أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 24 أكتوبر 2020

إثبات صفة اليد لله سبحانه صفةً من صفاته للذهبي -إعداد: أ.محمد ناهض عبد السلام حنونة

إثبات صفة اليد لله سبحانه صفةً من صفاته

تأليف الإمام الحافظ

 أبي عبد الله  محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الشَّافعيّ

 (673 - 748 هـ)

إعداد: أ.محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ هذا الكتاب في إثبات صفة اليدين لله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته، وقد جمع الإمام الذهبيَّ رحمه الله -الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على هذه الصفة، وبيَّن إثبات السلف لهذه الصفة من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ضمن منهج علمي متكامل في إثبات الصفات، وإثبات معانيها بما يُعرف من اللغة العربية، مع تفويض العلم بالكيفية إلى الله عز وجل، وتكلم في آخر الكتاب عن بعض من أوَّل هذه الصفة، وحرَّف معناها بأن قال (يديه) نعمتيه، وردَّ عليهم بالحجة الواضحة والبرهان القاطع.

وتعد هذه الصفة (اليدين) من أعظم مسائل الصفات ثراءً بالنصوص المثبتة لها، على تنوع سياقاتها، وأنواع دلالاتها، وذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرسالة المدنية": "فقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم". 


وقال ابن القيم في "مختصر الصواعق": "ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع وروداً: متنوعاً، متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة: من الإمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: «اخترت يمين ربي»، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وكتابه بيده على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده ثم قال له ويداه مفتوحتان: اختر، فقال اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يطوي الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده… ".

وعبر عن ذلك الإمام الدارمي (ت 280 هـ) في "الرد على المريسي" (ص 36)، بقوله: "ومن يُحصي ما في تثبيت يد الله من الآثار والأخبار؟ غير أنا أحببنا أن نأتي منها بألفاظ إا فكر فيها العاقل استدلَّ على ضلال هذا الجاهل".

وهي كذلك أظهر وأوفى مسائل الصفات في باب الإثبات، وهذا الكتاب الذي سندرسه هو لأحد كبار السلف الشافعية في زمانه، وهو الإمام الذهبي رحمه الله تعالى.

وإن توغلنا في الزمن حتى القرن الثالث رأينا الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني (ت 240 هـ) وهو صاحب الإمام الشافعي وجليسه بحث هذه المسألة تفصيلاً وإثباتاً، وكذلك الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280 هـ) وهو أخد المشتغلين بالبحث الكلامي، حيث بحث هذه المسألة مطولاً في "رده على بشر المريسي"، وهو من أو سع النقاشات التحليلية مع النُّفاة. وكذلك بحثها الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311 هـ) في كتابه "التوحيد" بنفسٍ مُطوََّل أيضاً.

يقول عبد العزيز بن يحيى الكناني في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية" ونقله عنه ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة": "فزعم الجهميُّ أن يد الله نعمته؛ فبدل قولاً غير الذي قيل له، فأراد الجهميُّ أن يُبدل كلام الله، إذ أخبر أن له يداً، بها ملكوت كل شيء، فبدل مكان اليد نعمةً، وقال العرب تُسمي اليد نعمة؟!". ومن الواضح أن مقالة (النفي) في تاريخ المسلمين بدأت من الجهمية، كما ذكر الكناني أن أول من تأول اليد بالنعمة هم الجهمية.

وهو ما يُقرره الإمام أبو حنيفة النُّعمان (ت 150 هـ) في كتابه "الفقه الأكبر"؛ حيث يقول: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن؛ فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته او نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفات الله تعالى بلا كيف".

وكذلك الإمام أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي (ت 279 هـ) بيَّن أن بدعة التعطيل لهذه الصفات إنما جاءت من قبل الجهمية؛ فيقول في "سننه": "وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة "، وقال إسحاق بن إبراهيم: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد، وسمع، وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11)".

ومن هذه النقطة نبدأ هذه المقال بحسب التأريخ، ونقف على واحدة من أهم وجوه الرد على هؤلاء المؤولة، وهي قولنا نحن المُثبتة: إن مقالتكم يا معشر المؤولة مقالةٌ مبتدعة، خالفت أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهذا المأخذ سلفيٌ بحت في البحث والمناظرة، ولا يقوم له أهل البدع مهما قالوا.

وهو ذات المعنى الذي يُقرره الإمام الدارمي في كتابه "النقض على المريسي" وهو رأس الجهمية في زمانه؛ حيث يقول: "وإنما جئتُ بهذه الأخبار كلها ليعلم الناس أن القوم (أي المعتزلة ومن وافقهم) مخالفون لما قال الله ورسوله وما مضى عليه الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - أجمعين، وأنهم في ذلك على غير سبيل المؤمنين ومحجة الصادقين".

ومن البديهي أن أحداً من النفاة لم يمحُ آيات الإثبات من مصحفه، ولم ينف ثبوت هذه الآيات في "التنزيل الحكيم"، وإنما "التبديل" الذي عناه الإمام الكناني في قوله (فأراد الجهميُّ أن يُبدل كلام الله) هو "االتبديل التأويلي" الذي هو صرف اللفظ عن وجهه وظاهر معناه، إلى معنى آخر مُحرَّف ومُحدث، مخالفٌ لطرائق أهل الإثبات، ومسالك استنباط النص المعروفة لدى السلف، كما قررنا ذلك في "بحث" قاعدة (أمروها كما جاءت).

ويذكر الإمام الكناني الجواب على هؤلاء الجهمية الذين حرفوا وبدلوا كلام الله، مُبيناً جهلهم بلغة العرب، حينما أولوا ما لا يقتضي السياق تأويله أو صرفه عن ظاهره، بقوله: "قلنا له: العرب تُسمي النعمة يداً، وتُسمي يد الإنسان يداً؛ فإذا أردت يد الذات جعلت على قولها علماً ودليلاً، يعقل به السامع كلامها، أنها أرادت يد الذات، وإذا أرادت يد النعمة، جعلت  على قولها علماً ودليلاً، يعقل به السامع عنها، أنها تريد باليد النعمة، ولا تجعل كلامها مشتبهاً على سامعه، ومن ذلك قول الشاعر: 

(تأولتُ زيداً بيديَّ عطيَّة).

فدل بهذا القول على يد الذات المناولة، وبالياء حين قال بيديَّ؛ فجعل الياء استقصاءً للعدد؛ حين لم يكن له غير يدين.

وقال الآخر، حين أراد يد النعمة:

اشكر يدين لنا عليك وأنعما شكراً … يكون مكافئاً للمُنعمِ

فدل على يد النعمة بقول: لنا عليك، ثم قال: وأنعما، ثم قال: يدين؛ فجعل النون مكان الياء، فلم يستقص بهما العدد؛ فهذا قول العرب ومذهبها في لغاتها. والله تعالى لم يسم في كتابه يداً بنعمة ولم يسم نعمة يداً، سمى الله سبحانه اليد يداً والنعمة نعمة في جميع القرآن… وذكر نعمته على زيد ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فسماها نعمة ولم يسمها يداً".

