أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 28 نوفمبر 2020

حكم خروج النساء إلى العيدين -إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

حكم خروج النساء إلى العيدين

دراسة فقهية وحديثية

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

اتفق الفقهاء على مشروعية الخروج لصلاة العيد واستحبابها، وذلك على الرجال والصبيان والنساء العجائز بلا خلاف، واختلفوا في خروج الشَّابة، وذوات الخدور، والكبيرة التي تُشتهى إلى صلاة العيد:

1. فذهب الحنابلة إلى إباحة حضور النساء إلى صلاة العيد من غير فرق بين بكر وثيِّب، أو شابّة وعجوز أو حائض أو طاهر، لعموم حديث أم عطية في الصحيحين، وهو قول ابن خزيمة وابن المنذر من الشافعية.

2. وذهب الشافعية والحنفيَّةُ والمالكيَّة إلى كراهة خروج الشَّابة أو الكبيرة التي تُشتهى إلى صلاة العيد، وكرهوا لزوجها ووليها تمكينها من الخروج، ورخصوا في ذلك للعجوز، وهو قول عائشة، عروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي، ويحيى الأنصاري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي.

3. وذهب بعض السَّلف إلى استحباب أو وجوب خروج المرأة إلى صلاة العيد، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعليُّ بن أبي طالب، وابن عمر رضوان الله عليهم.

بيان الأدلة الواردة في هذه المسألة:

1-  واستدلُّوا بما رواه البخاريُّ ومسلمٌ في "صحيحيهما"، عن أمِّ عَطيَّةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (أَمرَنا- تعني النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنْ نُخرِجَ في العيدينِ، العواتقَ وذواتِ الخدور وأمَرَ الحُيَّضَ أن يعتزِلْنَ مُصلَّى المسلمينِ). 

2- وفي روايةٍ لهما عنها، قالت: (كنَّا نُؤمَر أن نَخرُجَ يوم العيدِ، حتى تَخرُجَ البكرُ من خِدرهِا، وحتى يَخرجَ الحُيَّضُ فيكُنَّ خلفَ الناس، فيُكبِّرْنَ بتكبيرِهم، ويَدْعونَ بدعائِهم؛ يرجونَ بركةَ ذلك اليومِ وطُهرتَه).

وجه الدلالة: أنَّه صلى الله عليه وسلم علَّل خروجهنَّ بشهودِ الخيرِ ودعوةِ المسلمينَ، وأنه لم يُفرق بين الشابة وغيرها، وأن ذلك الأمر محمولٌ عى الاستحباب؛ إذ لو كان واجبًا ما علَّل ذلك الحضور.

قال النووي في "المجموع": "العواتقُ جمْع عاتق، وهي البنتُ التي بلَغتْ، وقال أبو زيد: هي البالِغة ما لم تعنسْ، وقيل: هي التي لم تتزوَّجْ، قال ثعلب: سُمِّيتْ عاتقًا؛ لأنَّها عتقت من ضرِّ أبويها، واستخدامهما وامتهانها بالخروجِ في الأشغال". وجاء في "الفتح": الخدور: جمْع خِدر، وهو ناحيةٌ في البيتِ يُتركُ عليها سترٌ، فتكون فيه الجاريةُ البِكر. وقيل: الخدور: البيوت.

3- بل إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعذر من لم يكن لها جلباب، وأمرها أن تُلبسها صاحبها من جلبابه: فقد روى البخاريُّ في "صحيحه"، عن أم عطيَّة نسيبة بنت كعب الأنصارية، قالت: "كُنّا نَمْنَعُ عَواتِقَنا أنْ يَخْرُجْنَ في العِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عن أُخْتِها، أنها سَأَلَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أعَلى إحْدانا بَأْسٌ إذا لَمْ يَكُنْ لَها جِلْبابٌ أنْ لا تَخْرُجَ؟ قالَ: (لِتُلْبِسْها صاحِبَتُها مِن جِلْبابِها ولْتَشْهَدِ الخَيْرَ ودَعْوَةَ المُسْلِمِينَ).

ورواه مسلمٌ مختصراً، وفيه أن السائلة هي أم عطية.

4- واستدلوا بماا رواه ابن ماجه والبيهقيُّ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يخرج نساءه وبناته في العيدين).

وهذا الحديث ضعفه النوويُّ في "الخلاصة"، وقال الضياء المقدسي في "السنن والأحكام"، والشوكاني في "نيل الأوطار"، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي": في إسناده حجاج بن أرطأة، وهو مختلف فيه، وقال الألباني في "تمام المنة" فيه حجاج بن أرطأة، وهو مُدلسٌ وقد عنعنه، وفي "ضعيف ابن ماجه" قال: ضعيف. 

وهذا الحديث مع ضعفه إلا أنه يشهد له الروايات المتقدمة عن أم عطية.

5- واستدلوا بما رواه البخاريّ في "صحيحه"، والنَّسائيُّ في "سننه"، عن ابن عباس قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى، ثم خطب ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة).

5- واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والدارمي، عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (لا تَمْنَعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ).

وهذا الحديث صحيحٌ، احتجَّ به ابنُ حزم في"المحلى" وقال ابن عبد البَرِّ في "التمهيد": محفوظ، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في "المجموع"، وقال: على شرْط الشيخين، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير"، وقال ابن حجر في "التلخيص": اتَّفق الشيخان عليه بالجملة الأوَّلى. وقال الألباني في "صحيح أبي داود": حسنٌ صحيح. وحسَّنه الوادعي في "الصحيح المسند".

6- وروى البخاري ومسلم، عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (لا تَمنَعوا إماءَ اللهِ مَساجدَ اللهِ).

  • حكاية الخلاف:

وقال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الأوسط": "وقد اختلف أهل العلم في خروج النساء إلى الأعياد: 

أ. فروينا عن أبي بكر، وعلي أنهما قالا: "حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين"، وروي عن علي أنه قال: "الخروج إلى العيدين سنة للرجال والنساء"، و"كان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيد". وقد روي عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وجوب خروجهنَّ إلى العيد عملاً بظاهر الحديث.

ويدل لذلك ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن طلحة اليامي، قال: قال أبو بكر: (حقٌّ على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين). 

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن علي، قال: (حقٌّ على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، ولم يكن يرخص لهنَّ في شيءٍ من الخروج إلا إلى العيدين). 

