أرشيف المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 ديسمبر 2020

تـــــقـــيـــــيـــد الــــــــــعــــــلـــــــم -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنّونة

 تـــــقـــيـــــيـــد الــــــــــعــــــلـــــــم

لأبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغدادي

تحقيق: سعد عبد الغفار علي

تقديم الشيخ أ. د. محمد بن عمر بازمول

دار الاستقامة، القاهرة/ مصر -الطبعة الأولى -2008م

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنّونة

تمهيد/ إن مسألة تقييد العلم وكتابته وتدوينه من المسائل التي تنازع فيها السَّلف رحمهم الله تعالى، واختلف فيها الصحابة والتابعون اختلافاً كبيراً ما بين مُجيزٍ ومانع، وكُلٌّ منهم له أدلته التي يحتجُّ بها، ويُنافح عنها، فالمانعون متمسكون بما كان عليه الأمر في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بالنهي الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث أو شيء غير القرآن، خوف اختلاطه به، وكان الحديث محفوظاً في صدور الصحابة يسمعون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويروونه عنه فيما بينهم إلى من بعدهم من التابعين مُشافهةً، وفي ذات الوقت لم يخلُ عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم  من كتابة بعض الأحاديث وتدوينها بصورة فردية غير منتظمة، ولكن ذلك التدوين كان بإذنٍ خاصٍّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وممن ثبت عنهم ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما أخرج من فمي إلا الحق) [صحيح، رواه الدارمي].

وفي ضوء هذا التعارض بين أحاديث النهي العامة عن كتابة الحديث وتدوينه، وبين إباحة ذلك وإجازته لبعض الأفراد على سبيل الإذن الخاص، كان لا بُدَّ من بيانٍ شافي يُوضح الحق في هذه المسألة، وما جرى بعد ذلك من إجماع الأمة على جواز تدوين الحديث وكتابته.

وقد جمع الخطيب رحمه الله ما يتعلق بمسألة تقييد العلم التي اختلف فيها السلف، من الصحابة والتابعين، وذلك بسوق الأحاديث والآثار بأسانيده مرتبةً، والتي فيها الصحيح المقبول والضعيف المردود، وبيانه لأقوال المانعين من الكتابة والمُجيزين لها، إلى أن استقر إجماع السلف على جواز التدوين وضرورته، ولم يكن همُّ الإمام الخطيب رحمه الله الحكم على الأحاديث، وإنما أراد رحمه الله جمع كل ما ورد في هذه المسألة بالإسناد الموصل إليها، إبراءً للعُهدة، و"من أسند فقد أحال"، وقد اجتهد الأخ المُحقق سعد عبد الغفار علي في الحكم على هذه اللآثار والأحاديث بما يُلائمها، فكان الكتاب تُحفةً علمية رائعة.

وقد قسَّم الباحثون هذا الكتاب إلى أربعة أقسام، وكل قسمٍ تضمَّن فصولاً، وهي من وضع المُحققين، وأما الخطيب فقد وضع أسماء الأبواب فقط، وفيما يلي بيان الأقسام، وما يندرج تحتها من الفصول:

القسم الأول: الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم، وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول: نهيُ الرسول عن الكتاب، وفيه:

(1) ذكر الرواية عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كتب ما سوى القرآن، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بمحو كل ما كُتب سوى القرآن. (2) وذكر حديث آخر عن أبي سعيد أنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث؛ فلم يأذن له. (3) وذكر الرواية عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. (4) وذكر الرواية عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك.


الفصل الثاني: باب ذكر الأحاديث الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك، وفيه:

(1)  ذكر الرواية عن أبي سعيد الخدري. (2)  ذكر الرواية عن عبد الله بن مسعود في ذلك.  (3)  ذكر الرواية عن أبي موسى الأشعري في ذلك. (4)  ذكر الرواية عن أبي هريرة في ذلك. (5)  ذكر الرواية عن عبد الله بن عباس في ذلك.  (6)  ذكر الرواية عن عبد الله بن عمر في ذلك. 

الفصل الثالث: باب ذكر الرواية عن التابعين في ذلك، وفيه:

عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعَبيدة، ومحمد بن الحنفية، والقاسم بن محمد، وإبراهيم النخعي، وعمرو، وأبي العالية، والضحاك، والليث، ومنصور بن المعتمر، والمغيرة، والأعمش.

القسم الثاني: باب وصف العلة في كراهة كتاب الحديث، وفيه ثلاث فصول:


* الفصل الأول: خوف الانكباب على درس غير القرآن، وما ورد في ذلك، وفيه:

- عدول عمر عن كتابة السُّنن وحرفه الكتب لذلك، وكان قد بدا له كتابة السُّنن، ثم بدا له ألا يكتبها.

- وكذلك عبد الله بن مسعود كان يمحو الصحف بالماء، وكان يُنكر كتابة الفصص والحديث، ورأى أن ذلك تشبٌُّ بأهل الكتاب الذين أقبلوا على دراسة كتب علمائهم وأساقفتهم، وتركوا كتاب ربهم، وما فيه من الأحكام.

- غير عمر وابن مسعود ينهون عن الكتابة لذلك، ومنهم: أبو موسى، وعمرو بن ميمون، وابن عون، وإسماعيل بن عُليَّة، وغيرهم.

