حكم اللحم المستورد من أوروبا النصرانية أو الرد القوي على ابن العربي والقرضاوي
عبد الحي بن محمد بن الصديق
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذا الكتاب هو رد شيّق، وتحليل دقيق، لفتوى الشيخ القاضي أبي بكر بن العربي المعافري، حول طعام أهل الكتاب، ومن بعده الدكتور يوسف القرضاوي، الذي سار على منهج ابن العربي، وقلده في كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، بالإضافة إلى الأخطاء المنهجية الأخرى التي وقع فيها ابن العربي في بعض فتاويه واختياراته.
ولا شك أن هذا البحث الجليل يرتبط بموضوعه الجليل والخطير بصميم حياة مئات آلاف المسلمين حول العالم، وبالتأمل العميق في هذا الكتاب سندرك الفرق بين عرض الشيخ عبد الحي وبين عرض غيره لهذه المسألة، لما له فيها من سعة الأفق، والتخصص الدقيق.
وقد تفضل بتقريظ الكتاب الدكتور علي جمعة، والذي يقول فيه:
فهذه رسالة شريفة، احتوت على قواعد منيفة، وضوابط لطيفة، وفوائد وشوارد في الفقه والأصول، يرد بها شيخنا على صاحب الأحكام والمحصول، بالمقول والمعقول جاءت بحمد الله داعية إلى الإلتزام بأحكام الشريعة، قاطعة على أصحاب الأهواء كل شبهة وذريعة ولا عجب في ذلك فمؤلفها العلامة الأصولي، الحبر النحرير الجليل، المحدث الفقيه، ذو النور الباهر، والعلم السائر، جسد التحقيق والتدقيق وروح التحرير والترقيق السيد الشريف الحسيب النسيب سيدي/ عبد الحي بن محمد الصديق متعنا الله بحياته … آمين.
فجاء شيخنا بالأدلة الساطعة، والحجج القاطعة مجيء متمكن في علمي الحديث والأصول وهما ركني الاجتهاد، ومحيط بالفقه والمناظرة وعلم الخلاف بما تغني قراءة رسالته هذه عن الإسهاب في الوصف. وصدق فيه قول بعضهم:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله … إن الزمان بمثله لبخيل
وترجم الشيخ علي جمعة للمؤلف في جملة تقريظه؛ فقال:
فأخوه السيد أحمد رحمه الله علم في رأسه نار، أحيا سنة الحفاظ الأوائل وانتقل إلى رحمة ربه 1380 هـ وأخوه السيد عبد الله متعنا الله بحياته انتهت إليه رئاسة الحديث في عصرنا الحديث، مجتهد في الفقه والحديث والأصول والمنطق وغيرها ،ثم السيد الزمزمي من علماء طنجة، ثم السيد عبد الحي ثم السيد عبد العزيز الذي أحيا لنا الذهبي والمزي، بل أحمد والعلائي، بل ابن حجر والسيوطي عالم في نفس وأمة في شخص ثم السيد حسن له باع في اللغة والبلاغة لا يبارى فيهما ثم السيد إبراهيم أستاذ فاضل مشارك عامل وهذه لطيفة تعد، وشاردة تقصد أن يكون سبعة أخوة علماء فضلاء وهذه بركة أبيهم -رحمه الله -وقد ترجم له السيد أحمد في (التصور والتصديق في مناقب سيدي محمد ابن الصديق) وهو مطبوع.
والسيد عبد الحي يمتد نسبه بذلك إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما فهو من أهل البيت وسلسلة آبائه بين عالم وولي وقائد وزعيم:
نسب كأن عليه من شمس الضحى …نور أو من فلق الصباح عمودا
ما فيه إلا سيد عن سيد … حاز المكارم والتقى والجودا
درس على جملة من مشايخ طنجة والأزهر الشريف، وبرز في علمي الأصول والحديث وله من المؤلفات ما يتبين منه مدى علمه وفضله منها: التيمم في الكتاب والسنة، وحكم الدخان، وأريج الآس، والإهلال بالجواب عن حكم أغلال، إقامة الحجة على عدم إحاطة الأئمة الأربعة بالسنة. وتبيين المدارك وغيرها.
وبالجملة فهو عالم عامل يطابق اسمه مسماه، ويعجز اللسان عن إدراك مبناه، ويقف الجنان عاجزاً عن نوال معناه، أحيا الله به ما درس من العلم.