فبيَّن الإمام الكناني أن هؤلاء النُّفاة في تأويلهم لنصوص صفة (اليد) بالنعمة تارةً، وبالقدرة تارةً أخرى يعتمدون على أن ذلك واردٌ ومعروفٌ في لغة العرب، ويذكرون الشواهد التي تؤيد أن (اليد) ربما أطلقت وأريد بها ذلك دون (اليد) التي هي صفةٌ قائمةٌ بالموصوف؛ فكذلك هذه النصوص التي يستدلُّ بها أهل الإثبات إنما تُحمل عندهم على النعمة تارةً وعلى القدرة تارة أخرى،

وقال الإمام الدارمي (ت 280 هـ) في "النقض على المريسي" مُبيناً خطأ تأويلهم لليد بالقدرة والنعمة، فقال: "وقد ادعى المريسي أيضا وأصحابه أن يد الله نعمته، قلت لبعضهم إذا يستحيل في دعواكم أن يقال: خلق الله آدم بنعمته؛ أقوله: {بل يداه مبسوطتان}، أنعمتان من أنعمه قط مبسوطتان؟ فإن أنعمه أكثر من أن تحصى، أفلم يبسط منها على عباده إلا ثنتين وقبض عنهم ما سواهما في -دعواكم-؟ 

فحين رأينا كثرة نعم الله المبسوطات على عباده ثم قال: {بل يداه مبسوطتان}، علمنا أنهما بخلاف ما ادعيتم، ووجدنا أهل العلم ممن مضى يتأولونها خلاف ما تأولتم، ومحجتهم أرضى، وقولهم أشفى … فمن يلتفت بعد هذا إلى تأويل هذا المريسي، ويدع تأويل هؤلاء الأئمة؟".

 وقد ردَّ عليهم الإمام الكناني (ت 240 هـ) أيضاً، بقوله: "ثم أخبر سبحانه عن يديه أنهما "يدان" لا ثلاثة، وجعل الياء استقصاء للعدد حين قال: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} (ص: 75) فدل على أنهما يدا الذات، لا يتعارف العرب في لغاتها ولا أشعارها إلا أن هاتين اليدين يدا الذات لاستقصاء العدد بالياء. وأما نعم الله فهي أكثر وأعظم من أن تحصر أو تعد، قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (النحل: 18)".

ويتلخص رد الكناني والدارمي وغيرهما على الجهمية في أن (اليد) إذا أطلقت انصرفت إلى المعنى المعهود في لغة العرب، وإن قدر أنها من المشترك اللفظي، الذي يُراد به (الصفة) مرة، ويُراد بها (القدرة)، أو (النعمة) مرةً أخرى، ولكن حملها على أخد هذه المعاني مُتعين؛ لأن العرب لا تدع كلامها مرسلاً، هملاً، ملتبساً على السامع أو القارئ، بل لا بد أن تصل بكلامها بما يُبين عن المعنى، ويُحدد مراد القائل من تلك المحامل، فمتى أرادت باليد (يد الذات) فلا بد أن يكون في سياق الكلام من القرائن المقالية أو الحالية ما يُبين المراد، وإذا أرادت (النعمة) أو (القدرة) وصلت ذلك بما يبين مرادها، ولم تدع الكلام مجملاً، مبهماً، ملتبساً على السامع في محامله.

وههنا في سياق (اليدين) دلت القرائن القطعية، اللفظية، والسياقية، وطرائق الاستعمال، على أن (اليد) هي يد الذات، التي هي صفة الموصوف، وهي لائقةٌ بحاله، فصفة الخالق لائقةٌ بما للخالق من الكمال، والجمال، والجلال، وصفة المخلوق إنما تلائمه وتناسبه.

ومن المناسب هنا ذكر كلام الإمام الدارمي (ت 280 هـ) الذي يزيد هذه المقالة تحريراً للمعنى؛ حيث يقول في "النقض على المريسي": "فإذا ادعيت أن اليد عرفت في كلام العرب أنها نعمة، وقوة. قلنا لك: أجل، ولسنا بتفسيرها منك أجهل، غير أن تفسير ذلك يستبين في سياقة كلام المتكلم حتى لا يحتاج له من مثلك إلى تفسير، إذا قال الرجل: «لفلان عندي يد أكافئه عليها»، علم كل عالم بالكلام أن يد فلان ليست ببائنة منه، موضوعة عند المتكلم، وإنما يراد بها النعمة التي يشكر عليها.

وكذلك إذ قال: «فلان لي يدٌ وعضد وناصر»، علمنا أن فلاناً لا يمكنه أن يكون نفس يده -عضوه، ولا عضده، فإنما عني به النصرة والمعونة والتقوية.

فإذا قال: «ضربني فلان بيده، وأعطاني الشيء بيده، وكتب لي بيده» استحال أن يقال: ضربني بنعمته، وعلم كل عالم بالكلام أنها اليد التي بها يضرب، وبها يكتب وبها يعطي، لا النعمة.

كما قال الله تعالى {أولي الأيدي والأبصار} (ص: 45)، أي: أولي البصر والعقول بدين الله؛ لأن كل الناس أولي أيدي وأبصار؛ فلما خص هؤلاء الأنبياء بها؛ علم كل عالم أنها ليست بالأيدي التي يضرب بها ويكتب؛ لما أن الناس كلهم أولو أيدي وأبصار، التي هي الجوارح.

ولا يجوز لك أيها المريسي أن تنفي اليد التي هي اليد؛ لما أنه وجد في فرط كلام العرب أن اليد قد تكون نعمة وقوة، ولكن هذا في سياق الكلام معقول وذلك في سياق الكلام معقول.

فلما قال الله عز وجل: {خلقت بيديَّ} استحال فيهما كل معنى إلا اليدين. كما قال العلماء الذين حكينا عنهم.

فليس من ذكر هذه الأيدي شيء إلا والشاهد بتفسيرها ينطق في نفس كلام المتكلم، فإن صرفت منه معنى مفهوماً إلى غير مفهوم، استحال وإن صرفت عاماً إلى خاص استحال، وإن صرفت خاصاً منه إلى عام استحال أو بطل معناه".

ولا شك أن هذا التأصيل العلمي الدقيق من الإمام الدارمي لاحمه الله تعالى (ت 240 هـ) إنما ينبض بروح إمامه المؤسس الشَّافعيّ رحمه الله (ت 204 هـ)، وينطق على لسانه، ويُفرع على أصوله وبيانه، وهذا أهم مقاصد إيراد هذا النص وتحليله.

وإذا أردنا إشباع الكلام في هذه المسألة فلنلقِ نظرة على ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (ت 728 هـ) حيث يقول في نقاشٍ له مع بعض من ينفي صفة "اليدين" في كتابه "الفتاوى": "هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد وأن يعني بها القدرة أو النعمة أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل؛ لكن ما الموجب لصرفها عن الحقيقة؟ . 

فإن قلت: لأن اليد هي الجارحة وذلك ممتنع على الله سبحانه. 

قلت لك: هذا ونحوه يوجب امتناع وصفه بأن له يداً من جنس أيدي المخلوقين وهذا لا ريب فيه؛ لكن لم لا يجوز أن يكون له "يد" تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات؟ 

قال: ليس في العقل والسمع ما يحيل هذا.

قلت: فإذا كان هذا ممكناً، وهو حقيقة اللفظ؛ فلم يصرف عنه اللفظ إلى مجازه؟ وكل ما يذكره الخصم من دليل يدل على امتناع وصفه بما يسمى به - وصحت الدلالة - سلم له أن المعنى الذي يستحقه المخلوق منتفٍ عنه.

وإنما حقيقة اللفظ وظاهره "يد" يستحقها الخالق كالعلم والقدرة بل كالذات والوجود".