* الفصل الثاني: خوف الاتكال على الكتاب وترك الحفظ وما ورد في ذلك، وفيه: 

1- بئس المستودع العلم القراطيس، وأوصى شعبة بن الحجاج بغسل كتبه ودفنها، ودعى عَبيدة بكتبه عند موته فمحاها.

2-من كان يكتب الحديث احتياطاً واستيثاقاً ثم يمحوه لا سيما إن كان الحديث طويلاً؛ كالثوري، ومسروق، وابن شهاب، وخالد الحذّاء، وعاصم بن ضمرة، ومحمد بن القاسم.

3-من ندم على محو الحديث، وذكر ذلك، عن: عروة بن الزبير، وقال عروة: "كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أني فديته بمالي وولدي وأني لم أمحه"، وعلَّق الخطيب على هذه الحاديث بقوله: " ترى أن عروة محا الحديث من كتابه للمعنى الذي ذكرناه من كراهة الاتكال عليه؛ فلما علت سنه، وتغير حفظه، ندم على محوه إياه، وتمنى أنه كان لم يمحه ليرجع إلى كتابه عند تناقض أحواله واضطراب حفظه , والله أعلم".

4-من ندم على أنه لم يكتب الحديث أصالةً، مثل: منصور بن المعتمر، وذكر مع ندمه أنه أخذ ذلك عن شيخ إبراهيم، وتمنى أنه لم يقتدِ به.

* الفصل الثالث: خوف الصيران العلم إلى غير أهله، ومن دفن الكتب وأتلفها لذلك، وكانوا يرون أن بني إسرائيل ضلوا بكتبٍ ورّثُوها ووضعوها في غير موضعها. وكان الإمام أحمد يقول: "لا أعلم لدفن الكتب معنى"، وعلق عليه الخطيب بقوله: "قلت لا معنى فيه إلا ما ذكرته والله أعلم".

 قال الإمام الخطيب: "وكان غير واحد من المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه أو أوصى بإتلافها خوفاً من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم؛ فلا يعرف أحكامها ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها في الأصل، وهذا كله وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه".

القسم الثالث: الآثار والأخبار الواردة في إباحة كتاب العلم، وفيه أربع فصول، وهي:

* الفصل الأول: إباحة الرسول صلى الله عليه وسلم للكتاب. 

وفيه: (1) تعليل المؤلف لإباحة الكتابة؛ يقول الخطيب رحمه الله في ذلك: "إنما اتسع الناس في كتب العلم، وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك؛ لأن الروايات انتشرت، والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم -لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك، ونحن نسوق الآثار التي أدت إلينا ما وصفناه بمشيئة الله وعونه".

 (2) وذكر ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي شكا إليه سوء الحفظ (وهو رجلٌ أنصاريٌّ) أن يستعين على سوء الحفظ بالخط، وهذا الحديث كما ذكر المُحقق إسناده ضعيفٌ جداً، وهو يُروى عن أبي هريرة.

 (3) ذكر ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيدوا العلم بالكتاب)، وهو ضعيفٌ مرفوعاً يُروى عن عبد الله بن عمرو، وصحيحٌ بمجموع طرقه موقوفاً، عن أنس بن مالك وغيره، وقال الخطيب عقب هذا الحديث: "وفي وصف رسول الله صلى الله عليه الكتاب أنه قيد العلم دليل على إباحة رسمه في الكتب لمن خشي على نفسه دخول الوهم في حفظه، وحصول العجز عن إتقانه وضبطه" .

(4) الاستشهاد بآيات القرآن على وجوب الكتاب، قال الخطيب: "وقد أدب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدَّين فقال عز وجل: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا} (البقرة: 282)، فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظاً له، واحتياطاً عليه، وإشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين أحرى أن تباح كتابته؛ خوفا من دخول الريب والشك فيه، بل كتاب العلم في هذا الزمان، مع طول الإسناد واختلاف أسباب الرواية، أحج من الحفظ. ألا ترى أن الله عز وجل جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم عوناً عند الجحود، وتذكرة عند النسيان , وجعل في عدمها عند المموهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادعوه فيها… فالكتاب شاهد عند التنازع".

(5) ذكر الرواية عن رافع بن خديج أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذن لهم في كتب ما سمعوه منه؛ وقد قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها)، قال: (اكتبوا ولا حرج)، وهو حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح. 

(6) ذكر الرواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كتب حديثه فأذن له. 

(7) ذكر الرواية عن أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذن لهم في كتب ما سمعوه منه.

 (8) ذكر صحفة عبد الله بن عمرو "الصادقة" التي كان يكتب فيها ما يسمعه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيها: "إن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ فقال: (يا أبا بكر، قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم). 

(9) ذكر الرواية عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه أن يكتبوا لأبي شاه خطبته التي سمعها منه، وأبو شاه رجلٌ من اليمن، وجاء في هذه الخطبة: "إنَّ اللهَ حبَسَ عن مَكَّةَ الفِيلَ، وسلَّطَ عليها رسولَه والـمُؤمنين، وإنَّـما أُحِلَّتْ لي ساعَةً مِنَ النَّهارِ، ثم هي حَرامٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، لا يُعْضَدُ شَجَرُها، ولا يُنَفَّرُ صَيدُها، ولا تَـحِلُّ لُقَطَتُها إلا لـمُنْشِدٍ، ومَن قُتِلَ له قَتيلٌ فهو بِـخَيرِ النَّظَرَينِ: إما أنْ يَفْدِيَ، وإما أنْ يَقتُلَ". 

