أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 أكتوبر 2020

الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم

للإمام الموفق عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي

(541 -620 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالة صغيرة الحجم، غزيرة الفائدة، أراد الإمام الموفق من خلالها الرد على بعض المبتدعة في مسألة كلام الله تعالى، وإثبات أن الله تعالى يتكلم حقيقةً، بحرف وصوت مسموع، وقد ردَّ على الأشاعرة الذين زعموا أن كلام الله نفسي، وقد أجاد رحمه الله في الرد عليهم، وبيَّن حقيقة قولهم ولازم مذهبهم من إبطال الوحي، وتعطيل الشرائع، وتكذيب الرسل، وإنكار الكتب، ومخالفة إجماع السلف؛ بالإضافة إلى تناقض الأشاعرة في هذا الباب بين الحقيقة والمجاز، والإظهار والكتمان. 

وقد بين الإمام ابن قدامة رحمه الله سبب تأليف هذه الرسالة، بقوله: "فإني وقفتُ على سقطةٍ من سقطات أهل الجهالة، وهفوةٍ من هفوات أهل الضلالة، ذكر فيها أنه يُبين خلق الحروف من الكتاب والسنة، ويُرشد من وقف عليها إلى طريق الجنّة!! فهممتُ ألا أُجيبه، لظهور فساد قوله، والاستغناء بما لا يجفى من جهله؛ حتى سُئلتُ ردَّ جوابه، وبيان خطأ قوله من صوابه؛ فأقول وبالله التوفيق ...".

وهذه المسألة قد تناولها الإمام ابن قدامة بالبحث والتفصيل في العديد من كتبه، واعتنى بها أيما عناية؛ فألمح إليها في"المناظرة في القرآن"، و"تحريم النظر في كتب الكلام"، و"لمعة الاعتقاد"، و"البرهان في بيان القرآن"، و"ذم التأويل"، وغيرها، وقد وظَّف الشيخ ابن قدامة بعض عبارات الخصم في الرد عليه؛ وذلك في مواضيع متنوعة، أشار المحقق إليها في بعض العناوين الفرعية، نذكرها إجمالاً:

1-إثبات أن كلام الله تعالى قديم النوع، حادث الآحاد (نزل في أوقات متفرقة ومتجددة) لكنه غير مخلوق، فآحاده متجددة؛ فيتكلم الله بما شاء متى شاء، وإبطال دعوى الكلام النفسي الذي تثبته الأشاعرة، وقولهم إن القرآن يُنسب إلى الله مجازاً وليس هو كلامه بل هو عبارات وحكايات مخلوقة عبَّر بها جبريل بإلهامٍ من الله تعالى، وبيَّن الإمام ابن قدامة أن الحق هو أن هذا القرآن كلام الله حقيقةً تكلم به بحرفٍ وصوتٍ مسموع.

2-بيان تناقض الأشاعرة وأنه إذا لم يكن هذا القرآن كلام الله؛ فأين هو كلام الله الذي أنذر به الكافرين، وبشر به المؤمنين، وتحدى به البلغاء والفصحاء أن يأتوا بمثله، ونزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ؟!!

3-وإثبات أن القرآن هو هذا الكتاب العربي المُبين، بلفظه ونظمه ومعناه، المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سورٌ، وآياتٌ وحروف، وكلمات، له أول، وآخر، وأجزاء، وأبعاض، وهو مائة وأربع عشرة سورة، أولها الفاتحة، وآخرها المعوذتان،  وهذا ثابتٌ بالكتاب، والسنة وإجماع السلف، وقد أجمع السلف على عدِّ حروفه وآياته وأحزابه وأجزائه.

4-وبيان أن القول بخلق القرآن جهلٌ وضلالٌ وكفران، لأنه تكذيبٌ لله تعالى، ومخالفةٌ لإجماع المسلمين، والحق أن الكلام يُنسب إلى من قاله مُنشئاً -إن صحَّ التعبير -لا لمن قاله مؤدياً ومُبلغاً، وإذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرجه ذلك عن كونه كلام القائل الأول له.

وقد ذكر ابن قدامة شبهاتٍ كثيرة أثارها المتكلمون من الأشاعرة والكلابية؛ وردَّ عليهم فأوجعهم، وقضَّ مضاجعهم؛ ومنها:

أولاً: اعتراضهم بقول الأخطل:

قال الإمام ابن قدامة: "اعترضوا على هذا من وجوه أحدها، أن الأخطل قال:

                 (إن الكلام لفي الفؤاد وإنما … جُعل الكلام على الفؤاد دليلاً)

وقال في الجواب عليه: "وهذا شاعرٌ نصرانيٌّ عدو لله ورسوله ودينه، فيجب اطراح كلام الله ورسوله وسائر الخلق تصحيحاً لكلامه، وحمل أقوالهم على المجاز صيانةً لكلمته هذه عن المجاز؟!".

إلى أن قال رحمه الله:"والجواب عن الأول (أي: هذه الشُّبهة) من وجوه:

أحدها: أنهم يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر؛ ببيان إسناده، ونقل الثقات له، ولا نقنع بشهرته؛ فقد يشتهر الفاسد، وقد سمعنا شيخنا أبا محمد بن الخشاب إمام أهل العربية في زمانه يقول: قد فتشتُ دواوين الأخطل القديمة؛ فلم أجد هذا القول فيها.

الثاني: لا نُسلم أن لفظه هكذا، إنما قال: (إن البيان من الفؤاد)؛ فحرفوه، وقالوا: (الكلام).

الثالث: أن هذا مجاز أراد به أن الكلام من عقلاء الناس في الغالب إنما يكون بعد التروي فيه، واستحضار معانيه في القلب، كما قيل لسان الحكيم وراء قلبه، فإن كان له قال، وإن لم يكن له سكت، وكلام الجاهل على طرف لسانه، والدليل على أن هذا (أي كلام الأخطل) مجازٌ من وجوهٍ كثيرة:

أحدها: ما ذكرناه، وما تركنا أكثر مما ذكرنا يدل على أن الكلام هو النطق، وحمله على حقيقته بحمل كلمة الأخطل على مجازها أولى من العكس.

(=وقال ص 39 بعد أن ذكر جملةً من الآيات التي تؤكد أن الكلام هو المنطوق دون حديث النفس: وقال تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلاً} يعني به النطق… وقال ص 40: وأجمعوا على أنه لو حلف لا يتكلم لم يحنث إلا أن ينطق، ولو قال: امرأته طالقٌ إن بدأها بالكلام، لم يتعلق ذلك إلا ببداية النطق).

الثاني: أن الحقيقة يستدل عليها بسبقها إلى الذهن وتبادر الأفهام إليها، وإنما يُفهم من إطلاق الكلام ما ذكرناه. (=وقال ص 38: والكلام هو الحروف المنظومة، والكلمات المفهومة، والأصوات المعلومة).

الثالث: ترتيب الأحكام على ما ذكرناه دون ما ذكروه.