وبهذا الكلام تكون موارد نسبة (اليد) إلى رب العالمين صحيحةٌ ظاهرة، وذلك بظاهر الكلام والنصوص القاطعة، على أنها من إضافة الصفة إلى الموصوف، ولم يرد في كتابٍ ولا سنةٍ، ولا قول صاحبٍ، ولا إجماعٌ محفوظٌ لأهل العلم: أنها مؤولة عن ظاهر الكلام، ولذا لم يبق لنفاة الصفة حُجَّةٌ يعتمدون عليها، ولا ينفعهم أن وجدوا في لغات العرب أن (اليد) قد تطلق ويُردا بها النعمة أو القوة، أو القدرة أو نحو ذلك من المحامل، فإن عُلم الطريق ومنار الهدى في ذلك: هو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في موضعٍ آخر من "مجموع الفتاوى" ضمن نقاشه مع المخالف حول صفة اليد؛ ليُتمم هذا البحث ويزيده رضانةً وقوة؛ فيقول: "قلت له: بلغك أن في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أئمة المسلمين: أنهم قالوا: المراد باليد خلاف ظاهره؟ أو الظاهر غير مراد؟ 

أو هل في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه باليد دلالة ظاهرة؛ بل أو دلالة خفية؟

فإن أقصى ما يذكره المتكلف قوله: {قل هو الله أحد} وقوله: {ليس كمثله شيء} وقوله: {هل تعلم له سمياً} وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه. أما انتفاء (يد) تليق بجلاله فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه. 

وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا (يد) له ألبتة؟ لا (يداً) تليق بجلاله ولا " يدا " تناسب المحدثات وهل فيه ما يدل على ذلك أصلاً؛ ولو بوجه خفي؟ 

فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد ألبتة؛ وإن فرض ما ينافيها؛ فإنما هو من الوجوه الخفية - عند من يدعيه - وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة.

فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده وأن {يداه مبسوطتان}، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر: لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره؛ حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة؛ فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق. 

وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)، و (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه.

وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟ .

ونعود إلى ما قاله الإمام الكناني (ت 240 هـ) رحمه الله؛ حيث يقول فيما نقله عنه ابن القيم في "مختصر الصواعق": "واعلم رحمك الله أن قائل هذه المقالة -أي تأويل صفة اليدين بالنعمة والقدرة -جاهلٌ بلغة القرآن وبلغة العرب ومعانيها وكلامها، وذلك أن الله إذا افتتح الخبر عن نفسه بلفظ الجمع ختم الكلام بلفظ الجمع، وإذا افتتح الكلام بلفظ الواحد ختم الكلام بلفظ الواحد، وإنما يعني الخبر عن نفسه وإن كان اللفظ جمعاً… وإنما عنى بذلك نفسه لأنها كلمة ملوكية تقولها العرب.

وروي أن ابن عباس لقي أعرابياً ومعه ناقةٌ؛ فقال: لمن هذه؟ فقال الأعرابي: لنا، فقال له ابن عباس: كم أنتم؟ فقال: أنا واحد، فقال ابن عباس: هكذا قول الله تعالى: (نحن)، و (خلقنا)، و (قضينا)، إنما يعني نفسه.

والمبهم يرُدُّ إلى المحكم فكل كلمة في القرآن من لفظ جمع قبلها محكم من التوحيد ترد إليه؛ فمن ذلك قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} (الإسراء: 4) يرد إلى قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ([الإسراء: 23)...  وكذلك قوله: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً} (يس: 71) يُرد إلى قوله: {لما خلقت بيديَّ} (ص: 75) فلما افتتح الكلام بلفظ الجمع؛ فقال: {أولم يروا أنا خلقنا لهم} قال: {أيدينا} ولما افتتح بقوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديَّ} ختم الكلام على ما افتتحه به، فهذا بيان لقوم يفقهون.

وقد كان أكثر قسم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقسم أن يقول: «لا والذي نفس محمد بيده» وهذا لا يليق به النعمة، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «يصدق كتاب الله»" انتهى كلامه.

كذلك جاء في مواضع عديدة عند قوام السُّنة الأصبهاني (ت 535 هـ) في كتابه "الحجة في بيان المحجة" حيث يستعي بمسلك "السبر والتقسيم" في إثبات صفة اليدين، وهو أحد المسالك الجدلية المعروفة، وهو أحد الأدلة الصحيحة والمعتمدة عند المتكلمين، فقام رحمه الله بحصر المعاني التي تدور حوله (اليد) لستبعد ما لا يصلح للمقام، والسياق، قبل أن يُقرر أن مذهب السلف في (صفة اليد) هو الإثبات؛ فيقول رحمه الله: "وكذلك القول فيما يضارع هذه الصفات كقوله تعالى: {لما خلقت بيديَّ}، وقوله: {بل يداه مبسوطتان}، وقوله: {ويبقى وجه ربك}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه)... وأمثال هذه الأحاديث. 

فإذا تدبره متدبر، ولم يتعصب بأن له صحة ذلك وأن الإيمان واجب، وأن البحث عن كيفية ذلك باطل. 

وهذا لأن اليد في كلام العرب تأتي بمعنى القوة، يقال: لفلان يد في هذا الأمر أي: قوة، وهذا المعنى لا يجوز في قوله: {لما خلقت بيديّ}، وقوله {بل يداه مبسوطتان} لأنه لا يقال: لله قوتان. 

ومنها اليد بمعنى النعمة والصنيعة، يُقال: لفلان عند فلان يد أي: نعمة وصنيعة، وأيديتُ عن فلان يداً أي: أسديت إليه نعمة، ويديت عليه، أي: أنعمت عليه… وهذا المعنى أيضاً لا يجوز في الآية؛ لأن تثنية اليد تبطله، ولا يقال الله نعمتان، وقد تأتي اليد بمعنى النصرة والتعاون.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهم يد على من سواهم)، أي: يعاون بعضهم بعضاً على من سواهم من الكفار، وهذا أيضاً لا يجوز لأنه لا يجوز أن يقال: لما خلقت بنصرتي. 

وقد تكون اليد بمعنى: الملك والتصرف. يقال: هذه الدار في يد فلان، أي في تصرفه وملكه، وهذا أيضاً لا يجوز لتثنية اليد، وليس لله تعالى ملكان وتصرفان.

ومنها اليد التي هي معروفة؛ فإذا لم تحتمل الأوجه التي ذكرنا لم يبق إلا اليد المعلوم كونها، والمجهولة كيفيتها.

ونحن نعلم يد المخلوق وكيفيتها؛ لأنا نشاهدها ونعاينها فنعرفها، ونعلم أحوالها، ولا نعلم كيفية يد الله تعالى، لأنها لا تشبه يد المخلوق، وعلم كيفيتها علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، بل نعلم كونها معلومة لقوله تعالى، وذكره لها فقط، ولا نعلم كيفية ذلك وتأويلها".

وقد بين قوام السُّنة رحمه الله أن هذا المسلك في الإثبات من (السبر والتقسيم واستبعاد ما لا يصلح) مطردٌ في عامة الصفات التي ذكرها: من الوجه، والقدم، والكف، والإصبع ونحوها؛ فقال: "وكذلك القول في الأصبع، والأصبع في كلام العرب تقع على النعمة، والأثر الحسن ... وهذا المعنى لا يجوز في هذا الحديث؛ فكون الأصبع معلوماً بقوله صلى الله عليه وسلم، وكيفيته مجهولة، وكذلك القول في جميع الصفات يجب الإيمان به، ويترك الخوض في تأويله، وإدراك كيفيته".

وهذه النقول تُبين لنا أهمية النصوص التاريخية في كتب التراث السلفي، لا سيما عندما نقف أمام الطبقة الأولى من سلف هذه الأمة من أتباع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. 