وبعد ذكر هذه الروايات، يقول الخطيب: "ولو لم يكن في هذا الباب إلا وقوع العلم بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -يكتبه من عهود السعاة على الصدقات، وكتابه لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن لكفى؛ إذ فيه الأسوة وبه القدوة".

* الفصل الثاني: ذكر من روى من الصحابة أنه كتب العلم أو أمر بكتابته، وفيه:

(1) الرواية عن أبي بكر الصديق في ذلك، وأنه كتب فرائض الصدقة لأنس بن مالك وكان بعثه عليها. 

(2) الرواية عن عمر بن الخطاب في ذلك، وقوله: "قيدوا العلم بالكتاب". 

(3) الرواية عن علي بن أبي طالب في ذلك، وأنه كتبصحيفةً فيها أسنان الإبل (فرائض الصدقة)، وشيء من الجراحات، وروي عنه: "قيدوا العلم بالكتابة"، وفي رواية: "قيدوا العلم" مرتين. 

(4) الرواية عن الحسن بن علي في ذلك، وقوله: "إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين؛ فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يرويه فليكتبه وليضعه في بيته". 

(5) الرواية عبد الله بن عباس في ذلك، وأنه كان يسأل أبا رافع بن خديج ويكتب عنه، وكان يقول: "قيدوا العلم، وتقييده كتابه". 

(6) الرواية أبي سعيد الخدري في ذلك، وقوله: "كنا لا نكتب إلا القرآن والتشهُّد". 

ويُعلِّق الإمام الخطيب على كلام أبي سعيد بقوله: "وأبو سعيد هو الذي روي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تكتبوا عني سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»، ثم هو يخبر أنهم كانوا يكتبون القرآن والتشهد، وفي ذلك دليل أن النهي عن كتب ما سوى القرآن إنما كان على الوجه الذي بيناه من أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يشتغل عن القرآن بسواه، فلما أمن ذلك ودعت الحاجة إلى كتب العلم لم يكره كتبه كما لم تكره الصحابة كتب التشهد، ولا فرق بين التشهد وبين غيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن ولن يكون كتب الصحابة ما كتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطاً كما كان كراهتهم لكتبه احتياطاً، والله أعلم".

(7) الرواية أنس بن مالك في ذلك، وأنه حدَّث بحديثٍ، وأمر ابنه بكتابته. 

(8) الرواية أبي أمامة الباهلي في ذلك، وأن الحسن بن جابر سأله عن كتابة العلم؛ فقال له: "لا بأس بذلك". 

(9) الرواية جماعة من الصحابة لم يُسموا في ذلك، وفيه ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك.

* الفصل الثالث: ذكر الرواية عن التابعين رضي الله عنهم أجمعين في ذلك، وفيه: 

(1)  الرواية عن الطبقة الأولى من التابعين، وفيه: عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن، وبشير بن نهيك، وكثير بن أفلح، وسعيد بن جبير. 

(2) الرواية عن الطبقة الثانية والثالثة من التابعين، وفيه: عن قتادة، وأبي قلابة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، ومحمد بن الحنفية، وعبد الله بن حنش، وعُبيد المُكتب، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وصالح بن كيسان، والزهري، ورجاء بن حيوة، وأبو سفيان، وأبان بن أبي عياش، ومعاوية بن قُرة المزني. 

(3) الرواية عن الطبقات الأخرى من التابعين في ذلك، وفيه: عن أيوب، وأرطأة، ويحيى بن كثير، وزائدة، وأبو شيبة، ويحيى بن سعيد، وحماد بن سلمة، والأعمش، والمعتمر، وعبد الله بن المدرس، وابن جريج، وعمران القصير.

* الفصل الرابع: الكتاب يحفظ العلم.

القسم الرابع: في الكتب، ومنافعها، والاستئاس بها، وفيه: ستُّ فصول، وهي:

الفصل الأول: فضل الكتب وبيان منافعها، وفيه تفسير قوله (وكان تحته كنزٌ)، وعن ابن عباس أنه كان صحفاً من العلم،  قال بعض الحكماء: لن يصان العلم بمثل بذله , ولن تكافأ النعمة فيه بمثل نشره , وقراءة الكتب أبلغ في إرشاد المسترشد من ملاقاة واضعيها.

الفصل الثاني: ومما تترجم به الكتب من الفوائد والفرائد والنُتف.

الفصل الثالث: الإكثار من الكتب.

الفصل الرابع: ذكر من وظف نفسه على الشغل بمطالعة الكتاب ودرسه.

الفصل الخامس: من استوحش من الخليط والمعاشر، فجعل أنسه النظر في الدفاتر.

الفصل السادس: من سلك في إعارة الكتاب طريق البخل وضنَّ به عمَّن ليس له بأهل، وفي الحكمة: "لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير".

  • خلاصة هذا البحث في تحقيق مسألة تدوين الحديث:

أولاً: الأحاديث التي فيها النَّهيُ عن كتاب الحديث النبوي:

نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أن يُكتب عنه شيءٌ غير القرآن، بل قد أمر صلى الله عليه وسلم من كتب عنه شيئاً غير القرآن أن يمحوه، ومن أشهر وأصحِّ هذه الأحاديث، ما رواه مسلمٌ وغيره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآنَ، فمن كتب عني غيرَ القرآنِ فلْيمحْه، وحدِّثوا عني ولا حَرَجَ، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا، فلْيتبوأْ مقعدَه من النارِ).