والسبب في تأليف هذا الكتاب هو سؤال ورد الشيخ من بعض المغاربة المقيمين بإسبانيا حول لحم الحيوان الذي يُباع هناك، يقول الشيخ عبد الحي بن الصديق -رحمه الله:
"أما بعد فقد كتب إلي جماعة من العمال المغاربة بإسبانيا منذ سنين رسالة، يسألون فيها عن لحم البقر والغنم الذي يباع هنالك: هل يحل للمسلم أكله أولا ؟
وذكروا في رسالتهم أن الإسبانيين لا يذكون الحيوان مثل تذكيتنا، غير أن عالما زارهم فأفتاهم بحل أكله ! ولحرصهم على أن لا يأكلوه وهم شاكون في حله، يطلبون بيان حكمه مع بيان دليله حتى يكونوا على بينة من أمره.
وقد أجبتهم جوابا موجزا، بينت لهم فيه أن لحم الحيوان المباح إذا لم يكن مذكى مثل ذكاتنا حرم على المسلم أكله، وبينت لهم دليل تحريمه من الكتاب والسنة، وأجبت عن شبه المدعين حله بما يبطل شبههم، ويدمغ باطلهم.
وقد أذيع جوابي من ركن - اسألوا أهل الذكر - الذي كانت إذاعة طنجة أنشأته للإجابة عن الأسئلة الدينية. غير أن جوابي لم يرق في نظر المسيرين لذلك الركن، فطلبوا من أستاذ بالمعهد الإسلامي بطنجة أن يجيب عن السؤال بما يوافق هواهم !! وبعد إذاعة جوابي بأسبوعين أذيع جواب ذلك الأستاذ، الذي أحل فيه للسائلين أكل اللحم الذي يباع بإسبانيا وغيرها من البلاد الأوروبية ولو كان غير مذكى !!.
واحتج لدعواه بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ولم يشر إلى قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية) الآية، الذي يدفع في صدره ويبطل دعواه، ولهذا فر من باب واسع في ظنه وأضاف إلى الآية التي احتج بها حجة أخرى ظنها صالحة مفيدة لتحليل ما حرم بالكتاب والسنة والإجماع. تلك هي تسامح الإسلام !!
ووراء حجته الواهية تستر ذلك الأستاذ، لأنه رأى أن الآية التي احتج بها تعارضها الآية الأخرى ظاهرا، ولم يدر طريق الجمع بين الآيتين الذي توجبه القواعد الاستدلالية، فحاول ستر جهله بالحجة الثانية الواهنة !!
ولو أنه قرأ أصغر كتاب في أصول الفقه - كالورقات الإمام الحرمين - لعلم أن تسامح الإسلام لا صلة بينه وبين موضوع جوابه !!
ذلك أن الإسلام لا تسامح له في أكل المحرم وقت السعة والاختيار. فلا يحل لمن يدين بالإسلام أن يأكل الميتة ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمات من غیر اضطرار ملجئ إلى أكلها استنادا إلى هذه الحجة الواهية التي لا يحتج بها إلا الجهلة أو الذين في قلوبهم مرض، الذين يحاولون نقض أحكام الشريعة وهدمها من أساسها بهذه الترهات الساقطة.
إن ديننا يسر سمح لا شك في هذا، لكن معنى يسره وسماحته التحلل من التكاليف التي شرعها الله تعالى لعباده جلبا للمصالح في معاشهم ومعادهم ودرءا للمفاسد فيها.
إن شريعتنا جعلت اليسر ورفع الحرج أساسا مكينا، وأصلا عظيما من أصولها، كما يعلم ذلك من القرآن العظيم والسنة، ويتجلى يسرها في مواقف العسر والحرج المؤديين إلى مشقة القيام بأعباء التكاليف فكان من رحمة الله تعالى وحكمته التخفيف والتيسير على عباده بشرع العمل بالرخص حال الضيق، حتى لا تكون مشقة القيام بالتكاليف على وجه العزيمة مؤدية إلى نبذها في جميع الأحوال والانطلاق مع هوى النفس فاحتجاجه بتسامح الإسلام لتحليل ما حرم بالقرآن والسنة والإجماع ناشئ عن جهله بأن الرخص الشرعية لا يجوز العمل بها إلا عند العذر المقتضي لترك العمل بالعزائم التي هي الأصل في التشريع، كما هو معروف مقرر في أصول الفقه، بل حتى في شرح ميارة الصغير على المرشد المعين !!
وإذا كان ذلك الأستاذ قد أباح ما حرمه الله تعالى للعمال المغاربة بأوروبا مما قد يكون لإباحته عذر في الجملة - وإن كان غير مقبول - فإن غيره أباح اللحم المستورد من أوروبا إلى البلاد الإسلامية، ولو كان غير مذكى ذكاة شرعية، فأحل للمسلمين أكل ما قتله الأوروبيون بالصعق الكهربائي، أو بالضرب على رأسه بساطور أو مسدس، كما زعمه الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه " الحلال والحرام في الإسلام " والشيخ عبده، وبعض العلماء منهم من كتب مقالا في مجلة تصدر بالمشرق وغير هؤلاء ممن كتب في تحليل أكل المسلمين للحم المستورد من أوروبا ولو كان غير مذكى !!
