شبهات وردود
قد يتوهم البعض أن الدعوة إلى الله عز وجل تقتصر على رجال الدين أو
أصحاب التخصصات الشرعية فقط دون غيرهم ، ويقول : إن واجب الدعوة إلى الله لا يلزمني ؛ لأن القيام بالدعوة واجبٌ
كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع ،
ويستدلون بقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[آل
عمران:104]؟
والجواب على ذلك من عدة وجوه:
أولاً- لا شك
أن الدعوة إلى الله تعالى يشترط لها العلم ،ولكن العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ
ولا يتبعض ، وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض ،فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم
بالأولى جاهل بالثانية ،ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الأولى ، وبالتالي
فقد توفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل.
ثانياً- لا
خلاف بين الفقهاء أنه من جهل شيئاً أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه ؛ لأن العلم بصحة
ما يدعو إليه الداعي شرطٌ لصحة الدعوة ،وعليه فإن كل مسلم يدعو بالقدر الذي يعلمه.
ثالثاً- أن (مِنْ) في الآية
الكريمة ليست تبعيضية وإنما هي بيانية ، وذلك لأن الله عز وجل أوجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله :{ كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ،
وعليه فإنه يجب على كل مكلف وجوباً عينياً أن يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، ولا يعفى من ذلك مسلم ، فيكون معنى الآية:
كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
وذلك كقوله تعالى:{ فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج:30]،فـ(مِنْ) هنا بيانية ،والمعنى اجتبوا الرجس الذي هو الأوثان كما
تجتنبون النجاسات الحسية.
وعليه فمعنى الآية: لتكونوا الأمة التي تدعوا إلى الخير وتأمر
بالمعروف وتنهى عن المنكر حتى تفلحوا.
رابعاً- وعلى
فرض أن من هنا للتبعيض فإن وجود فرقة متصدية لهذا الشأن من العلماء والدعاة لا
ينافي وجود غيرهم من عامة الناس ، وذلك لأن كل مسلم يدعو بحسب القدر الذي يعلمه ، ولأن
الأمر بالدعوة إلى الله عام فيشمل العلماء ومن دونهم ، قال ابن كثير في تفسيره :"والمقصود من هذه الآية، أن تكون
فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة
بحسبه".
خامساً- صحيح
أن الدعوة إلى الله تعالى واجبٌ كفائي إن قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ،
فإذا حصل المقصود بفرد أو مجموعة أفراد لم يطالب الآخرون به ، والحاصل أنهم إذا لم
يقم أحد بواجب الدعوة أثم الجميع المتأهل للدعوة وغير المتأهل ، فإذا كان الكل
يشترك في الإثم عند عدم الدعوة ، فمن باب أولى أن يتشاركوا في أجر الدعوة إلى الله
تعالى.
سادساً- إن المسلم يدعوا
إلى الله عز وجل باعتباره مسلماً مؤمناً بالله ورسوله قبل
كل شئ ، قال تعالى:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى
اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ، فلا بد لكل مسلم أن يدعو إلى الله ،فإذا لم يقم
بواجب
الدعوة
،وقام بالدعوة مسلم آخر فإن الداعي الأخير يؤجر دون الأول.
سابعاً- أن المسلم إذا لم
يقم بواجب الدعوة إلى الله تعالى لم يكن منضوياً تحت مفهوم هذه الآية:{ قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108].؛لأن أتباع الرسول هم الذين يدعون إلى الله عز وجل.
ثامناً- إن شرط
الخروج من عهدة الفرض الكفائي حصول الكفاية بمن يقوم به ، ولمَّا كانت الكفاية غير
حاصلة ، فيجب أن يقوم بالدعوة كل مسلم حسب قدرته ، لا سيما في زماننا حيث لا يزال
الشرك والوثنية والجاهلية تغشى مجتمعات كثيرة ، ونشر هذه الدعوة يحتاج إلى جهود
جبارة يشترك فيها جميع المسلمين كل حسب استطاعته.
تاسعاً- الدعوة
إلى الله ليس لها صورة واحدة ، فقد تكون الدعوة إلى الله بالمال أو التعليم
والمحاضرات، أو الفكر والكتابة ، أو السلطان،ونحو ذلك ،فيتمكن كل فرد من أفراد
المسلمين أن يساهم في نشر الدعوة بحسب استطاعته وقدراته ، وهذا يدخلها في حيز
الاستطاعة الذي هو شرط التكليف.
فإن قيل: إن
في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فماذا
تقولون؟
نقول وبالله التوفيق: هذه حجَّةٌ واهية ، وهي ناشئة عن ضعف الإيمان ،
وقلة الورع والعلم وعموم الجهل ، فإذا كان المسلم لا يستطيع أن يدعو إلى الله
تعالى بلسان مقاله ، فلتكن دعوته بلسان الحال فيكون قدوة حسنة لغيره من عامة
المسلمين ، ولا يعفى مسلم من إنكار المنكر ، ولا يعذر بجهله لأنه مطالب بالتعلم ،
وذلك بحسب ما جاء في الحديث عن رسول الله r :" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ
مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يُغَيِّرَهُ
بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإيمان" رواه مسلم.