ثانياً: أحاديث الإذن بكتابة الحديث النبويّ:

وقد وردت أحاديث عديدة أذن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابة رضوان الله عليهم، بكتابة الأحاديث الشريفة، أصحُّها:

ما رواه أبو داود في"سننه"، وأحمد في "مسنده"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق). 

وروى الخطيب عن المعافى بن زكريا الجريري، قال: "وفي هذا الخبر دلالة واضحة على أنه من الصواب ضبط العلم، وتقييد الحكمة بالكتاب؛ ليرجع إليه الناسي فيذكر ما نسيه، ويستدرك ما غرب عنه، وعلى فساد قول من ذهب إلى كراهية ذلك".

ثالثاً: التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإذن بها:

اجتهد العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث على أقوالٍ عديدة، منها:

الأول: على طريقة النَّسخ:

 فذكر بعض المحدثين أن أحاديث النهي عن الكتابة منسوخةٌ لأنها متقدمة، وأما أحاديث الإذن بالكتابة ناسخةٌ لأنها متأخرة؛ فالنهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن الكريم، فلما ازداد عدد المسلمين، وعرفوا القرآن الكريم، وأصبحوا يُميزونه عن الحديث الشريف، وأمن التباسه واختلاطه بالحديث، حينئذٍ أذن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لصحابته بكتابة الحديث.

وقد ذكر هذا القول ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"، والدكتور مصطفى السباعي في "السنة ومكانتها" وغيرهما، وذكر الحافظ السخاوي في "فتح المُغيث" أن ابن شاهين جنح له، وأن شيخه ابن حجر جعله أقرب الأقوال إلى الصواب.

الثاني: على طريقة الجمع والتوفيق:

ورد عن العلماء أقوالٌ عديدة توفق بين أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإذن بها، وفي شأن هذا التوفيق أقوالٌ متعددة، أشهرها ثلاثة أقوال هي:

أ- أن النَّهي عن الكتابة خاصٌّ بكتابة الحديث الشريف مع القرآن الكريم في صحيفة واحدة، لأنهم كانوا يسمعون تفسير القرآن من النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فربما كتبوه معه، فنُهوا عن ذلك خوف الاشتباه بينهما، وأما الإذن: فهو في حالة كتابة كلٍ من الحديث الشريف والقرآن الكريم في صحيفة مستقلة. وقد ذكر هذا القول الصنعاني في "توضيح الأفكار"، وغيره.

ب-وقال آخرون: إن النهي عن الكتابة كان في حق من وُثق بحفظه، وخِيف اتكالُه على الكتابة، أما الإذن بالكتابة فهو في حقِّ من لا يُوثق بحفظه، ذكر هذا الرأي الرامهرمزي في "المحدث الفاصل"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم"، وأبو عمر بن عبد البر في "جامع بيان العلم".

ج-وقال فريقٌ من المُحدثين إن النَّهي عن الكتابة عام إلا من كان قارئاً ثقةً مأموناً؛ لأنهم لم يكونوا يقرأون ويكتبون، وقد خُصَّ منه عبد لله بن عمرو؛ لأنه كان قارئاً كاتباً مأموناً عليه، ذكره ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث".

والراجح: هو الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، ويتخرج الجواب على هذين القولين.

ويُشير إلى ذلك الخطيب البغدادي، عن أحاديث النهي إلى علةٍ أخرى، وهي: كون علة النهي، هي: "خوف الانكباب على درس غير القرآن".

فقال رحمه الله: "قد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه ونهي عن الكتب القديمة أن تتخذ؛ لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها وصار مهيمناً عليها، ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجِدَتِه؛ لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن، وأمر الناس بحفظ السنن إذ الإسناد قريب، والعهد غير بعيد، ونهى عن الاتكال على الكتاب؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان".

- يقول السِّباعي في كتابه "السنة ومكانتها": ""وأعتقد أنه ليس هنالك تعارض حقيقي بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، إذا فهمنا النهي على أنه نهي عن التدوين الرسمي كما كان يُدَوَّنُ القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص مِنَ السُنَّةِ لظروف وملابسات خاصة أو سماح لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون السُنَّةَ لأنفسهم".

-وقال الدكتور عبد الرَّحمن عِتِر في كتابه "معالم السنة النبوية": "إن النَّهي كان لعلة فإذا زالت هذه العلة كان الإذن بالكتابة، فالخوف من التباس القرآن بالحديث، والخوف من الانكباب على الحديث والانشغال به عن القرآن، كان هذا كله سببًا للمنع من الكتابة، فلما زالت هذه الأسباب عاد الأمر إلى السماح بكتابة الحديث، وقد استقر أمر الصحابة على كتابة الحديث وتدوينه".

رابعاً: من الأمثلة على تدوين الحديث في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم:

1- صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (الصادقة): وكان يفتخر بها، ويقول: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط- أرض أوقفها أبوه عمرو في الطائف وكان عبد الله يقوم برعايتها". وقد أخرج الإمام أحمد في كتابه المسند في مسند عبد الله بن عمرو قسمًا كبيرًا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

2- صحيفة علي بن أبي طالب، وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل- أي مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير. وقد أخرج نبأ هذه الصحيفة البخاري وغيره.