وفي ختام هذه المقدمة نشير إلى أن أبا الحسن الأشعري (ت 324 هـ) كان ينسب تأويل هذه الصفات إلى أهل البدع من الجهمية والمعتزلة؛ كما جاء ذلك عنه في الكثير من كتبه؛ كما في (مقالات الإسلاميين: 1/ 248، 260، 2/ 205 -206)، و (الإبانة: ص 62 -67، ط: السلفية)، وينسب (ص 63) تأويل اليد بالنعمة إلى أهل البدع، وانظر أيضاً (رسالته إلى أهل الثغر: ص 72 -73).

وقد ناقش هذه التأويلات الباقلاني الأشعري (ت 402 هـ) أيضاً (انظر: التمهيد، ص 258 -260 ط مكارثي)، وردَّ عليها، بنحو ما وجدناه عند أهل الحديث المثبتة، ويثبت أن لله وجهاً ويدين، ثم اتجه المذهب الأشعري بعد أئمته المتقدمين إلى تبني هذه التأويلات الباطلة لليدين، وكذلك الوجه، وسائر نصوص الصفات.

وقد رصد الإمام أبو بكر بن العربي (ت 543 هـ) ذلك التفاوت والتباين بين موقف متقدمي الأشاعرة وموقف متأخريهم في كتابه "العواصم من القواصم" (ص 220)، وهو الموقف الذي رأيناه عند الجويني (ت 471 هـ)، والرازي (ت 606 هـ)، والآمدي (ت 631 هـ)، وغيرهم (انظر: الإرشاد: 146، وأساس التقديس: 163، وأبكار الأفكار: 1/ 454 -455)، وهو يرفض تأويل اليدين بالنعمة، ويتأولها بالقدرة. و (انظر شرح المواقف للعضدا الإيجي: 8/ 111) وهو متابع كعادته لموقف الآمدي.

في حين أن ابن عساكر (ت 571 هـ) وقد رصد موقف الإمام الأشعري في الإبانة خاصة، يُنكر أن يكون أصحابه قد خالفوا ما فيها.. غير أن ابن عساكر وقد أتى بعد الجويني (ت 471 هـ)، والغزالي (ت 505 هـ) شعر بأن منزع التأويل لهذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه في "محكم الآيات" وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم في "صحيح الروايات" على حد تعبيره قد استقر في المذهب، فاحتاج إلى أن يُفسر ذلك بأنه: "كان مراعاةً لحال المُشبهة والمجسمة!!!"، ثم قال في (تبيين كذب المفتري: 388 -389): "فسلكوا التأويل خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظلم التشبيه، مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كل داء من الأدواء بالدواء الموافق!".

ولكن منزع التأويل الذي عبر عنه ابن عساكر بأنه قد استقر في المذهب، كان قد اصطبغت به رؤية ابن عساكر التأريخية، وليس ما ادعاه هو من مراعاة حال المُشبهة في المتقدمين؛ لأن هذا اتهامٌ صريح بالمواربة والنفاق عند أئمة مذهبه؛ وكذلك حجبه تعصُّبه للمتأخرين من الأشاعرة عن درك الحق والصواب، ولذا لم يبين كيف يتعامل من وصفه بالطبيب الحاذق مع مرض التعطيل!!.

  • بيان ما في هذا الكتاب:

وبعد هذه المقدمة الوجيزة، ننتقل إلى الحديث عن كتاب الإمام الذهبي، ونختم ذلك بشبهة بالرد على شبهة التجسيم التي يُثيرها المتكلمون كلما أثبت أهل السُّنة صفةً من صفات الباري سبحانه؛ فنقول:

بدأ الإمام الذهبيُّ كتابه بآيات الكتاب الدالة على إثبات صفة اليدين لله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص 7)، وقال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64)، وغيرها من الآيات الدالة على إثبات صفة اليدين.

ثم شرع بعد ذلك بذكر الأحاديث المسندة التي تثبت هذه الصفة، ومن جميل ما يُذكر أن من جملة شيوخ شيوخه الذين يروي عنهم: الإمام ابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ)، وأبو طاهر السِّلفي (ت 576 هـ)، وغيرهما، وفيها: حديث ابن عمر عن أبيه (قال موسى لآدم: أنت الذي خلقك الله بيده)، وحديث ابن عمر (يطوي الله السماوات يوم القيام، ثم يأخذهن بيده)، وفي رواية (وكلتا يدي الله يمينان)، وحديث أبي هريرة (إن العبد إذا تصدَّق من طيِّبٍ، تقبلها الله فأخذها بيمينه)، وقال عقبها: "وهذه أحاديث صحاح".


ثم ذكر حديثاً عن ابن عمر مرفوعاً -وحسَّنه، وفيه: (أول شيءٍ خلق القلم؛ فأخذه بيده اليمنى وكلتا يديه يمين، وكتب ما يكون من عمل معمول…)، وارتأى رحمه الله إلى اختصار بعض الأسانيد لئلا يمل القارئ منها، وذكر أحاديث كثيرة صحيحة وصريحة في إثبات صفة اليدين، (انظر ص 18 -21)، وهي متضمنة لإثبات صفة الأصابع، وصفة القبضة، وصفة اليمين والشمال، قال: "وثبت عن نافع بن عمر الجمحيِّ؛ قال: سألت ابن أبي مليكة عن يدل الله واحدة أو اثنتان؟ فقال: بل اثنتنان. قال: وهذا ثابتٌ عن ابن أبي مليكة وهو من أعيان التابعين".

وذكر بعد ذلك الآثار الموقوفة عن الصحابة، والمقطوعة عن السلف في إثبات هذه الصفة (ص 21- 35)، ثم ذكر بعد ذلك إثبات الإمام البيهقيِّ لصفة اليدين، وكونهما على الحقيقة ولكنه نفى مماسة يدي الله ومباشرتهما لآدم عليه السلام لمّا خلقه،، وقال الذهبيُّ: "قال شيخنا -لعله يقصد ابن تيمية -رضي الله عنه: نفيُ أبي بكر للمماسة والمباشرة عريَّةٌ عن الحجة، والآثار تُخالف قوله".

 إلى أن قال: "والأحاديث في إثبات اليد لله كثيرة، وهذه قطعةٌ من أقوال الأئمة الأعلام وأركان الإسلام في صفات الله عز وجل"، وذكر الآثار عن السلف في الإقرار (الإثبات)، والإمرار (عدم التعرض للكيفية)" انظر (ص 36 -43)، وهو فصلٌ جديرٌ بالتفهُّم والتعقُّل.

قال رحمه الله (ص 43-47): "واليد لفظٌ مشترك، وهي بحسب ما تُضاف إليه، ومن جنس ما توصف بها، فإن كان الموصوف بها حيواناً كانت جارحة، وإن كان تمثالاً من صفراء وحجر كانت من صفراء وحجر، وإن كانت تمثالاً عرضاً في حائط كانت عرضاً، وإن كان ليس كمثله شيء، وليس بجسم، كانت ليس كمثله شيء وليس بجسم، فإن قلت -مثلاً: عندي صنمٌ من نحاس له يدان ورجلان، هل يُفهم أن يديه ورجليه جوارح لحم ودم؟!

وإذا قلتَ: عندي نحتٌ من خشب له رجلان، هل يسبق إلى الذهن أنهما جارحتان أيضاً ؟ أم هل إذا قلت: إن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وليس بجسم ولا عرض، وخلق آدم بيديه، هل يفهم ذو لب أن يديه الكريمتين جسمٌ أو عرض أو جارحة أو شبهها شيء؟!