ب. وكرهت طائفة خروج النساء إلى العيدين، كره ذلك إبراهيم النخعي، و "كان عروة بن الزبير لا يدع امرأة من أهله تخرج إلى فطر ولا إلى أضحى". وقال يحيى الأنصاري: "لا نعرف خروج المرأة الشابة عندنا في العيدين"، وقال أصحاب الرأي في خروج النساء إلى العيد: "أما اليوم فإنا نكره لهن ذلك ونرخص للعجوز الكبير بأن تشهد العشاء، والفجر، والعيدين، وأما غير ذلك فلا".

وقال الترمذيُّ في "سننه": "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث (يعني حديث أمِّ عطيَّة في الخروج إلى صلاة العيد)، ورخص للنساء في الخروج إلى العيدين وكرهه بعضهم".

قال (يعني الترمذيّ): وروي عن ابن المبارك أنه قال: "أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك؛ فللزوج أن يمنعها عن الخروج". 

وروى مسلمٌ في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، عن عائشة، قالت: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل".

وهذا الأثر عند أحمد، صحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط، وقال: على شرط الشيخين. وقال الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الترمذي": أثر عائشة هذا رواه الشيخان، وليس فيه حجة لجواز منعهنَّ المساجد؛ إذ الشريعة استقرت بموته، وليس لأحدٍ أن يُحدث بعده حكماً يُخالف ما ورد عنه لرأيٍ رآه، أو علَّةٍ استحسنها، وكما قال الشافعيُّ في "الرسالة" (ر: 326): "ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منها…". 

 ويُروى عن سفيان الثوري: "أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد". ويُقال فيه مثلما قيل في أثر عائشة رضوان الله عليها.

  • مذهب الشَّافعيّ في خروج المرأة لصلاة العيد:

قال الماوردي في "الحاوي الكبير": "لا يختلف مذهب الشافعي أن كل من لزمته الجمعة فهو مأمور بصلاة العيدين، إما ندباً أو على الكفاية. 

فأما من لا تلزمه الجمعة من: العبيد والنساء والمسافرين والمعذورين؛ فهل هم مأمورون بصلاة العيدين أم لا؟ على قولين:

أحدهما: نصَّ عليه في القديم في كتاب الصيد والذبائح، أنهم غير مأمورين بها. والقول الثاني: نص عليه في صلاة العيدين من الجديد وهو الصحيح، أنهم مأمورون بها، لعموم أمره - صلى الله عليه وسلم.

وقال النوويُّ في "المجموع": "قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله يستحب للنساء غير ذوات الهيئات حضور صلاة العيد.

وأما ذوات الهيئات وهن اللواتي يشتهين لجمالهن فيُكره حضورهن هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الجمهور.

(فإن قيل) هذا مخالف حديث أم عطية المذكور؟

(قلنا) ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل"؛ ولأن الفتن وأسباب الشر في هذه الأعصار كثيرة بخلاف العصر الأول والله أعلم".

 وقال الإمام الشافعي في "الأم": أحب شهود النساء العجائز وغير ذوات الهيئات الصلاة والأعياد وأنا لشهودهن الأعياد أشدُّ استحباباً مني لشهودهن غيرها من الصلوات المكتوبات".

وقال الشَّافعيُّ في "اختلاف الحديث": أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال: «إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها». قال: وهذا حديثٌ كلمنا فيه جماعة من الناس بكلام قد جهدت على تقصي ما كلموني فيه، فكان مما قالوا أو بعضهم: ظاهرُ قول رسول الله النهي عن منع إماء الله مساجد الله، والنهي عندك عن النبيِّ تحريمٌ، إلا بدلالة عن رسول الله أنه أراد به غير التحريم. وهو عام على مساجد الله، والعام عندك على عمومه إلا بدلالة عن النبي، أو عن جماعة لا يمكن فيهم جهلُ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه خاص. 

فما تقول في هذا الحديث: أهو عام، فيكون تحريم أن يمنع أحد إماء الله مساجد الله بحال، أو خاص فيكون لهم منعهن بعض المساجد دون بعض، فإنه لا يحتمل إلا واحداً من معنيين؟ 

قلتُ: بل خاصٌّ عندي، والله أعلم. 

قال: ما دل على أنه خاص عندك؟ 

قلتُ: الأخبار الثابتة عن النبيِّ بما لا أعلم فيه مخالفاً. 

ثم استطرد الشَّافعيُّ في ذكر الأدلة على ذلك، إلى أن قال:

 أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: «إذا استأذنت أحدكم امرأته لتشهد العشاء فلا يمنعها».

فاحتمل أن يجب عليهن، واحتمل أن يكون على استحباب، فلما كان ما وصفت من الاستدلال بأن لم يختلف العامة أن ليس على المرأة شهود صلاة جماعة كما هي على الرجل، وإن وليها حبسها، كان هذا اختياراً لا فرضاً على الولي أن يأذن للمرأة للعشاء.

فقال: ما علمت أحداً من المفتين يخالف في أن ليس على الرجل الإذن لامرأته إلى جمعة ولا جماعة، ولقد قال بعضهم: ولا إلى حج؛ لأنه لا يفوتها في عمرها. 

فقلت: ففي أن لم يختلف المفتون إن كان كما قلت دليل على أن لا يجهلوا معنى حديث رسول الله، إذا كان معنى حديث رسول الله محتملاً ما قالوا.

قال: ولقد قال بعضهم: لزوج المرأة أن يمنعها من الحج؟

قلتُ: أما هذا فلا؛ لأنه إذا جاز له أن يمنعها الفريضة فقد منعها مساجد الله كلها، فأباح له خلاف الحديث.

فإذا قلتَ: لا يمنعها الفريضة من الحج أخالف الحديث؟ بل هو ظاهر الحديث «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله كلها».

وفيه والله أعلم دلالة على أن لهم منعهن بعضها.

قال: وأجبر زوج امرأة ووليها من كان على أن يدعها والفريضة من الحج والعمرة في سفر، ولا أجبره على ما تطوعت به منهما، فإذا أذن لها إلى الحج فلم يمنعها مساجد الله؛ لأنه قد أذن لها في الفرض إلى المسجد الحرام، قال: وقد روي حديث أن يترك النساء إلى العيدين، فإن كان ثابتا قلنا به.


الخلاصة:

1-استحباب خروج المرأة لصلاة العيد مع أمن الفتنة، وهذا متوافرٌ في عصرنا، وهو القول الراجح إن شاء الله تعالى.