3- صحيفة الصحابي سعد بن عبادة. أخرج الترمذي في سننه عن ابن سعد بن عبادة: "وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد".

4- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وفي بيان أحكام الدين، ومنها:

أ- كتاب الزكاة والديات الذي كاتب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

ب- كتاب لعمرو بن حزم رضي الله عنه -عامله على اليمن، وفيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات.

جـ- كتابه إلى وائل بن حُجْر رضي الله عنه لقومه في حضرموت فيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات.

5- كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء. وإلى أمراء العرب يدعوهم فيها إلى الإسلام، ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغير هؤلاء.

6- عقوده صلى الله عليه وسلم ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أبرمت في دستور التعايش بين المسلمين في المدينة وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم.

7- كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني.

8-وأمره صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن يأتوا له بكتابٍ يضعه لهم، لئلا يختلفوا من بعده، وهو مُخرَّجٌ في البخاريِّ وغيره.

وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم -مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علماً. 

وهذا كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم -وإثبات أن ما كتب فيه عهده صلى الله عليه وسلم -تناول قسمًا كبيرًا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث، وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور ذات الأهمية. 

ولا يعني ذلك أن كل الحديث قد كتب آنذاك، فالصحابة رضوان الله عليهم استعملوا الكتابة بغرض حفظ السنة النبوية بجانب عوامل أخرى جعلت الأحاديث تنقش في قلوبهم نقشها في الحجر.


  • تنبيه: تذكر بعض المقررات الجامعية أحاديث واهية أو ضعيفة، في هذا الباب؛ منها:

1- ما رواه الخطيب، عن أبي هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: كان رجُلٌ يَشهَدُ حديثَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فلا يَحفَظُ، فيَسأَلُني فأُحَدِّثُه، فشَكى قِلَّةَ حِفْظِه إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (استعِنْ على حِفْظِكَ بيَمِينِكَ. يعني: الكِتابَ).

أ. أخرجه الخطيب في "تقييد العلم" (ص 74 -75، ح: 104، 105) من طريق عبد الصمد بن سليمان الأزرق، عن الخصيب بن جحدر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وهذا إسنادٌ موضوع، أخرجه العُقيلي في الضعفاء (3/ 82)، وابن عدي في الكامل (3/ 68)، وعبد الصمد بن سليمان قال فيه البخاريُّ، وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك.

ب. وأخرجه الخطيب (ص 78، ح 111)، من طريق مسعدة بن اليسع، قال: حدثنا أبو الفضل رجلٌ من أهل الشام، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به. وإسناده موضوعٌ. لأجل مسعدة بن اليسع: كذبه أبو داود، وقال أحمد: ليس بشيءٍ حرقنا كتبه، أو تركنا حديثه منذ دهر، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث منكر، لا يُشتغل به. وانظر: (الجرح والتعديل، والتاريخ الكبير، المجروحين، والضعفاء للعقيلي، ولسان الميزان).

2- وروى الخطيب، عن أبي هريرة: أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله، إني أسمع منك أحاديث، وأخافُ أن تفلت مني، قال: (استعن بيمينك).

أ. أخرجه الخطيب أيضاً (ص 75، ح: 106) من طريق طالوت بن عباد الجحدري -وهو كذاب، قال: حدثنا الربيع بن مسلم، عن الخصيب بن جحدر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به، وإسناده موضوعٌ، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 68).

ب. وأخرجه (ص 76، ح: 108) من طريق يحيى بن سعيد العطار، قال: حدثني يحيى بن سلام، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة به وإسناده ضعيف،  (يحيى بن سعيد العطار)، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وقال العقيلي في "الضعفاء": شاميٌّ مُنكر الحديث، وقال ابن حجر في "التقريب": ضعيف.

ج. وأخرجه الخطيب (ص 76، ح 109) من طريق الخليل بن مرة، عن يحيى بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.

وهو ضعيفٌ أيضاً. أخرجه الترمذيُّ (2666)، قال عقبه: "هذا حديثٌ إسناده ليس بالقائم، وسمعتُ محمد بن إسماعيل، يقول: الخليل بن مرة مُنكر الحديث"، وضعفه الألباني في "لاضعيفة" (2761)، ومثله (ص 77) الحديث رقم (110) فقد أخرجه من طريق الخليل بن مُرة.

        د- وأخرج الخطيب معناه (ص 79 -80، ح 114) من طريق عبد الله بن مؤمل، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو، بمعناه، وإسناده ضعيفٌ جداً. وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، قال فيه الإمام أحمد: أحاديث مناكير، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم بن حبان: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وقال النسائي ضعيف، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ليس بالقوي. وانظر (المجروحين، وضعفاء العقيلي، وتهذيب التهذيب، والكاشف).

3- ما رواه الخطيب، عن رافع بن خديج، قال: خرج علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (تحدَّثوا، وليتبوأْ مَن كذَب علَيَّ مقعدَه من جهنمَ) قلت يا رسولَ اللهِ إنا نسمعُ منك أشياءً فنكتُبُها، قال: (اكتبوا ولا حرجَ).

