الملخص المفيد لعارض الجهل وأثره على مسائل العقيدة والتوحيد
تأليف أبي العُلا بنِ راشِدِ بنِ أبي العُلا الرَّاشِد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ مع انتشار نواقض الإيمان، ووقوع الكثير من الناس فيها أفراداً وجماعات؛ فإن الواجب على الدعاة والعلماء بيان خطورة هذه النواقض، وتحذير الناس من الوقوع فيها، وإيضاح الدلائل على أنها مخرجة من ملة الإسلام، ورد شبهات المبطلين ممن يلبس على الناس في أمرها، أو يهون من شأنها؛ إعذاراً لهم، وبياناً للحجة، وقد أخذ الله على العلماء أن يبينوه للناس لا يكتمونه.
ونحن في زمان فاض فيه العلم، وانحسرت فيه رقعة الجهل، والقرآن يُتلى ليل نهار عبر الإذاعات، وفي المساجد، وكذلك السُّنة معلومة مع كثرة البرامج والتطبيقات والمواقع التي تنشر السُّنة ودعوة التوحيد، والناس برغم جهلهم يعلمون أن هناك دعاةً يقومون بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك بكل صوره وألوانه الظاهرة والخفية، ويُبينون زيغ الفرق المبطلة التي تدعو إلى الشرك والبدع، فكان في هذا بلاغاً كافياً وبياناً وافياً في إقامة الحجة، وبلوغ الحق للعالمين.
ولا يستطيع أحدٌ في هذا العصر أن يدَّعي أن دعوة التوحيد لم تبلغه، حتى الواقعين في الشرك يعلمون أن هناك دعوةً تُخالف ما هم عليه، ولكنهم لم يُكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حقيقة هذه الدعوة، بل عادوها وأعرضوا عنها، وبالتالي فإنهم لا يُعذرون بالجهالة في مسائل التوحيد وأصول الإيمان؛ فكل من يتلبس بالشرك الأكبر أو الكفر؛ فهو غير معذورٍ بالجهالة، إلا أن يكون حديث عهدٍ بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وهذه القاعدة موضع اتفاق بين العلماء.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة مصرحةً بأن الجهل جريمة لا عُذر، وأن من المعلوم من الضرورة العقلية: أن الجاهل للشيء يُفسده ولا يُصلحه، سواءً في الدين والدنيا، فمن عجبٍ أن يُقيموا ما جعله الله جريمةً يُعاقب عليها أشدَّ العقوبة عُذراً يُعذر به أهل البدع والخرافات الجاهلية التي حولت الناس عن الإسلام إلى الجاهلية الأولى، ولعلّهم يحتجون بقول الله: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} (النساء: 17)، وليس في ذلك حُجَّةً؛ لأن الجهل هنا هو السَّفه والطيش من غلبة الغفلة والنسيان.
ولا تقبل دعوى مرتكب الكفر أنه كان متأولاً، أو مجتهداً مخطئاً، أو مُقلداً، أو جاهلاً، ولا يُعد ذلك عُذراً في حقه بإجماع السَّلف، ولذا وضع المؤلف كتابه: (عارض الجهل، وأثره على أحكام الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة).
وموضوع هذا الكتاب هو الجهل باعتباره عارضاً من عوارض الأهلية، ومن حيث كونه يصلح عذراً، والحالات التي يصلح فيها عُذراً، والحالات التي لا يصلح فيها عذراً، والجهل في مجمله هو عدم العلم.
وقد قسم العلماء الجهل بهذا الاعتبار إلى قسمين:
(أ) الجهل الذي لا يصلح عذراً: ومثلوا له بجهل الكفار بأصول الدين، وكلياته، وصفات الله تعالى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأحكام الآخرة، وكذلك الجهل الذي يخالف المشهور من الكتاب والسنة والإجماع؛ فإنه ليس بعذرٍ أصلاً. ومن مات قبل بلوغ الدعوة، فالذي يُحكم عليه به أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ومات على ذلك، ويدين به، فهذا ظاهره الكفر، وأما حقيقة أمره فهي إلى الله تعالى.
(ب) الجهل الذي يصلح عذراً: ومثلوا له بجهل المسلم بالشرائع في دار الحرب، وكذلك الجهل الذي في موضع الاجتهاد الصحيح بألا يكون مخالفاً للكتاب والسنة.