2. حديث أم عطية حديثٌ صحيح، وروى في الصحيح وغيره، بألفاظٍ منها: (أمرنا أن نُخرج العواتق وذوات الخدور)، وفي رواية: (كنا نؤمر أن نُخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور)، وفي رواية: (كنا نؤمر أن نُُخرج يوم العيد حتى البكر من خدرها).


  • مصادر البحث:

  1. الدرر السنيَّة.

  2. فقه السُّنة.

  3. موسوعة الفقه الكويتية.

  4. الأم؛ للشافعي.

  5. الحاوي؛ للماوردي.

  6. المجموع شرح المهذب؛ للنووي.

  7. النظر فيما علق الشافعي القول به على صحة الخبر.




الجمعة، 27 نوفمبر 2020

مكانة السنة عند الإمام الشافعي وجهوده في حفظها -أ. إبراهيم أحمد الكرد أ. محمد السحار

مكانة السنة عند الإمام الشافعي وجهوده في حفظها

أ. إبراهيم أحمد الكرد -أ. محمد السحار

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شكَّ أن الحديث هو نواة الفقه الثانية التي يستطيع الفقيه من خلاله أن يستقرئ ويستنبط القوانين التشريعية، والتي تضبط حسن الفهم، وقد كان للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الدور الكبير في إعادة السُّنة إلى مكانتها الأولى، وإثبات قوتها كأصل مُبَيِّن ومفصل ومكمل لكتاب الله عز وجل، بالإضافة إلى حسمه قضيَّة الاحتجاج بخبر الواحد وأنه حُجَّةٌ في العلم والعمل جميعاً، وقد أبدع في الرد على منكري الاحتجاج به، فضلاً عن منكري الاحتجاج بالحديث المتواتر، وهو ما تناوله هذا البحث القيِّم بالتفصيل والإيضاح.

والحديث عن الإمام الشافعي وسيرته العظيمة يطول، لا سيما وأنه أحد أبرز العلماء الذين أسهموا بنـصيب كبيـر فـي التأصيل العلمي للسنة النبوية، فقد ترك للأمة الإسلامية إرثاً أصولياً وفقهيـاً وحـديثياً كبيراً، لا ينضب معينه، ومادةً فقهيَّة دسمةً لا يفقر المتزود منها، وقد هيأه المولى سبحانه بما حباه من فصاحةٍ وقوة التعبير التي لا تضارع، مع علم يقيني بالتاريخ وأدوار الرسالة وأيامها، وأعمال الرسول صلى االله عليه وسلم وأقواله ومناسباتها، ومراميها ومعانيها، ثُمِّ إحاطته بعلم أهل العراق والحجاز، ما جمع له العلم من طرفيه، فكان لديه إحاطة كاملة بالعلم الديني؛ وبهذا استطاع أن يُضيف إلى الأمة والتاريخ مذهباً فقهياً ثالثاً يعتمد على الكتاب والسُّنة على طريقة السَّلف الصالح.

وقد أبرز هذا البحث المكانة العلمية المرموقة التي وصل إليها الإمام الشافعي، وكشفت عن إنتاج الإمام العلمي الغزير، سواء من خلال توثيق العلماء وثنائهم عليه أو من خلال المنهجية العلميـة لكتبـه.

وابتدأت هذه الدراسة بمُقدمة حافلة بتاريخ هذا الإمام العظيم، وفيها بيان أمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه وفقهه؛ وأجدني مضطرٌ إلى إضافةٍ مهمة على هذه السيرة العطرة وهي عقيدة الإمام السلفيَّة، والتي احتفت بها كثيرٌ من كتب العلماء المتقدمين، فكانت عقيدته رحمه الله نقيَّةً من أوضار المتكلمين وسفسطة الأشعرية. 

وينقل المؤلفان تعظيم الإمام الشافعي للسُّنة النبوية ودفاعه عنها؛ حتى سُمي ببغداد بـ "ناصر الحديث"، وقد ألجم المتكلمين بلجام السُّنن والآثار مع فقهٍ عالٍ واستنباطات لطيفة وعميقة، تردُّ شبهاتهم، وتدحر دعواهم.

وفي ضوء الحديث عن عنايته بالسُّنة وعلومها، فقد كان الشَّافعيُّ أحد المؤسسين لعلم المصطلح الحديثي، وأحد الذين وضعوا الأصول الحديثية ودونوها في كتبهم، وقد جعل الشَّافعيُّ السنة النبوية بمنزلة الكتاب في الحُجيَّة.

فقال في "الرسالة": "وأولى أن لا يشك عالم في لزومها، وأن يعلم أن أحكام الله ثم أحكام رسوله لا تختلف، وأنها تجـري علـى مثال واحد".

ويقول أيضاً: "كل ما سن رسول الله مع كتاب االله من سنة؛ فهي موافقة كتـاب الله في النص بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيراً من الجملة، وما سن مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه".

وبين رحمه الله أن السنة الصحيحة الثابتة لا يُمكن أن تخالف الكتاب، وأنها واجبة الاتباع بأمر الله تعالى، وأن كـل السنة مقدمة على كل رأي؛ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: ٣١).

كما بيَّن أنه لا يوجد عالمٌ ثقةٌ يخالف سنة ثابتة عن النبي صلى االله عليه وسـلم، وإن فعل فلا يُحتج بقوله، وقد تكون هذه المخالفة نتيجة: جهله بالسنة، أو لخطئه في التأويـل، وقد صرَّح بهذا في قوله في "الرسالة": "لا تخالف له سنة أبداً كتاب الله، وأن سنته وإن لم يكن فيها نصُّ كتابٍ: لازمةٌ، بما وصفت من هذا، مع ما ذكرتُ سواه، مما فرض الله من طاعة رسوله. ووجب عليه أن يعلم: أن الله لم يجعل هذا لخلقٍ غير رسوله.

وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبداً تبعاً لكتاب االله ثم سنة رسـوله. 

وأن يعلم أن عالماً إن روي عنه قول يخالف فيه شيئا سنَّ فيه رسول الله سنةً، لو علم سنة رسول الله لم يخالفها، وانتقل عن قوله إلى سنة النبي -إن شاء الله -وإن لم يفعل كان غير مُوسَّعٍ له". 