(=قال ص 36: وأجمعوا -أي المسلمون -على أن القرآن الذي نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو، ومنع المحدث مسَّه، هو هذا الذي في مصاحفنا، وأجمعوا على أن القرآن الذي منع الجُنب والحائض من قرائته هو هذا، وانظر: ص 49 -50)

الرابع: قول أهل العربية الذين هم أهل اللسان، وهم أعرف بهذا الشأن.

(=وقال ص 40 -41: وقال أهل العربية الكلام من اسم وفعل وحرف، وقالوا: الكلام ما أفاد، ولا يكون إلا من جملة فعليه ومبتدأية… وإنما هو النطق الذي يسمعه المكلَّمُ فيؤثرُ فيه تارةً خوفاً، وتارةً رجاءً، وتارةً سروراً، وتارةً حزناً، وتارةً تكليفاً، وتارةً إسقاطاً، وأشباه هذا، أما ما في النفس؛ فلا يتعدى إليه، ولا يؤثر شيئاً فيه، فلا يكون كلاماً ولا تكليماً) .

الخامس: الاشتقاق الذي ذكرناه.

(=وقال ص 40: والتكليمُ فعلٌ مُتعدٍّ، يُقال: كلمتُ فلاناً، وقد قيل: اشتقاقه من الكلم وهو الجرح؛ لأنه يؤثر في المُكلَّم، والمؤثر والمتعدي إنما هو النطق الذي يسمعه المُكلَّم...) .

السادس: أنه لا تصحُّ إضافة ما ذكروه إلى الله تعالى؛ فإنه جعل الكلام في الفؤاد، والله تعالى لا يُوصف بذلك، وجعل اللسان دليلاً عليه، ولأن الذي عنى الأخطل بالكلام هو التروي والفكر واستحضار المعاني، وحديث النفس ووسوستها؛ فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى الله تعالى بلا خلاف بين المسلمين.

ومن أعجب الأمور أن خصومنا ردوا على الله وعلى رسوله، وخالفوا جميع الخلق من المسلمين وغيرهم، فراراً من التشبيه على زعمهم، ثم عادوا إلى تشبيهٍ أقبح وأفحش من كل تشبيه، وهذا نوعٌ من التغفيل!.

ومن أدل الأشياء على فساد قولهم: تركهم قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما لا يُحصى من الأدلة، وتمسكوا بكلمةٍ قالها الأخطل؛ جعلوها أساس مذهبهم، وقاعدة عقدهم؛ فلو انفردت عن مُبطلٍ، وخلت عن مُعارضٍ لما جاز أن يُبنى عليها هذا الأصل العظيم؛ فكيف وقد عارضها ما لا يمكن رده؛ فمثلهم كمثل رجلٍ بنى قصراً على أعواد الكبريت في مجرى السيل.

ثانياً: الرد على قول الكلابية والأشاعرة: بأن القرآن الذي هو كلام الله تعالى إنما هو كلام الآدميين:

قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "الثاني (يعني من الشُّبه) قالوا: سلمنا أن كلام الآدمي صوتٌ وحرف، ولكن كلام الله بخلافه؛ لأنه صفته، فلا تُشبه صفات الآدميين، ولا  كلامه كلامهم".

قال رحمه الله: "قلنا جواب (هذا القول) من وجوه:

أحدها: أن الاتفاق في أصل الحقيقة ليس بتشبيه، كما أن اتفاق البصر في إدراك البصر، والسمع في إدراك المسموعات والعلم في إدراك المعلومات ليس بتشبيهٍ كذلك هنا.

الثاني: أنه لو كان ذلك تشبيهاً؛ كان تشبيههم أقبح وأفحش على ما ذكرنا. 

(=وقد شبه المبتدعة من الأشعرية وغيرهم كلامهم بكلام الله تعالى، فزعموا أنه من قولهم، مستدلين بقول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}، قال ص 38:ومن زعم أنه عمل حروفه فهو تيسٌ ليس معه كلام.

وقال مُجيباً على من قال إن هذا القرآن هو قوله ص 21 في الوجه "الثاني": أنه إن كان هذا يصيرُ قوله بتلاوته إياه، لم يبق لله قولٌ ولا كتابٌ ولا لنبيه عليه السلام خبر، وينبغي أن تبطل الحجج والاستدلالات، وتذهب البراهين، وتنقطع المناظرات، وهذا قولٌ قبيحٌ جداً -ثم قال في "الوجه الثالث" من الرد: أن هذا القول (يعني زعمه أن القرآن من عمله) خرقٌ لإجماع المسلمين، ومخالفة الخلق أجميع، فإنه لا خلاف بين المسلمين أن القرآن ما هو قول تاليه، ولو ادعى ذلك مُدَّعٍ ظاهراً من المسلمين لقتلوه، وإن أنكر هذا القائل هذا؛ فليُظهره للمسلمين، ويدَّعِ أن هذا القرآن قوله وتصنيفه ونظمه وتأليفه، وأنه الذي عمل كلماته وحروفه، ولينظر ما يحلُّ به) .

الثالث: أنهم إن نفوا هذه الصفة، لكون هذا تشبيهاً، ينبغي أن ينفوا سائر الصفات من الوجود والحياة والسمع والبصر وغيرها.

الرابع: أننا نحن لم نفسر هذا إنما فسره الكتاب والسنة كما تقدَّم، وهم لم فسروه بما لم يرد به كتابٌ ولا سُنة ولا يُوافق الحقيقة ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى.


ثالثاً: الجواب على الأشعرية في اعتراضهم على تفسير صفة الكلام:

قال ابن قدامة: "الثالث (يعني من الشُّبه) قالوا: إن مذهبكم في الصفات أن لا تفسر، فكيف فسرتم كلام الله بما ذكرتم".

فأجاب رحمه الله: "وأما قولهم إنكم فسرتم هذه الصفة (صفة الكلام). قلنا: إنما لا يجوز تفسير (أي تأويل) المتشابه الذي سكت السلف عن تفسيره (بيان حقيقته)، وليس كذلك الكلام، فإنه من المعلوم بين الخلق، لا شبهة فيه، وقد فسَّره الكتاب والسُّنة".

وهنا نجد أن ابن قدامة رحمه الله -يجعل صفة الكلام من جملة الصفات التي لم يسكت السَّلف عن بيان حقيقتها، وعلَّل ذلك بأن هذا البيان والكشف ورد دليله في الكتاب والسنة: من كونه بصوت، وأنه مسموع، وأنه بحروف وكلمات، وقد سمعه موسى عليه السلام، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فانتفى كونه من المتشابه المطلق؛ بل هو من المُحكم "بحقيقته" ومعناه، خلافاً للصفات الأخرى التي قد تشتبه حقيقتها على السامع، ولا سبيل له إلى العلم بكيفيتها؛ فتكون من المتشابه المطلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، وإنما سكت السلف عن بيان حقيقتها؛ لأن ذلك يدخل في الكيفية، ولا يعلم أحدٌ كيفية الباري سبحانه، ولا كيفية صفاته، ولم يرد دليلٌ ببيانها.