وليس لهؤلاء آية بيئة أو حجة نيرة على دعواهم الباطلة إلا تقليد القاضي أبي بكر بن العربي المالكي في قوله: (يحل أكل المسلم الدجاجة التي قتلها الكتابي بلي عنقها لأنها من طعام أهل الكتاب). والله تعالى يقول: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم). هذه هي الحجة التي اتفقوا على الاحتجاج بها لتحليل الميتة المحرمة بالقرآن والسنة وإجماع العلماء قبل ابن العربي.
هذا ما دعاني إلى كتابة هذا البحث الذي سأدمغ فيه دعوى ابن العربي بالآيات القرآنية والسنة النبوية وإجماع الأمة وتأييد ذلك بالقواعد الأصولية والقواعد الكلية الشرعية، حتى لا يبقى لمدع تحليل المحرم المعلوم تحريمه من ديننا بالضرورة عذر في الاحتجاج بدعواه الواهية الواهنة، ولا شبهة في التعلق بخرافته السخيفة الساقطة.
يقول محقق الكتاب المختار التلمساني في مقدمته:
فالكتاب إذن رد وتحليل المسألة فقهية فرعية ربما يتوهم من لم يألف منهجية شيخنا في البحث أن الموضوع لا يقتضي منه أكثر من ورقات بيد أن الكتاب أربت صفحاته على المائة ! لكن من ساير كتبه وألفها علم أنه - حفظه الله - يحرص الحرص كله على أن يدسم بحثه ويحصنه ويغوص في ينابيع ضافية من علوم التفسير وفنونه والحديث ومصطلحه والفقه وأصوله، وغيرها من مجدات البحث ومقتضياته التي هي في الواقع كالسراج للمدلج ينير له الطريق حتى لا يتيه في بيداء الاغترار ببريق الشهرة ولا يؤسر في شرك الإعجاب بالمكانة العلمية الشخصية !! ومن هنا يلوح السر الذي رامه شيخنا بدءً من كشف النقاب عن بعض أخطاء ابن العربي - رحمه الله - الذي خالف فيها جمهور العلماء مخالفة صريحة وهي مستقاة من كتبه " كالسراج " و " الاحكام وغيرهما ليميط بذلك عنه تلك الهالة التي أضفتها عليه شهرته وكأنه لا يمس بنقد ولا يدنى منه بتصحيح ! حتى إذا ما تيقن القارئ في قرار نفسه أن ابن العربي عالم يصيب ويخطئ واستأنس بهذه الحقيقة التي اختفت تحت ستر التقديس وأثر الاغترار انبرى شيخنا الإمام إلى صلب الموضوع ليشرحه تشريحا علميا تتدفق منه سيول هادرة من التحقيق والتحليل والتصويب.
وكأن شيخنا يريد بمنحاه هذا أن ينبه على أن أقوال العلماء مهما ارتقت مداركهم في معارج العلم، ومهما أحاطت بهم " قدسية التمذهب "، فإنها ستظل دوما أقوالا ومفاهيم تخضع للبحث والنظر والتصحيح قبل الإذعان لها والأخذ بزمامها.
ولقد عهدنا من منهج شيخنا الامام أنه يخلق اللذة العلمية في نفس القارئ، ويحبب إليه طرق البحث على أوسع نطاق، ويدفعه في زحفات حثيثة هادئة ومتماسكة الايقاع الى استيعاب فروع الفقه وقواعد أصوله التي ربما تنفر. منها نفسه ويستثقلها عقله لأن هذا الحقل من العلم قد يبدو صعب المنال، عسير الإدراك، عصي الطوع، ينفث من حوله اليأس والقنوط في صيغ متناثرة متنافرة لا توازن فيها ولا تناسق ! وتجئ كتب شيخنا - أطال الله عمره - فتطارد هذا اليأس وهذا القنوط وتشرق من جديد في خلده وإحساسه رغبة منشرحة في المزيد من الرواء من هذا المنهل الصافي الذي يجد فيه المسلم خلاصا لبعض قضاياه الشائكة، وتجسيدا لضالته المنشودة.. والحق أن ما يلصق بالفقه وأصوله من سمات الجفاء إنما آفاته طريقة ذاك العرض العقيم الذي يبدو جاثيا في كتب المتأخرين خاصة وكأنه ألغاز وأحاجي في قواليب جامدة متزمتة !