 وكان للإمام الشافعيّ عنايةٌ تامة في جمع ألفاظ الحديث، وبيان اختلاف الرواة فيها، وله كلامٌ في تأويل مختلف الحديث بتخصيص العام، وتقييد المطلق، والجمع بين النصوص ما أمكن، أو القول بالنسخ إن ثبت، أو الترجيح بينها بقرينة خارجية من قول الصحابة أو فعلهم، أو قرينةٍ لفظية أو حسية، ونحو ذلك مما يُعلم من علم الأصول.

بالإضافة إلى نقده الرجال وتوثيقهم وتضعيفهم، والذي انتظم فيما بعد بفنٍّ مُستقل عُرف بـ"علم الجرح والتعديل"، وكان -رحمه الله -له طريقته في التوثيق بالإبهام، كأن يقول: "حدثني الثقة" وقد عييَّن الأئمة مراده، وله كلامٌ جليل في علل الحديث، أخذ به جهابذة النُّقاد واعتبره في نقدهم.

وكذلك عُرف عنه حفظه لكتاب "الموطأ" لمالك بن أنس، وقد أودع عددً هائلاً من الأحاديث في كتبه التي صنفها مُسندةً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أفرد البيهقيُّ للإمام الشافعيِّ باباً سماه: "باب ما يستدل به على معرفة الشافعي رضي االله عنه بالحديث"، وقد روي من طريقه (٢٤٢٥) حديثاً، رواها أصحاب السُّنن الأربعة وغيرهم؛ بالإضافة إلى كون إسناده رحمه االله أحد المراجع الرئيسة في الأسـانيد العالية.

وتحدَّث الباحثان -أيضاً -عن جهود الإمام الشَّافعيِّ في نشر السُّنة، وقد بلغت كتب الشافعي حوالي مئة وأربعين (١٤٠) كتاباً، ذكر منها ابن النديم في "الفهرست" أكثر مـن مئة، وأكثرها مفقود، كما أن هنالك قائمة أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" نقلا عن البيهقي، أشهرها: "الأم"، و "السُّنن المأثورة"، و "مُسند الشَّافعي" الذي جمعه له أحد أصحابه.

وكان للإمام الشافعي جهوده في الردِّ على شُبه الطاعنين في السُّنة وشبهاتهم، حتـى قطـع حجتهم، وأظهر افتراءاتهم، وقد ذكر المؤلفان جملةً منها.

وفيما يلي ذكر مبحثين من المباحث:

الأول: طريقة الإمام الشافعي في الاحتجاج بخبر الواحد.

الثاني: مذهب الشافعي في الحديث المرسل.

* طريقة الإمام الشَّافعي في الاحتجاج بخبر الواحد:

أولاً: إيراد الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى االله عليه وسلم، الدالة على أن خبر الواحد أقام به الرسول صلى االله عليه وسلم الحجة، وعمل المسلمون به في عهده صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: الانتقال إلى لون آخر من ألوان الاستدلال؛ فقال: "إن خبر الواحد نعمل به في حياتنا فيمـا لا يقل عن الأحاديث التي يرويها الآحاد من الرواة، وذلك أننا نرى القاضي يقضي علـى الرجـل للرجل بحكم من الأحكام... هذا الحكم في حقيقته إنما هو خبر يخبر به القاضي عن بينـة تثبـت عنده، أو إقرار من الخصم، ثم ينفذ هذا الحكم... إن هذا في معنى المخبر بحلال وحرام وبعبـارة أخرى في معنى راوي السنة أو الأحاديث" (الرسالة: ٤٢٠ -٤٢١).

ثالثاً: الرد على من يقولون إن من علامة الضعف في خبر الواحد ترك بعـض الأئمـة لـه، فيقول: "إن خبر الواحد ثابت على كل حال، حتى لو عمل بغيره أحد الأئمة، أو لم يمض عمل مـن الأئمة بمثله، لأن كل هذا يحدث حين يجهلون بعض الأخبار، وعندما يصلهم علم بهـذه الأخبـار فإنهم يتمسكون بها ولا يحيدون عنها" (الرسالة: ٤٢٤ -٤٣١).

رابعاً: الرد على من يقولون بالعدد في قبول خبر الواحد، وقد يستدلون بطلب عمر راوياً آخر مع رجل أخبره خبراً عن رسول الله صلى االله عليه وسلم، فيقول رحمه الله: "إن عمر رضـي الله عنه لا يفعل هذا إلا لأحد أسباب ثلاثة: إما للحيطة فقط، وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد عنده فخبر الاثنين يزيدها ثبوتا، وربما طلب مخبراً آخر، لأنه لا يعرف الأول فيقف في خبـرة حتـى يأتي مخبر آخر يعرفه، وهذا هو الواجب، فلا يقبل الخبر إلا عن معروف، حتى يمكـن الوقـوف على الصفات التي قبل بها خبر الراوي، ويحتمل أن الذي أخبره ليس بمقبول عنده، فيرده، حتـى يجد غيره ممن يقبل قوله" (الرسالة: ٤٣٢- ٤٣٤).

خامساً: لفت النظر إلى أن عمل بعض الصحابة بخلاف الخبر لا يضعفه، وبهذا يرد على من اتخذوا هذا مقياساً لعدم صحة الخبر، ولا يثبتونه عندئذ، فيقول: "وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يوهن الخبر عن النبي عليه الـسلام" (الرسالة: ٤٤٦).

وأورد مـن فعـل الصحابة والتابعين من بعدهم ما يدل على تمسكهم بخبر الواحد ورجوعهم إليه، وإن خالف رأيـاً رأوه أو فتيا أفتوا بها" (الرسالة: ٤٤٨ -٤٥٢).

سادساً: اجماله بعد هذا كله قبول علماء الأمصار لخبر الواحد، ثم قال: "لو جاز لأحـد مـن الناس أن يقول في علم الخاصة أجمع المسلمون قديماً وحديثا على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودا على كلهم" (الرسالة: ٤٥٧ -٤٥٨).

مذهب الإمام الشافعي في الحديث المرسل (الرسالة: ٤٦٢ -٤٦٧):

١. لا يقبل إلا مرسل كبار التابعين، ويرد مرسل من عداهم من صغار التـابعين، وأنـه لا يقبـل مرسل الكبار إلا باعتضاده بأحد أمور؛ وهى:

أ. إذا أسند من جهة أخرى.

ب. إذا أرسله من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عن العلم.

ج. إذا وافق قول بعض الصحابة.

د. إذا أفتى أكثر العلماء بمقتضاه.

٢. يشترط الإمام الشافعي في هذا التابعي الكبير أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهـولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، وألا يخالفه أحد من الحفاظ. 