وفرق العلماء بين ما يشترك غالب الناس في معرفته، فلا تقبل فيه دعوى الجهل، ومثلوا له بتحريم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وبين ما لا يشترك غالب الناس في معرفته، كما في مسائل المواريث، والطلاق والعتاق، وفرقوا بين ما اشتهر علمه في العامة بخلاف ما كان خافياً علمه، وسمو الأول: علم العامة، والثاني: علم الخاصة.
ومسألة الجهل واعتباره من الأعذار تكتنفها عدة أمور لا بد من ملاحظتها:
الأول: نوعية المسألة المجهولة: معلومة من الدين بالضرورة، أم غير معلومة من الدين بالضرورة.
الثاني: المحل الذي وقع فيه الجهل: دار الحرب، أم دار الإسلام.
الثالث: كون المسألة مشتهرة أو غير مشتهرة، وعبر عنها العلماء: ما يشترك غالب الناس في علمه وما لا يشترك غالب الناس في علمه.
الرابع: كون المسألة مما يقع فيها الخطأ والجهل عن اجتهاد صحيح، أو كونها لا يقع فيها الاجتهاد لمخالفتها المشهور من الكتاب والسنة والإجماع، ويطلق عليه العلماء (المسائل التي هي محل اجتهاد، والمسائل التي لا مساغ للاجتهاد فيها).
الخامس: من وقع مته الجهل لكونه حديث العهد بالإسلام، وغيره ممن ليس بحديث عهد بالإسلام.
السادس: ومن قواعد العلماء في مسألة الجهل: اختلاف الجهل .باختلاف متعلقه.
وقبل الخوض في صلب الموضوع، لا بُد من مقدمة موجزة في تعريف الجهل:
الجهل لغةً: ضد العلم، وجهل من باب فهم وسَلِمَ. وتجاهل: أرى من نفسه ذلك وليس به، والتجهيل نسبة إلى الجهل(مختار الصحاح، ص 115)
واصطلاحاً: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، وهو قسمان: بسيط، ومركب. فالبسيط هو: عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالماً. والمركب: عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع.
ويعد الجهل من العوارض الأهلية، فما معنى العوارض الأهلية؟
العوارض: جمع عارض: أي: أمر عارض، أو جمع عارض، أي: خصلة عارضة، أو آفة عارضة، مأخوذ من: عرض كذا.
وقد عرفها علماء الأصول: بأنها الحالات التي تكون منافية للأهلية، وليست من لوازم الإنسان من حيث هو إنسان.
والعوارض تنقسم عند علماء الأصول إلى قسمين:
أ- عوارض سماوية: وهي ما لا دخل للإنسان في وجودها أو وقوعها؛مثل: الصغر، والجنون، والنسيان، والعته، والتوم، والإعياء، والرق، والموت.
ب - عوارض مكتسبة: وهي ما يكون للإنسان دخل في وجودها ووقوعها، ومثلوا لها: بالجهل، والخطأ، والسُّكر، والهَزل.
تعريف الأهلية: الأهلية لغةً بمعنى الصلاحية للشيء.
واصطلاحاً: صلاحية الإنسان للوجوب له وعليه شرعاً، أو لصدور الفعل على وجهٍ يُعتدُّ به شرعاً.
انظر: الموسوعة الفقهية (١٦/ ١٩٧ ط١ الكويت).
وقد قسم العلماء الجهل إلى قسمين:
- قسم ناشئ عن تفريط صاحبه وتقصيره في إزالته، فلا عذر له فيه.
- قسم ناشئ عن عدم تفريط، وإهمال؛ لعدم وجود من يعلم صاحبه، فهذا معذور صاحبه.
وقد فرَّق العلماء في العذر بالجهل بالنسبة لمسائل التكفير الظاهرة، بين القريب العهد بالإسلام، ومن نشأ بعيداً عن المسلمين، الذين يُمكنه التعلُّم منهم، وبين من نشأ في دار المسلمين وأمكنه التعلُّم ولكنه قصَّر في ذلك، فهذا يُحكم عليه بالكفر، ولا يُعذر بجهله، ولهذا فاستتابة المرتد والكافر -عند من يقول بوجوبها -ليس من أجل إقامة الحجة عليه، أو دفع الجهل عنه، بل لإعطائه فرصةً للرجوع عن كفره وردته.