ثم قال بعد ذلك: "إنما نحن فسرناه بحمله على حقيقته: تفسيراً جاء به الكتاب والسنة وهم -أي المبتدعة -فسروه بما لم يرد به كتابٌ ولا سنة، ولا يُوافق الحقيقة، ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى"، فذكر أن التفسير الحاصل هنا هو حملها على الحقيقة المعهودة، وبذلك نفهم تفريق ابن قدامة بين إثبات المعنى للصفة في الجملة الذي هو طريقته العامة في المتشابه، وبين إثباته للمعنى الخاص الذي لا يتطرق إليه شبهة تمثيل ولا تكييف.

رابعاً: الجواب على شبهة المخارج والأدوات:

قال ابن قدامة: "الرابع (من الشُّبه)، قالوا: إن الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات، والصوت لا يكون إلا من جسم والله يتعالى عن هذا".

فأجاب رحمه الله: "وأما قولهم إن الحروف تحتاج إلى مخارج وأدوات، قلنا: احتاجها إلى ذلك في حقنا لا يوجب ذلك في كلام الله تعالى، فإن قالوا: بل يحتاج الله تعالى كحاجتنا قياساً له علينا أخطأوا من وجوه:

أحدها: أنه يلزمهم في سائر الصفات التي سلموها كالسمع والبصر والعلم والحياة؛ فلا يكون ذلك في حقنا إلا في جسم، ولا يكون البصر إلا من حدقة ولا السمع إلا من انخراق، والله تعالى خلاف ذلك.

الثاني: أن هذا تشبيهٌ لله تعالى بنا، وقياسٌ له علينا، وهذا كفر.

الثالث: أن بعض المخلوقات لم تحتج إلى مخارج في كلامها كالأيادي والأرجل والجلود التي تتكلم يوم القيامة، والحجر الذي سلَّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والحصى الذي سبَّح في كفه، والذراع المسمومة التي كلمته.

وقال ابن مسعود: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل"، ولا خلاف في أن الله تعالى قادرٌ على إنطاق الحجر الأصم بلا أدوات، فكيف عجَّزوا الله تعالى عن الكلام بلالا أدوات.

خامساً: الجواب على شبهة التعاقب الداخل في الحروف:

قال الإمام ابن قدامة: "الخامس (من الشبه)، قالوا: إن الحروف يدخلها التعاقب؛ فالباء تسبق السين، والسين تسبق الميم، وكل مسبوقٍ مخلوق!!".

وأجاب رحمه الله: "وقولهم إن التعاقب يدخل في الحروف، قلنا: إنما كان ذلك في حق من ينطق بالمخارج والأدوات، ولا يوصف الله تعالى بذلك".

سادساً: الجواب على شبهة منع التعدد والتجزؤ في كلام الباري:

قال الإمام ابن قدامة: "السادس (من الشبه)، قالوا:  أن هذا يدخله التجزئ والتعدد، والقديم لا يتجزأ ولا يتعدد".

وأجاب رحمه الله: "وقولهم إن القديم لا يتجزأ ولا يتعدد غير صحيح، فإن أسماء الله معدودة، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} (الأعراف 180)، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعاً وتسعين اسماً، من أخصاها دخل الجنة"، وهي قديمةٌ، وقد نصَّ الشافعيُّ رحمه الله على أن أسماء الله غير مخلوقة، وقال الإمام أحمد: من قال إن أسماء الله مخلوقة فقد كفر، وكذلك كتب الله تعالى فإن التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن: متعددة، وهي كلام الله غير مخلوقة، وإنما هذا شيئٌ أخذوه من علم الكلام، وهو مطرح عند جميع الأئمة الأعلام، قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، وقال الشافعي رحمه الله: ما ارتدى أحدٌ بالكلام فأفلح، وقال أحمد: ما أحب أحدٌ الكلام فكان عاقبته إلى خير، وقال محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد المالكي: كتب البدع عند مالك وسائر أصحابنا هي كتب الكلام والتنجيم وشبه ذلك، لا تصح إجارتها، ولا تُقبل شهادة أهله".

سابعاً: الجواب على شبهة المبتدع في خلق حروف القرآن:

قال ابن قدامة رحمه الله: "وأما استدلاله على خلق الحروف بقوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (الزمر 62)، والحروف شيء"

فأجاب رحمه الله: "قلنا: هذه شبهة المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ونحن وأنتم قد اتفقنا على أن القرآن غير مخلوق، وهو حروف، فلزم أن لا تكون مخلوقة، على أ، هذه الآية لا بُد من تخصيصها، بأن الله تعالى وصفاته ليس شيءٌ منها مخلوقاً، وكلام الله صفة من صفاته وهو حروف وأصوات بما بيناه، وكذلك قوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) يخرج منه القرآن وكل كلام لله تعالى من التوراة والإنجيل وغيرها، وهي حروف على ما قدمنا".


            ثامناً: الجواب على دعوى أن الحروف في فواتح السور هي أسماء، وليست حروفاً.

قال ابن قدامة رحمه الله: "وقد بلغني عن بعض متحذلقيهم أنه قال (الم) ليست حروفاً، وإنما هي أسماء الحروف، فألف اسم للألف، ولامٌ اسم لها، وكذلك ميم؛ فخالف (يعني هذا القائل) بهذا القول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه سماها حروفاً، وكذلك أصحابه، وسائر الناس؛ فإنهم يُسمونها ححروفاً، ويقولون: الحروف المقطعة في أوائل السور… ثم إن أسماء الحروف حروف؛ فاسم الألف ثلاث أحرف: ألف، ولام، وفاء. واسم اللام ثلاثة، واسم الميم ثلاثة، فيكون ذلك تسعة أحرف؛ فكأنه قال: إنها ليست ثلاثة أحرف إنما هي تسعة أحرف، والخلاف في كونها حروفاً لا في عددها، وقد ثبت أنها حروف فلا يضرُّ الخلاف في عددها"، إذ لا فائدة في النزاع بعد تقرير المقصود، وقد ذكر ابن قدامة بعض العبارات التي تؤيد كلامه في أن القرآن حروف عن وأبي بكر، والشعبي، وسعيد بن جبير.







السبت، 17 أكتوبر 2020

حكاية المناظرة مع بعض أهل البدعة -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

حكاية المناظرة مع بعض أهل البدعة

(في القرآن العظيم، وكلام الله القديم)

تصنيف الإمام أبي محمد 

عبد الله بن أحمد موفق الدين بن قدامة (541 -620 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 تمهيد/ إن مسألة "القرآن" الذي هو كلام الله من أعظم ما وقع فيه النزاع بين أهل السنة وأهل البدعة، وذلك منذ أن ظهرت الجهمية الأولى وإلى يومنا هذا، وقد أظهر ذيول التجهم فيما بعد بدعة "اللفظ" المخلوق؛ وهي قولهم (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة)، والتي مقتضاها أن يكون كلام العزيز الحكيم، الذي نزل به جبريل على قلب سيد المرسلين مخلوقاً بحروفه ومعانيه.