وكذلك إذا قلت: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، و (إن الله ليس بأعور)، أو (حتى يضع رب العزة فيها قدمه -يعني جهنم)، أو (عجب ربنا من شاب ليست له صبوة)، فكما أنه سبحانه وتعالى لا يتصور في الذهن، ولا يمثل في العقل؛ فكذلك يداه وسائر صفاته لا تُصور في الذهن، ولا تُمثل في العقل.

وكذلك إذا قلت: فلانٌ صاحبُ يدٍ في المدينة، هل بقي مقصود المتكلم أو السابق إلى ذهن السامع أنها الجارحة في هذا الموطن، أو لما قال الله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق 37)، هل يُفهم منه أنه أراد المضغة ؟ بل إنما يفهم أن المقصود ما منتج عن اليد والقلب من الصفات المحمودة من التمكن في البلد ونحوه.

وإذا كان كذلك فصفة كل شيءٍ بحسبه؛ فإن سبق إلى ذهننا كيفية الموصوف وتصورناه تصورنا صفاته، وإن لم يسبق إلى ذهننا ولم نتصوره، لم يسبق إلى ذهننا، فننفيه ولم نتصوره، وهذا لا شك فيه".

فإن قيل: قد صار العرف أن اليد هي الجارحة المعهودة؛ قلنا: وكذلك قد صار العرف أن العلم والسمع والبصر أعراضٌ قائمةٌ بأجسام، فما الفرق ؟

وإذا قيل: يداه بمعنى نعمتيه، قلنا: فنعم الله لا تُعد ولا تُحصى، فما هاتان المخصوصتان منها؟!

وأيضاً: فنعم الله مخلوقة؛ فيكون قد خلق آدم بمخلوق، ويكون إبليس حينئذٍ أشرف من آدم، فإن إبليس خلقه الله بغير واسطة، وهذا لا يُعرف في الكلام، أن يُقال: عملتُ بيدي كذا، والمراد نعمتي!

ومن نقل هذا عن اللغة؛ فقد افترى على اللغة، واتى بشيءٍ لا تعرفه العرب العرباء.

ويُقال لهم أيضاً: نعلم بالاضطرار أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم قد كان فيهم الأعرابي والأمي والمرأة والصبي والعامة ونحوهم ممن لا يعرف التأويل، وكانوا يسمعون هذه الآيات والأحاديث في الصفات، وحدث بها الأئمة من الصحابة والتابعين على رءوس الأشهاد، ولم يؤلوا منها صفةً واحدة يوماً من الدهر، وإنما تركوا العوام على فطرهم وفهمهم.

فلو كان التأويل ساغاً؛ لكانوا أسبق شيءٍ إليه، لما فيه من إزالة التشبيه والتجسيم على من زعم أن ظاهرها اللائق بالله تجسيم، بل لما ظهر الجهم بن صفوان، وهو أول من تأوَّل: بدَّعه من كان في عصره من الأئمة، مثل: سفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي، والشافعي، وأحمد، وغسحاق، ومن لا يحصيهم إلا الله، ومنهم من كفَّره، ومنهم من أباح قتله.

ولسنا في معرض ذلك، ولا في تعريض ذم أحد في هذا الموطن، فقد كفانا من قبله مؤنته ومؤنة أتباعه، كبشر بن المريسي، وابن أبي دؤاد.

فنقول: لله تعالى يد حقيقية تليق به، ولا يلزم من ذلك محذور تشبيه أو تجسيم. وهذا ابن عباس يقول: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وقد علمنا أن فيها حقيقةً: الفاكهة، والنخل، والرمان، وليس هو مثل الذي في الدنيا، بوجهٍ من الوجوه، فهو كما ترى في مخلوقاته في الدنيا، لا يجمع بينها وبين ما في الجنة إلا التسمية، فكذلك لا يجمع بين صفاته وصفات خلقه إلا التسمية، فكل صفةٍ فهي حقيقةٌ بحسب موصوفها غير مجازٍ وإن اشتركت الأسماء.

ألا ترى أنك إذا قلتً: رأيتُ عيناً، احتمل أن تكون رأيت عين آدمي، أو عين الشمس، أو عين الكفار، يعني جاسوسهم، فإذا أضفت أو خصصت، أو كان في سياق كلامك ما يدلُّ على المضاف إليه، ارتفع الاشتراك وصار ذلك الكلام حقيقةً ظاهراً للسامع، مثل أن تقول: رأيتُ عين ماء فتُضيفها إلى الماء، أو تُضيفها فتقول: رأيتُ عيناً جارية، قال تعالى: {فيها عينٌ جارية} (الغاشية: 12)، أو يكون ما بعدها ما يُفسرها ويُزيل الاشتراك أيضاً، مثل أن تقول: سبحتُ في عينٍ، أو رأيتُ عيناً كثيرٌ سمكها، وكذلك الجميع.

وهذا قولنا: كل صفةٍ تثبت لله عز وجل بالكتاب والسنة؛ فتدبر ذلك، وحاسب نفسك دون الأشياء بالعدل والإنصاف؛ فنسأل الله العظيم أن يهدينا وإياك إلى صراطه المستقيم، وأن يُلهمنا رشدنا؛ فكل واخدٍ منا إذا ترك الهوى علم أن قصد صاحبه اتباع الهدى والحق، جعلنا الله وإياك ممن منَّ عليهم بالاعتصام بالسنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

انتهى كلام الإمام الذهبيِّ رحمه الله.

  • الرد على شبهة التشبيه التي يُثيرها المتكلمون عموماً، والأشاعرة خصوصاً في نفيهم لصفة اليدين وغيرها من الصفات الخبرية:

وكذلك يقول الإمام ابن خزيمة (ت 311 هـ) في رده على تهمة التشبيه التي يرمي بها المتكلمون أهل الإثبات، ويتخذونها علةً لنفي الصفات التي أتت بها النصوص: "فتدبروا يا أولي الألباب ما نقوله في هذا الباب، في ذكر اليدين: كنحو قولنا في ذكر الوجه، والعينين تستيقنوا بهداية الله إياكم، وشرحه جل وعلا صدوركم للإيمان بما قصه الله جل وعلا، في محكم تنزيله، وبينه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات خالقنا عز وجل، وتعلموا بتوفيق الله إياكم أن الحق والصواب والعدل في هذا الجنس مذهبنا مذهب أهل الآثار، ومتبعي السنن.

 وتقفوا على جهل من يسميهم مشبهة؛ إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه نحن نقول: لله جل وعلا (يدان) كما أعلمنا الخالق البارئ في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ونقول: كلتا يدي ربنا عز وجل يمين، على ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الله عز وجل يقبض الأرض جميعاً بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، لا شمال فيهما. ونقول: من كان من بني آدم سليم الأعضاء والأركان، مستوي التركيب، لا نقص في يديه، أقوى بني آدم، وأشدهم بطشاً له يدان عاجز عن أن يقبض على قدر أقل من شعرة واحدة، من جزء من أجزاء كثيرة، على أرض واحدة من سبع أرضين؟!.

 ولو أن جميع من خلقهم الله من بني آدم إلى وقتنا هذا، وقضى خلقهم إلى قيام الساعة لو اجتمعوا على معونة بعضهم بعضاً، وحاولوا على قبض أرض واحدة من الأرضين السبع بأيديهم كانوا عاجزين عن ذلك غير مستطيعين له، وكذلك لو اجتمعوا جميعاً على طي جزء من أجزاء سماء واحدة لم يقدروا على ذلك، ولم يستطيعوا، وكانوا عاجزين عنه!! 

