحُّها:
ما رواه أبو داود في"سننه"، وأحمد في "مسنده"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق).
وروى الخطيب عن المعافى بن زكريا الجريري، قال: "وفي هذا الخبر دلالة واضحة على أنه من الصواب ضبط العلم، وتقييد الحكمة بالكتاب؛ ليرجع إليه الناسي فيذكر ما نسيه، ويستدرك ما غرب عنه، وعلى فساد قول من ذهب إلى كراهية ذلك".
ثالثاً: التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإذن بها:
اجتهد العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث على أقوالٍ عديدة، منها:
الأول: على طريقة النَّسخ:
فذكر بعض المحدثين أن أحاديث النهي عن الكتابة منسوخةٌ لأنها متقدمة، وأما أحاديث الإذن بالكتابة ناسخةٌ لأنها متأخرة؛ فالنهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن الكريم، فلما ازداد عدد المسلمين، وعرفوا القرآن الكريم، وأصبحوا يُميزونه عن الحديث الشريف، وأمن التباسه واختلاطه بالحديث، حينئذٍ أذن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لصحابته بكتابة الحديث.
وقد ذكر هذا القول ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"، والدكتور مصطفى السباعي في "السنة ومكانتها" وغيرهما، وذكر الحافظ السخاوي في "فتح المُغيث" أن ابن شاهين جنح له، وأن شيخه ابن حجر جعله أقرب الأقوال إلى الصواب.
الثاني: على طريقة الجمع والتوفيق:
ورد عن العلماء أقوالٌ عديدة توفق بين أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإذن بها، وفي شأن هذا التوفيق أقوالٌ متعددة، أشهرها ثلاثة أقوال هي:
أ- أن النَّهي عن الكتابة خاصٌّ بكتابة الحديث الشريف مع القرآن الكريم في صحيفة واحدة، لأنهم كانوا يسمعون تفسير القرآن من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فربما كتبوه معه، فنُهوا عن ذلك خوف الاشتباه بينهما، وأما الإذن: فهو في حالة كتابة كلٍ من الحديث الشريف والقرآن الكريم في صحيفة مستقلة. وقد ذكر هذا القول الصنعاني في "توضيح الأفكار"، وغيره.
ب-وقال آخرون: إن النهي عن الكتابة كان في حق من وُثق بحفظه، وخِيف اتكالُه على الكتابة، أما الإذن بالكتابة فهو في حقِّ من لا يُوثق بحفظه، ذكر هذا الرأي الرامهرمزي في "المحدث الفاصل"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم"، وأبو عمر بن عبد البر في "جامع بيان العلم".
ج-وقال فريقٌ من المُحدثين إن النَّهي عن الكتابة عام إلا من كان قارئاً ثقةً مأموناً؛ لأنهم لم يكونوا يقرأون ويكتبون، وقد خُصَّ منه عبد لله بن عمرو؛ لأنه كان قارئاً كاتباً مأموناً عليه، ذكره ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث".
والراجح: هو الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، ويتخرج الجواب على هذين القولين.
ويُشير إلى ذلك الخطيب البغدادي، عن أحاديث النهي إلى علةٍ أخرى، وهي: كون علة النهي، هي: "خوف الانكباب على درس غير القرآن".
فقال رحمه الله: "قد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه ونهي عن الكتب القديمة أن تتخذ؛ لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها وصار مهيمناً عليها، ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجِدَتِه؛ لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن، وأمر الناس بحفظ السنن إذ الإسناد قريب، والعهد غير بعيد، ونهى عن الاتكال على الكتاب؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان".
- يقول السِّباعي في كتابه "السنة ومكانتها": ""وأعتقد أنه ليس هنالك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي كما كان يُدَوَّنُ القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص مِنَ السُنَّةِ لظروف وملابسات خاصة أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السُنَّةَ لأنفسهم".
-وقال الدكتور عبد الرَّحمن عِتِر في كتابه "معالم السنة النبوية": "إن النَّهي كان لعلة فإذا زالت هذه العلة كان الإذن بالكتابة، فالخوف من التباس القرآن بالحديث، والخوف من الانكباب على الحديث والانشغال به عن القرآن، كان هذا كله سببًا للمنع من الكتابة، فلما زالت هذه الأسباب عاد الأمر إلى السماح بكتابة الحديث، وقد استقر أمر الصحابة على كتابة الحديث وتدوينه".
رابعاً: من الأمثلة على تدوين الحديث في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
1- صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (الصادقة): وكان يفتخر بها، ويقول: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط- أرض أوقفها أبوه عمرو في الطائف وكان عبد الله يقوم برعايتها". وقد أخرج الإمام أحمد في كتابه المسند في مسند عبد الله بن عمرو قسمًا كبيرًا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
2- صحيفة علي بن أبي طالب، وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل- أي مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير. وقد أخرج نبأ هذه الصحيفة البخاري وغيره.