أخرجه الخطيب في "تقييد العلم" (ص 85، ح 120، 121) من طريق بقية بن الوليد، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال: حدثني أبو مدرك، عن عباية بن رافع بن خديج، عن رافع، به. وإسناده ضعيف، أخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 276)، وابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (626) من طريق بقية بن الوليد به، وبقية بن الوليد مُدلس، وهو يدلس التسوية، وهو شرُّ أنواع التدليس، ولم يُصرح هنا بالسماع، وفيه أيضاً "أبو مدرك"، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 151): "لم أرَ من ذكره" يعني أنه مجهول.








الصلاة عند حدوث الآيات غير الكسوف والخسوف -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الصلاة عند حدوث الآيات غير الكسوف والخسوف

دراسة فقهية حديثية

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


اتفق الفقهاء على استحباب الصلاة عند كسوف الشمس والقمر، واختلفوا في الصلاة عند نزول آية غيرهما، والتي فيها فزعٌ وهول وتخويف: من نحو خسفٍ، وغرقٍ، وزلزلةٍ، وعاصفةٍ، وصواعق، وفيضانٍ مُدمّرٍ، وظُلمةٌ شديدةٌ، وانتثار النجوم، ومطرٌ دائمٌ، والرياح المستمرة المخيفة، والوباء والطاعون

1. فذهب المالكية والشَّافعية إلى أنَّه لا يُصلى لشيء من الآيات غير الكسوف والخسوف، وهو ما اختاره العلامة ابن باز من المتأخرين. 

2. وذهب الحنفيَّة إلى مشروعية الصلاة لكل آيةٍ من الآيات، ولكنها  تُصلى ركعتان كهيئة النفل، أي بركوعٍ وسجدتين في كل ركعة.

3. وذهب الظاهرية إلى مشروعية الصلاة لكل آيةٍ من الآيات على هيئة صلاة الكسوف المعروفة، وهو قول عليٍّ، وحُذيفة، وابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، ونسبه ابن المنذر -من الشافعية -إلى الصحابة. وهو قول أبي ثور في رواية، ورواية عن أحمد، وقول أشهب من المالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، ونسبه في "الفتاوى" إلى مُحققي الأصحاب، وبه قال ابن القيم، واختاره الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع".

4. وذهب الشَّافعيُّ في "الأمِّ" إلى استحباب الصلاة لكل آيةٍ من الآيات، لكنه قال: تؤدى على الانفراد، ولا يُشرع لها الجماعة، وهو قول سفيان الثوري، وحقّقه النوويُّ في "الخلاصة".

5. وذهب الحنابلة في المشهور عنهم إلى استحباب الصلاة عند حدوث الزلزلة فقط؛ وأنها تؤدى جماعةً، لورود ذلك عن ابن عباس، وأما غيرها من الآيات فلا تشرع لها الصلاة، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُصلِّ لها ولا أحدٌ من أصحابه، وهو قول إسحاق، وأبي ثور.


  • عرض الأدلة ومناقشتها:

  • أولاً: أدلة القائلين بمشروعية صلاة الآيات:

1. استدلوا بما رواه الشافعي  في "الأم" قال: أخبرنا عبّاد عن عاصم الأحول عن قزعة عن علي -رضي الله تعالى عنه -(أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات خمس ركعات وسجدتين في ركعة وركعة وسجدتين في ركعة).

قال الشَّافعيُّ: "ولسنا نقول بهذا، [إنما] نقول: لا يصلي في شيء من الآيات إلا في كسوف الشمس والقمر، ولو ثبت هذا الحديث عندنا عن علي -رضي الله تعالى عنه -لقلنا به، وهم [أي: الحنفيَّةُ] يثبتونه ولا يأخذون به، ويقولون: يصلي ركعتين في الزلزلة في كل ركعة ركعة.

ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" كلام الشَافعيِّ في "الأم"، وأقرَّه، وذكره ابن رجب في "فتحه"، وقال: له طرق صحيحة، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس.

2. وبما رواه البيهقيُّ في "السنن الكبرى"، قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس، أنبأ الربيع قال: قال الشافعي بلاغاً: عن عبّاد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن علي رضي الله عنه: (أنه صلى في زلزلة ست ركعات، في أربع سجدات خمس ركعات، وسجدتين في ركعة، وركعة وسجدتين في ركعة). 

قال الشافعي: "ولو ثبت هذا الحديث عندنا عن علي رضي الله عنه لقلنا به". قال الشيخ [البيهقيُّ] رحمه الله: هو عن ابن عباس ثابت، وذكره بعده.

ولم يصحّ ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه كما ذكره البيهقيُّ، والنوويُّ، وصحَّ ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن حُذيفة أيضاً، كما سيأتي.

3. واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "مصنفيهما"، وابن المنذر في "الأوسط"، والبيهقيُّ في "الكبرى"، قال عبد الرزاق في "مصنفه": أنبأ معمر، عن قتادة، وعاصم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس: (أنه صلى في زلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع فسجد، ثم قام في الثانية ففعل كذلك، فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات). 

قال قتادة في حديثه: "هكذا الآيات"، ثم قال ابن عباس: "هكذا صلاة الآيات". وقال البيهقيُّ: "هو عن ابن عباس ثابت" انتهى. وصححه الحافظ في "الفتح".

4. ورواه الطَّحاويُّ في "شرح معاني الآثار" من طريق همّام، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث قال: (زلزلت الأرض على عهد ابن عباس رضي الله عنهما…؛ فقيل له: زلزلت الأرض فخرج فصلى بالناس فكبر أربعاً، ثم قرأ فأطال القراءة، وكبر فركع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر أربعاً، فكبر فأطال القراءة، ثم كبر فركع،ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر أربعاً، فقرأ فأطال القراءة، ثم كبر فركع، ثم سجد، ثم قام ففعل مثل ذلك. فلما سلم قال: هكذا صلاة الآيات، وقرأ في الركعة الأولى بسورة البقرة، وفي الأخرى سورة آل عمران).