إلى أن جاء رأس الطائفة الكلابية (عبد الله بن سعيد بن كلاّب، ت 241 هـ)؛ فتظاهر بالانتساب إلى السنة، لكنه سلك هذا المنهج الجهمي الجديد، فقال: (إن كلام الله قديم، وأنه معنى قائمٌ بنفسه، ليس بحرفٍ ولا صوت، وهو شيءٌ واحد متصل، لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد -أي لا يختلف؛ فالتوراة عنده هي الإنجيل، وهي القرآن-، ولا هو شيء ينزل، ولا يتلى، ولا يسمع ولا يكتب، وأنه ليس في المصاحف إلا الورق والمداد، وأن هذا المكتوب والمتلو ليس هو كلام الله، وإنما هو حكايةٌ وعبارةٌ عن كلام الله، والذي عبَّر عنه هو جبريل عليه السلام)، وأن ما نسمعه من القرآن، وما نتلوه منه هي ألفاظ مخلوقة، ونصر هذا الرأي المبتدع ودعا إليه، بل وزاد فيه بما لم يقل به أحد.

واعتنق قوله هذا طائفةٌ من الناس، حتى جاء أبو الحسن الأشعريّ (ت 324 هـ)، وكان قد عمَّر دهراً في الاعتزال والتعطيل، ثم جاء ليخالفهم، فوافق ابن كلاب في هذه البدعة المنكرة، التي ظاهرها موافقٌ لأهل الحق، ولكن تفسيرها تفسير أهل الاعتزال، وانتصر لها، وتابعه على ذلك خلقٌ كثير، حتى وصل الحال ببعض رءوسهم وكبار محققيهم من الجهال أن يقولوا: (إن هذا القرآن العربي إنما هو قول جبريل!)، وقال آخرون: (هو مخلوق! خلقه الله في اللوح المحفوظ أو في غيره).

قال ابن قدامة: "وزعمت المعتزلة أنه مخلوق، وأقر الاشعري أنهم مخطئون، ثم عاد فقال هو مخلوق وليس بقرآن فزاد عليهم"؛ فظنَّ الأشعريُّ وأتباعه أنهم أبطلوا كلام المعتزلة فيما ابتدعوه من (الكلام النفسي)؛ فقالوا: هو الصفة القديمة الثابتة لله، وأما القرآن العربي فهو ألفاظ موضوعة للدلالة عليه، وهي مخلوقة، والحق أن بدعة الكلام النفسي لا حقيقة لها، وإنما هو من وساوس أهل البدع؛ وعندهم أن هذا القرآن العربي مخلوق فلا تصح إضافته إلى الله تعالى باعتبار أنه تكلم به.

والذي يعتقد به أهل السنة: هو أن الله عز وجل تكلَّم بهذا القرآن بحروفه وكلماته العربية حقيقةً لا مجازاً، يقول ابن قدامة في هذا الكتاب: "ولم يزل السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والأئمة بعدهم يعظمون هذا القرآن ويعتقدون أنه كلام الله، ويتقربون إلى الله بقراءته، ويقولون إنه غير مخلوق، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر.

ولما وقعت الفتنة وظهرت المعتزلة ودعوا إلى القول بخلق القرآن، ثبت أهل الحق حتى قُتل بعضهم، وحبس بعضهم، وضرب بعضهم، فمنهم من ضعف فأجاب تقية وخوفاً على نفسه، ومنهم من قوي إيمانه وبذل نفسه لله واحتسب ما يصيبه في جنب الله، ولم يزل على السنة إلى أن كشف الله تعالى تلك الفتنة وازال تلك المحنة وقمع أهل البدعة".

وقد ذكر الإمام ابن قدامة في هذا الكتاب: مناظرة جرت بينه وبين أحد الأشاعرة في هذه المسألة العقدية الخطيرة، وهي القرآن الكريم، الذي هو كلام رب العالمين، بيَّن فيها ما وصل إليه جهمية الأشاعرة من التعطيل والقول على الله بغير علم، وكيف أنهم جانبوا السنة في مسائل الصفات عموماً، وهذه الصفة خصوصاً، وقد اشتهر الإمام الموفق بقوة حجته في هذه المناظرة، وشدته على أهل البدع، وتمسُّكه بالسًّنة والصدح بها، وغلظته على الأشعرية، لذلك شدَّد القول في الأشعريِّ الذي هو رأس هذه الطائفة.

 وقد اعتنى العلامة ابن قدامة اعتناء خاصا بهذه المسألة إلحاقاً وإفراداً، وإجمالاً وتفصيلاً، فأطنب فيها في رسالته "لمعة الاعتقاد" على صغرها وذكر جملة من الأدلة والشواهد على ذلك، وكذا في كتابه "حكاية المناظرة مع أهل البدع،" وفي كتابه "البرهان في بيان القرآن"، وفي كتابه "تحريم النظر في كتب الكلام"، وأفرده بالتصنيف في كتابه "الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم" وكل هذه المصنفات مطبوعة، ومحققة بفضل الله تعالى.

يقول المُحقق "الجديع": وقد زدت في تسمية الكتاب لفظ (حكاية)، وكان حرياً بالناسخ ذكره، لأن المصنف رحمه الله لم يسق المناظرة على صورتها، وإنما ساق صورة الحكاية، وسميته على سبيل الاختصار (حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)؛ كأنه يستأنس بقول الإمام الموفق في بداية كتابه: "فإنه تكرر سؤال بعض أصحابنا عن حكاية مناظرة جرت بيني وبين بعض أهل البدعة في القرآن فخفت من الزيادة والنقصان؛ فرأيت أن أذكر ذلك على غير سبيل الحكاية -يعني لا يحكيها بألفاظها -كي لا تكون الزيادة في الحجج والأجوبة عن شبههم كذباً، مع تضمن ذلك لأكثر ما جرى إن شاء الله سبحانه".

وختام هذا التمهيد، نقول: إن فرقة الأشاعرة هي من جملة الفرق التي انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة، وهم يعطلون أكثر الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه، ويقولون بأن الله تعالى يتكلم كلاما نفسياً، لا بحرف ولا بصوت، فخالفوا بذلك أدلة الكتاب والسنة، التي أثبتت صفة الكلام لله تعالى بحرف وصوت.

والكلام في هذا الكتاب من وجوه نذكرها:

أولاً: قضية الخلاف التي ذكرها الإمام ابن قدامة بين أهل السُّنة والأشاعرة؛ يُلخصه لنا في المُقدمة؛ فيقول: "موضع الخلاف أننا نعتقد أن القرآن كلام الله، وهو هذه المائة والأربع عشرة سورة، أولها سورة الفاتحة وآخرها المعوذات، وأنه سور وايات وحروف وكلمات، متلوٌ مسموعٌ مكتوبٌ. وعندهم -أي الأشاعرة -أن هذه السور والآيات ليست بقرآن وإنما هي عبارة عنه وحكاية وأنها مخلوقة"، والأشاعرة يُطلقون تسمية (القرآن) في الغالب على اللفظ العربي، الذي هو عبارةٌ عن كلام الله وحكايةٌ عنه، وأما (كلام الله) فيطلقونه على ما يُسمونه المعنى القائم بالنفس (الكلام النفسي)، وهذا عندهم على الحقيقة، أما على سبيل المجاز؛ فإنهم قد يُسمون اللفظ العربي كلاماً.