٣. ومذهب الإمام رضي االله عنه أن الحديث المرسل إذا اعتضد بما أسلفنا لم يصل في الحجة إلـى درجة الحديث المسند المتصل كما قال في الرسالة: "ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل"؛ وهذا يفيدنا عند الترجيح. فإذا عارض المرسل المعتضد مسند متصل قدم عليه. لأن حجة المرسل ضعيفة رغم الاعتضاد.

إلا أنه رضي االله عنه قال في مختصر المزني (٨/ ١٧٦) في "باب بيع اللحم بـالحيوان": "أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: أن رسول االله صلى االله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزوراً نُحرت على عهد أبي بكر رضي االله عنه؛ فجاء رجل بعناق؛ فقال: أعطوني جزءاً بهذه العناق؛ فقال أبو بكر: لا يصلح هذا، وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن: يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلا وآجلا يعظمـون ذلك، ولا يرخصون فيه". 

قال: "وبهذا نأخذ، سواءٌ كان اللحم مختلفاً أو غير مختلف ولا نعلم أحداً من أصـحاب النبي صلى االله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حسن".  

وقال الإمام النووى في "المجموع" (١/ ٦١ - ٦٢): اختلف أصحابنا في معنى قول الشافعي إرسال ابن المـسيب عندنا حسن على وجهين: أحدهما: أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها فتشت فوجـدت مسندة. والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده، بل هي كغيرها. وقالوا إنما رجح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. 

وقال الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقـه" (ص ٥٤٥): "والصواب الوجـه الثاني، وأما الأول فليس بشيء. 

وكذا قال في الكفاية (ص ٤٠٥): الثاني هو الصحيح عندنا من الـوجهين، لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح".  

قال النووي في "المجموع" (١/ ٦٢- ٦٣): "قلت: ولا يصح تعلق من قال إن مرسل سعيد حجة، بقوله إرساله حسن، لأن الشافعي رحمه االله لم يعتمد عليه وحده، بل اعتمده لما انضم إليه قول أبى بكر الصديق ومـن حضره، وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم، مع ما انضم إليه من قول أئمة التـابعين الأربعة الذين ذكرهم، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة، وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضـد ثان للمرسل، فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد".

ثم قال: "ومع أنه قد شاع في ألسنة كثيرين من المشتغلين بمذهبنا، بل أكثـر أهـل زماننا أن الشافعي رحمه الله لا يحتج بالمرسل مطلقاً إلا مرسل ابن المسيب فإنه يحتج به مطلقـاً، وهذان غلطان، فإنه لا يرده مطلقا، ولا يحتج بمرسل ابن المسيب مطلقا بل الصواب ما قـدمناه- أي عن الخطيب -والله أعلم".

الشافعي وعلوم الحديث

دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه

تأليف محمد طارق هشام مغربية

موقف الإمام الشافعي من المرسل:

كثر الكلام عن احتجاج الشافعي رحمه الله تعالى بالمرسل عامة ومرسل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى -خاصة مع موقفه المعروف من المرسل، حتى فشا بين أهل العلم؛ الشافعية وغيرهم أن الشافعي يأخذ بمرسل سعيد مطلقاً. فما حقيقة المسألة، وهل خالف الشافعي شرطه في قبول المرسل بالنسبة لسعيد بن المسيب؟

نبدأ أولاً بتعريف المرسل؛ قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وصورته التي لا خلاف فيها: حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم كعبيد الله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب، وأمثالهما إذا قال: قال رسول الله ﷺ.

ومن تعريفاته أيضاً: ما سقط منه من بعد التابعي فالمرسل من أقسام الحديث المنقطع وهو ضعيف لجهالة من أسقط من سنده، فقد يكون صحابياً وقد لا يكون. فهل قبل الشافعي رحمه الله الاحتجاج بالمرسل؟

قال الإمام الشافعي رحمه الله في «الرسالة»: المنقطع مختلف؛ فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتبر عليه بأمور:

منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. 

وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك.

ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم ؟ فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.

وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له، فإن وجد ما يوافق ما روى عن رسول الله كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح.

وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 

قال الشافعي: ثم يعتبر عليه؛ بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإذا خالفه وجد حديثه أنقص ؛ كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه. ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا أحداً منهم قبول مرسله.

قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله. 

ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل.

فيظهر من نص الإمام رحمه الله أنه لا يقبل المرسل إلا معتضداً بغيره من حديث متصل أو مرسل آخر يوافقه أو يشتهر بين أهل العلم أو يفتي بموجبه أهل العلم. فهل ميز مرسل سعيد بن المسيب من هذه الشروط؟

عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى فصلاً في مقدمة كتابه «المجموع» في بيان موقف الشافعي من المرسل ؛ فقال رحمه الله تعالى:

الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول والنظر، وحكاه الحاكم أبو عبد الله بن البيع عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز.

وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه وأحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم يحتج به، ونقله الغزالي عن الجماهير. قال أبو عمر بن عبد البر و غيره: ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز يرسل عن غير الثقات.

قال الشافعي: واحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم، أو وافق قول بعض الصحابة، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه. 

قال: ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته.

هذا نص الشافعي في الرسالة وغيرها، وكذا نقله الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين، ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره. هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون.

وقد قال الشافعي في «مختصر المزني في آخر باب الربا: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ : نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزوراً نحرت على عهد أبي بكر الصديق الله فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بهذا العناق فقال أبو بكر عنه: لا يصلح هذا. 

قال الشافعي: وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان. قال الشافعي: وبهذا نأخذ. 

قال: ولا نعلم أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ مخالف أبا بكر الصديق له. 

قال الشافعي: وإرسال ابن المسيب عندنا حسن. هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد، فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن على وجهين حكاهما أبو إسحاق في كتابه «اللمع» وحكاهما أيضاً الخطيب البغدادي في كتابيه: «الفقيه والمتفقه» و«الكفاية» وحكاهما جماعات آخرون. أحدهما: معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل، قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه. قالوا: وإنما رجح الشافعي بمرسله والترجيح بالمرسل جائز.

قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: والصواب الوجه الثاني، وأما الأول فليس بشيء. وكذا قال في «الكفاية»: الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح، قال: وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل كلام الخطيب.

وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي نص الشافعي كما قدمته؛ ثم قال: فالشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها فإن لم ينضم لم يقبلها سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره. قال : وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها. ومراسيل لغيره قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها. قال : وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ. فهذا كلام البيهقي والخطيب وهما إمامان حافظان فقیهان شافعیان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه ومحلهما من التحقيق والإتقان والنهاية في الفرقان بالغاية القصوى والدرجة العليا.

وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي في أول كتابه «شرح التلخيص : قال الشافعي في الرهن الصغير مرسل ابن المسيب عندنا حجة. فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم.

قلت: لا يصح تعلق من قال: إن مرسل سعيد حجة بقوله: إرساله حسن. لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده بل اعتمده لما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة. وقد نقل صاحب «الشامل» وغيره هذا الحكم عن تمام السبعة وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزمه من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد؛ فهذا الإمام النووي منقح مذهب الشافعي، وقد نقل عن إمامين جليلين في الحديث والفقه أن مرسل سعيد بن المسيب رحمه الله لا يمتاز إلا بكونه من كبار التابعين، فيأخذ به الشافعي بشروطه التي ذكرها في «الرسالة».

لكن من أين أتى هذا التفصيل والوهم من أن الشافعي يأخذ بمراسيل ابن المسيب، وأنه تتبع مراسيله فوجدها مسانید؟

جال هذا السؤال في خاطر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في رسالته التي أرسلها إلى الإمام أبي محمد الجويني لما ألف كتاباً في الفقه ضمنه اجتهاداته معتمداً على فهمه للأدلة. قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: ... ورأيت في هذا الفصل قوله في المراسيل أنها ترجيحات لا تقوم بها الحجة سوى مرسل سعيد بن المسيب. 

ولو نظر والشيخ تبع في هذه اللفظة صاحب التلخيص في رسالتي الشافعي القديمة والجديدة للشافعي رحمه الله وأبصر شرطه في قبول المراسيل، وتذكر المسائل التي بناها على مراسيل غيره حين اقترن بها الشرط ولم يجد فيها ما هو أقوى منها. وهو أدام الله توفيقه أعلم بتلك المسائل مني لقال بسوى مرسل سعيد بن المسيب، ومن كان في مثل حاله من كبار التابعين.

فأول من أخطأ الإمام ابن القاص رحمه الله تعالى، وتابعه الإمام أبو محمد الجويني رحمه الله تعالى، فسارت المسألة بين أهل العلم حتى تلقفها إمام كبير من أئمة الحنفية فأودعها كتابه؛ وهو شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى، وتناقلها أهل العلم بعده. 

روى الإمام البيهقي رحمه الله تعالى بسنده إلى الإمام أبي زرعة الرازي إشكال حول توثيق الشافعي، يقول: ما عند الشافعي حديث غلط فيه.

وروى عن الإمام أبي بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : الشافعي كان صاحب حديث ؟ قال: أي والله صاحب حديث.

قال البيهقي: وإنما أراد به كان من أهل المعرفة بالحديث ومن القائلين به، ولأجل ذلك كان يدعو الله له.

وروى البيهقي عن قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه أنهما قالا: الشافعي إمام.

وسمع أحمد بن حنبل كتاب الموطأ بعد أن كان سمعه من جماعة وقال  إني رأيته فيه ثبتاً وقد كان يحيى بن معين رحمه الله ينكر على أحمد جلوسه إلى الشافعي لحداثة سنه، لكنه لما سئل عنه قال : دعنا لو كان الكذب له مطلقاً لكانت مروؤته تمنعه أن يكذب.

قال البيهقي: وإنما كانوا يسألون يحيى عنه لما كان قد اشتهر من حسد يحيى إياه وإفراط أحمد بن حنبل في توقيره وتقديمه والاعتراف بفضله وعقله وعلمه والأخذ عنه.

وإنما لم يرو الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن الشافعي لأنه أدرك أقرانه، والشافعي مات مكتهلاً فلا يرويه نازلاً، وروى عن الحسين وأبي ثور مسائل عن الشافعي.

قال السبكي رحمه الله : وذكر الشافعي في موضعين من صح في «باب في الركاز الخمس» وفي «باب تفسير العرايا» من البيوع. 

فما يثار من مسألة ضعف الشافعي في الحديث لاحظ له من في النظر الصحيح.

ولذلك قال الإمام المزني رحمه الله تعالى: من شاء من خلق الله عز وجل ناظرته على خطأ الشافعي أن الخطأ الكاتب ليس منه، وقد أثيرت هذه المسألة قديماً، مما حدا بالإمام الحافظ أبي بكر البيهقي أن يؤلف كتابه بيان خطأ من خطأ الشافعي جمع فيه الأحاديث التي انتقدت على الشافعي في كتبه، أن الخطأ فيها ليس من الشافعي.

كما ألف الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله كتاباً سماه «مسألة الاحتجاج بالشافعي»، وبحث المسألة محدثو الشافعية، كالإمام الذهبي رحمه الله في «سير أعلام النبلاء». وقال فيه كلاماً رائعاً أختم به هذا الفصل؛ قال رحمه الله تعالى: 

وإمامنا؛ فبحمد الله ثبت في الحديث حافظ لما وعى عديم موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن عُلِمَ أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل الحل والعقد قديماً وحديثاً، فقد أصابوا وأجملوا، وهدوا ووفقوا... الغلط.

وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام -رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد. ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه : وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل. 

وقد اعترف الإمام سحنون؛ وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه وشرفه، ونبله وسعة علمه، وفرط ذكائه ونصره للحق ، وكثرة مناقبه. رحمه الله تعالى.

مصطلحات للشافعي في الرواة:

قد يوري الشافعي رحمه الله في كتبه عن بعض الرواة؛ فيقول: أخبرنا الثقة، أو من أثق به أو من لا أتهم، فمن المقصود بهذه الإطلاقات؟ ولم لم يذكره الشافعي صراحة؟

قال: قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أبو العباس الأصم سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرنا الثقة فإنه يريد به يحيى بن حسان. وإذا قال: أخبرنا من لا أتهم يريد به إبراهيم بن أبي يحيى. 

وإذا قال: بعض الناس يريد به أهل العراق. وإذا قال: بعض أصحابنا يريد به أهل الحجاز. 

قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم الأبري السجستاني في مناقب الشافعي: سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث يقول: إذا قال الشافعي له في كتبه :أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب، فهو ابن أبي فديك. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير، فهو أبو أسامة. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن الأوزاعي، فهو عمرو بن أبي سلمة.