وروى البيهقيُّ في "معرفة السنن" بإسناده عن الإمام الشَّافعيّ رحمه الله، قال: "لا أرى أن يجمع صلاة عند شيء من الآيات غير الكسوف، وقد كانت آيات فما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة عند شيء منها، ولا أحدا من خلفائه، وقد زلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب فما علمناه صلى، وقد قام خطيباً، فحض على الصدقة، وأمر بالتوبة".

وقال: "وأنا أحب، للناس أن يصلي، كل رجل منهم منفرداً عند الظلمة، والزلزلة، وشدة الريح، والخسف، وانتثار النجوم، وغير ذلك من الآيات،  وقد روى البصريون، أن ابن عباس، صلى بهم في زلزلة".

قال الشَّافعيُّ: "وإنما تركنا ذلك (يعني الجماعة لها) لما وصفنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بجمع الصلاة إلا عند الكسوف، وأنه لم يحفظ أن عمر صلى عند الزلزلة".

وقال الشَّافعيُّ في "الأم": "ولا آمر بصلاة جماعة في زلزلة، ولا ظلمة، ولا لصواعق، ولا ريح ولا غير ذلك من الآيات، وآمر بالصلاة منفردين كما يصلون منفردين سائر الصلوات".

5. واستدلوا بما أخرجه عبد الرزاق: عن معمر، عن قتادة قال: (صلى حذيفة بالمدائن بأصحابه مثل صلاة ابن عباس في الآيات).

6. واستدلَّ بعضهم بما رواه أبو داود والترمذيُّ في "سننهما"، عن ابن عباس، قال: (إذا رأيتم آية فاسجدوا)، وسجد لما بلغه موت بعض أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وعقد له أبو داود باباً سماه: "باب السُّجود عند الآيات".

وهذا الحديث حسنٌ بمجموع طرقه، وقد سكت عنه أبو داود، وما سكت عنه فهو صالح، وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريب، وحسَّن إسناده الألباني في "مشكاة المصابيح، وصحيح أبي داود، والترمذي".

وقال ابن رجب في "فتح الباري": "وظاهره: يدل على أن الآيات يسجد عندها سجوداً مفرداً، كسجود الشكر من غير صلاة".

7. وبما رواه البيهقيُّ في "الكبرى"، وأبو بكر بن المنذر في "الأوسط" من طريق حبيب بن حسّان، عن الشعبي، عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: (إذا سمعتم هاداً من السماء فافزعوا إلى الصلاة).

قال ابن رجب: "وروى حرب: نا إسحاق، نا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة".

وأخرجه ابن عدي في "الكامل" من رواية حبيب بن حسان، عن إبراهيم والشعبي، عن علقمة، عن عبد الله به، وقال ابن عدي: حبيب بن حسان، قد اتهم في دينه، ولا بأس برواياته.

قال ابن رجب في "الفتح": "الصحيح: رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة - من قوله. والله سبحانه وتعالى أعلم".

8. وروى ابن حبان في "صحيحه"، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (صلاة الآيات ست ركعات وأربع سجدات).

وإسناد هذا الحديث حسن، قال العيني في"نخب الأفكار": طريقه صحيح، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري. 

قال ابن رجب في "فتح الباري": "وروي عنها -مرفوعاً، خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: (كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم في صلاة الآيات، فيركع ثلاث ركعات، ويسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات، ثم يسجد سجدتين)، واستُدل به على الصلاة للزلزلة، ولكن رواه وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، فوقفه على عائشة، وهو الصواب".

9. واستدلوا بما أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب المطر"، وأبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة"، من رواية مكحول، عن أبي صخر زياد بن صخر، عن أبي الدرداء، قال: (كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كانت ليلة ريح كان مفزعه إلى المسجد، حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من كسوف شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة، حتى ينجلي). قال ابن رجب في "الفتح": "وهو منقطع، وفي إسناده: نعيم بن حماد، وله مناكير".

10. واستدلوا بما أخرجه أبو داود في "سننه" من رواية عبيد الله بن النضر، قال: أخبرني أبي، قال: كانت ظلمة على عهد أنس بن مالك. قال: (أتيت أنس بن مالك، فقلت يا أبا حمزة: هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فقال: معاذ الله، إن كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة). وبوب عليه: " باب: الصلاة عند الظلمة ونحوها".

ورواه الحاكم في "المستدرك"، ومن طريقه البيهقيُّ في "الكبرى"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه، وعُبيد الله هذا هو ابن النضر بن أنس بن مالك، وقد احتجا بالنضر، ووافقه الذهبيّ، وحسَّن إسناده النووي في "الخلاصة". 

وفي كلام الحاكم نظر، لأن النوويَّ رحمه الله ذكر في "الخلاصة" عن النضر القيسي، ولو كان ابن أنس بن مالك لقال الخزرجي، فعُبيد الله هنا هو ابن النضر بن عبد الله بن النضر القيسي، أبو النضر البصري، وقد أشار إلى ذلك مُحقق كتاب "الخلاصة"، وقال المنذري: "حكى البخاريُّ في التاريخ فيه اضطراباً"، وقال الألباني: "ضعيف".