ثانياً: اختلاف المتكلمين في القرآن الكريم: اختلف المتكلمون بين كون القرآن الكريم هو عباراتٌ ألفها جبريل عليه السلام بإلهامٍ من الله تعالى، وهو قول أكثر الأشعرية والفلاسفة، وقال فريقٌ إن الله خلق القرآن في اللوح المحفوظ، وجبريل أخذها منه وهو قول المعتزلة، ثم إن القائلين بأن القرآن العربي هو قول جبريل، وليس قول الله تعالى طائفتان: إحداهما مُلحدة، والأخرى مبتدعة، وهما:

الأولى: طائفة من الفلاسفة والملاحدة، يقولون: إن كلام الله تعالى فاض على نفس النبيِّ صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال (جبريل)، وجبريل عندهم خيال يتمثل في نفس النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الثانية: بعض المنتسبين إلى الأشعري، وقد صرح به بعض كبار أصحابه؛ كأبي بكر بن الباقلاني، وغيره، وليس هو قول الأشعريِّ نفسه، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن حكى هذا عن الأشعريِّ فهو مُجازف".

(انظر الإنصاف؛ للباقلاني: 97، وحاشية الباجوري على الجوهرة: 95، ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 12/ 556- 558).

وقد ثبت في السُّنة أن الله سبحانه يتكلم بصوت، وذلك في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما؛ وثبت عن الصحابة ومن بعدهم إثبات الصوت لله سبحانه وتعالى. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه "السنة" (1/ 280): "سألت أبي رحمه الله عن قوم، يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت؛ فقال أبي: بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه «إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان» هذا الجهمية تنكره، وقال: من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، إلا إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت".

وقال البخاريُّ في "خلق أفعال العباد" (ض 98): "وإن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ذكره قال أبو عبد الله: " وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: {فلا تجعلوا لله أندادا} (البقرة: 22) فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين".

ثالثاً: أن القول بالكلام النفسي: مُحدثٌ مُبتدع، ولم يُعرف إلا في القرن الثالث الهجري، وأول من قال به ابن كُلاب (عبد الله بن سعيد بن كلاب)، وتبعه على ذلك أبو الحسن الأشعري، فأخذ مقالاته وخالفه في التسمية، ولم يرَ صحة إطلاق لفظ الحكاية من جهة المعنى؛ فقال: هو عبارة عن المعنى القديم، من ثمَّ الأشاعرة بعد ذلك، وهو مما اختص به الأشاعرة والكلابية دون بقية المبتدعة؛ وفساد هذا الكلام معلومٌ بالضرورة؛ لذلك فالأشاعرة يقولون: بأن الألفاظ والحروف التي بين أيدينا –في المصحف –مخلوقةٌ –وهو نفس كلام المعتزلة، وقد اعترف علماؤهم بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي، كما قال الرازي في (المحصل): "فالحاصل أن الذي ذهبوا إليه –يعني المعتزلة –فنحن لا نُنازعهم فيه"، وقال: "واعلم أننا لا ننازعهم في المعنى". 

ومن قولهم في ذلك: أن كلام الله معنىً واحد، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل محظور، والخبر عن كل مخبر، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنااً، وإن عبَّر عنه بالعبرية كان توراةً، وغن عبَّر عنه بالسريانية كان إنجيلاً (وهذا بناءً على ن المسيح عليه السلام كان سريانياً، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا غلط؛ بل لسانه عبراني كما في "الجواب الصحيح": 1/ 38، 214).

وذكر الأشاعرة أن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، هو معنى آية الطلاق... إلى غير هذا من العجائب (انظر عقيدتهم في: التمهيد؛ للباقلاني: 138، والإرشاد للجويني: 109، ونهاية الأقدام؛ للشهرستاني: 268، والأربعين للرازي: 1/ 244، والمحصل؛ للرازي –أيضاً: 173).

ولهذا قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه "هذا": "ومدار الْقَوْم -أي الأشاعرة -على القَوْل بِخلق الْقُرْآن ووفاق الْمُعْتَزلَة وَلَكِن أَحبُّوا ان لَا يعلم بهم فارتكبوا مُكَابَرَة العيان وَجحد الْحَقَائِق وَمُخَالفَة الْإِجْمَاع ونبذ الْكتاب وَالسّنة وَرَاء ظُهُورهمْ وَالْقَوْل بِشَيْء لم يقلهُ قبلهم مُسلم وَلَا كَافِر وَمن الْعجب انهم لَا يتجاسرون على إِظْهَار قَوْلهم وَلَا التَّصْرِيح بِهِ إِلَّا فِي الخلوات وَلَو أَنهم وُلَاة الْأَمر وأرباب الدولة".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (6/ 632-635) مُخاطباً الأشاعرة: "وكذلك قولكم في مسألة القرآن؛ فإنه لما اشتهر عند الخاص والعام أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة وأطفأ الفتنة فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك.

وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه، وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه، وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.

ذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم من فَعَلَ الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر وهذه أنواع الكلام لا صفاته، والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء.

وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه، فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، والحروف المؤلفة ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله كما قاله الأشعري.

ولا ريب أنكم خير من المعتزلة حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام… لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلاما مجازً…".

 إلى أن قال رحمه الله: "والمقصود أنكم لم يمكنكم أن تقولوا ما يقوله المسلمون؛ لأن حروف القرآن ونظمه ليس هو عندكم كلام الله، بل ذلك عندكم مخلوق: إما في الهواء وإما في نفس جبريل وأما في غير ذلك؛ فاتفقتم أنتم والمعتزلة على أن حروف القرآن ونظمه مخلوق، لكن قالوا هم: ذلك كلام الله، وقلتم أنتم: ليس كلام الله؛ ومن قال منكم إنه كلام الله انقطعت حجته على المعتزلة، فصارت المعتزلة خيراً منكم في هذا الموضع… ثم إنكم جعلتم معاني القرآن معنى واحدا مفردا وهو الأمر بكل ما أمر الله به، والخبر عن كل ما أخبر الله به؛ وهذا مما اشتد إنكار العقلاء عليكم فيه، وقالوا إن هذا من السفسطة المخالفة لصرائح المعقول".

وقال ابن القيم رحمه الله في "مختصر الصواعق المرسلة" (ص 524): "فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه، وهو كلام الله، وأنه غير مخلوق".

رابعاً: أن الله سبحانه قد تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه:

وقد ورد إثبات الحروف للقرآن في أحاديث كثيرة؛ فقد روى الترمذيُّ وصححه، من حديث عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقولُ "ألم" حرفٌ ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ).