3- صحيفة الصحابي سعد بن عبادة. أخرج الترمذي في سننه عن ابن سعد بن عبادة: "وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد".
4- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وفي بيان أحكام الدين، ومنها:
أ- كتاب الزكاة والديات الذي كاتب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ب- كتاب لعمرو بن حزم رضي الله عنه -عامله على اليمن، وفيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات.
جـ- كتابه إلى وائل بن حُجْر رضي الله عنه لقومه في حضرموت فيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات.
5- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء. وإلى أمراء العرب يدعوهم فيها إلى الإسلام، ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغير هؤلاء.
6- عقوده صلى الله عليه وسلم ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أبرمت في دستور التعايش بين المسلمين في المدينة وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم.
7- كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني.
8-وأمره صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن يأتوا له بكتابٍ يضعه لهم، لئلا يختلفوا من بعده، وهو مُخرَّجٌ في البخاريِّ وغيره.
وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم -مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علماً.
وهذا كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم -وإثبات أن ما كتب فيه عهده صلى الله عليه وسلم -تناول قسمًا كبيرًا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث، وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور ذات الأهمية.
ولا يعني ذلك أن كل الحديث قد كتب آنذاك، فالصحابة رضوان الله عليهم استعملوا الكتابة بغرض حفظ السنة النبوية بجانب عوامل أخرى جعلت الأحاديث تنقش في قلوبهم نقشها في الحجر.
تنبيه: تذكر بعض المقررات الجامعية أحاديث واهية أو ضعيفة، في هذا الباب؛ منها:
1- ما رواه الخطيب، عن أبي هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: كان رجُلٌ يَشهَدُ حديثَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا يَحفَظُ، فيَسأَلُني فأُحَدِّثُه، فشَكى قِلَّةَ حِفْظِه إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (استعِنْ على حِفْظِكَ بيَمِينِكَ. يعني: الكِتابَ).
أ. أخرجه الخطيب في "تقييد العلم" (ص 74 -75، ح: 104، 105) من طريق عبد الصمد بن سليمان الأزرق، عن الخصيب بن جحدر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وهذا إسنادٌ موضوع، أخرجه العُقيلي في الضعفاء (3/ 82)، وابن عدي في الكامل (3/ 68)، وعبد الصمد بن سليمان قال فيه البخاريُّ، وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك.
ب. وأخرجه الخطيب (ص 78، ح 111)، من طريق مسعدة بن اليسع، قال: حدثنا أبو الفضل رجلٌ من أهل الشام، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وإسناده موضوعٌ. لأجل مسعدة بن اليسع: كذبه أبو داود، وقال أحمد: ليس بشيءٍ حرقنا كتبه، أو تركنا حديثه منذ دهر، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث منكر، لا يُشتغل به. وانظر: (الجرح والتعديل، والتاريخ الكبير، المجروحين، والضعفاء للعقيلي، ولسان الميزان).
2- وروى الخطيب، عن أبي هريرة: أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله، إني أسمع منك أحاديث، وأخافُ أن تفلت مني، قال: (استعن بيمينك).
أ. أخرجه الخطيب أيضاً (ص 75، ح: 106) من طريق طالوت بن عباد الجحدري -وهو كذاب، قال: حدثنا الربيع بن مسلم، عن الخصيب بن جحدر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به، وإسناده موضوعٌ، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 68).
ج. وأخرجه الخطيب (ص 76، ح 109) من طريق الخليل بن مرة، عن يحيى بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وهو ضعيفٌ أيضاً. أخرجه الترمذيُّ (2666)، قال عقبه: "هذا حديثٌ إسناده ليس بالقائم، وسمعتُ محمد بن إسماعيل، يقول: الخليل بن مرة مُنكر الحديث"، وضعفه الألباني في "لاضعيفة" (2761)، ومثله (ص 77) الحديث رقم (110) فقد أخرجه من طريق الخليل بن مُرة.
3- ما رواه الخطيب، عن رافع بن خديج، قال: خرج علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (تحدَّثوا، وليتبوأْ مَن كذَب علَيَّ مقعدَه من جهنمَ) قلت يا رسولَ اللهِ إنا نسمعُ منك أشياءً فنكتُبُها، قال: (اكتبوا ولا حرجَ).
أخرجه الخطيب في "تقييد العلم" (ص 85، ح 120، 121) من طريق بقية بن الوليد، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال: حدثني أبو مدرك، عن عباية بن رافع بن خديج، عن رافع، به. وإسناده ضعيف، أخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 276)، وابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (626) من طريق بقية بن الوليد به، وبقية بن الوليد مُدلس، وهو يدلس التسوية، وهو شرُّ أنواع التدليس، ولم يُصرح هنا بالسماع، وفيه أيضاً "أبو مدرك"، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 151): "لم أرَ من ذكره" يعني أنه مجهول.