فإن قيل: ما تقولون فيمن
يحتج بهذه الآية:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة:105] ليبرر قعوده وتقاعسه عن الدعوة إلى الله جل وعلا ؟
نقول وبالله التوفيق : رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ خَطَبَ
فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا
يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ:
"إِنَّ
النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ،
فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِ"رواه أحمد.
وأما معنى الآية فهو أن ضلال غيركم لا يضركم ما دمتم مهتدين ،ومن
الإهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فإن ترك المؤمنون ذلك فإنهم غير مهتدين
، لأن السكوت على المنكر سبب في انتشاره وذيوعه بين المسلمين ، وبالتالي يكون سبب
ضلالهم وعدم اهتدائهم.
فإن قيل:إن الباطل قد انتشر في الأرض ولم تَعُدِ الدعوةُ إلى الله
تعالى تنفع شيئاً وعلى المسلم أن يهتم بنفسه ويدع أمر الخلق للخالق؟
والجواب :إن الواجب على المسلم القيام
بواجب الدعوة إلى الله تعالى سواءاً استجاب الناس أو لم يستجيبوا،وبذلك يكون قد
أقام الحجة عليهم بالتبليغ،قال تعالى:{وَإِذْ قَالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]،
فالهدف الأساسي من الدعوة إلى الله عز وجل
أمرين:
*
تقديم العذر إلى الله تبارك وتعالى بتبليغ الدعوة للناس.
*
قد تكون هذه الدعوة سبب في حصول الهداية والاستجابة والرجوع إلى
الحق
والصواب.
فإن قيل:فإن الله تعالى يقول:{
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }[البقرة:286]،ويتعلل
بأن الدعوة إلى الله تسبب له من التعب والمرض والنصب ما لا يستطيع تحمله؟
فالجواب من وجوه:
أولاً- إن هذه الحجة ضعيفة واهية يتشبث بها ضعيف
الإيمان رقيق الدين الذين لم يتمكن الإيمان منهم بعد.
ثانياً- أنه لو كان هذا التعب والنصب الذي يتحدث
عنه في مقابل جمع المال وحصول المنافع الدنيوية والمادية لتحمله وصبَّر عليه نفسه ،
فإذا كان ذلك كذلك فمن باب أولى أن يتحمَّل شيئاً من التعب في سبيل الدعوة إلى
الله تعالى،خاصَّةً وأن أجرها عظيمٌ في الآخرة،فكيف لهذا أن يقدم ثواب الدنيا على
ثواب الآخرة!!؟،وما عند الله أعظم.
ثالثاً-إن التعب المبذول في تعليم الناس الخير
يسير بالنسبة إلى غيره من الأعمال الدنيوية ،وهل يتعب إذا حرَّك لسانه بالكلام
الطيب أو أعمل فكره في أمور المسلمين ولا يتعب إذا ظل طوال اليوم يرهق جسده
بالأعمال الشاقة؟؟!!.
رابعاً-أليس لك قدوة حسنة في رسول الله r الذي لاقى في الله
ما لاقى من ألوان العذاب والأذى في سبيل أن تبلغك الرسالة وينقذك من النار،ثم أنت
تعرض عن دعوته وَتُقْبِلُ على الدنيا؟؟؟!!!
خامساً- أليس لك قدوة في السلف الصالح الذين
حملوا لك الدين وتحملوا حرَّ الشمس وشدة التعذيب وقطعوا المسافات الشاسعة التي تقطع أعناق الإبل من أجل
أن تبلغك الرسالة ، وتصلك الدعوة كل ذلك فعلوه من أجل إنقاذنا من النار ،فهلاّ كنت
سبباً في إنقاذ غيرك من ضُلّالِ هذه الأُمَّةِ!.
سادساً- ألا تنظر إلى أهل الكفر والأوثان كيف يدعون
الناس إلى معتقداتهم الباطلة المنحرفة والتي فيها هلاك الناس والإفساد في الأرض وينشرون
ذلك بكل الطرق الممكنة ،ثم أنت يا صاحب الحق والدعوة المباركة تُعْرِضُ عن دعوتك
ودينك إنَّ هذا لهو الضلال البعيد.
سابعاً-إن الإسلام دين الخير والرحمة ،ونحن بهذه
الدعوة إنما نحمل الخير والبركة للعالم كله ،أفلا تكون جندياً في الحق والخير؟ ، أفلا
نستحي من أنفسنا أن نستكثر هذا الجهد البسيط في خدمة دين الله والدعوة إليه ؟!!.
....................................................
المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم. 2- تفسير ابن كثير. 3-
صحيح مسلم. 4-مسند أحمد.
5-أصول الدعوة د.عبد الكريم زيدان.