وأما المسائل التي لا يكفر المُعيَّنُ بجهلها مطلقاً، فهي الأمور الخفيّة من الدين، ويُقال باصطلاح جمهور العلماء: هي ما ليس مجمعاً عليه، ولا معلوماً من الدين بالضرورة، كالمسائل التي اختلف فيها أئمة المسلمين من تفويض، وتأويل.
ومع ذلك؛ فهذا لا يعني أن نفتح باب تكفير المُعيّن، بل لا بُدّ من التزام الضوابط التي ضبط بها أهل العلم هذه قضية تكفير المعين، فإذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، حينها نحكم على الشخص المُعين بالكفر، والخروج من الملة.
وقد اشتمل هذا البحث على تسعة فصول، على النحو التالي:
١ - الفصل الأول: تعريف الجهل، وبيان صوره، وبيان الدليل الشرع.
٢- الفصل الثاني: ثبوت التفريق بين المسائل الظاهرة والخفية عند العلماء، وما يندرج تحت هذه المسائل.
٣- الفصل الثالث: مناقشة اعتبار المقاصد في مسائل التكفير.
٤ - الفصل الرابع: صفة قيام الحجة في المسائل الظاهرة والخفية.
٥ - الفصل الخامس: قاعدة إمكانية التعليم.
٦ - الفصل السادس: الأدلة من القرآن الكريم على اعتبار عدم الجهل والتقليد عذراً في مسائل التوحيد لمن بلغه القرآن الكريم.
٧ - الفصل السابع: أقوال الأئمة الأعلام في عدم العذر بالجهل في المسائل الظاهرة.
٨- الفصل الثامن: أقوال الفقهاء في تعريف الردة وشرائطها، وعدم ذكرهم لشرط العلم فضمن شروط الردة.
٩-الفصل التاسع: أشهر المعارضات التي استدل بها على عدم الإعذار بالجهالة، ومناقشتها مناقشة علمية، وفيها:
(أ) مناقشة حادثة ذات أنواط، وأن عذرهم بالجهل هو كونهم حدثاء عهدٍ بكفر، كما في بعض الروايات، وحمله بعض العلماء على أن قولهم "اجعل لنا ذات أنواط" لم يكن شركاً، وإنما كان وسيلةً وطلباً يؤدي إلى الشرك، وممن قال بذلك ابن تيمية، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، والحافظ أبو العلاء المباركفوري، والقاضي أبو بكر بن العربي، والإمام الشاطبي، وعليه فهذا الطلب كان من باب الشرك الأصغر.
(ب) حديث الرجل الذي ذرَّى نفسه، وللعلماء في قوله (لئن قدر الله علي)؛ فقيل: شك في القدرة، وقيل: أراد تحقير نفسه، وقيل: قدر بمعنى ضيَّق عليَّ وجمعني، وقيل: قدر بمعنى قضى عليَّ بالعذاب، وقل: هو أسلوب عند العرب صورته الشك وغايته تحقيق اليقين، وقيل: إن الرجل كان من أهل الفترة، وأهل الفترة لا يُقاسون بغيرهم، وقيل: إن الرجل كان جاهلاً بصفة من صفات الله تعالى، وقيل: إن الرجل فعل ذلك في حالة من شدة الهول والفزع.
(ج) حادثة عائشة رضي الله عنها، وأنها كانت جاهلة بعلم الله بما يكتمه الناس، وقد وقع في ألفاظ هذه الرواية اضطراب، ورُجحت الألفاظ التي لا تدلُّ على هذا الأمر، أو يُقال: إنها صدَّقت نفسها، وهذا أولى.
(د) مناقشة حديث الحواريين، وقوله في الآية الكريمة: {هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدةً من السماء}؛ فجمهور العلماء والمفسرين على أن الحواريين لم يشكوا في قدرة الله، وأن تفسير الآية: هل يُطيعك ربك في الإجابة، فتكون الاستطاعة هنا هي استطاعة المطاوعة، لا استطاعة القدرة، وعلى القراءة الثانية {هل تستطيع ربكَ} على تقدير أن تسأله، وقيل: إن سؤالهم هنا هو سؤال اطمئنان لا سؤال شك، وهو من جنس ما سأله إبراهيم عليه السلام: {رب أرني كيف تحيي الموتى} للاطمئنان وزيادة التثبت، والرد على من قال إن الحواريين كانوا فرقتين: مؤمنة وكافرة، والرد على من قال إن قولهم هذا كان قبل استحكام الإيمان في قلوبهم.