وقال الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي في رسالته "تحريم النظر في كتب الكلام": "وأما إثبات حروف القرآن؛ فإن القرآن هو هذا الكتاب العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه؛ فله بكل حرف منه عشر حسنات، فمن أقر بهذا وعلمه فقد أقر بالحروف فلا وجه بعد ذلك لإنكاره ولا لمجمجته، ومن أنكر هذا ففي القرآن أكثر من مائة آية ترد عليه؛ فإجماع المسلمين يكذبه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم بكفره… ولأي معنى يجحد الحروف بعد هذا، مع أن لفظ الحروف قد نطق به النبي صلى الله عليه وسلم في أخباره وجاء عن أصحابه كثيراً وعن من بعدهم وأجمع الناس على عد حروف القرآن وآيه وكلماته وأجمعوا على أن من جحد حرفاً متفقا ًعليه من القرآن فهو كافر، فما الجحد له بعد ذلك إلا العناد".

وقال الإمام الموفق ابن قدامة في كتابه "حكاية المناظرة في القرآن": "ولم تزل هذه الأخبار وهذه اللفظة -يعني الحروف -متداولة منقولة بين الناس، لا ينكرها منكر، ولا يختلف فيها أحد إلى ان جاء الأشعري فأنكرها، وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم، ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا تترك الحقائق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة لقول الأشعري، إلا من سلبه الله التوفيق وأعمى بصيرته واضله عن سواء السبيل".

خامساً: أن قولهم في القرآن أنه كلام الله القديم، يلزم منه أنه لم ينزل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

ولازم قول الأشاعرة من أن القرآن الكريم هو كلام الله القديم الذي هو الكلام النفسي، يلزم منه أنه لم ينزل كلام الله تعالى على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن ما نزل هو العبارة والحكاية التي ألفها جبريل عليه السلام، وأنه لم ينزل من كلام الله شيءٌ على الرسل والأنبياء، وأن موسى لم يسمع كلام الله، وهذا تكذيبٌ لظاهر القرآن؛ وقد أكفر الله اليهود بقولهم: {ما أنزل الله على بشر من شيء} ثم قال: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} ثم قال {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام 91)

سادساً: الرد على قولهم -أي الأشاعرة -أن كلام الله لا يتعدد:

وقالت الأشاعرة إن كلام الله لا يتعدد؛ لأن ما يتعدد هو المخلوق: يُبطله القرآن، والسنة، وإجماع الأمة، وهذه السور في القرآن الكريم متعددة، وليست سورة النبأ هي سورة البقرة، وكذلك آياته مفصلة، ومقسمة، ومرتبة، قال قال عز وجل {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} (الأنعام 114)، وكذلك الكتب المنزلة متعددة من التوراة والإنجيل والقرآن، فلا يُقال هذا هو ذاك أو العكس، وكذلك فإن صفات الله تعالى مُتعددة، منها: السمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، ولا خلاف في أنها صفات قديمة، وكذلك أسماء الله متعددة، وهي غير مخلوقة؛ ولذا جاز الحلف بها، وكلمات الله متعددة؛ قال سبحانه: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}ً /الكهف 109/ وهي قديمة.

سابعاً: الرد على المبتدعة في نفي الحرف والصوت عن الله تعالى:

    وقد بيَّن رحمه الله أن هذا القرآن بحروفه وكلماته هو كلام الله تعالى حقيقةً، وقال ابن قدامة: "واحتجوا -أي المبتدعة -بأن هذه الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات فلا يجوز إضافة ذلك إلى الله سبحانه؟!".

 قال: "والجواب عن هذا من أوجهٍ:

 أحدها: ما الدليل على أن الحروف لا تكون إلا من مخارج وأدوات؛ فإن قالوا لأننا لا نقدر على النطق بها إلا من مخارج وأدوات فكذلك الله رب العالمين، قلنا هذا قياس لله تعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وإلحاق لصفاتهم بصفاته وهذا من أقبح الكفر وقد اتفقنا على أن الله تعالى لا يشبه بخلقه وأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى 11).

الثاني: أن هذا باطل بسائر صفات الله تعالى؛ فإن العلم لا يكون في حقنا إلا بقلب، والسمع لا يكون إلا من انخراق والبصر لا يكون إلا من حدقة، والله تعالى عالم سميع بصير، ولا يوصف بذلك.

فإن نفيتم الكلام لافتقاره في زعمكم إلى المخارج والأدوات فيلزمكم نفي سائر الصفات وإن أثبتم له الصفات ونفيتم عنه الأدوات لزمكم مثل ذلك في الكلام وإلا فما الفرق بينهما.

الثالث: إن الله تعالى أنطق بعض مخلوقاته بغير مخارج؛ فإنه قال تعالى: {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} (يس 65) وقال تعالى: {حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} (فصلت 20 21)، واخبر عن السماء والأرض أنهما: {قالتا أتينا طائعين} (فصلت 11)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن حجرا كان يسلم عليه) و(سبح الحصى في يديه)... ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم من غير مخارج فلم لا يقدر سبحانه على التكلم إلا من المخارج.

ثامناً: الرد على المبتدعة (الأشاعرة) في نفيهم تعاقب الحروف والكلمات:

قال ابن قدامة رحمه الله: "واحتجوا بأن الحروف يدخلها التعاقب؛ فيسبق بعضها بعضاً"، قال: "والجواب أن هذا إنما يلزم في حق من يتكلم بالمخارج والأدوات والله سبحانه لا يوصف بذلك، وعلى أن هذا يعود إلى تشبيه الله تعالى بعباده فإنه لا يتصور في حقه إلا ما يتصور منهم وهو باطل في نفسه". ولفظ التعاقب مُجملٌ في اعتراضات أهل البدع، وهو واردٌ عندهم على معنيين: أولهما حق، والثاني باطل.

أما الأول: فعلى أن الحروف يسبق بعضها بعضاً في نظم الكلام؛ فالسين عقب الباء، والميم عقب السين في كلمة (بسم) مثلاً، وهذا التعاقب ورادٌ في كلام الله تعالى، وهو ظاهرٌ في القرآن، وليس فيه دليلٌ على خلق الحروف في كلام الله؛ لأنه تعالى يتكلم بمشيئته واختياره؛ فهو يتكلم كلاماً بعد كلام، ويدخل في كلامه السكوت إذا لم يُرد الكلام.

الثاني: أنه تعالى يتكلم على صفة تكلم المخلوق؛ فيدخل في كلامه السكوت لانقطاع النفس، وغير ذلك مما هي صفة المخلوق، وهذا باطلٌ لم يقل به أحدٌ من أهل السنة، وأهل البدع معهودٌ منهم قياس صفة الخالق بصفة المخلوق، فيقع التعطيل، وأهل السنة يقولون: كيفية تكلم الرب تعالى مجهولة للعباد، وهو لا يُشبه تكلمهم.

ولما اعترض الأشاعرة ومن وافقهم على تسمية حروف القرآن حروفاً؛ وقالوا: كيف تقولون هو حروف ولم ينطق بذلك كتاب ولا سُنة، ولا إجماع؟! أجاب عليهم الإمام ابن قدامة رحمه الله: "فإن قالوا -أي الأشاعرة -فكيف قلتم: إن القرآن حروف ولم يرد في كتاب ولا سنة ولا عن أحد من الأئمة. 