فكيف يكون - يا ذوي الحجا - من وصف يد خالقه بما بينا من القوة والأيدي، ووصف يد المخلوقين بالضعف والعجز مشبها يد الخالق بيد المخلوقين؟! أو كيف يكون مُشَبّهاً من يثبت أصابع على ما بينه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم للخالق البارئ؟!

 ونقول: إن الله جل وعلا يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، تمام الحديث.

ونقول: إن جميع بني آدم منذ خلق الله آدم إلى أن ينفخ في الصور لو اجتمعوا على إمساك جزء من أجزاء كثيرة من سماء من سماواته، أو أرض من أراضيه السبع بجميع أبدانهم كانوا غير قادرين على ذلك، ولا مستطيعين له، بل عاجزين عنه، فكيف يكون من يثبت لله عز وجل يدين على ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له صلى الله عليه وسلم مشبهاً يدي ربه بيدي بني آدم؟ 

نقول: لله يدان مبسوطتان، ينفق كيف يشاء بهما خلق الله آدم عليه السلام , وبيده كتب التوراة لموسى عليه السلام، ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين، وأيدي المخلوقين محدثة غير قديمة، فانية غير باقية، بالية تصير ميتة، ثم رميماً، ثم ينشئه الله خلقا آخر {تبارك الله أحسن الخالقين}؛ فأي تشبيه يلزم أصحابنا:  أيها العقلاء - إذا أثبتوا للخالق ما أثبته الخالق لنفسه، وأثبته له نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقول هؤلاء المعطلة يوجب أن كل من يقرأ كتاب الله، ويؤمن به إقراراً باللسان، وتصديقاً بالقلب فهو مشبه، لأن الله ما وصف نفسه في محكم تنزيله بزعم هذه الفرقة ومن وصف يد خالقه فهو: يشبه الخالق بالمخلوق!.

فيجب على قود مقالتهم: أن يكفر بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم لعائن الله؛ إذ هم … منكرون لجميع ما وصف الله به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم غير مقرين بشيء منه، ولا مصدقين بشيء منه

وقال في معرض الرد على من يُلزم أهل الإثبات بالتمثيل: أخطأت يا جاهل التمثيل، ونكست التشبيه، ونطقت بالمحال من المقال، ليس كل ما وقع عليه اسم اليد جاز أن يشبه ويمثل إحدى اليدين بالأخرى، وكل عالم بلغة العرب، فالعلم عنده محيط: أن الاسم الواحد قد يقع على الشيئين مختلفي الصفة، متبايني المعاني، وإذا لم يجز إطلاق اسم التشبيه، إذا قال المرء لابن آدم، وللقرد يدان، وأيديهما مخلوقتان، فكيف يجوز أن يسمى مشبها من يقول لله يدان، على ما أعلم في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.






الثلاثاء، 20 أكتوبر 2020

الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام -ناصر بن حمد الفهد

الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام

تأليف:

ناصر بن حمد الفهد

اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ يعتبر الإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 730 هـ) أول من تكلم في مقاصد الشريعة الأسلامية كعلمٍ مستقل، وذلك في كتابه (الموافقات)، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتابه (الاعتصام)، ولما كان الإمام الشاطبي رحمه الله من أشدِّ الناس محاربةً للبدع العملية، اشتهر بين الناس أنه (سلفيُّ الاعتقاد)؛ حتى بين طلبة العلم أنفسهم، والحقيقة التي تظهر لكل من يقرأ هذين الكتابين ستبين للقارئ أنه أشعريُّ المعتقد في باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ولم تكن أشعريته حجاباً عن موافقة الحق في بعض المسائل والقضايا العملية، وهذا يُحسب له، لا سيما في إنكاره البدع وشدته في ذلك؛ وإن كان مرجعه في الجملة في أبواب الاعتقاد هي كتب الأشاعرة.

وقد تأثر الشاطبيُّ رحمه الله بعلم الكلام تأثراً ظاهراً، بل إنه كما يتضح في كثيرٍ من كلامه أنه يُعظم علم الكلام، ويخوض في مسائله الجزئية، ويُقرر قضاياه الكلية، ومثله الإمام أبو بكر الطرطوشي صاحب كتاب (الحوادث والبدع)؛ فقد وافق الأشاعرة في أصولهم الاعتقادية العامة، وكذلك أبي شامة الدمشقي صاحب كتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث)، وكلهم شدَّد النكير في البدع العملية، مع كونهم أشاعرة في المعتقد؛ فرحم الله الجميع؛ وغفر لهم.

ولم تكن أشعرية الشاطبي مانعاً من قبول كلامه في باب البدع العملية، ولا يغض ذلك من قيمة الرجل العلمية؛ فهو قامة كبيرة في هذه الأمة، وكذلك سائر العلماء رضوان الله عليهم ممن وقع في بدع الأشعرية، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء التعارض" كلمة جميلة نسوقها لهؤلاء الكبار الذين لهم علمٌ وفضلٌ، وثناء جميل؛ فيقول: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها. وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 10).

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286)".

والغرض المقصود من هذا الكتاب: هو تقييد مخالفات الإمام الشاطبي لمعتقد أهل السنة والجماعة من كتابيه (الاعتصام) ت/ الهلالي، و(الموافقات) ت/ مشهور آل حسن، وجعل ذلك في ثلاثة أبواب، وتحت كل باب فصول.

وطريقة المؤلف في ذلك: ذكر أقوال الإمام الشاطبي كلها، ثم ذكر موطن الخطأ فيها، وردها، مستدلاً بالنصوص الشرعية، وكلام علماء أهل السنة في ذلك، لا سيما ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.

وإليك بيان هذه الأبواب والفصول كما يلي:

الباب الأول: مخالفاته في التوحيد (وفيه فصلان):

الفصل الأول: مخالفاته في توحيد الربوبية.

وفيه أن الشاطبيّ رحمه الله تبع الأشاعرة في إثبات الصانع وإثبات حدوث العالم بطريقة (الأعراض)، وهي طريقة مبتدعة، اختراعها الجهمية والمعتزلة، ورتبوا على هذه الطريقة معرفة: المُرسل، وقدمه، وحدوث العالم، ومعرفة الرسول، وهي مبنيَّةٌ  على أربع مقدمات:

المقدمة الأولى: إثبات الأعراض (الحوادث).

المقدمة الثانية: إثبات حدوث هذه الأعراض.

المقدمة الثالثة: بيان امتناع خلو الأجسام عن هذه الأعراض.

المقدمة الرابعة: بيان أن ما لا يخلو عن هذه الأعراض فهو حادث، وأن كل حادث لا بُد له من مُحدث.

وهذه الطريقة في إثبات وجود الله فاسدةٌ: عقلاً، ومحرمةٌ شرعاً، وقد ذمها السلف والأئمة، وحرمها الأشعريُّ، وذكر أنه لا يحتجُّ بها إلا أهل البدع المنحرفين. 

وفساد هذه الطريقة من وجوه:

1-أن هذه الطريقة ليس عليها مُستند شرعي: لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا جاءت عن السلف، بل هي متلقاة من الفلاسفة والجهمية.

2-أن حدوث هذه الأعراض لا يحتاج إلى دليل، لأننا نرى بأعيننا حدوث هذه الأشياء وزوالها، فهي معلومةٌ بالحس والضرورة، فلا نحتاج إلى إثبات شيء من ذلك.