كذا حكاه جماعة منهم الماوردي. خالد وإذا قال: أخبرنا الثقة عن ابن جريج، فهو مسلم بن الزنجي. وإذا قال: أخبرنا الثقة عن صالح مولى التوأمة، فهو إبراهيم بن أبي يحيى.

قال بعض أهل الحديث: إذا قال الشافعي: أخبرنا الثقة فهو يريد أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: وقد كنت أنا لما قرأت مسند الشافعي على شيخنا أبي عبد الله الحافظ سألته في كل مكان من تلك، فكان بعضها يتعين أنه يريد به إبراهيم بن أبي يحيى، وبعضها يتردد... وأكثرها لا يمكن أنه يريد به أحمد بن حنبل، بل إما إبراهيم بن سعد أو غيره. 

ومثل قوله: أخبرنا الثقة عن ابن شهاب يحتمل مالكاً وابن سعد وسفيان بن عيينة، ولا ثالث لهم في أشياخ الشافعي.

ومثل قوله: الثقة عن معمر، فهو إما هشام بن يوسف الصنعاني، أو عبد الرزاق.

ومثل قوله: الثقة من أصحابنا عن هشام بن حسان، قال شيخنا أبو عبد الله محمد أحمد الحافظ: لعله يحيى بن القطان.

ومثل قوله: الثقة عن زكريا بن إسحق، عن يحيى بن عبد الله، قال لي أحمد الحافظ  إنه يحيى بن حسان التنيسي.

يظهر أن هذا الكلام أغلبي عناه الشافعي في بعض الرواة، وإن أراد غيرهم مرات أخرى؛ فكل من هؤلاء الأئمة ذكر ما بدا له أو سئل عنه، أو رد ما رآه بعيداً كصنيع الإمام السبكي. 

وقد حاولت أن أبوب الشيوخ بحسب الراوي الذي أغفله الشافعي، فيسهل حفظهم و تعرف طبقاتهم.

فإذا قال الشافعي رحمه الله تعالى: أخبرني الثقة أو من لا أتهم؛ فالغالب أنه: إبراهيم بن أبي يحيى، إذا كانت الرواية عن أحد هؤلاء الرواة: إسحاق بن أبي فروة، وخالد بن رباح، وسليمان بن عبد الله الأسلمي، وسهيل بن أبي صالح، وصالح مولى التوأمة، وصفوان بن سليم، وعبيد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و العلاء بن راشد، ومحمد بن زيد بن أبي المهاجر، وابن أبي ذئب.

وإذا كانت الرواية عن: حماد بن زيد، أو عبد الله الحارث، أو سليمان بن بلال، أو الليث بن سعد؛ فالغالب أنه: يحيى بن حسان. 

وإذا قال: أخبرني بعض أصحابنا؛ وكانت الرواية عن: إبراهيم بن سعد بن أبي فروة، أو عبد الرحمن بن أبي الزناد أو عبد الله بن جعفر الزهري؛ فالغالب أنه: عبد الله بن نافع بن الصائغ. 

وإذا كانت الرواية عن الأوزاعي، أو سفيان الثوري، أو أسامة بن زيد، أو يونس بن زيد؛ فالثقة هو: أيوب بن سويد. 

وإذا قال: أخبرني الثقة عن معمر؛ قال الحاكم: فقد قال ذلك في غير موضع وأراد بها كلها: هشام بن يوسف الصنعاني، فهو الثقة الرضى. 

وإذا قال: أخبرني الثقة عن أيوب السختياني، أو عن حميد الطويل، أو عن يونس بن عبيد ؛ فالثقة إسماعيل بن علية.

وإذا قال: أخبرنا الثقة عن عبيد الله بن عمر، أو عن هشام بن عروة، أو عن الوليد بن كثير ؛ فالثقة في الغالب أبو أسامة حماد بن أسامة. وإذا قال : أخبرنا الثقة عن يحيى بن سعيد؛ فالثقة عبد العزيز بن محمد الدراوردي.

وإذا قال: أخبرني الثقة عن زكريا بن إسحاق ؛ فالثقة هو وكيع بن الجراح . وإذا قال أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذؤيب، فقال الآجري : هو ابن أبي فديك، وقال الحاكم: يريد يحيى بن وإذا قال : أخبرني الثقة عن ابن شهاب، فقال الحاكم: لا يخلو هذا الثقة من أحد رجلين؛ إما أن يكون مالك بن أنس، أو إبراهيم بن سعد حسان.

لماذا لم يصرح الشافعي بأسماء هؤلاء الرواة:

ذكر أهل العلم أجوبة كثيرة عليهم: فمن ذلك كونه رحمه الله تعالى يكره الرواية عن الأحياء، لأنه لا يؤمن النسيان. لذا كان يحتاط في الرواية عنهم.

ومنها جريه على عادة العصر في مجالس المذاكرة والحجاج، فالمهم فيها ذكر موضع الاحتجاج دون الاهتمام بسوق الإسناد كاملاً إذا عرف مخرجه ولم يكن مما يطرحه أهل النظر، وقد فعله من أجلة شيوخه مالك وسفيان بن عيينة رحمهما الله تعالى ـ وهما من هما علماً و تقى ـ فكان الشافعي في هذا متبعاً لا مبتدعاً.

ربما غابت كتب الشافعي عنه ساعة التصنيف فيورد الحديث كما يذكره، فإذا خاف الزلل والنسيان كنى بهذه العبارات لثقته بمن سمع منهم فإذا عرفنا أنه رحمه الله تعالى كان يؤلف كتبه دون العود إلى كتاب استبان السر في توريته. 

فالمعنى في ذهنه حاضر، لكن ربما غابت أسماء الرواة، فيكني بالثقة ومن لا أتهم لشهرة الحديث و ذيوع متنه. 

روى البيهقي بسنده إلى الربيع قال: بت عند الشافعي ما لا أحصي، فكان إذا انصرف اتشح برداء، ووضعت له منارة قصيرة واتكأ على وسادة وتحته مضربتان، ويأخذ القلم فلا يزال يكتب.

وقال أيضاً: ألف الشافعي هذا الكتاب يعني المبسوط حفظاً لم يكن معه كتب.

ومن أقربها إلى الواقع كون ذلك جارياً في مجالس المناظرة، فإذا عرفنا أن المتقدمين لا يروون حديثاً دون إسناد مع ما يلمسه الشافعي في المجلس من تضعيف الخصم لبعض شيوخه كإبراهيم بن أبي يحيى، وعلمه بأن للحديث طرقاً وشواهد يتقوى بها؛ فيسوق الحديث هذا المساق لئلا يطرحه الخصم مع كون متنه مما جرى به العمل.

والناظر في الأحاديث التي صنع بها الشافعي هذا الصنيع يدرك ذلك إلا فيما ندر ؛ كحديث الماء المشمس وكراهية استعماله والحكم للأعم الغالب، والله تعالى أعلم.

فائدة :

لم تقتصر التورية على رجال الحديث، فقد ورى الشافعي في تفسير آية. قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى : (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم).

قال الشافعي : فكان ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، وكانت محتملة أن تكون نزلت في معنى خاص، فسمعت من أرضى علمه بالقرآن يزعم أنها نزلت في القائمين من النوم قال: وأحسب ما قال كما قال.

قال محققه: قال ذلك مالك في الموطأ ٢١/١ كتاب الطهارة.

معنى قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي:

وردت عن الشافعي رحمه الله تعالى نصوص كثيرة بمعنى هذه العبارة، تدل في مجموعها على عظيم تمسكه بسنة رسول الله ﷺ مما يصح، فمن ذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن الشافعي كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه خلاف قولي فحديث النبي ﷺ ولا تقلدوني. وقال الأصم : سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بها، ودعوا ما قلته. 

قال الشافعي: كل حديث عن النبي الله فهو قولي وإن لم تسمعوه مني. 

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: كان الشافعي إذا ثبت عنده الحديث قلده وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه.

وعن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: ما من مسألة تكلمت فيها الخبر فيها عن النبي ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقال الشافعي رحمه الله تعالى أيضاً : إذا صح الحديث عن رسول الله ﷺ فقلت قولاً فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك. 

قال الإمام النووي : وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما مما هو معروف في كتب المذهب. وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه، عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين : مذهب الشافعي ما وافق الحديث.

وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل أحد رأى حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه ، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قل من يتصف به. 

وإنما اشترطوا ما ذكرنا لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.

قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث.

وحكى ابن الصلاح والنووي رحمهما الله تعالى عن إمام الأئمة ابن خزيمة: لا أعلم سنة لرسول الله ﷺ في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه.

قال الإمام النووي: وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الفقه والحديث ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف. 

وقال السبكي رحمه الله تعالى بعد نقل كلامهما وهذا الذي قالاه هذا ليس رداً لما قاله الشافعي، ولا لكونه فضيلة امتاز بها عن غيره، ولكن تبيين لصعوبة هذا المقام، حتى لا يغتر به كل أحد. والإفتاء في الدين كله كذلك، لا بد من البحث والتنقير عن الأدلة الشرعية حتى ينشرح الصدر للعمل بالدليل الذي يحصل عليه فهو صعب وليس بالهين ومع ذلك ينبغي الحرص عليه وطلبه. كما قالاه. 

حتى لقد تشدد القرافي رحمه الله في المسألة فقال: قد اعتمد كثير من فقهاء الشافعية على هذا، وهو غلط فإنه لا بد من انتفاء المعارض، والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة، حتى يحسن أن يقال: لا معارض لهذا الحديث، أما استقراء غير المجتهد المطلق، فلا عبرة به.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: والطعن في إسناد الحديث أو بسبب علة أو شذوذ فذلك يمنع من الحكم بصحة الحديث. وكلامنا إنما هو إذا صح الحديث، والنسخ ليس تركاً، فالنسخ قد يوجد في القرآن والتخصيص ليس تركاً، بل جمع بينه وبين العام. 

وقد تكلم الشافعي في الأحاديث المختلفات والجمع بينهما في كتابه: «اختلاف الحديث أحسن الكلام. وكذلك العلماء كلهم، فهذا ليس هو المراد ههنا، وإنما المراد الترك المطلق، ولم يقع ذلك للشافعي أصلاً، ولا تقتضيه أصوله. 

وقد تكلم الأصوليون في العمل بالعام قبل طلب المخصص. والذي أقوله: إن المبادرة للأمر مطلوبة، كمن سمعه من النبي ﷺ، والمكلف بذلك كل من هو من أهل العلم بحسب ما تصل إليه قدرته من العلم. 

واشتراط الاجتهاد الكامل والتوقف عن العمل حتى يصل إلى أقصى غاية، ليس السلف مما يقتضيه سير فإذا وجد شافعي حديثاً صحيحاً يخالف مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة، فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون الإمام اطلع عليه وأجاب عنه، وإن لم يكمل ووجد إماماً من أصحاب المذاهب عمل به فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع؛ فالعمل بالحديث أولى، وإن فرض الإجماع فلا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : ويتأكد ذلك إذا وجد الإمام بنى المسألة على خبر ظنه صحيحاً ؛ وتبين أنه غير صحيح ووجد خبراً صحيحاً يخالفه، وكذا إذا اطلع الإمام عليه ولكن لم يثبت عنده مخالفة ووجد له طريق ثابتة.

وفي ذلك دليل أيضاً على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر، ويعلمه من هو دونهم. وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث فقال: لو كان صحيحاً لعلمه فلان مثلاً ، فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة، وجاز عليهم فهو على غيرهم أجوز؛ فإن وقع في قلبه الظن الراجح أن الشافعي خالف الحديث لسبب غير وجيه؛ فلا يحمله التعصب على اتباع الشافعي وترك الحديث. فالمعصوم الذي لا ينطق عن الهوى أحق أن يتبع.

وقد أكثر الشافعي من تعليق القول بالحكم على ثبوت الحديث عند أهله كما قال في البويطي: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به. 

وفي الأم: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به، إلى غير ذلك. 

وقد جمعت في ذلك كتاباً سميته: «المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة». وأرجو الله أن ييسر تكملته بعونه وقوته.

هذه عجالة تناسب المقام والموضوع واسع ويجدر بالطالب تحسين الظن بالشافعي رحمه الله إذا وجد حديثاً صحيحاً لم يأخذ به الشافعي فليتهم نفسه قبل كل شيء، ويتهم استقراءه واطلاعه على نصوص الشافعي، ولكن ليضع نصب عينه قول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى عندما تكلم عن خفاء حكم القسامة عن عمر. انتهى.