قلنا: قد ثبت أن القرآن هو هذه السور والآيات، ولا خلاف بين العقلاء كلهم مسلمهم وكافرهم في أنها حروف، ولا يختلف عاقلان في أن {الحمد} خمسة أحرف… وقد افتتح الله تعالى كثيراً من سور القرآن بالحروف المقطعة مثل {الم} و {الر}، ولا يجحد عاقل كونها حروفاً إلا على سبيل المكابرة وهذا أمر غير خاف على أحد فلا حاجة إلى الدليل عليه.

فإن قالوا: لا يسوغ لكم أن تقولوا لفظة لم ترد في كتاب ولا سنة وإن كان معناها صحيحاً ثابتاً؟! 

قلنا: هذا خطأ؛ فإنه لا خلاف في أنه يجوز أن يقال إن القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وإن سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية، ولا خلاف في عد آي سور القرآن وأحزابه وأسباعه وأعشاره ولم يرد لفظ في ذلك في كتاب ولا سنة، على أن لفظ الحرف قد جاءت به السنة وأقوال الصحابة وإجماع الأمة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف منه حسنة) وهذا حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم)... وقال علي رضي الله عنه من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله، وقال ايضاً: تعلموا البقرة فإن بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشرة أمثالها … واتفق أهل الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام على عدد حروف القرآن فعدها كل أهل مصر وقالوا عددها كذا وكذا".

قال ابن قدامة: "ولم تزل هذه الأخبار وهذه اللفظة -أي وصف القرآن بأنه هذه الحروف والكلمات -متداولة منقولة بين الناس لا ينكرها منكر ولا يختلف فيها أحد إلى ان جاء الأشعري فأنكرها وخالف الخلق… ولا تأثير لقوله عند أهل الحق، ولا تترك الحقائق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق وأعمى بصيرته واضله عن سواء السبيل" ومن قبله ابن كلاب، الذي جرى الأشعريُّ على أثره.

تاسعاً: الرد على المبتدعة في نفيهم إطلاق صفة (الصوت) على كلام الله عز وجل:

قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وقالوا أيضا قد قلتم إن الله يتكلم بصوت ولم يأت كتاب ولا سنة؟!.

 قلنا: بل قد ورد به الكتاب والسنة وإجماع أهل الحق؛ أما الكتاب فقول الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} (النساء 164)، وقوله تعالى: {منهم من كلم الله} (البقرة )254، وقوله تعالى: {وإذ نادى ربك موسى} (الشعراء 10)، ولا خلاف بيننا أن موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة، ولا يسمع إلا الصوت؛ فإن الصوت هو ما يتأتى سماعه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (إن الله يجمع الخلائق فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب: أنا الملك أنا الديان)،  وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) قال أبو نصر السجزي رحمه الله وهذا الخبر ليس في رواته إلا إمام مقبول، وذكر عبد الله بن أحمد انه قال سألت ابي فقلت يا أبه إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت؛ فقال: هؤلاء جهميةٌ، كذبوا إنما يريدون على التعطيل".

ولكن جمهور الأشاعرة أبوا التسليم لكون موسى عليه السلام سمع كلام الله على الحقيقة، وقالوا: سمع العبارة عن كلام الله، وهذا تكذيبٌ للقرآن؛ وكل ذلك لتقرير بدعتهم في نفي تكلُّم الرب تعالى بصوت، وربما صرَّح بعضهم بكون موسى سمع كلام الله بغير صوت، حيث سمع معنىً مجرداً، وهو من تناقضهم الفاضح، ومكابرتهم للمعقول والمنقول، إذ ليس عندهم عليه حجة: لا عقلية ولا شرعية، والله تعالى إنما خاطب العباد بهذا الكلام العربي المُبين، ولا يُعرف فيه سماعٌ بغير صوت، ولكن هذا شأن الابتداع وترك الاتباع، يُضل عن الهدى، ويُبعد عن الصواب.

عاشراً: الرد على المبتدعة (الأشاعرة) في قولهم: الصوت لا يكون إلا من هواء بين جرمين:

قال الإمام الموفق بن قدامة المقدسي: "فإن قالوا: فالصوت لا يكون إلا من هواء بين جرمين؟! قلنا هذا من الهذيان الذي أجبنا عن مثله في الحرف وقلنا: إن هذا قياسٌ منهم لربنا تبارك وتعالى على خلقه، وتشبيه له بعباده وحكم عليه بأنه لا تكون صفته إلا كصفات مخلوقاته وهذا ضلال بعيد، ثم إنه يلزمهم مثل هذا في بقية الصفات على ما اسلفناه".

حادي عشر: الرد على الأشاعرة الذين يقولون: ما بين أيدينا ليس هو القرآن:

وقد استدل ابن قدامة على أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن الذي هو كلام الله: بالكتاب والسنة والإجماع، وذكر طائفةً كبيرة من الآيات والأحاديث المؤيدة لذلك، ثم قال: "ولا خلاف بين المسلمين كلهم في أنهم يقولون قال الله كذا إذا أرادوا أن يخبروا عن آية أو يستشهدوا بكلمة من القرآن ويقرون كلهم بأن هذا قول الله، وعند الأشعري ليس هذا قول الله وإنما هو قول جبريل فكان ينبغي لهم أنهم يقولون قال جبريل أو قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكوا آية؛ فإذا لم يكن القرآن هذا الكتاب العربي الذي سماه الله قرآناً، فما القرآن عندهم وبأي شيء علموا أن غير هذا يسمى قرآنا".

ثم ذلك دلالة العقل على أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو القرآن؛ فقال: "فإن تسمية القرآن إنما تعلم من الشرع أو النص؛ فأما العقل فلا يقتضي تسمية صفة الله قرآنا وما ورد النص بتسميته القرآن إلا لهذا الكتاب ولا عرفت الأمة قرآنا غيره".

ولما أورد الأشاعرة عليه شُبهة أن القرآن اسمٌ لكل ما يُقرأ أي يُتلى، واسمٌ لكل ما يُجمع، وأن هذا الاسم (القرآن) إنما هو من باب المشترك اللفظي، وأن الكتاب الذي بين أيدينا يُسمى قرآنا باعتبار أنه مجموع ومتلو، ويُمكن أن يُطلق ذلك على أي كتابٍ آخر، قال ابن قدامة في الرد عليهم: "وتسميتهم غيره قرآنا تحكم بغير دليل شرعي ولا عقلي مخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة ومدار القوم على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة ولكن أحبوا أن لا يعلم بهم؛ فارتكبوا مكابرة العيان وجحد الحقائق ومخالفة الإجماع ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم والقول بشيء لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر".

وذكر ابن قدامة أن قول الأشاعرة بخلق القرآن هي من جملة العقائد التي أخفوها عن الناس، ولا يذكرونها إلا في خلواتهم، وأما أمام الناس فيُظهرون خلاف ذلك؛ فقال: "ومن العجب أنهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات، ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة. وإذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها كرهوا ذلك وأنكروا وكابروا عليه، ولا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن وتبجيل المصاحف والقيام لها عند رؤيتها، وفي الخلوات يقولون ما فيها إلا الورق والمداد وأي شيء فيها وهذا فعل الزنادقة".

وحكى ابن قدامة ما جرى بينه وبين الذي ناظره من حقيقة الحال: "ولقد حكيت عن الذي جرت المناظرة بيني وبينه بعض ما قاله؛ فنقل إليه ذلك فغضب وشق عليه وهو من أكبر ولاة البلد، وما أفصح لي بمقالته حتى خلوت معه، وقال: أريد ان أقول لك أقصى ما في نفسي وتقول لي اقصى ما في نفسك وصرح لي بمقالتهم على ما حكيناه عنهم، ولما الزمته بعض الآيات الدالة على أن القرآن هو هذه السور، قال: وأنا أقول إن هذا قرآن ولكن ليس هو القرآن القديم، قلتُ: ولنا قرآنان قال: نعم! وأي شيء يكون إذا كان لنا قرآنان، ثم غضب لما حكيت عنه هذا القول. وقال له بعض أصحابنا (يعني الحنابلة): أنتم ولاة الأمر وأرباب الدولة فما الذي يمنعكم من إظهار مقالتكم لعامة الناس ودعاء الناس إلى القول بها بينهم؛ فبهت ولم يجب إليه، ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها الا الزنادقة والأشعرية".

ثاني عشر: ما ترتَّب على قول الأشاعرة من القول بخلق القرآن:

ترتبت أشياء كثيرة على قول الأشاعرة بخلق القرآن، منها: نفي أن يكون الباري سبحانه تكلم به، وقد ردَّ عليهم ابن قدامة بقوله: "وعند الأشعري أنها مخلوقة فقوله قول المعتزلة لا محالة إلا أنه يريد التلبيس فيقول في الظاهر قولا يوافق أهل الحق ثم يفسره بقول المعتزلة فمن ذلك أنه يقول القرآن مقروء متلو محفوظ مكتوب مسموع ثم يقول القرآن في نفس الباري قائم به ليس هو سوراً ولا آيات ولا حروفاً، ولا كلمات فكيف يتصور إذا قراءته وسماعه وكتابته ويقولون إن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون إن القرآن مكتوب في المصاحف ثم يقولون ليس فيها إلا الحبر والورق فإن كانت كما زعموا فلم لا يمسها الا المطهرون وما رأينا المحدث يمنع من مس حبر ولا ورق ولم تجب الكفارة على الحالف بالمصحف إذا حنث ومن قال إنه ليس في المصحف إلا الحبر والورق لزمه التسوية بين المصحف وبين ديوان ابن الحجاج لأنه إذا لم يكن بين كل واحد منهما غير الحبر والورق فقد تساويا فيجب تساويهما في الحكم…

 واتفق المسلمون كلهم على تعظيم المصحف وتبجيله وتحريم مسه على المحدث أن من حلف به فحنث فعليه الكفارة ولا تجب الكفارة بالحلف بمخلوق".

ثالث عشر: بيان الإمام ابن قدامة لحقيقة مذهب الأشاعرة:

وقد بين الإمام ابن قدامة حقيقة مذهب الأشاعرة، وإن لم يكونوا يلتزمون هذه الحقائق، وشدَّد عليهم القول حتى اتهمهم بالزندقة، والمروق من الملة، وهذا عظيمٌ حقاً؛ فقال رحمه الله: "وحقيقة مذهبهم أنه ليس في السماء إله، ولا في الأرض قرآن، ولا أن محمدا رسول الله، وليس في أهل البدع كلهم من يتظاهر بخلاف ما يعتقده غيرهم، وغير من أشبههم من الزنادقة"؛ فالله تعالى عند متأخريهم في كل مكان على تفسيرٍ لهم، وأما إثبات أن الله تعالى في السماء مستوٍ على عرشه، وأن له الفوقية والعلو فهذا يستحيل عندهم؛ فيردون ما نطق به القرآن الكريم؛ لأجل أقيسة عقولهم التي شبَّهت، فعطلت تبعاً للجهمية، ثم زادوا عليهم في التأويل. وأما عند متقدميهم؛ فجمهورهم على إثبات العلو والفوقية لله تعالى كما نطق به الكتاب والسنة، وجرى عليه سلف الأمة.

 قال رحمه الله: "ومن العجب أن إمامهم الذي أنشأ هذه البدعة رجلٌ لم يعرف بدين ولا ورع ولا شيء من علوم الشريعة البتة، ولا ينسب إليه من العلم إلا علم الكلام المذموم وهم يعترفون بأنه أقام على الاعتزال أربعين عاماً، ثم أظهر الرجوع عنه فلم يظهر منه بعد التوبة سوى هذه البدعة؛ فكيف تصور في عقولهم أن الله لا يوفق لمعرفة الحق إلا عدوه ولا يجعل الهدى إلا مع من ليس له في علم الاسلام نصيب ولا في الدين حظ"، ويعتقد الأشعري وبعض أتباعه كأبي بكر بن فورك، وأبي القاسم القشيري: أن رسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم انقطعت بموته، كما ذكر الإمام ابن قدامة، ويُنكر ذلك بعض محققي الأشعرية، ويعدونه من الافتراء عليهم؛ فالله أعلم بحقيقة ذلك.

قال رحمه الله: "ثم إن هذه البدعة مع ظهور فسادها وزيادة قبحها قد انتشرت انتشارا كثيرا وظهرت ظهورا عظيما وأظنها آخر البدع وأخبثها وعليها تقوم الساعة وأنها لا تزداد إلا كثرة وانتشارا"، وكون بدعة الأشعرية لا تزداد إلا انتشاراً هذه حقيقةٌ صائبة، يُصدقها التاريخ والواقع؛ فهي بعد عصر المؤلف زاد اتباعها وكثروا، وعظمت الفتنة بهم.

وذكر كلاماً نفيساً في الرد على هذه المقالة الكتمانية، وأطال في الجواب عنها، وبيَّن أن التمسُّك بالسُّنن السالفات هو طريق الهداية، وأن انتشار بدعة الأشعرية من علامات تغيُر الزمان.

رابع عشر: الردُّ على أهل البدعة (الأشاعرة) في استدلالهم بالكثرة والجاه والمنعة والسلطان:

قد يستدل أهل البدعة بكثرتهم وأنهم نصف أو ثلثي الأمة، وهذا مع كونه غير حقيقي، إلا أن هذه الكثرة لا تُغني من الحق شيئاً، كون هذه الأمة لم تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة قليلة متمسكون بالحق، الذي كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب الإمام ابن قدامة رحمه الله على هذه الشبهة القديمة الجديدة: "ومن العجب أن أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم، وظهورهم ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم؛ فيجعلون ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم دليل الحق وعلامة السنة دليل الباطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق فقال قوم نوح له {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}(هود 27)، وقال قوم صالح فيما أخبر الله عنهم بقوله {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه} (الأعراف: 75)، وقال قوم نبينا صلى الله عليه وسلم {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} (سبأ 35)...

ونسوا قول الله تعالى {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (الرعد 26)، وقوله سبحانه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} (الكهف 28).. وقوله {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} (الحجر 88)، وقال تعالى {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة} إلى قوله {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} (الزخرف 33 35)".