3-أنهم جعلوا إثبات العالم وإثبات الصانع غير ممكن إلا باتباع هذه الطريقة السقيمة، وقد ملأ المتكلمون كتبهم بمحاولة إثبات وجود الله بهذا الدليل الذي زعموا أنه الوحيد! وبالإمكان إثبات الصانع بطرقٍ كثيرةٍ أخرى؛ كالاستدلال بحدوث هذه المخلوقات على مُحدثها؛ ويعلم كل عاقلٍ بالضرورة أن كل حادثٍ لا بُدَّ له من مُحدث.

4-أن مسألة إثبات وجود الله سبحانه لا يُنازع فيها إلا شواذ الناس، لأن معرفته سبحانه فطرية لا تحتاج إلى دليل، ولهذا كانت بعثة الرسل إنما هي لتوحيد العبادة لما استقرّ في نفوس الناس من معرفة الله عز وجل.

5-أنهم التزموا لأجل هذا الدليل (دليل الأعراض) لوازم فاسدة من جنس ما التزمه الجهم بن صفوان من نفي الصفات عن الباري سبحانه وتعالى.

والتزم الجهم لأجله بالقول بفناء الجنة والنار، والتزم أبو الهُذيل العلاف بالقول بفناء حركات أهل الجنة والنار، والتزم المعتزلة لأجله بنفي الصفات لأنها أعراض، والتزم الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية بنفي الصفات الفعلية عن الله سبحانه: كالكلام، والنزول، والمجيء، لأنها حوادث بزعمهم، والتزم جميعهم مع الكرامية بتعطيل الله سبحانه عن الفعل في الأزل؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا: لو كان الله قادراً على الفعل في الأزل، للزم منه قدم العالم، وغيرها من اللوازم التي أفسدوا بها الدين، ونشروا لأجلها البدع.

6-أن هذا الدليل يدلُّ على نقيض مقصودهم؛ فذكروا في المقدمة الرابعة أن كل حادثٍ لا بُد له من سبب، ثم إنهم عطلوا الباري سبحانه عن الفعل في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، وقالوا بحدوث هذا العالم من غير تجدد سببٍ حادث، لأنهم ينفون أن تقوم الصفات الفعلية بذات الله سبحانه؛ لأنهم يزعمون أنها حوادث؛ فأجازوا الحدوث بلا سبب، وهذا ينقض أصلهم.

ولهذا استطال عليهم الفلاسفة، وألزموهم بالقول بقدم العالم؛ لأن الفلاسفة قالوا: يمتنع حدوث الحوادث بلا سببٍ حادث، ويمتنع تقدير ذاتٍ مُعطلة عن الفعل، ثم فُعلت من غير حدوث سبب، ولم يستطع المتكلمون أن يُجيبوا على هذا الإيراد الخطير لفساد أصلهم.

والصحيح: هو التفريق بين عين الحوادث، وجنس الحوادث؛ فإن كل حادثٍ مُعين له أولٌ مسبوقٌ بعدم كما هو مُشاهد، أما جنس الحوادث فإنها لا أول لها، لأن الله سبحانه لم يزل فعالاً غير مُعطلٍ عن الفعل كما يزعم المبتدعة من المتكلمين، وهذا لا يدلُّ على قدم شيء من الحوادث بعينه كما تزعم الفلاسفة، بل يدل على تجدد الحوادث حادثاً بعد حادث.

الفصل الثاني: مخالفاته في توحيد الأسماء والصفات.

جمع الإمام الشاطبي رحمه الله بين طريقتي المفوضة (الذي هو الإيمان بالنصوص مع الجهل بمعانيها) والمؤولة (الذي هو صرف النصوص عن معانيها الظاهرة إلى أخرى ليست مراداً للمتكلم بها)، تبعاً للمتكلمين في الصفات، ومُتبعاً في ذلك الألفاظ المجملة عن السلف. 

ويُقسم الشاطبيُّ نصوص الصفات إلى (متشابه حقيقي، وهو كل ما أوهم ظاهره التشبيه، ومتشابه إضفي بالنسبة للبعض دون الآخرين)، كان كثيراً ما يُهوِّنُ الخلاف بين الطريقتين وجعله من باب الاختلاف في الفروع.

وبعد أن ذكر المؤلف عشرة نصوص تؤيد دعواه؛ قال: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه:

  1-أن مذهب السلف هو تفويض الكيفية مع إثبات المعاني الظاهرة؛ فيفهمون آيات الصفات وأحاديثها، ويدركون معاناه؛ فيعلمون معنى الاستواء، والنزول، والفوقية، والوجه، والعين، والقدم، ونحوها، ويُفرقون بينها، فيعلمون أن معنى الوجه غير العين، والعين غير القدم، وهكذا، فيثبتون المعنى مع تفويض الكيفية؛ وهم لم يقولوا عند روايتها أو قراءتها: إن ظاهرها غير مُراد، بل أقرُّوا بها، وآمنوا بها، وفهموا معناها الإجمالي مع تفويض الكيفية.

2-أن هذا المذهب التفويضي يلزم منه تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه تكلم بكلامٍ لا يُفهم معناه، وهو قدحٌ في كتاب الله تعالى؛ إذ كيف يُخاطب الله عباده بأمرٍ غير مفهوم، مع أمره لهم بتدبره وتعقُّل معانيه، كذلك فيه تجهيلٌ للسلف الذين تلقوا هذه الأخبار وآمنوا بها، وصدقوا بما جاء فيها، ثم يُقال فيهم: إنهم كانوا يقرأون ما لا يفهمون، وأنهم لا يعرفون حقائق الأسماء والصفات أو معانيها التي خاطبهم الله بها -كما تقول المفوضة.

3-أن "المفوضة" تناقضوا حيث قالوا: نؤمن بها على ظواهرها، وتأويلها يُخالف الظاهر منها، ثُم قالوا: إن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله؛ فكيف تثبتون لها تأويلاً غير معلوم، مع جعلكم ظاهرها مُراداً للمتكلم به!!.

وقد أورد الإمام الشاطبيُّ في كتابه "الاعتصام" (2/ 785) قصةً باطلةً نقلها عن أبي بكر بن العربي التي ذكرها في كتابه "العواصم"، وقد كان ابن العربي أشعرياً جلداً، قال: أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام: أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور؛ فعقد مجلساً للذكر، وحضر فيه كافة الخلق، وقرأ القارئ: {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم: من أنت - يعني الحنابلة - يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى، وثار إليهم أهل السنة -يعني بهم الأشاعرة -من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة، وتثاور الفئتان وغلبت العامة، فأحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب، فمات منهم قوم ..."، ويُطالب هنا بتصحيح هذه القصة؛ فإنه نقله عن أشاعرة مجهولين، وابن العربي له نقولات من هذا الجنس تحتاج إلى تصحيح.

ومثل ذلك من الكذب والبُهت ما يُقال فيما نقله الشاطبيُّ –أيضاً -في "العواصم" أن أبا يعلى الحنبلي كان يقول إذا ذكر الله تعالى وصفاته: ألزموني ما شئتم إلا اللحية والعورة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (درء التعارض: 5/ 238): "وهذا كذبٌ عليه عن مجهولٍ لم يذكره أبو بكرٍ وهو من الكذب عليه".

والفتنة قد حصلت فعلاً في بغداد بين القشيري وأتباعه من الأشعرية وبين أتباع أبي يعلى من الحنابلة، ولكن الحق كامن مع الحنابلة في الجملة، قال شيخ الإسلام: "وأكثر الحق فيها -أي في هذه الفتنة -كان مع الفرائية -يعني أتباع أبي يعلى بن الفراء -مع نوعٍ من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوعٌ من الحق مع كثيرٍ من الباطل".