وقال ابن رجب في "فتح الباري": "وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح أيضاً، وأبو داود، من أجل أصحاب الإمام أحمد". 

  • ثانياً: أدلة القائلين بعدم مشروعية صلاة الآيات:

1.استدلَّ المانعون بأنَّ هذه الآيات كانت تحدث في عهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يأمر بالصلاة في غير الكسوف.

وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ في "صحيحيهما"، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَياتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمُوها فافْزَعُوا لِلصَّلاةِ)، وهذا لفظ مسلم.

وفي رواية لهما، عن أبي مَسعودٍ عُقبةَ بن عمرٍو: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (إذا رأيتُموهما -يعني الكسوف أو الخسوف- فصَلُّوا).

قالوا: إن قوله: (رأيتُموهما) يعنى الشَّمسَ والقَمرَ، وهما اللَّذانِ صَلَّى فيهما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونُقِلَ ذلك مِن فِعْلِه؛ ولم يرد أنه صلَّى في شيءٍ غيرهما.

ويُجيب القائلين بمشروعية صلاة الآيات: بعموم العلة في قوله (آيَتانِ من آيات الله)، وفي رواية لمسلم: (يُخَوِّفُ اللَّهُ بهِما عِبادَهُ).

قالوا: فكلُّ آيةٍ يكون فيها التخويف يُصلَّى لها، كما أنَّ الكُربة التي تحصل في بعض الآيات أشدُّ من الكربة التي تحصل في الكسوف. 

فإن قيل: تتمة حديث مسلم: (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره) فالجواب أن يُقال: الصلاة من جنس الذكر، والله أعلم.

2. قال المانعون: كذلك فإن هذه عبادةٌ بهيئةٍ خاصَّة، والعباداتُ توقيفيَّة لا يُشرَع منها إلَّا ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة الصَّحيحة، ولم يرِدْ دليلٌ يُعتمَدَ عليه في شرعيَّةِ الصلاةِ للزِّلازلِ، ولا غيرها.

3. وقال المانعون: كما أنَّ هذه الآياتِ من الريح الشديدة والصواعق والمطر ونحو ذلك كانتْ تحصل أيام الصحابة والخلفاء الراشدين، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنه صلَّى لها جماعة غير الكسوف.

ويُجيب القائلين بمشروعية صلاة الآيات: أن ما رُوي عن ابن عباس وحُذيفة من الصلاة عند الزلزلة دليلٌ على أنَّ الصحابة كانوا يعرفون ذلك، لا سيما مع أثر عائشة التي بيَّنت فيه صلاة الآيات، وإذا كانت الزلزة آيةً من آيات التخويف فدلَّ ذلك على أنه لا يُقتصر على الزلزلة أو الكسوف فقط، بل يُصلى عند كل آية تخويف.

4. واستدلُّوا بأنه قد زلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلم يأمر بالصلاة؛ وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وابن المنذر في "الأوسط"، من طريق نافع، عن صفية ابنة أبي عُبيد،  قالت: (زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي فلم يدر، قال: فخطب عمر للناس، فقال أحدهما: لقد عجلتم، قال: ولا أعلمه إلا قال: «لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم»)، وواه البيهقيُّ في "السنن الكبرى".

5. واستدلوا بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر كثرة الزلازل في آخر الزمان، ولم يأمر بالصَّلاة عندها، وقد بوَّب البُخاريُّ في صحيحه: (بابُ ما قيل في الزلازل والآيات)، وأخرج فيه حديث أبي هريرة مرفوعاً: (لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، ويَتَقارَبَ الزَّمانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ…).

قال ابن رجب في "فتح الباري": "وقيل: إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ذكر ظهورها وكثرتها، ولم يأمر بالصلاة لها، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر، وكما أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت، فكذلك الزلازل ونحوها من الآيات".

  • والخلاصة:

 أن الأفضل الاقتصار على الوارد الثابت من الدُّعاء والاستغفار والتوبة، وأنه لا يُصلى لشيء من الآيات كهيئة الخسوف والكسوف، ولو صلَّى في بيته ركعتين منفرداً لكان حسناً، ولا شك أن التخويف علةٌ ظاهرة في مشروعية الصلاة، ولكن لا قياس مع السنة الظاهرة، والترك عند وجود السبب، وانتفاء المانع دليلٌ على عدم الاستحباب، ومع ذلك فلا يُنكر على من صلَّاها، ولا يُقال إنها بدعة.

وقال الخطيب في "الإقناع": "تتمة: يُسَنُّ لكل أحد أن يتضرع بالدعاء ونحوه عند الزلازل ونحوها؛ كالصواعق والريح الشديدة والخسف، وأن يصلي في بيته منفرداً، كما قاله ابن المقري لئلا يكون غافلاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحاً"

  • المصادر والمراجع:

  • الأم للشَّافعيّ.

  • فتح الباري لابن رجب.

  • الدرر السنية (الموسوعة الفقهية).

  • الموسوعة الفقهية الكويتية.

  • موسوعة الفقه الإسلامي.

  • المحلى بالآثار؛ لابن حزم.

  • الدين الخالص؛ لابن خطاب السُّبكي.

  • نور الإيضاح ونجاة الأرواح في الفقه الحنفي.

  • الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع.