أربعون حديثاً في اصطناع المعروف
للحافظ المنذري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ من علامات الخير والسعادة اصطناع المعروف، وأحسن الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وقد سخَّر الله طائفة من عباده لخدمة الناس، وقضاء حوائجهم، وأثابهم على ذلك في الدنيا، وبيّن في كتابه وعلى لسان رسوله عظيم جزائهم في الآخرة، فجعلهم في أمنٍ من عذابه، وغفر لهذا الساعي على حاجة إخوانه ما تقدم من ذنوبه، وكتب له براءة من النار، وكل عملٍ صالحٍ قُصد به وجه الله تعالى، فهو خيرٌ وبر، وهو قربة وعبادة، وفي الحديث: (كل معروف صدقة).
فما أجمل أن يكون المرء في حاجة أخيه، يشبع جوعته، وينفس كربته، ويكسو عورته، ويقضي دينه، ويزيل عسرته، ويعفو عن زلته، ويواسيه في مصيبته، ويشفع له في شدته، ويغيثه عند لهفته، ويراعيه عند فاقته، ويرفق به عند نصيحته، ولذلك قال الإمام أحمد الناس يحتاجون إلى مُدراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلاً مُعلناً بفسق، فإنه لا حُرمة له. (اختيار الأولى ص ٨٥).
وقد جعل ربنا سبحانه أنفعُ الذَّخَائِر عنده البر التَّقوَى، وأضرها الإثم العُدوَان؛ وجعل المنفق يوم القيامة في ظل صدقته، ووعد من يسر على معسر أن ييسر عليه، ومن ستر مسلماً أن ستر عليه، وحض على ذلك في آيات كثيرة منها قوله جل شأنه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: ٢)،
وهذا الجزء الحديثي الصغير جمع فيه الحافظ المنذري أربعين حديثاً في اصطناع المعروف والشفقة على عباد الله، وذكر فيها ما ثواب من يفعل ذلك، وأن جزاء الإحسان إلى الناس إحسان الرب تعالى إلى هذا العبد، وتوفيقه، وتأييدهن ونصرته، وتيسير أموره، ويذكر مع كل حديث من خرجه، واختلاف ألفاظه، ومعناه في الصحيحين، مقتصراً في ذلك على الأحاديث التي لم يطعن في إسنادها طعناً شديداً.
مقدمة وزارة الأوقاف المغربية
إن أحسن ما يشتغل به المسلم في باب العلم، وأفضل مــا يعتني به المؤمن بعد القرآن الكريم هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنته قولاً وفعلاً وتقريراً؛ إذ هي في المعنى من وحي رب العالمين، وهي تبيان للذكر الحكيم، وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي واستنباط أحكامه، وهي منبع التوجيه والإرشاد للإنسان في كافة أموره وشؤون حياته، الدينية منها والدنيوية، مصداقاً لقول الله تعالى في حق رسوله الكريم: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس من نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}، وقوله سبحانه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.
وهذه المكانة للسنة النبوية جعلت المسلمين عامة، وعلمائهم خاصة يعتنون بها كامل العناية، ويتدارسونها بالسند والرواية خلفا عن سلف، ويحرصون على حفظها في الصدور، وتدوينها في الكتب بين السطور، بعد تمييز صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها؛ حتى تكون بين يدي المسلم خالصة وسليمة من شوائب الخلط والوضع والافتراء، رغبة منهم في أن يشملهم دعاء الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرُبّ مبلغ أوعى من سامع»، وتحقيقاً لوعده صلى الله عليه وسلم حين قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».
وإن من جوانب هذا الاعتناء بالسنة النبوية، انتقاء العلماء لعديد الأحاديث التي تدور حول موضوع من المواضيع، كالآداب، أو الزهد، أو الجهاد، أو الطب، أو غيرها، وجمعها في مصنف صغير يسهل الرجوع إليه عند الحاجة، ويتيسر تداوله بين الخاصة والعامة وغالباً ما يقتصرون في ذلك على أربعين حديثاً، كما فعل كثير من أقطاب العلماء ابن المبارك، والحسن بن سليمان النسائي والحاكم والبيهقي، والإمام النووي الذي جمع أربعين حديثاً متنوعة الموضوعات، كل حديث منها يعتبر قاعدة من قواعد الدين، وصفه العلماء بأن عليه مدار الإسلام، وذلك رغبة منهم في نشر السنة بهذه الطريقة، ودخولهم في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: (من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله في زمرة الفقهاء والعلماء)، وفي رواية: «كنت له شفيعاً وشهيداً»، وفي رواية : قيل له: «ادخل من أي أبواب الجنة شئت».
وقد سار على هذا النهج القويم، وسنن السلف الصالح من علماء المسلمين، زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري صاحب الكتاب الشهير في الحديث: «الترغيب والترهيب» وغيره من الكتب الجليلة، المتوفى سنة ٦٥٦ هـ، فانتقى رحمه الله ـ أربعين حديثاً في اصطناع المعروف إلى المسلمين، وقضاء حوائج الملهوفين، لما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكانة وأثر في نفوس المؤمنين، وتوجيه حياة المسلمين إلى فعل الخير والتسابق إليه.
ولما لهذا العمل من فضل وثواب لصاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الدال على الخير كفاعلـه خـاصـة والناس في زمان أصبحوا فيه منشغلين بنفوسهم، ومفتونين بالدنيا أكثر من أي وقت مضى، غافلين عن اصطناع المعروف إلى الناس، فصاروا في أمس الحاجة إلى التذكير بآيات الله وحديث رسوله في هذا المجال، فإن الإيمان -كما قال عليه الصلاة والسلام- (بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فاصطناع المعروف إلى الناس شعبة من شعب الإيمان، وعمل مرغب فيه من أعمال الإسلام، ويحفظ من مصارع السوء كما قال العلماء.
وإسهاماً من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في خدمة السنة النبوية، ومواصلة منها للسير في إحياء التراث الإسلامي الأصيل يسعدها ويسرها أن تتقدم بإعادة طبع هذا الكتاب، حتى يكون في متناول عامة المواطنين وجمهور المسلمين، وخاصة المهتمين منهم بالدراسات الإسلامية والقائمين على شؤون الإرشاد والتوعية الدينية، حتى يستفيدوا منه ويفيدوا، ويكون له أثر في بث الفضيلة، وغرس روح المحبة والتعاون على كل خير ومعروف، والتسابق إليه بين كافة الناس عملاً بقول الله تعالى في وصف المؤمنين: {إن الذين هم خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هو بربهم لا يشركون، والذين يـوتـون مـا أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}.
نسأل الله تعالى أن يحقق النفع بهذا الكتاب للخاص والعام من أُمة الإسلام، وأن يجعل إعادة طبعه من حسنات مولانا الإمام أمير المؤمنين جلالة الحسن الثاني الراعي الأمين لشؤون الدنيا والدين في هذا البلد المسلم العزيز، كما نسأله تعالى أن يقر عينه بسمو ولي عهده الأمير الجليل سيدي محمد، وصنوه الأمير مولاي رشيد وسائر أسرته الكريمة إنه سميع مجيب.
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية- الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري.
***
وأول من عني بتجميع هذه الأحاديث الأربعين التي تحث على اصطناع المعروف إلى المسلمين وقضاء حوائجهم: أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المُنذِرِي (٥٨١ - ٦٥٦ هـ)، ومع أنه لم يدل على مواضعها من كتب الحديثِ، فَإِنَّهَا قَدْ لَقِيتُ لَدَى أَهْلِ المعروفِ وَالدَّالِينَ على الخير في الوسط الإسلامي مِنَ الاعتناء بها، والنظر في لمعانيها، وكثرة الطالبين تها ـ ما حَدًا أبا عبد الله محمد ابن إبراهيم بن إسحاق - إِسْحَاقَ السلمي (المتوفى سنة ٨٠٣ هـ) أن يخرج أحاديثها، وَأَنْ يَشْرَحَها وَيُضِيفَ إِلَيْهَا زيادات اسْتَحْسَنَها.
وعزم أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن مخلوفِ التَّعَالِيُّ المُتَوَفِّى سَنَةَ وَعَزَمَ ٨٧٥ هـ) على تأليف كتابه: «الأنوار المضيئة، في الجمع بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالحقيقة)؛ فرغب أن يقيم له شرحاً لهذه الأربعين، وَقَدْ عَمدَ إلى شرح السَّلمِي؛ فَلَخَصة وأضاف إليه ملاحظاتِ عَنْتْ لَهُ، وَبِهَذَا صَيْرَهَا التَّعَالِيُّ دِيبَاجَةَ لِكِتَابِهِ، ثُمَّ الحق بها ما يقول إنها: جملة أبواب مستحسنة، مشتملة على أحادِيثَ مختارَةِ مِنْ غيرِ مَا فَنَ يستعين بها السالك المريدُ لِحَرَثِ الْآخِرَةِ».
وقد رأينا أن نعيد لهذه الأربعين حديثا اسمها القديم، وتخرجها للنَّاسِ في صورتها المستقلة التي أرادها لها جامعها وشارحها قبل الثعالبي؛ لتكون دلالتها على الهدف الذي قصدنا إليه أوضَحَ واسْتَفَدُنَا مِنْ عَمَلِ الثعالبي في التلخيص والتقريب والترتيب».
والإسلام من أبرز صفاتِهِ أنَّه يتدخل - بصورة دائمة - في توجيه الحياة الْإِنْسانِيَةِ الوجهة التي يراها تكفل الحياة السعيدة الكريمة الإنسان في دَنْيَاة وفي دينِهِ مَعَا؛ فَهُوَ يَتَدَخَلَ فِي مُعْتَقدِ الإنْسانِ يوجهُهُ، وَفي أَعْمَالِهِ الدِّينِيَّةِ التي تَصِلُهُ بِرَبِّهِ وَالَّتِي تَصِلُهُ بِأَخِيهِ الْإِنْسانِ، فَرْدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةَ يُحَدِّدُ لَهَا اسْتِقامتها.
ومن لوازم صلة الإسْلامِ بِحَيَاةِ النَّاسِ -عَلَى تَنَوُّع فروعها -أَنْ تَكُونَ لَهُ مَبَادِى ثَابِتَةٌ وَوَاضِحَةٌ يَسيرُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيَحْتَكِمُونَ إِلَيْهَا عِندَ تطبيق هذه الْمَبَادِيءِ فِي الْمجتمعِ الْإِسْلَامِي.
وَهُنَا وَضَحَ الْحَاحُ الحَاجَةِ إلى كِتابِ لِلإسْلامِ يَرُسُمُ الخطوط الْأَسَاسِيَّة الكَبْرَى لهذه المباديء، فكان القرآن الكريم الذي اتَّخَذَ مِنَ الْجَنَّسِ الْعَرَبِي الْمُسْتَمَعَ الْأَوَّل لِدَعْوَتِهِ، مثلاً لِلإِنْسَانِيَّةِ وَقْتَما كَانَتْ، وَحَيْثًما كانَتْ؛ فَخَاطَبَ فِي شَخْصِ الْعَرَبي - بأسلوبه المرن - أحاسيس الإنْسانِ وَمَشاعِرَهُ وَعَواطِفَهُ مُجَرَّدَةً عَن فَوَارِقِ الجنسِ، والنوع، وَاللَّوْنِ، وَالْفَقْرِ، وَالْغِنَى وَالْجَاءِ وَالْحسب والزمان والمكان؛ فهذه الفوارق العَارِضَةُ، وَما إِلَيْهَا مَا يَحْجُبُ ذَوِي النظر القصير فيقف بهم دونَ النَّفَانِ إِلى الجَوْهَرِ لا وَزْنَ لَها في تقديرِ الإسلام الحقيقةِ الْإِنسَانِ.
والقرآنُ قد أَفاضَ القولَ فِي مُنزَلَةِ الْإِنْسَانِ في هَذا الكَوْنِ؛ فَهُوَ خَليفَةَ اللهِ في الأرض، خَلَقَهُ لِيَعْمُرها، والمكونات بما فيها منْ مُخْتَلِفِ الْعَوَالِمِ إِنَّمَا خُلِقَتْ لهذا الإنسان ليتصرف فيها، وَيَنْتَفِعَ بجميع ما يمكنه الانْتِفاعُ بِهِ مِنْ خَيْراتها ، وهُو حَديثُ - مها اخْتَلَفَتْ صِيغة - يَهْدِفُ إِلَى الإبانة عن كرامة الإنسان في تعاليم الإسلام ونمو مكانَتِهِ فيها؛ فَهُو رَفيعُ المنزِلَةِ في حَديثِ الإسلام عما يجب على الإنسان أن يعْتَقِدَهُ، وهو كريم معزّز عِندَ الحديث عما يَجِبْ عَلَيْهِ أَن يُعْمَلَهُ.
وحينما اتجه الإسلام إلى تنظيم صِلَةِ الإِنْسانِ بِرَبِّهِ، جَعَلَ إِخْلَاص التوحيد هو الأساس الأول الذِي تَقومُ عَليهِ هَذِهِ الصَّلَةُ.
وتوحيد الله الخالص منْ كُلِّ شَائِبَةِ مِن شَوائب الشِّرْكِ، يَعْنِي فِي مَقَدِّمَةٍ ما يَعْنِي - أَنَّ عَقْلَ الْإِنْسانِ وَوُجْدَانَهُ قَدْ أَصْبَحا حَزَيْنِ لَا يَخْضَعَانِ لِغَيْرِ اللهِ الْوَاحِدِ و في حرية الْفِكْرِ وَالْوُجُدَانِ هَذِهِ التي مَنَحَهَا الْإِسْلامَ لِلْمَسْلِمِ، أَسْمَى وَأَرْوَعُ مَعَانِي التقدير لإنسانيته.
ومِنْ هُنا خَلَدَ الإسلام ذِكْرَى هذِهِ الخَرِّيةِ، فَفَرَضُ عَلَى كُلِّ مَسْلِمٍ أَن يَتَحَدَّثَ عَنْها سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً (عَدَدَ رَكَعَاتِ الصّلاةِ المفروضَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، حِينَ يَتَوَجَهُ إلى ربه في صلاتِهِ وَيَقْراً : {إياكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصراط المستقيم}.
وَعَلَى أَساسِ مِنْ هذِهِ الكَرَامَةِ الْإِنْسانَيةِ أيضا تقومُ عَلاقَةُ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ؛ فالمسلم وَلَدَتْهُ ألمه حرا، وعلى هذهِ الحَريَّةِ يُبنِي أَعْمَالَهُ، وَعَلَيْهَا يُقيمُ صِلَتَهُ بِغَيرِهِ، وعَلَيها - مَرَّةً ثالثةً - يثاب عِندَ اللهِ يَوْمَ الْحِسَابِ أَوْ يُعَاقَبَ، وَيُمْدَحَ سُلُوكُهُ بَيْنَ أفراد الأسرة الْإِنسانِيَةِ الَّتِي يُعَايِشُهَا أَوْ يُدَم، غير أَنَّ خَزَيْتَهُ هَذِهِ لَمْ يَرَدْ لَهَا أَن تَكونَ مُطْلَقَة لا تَحْدُّها حدودٌ، وَلَا تُقَيدُها قيود، بِحَيْثُ تَشَبهُ السَّيْلَ الجارِفَ لا يَلْقَى شَيْئًا إِلَّا دَمَّرَهُ، وَالعَاصِفَةُ الهَوْجَاءَ لَا تَمر بِشَيْءٍ إِلا طَوَحَتْ بِهِ، ولَكِنْ أريدُ لَهَا أَن لا تَطْغَى عَلى حَقِّ الْآخَرِينَ في التمتع بحريتهم أيضاً.
وهنا - أيضا - جَدَّتِ الحاجة إلى وضع معالم يهتدى بها عِندَ مُمارسةِ الإِنسَانِ حقة في استعمالِ حريتِهِ، فَكانَ التشريع الإسلامي الذي جَعَلَ دِعامَتْهُ الأُولَى «العدل»، وإعطاءَ كُل إنسانٍ حَقَّهُ في حَيَاةٍ كريمةٍ تَليقُ بِالْمُنزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهُ فِيها الإسلام.
والإسلام - في تقديرِهِ الْوَاقِعِي لِلإنْسَانِ -لَم يَر في اختلاف درجات بني الإنسان في أرزاقهم وأموالهم مُخَالَفَةً لِسُنَنِ الكَون؛ فالإنسان -في عرفِ الحَيَاةِ الواقعية -ليس له إلا ثمرات سَعيهِ، وَهُو سعي تختَلِفُ نَتَائِجُهُ بِاخْتِلَافِ القَدْرِ والمواهب والكد.
وَمَنْ هُنا كَانَ مِن مُسلّمات مبادىء الحرية والعدل في تعاليمهِ، أَنْ يحمي مال المسلم كما يحْمِي عِرْضَهُ وَدَمَهُ. ومال المسلم - في قانونِ الإسلام -في حِمَى مِنْ أَنْ تَمتَدَّ إِلَيهِ، بِغَيْرِ حَقٍّ، يَدَ لا تملكُهُ، وَلكِنْها -في هذا القانون أيضًا -حِمَايَةٌ لا يَجِبُ أَنْ تَمَسَ حَريَّة المُسلِم الفقير وكرامَتَهُ، وَأَنْ تَنْتَهِي بِالْأَثْرِيَاءِ إلى الطَّفْيَانِ واسْتِعْبَادِ النَّاسِ.
إِنَّ بِنَاءَ مُجْتَمَع ثابِتِ الدَّعَائِمِ، يَسُودُهُ الإخاء والتَّعَاوُنُ عَلَى وُجُوهِ الخَيْرِ وَالْبَر، مِنْ أَهم الأهداف التي قصد الإسلام إلى تحقيقها، وَمِنْ هُنا ساغَ لَهُ أَنْ يَتَدَخَلَ في أَمْوالِ المُسلِمِينَ وتمتلكاتهم؛ يهديهم - إلى الصراط المستقيم - في إنفاق الْفاضِلِ مِنْها عَن حاجتهم، وينبههم إلى حق إخوانهم الضُّعَفَاءِ وَالفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فيها، وإلى وُجُوهِ البَر التي يجبُ عَلَيهِم أَنْ يُمِدُّوهَا بِأَمْوالِهِم، فكانَ أَنْ فُرِضَتِ الزكاةُ التي تُجبر المسلم الغني أنْ يُمنَحَ سَنَوِيًّا جُزْءًا مِنْ مَالِهِ لإخْوَانِهِ الضُّعَفَاءِ والمحتاجين.
وقد بَلَغَ مِن عناية الإسلام بإنصاف الفقير وتكريمهِ، أَنْ رَفَعَ أَداءَ حَقِّهِ إلى درجةِ العِبادَةِ فَالزَّكاةُ قاعِدَةٌ مِن قَواعِدِ الإسلام، وَوَضْعُها بِهَذِهِ الْمُرْتَبَةِ الرفيعَةِ يَجْعَلَها حَقّاً مِنْ حُقوقِ اللهِ، تَتَوَلَّى الدَّولة جبايَتَهُ وحمايته ورعايته، وتُخيرُ عَلَى أَدائِهِ مَنْ امْتَنَعَ، وَتُحارِبُهُ مِنْ أَجَلِهِ إِنْ دَعَتِ الْحَالُ إِلَى مُحارَبَتِهِ، لَا تَتَوَلَّى - بَعْدَ ذلك - إيصاله لمن أثبت لها تحريها أَنه يَسْتَحقَهُ.
وقد فعل الإسلام كل هذا صوناً لكرامة المسلم المحتاج أن تمتهن، وحماية لشرفه أن يُخْدَش، وَحِفاظاً عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ أنْ تَذْهَبَ بِهِ كَدُوحُ الْمَسْأَلَةِ إِذا مَا تَوَلَّى أَخْذَ الزكاة من الأغنياء بنَفْسِهِ فَالْيَدُ العُلْيَا الْمُنْفَقَةُ خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى السائلة مَهُمَا كَانَ الْأَمْرُ، وهنا يقف عمل أُولي الأمر في دولة الإسلام من أجل الحفاظ على حق المسلم الضعيف المحتاج، وهو عمل - كما رأينا - يختص بالقيام على الحَقِّ الواجب لا يتعداه، وبقي -بَعدَ ذلِك - تبع متدفق لا يكادُ يَلْحَقُهُ النُّضوبُ من منابع الخير، ذلك هو استعداد النَّفوسِ الإنسانية المؤمِنَةِ المحبة للخير أن تجود بمقادِيرَ مِنْ أَمْوالِها تَضَعُها في أبواب من البر عن طَوَاعِيةِ واختيار.
وَلم يَتَدَخَل الإسلام -بِشَكل جَبْرِي -في توجيه هذهِ الطَّاقَاتِ الْخَيْرِيَةِ الهَائِلَةِ التي تُمِد - بصفَةٍ مُسْتَرَةِ - بِنَاءَ المجتمع الإِسْلامِي بِعَنَاصِرِ الْقُوَّةِ والتماسك والحيوية، بلْ تَرَكَها الجهود الأفراد والجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وَوَكَّلَ السَّيْر فيها إلى ضمائر المسلمين -وَوَجَدَانِهِم، واتجه إلى إثارة الأحاسيس الإنسانية من مكامِنِها، وإلى دلالة المسلم على مواطن هذه الإنسانية في قوله وفي فعله، فجاءت هذه الآيات والأحاديث التي تحث على اصطناع المعروف وفعل الخير، وتدل على فضله، وكان كتابنا الذي تُقَدِّمُهُ وَكَثِيرُ مِثْلَهُ، مما يدل على فَضْلِ التَّعَاوُنِ في المجتمع الإسلامي وموقف الإسلام منه.
وفي هَذِي مِنْ هَذا التَّوْجِيهِ الإسلامِي البَنَاءِ قَرَّرَ جَلالة الملك العاطر الذكر محمد الخامس - طيب الله ثَرَاهُ - أَنْ تُنْشَأَ هَيْئَةٌ لِلتَّعَاوُنِ الْوَطَنِي تَنتَظِمُ سَائِرَ مُؤسسات البر والخير في المغرب، وتجعَلُ مِنْ أَهْدافها أن تستفيذ مِنْ جَهُودِ الشعب المغربي في میدانِ اصْطِنَاعِ الْمَعروفِ، وتَضمَنُ الحَرَكَةِ التّعاون على البر والتقوى في هذا البلد أن تسير في خُطى منظمَةٍ مُحَذَدَةِ الْأَهْدَافِ، وَتُوَصِلَ الحَقِّ إلى صاحبه أينما كان.
وقد عهد جلالته - قدس الله روحه - إلى صاحِبَةِ السَّمو الملكي الأميرَةِ (للا عَائِشَة) أَن تُحيط غراته هذا بالرعاية لتأتي أكله الطيب الدائم، فَتَحتَهُ مَنموها من عطفها وحيويتها ما مكن لَهُ أنْ يُزهر ويثمر ويُحقق فيه الرجاء.
ووزارة الدولة المكلفة بالشَّؤون الإسلامية حينَ تَضَعُ بين يدي الشعب المغربي الكريم دعوة الإسلام الإنسانية إلى التعاون واصطناع المعروف ممثلة في كلام نبيه عليه السّلامُ، تَهْدِفُ إِلى بَيَانِ مَوْقِفِ الإسلام مِنْ عَمَل الخير، وتُسهم في الدلالة على فَضْلِ الْقَائِمين بهِ، وَالدَّالُ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ».
الرباط 1962/12/4
محمد بن تاويت الطنجي
********
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
الحمدُ لِلّهِ الَّذِي نَوَّرَ قُلوبَ أوْلِيائِهِ بِأَنْوَارِهِ، وَجَعَلَهَا مَعْدِنَ الحكمةِ وَتَحَلَّ أَشراره، وأَسْبَغَ عَلَيْهِم بِفَضْلِهِ سَوابِغَ جودِهِ وَنَعْمائِهِ، وَسَقَى أَسْرَارَهُم بِكَرَمِهِ مِنْ وابِـلِ رَحمَتِهِ وَعَميم إحْسانِهِ، فكانوا ينابيع الحكمة والعلم في أَقْطَارِ بِلَادِهِ، وَهُدَاةَ مُعَلِّمِينَ ولمرشدين لِعِبادِهِ، وَقَدوَةَ فِي الْخَيْرِ وَأَئمةَ لِأَهْلِ وِدادهِ.
والحمدُ لِلهِ الذي غُرَسَ في قُلُوبِ الْعارِفينَ أنوارَ السُّنَّةِ والكتاب، وَوَفَّقَهُمُ لِلْعَمَلِ مَا عِلِمُوا فَرَحُوا يَوْمَ الْحِسابِ، مَنْ عَلَيْهِم تعالى أن جَعَلَهُم مِنْ أولي الألباب، وَفَهْمَهُم بِتَدَبُرِ مَا تَضَمَّنَتُهُ جَواهِرُ السِّنَةِ وَآيُّ الكِتابِ، وَرَفَعَ عَنْ أَبْصَارِ بَصائِرهم ما انْسَدَلَ على غَيْرِهِم مِن زَيْنِ الحِجابِ، فَشَمَّرُوا عَن سَاقِ الحَدِ فَسَعَوْا وَعَمِلُوا ليوم الحساب. فَلِلَّهِ دَرُهُمْ ما أَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُمْ إِذَا وَرَدُوا القِيَامَةَ أَجْزَلَ اللهُ هم الثّوابَ، وَحَفَفَ عَنهم في عَرَصات القيامة مشقة الحساب.
قشبحانَ مَنْ أَيْقَظَهُمْ، وَالأعْمالِ السَّعَادَةِ يَشَرَهُمْ، فَهُمْ أَنجُمُ النَّجَاةِ يَهْتَدِي بهم السَّائِرُ، وَأَعْلَامُ الهُدَى يَقْتَفِي آثارهم الحائر، فَمَنْ وَصَلَ حَبْلَهُ بِحَبْلِهِمْ فَقَدْ وَصَلَ وارْتَقَى، وَمَنْ اعْتَصَمَ باللهِ (ق) بِالكِتاب والسُّنْةِ؛ فَقَدِ اسْتَسْكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. والحمدُ لِلهِ رَبِّ العالمين، وصَلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيئين، وعلى آله وصحابَتِهِ السَّادَةِ الأكرمين.
يقول عبد الرحمن بن محمد التعالي الفقيرُ إلَى رَحْمَةِ اللهِ سُبْحانَه، لَطَفَ اللهُ بِه.
اعْلَمْ أَيُّها الأخ، وفقني الله وإياك لمرضاته، وتم جميعنــا بوابل رحْمَتِهِ وَجَزيلِ خَيْرَاتِهِ، أَنَّهُ لَنَا وَقَفْتُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حديثًا التي أَنْتَخَبَها الشيخ عبد العظيم المُنْذِرِيُّ، ووقفتُ على كلام الشيخ أبي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ الشَّامِيّ الشَّافِعِي عَلَيْها، وَتَخريجه لها، وزِيَادَتِهِ المُسْتَحْسَنَةِ المُنضَةِ إِلَيْهَا، رَعْبَتُ في تلخيص ذلِك وَتَقَريبِهِ وَتَرتيبهِ، عَسَى اللَّهُ أَنَّ يَنفَعَنِي وإياك بذلك.
وَإِنْ ظَهَرَ لي أنا شَيْءٌ أَوْ زِدتُ شَيْئًا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ بلفظ (قُلَتْ)، وَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ هَذا التَّذْيِيلِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِين، أردفت ذلك -إن شاء الله -بتحريرِ تَصْنِيفِ مُشْتَمل على أبواب يلذ سماعها، وَيُروقُ معناها، يميل إليها المثقون، وَيَعْرِفُ مَعَانيها العارفون، أتخيرُ فيها ما يُعجِبَنِي مِنْ كُلِّ مَعْنَى فَائِقِ، وَلَفْظ حَسَنٍ رَائِقِ، تَنْيا لِلْفَائِدَةِ، وَحَضًا عَلَى الْتَزَودِ وَالشَّأَهَبِ لِلدَارِ الآخرة. وسميته: بـ «الأنوار المضيئة، الجامعة بَيْنَ الحَقيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ». وَها أَنا الآن أَشْرَعُ إِنْ شاءَ اللهُ في المَرادِ وهُوَ الْمُوَفِّقَ بِفَضلِهِ لما فيه الْمُصْلَحَة والسداد.
قال الشيخ أبو عبدِ اللهِ مُحمدٌ الشَّامِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى وَرَضِيَ عنْهُ: أَمَا بَعْدَ فَإِنَّ الأحاديث الأربعينَ التِي انْتَخَبَها الإمام العَلامَةُ زَكي الدين عبد العظيم المنذِرِي -رحمة الله تعالى -في اضطناع المعروف إلى المسلمين، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ المُلْهوفين، مما يجب الوقوف عليها، والانقياد إليها، وقد شاع ذكرها، وَحَلا للسامعينَ ورُدُها، وَطابَ لِأَهْلِ المغروفِ نَشْرُهَا، وَكَثُرَ مِنَ الطَّلَابِ في هذا الزمانِ الاِعْتِنَاءُ بها، والنظر في مَعانِيهَا، وَوَقَعَتْ مِنْهُم بالموقع الأسْنَى، وهي حَقيقَةٌ لأَنْ يَتَحَلَى الْمُؤْمِنُ بها، وَيَنْقَادُ المسلم إليها.
غير أن الشيخ زكي الدين -رحمه الله -لَمْ يُبَيِّن فيها مَنْ خرجها، ولا مِنْ أتي الكتبِ اسْتَحْسَنَها، فأردت تحريرها للطالب، طَلَبَا المُشَارَكَتِهِ فِي الثّوابِ، وتقربا إلى رب الأرباب، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتَعَرَضَ إِلَى تَضعيف حديث أو تضحيحِهِ، ولا تعريف سَنَدٍ أو ترجيحه باب في تخريج هذه الأحاديث، وذكر ما أنضم إليها مما يناسبها.
الحديثُ الأول
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال : «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيالُ الله، وأَحَبُّ خَلْقه إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لعياله».
هذا الحديث رَوَاهُ البزار والطبراني في مُعْجَمِه، ومَعْنَى «عيال اللهِ» فَقَراءُ الله؛ فالخلق كلهم فقراء الله تعالى، وهو الذي يعُولهُمْ؛ ويشْهَدَ لهذا الحديث ما رَوَيْناهُ في مسند الشهاب عَنْ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال : «خَيْرُ النَّاسِ أَنفَعُهُمْ لِلنَّاسِ». قُلْتُ: وَإِذَا علم العبدِ أَن الخَلْقَ كُلَّهُم عِيَالُ اللَّهِ، وَعَلِم أَنْ أحب الخلق إلى الله سبحانه أنفعهم لعياله، وَجَب مراقبة الله تعالى في خَلْقِهِ بأداءِ ما يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ، وبذل ما أَوْجَبَ الله لهم مِنْ فَرضِهِ؛ وقَدْ حَدَّثَ أبو بكر الخطيبُ -بِسَنَدِهِ -عَنْ عَلي بَنِ أبي طالب، وَابْنِ عُمَرَ -رضي الله عَنْهُمْ، عَن النبي ﷺ، قال: «إنّ الله فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ في أمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ قَدْرَ مَا يَسَعُهُمْ، فَإِنْ مَنْعُوهُم حَتَّى يَجُوعُوا أو يَعْرَوْا أَوْ يَجْهَدُوا، حَاسَبَهُمُ اللهُ حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبَهُمْ عَذَابًا نُكْرًا». انتهي من تاريخ بغداد، وَلَمْ يَذكر في سنده مطعناً
الحديث الثاني
عَنْ كَثيرِ بنِ عبدِ اللهِ بن عَمرو بن عوف المنزني، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: «إن لله عبادا خَلَقَهُمْ لخوائِجِ النَّاسِ، آلَى على نفسه أَلا يُعَذِّهُم بِالنَّارِ، فَإِذا كانَ يَوْمُ الْقِيامة وُضعت لهم منابر من نورٍ يُحدثون الله، والناس في الحساب».
هذا الحديث رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في غير «صحيحه»، وقال إن النبي ﷺ قال : «إِنَّ لِلهِ مِنْ خَلْقِهِ وُجوهَا خَلَقَهُمْ لحَوَائِجِ النَّاسِ يرغبون في الآخرة، ويعدُّونَ الجُودَ متَجَرًا، والله (ج) يُحِبُّ مكارم الأخلاق». قُلْتُ : وَلفظ أبي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَزِ فِي كِتَابِهِ بَهْجَةِ الْجَالِسِ وأنس المجالس، عن النبي ﷺ، أَنَّهُ قَالَ : (إِنَّ لِلهِ عِبَادًا خَلَقَهُمْ الحوائج الناسِ، هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». إنتَهَى.
الحديث الثالِثُ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ عَزَّ َوجَلَّ خَلَقَ خَلْقاً لحوائج الناسِ يَفْزَعُ إليهمُ النَّاسُ في حَوائجهم، أولئك الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ تعالى».
وهَذا الحديث رَوَاهُ أَبو نُعَيمُ وَالْقَضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّهَابِ؛ وَيَشْهد لهذا الحديث ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ سَعَى لِأَخِيهِ المؤمنِ في حاجَةٍ قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَم تَقَضَ غَفَرَ اللهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ من ذنبه، وكتب له «بَراءَتَيْنِ: براءة منَ النَّارِ، وَبَرَاءَةً من النفاق».
قُلْتُ: قال أَبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَر : قال رَسولُ اللهِ ﷺ: (كُلُّ مَعْرُوفِ صَدَقَةٌ).
وقال أبو جري الهجيمي: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوصِنِي، قال: (لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُضغَ مِنْ تلوكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهكَ مُنْبَسِطُ إلَيْهِ).
وقالَ عَلَيْه الصلاة والسلام: «إِنَّ لِلهِ عِبَادًا خَلَقَهُمْ لحَوَائِجِ النَّاسِ هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». انْتَهَى مِنْ كِتَابِهِ المَسَمَّى بـ(بهجة المجالس، وأنيس الجالس).
قلتُ: قال ابْنُ الْفَاكِهَاني في شرح الأربعين حديثاً: وَرَوَيْنا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ «مَنْ سَعَى فِي حَاجَةٍ أَخِيهِ المسلم قضِيتُ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَرَ، وَكتَب لَهُ بَرَاءَتَيْنِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةَ مِن النِّفَاقِ». انتهى. ففي هذه الطريق زيادة «وما تأخر».
الحديث الرابع
عَن نَّافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ، قال: قال رسول الله ﷺ: (مَنْ قَضَى لأخيهِ حاجَةً كُنتُ وَاقِفَا عِندَ ميزانه، فَإِن رَّجَحَ وَإِلا شَفَعْتُ لَهُ). هذا الحديثُ رَواهُ أَبُو نَعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ.
وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتابِ ا(الذرية الطاهرة) للدولابي: عَنِ الحَسَنِ ابْنِ عَليْ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْها قال: قال رسول الله ﷺ: (مَا مِنْ عَبْدِ يَدَعُ مَعُونَةٌ أَخِيهِ بِالسَّعْيِ فِي حَاجَةِ، قضِيتُ لَهُ أَوَ لَمْ تُقْضَ إِلَّا ابْتُلي بمعونة مَنْ يَأْتُمْ فِيهِ وَلا يُؤجَرُ عَلَيْهِ). وَمَعْنَى قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ: أَنَّ العَبْدَ إِذَا تَرَكَ مَعُونَةً أَخِيهِ حَصلَ لَهَ هَذَا الْوَعِيدُ، وَإِنْ قَضَى اللَّهُ حَاجَةَ ذَلِكَ العَبْدِ حصل له ذلك الوعد.
قلتُ: وَلا شَكٍّ في فلاح مَنْ سَعَى فِي مَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ فِينْ خَذَ لَهُمْ وَتَرَكَ نَصْرَهُم. وخرج الطحاوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النبي ﷺ، أَنه قال: «أَمِرَ بِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَن يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمَّ يَزَلْ يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى وَيَدْعُوهُ حَتى صارَتْ عَلَيْهِ وَاحِدَةً، فَامْتَلا قبْرُهُ عليهِ نارًا، فَلَمَّا أَرْتَفَعَ عَنْهُ أَفَاقَ فقال: عَلامَ جَلدتني ؟ قال: إنَّكَ صَلَّيْتَ صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرُهُ». انتهى.
الحديث الخامس
عَنْ عَلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من مشى في عون أخيه ومنفعته فله ثواب المجاهدين في سبيل الله».
ويقرب من هذا ما رويناه في «مكارم الأخلاق»؛ لأبي بكر الخرائطي: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوة سبعين حسنة، وكفر عنه سبعين خطيئة؛ فإن قضيت حاجته على يديه خرج مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمَّهَ، وَإِنْ مَاتَ فِي خِلَالِ ذلِكَ دَخَل الجنة بغير حساب».
قلت: ومنا يندرج في هذا الباب ما رواه البزار في مسنده عن النبي ﷺ، قال: «من مشى إلى غريمه بحقه صلت عَلَيْهِ دَوَاب الأرض ونونَ الماءِ ونَبَتَتْ لَه بكل خطوة شَجرة تُغْرَسَ لَهُ في الجَنَّةِ وَذَنَبَه يَغْفَرَ». انتهى.
وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُسارع في قضاء حوائج المسلمين ويعينهم، وَقَدْ رَوَى الحافظ أبو نعيم في حليته -في ترجمة محمد بن المنكدر -بسنده المتصل عن محمد بن المنكدر عَن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله ﷺ: (مَنْ قادَ أعمى أَرْبَعِينَ خُطَوَة وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّ»). انتهى. ولم يذكر في سنده مطعناً.
الْحَديثُ السَادِسُ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهما، قال : قال رسول الله ﷺ: (من كان وصله لأخيه المسلم إِلَى ذِي سُلطان في منفعة أو تيسير عَسِيرٍ، أعَانَهُ اللهُ عَلَى إِجازة الصراط يوم تدحض الأقدام)، هذا الحديث رواه أبو طاهر القيسي في أحاديث الشهاب.
قلتُ: وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في بهجة المجالس وأنس المجاليس، عن النبي ﷺ أَنْهُ قَالَ: (مَنْ رَفَعَ حَاجَةً ضعيف إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لا يَسْتَطيعُ رَفْعَهَا ثَبَتَ اللهُ قَدَمَيْهِ على الصِّراطِ يَوْمَ القيامة). انتهى.
الحديث السابع
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ رضي الله عنه: قال رَسولُ الله ﷺ: (مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ حَاجَةَ، كَانَ كَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عُمرَهُ). هذا الحديث رواه البخاري في التاريخ الْكَبِيرِ.
وَيَقْرُبُ من هذا الحديث ما رَوَيْناهُ مِنْ طَرَقٍ حسانٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، قالا: سمعنا رسول الله ﷺ يقولُ: (مَن مَشَى في حَاجَةٍ أَخِيهِ المسلم حَتَّى يقضيها، أَظَلَّهُ اللهُ بِخَمْسَةِ وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكِ يَدْعُونَ لَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ صَبَاحاً حَتَّى يُمسي، وإن كان مساءً حتى يُصْبحَ، وَلاَ يَرْفَعُ قَدَماً إِلا كُتِبَتْ له حَسَنَةٌ وَلا يضَعُ قَدَمًا إِلَّا محيَتْ عَنْهُ سَيِّئَة).
قلتُ: وَحَدَّثَ أَبو بَكْرٍ الْخَطَيبُ بِسَنَدِهِ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكِ رضي الله عنه، قال: قال رَسُولُ الله ﷺ: «مَنْ قضَى لأخيه المسلم حاجةَ كَانَ بمنزلة مَنْ خَدَمَ اللهَ عمره) انتهى من تاريخ بغداد. وَلَمْ يَذكر في سَنَدِهِ مَطْعَنَا.
الحديث الثامِنُ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ الله عنه قال : قال رسولُ اللهِ ﷺ: (لا يرَى أَحَدٌ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً فَيَسْتُرُهَا عَلَيْهِ إِلا أَدْخَلَه الله الجنة).
هذا الحديث رواه الطبراني أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عامر الجهني أنه سمع رسول الله ﷺ يَقولُ: «مَنْ رَأَى عَوْرَةَ أخيه فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا».
قُلتُ: وَخَرَّجَ مسلم في صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يستره الله على عبد في الدُّنيا إلا ستَرَهُ اللهُ يَوْمَ القيامة وفي طريق «لا يسْتُرُ عَبْد عَبْدًا فِي الدُّنْيا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). انتَهَى.
الحديث التاسع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ فَرَّجَ عَلَى مُؤمِن كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عنهُ كُرْبَةَ، وَمَنْ سَتَرَ عَلى مُؤْمِنٍ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَلَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِهِ مَا دَامَ في عون أخيه»، هذا الحديثُ رَواهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيا فِي اصْطِنَاعِ المعروفِ، ومسلم في طريق طويل سَيَأْتي.
وَرَوَيْنا فِي كِتَابِ مكارم الأخلاقِ عَنْ أَنَسٍ، قال: قال رَسولُ اللهِ ﷺ: (ما مَنْ أَعَانَ مُسْلِماً كان اللهُ فِي عون ذلِكَ المعين). قلت: هذا الحديث هو قوله ﷺ «والله تعالى في عَونِ العبد ما كانَ العَبدُ في عون أخيه».
الحديث العاشِرُ
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ فَرَّجَ عَنْ مَؤمِنِ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ شُعْلَتَيْنِ مِن يسْتَضيء بِضَوْئِها عالَم لا يُحْصيهِ إِلَّا رَبُّ الْعِزَّة».
هذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط، قُلتُ: معنى هذا الحديث واضح، وذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَمِنْ علامة.الخير والسعادةِ الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
الحديث الحادِيَ عَشَرَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «من مشى مع أخيه في حاجَةٍ فَنَاصَحَهُ فيها، جَعَلْ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سبعة خنادق، وما بينَ الخندق والخندق ما بَيْنَ السَّماءِ وَالْأرض».
هذا الحديث رواه أبو نعيم، وابن أبي الدنيا، وقد رَوَينَا مِثلَ هَذَا الثّوابِ لَمَنْ أَطْعَمَ مَسْلِماً حَتَّى يَشْبَعَ أَوْ سَقَاهُ حَتَّى يروى، من طريق الطبراني عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: (مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهَ حَتَّى يَشْبِعَه، وسقاه حتى يرويه، بعّده الله من النار سبعة خنادق، وما بين كل خندقين مسيرة خمسمائة عام».
قلت: ونض الحديث على ما نقله ابن دقيق العيد، قال: وروى الطبراني عن سليمان بن أحمد بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (من أطعم أخاه حتى يشبعه، وسقاه من المَناءِ حَتى يرويه بَعْدَهُ الله مِن النَّارِ شبعة خنادق، وما بين كل خندقين مسيرة مائة عام). انتهى من «الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد.
قلت: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عَرَيِ، كَسَاه الله مِن خُضْرِ الجَنَّةِ، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمة الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ، سقاه الله مِنَ الرَّحيق المختوم) أخرجه أبو داود من حديث أبي خالد هو الدَّلانِي عَن تُتيح، وَقَد وَثَقَ أبو حاتم أبا خالد، وسُبُلَ أبو زرعة عَن تُتيح فقال: هو كوفي ثقة. انتهى من «الإلمام».
الحديث الثاني عَشَرَ
عَن مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد قال: قال رسول الله ﷺ: (من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخِرَةِ، وَمَن فكَ عَنْ مَكروب كُرْبَة فَكَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حَاجَة أخيه كان الله في حاجته).
هذا الحديث رَوَاهُ الطبراني، ورَوَى مُسلم معناه بالأسانيد المعمول بها عَن أَبي بنِ كَعْبٍ، قال: «مَرَّ بِي رَسول الله ﷺ وَمَعِي رجل، فقال: يا أبي مَنْ هَذَا الرَّجُلَ الذِي مَعَكَ ؟ قلت: غريم لي فَأَنَا أَلازِمَهُ، قال: فَأَحْسِنُ إلَيْهِ يَا أَتِي، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ لحاجتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عني وَلَيْسَ مَعِي الرجُل، فقال: يا ما فَعَلَ غَريمَكَ وَأَخَوكَ؟ قَلْتَ وَمَا عَسَى أَنْ يَفْعَلَ يَا رسولَ اللَّهِ تَرَكْتُ ثَلث مالي عَلَيْهِ لِلَّهِ، وَتَرَكْتَ ثُلَثَ الثاني لرسول الله، وتركت الباقي لمعاونته إياي، ثم قال رَحِمَكَ اللَّهَ يَا أَبَي ثلاث مرات، بهذا أمرنا. قال: يا أبي، إن الله جَعَلَ للْمَعروفِ وَجَوهَا مِنْ خَلْقِهِ، حَبْبَ إِلَيْهِم المعروف وحبب إلَيهِمْ فَعَالَهُ، وَيَسرَ عَلَى طالب الْمَعْرُوفِ طَلَبَه إِلَيْهِمْ، وَيَسرَ عَلَيْهِمْ إعطاءَهُ؛ فَهُمْ كَالْغَيْثِ يُرْسِلُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْأَرضِ الجدبة، فيحييها ويُحْيِي بِها أَهْلَهَا؛ وإنَّ الله جعل المعروف أعداء مِنْ خلقهِ بَغْضَ إِلَيْهِمُ المعروف وبغض إلَيْهِمْ فَعَالَة، وحظر على طلاب المعروف طَلَبَهُ إليهم وحظر عليهم إعطاءه إياهم، فهم كَالغَيْثِ يَحْبسَهُ اللهُ عَزَّ وجلّ عن الأرض الجدبة؛ فيَهْلِكَ بِحَبْسِهِ الْأَرْضَ وَأَهْلَهَا». كذا رواه الطبراني.
قلت: وَرَوَيْنا في صَحِيحَي البخاري ومسلم عن النني ﷺ أنه قال: (كَانَ رَجُلٌ يَدَابِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقولُ لفتاه: إِذا أَتَيْتَ مُعيرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ». إانْتَهَى.
قُلْتُ: وَرَوَى أَبو بَكْرِ الخَطِيبُ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ النّبيّ ﷺ، قالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا بَعْدَ حلول أَجَلِهِ كَانَ لَهُ ذلك صدقة) انتهي من تاريخ بغداد
الْحَديثُ الثَّالِثُ عَشَرَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال : قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا اختصهم بِالنِّعَمِ ولمنافع الْعِبَادِ يُقِرُّها فيهم ما بذلوها؛ فَإِذَا مَنَعوها حوْلَهَا عنهم، وَجَعَلَها فِي غَيْرِهم». هذا الحديث رواه أبو نعيم والطبراني بإسنادِ جَيْدٍ.
وعن ابنِ عمرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «ما مِنْ عَبْدِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ جَعَلَ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ فَقَدْ عَرَضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ للزوَالِ».
قُلْتُ: وجاء في الأثر: «قَيدُوا النِعمَ بِالشُّكْرِ، فَإِنَّ لَهَا أَوابِدَ كَأَوابدِ الْوَحْشِ»، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي حِكَمِهِ إلى هذا المعنى فَقَالَ: «مَن لَّمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَزَوَالِهَا، وَمَنْ شَكَرَها فَقَدْ قَيْدَها بِعِقالها». انتَهَى.
قلت: قال الباجي في «سُنَنِ الصَّالِحِينَ»: قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَدْنَى الشَّكْرِ أَن لا تَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِنِعَمِه، وَجَوَارِحُكَ كُلْهَا نِعَمُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكَ، فَلا تَعْصِهِ بها.
وقال بَعْضُهُمْ: الشَّكْرُ قَيْدُ النِّعْمَةِ وَمِفْتَاحُ الْمَزِيدِ، وَكُنْ الجَنَّةِ. انتهى.
قُلْتُ: قال أَبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرَ في كتابه المسمى «بَهْجَةِ المجالس وَأَنْسِ الْجالِس»: مكتوب في التَّوْرَاةِ : أَشْكُرُ لمنْ أَنْعَمَ عليك، وَأَنْعِم عَلَى مَنْ شَكَرَكَ، فَإِنَّهُ لا زَوَالَ لِلنِّعَمِ إِذَا ذُكِرَتْ ولا مَقَامَ لَهَا إِذَا كُثرت، والشكر زِيَادَةٌ فِي النِّعَمِ، وَأَمَانٌ مِن الغير».
قَال أَبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِ: قَالَ رسولُ اللهِ ﷺ : «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدِ بِنِعْمَةٍ، فَعَلِمَ أَنهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلا كَتَبَ اللهُ لَهُ شُكْرَهَا، وَمَا عَلِمَ اللهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةٌ عَلَى ذَنبٍ إِلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَن يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ فَيَحْمَدُ اللهَ فَمَا يَبْلُغُ ركبتيه حتى يغفر له». انتهى.
الحديثُ الزابعَ عَشَرَ
عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَضَافَ مُؤْمِنًا أَوْ خَفَّ فِي شَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ إِلَّا كانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَخْدُمَهُ وَصِيفًا فِي الجَنَّةِ». هذا الحديث رواه أبو يَعْلَى المَوْصِلِي.
قلتُ: وَرَوَيْنا في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يا بُنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تعدني، قال يَا رَبِّ كَيْفَ أَعودُكَ وَأَنتَ رَبُّ الْعالَمينَ؟ قال: فلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدُهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ معدتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ؟ يا بْنَ آدَمَ ! اسْتَطْعَمْتَكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قال: يارب كَيفَ أطْعِمُكَ وأَنتَ رَبُّ العالمين؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدتُّ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يا بْنَ آدَمَ! إِسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِني قال: يا ربِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنتَ رَبُّ العالَمينَ؟ قالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوجدت ذلك عِندِي». انتهى، وَقَدْ نَقَلَهُ العلمي
قُلتُ: قال ابْنُ العَرَبِيِّ فِي أَحْكامِهِ» لَما تكَلَّم على هذا الحديث: وَكَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ العَلِيَّةِ تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ ما كَنَى عَن المَريضِ وَالجَائِع والعَاطِشِ بِنَفْسِهِ المُقَدَّسَة؛ فقال: يا بْنَ آدَمَ ! مَرِضْتُ فَلَمْ تعدني. الحديث.
الْحَديثُ الْخامِسَ عَشَرَ
عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه؛ قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (من نَفَس عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةَ مِنْ كُتب الدنيا، نَفَسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرب يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَا سَتَرَ الله عليه في الدنيا والآخِرَةِ، وَاللهُ تَعَالَى فِي عَوْنِ العَبْدِ ما كان العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا يَسرَ اللهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلساً يَتْلُونَ كَتَابَ اللهِ عَزَّ َوجَلَّ وَيَتَدارَسونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَخَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللهُ فِينْ عِندَهُ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعُ بِهِ نَسَبُهُ).
هذا الحدِيثُ رَواهُ مُسْلِمٌ) في صَحِيحِهِ، وَرَوَيْنا في صحيحي البخاري ومسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِي عن النبي ﷺ أنه قال: (كُلُّ مَعروفِ صَدَقَةٌ؛ فقالوا يَا رَسُولَ اللهِ: أَرَأَيْتَ إِن لَّمْ يَجِدْ ؟ قال: يعمَلُ بِيَدَيْهِ وَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ، قالوا: أَرَأَيْتَ إِن لَم يَسْتَطِعْ ؟ قال: يُعينُ ذَا الْحَاجَةِ الملهوف، قالوا: أَرَأَيْتُ إِن لَّمْ يَسْتَطِعْ ؟ قال: يَأْمُرُ بِالمعروفِ أَوِ الخَيْرِ قالوا: أَرَأَيْتَ إن لم يفعل ؟ قال: يَمْسِكُ عَنِ الشَّرِ فَإِنَّهُ لَهُ صدقة).
قلتُ: وَعَنْ يَزِيد بن أبي حَبِيبٍ، أَنَّ أَبا الخَيْرِ حَدَثَهُ أَنْهُ بْنِ سَمِعَ عُقْبَةَ بن عامر، يقول: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: (كُلُّ امْرِىءٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ، حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَو قال: حتى يحكم بين الناس، قال يزيد: وكان أَبو الخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ فِيهِ وَلَوْ كَعْكَةَ أَوْ بَصْلَةٌ» قال الحاكم هذا الحديث صحيح على شَرْطِ مُسْلِمِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ يعني الْبُخَارِي وَمُسْلِماً. انتهى من الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد.
قلت: قال الشيخ ابن أبي جمرة: وَلا يلهم للصدقة إلَّا مَنْ سَبَقَتْ لَهُ سَابِقَةُ خَيْرٍ. انتهى.
قلت: قال أبو عمر في «التمهيد» وروى عن رسول الله ﷺ، أنه قال: «مَا أحسنَ عَبدُ الصَّدَقَة إِلَّا أَحْسَنَ اللهُ لَهُ الخلافة على بنيه، وكان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وحفظ في يَوْمٍ صَدَقَتِهِ مِنْ كُلِّ عَاهَةٍ وَآفَةٍ». انتهى.
قُلْتُ: وروى أبو داود في سننِهِ أَنْ سَعَدَ بنَ عُبَادَةَ، قال: «يَا رَسولَ اللهِ إِنَّ أُمّ سعد ماتَتْ، فَأَيُّ الصَّدقَةِ أَفْضَلُ ؟ قال: الماء فَحَفَرَ بِئراً وقال: هذه لأم سعد». انتهى.
قلت: وَحَدِّثَ ابْنُ الجوزي في «صفـــــة الصَّفْوَةِ» بِسَنَدِهِ إِلَى حارِثَةَ بْنِ النَّعْمَانِ الصَّحَابِي رَضِيَ اللهُ عنْهُ أَنَّهُ قال: لَمَّا كُفَّ بَصَرُهُ جَعَلَ خَيطاً مِن مَصَلاهُ إِلَى باب حُجْرَتِهِ، وَوَضَعَ عِنْدَهُ مِكْتَلًا يَعْنِي فِيهِ ثمره وغير ذلِكَ، فَكانَ إذا سَأَلَ الْمُسْكِينُ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التمرِ، ثُمَّ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الخيط حَتَّى يَأْخُذَ إلى باب الحجرة فَيُنَاوِلُهُ المَشكِينَ فَكانَ أَهْلُهُ يقولون: نَحْنُ نَكفيك، فيقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَناوَلَةُ المسكين تقي ميتة السوء).
قال عياضُ: في «المدارك» جاءَ رَجُلٌ إلى ابنِ وَضاح؛ فقال له: إِنِّي حَضَرْتُ الآنَ فَأَصَابَتِ الْعِجْلَةُ وَلَدَكَ وَمَشَتْ إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ ابنُ وَضَاحِ عَلى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِسْمَاعِ الْعِلْمِ وَقَالَ لِلْقارِيءِ: إِقْرَأ، وَلَمْ يَكْتَرِتْ لِذلِكَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ آخَرُ؛ فَقَالَ: أَبْشِر يا أبا عبْدِ اللهِ: سَلِمَ الصَّبي، إما أَصَابَتِ العِجْلَةُ ثَوْبَهُ فَسَقَط وَجَازَتْ فَلَمَّ تضَرَّهُ، فَقَالَ: الْحَمدُ لِلَّهِ، قَدْ أَيْقَنْتُ بِذلِكَ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ الصَّبي قد ناوَلَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا كسْرَةً فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ بَلَاءٌ في هذا النَّهَارِ، لِلْحَدِيثِ: (إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنِ الْعَبْدِ الْمِيتَةَ السُّوءِ بِالصَّدَقَةِ يتصدق بها) انتهى.
الحديثُ السَّادِسَ عَشَرَ
عن عمر بن مَرَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه، وكانَتْ لَه صُحْبَةٌ، أَنه قال لمعاوية: إِنِّي سَمِعْتُ رَسول الله ﷺ يقول: (أَيما وَال أَو قاضٍ أَغْلَقَ بابه عَلى ذِي الحَاجَةِ والخَلةِ وَالمُسْكَنَةِ أَغْلَقَ اللهُ بابَهُ عَنْ حَاجَتِهِ).
هذا الحديث رواه الترمذي وَأَحْمَدُ، وَرَواهُ أَبو دَاوُدَ عَنْ عمر بنِ مَرَةَ قال: «دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ؛ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ يا أَبا فَلَآنِ ؟ وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقولُها الْعَرَب، فَقَلتُ: حَدِيثًا أَخْبَرَكَ به سمعْتُ رَسولَ الله له يقول: «مَن وَلَاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ أمور المسلمينَ وَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلْتِهِمْ وَفَقْرهمْ اِحْ الله دون حاجتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قالَ: فَجَعَلَ مَعَاوِيَةٌ رَجُلًا عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ وَالْخَلَةُ بالفتح : الْحَاجَةُ وقوله: ما أَنْعَمَنَا بِكَ هِي يَهْمَزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ومعناه: ما جاءَ بِكَ ؟ وَمَا الذِي أَعْمَدَكَ إِلَيْنَا ؟ وَإِنمَا يُقالُ ذَلِكَ لِلَّذِي يُفْرَحُ بِهِ وَبِلِقَائِهِ، كَأَنما يَقولُ: مَا الَّذِي أَفْرَحَنَا بِكَ وأَنْعَمَنَا بِلِقَائِكَ؟ وَمِن ذَلِكَ قَوْهُمْ فِي التَّحِيَّةِ: أَنْعَمْ صَبَاحًا.
قلت: جاء في كتاب «بهجةِ الْجَالِسِ» لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: (مَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فاحْتَجَبَ عَن حَاجَتِهِمُ احْتَجَبَ اللهُ يَومَ الْقِيَامَةِ عَنْ حاجتِهِ وَخَلْتِهِ وَفَاقَتِهِ). وقال عليه السّلامُ «مَنْ رَفَعَ حَاجَةً ضَعيف إلَى ذِي سُلْطَانٍ لاَ يَسْتَطيعُ رَفْعَهَا ثَبَتَ اللهُ قَدَمَيْهِ على الصِّراطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». انتهى.
الحديثُ السَّابِعَ عَشَرَ
عن أبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِنِي رَضِي اللـه عنــه، قال: قال رسول الله ﷺ: (إِذَا جَاءَنِي طَالِبُ حَاجَةٍ فَاشْفَعُوا لِكَي تُوجَرُوا وَيَقْضِي اللَّه عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ما شاء).
هذا الحديث رواه البُخَارِيُّ ومُسلم بلفظ: (اشفعوا)، ورَوِّينَا فِي "مَكَارِمِ الْأَخْلاقِ" للخَرَائِطِي عَن مُعاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النبي ﷺ، قال: (تشْفَعُوا إِلَيَّ تُؤْجَرُوا، وَإِنِّي أَريدُ الأمْرَ فَأُوْخِّرُهُ، حَتَّى تَشْفَعُوا إِلَيَّ فَتُؤْجَرُوا).
وَيُنبَغِي لِلشَّافِعِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أخذ جُعْلٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ تجرها إِلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ الهدية للشَّافِع مِنَ الشَحْتِ.
قلتُ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عنه عن النبي ﷺ، أنه قال: «مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةٌ فَأَهْدَى لَهُ هدِيَةٌ عَلَيْهَا فَقَبلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا». انتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا هُنَا السُّلَمِيُّ. وَيَنْبَغِي لِوَلِي الْأَمْرِ، وَمَنْ جعَلَهُ اللهُ أَمِيرًا أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَهُ وَيُظهِرَ لَهُمُ الشرور بِذَلِكَ اقْتِدَاءَ بِرَسولِ اللهِ الله حَيْثُ يَقولُ لأَصْحَابِهِ رَضي اللهُ عَنْهُم: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَقَدْ شَرَعَ الله لَنا ذلِكَ لِتَسْتَنَ وَلَاهُ الْأَمْرِ بِذَلِكَ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا كَتَبَ اللهُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ حَسَنَة واحِدَةً منها تُصْلِحُ آخِرَتَهُ وَدُنْيَاه، والباقي في الدرجات».
هذا الحديث رواه أبو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ، وَرَوُيْنَاهُ عَنْ أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لَيْسَ مِن نَّفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ فِي كُل يوم تطلع فيه الشَّمس، قيل: يا رَسُولَ اللهِ: مِنْ أَيْنَ لَهُ صَدَقَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا ؟ قَالَ: إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ لَكَثِيرَةٌ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق وتُسْمِعُ الأبكم وتهدي الأعمى، وتدل على حاجته، وَتَسْعَى بَشَدٌ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَان وَالْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشَدٌ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك». رواه الترمذي وأخرجه أبو حاتم بمعناه.
قلت: ولفظ مسلم، عن أبي هريرة رضي قال: قال رسول الله ﷺ: (كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة). انتهى. والسلامى بضم السين وفتح الميم، وجمعه سلاميات بفتح الميم وهي المفاصل والأعضاء.
الحديث التاسع عشر
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: قال رَسولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ». هذا الحَدِيثُ رَواهُ الْبَزَارُ وَأَبو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِي.
قُلتُ: وقد تَكَزَرَ الْكَلَام فِي إِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وهذا الحديثُ رَوَاهُ الدارقطني في كتاب «المستَجَادِ» وابْنُ أبي الدُّنْيا؛ وقدْ رَوَيْنَا فِي «مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ» عنْ جَابِرٍ رَضِيَ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ جَرَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى يَدِ أَلْفٍ، كَانَ أَجْرُ آخِرِهِم مِّثْلَ أَجْرٍ أَوَلهُمْ».
الحديث العشرون
عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: كُل مَعروفِ صَدَقَةٌ، وَالدَالُ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ».
قلْتُ: إِغَاثَةٌ اللَّهْفَانِ وَمُوَاسَاةٌ أَهْلِ الْفَاقَةِ وَاحِبَةٌ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْمحتاج مِنْ عَلَامَةِ السَّعَادَةِ. وخرَّجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قال: «كُنتُ عِندَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ َقوْمٌ حُفَاةٌ عَرَاةٌ مُجْتَابي النّمَارِ وَالْقَبَاءِ، مُتَقَلِّدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتعتر وجه رسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن، فقام وصلى ثم خطب الناس! فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} إلى آخر الآية {إِنَّ الله كان عليكم رقيباً}، والآيــة التي في سورة الحشر {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِه مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بَرِهِ، مِنْ صَاعِ شعيرِهِ، حَتَّى قال: ولو بشق تمرة، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِّنَ الْأَنْصَارِ بِصَرَّةٍ كَادَتْ كَفْهُ تَعْجِزُ عنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كُوَمَينِ مِنْ طَعَامِ وَثِيَابِ؛ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهُ رَسول الله ﷺ يَتَهلل كانه مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسول الله ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَام سُنَّةَ حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ينقص مِنْ أُجُورِهِمْ شَيء، وَمَنْ سُنْ فِي الإِسلام سُنَةٌ سَيْئَةٌ كَانَ عَلَيْهِ وَزُرُها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْء» انتَهَى.
قلتُ: وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الجُلِيَةِ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ العزيزِ الْبَغَوِيُّ في المسند المنتخب عن النبي ﷺ أنه قال: «أنما مسلم كسا مسلماً ثوباً، كان في حفظ الله ما بقيت عليه منه رقعة».
الحديث الحَادِي وَالعِشرون
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، عَن النّبيّ ﷺ، أنه قال : «إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ المغفرة إدخالك الشرور على أخيك المسلم: إشباع جوعته وتنفيس كربته»، هذا الحديث رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أَسامَةَ فِي مُسْنَدِهِ.
وروى ابن أبي شيبة في مسنده عن النبي ﷺ أنـــه قال : «أَيُّمَا أَهْلِ عَرْصَةٍ ظَلَّ فِيهِمُ امْرُؤٌ جائعًا فَقَد بَرثَتُ منهم ذمة الله» انتهى.
وروى أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء -بسنده -عنَ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من سر مؤمنا فإنما يسر الله عز وجل، ومن عظم مؤمِناً؛ فإنما يعظم الله عز وجل، ومن أكرم مؤمنا فإنما يكرم الله عز وجل».
الحديث الثاني والعشرون
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَن النبي ﷺ قال: «مَنْ فَرَجَ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِن كُرْبَةً مِنْ كُتب الدُّنْيَا فَرَجَ اللَّهُ عَنْهُ كَرَبَةً من كرب يوم القيامة، ومن سَتَر عَلَى مُسلِم سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدنيا والآخِرَةِ، وَاللهُ تَعَالَى فِي عَونِ الْعَبْدِ ما كان العبد في عون أخيه».
قلت: هذا الحديث خرجه مسلم، وَقَد تَقَدَّمَ، وَلَفْظُهُ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النبي ﷺ، قال: «مَن نَفْس عَن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفسَ اللَّهُ عَنهُ كُرْبَةٌ مِنْ كُرَبِ يَوْمٍ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنيا والآخرةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ في عونِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يلتس فِيهِ عِلْماً سَهَلَ اللهُ لَهُ بهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمُ في بَيْتِ مِنْ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُم الرحمةُ، وَعَفَتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِينِ عِندَهُ، وَمَنْ أَبْطَـا عمله لم يُسْرِعُ بِهِ نَشِبه».
الحديث الثالث والعشرون
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللـه ﷺ: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمة ولا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حاجة أخيه كان الله في حاجتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كروب، الدُّنْيَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمَ القِيامَةِ، وَمَن ستر عَلَى مُسلم ستره اللهُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ». هذا الحديث رواه البخاري ومسلم
قلت: وَمِنَ الأحاديث الجليلَةِ الصَّحيحَةِ ما خَرَّجَهُ مُسلم في صحِيحِهِ: عَنْ أَبي هريرة رضي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا، ولا يَبعُ بَعْضُكُم عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخواناً، الْمُسْلِمُ أخو المسلم لا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخذَلَهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى ها هنا وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَراتِ. بحسب إمريء مِنَ الشير أن يحقر أخاه المسلم، كُل المُسلِمِ عَلى المُسلِمِ حَرَام دَمَةً وَمَــالــة وعرضه».
قوله: (بحسب امرىء مِنَ الشَّرِ) هَـو بـإسكان السين، أي يكفِيهِ مِنَ الْشرِ. قَالَهُ النَّوَوِي. انتَهَى.
الحَدِيث الرابع والعشرون
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكِ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا كَتَبَ اللهُ لَهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ مَغْفِرَة وَاحِدَةً مِنْها صَلَاح أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ لَهُ دَرَجَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الحديث الثامِنَ عَشَرَ الْمُتَقَدِّمُ، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تبديل الْحَسَنَةِ بالمغْفِرَةِ، وَالْمَعَانِي كُلَّهَا مَتَفِقَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنْهَ رَوَاهُ الْبَزَارُ وَأَبُو يَعْلَى؛ وَقَدْ رَوَيْنَا عَن ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هَرَيْرَةَ رضي عَنْهُمْ أَنها قالا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: (مَنْ مُشَى حاجَةِ أَخِيهِ المَسْلِمِ أَظَلَهُ اللَّهُ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُفرغ، فَإِذَا فَرَغَ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرَ حَجَةٍ وَعُمْرَةِ).
قلتُ: إغاثة الملهوف تكونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ وَبِالْجَاهِ، وَقَدْ خَرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْها، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقولُ: (إِذَا كَانَ يُومُ الْقِيَامَةِ دَعَا اللهُ بَعَبْدِ مِنْ عِبَادِهِ فَيُوقِفُهُ بَينَ يَدَيْهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ جَاهِهِ مَا يَسْأَلُهُ عن عمله) انتهى.
الحديثُ الخَامِسُ والعِشْرُونَ
عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رَجُلٌ يا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قال: أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ سرورا، أو تقضي عنه دَيْنَا، أو تطعِمَهُ خُبْزًا».
هذا الحديث رواه الطبراني في «مَكارم الأخلاق»؛ وقد رَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهِ أَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قال: «إِنَ أَبْدَالَ أُمَتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِالْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا برحمة الله وسخاوة النفس وسلامة الصدر وَالرَّحْمَةِ الجميع المسلمين».
قُلْتُ إدخالُ الشِّرُورِ على الْمُؤْمِنِينَ وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ وذَهَابَ شَحِهَا وَبُخْلِها عَلَامَةُ الْفَلَاحِ.
وروى الترمذي في جامعه عَن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «السَّخِي قَريبُ مِن الله، قريب مِنَ الْجَنَّةِ، قَريب مِنَ النَّاسِ، بَعيدُ من النَّارِ وَالْبَحْيل بعيد منَ اللهِ، بَعيدُ مِنَ الجَنَّةِ، بِعِيدُ مِن النَّاسِ، قَرِيبٌ مِّنَ النَّارِ، وَلَجَاهِلُ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ عَابِدِ بَخِيل». انتهى.
قُلتُ: وَرَوَى أبو بكر الخطيب بِسَدِهِ عَنْ أَبِي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (الشَخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَأَغْصَانُها فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ تَعَلَقَ بغصن مِنْهَا جَرَّهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَالْبُخْلُ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ وَأَغْصَانَها في الْأَرْضِ، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا جَرَّهُ إِلَى النَّارِ).
وَبَسَنَدِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ السَّخَاءِ شَجَرَةٌ في الجنة؛ فمن كان سَخِيًّا أَخذ بِغَصْنٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَتَرَكَهُ الْغَصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الجنة، والشَّحَ شَجَرَةَ فِي النَّارِ فَمَنْ كَانَ شَحيحَا أَخَذَ بِغَضَنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتَرَكَهُ الْغَصْنُ حَتَّى يُدخِلَهُ النَّارَ». انتهى من تاريخ بغداد.
قلت: وقَدْ رَوَيْنا في صحيح مسلم، عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «اتقوا الظلم فَإِنَّ الظَّلم ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّح، فَإِنَّ الشُّح أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلوا مَحَارِمَهُمْ». انتهى.
الحديث السّادِسُ وَالعِشْرُونَ
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قالَ: قَالَ رَسول الله ﷺ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ اللَّسَانِ، قيل يا رسولَ اللهِ: مَا صَدَقَةُ اللَّسَانِ؟ قَالَ: الشَّفَاعَةُ تَفُكُ بِهَا الْأَسيَرَ، وَتَحْقُنُ بِهَا الدَّمَ، وَتَجرَّ بها المعروقَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى أَخِيكَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ الكريهة».
هذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْمَكَارِم، وَيَشْهَدَ لهذا الحديث مَا رَوَيْنَاهُ في إضطِنَاعِ الْمَعروفِ لِلْخَرَائِطِي، عَنْ سَمُرَةَ ابْنِ جُنْدَبِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «ما مِنْ صَدَقَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ اللَّسَانِ، قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله ؟ قالَ: الشَّفَاعَةُ تَحْفُنُ بهَا الدَّمَ، وَتَجر بها الْمُنْفَعَةَ إِلَى أَخِيكَ وتدفع بها المكروه». قَلْتَ: وَمَا يَزِيدُ هذا الحديث قُوَّةً ما رواه الترمذي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النبي ﷺ قال: «إِنَّ الدال على الخير كفاعله» انتهى.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ والعِشْرُونَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسول اللهِ ﷺ: «إذا عَادَ المُسلِم أَخَاهُ أَو زَارَهُ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : طِبْتَ وَطابَ مُمْشَاكَ وتبوأت فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلاً».
هَذَا الحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَة والبغوي والترمذي وأبو حاتِم، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي التَّرْمِذِي عَنْ عَلي بن أبي طالب رضي الله عَنْهُ، أَنَّهُ قال: سَمِعْتُ رَسول الله ﷺ، يقول: «ما مِنْ مُسلم يَعُودُ مُسْلِبِاً عُدْوَةً إِلَّا صَلَى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكِ حَتَّى يَسِي، ولا يَعُودُهُ مَسَاءً إِلا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ».
قَوْلُهُ: (وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ) يَعِنِي يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَمَخَارِفَهَا. قُلْتَ: وَخَرَّجَ مُسْلِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ثَوْبَانَ -مَوْلَى رَسُولِ الله -عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرجِعَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا خُرْفَةٌ أَحَنَّة ؟ قالَ : جَنَاهَا». انتهى.
وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ (بَهْجَةِ الْجَالس وَأُنس المجالِسِ)، عَنِ النَّبي ﷺ، أَنْهُ قالَ: «مَنْ زَارَ أَنَّا لَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَادَهُ حَاضَ الرَّحْمَةَ حَتَّى يَرْجِعَ، وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَ لَهُ: طبت وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَات مِنَ الْجَنَّةِ مَنزِلاً» انتهى.
وَخَرَّجَ مُسْلِمُ عَنْ أَبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن النَّبى ﷺ: «أَنَّ رَجُلًا زارَ أَخَا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ علَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكَاً، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قال: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قال: أُرِيدُ أخا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ لَهُ: هَل لَّكَ عَلَيْهِ مِن نِعْمَةٍ تربها؟ قال: لا، غَيْر أَنِّي أَحْبَتُهُ في اللهِ تَعَالَى، قالَ: فَإنّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّكَ كَما أَحْبَبْتَهُ فيه».
قَالَ النَّوَوِيُّ : مَدْرَجَتِهِ، أَيْ طَرِيقِهِ وَمَعْنَى تَرَبُّهَا أَي تَحْفَظُهَا وَتَرْعَاهَا كَمَا يُرَبِّي الرَّجُلُ وَلَدَه. انتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ حَيْثُ لَقِيَهُ يَكُفٌ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ». إنتَهَى.
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِي، وَخَرَّجَ التَّرْمِذِي مَعْنَاهُ.
قَلتُ : فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِن الْخَائِفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَامِلَ النَّاسَ بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامَلَ هُوَ بِهِ، فَلَا يَذْكُرْهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ وَلْيَكُفَ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ مَسَاوِئِهِمْ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِ فِي «التهيدِ» بِسَنَدِهِ عَنْ إِسْماعيل بن كثير، قال: سمعت مُجَاهِدًا يَقولُ: (إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ ابْنِ آدَمَ فَإِذَا ذَكَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بخير، قالَتِ المَلائِكَةُ: وَلَكَ مِثْلُهُ، وَإِذَا ذَكَرَهُ بِشَيْرٍ قَالَتِ الملائكةُ: ابْنَ آدَمَ استر عورتُهُ، ارْبَعَ عَلَى نَفْسِكَ، وَاحْمَدِ الله الذي سترَ عَوْرَتُكَ». انتهى.
وَرَوَيْنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ الْجُهَنِي أبيه عن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقِ -أَرَاهَ قالَ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَن ترمَى مُسْلِمَا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ حَبْسَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جَسَرِ جهنم حتى يخرج مما قال».
وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ أَبِي دَاوُدَ بِسَدِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي طَلْحَةَ بن سهل الْأَنْصارِيَيْنِ أَنها قالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ما من امرى مسلم يَحْدُلٌ مُسْلِما في موضع تُنتهك فيه حرمته ويُنتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلا خذَلَهُ اللهُ في موطن يُحِبُّ فيه نصرته، وما من امرىء مسلم ينصَرُ مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يجب فيه نصرته». انتهى.
الحديث التاسع والعشرون
عَنْ أَبِي هَزَيرَةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (تدرون ما يقول الأسد في زئيره ؟ قالوا: الله ورسوله أَعْلَمُ، قال: يَقولُ اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف»، هذا الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، ورواه الطبراني.
قلت: والمعنى في هذا أن أهل المعروف لما أمتَثلُوا وَبَذَلُوا معروفهم حماهم الله، فلا ينبغي التعرض لهم وأَمْوَاهُمْ وَمَنْ تَحتَ رِعَايَتِهِمْ من طوارق السوء، وغيرهم ممن لم يمتثل مَعَزَضٌ لِكُلِّ آفَةٍ.
وَيَشْهَدَ لهذا الحديث ما رويناه في صَحِيحَي البخاري وَمَسْلم، عَنْ أَبِي هُزَيرَةَ رضي الله عنه أن النبي ﷺ قالَ: «مَا مِنْ يَومٍ يُصْبحَ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنزِلَانِ فَيَقولُ أَحَدَهُما: اللَّهُم أَعْطِ مُنفِقَا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمْ أُعْطِ ممسكاً تلفاً».
وقد تقدم ما رَوَاهَ ابْنَ عَبْدِ الْبَز في «التنهيد» عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «مَا أَحْسَنُ عَبْد الصَّدَقَةَ إِلَّا أَحْسَنَ اللهُ لَهُ الخلافة على بنيه، وكان في ظلّ الله يَوْمَ لا ظل إلا ظله، وَحَفِظَ يَوْمَ صدقته من كُل عَاهَة وآفة». انتهى.
الحديث الثلاثون
عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه عن جَهِ عَنِ النبي ﷺ، قال: «من عادَ مَرِيضًا لا يزال يخوض في الرحمة؛ حتى إذا قعد استنفع بها، ثُمَّ إِذَا رَجَعَ لَا يَزَالُ يخوض فيها حتى يرجع مِنْ حَيْثُ جَاءَ». هذا الحديث رواه بمعناه أبو داؤد وأبو حاتم.
قلت: وقد تَقَدَّمَ ما تَقُلْناهُ عَن مَسْلم فيما رَوَاهُ في صَحِيحِهِ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ الله عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ من عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله ! وَمَا خَرفَةُ الجنةِ ؟ قال : جناهَا» انتهى.
الحديث الحادي والثلاثون
عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: (من أنعش حقاً بلسانه، جرى له أجره حتى يأتي يوم القيامة فيوفيه ثوابه) هذا الحديث رواه الطبراني في «مكارم الأخلاق».
قلت: ويَدَلُ عَليْهِ ما رواه الترمذي عن كثير بن عبد الله. وسيأتي في آخر الأربعين إن شاء الله. انتهى.
الحديث الثاني والثلاثُونَ
عن أنس بن مالك رضي الله عنه/ قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده لا يضع الله الرحمة إلا على رحيم، قلنا: يا رَسُولَ الله: كُلْنا رَحِيمٌ، قال: لَيْسَ الرَّحِيمُ الَّذِي يُرْحَمُ نَفْسَهُ وَأَهْلَ خَاصَّتِهِ، وَلَكِنَّ الرَّحيمِ الَّذِي يَرْحَمُ المُسْلِمِينَ». هذا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِي، وَرَوِّينَا لَهُ شَوَاهِدَ مِنَ الصَّحَاحِ.
وَعَنْ جَرِيرٍ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «مَن لا يُرحَمُ لَا يُرْحَمُ وَمَن لا يَغْفِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ». وَقَدْ ثَبَتَ فِي مُسْتَدَركِ أَحكم حَديثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قال: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَذَلُّكُمْ عَلى مَا تَحَابُّونَ عَلَيْهِ؟ قالوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُم تَحابوا، والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا، قالوا: كلنا رَحِيم يا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أحَدِكُم، يعني نَفْسَهُ وَأَهْلَ خَاصَّتِهِ، وَلَكِن رَّحْمَةَ الْعَامَّةِ».
قلتُ: وَالْأَحَادِيثُ في هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًا؛ كَقَولِهِ ﷺ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ اَرْحَمَسُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمَكُم مَنْ فِي السماء)، وفي البخاري: «وَلَا يَرْحَمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادِهِ إلا الرَّحَمَاء»، وَفِي الْبَخَارِيّ: «مَن لا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْبَابِ وَكَثْرَ واسْتَفَاضَ.
الحديثُ الثَّالِثُ وَالثَّلاثونَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (من أقال مُسلِماً عَثْرَتَهُ أَقالَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، هَذا الحديثُ رَواهُ الطَّبَرَانِي وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه بمعناه.
قلتُ: وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِمَنْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِ المسّامِينَ وَيَتْبَعُ عَوْرَاتِهِمْ. فَفِي التَّرْمِذِي عَن نَّافِعِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَ: (صَعِدَ سُولُ اللهِ ﷺ المَنْبَرَ؛ فَقَالَ يا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعيرُوهُمْ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَوْ في جوف رحله) . انتهى.
وخرجه أبو داود من طَرِيقِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسلمي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَ: أَنَا اللهُ قَدَّرْتُ الخَيْرَ وَالشَّرَ فَطوبى لمن جَعَلْتُ مَفَاتِحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلْتُ مَفَاتِحَ الشَّرِ عَلَى يَديهِ».
هذا الحديث رواه الطبراني، وروينا في سنن ابن ماجة مِنْ حدِيثِ سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبي ﷺ، قال: «إِنَّ هَذَا الْخَيْرُ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِن مَفَاتِحُ، فَطُونِي لِعَبْدِ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللهُ مِغْلاقًا لِلْخَيْرِ مِفْتَاحاً لِلشَّرِ»، ومن جَعَلَهُ الله مغلَاقًا لِلْخَيْرِ مِفْتَاحًا لِلشَّرِ فَهُوَ عَبْدَ سوء لا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرَه.
وقَدْ رَوى الترمذي في «جامِعِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه أَنَّ النَّبي ﷺ وقَفَ عَلَى أَنَّاسِ؛ فَقَالَ: «أَلَا أخْبِرُكُم بِخَيْرِكُم مِّن شَرَكُمْ ؟ قَالَ: فَتَكَنُوا، فَقَالَ ذلِكَ ثَلَاثَ مراتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ: أَخْبَرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِنَا، قال: خَيْرُكُمْ مَنْ يُوجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرَكُم من لا يرجى خَيْرُهُ، وَلاَ يُؤْمَنْ شَرِّهُ». قَالَ أَبُو عِيسَى هذا حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ
عَنْ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيق رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِن كُنتُمْ تُرِيدُونَ رَحْمَتِي فارحموا خَلْقِي»، هذا الحديث رواه أَحمدُ بنُ عَدِي فِي كتابه «الكامل».
قلتُ: وروى الترمذي عن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن لا يرحم النَّاسَ لا يرحمة الله».
قال أبو عيسى: هذا حَدِيثٌ حَسَن صَحِيحٌ؛ فَمِنْ عَلامَةِ السَّعَادَةِ: الشَّفَقَةُ عَلَى خَلْق اللَّهِ وَإِيثَارُهُمْ عَلَى النَّفْسِ، سِيمَا لَمَنْ بِندِهِ فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ؛ وَقَد خَرَّجَ مُسلم وَأَبو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ الله عنه، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النبي ﷺ؛ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ على راحلة له قال: فَجَعَلَ يُصرِّقُ بَضرة يمينا وشمالاً؛ فقال النبي ﷺ: مَنْ كانَ مَعَهُ فَضْل ظهرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَن لا ظَهَرَ لَهُ، وَمَنْ كانَ مَعَهُ فَضْلُ زادِ فَلْيَعُدُ بِهِ عَلى مَن لا زادَ لَهُ، قال: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنافِ المالِ ما ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَق لِأَحَدٍ مِّنَا فِي فَضْل». انْتَهَى.
وَرَوَى التَّرْمِذِي عَنْ أَبِي أَمَامَةً رضي الله عنه، أن رسولُ اللهِ ﷺ، قال: قال الله عز وجل: «يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ إِن تَبْذُل الْفَضْل خير لَكَ، وَإِنْ تُسْكُهُ شَر لَكَ، وَلَا تَلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأُ بِمَنْ تعولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِّنَ اليَدِ السُّفْلَى». قال أبو عيسى: هذا حَديثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ. انتهى.
قال الغزالي في الإحياء: قال نافع: كان ابن عمر مريضا فاشتهى سمكةً طرية فحملت إليه على رغيف، فقـام سـائل بالباب، فأمر بدفعها إلَيْهِ ثُمَّ قال : سمعت رسول الله ﷺ يقُولُ أَيْمَا أَمْرِى اِشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَأَثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غفر الله لَهُ». انتهى.
الحديث السادس والثلاثون
عن أبي بردة عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: «مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَثلِ الْبَنْيَانِ يُمْسِكُ بَعْضُهُ بَعْضًا، يشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.
هذا الحديثُ رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمٌ، وَرَوَيْنَا مِنْ طريق الطَّبَرَانِي عَنِ الشَّعِي، عَنِ النُّعْمَانِ ابْنِ بَشِيرٍن قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنينَ في تَرَاحِمِهِمْ وَتَوادُدِهِمْ وَتَوَاصَلِهِمْ كَمَثَلِ الجسد، إذا أَشْتَكَى عُضُوَ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالحمى والشهر».
قال الطبراني : رأَيْتُ النبي ﷺ في المقامِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هذا الحديث، فقال النبي ﷺ، وأشَارَ بِيَدِهِ، صَحِيحُ صَحِيحُ صَحِيحَ ثَلَاثَ مَرَاتٍ انْتَهَى.
قلتُ: وَلَا شَكٍّ فِي صِحَةِ مَعَانِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَلْفَاظُهُ وَاضِحَةٌ، وَأَنْوَارٌ مَعَانِيهِ لاَئِحَةُ، وَقَد قال تَعَالَى في الخِيرَة مِنْ خلقه محمد ﷺ: {محمد رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} الآية، وَوَصفَهُم بِالْأُلْفَةِ؛ فَقَالَ مُمتَنا عَلَيْهِمْ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلْفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَا}.
وسأذكرَ هُنَا مَا جَاءَ فِي التَّرَاحُمِ وَالْألْفَةِ وَالتَّحابب في الله سبْحَانَهُ؛ فَفِي صَحِيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُونَ الجنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُوا أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذا فَعَلْتُوهُ تَحَايْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُم». انتهى.
وخرّج الْبُخَارِي وَمُسْلِم، عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِي رَضِيَ الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ الْأَشْعَرِمِينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَرُو أَوْ قَلَّ طَعَامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْب واحدٍ ثُمَّ افْتَتَمُوهُ بَيْنَهُمْ بِإِنَاءٍ واحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُم مني وأنا منهم» انتهى.
وهذه الخصال نهاية التّراحُمِ وَالتَّوَادَدِ. قال الشريشي في شرح المقاماتِ: أَرْمَلَ الْقَوْمُ: فَنِي زَادَهُمْ.
وروى أبو بكر الخطيب -في تاريخ بغداد -بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، أنّه قال: «إنْ أَحَبكُمْ إِلَى اللهِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقَا الْموَظُنُّونَ أَكنافتًا الَّذِينَ يَألفونَ، وَيُؤلِّفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَى الله المَشَاءُونَ بالنميمةِ الْمُيَسُونَ العَثَراتِ الْمُفَرَّقُونَ بَينَ الإخْوَانِ».
قُلْتُ: وَرَوَيْنَا في جامعِ التَّرْمِذِي، عَنْ أَنَسٍ قال: لَما قَدِمَ النيل المدينة أَتَاهُ المهاجرون فقالوا يا رسول الله ﷺ: ما رأَيْنَا قَوْماً أَبْدَلَ مِنْ كَثير، وَلا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَليلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهَرهِمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤونَةَ وَأَشْرَكُونَا في الْمَهْنَا حَتى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بالأجر كُلِّهِ، فَقَالَ النبيُّ ﷺ: «لاَ، مَا دَعَوْتُمُ الله لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ)، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وَالْقَوْمُ الْمَشَارُ إِلَيْهِمْ هُمُ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَقَدَ أَثْنَى الله تَعَالَى عَلَيْهِمْ في قوله سُبْحَانَه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كان بهم خصَاصَة}.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَهِ قَالَ : قال رسول ﷺ: «مَا مِن مُسْلِمٍ يعزّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ الله من حُلل الكَرامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هذا الحديث رواه البيهقي.
قُلْتُ وَلَفْظ النووي في الحِلْيَةِ: وَرَوْيْنَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجه والْبَيَقِي بِإِسْنَادِ حَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ النبي ﷺ قال: «ما مِنْ مسلم يُعَنِّي أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بمصيبةِ إِلا كَسَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ التَّرْمِذِي وَالسَّيْنِ الكبير للبيهقي عن ابنِ مَسْعُودٍ عَنِ النبي ﷺ: «مَنْ عَزَّى مَصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ»، و في سَنَدِهِ ضُعْفٌ.
وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ الترِّمْذِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَزَّى تَكلَى كُنِي بُرْدًا فِي الْجَنَّةِ». قال الترمذي : لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِي، قُلْتُ: إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هُنَا في باب الترغيب حَسَنُ اتفاقاً. انتهى.
الحديث الثَّامِنُ والثلاثونَ
عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْها، قالت: قال رسول الله ﷺ: «أَلا أُخْبِرُكُم بِأَفْضَلَّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قال: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ (العَدَاوَة وَالْبَغْضَاء)، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الحالقة).
هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أبو داود، والترمذي مِنْ حَديثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه، والطَّبَرَانِي مِنْ حديثِ أُمّ الدردَاءِ تَرْفَعُهُ إِلَى رَسولِ اللهِ ﷺ.
قال الترمذي: وَهُو حديث صحيح، وأَرَادَ افسادِ ذَاتِ (ي) البينِ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ، وَمَعْنَى الْحالِقَةِ: التي تَحْلِقُ الدِّينَ، فَقَدْ رَوَيْنَا عَن رَّسُولِ اللهِ ﷺ: «إنه قد ذُبّ إِلَيْكُمْ دَاء أُمِّ قَبْلَكُمُ الحَسَدُ وَالْبَغْضَاءَ هِيَ الْخَالِقَةُ، لا أَقولُ : تَحَلِقُ الشُّعَرَ، ولكن تخلقَ الذِينَ».
قلتُ: وَحَذَتْ أَبو عُمَرَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيمون قال: الما رفع الله مُوسَى نَجَيًّا رأى رجلاً متعلقا بالعرش، فَقَالَ: يَا رَبِّ، مَنْ هَذا؟ قال: عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي صَالِحُ إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِعَمَلِهِ، قال: يَاربّ أَخْبِرْنِي، قال: كانَ لا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، ثُمَّ حَدَّتْ أبو عُمَرَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ رَضِيَ قال: قالَ رَسُولُ الله ﷺ: «إِنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ مَا تَأْكُلُ النار الخطب الرقيق».
وذَكَرَ عَبْدُ الزَزْاقِ، عَن مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أمية، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلاثُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطَّيْرَةُ وَالظَّنُ والحسد، قيل: فَمَا الْخَرَجُ مِنْهُنَّ يا رَسُولَ اللهِ ؟ قال: إِذَا تَظيرت فلا تَرْجِعُ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلا تحقق، وَإِذَا حَسَدَتَ فَلَا تَبْغِ» انتهى من «التمهيد».
قُلْتُ: اعْلَم -رَحمَكَ اللهُ -أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ آثَارٌ صَحِيحَةٌ فِي ذَمّ الشَّحْنَاءِ وَالتَّبَاغُضِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيّ، فَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَومَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخميسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدِ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاهُ، فَيَقُولُ: أَنْظُرُوا هاذين حَتى يَصْطَلِحَا». وفِي رِوَايَةِ الْمُسْلِمِ: تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ خَمِيسِ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِكُلِّ امْرِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» الحديث انتهى.
قُلْتُ: وَرَوَى ابْنُ المُبَارَكِ في رَقَائِقِهِ بِسَنَدِهِ عَنِ النبي ﷺ قال: «لا يَحِلُّ لِاِمْرِىءٍ مُسْلِم أَنْ يهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِنَّها نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ ما داما على صرامهما؛ فَأَوَّلهُما فَيْئاً يَكونُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةَ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ عَلَيْهَ سَلامَهُ رَدَتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، وَرَدَّتْ عَلَى الْآخَرِ الشَّيَاطِينُ، وَإِذا ماتا عَلَى صِرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلاَ الجنَّةَ، أَرَاهُ قال: أَبَدًا». انتهى.
وَسَنَدُهُ جَيْدٌ، وَنَصَّهُ: قال ابْنُ الْمُبَارَكَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عن يزِيدَ الرَّشِيدِ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قالَتْ : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عَامِ يقول : سمعت النبي ﷺ، فَذَكَرَ الحديث.
وقوله «لَم يَدْخُلاَ الجنَّةَ» لَيْسَ عَلى ظَاهِرِهِ، ومَعْنَى لَم يَدْخُلاَ الجنَّةَ أَبَدًا؛ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِّنْ بَعْضٍ، أَوْ يَقَعَ الْعَفْوُ وَتَحَلَّ الشَّفَاعَةُ -حسب ما هُوَ مَعْلُومٌ فِي صَحِيحِ الْآثَارِ.
قلت: وَرَوَى الدارقطني في سُنَنَهِ عَن النبي ﷺ أَنه قال: خيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشَرِّ عِبَادِ اللهِ الْمَشَاءُونَ بِالنَّمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاعُونَ لِلْبَرَاءِ الْعَيْبَ» انتهى.
الحديث التاسع والثلاثون
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: لاَ يَقُومُ إِلَّا أَحَدٌ لَهُ عِنْدَ اللهِ يد، فَتَقُولُ الخَلائِقُ: سُبْحَانَكَ: بَل لَّكَ الْيَدُ، فَتَقُولُ ذلِكَ مراراً، فيقولُ: بَلَى: مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيا بَعْدَ قُدْرَةِ).
هَذَا الحديث رواه أبو مَنْصُورِ الدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا وقَفَ الْعِبَادُ لِلحِسَابِ يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ؟ فيقال: الْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، فقام كذا وكذا فَدَخَلُوهَا بغير حساب».
الحديثُ الْأَرْبَعُونَ
عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عنهما، قال: قِيلَ لِرَسُولِ الله ﷺ: يا رسولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: أَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، قيل: فَأَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال: إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى الْمُؤْمِنِ قيل، فما سُرُورُ الْمُؤْمِنِ؟ قال إِشْبَاعُ جَوْعَتِهِ، وَتَنْفِيسُ كُرْبَتِهِ، وقَضَاءُ دَيْنِهِ،، وَمَن مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ كَانَ كَصِيام شهر أو اعْتِكَافِهِ، وَمَن مشَى مَعَ مَظْلُومٍ يَعينُهُ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يومَ تَزِلُ الْأَقْدَامُ، وَمَنْ كَفَ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَإِنَّ الخَلْقَ السيء يُفْسِدُ الْعَمَلَ مَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ».
هذا الحديث رواه أَبو مُحمدٍ فَيْرُوزُ العَسْقَلانِيُّ، وَرَوَّيْنَا فِي المعجم الكبيرِ وَالْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ -يَعْنِي لِلطَّبَرَانِي -عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عنها: أنَّ رَجُلاً جاء إلى النبي ﷺ، فقال يا رسول الله «أي النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ فَقالَ رسولُ اللهِ ﷺ، أَحَبُّ الناسِ إِلَى اللهِ عزَّ وَجَلَّ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمالِ إِلى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسلِم أَوْ تَكِشِفُ عَنْهُ كُرْبَةَ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخ لي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يمضِيهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَن مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حاجَةٍ حَتَّى يُشَبَّهَا ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَام.
قُلتُ: ما تَقَدَّمَ مِنَ التَّيْسِيرِ عَلَى الْعُشِيرِ، وَتَنْفِيسِ كَرْبَتِهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسلِم عَن النبي ﷺ، أَنه قال: (كانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكانَ يَقولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ معسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قال، فَلَقِي الله فتجاوز عنه). وقد قدمناه في الحديث الثَّانِي عَشَرَ.