وذكر المؤلف أن الإمام الشاطبي رحمه الله- كان يُفوض بعض الصفات، ويؤول بعضها الآخر؛ مثل صفة (العلو) ونف الجهة عن الله سبحانه، التي أنكرها متأخرو الأشاعرة، بعد أن غلب عليهم التجهُّم والاعتزال ونفي صفات الباري سبحانه، وإلا فالأشعريُّ نفسه كان يثبت صفة العلو (كما في الإبانة: 69، والمقالات: 290، ورسالة الثغر: 71)، والباقلاني شيخ الأشاعرة كان يُثبتها أيضاً (كما في الإنصاف: 22)، وابن كلاب الذي اقتفى الأشعري، ومتقدمو الأشاعرة كانوا يثبتونها أيضاً (كما في درء التعارض: 6/ 193 -194)، وأتبعه بكلام أهل السُّنة الذين يُثبتون صفة العلو عن الله عز وجل.

وكذلك كان الإمام الشاطبي يتأول بعض الصفات الفعلية والخبرية، وردَّ عليه المؤلف حفظه الله -كلامه في ذلك بتفصيلٍ حسن، ومن الصفات الفعلية التي تأولها: (الاستهزاء، والمكر، والكيد، والحب والبغض، والدنو، والحكمة، والنزول، والنور، ومن الصفات الخبرية التي تأولها: الوجه، واليد، والرجل، والعين)، ونحوها. 

ومما يُنكر على الإمام الشاطبي -أيضاً -تهوينه الخلاف: بين ما ظنَّه طريقة السلف (التفويض) وبين ما يميل إليه من طريقة الخلف التي جُلُّها التأويل والتعطيل، وجعل ذلك من مسائل الفروع، وهذا من جهله رحمه الله بمذهب السلف في الصفات.

الباب الثاني: مخالفاته في الإيمان والقدر (وفيه فصلان):

الفصل الأول: مخالفاته في الإيمان، وله فيه نصٌّ واحد.

وقد جعل الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم، وهو مقاربٌ لمذهب الجهمية في قولهم الإيمان هو المعرفة، ولا فرق بينهما سوى في التعبير اللفظي، وهو أيضاً قول ابن الرواندي، والمريسي، وغيرهم من الزنادقة، والتزم الأشاعرة لأجل ذلك بلوازم باطلةٌ قطعاً من دين الإسلام، وقد فصَّل المؤلف حفظه الله على هذه القضية تفصيلاً كبيراً.

الفصل الثاني: مخالفاته في القدر:

ومذهب الإمام الشاطبي في باب القدر هو مذهبٌ جبريٌّ، كما هو الحال في الأشاعرة، وذهب أيضاً إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقاً، وهو قولٌ مُبتدعٌ في الإسلام، وهو مُنافٍ للحكمة وتعليل الأفعال، وأهل السنة وسطٌ في هذا الباب، في أن الحسن والقبح يُمكن إدراكه بالعقل بعد مجيء الشرع به، ومُحدثٌ أيضاً، ومخالتفه في مسألة الأسباب والمسببات، فذهب إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به.

وذهب إلى أن الآثار لا تحدث بمجرد توافر الأسباب، وهو قول الجهمية، وتبعهم في ذلك الأشاعرة، وذهب إلى أن اعتقاد تأثير السبب في المسبب: شرك، وهذا بناءً على القاعدة الجبرية عندهم أنه لا فاعل إلا الله، وهذا قول الأشاعرة، وهو غلط من وجوهٍ كثيرة، فالله سبحانه هو خالق السبب وخالق المسبب، ولا يلزم من اعتقاد تأثير السبب أن يكون ذلك شركاً، لأن السبب لا يخلق التأثير.

وذهب الشاطبي رحمه الله إلى القول بنفي التولد، وهو نفي وجود مسبب -يتولد من سبب مباشرة العبد له؛ وذلك مثل: تولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، وزهوق النفس عن القتل، وهو كعادته يميل في ذلك إلى مذهب الأشاعرة الجبري، فهذه الأمور هي من فعل الله سبحانه لا كسب للعبد المتسبب فيها، ولا قدرة له عليها.

والحق في هذه المسألة: أن هذه الأمور المتولدة تحصل بمباشرة العبد للفعل كلأكل، والشرب، وبما خلق الله في الطعام، والشراب من قوى تؤثر في حصول الري والشبع، فالله عز وجل خلق الأثر المتولد عن هذين السببين، وهو سبحانه خالق السببين جميعاً.

وذكر أيضاً عبارات الإمام الشاطبي في اسقاط الأسباب بالنظر إلى التدبير، وتفسير نفي الظلم تفسيراً أشعرياً؛ بأنه كُل ما يُقدره الذهن من الممكنات، مع سلب الحكمة في ذلك، 

الباب الثالث: مخالفاته الأخرى (وفيه فصلان):

الفصل الأول: تأثره بعلم الكلام في أربعة مباحث:

 أولاً: النبوات: 

حيث ذهب إلى أنها لا تثبت إلا بطريق الخوارق، وأنها لا تُعرف إلا من هذا الطريق، وهي ليست عند الأشاعرة اصطفاء بناءً على حكمة أو كون المحل صالحاً للنبوة والرسالة، بل هي صفة إضافية راجعة إلى خطاب الشارع فقط، ولذلك فهم يجوزون على الله إرسال أي أحد، دون النظر إلى الحكمة أو كون المحل مُهيئاً أو صالحاً، وأجازوا أن تكون كل خارقة مؤيدة لدعوى النبيِّ؛ وهذا قصور في تعريف المعجزة، والصحيح أنه لا بُد من اقتران ذلك بدعوى النبوة. 

ثانياً: الميزان: 

حيث أجاز الإمام الشاطبي تأويله إلى معنى آخر غير حسي، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة، وخلاف مذهب متقدمي الأشاعرة.

ثالثاً: أخبار الآحاد: 

حيث أفاد أنها أدلة لفظية، تُفيد الظن ولا تُفيد العلم حتى لو احتفت بها القرائن ولا يُمكن أن تُفيد القطع إلا بأن تسلم من قوادح عشرة وضعها المتكلمون منها المعارض العقلي، وهذا تبعاً لطريقة متأخري الأشاعرة.

رابعاً: تعظيم علم الكلام: 

وقد ذكر الإمام الشاطبي قصةً عن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أنه ناظر أحد الشيعة الإسماعيلية ! ثم اتجه لتدريس علم الكلام وهو لا يتقنه، وهذه القصة يُحتاج إلى إثبات صحتها، وذكر المؤلف -حفظه الله -علامتين لوضعها وكونها مكذوبة (انظر: ص 156 -162)، والظاهر أن واضعها هو أحد علماء الكلام.

الفصل الثاني: تأثره بتصوف الغزالي (وفيه ثلاثة مباحث):

1- تقريره فكرة أن العمل رغبة في الجنة وخوفاً من النار هو عمل الأجراء، وهذا غلط كبير، بيَّه المؤلف في موضعه.

2-شطحات التصوف، التي تستند إلى الأحاديث المكذوبة، ويُلاحظ في هذا المبحث بعض السياقات المتوائمة مع طقوس الصوفية في تذليل المريدين لشيوخ الضلال بغير وجه حق.

3-التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله: وهذا الكلام مُقتبسٌ من الفلاسفة وأصحاب الأهواء، وقد قرره الغزاليُّ وغيره، ويلزم منه لوازم باطلة.

الفصل الثالث: إنكاره للمهدي:

وكان الإمام الشاطبي يعتقد أن عيسى عليه السلام هو المهدي بناءً على حديث معلول ضعيف (ولا المهدي إلا عيسى بن مريم)