(ه) مناقشة حديث سجود معاذ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه بيان أن معاذاً معذورٌ بالجهل؛ لأنه فعل ذلك قبل ورود النصِّ بتحريمه وكان مباحاً في الأمم السابقة كسجود تكريم وتحية لا سجود عبادةٍ وقُربة، فلما حرَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لم يعد هذا عُذراً في حق من فعله بعد ذلك.
(و) حديث حذيفة بن اليمان في أقوامٍ يأتون قبل يوم القيامة حين اندراس العلم ورفعه؛ فيقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون "لا إله إلا الله"، فلما قيل له: وما تنفعهم؟ قال: تُنجيهم من النار، وهذا الحديث بعيدٌ عن موطن النزاع، فليس في نص الحديث أنهم ارتكبوا شركاً فعُذروا بالجهل فيه، ولكن فيه أنهم تركوا ما لم يبلغهم من الشرائع، بسبب عدم تمكنهم من تعلمه لرفع القرآن واندثار العلم في زمانهم.
(ز) حادثة في القود، وذلك أن أبا جهم شجّ رجلاً من بني ليث في رأسه، فطلب أهل المشجوج القود، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم صالحهم على مالٍ يُعطيهم إياه، فلما خطب الناس وأخبرهم كذبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في صلحهم، فزادهم من المال فرضوا، فتكذيبهم للنبي كفر، ومع ذلك فقد أعذرهم النبيُّ بالجهل، والجواب: أن هؤلاء الأعراب معذورون؛ لأنهم حديثو عهد بالإسلام، ولأنهم نشأوا في باديةٍ بعيدة.
(ح) مناقشة دعوى الإجماع في مسألة الإعذار بالجهالة في الأصول والفروع، وأن هذه الدعوى مناقضة لما نقله علماء آخرين من إجماع السلف على عدم الإعذار في المسائل الظاهرة؛ كالقرافي المالكي، والإمام أبا بطين النجدي، والشيخ رشيد رضا، وهو قول عامة أهل العلم إلا من شذ، وهو القول الأظهر والمشهور من المذاهب الفقهية، وهناك وجوه أخرى لبيان هذه القضية (ص 219 -221).
وختم هذا البحث بذكر بعض فتاوى العلماء الأعلام في قضية العذر بالجهل، وحكم تكفير المعين.
1-فتوى الشيخ حسين، والشيخ عبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يُدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم، يفعلها ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يُلعن أو يُسب، أو يُكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها ومات معاديا لهذا الدين وأهله؟
الجواب: من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، ولا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه؛ وأما حقيقة أمره، فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى.
وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا، كما في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " (رواه البخاري)، إلا إن كان أحداً من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية.
2-فتوى الشيخ حمد بن ناصر بن معمر من علماء الدعوة النجدية: عن قول الفقهاء: إن المرتد لا يرث ولا يُورث؛ فكفّار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان وأنهم مشركون؟
أما من دخل منهم في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح.
وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول:
الأصل إسلامهم والكفر طارئ عليهم، بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " (رواه البخاري).
فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول: الأصل الإسلام والكفر طارئ عليهم، بل نقول: هم الكفار الأصليون.
ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم.
بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام تاركاً للشرك فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله تعالى، لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15).
وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (القرة: 134-141).
فمن كان منهم مسلماً أدخله الله الجنة، ومن كان كافراً أدخله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.
وأيضاً، فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد، أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال: لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئاً لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم لبيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث.
وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا أسلموا، فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها.
3-فتوى الشيخ أبا بطين مُفتي الديار النجدية عندما سُئل: عمَّن يرتكب شيئاً من المُكفّرات… الخ؟
فأجاب: ما سألت عنه، من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر، إذا ارتكب شيئا من المكفرات، فالأمر الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع العلماء على أنه كفر، مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه، فمن ارتكب شيئاً من هذا النوع أو جنسه، فهذا لا شك في كفره.
ولا بأس بمن تحققت منه شيئاً من ذلك، أن تقول: كفر فلان بهذا الفعل، يبين هذا: أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، يصير بها المسلم كافراً، ويفتتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتل، والاستتابة إنما تكون مع معين.
ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق; قال: كفرت بالله العظيم; وكلام العلماء في تكفير المعين كثير.
وأعظم أنواع الكفر: الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى: قيل: فلان مُرابٍ".
4-فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالرياض رقم (11043) عندما سئلت ما نصُّه: (عندنا تفشي ظاهرة عبادة القبور وفي نفس الوقت وجود من يدافع عن هؤلاء ويقول: إنهم مسلمون معذورون بجهلهم فلا مانع من أن يتزوجوا من فتياتنا وأن نصلي خلفهم وأن لهم كافة حقوق المسلم على المسلم) ولا يكتفون، بل يسمون من يقول بكفر هؤلاء: إنه صاحب بدعة يعامل معاملة المبتدعين، بل ويدَّعوا أن سماحتكم تعذرون عباد القبور بجهلهم حيث أقررتم مذكرة لشخص يدعى الغباشي يعذر فيها عباد القبور، لذلك أرجو من سماحتكم إرسال بحث شاف كاف تبين فيه الأمور التي فيها العذر بالجهل من الأمور التي لا عذر فيها، كذلك بيان المراجع التي يمكن الرجوع إليها في ذلك، ولكم منا جزيل الشكر.
فأجابت اللجنة: يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاءً وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفاً.
فمن استغاث بأصحاب القبور دفعا للضر أو كشفا للكرب بُيّنَ له أن ذلك شرك، وأقيمت عليه الحجة؛ أداءً لواجب البلاغ، فإن أصر بعد البيان؛ فهو مشركٌ يعامل في الدنيا معاملة الكافرين واستحق العذاب الأليم في الآخرة إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النسائ: 165).
وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الاسراء: 15).
وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19).
وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» رواه مسلم.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البيان وإقامة الحجة قبل المؤاخذة، ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله؛ فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر على الكفر.
ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم.
كما يشهد له ما قصه الله تعالى من نبأ قوم موسى إذ أضلهم السامري فعبدوا العجل وقد استخلف فيهم أخاه هارون عند ذهابه لمناجاة الله، فلما أنكر عليهم عبادة العجل قالوا: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}، فاستجابوا لداعي الشرك، وأبوا أن يستجيبوا لداعي التوحيد، فلم يعذرهم الله في استجابتهم لدعوة الشرك والتلبيس عليهم فيها لوجود الدعوة للتوحيد إلى جانبها مع قرب العهد بدعوة موسى إلى التوحيد.
ويشهد لذلك أيضاً ما قصه الله من نبأ نقاش الشيطان لأهل النار وتخليه عنهم وبراءته منهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (ابراهيم: 22).
فلم يعذروا بتصديقهم وعد الشيطان مع مزيد تلبيسه وتزيينه الشرك وإتباعهم لما سول لهم من الشرك لوقوعه إلى جانب وعد الله الحق بالثواب الجزيل لمن صدق وعده فاستجاب لتشريعه واتبع صراطه السوي.
ومن نظر في البلاد التي انتشر فيها الإسلام وجد من يعيش فيها يتجاذبه فريقان فريق يدعو إلى البدع على اختلاف أنواعها شركية وغير شركية، ويلبس على الناس ويزين لهم بدعته بما استطاع من أحاديث لا تصح وقصص عجيبة غريبة يوردها بأسلوب شيق جذاب، وفريق يدعو إلى الحق والهدى، ويقيم على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، ويبين بطلان ما دعا إليه الفريق الآخر وما فيه من زيف، فكان في بلاغ هذا الفريق وبيانه الكفاية في إقامة الحجة وإن قل عددهم، فإن العبرة ببيان الحق بدليله لا بكثرة العدد.
فمن كان عاقلا وعاش في مثل هذه البلاد واستطاع أن يعرف الحق من أهله إذا جد في طلبه وسلم من الهوى والعصبية، ولم يغتر بغنى الأغنياء ولا بسيادة الزعماء ولا بوجاهة الوجهاء ولا اختل ميزان تفكيره، وألغى عقله، وكان من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (الأحزاب: 64 -68)
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن والإسلام فهذا - على تقدير وجوده - حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً إقامة للحجة و إعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بلهه أو صغره وعدم تكليفه.
وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه: آمن وكفر، ولكن يقال: أصاب وأخطأ، فيعذر فيه من أخطأ ويؤجر فيه من أصاب الحق باجتهاده أجرين.
وهذا النوع مما يتفاوت فيه الناس باختلاف مداركهم ومعرفتهم باللغة العربية وترجمتها وسعة اطلاعهم على نصوص الشريعة كتاباً وسنة ومعرفة صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها ونحو ذلك.
وبذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحدين الذين يعتقدون كفر عُبّاد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحدين الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة؛ لأن توقفهم عن تكفيرهم له شبهة وهي اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم، والله ولي التوفيق،
5-وفي فتوى أخرى للجنة الدائمة برقم (6310)، وقد سئلت: هل قامت حجة الله عز وجل على أهل هذا الزمان أو لم تقم ويجب على العلماء إقامتها؟
من بلغته الدعوة في هذا الزمان فقد قامت عليه الحجة، ومن لم تبلغه الدعوة فإن الحجة لم تقم عليه كسائر الأزمان، وواجب العلماء البلاغ والبيان حسب الطاقة.
6-وفي فتوى أخرى للجنة الدائمة برقم (2229)، وقد سئلت هل هناك فرقٌ بين المسلمين الذين عندهم نوعٌ من الشرك، وبين المشركين الذين لم يعترفوا بالإسلام؟
فأجابت: لا فرق بين من يرتكس في بدع شركية تخرج من ينتسب إلى الإسلام منه وبين من لم يدخل في الإسلام مطلقاً في تحريم المناكحة ومنع التوارث بينهم وبين المسلمين، ولكن بينهم تفاوتاً في درجة الكفر والعقوبة عليه في الدنيا والآخرة حسب درجة طغيانهم.
فمثلاً الأول: يعتبر مرتداً عن الإسلام يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل لردته، وماله لبيت المال لا لزوجه وأهله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري).
والثاني: يدعى إلى الإسلام فإن استجاب فبها، وإلا شرع جهاده وقتاله كسائر الكافرين، وماله فيء أو غنيمة للمسلمين إن أخذوه في جهاد، ولورثته من أهل دينه إن مات في غير جهاد، إلا أن يكون المشرك من أهل الكتاب والمجوس فإنهم يقرون بالجزية إذا التزموا بها عن يد وهم صاغرون، وإلا قوتلوا عند القدرة على ذلك؛ لقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر.
7- فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز، وقد سئل رحمه الله: هل يُعذر المسلم إذا فعل شيئاً من الشرك كالذبح والنذر -لغير الله -جاهلاً؟
فأجاب رحمه الله: ((لأمور قسمان:
أ- قسم يعذر فيه بالجهل.
ب- وقسم لا يعذر فيه بالجهل.
فإذا كان من أتى ذلك بين المسلمين، وأتى الشرك بالله، وعبد غير الله، فإنه لا يعذر لأنه مقصر لم يسأل، ولم يتبصر في دينه فيكون غير معذور في عبادته غير الله من أموات أو أشجار أو أحجار أو أصنام، لإعراضه وغفلته عن دينه، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (الأحقاف: 3).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استأذن ربه أن يستغفر لأمه لأنها ماتت في الجاهلية لم يؤذن له ليستغفر لها؛ لأنها ماتت على دين قومها عباد الأوثان؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لشخص سأله عن أبيه، قال: «هو في النار، فلما رأى ما في وجهه قال: إن أبي وأباك في النار» (رواه مسلم). لأنه مات على الشرك بالله، وعلى عبادة غيره سبحانه وتعالى، فكيف بالذي بين المسلمين وهو يعبد البدوي، أو يعبد الحسين، أو يعبد الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو يعبد الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، أو يعبد علياً أو يعبد غيرهم.
فهؤلاء وأشباههم لا يعذرون من باب أولى؛ لأنهم أتوا الشرك الأكبر وهم بين المسلمين، والقرآن بين أيديهم. وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة بينهم، ولكنهم عن ذلك معرضون.
والقسم الثاني: من يعذر بالجهل كالذي ينشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا، أو لأسباب أخرى كأهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الرسالة، فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار؛ لقوله جل وعلا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) والأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة في آخر كتابه: (طريق الهجرتين) لما ذكر طبقات المكلفين، فليراجع هناك لعظم فائدته.