ولو عرض على الناس بأسلوب شيق تواكبه الأدلة وتعززه البراهين من أصولها المعتبرة على غرار نهج شيخنا الإمام لانمحى هذا الجفاء أصلاً ! ولذا نرى شيخنا يقتفي بأسلوبه العلمي الدقيق سبيل الامتاع والاقناع معاً عند معالجته فروع هذا العلم وعناصره الحية وذلك في تسلسل منطقي فقهي - حوارا ومناقشة وتحليلا - تدعمه النقول الصحيحة والأدلة الساطعة ليفضي الأمر آخر المطاف إلى نتائج تمتلئ بها النفس إعجابا وتركن لها استئناسا وقد رأت كيف يتلاشى الرأي المخالف عروة عروة وينهار من قواعده الواهية على أنقاضه!
وحسبي أن ألفت نظر القارئ مثلا إلى أن شيخنا الامام عند عرضه لمعنى طعام أهل الكتاب كيف أتى بثمانية أدلة المرجحة لآيات التحريم على آيات التحليل، ثم كيف فنذ نظرية ابن العربي من نفس كلامه وبين تناقضه في محكم من البيان والدقة، فكان من ذنبه خنقه كما يقال !! وأيضا كيف أبطل جواب الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حول فساد جمعه بين قولي ابن العربي المتناقضين في اثنى عشر وجها غاية في الدقة والتطبيق للقواعد الأصولية.
ذكر بعض أخطاء ابن العربي:
من أخطائه العجيبة التي لا تصدر من مبتدئ في طلب العلم قوله: إن علماء الدين كرهوا أن تصام الأيام الستة التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: «من صام رمضان وستا من شوال فكأنما صام الدهر كله متصلة برمضان مخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنها من رمضان، ورأوا أن صيامها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل لأن المقصود منها حاصل بتضعيف الحسنة بعشر أمثالها متى فعلت بل صومها في الأشهر الحرم وفي شعبان أفضل. انتهى.
هل يرى عاقل فضلا عن عالم لهذا الهذيان طبا وعلاجا ؟! كلا ثم كلا. إنه كلام يدل على رقة الدين وضعف العقل ! وفيه مع هذا سوء أدب لرده ردا صريحا لا تلويحا لقول من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى والمتهجم هذا التهجم السخيف على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخفى حكمه عند العلماء !!
وإن تعجب فعجب قوله: إن ما روى عن النصارى من تبديل صيام رمضان إلى الزمان المعتدل كفر !! ثم مع حكمه على النصارى بالكفر لتبديلهم صيام رمضان إلى الزمان المعتدل، يقرر هو نفسه ما حكاه عن العلماء من تبديل صيام ستة من شوال إلى ذي القعدة فما بعدها إلى شعبان !! غير أنه إمعانا منه في التبديل والتحريف زاد عليهم أن صيامها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل من صيامها في شوال الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله وقتا لصيامها ! فإنهم بدلوا صيام رمضان إلى الزمان المعتدل ولم يدعوا أن صيامه فيه أفضل من صيام رمضان كما زعمه ابن العربي في تبديل صيام شوال الى ذي القعدة وأنه أفضل !!
والنصارى أقروا بمعصيتهم بهذا التبديل، فزادوا في صيام رمضان في الزمان المعتدل صيام عشرة أيام كفارة عن ذلك التبديل، كما نقله هو نفسه في " أحكام القرآن " - 1 - 32 - وابن العربي قرر ما نقله عن العلماء من تبديل ما عينه الشارع وزاد أنه أفضل من الصيام في شوال، الذي عينه الشارع بنص صريح لا يتطرق إليه تأويل بوجه من الوجوه !! لا ينازع عاقل فضلا عن عالم أن سكوته عن هذا السخف تعصبا لمذهبه، أقبح وأشنع مما فعله النصارى، وقال إنه كفر !!! لأن النصارى اعترفوا بمعصيتهم، فأحدثوا زيادة صيام عشرة أيام كفارة عن معصيتهم. وابن العربي لم يعترف بمعصية من نقل عنهم، ولا بمعصيته في تقريره لكلامهم وسكوته عنه !!
وغير خاف على ذي علم أن تبديل صيام ستة من شوال إلى ذي القعدة فما بعده إلى شعبان ليس تأويلا بل هو تحريف للكلام عن موضعه غير جائز نظرا وشرعاً. ذلك لأن علماء الفقه والأصول متفقون على أن النص لا يجوز تأويله، وإنما يجوز تأويل الظاهر الذي يحتمل المعنيين، وهو راجح في أحدهما من جهة الوضع ولا يجوز تأويله إلا بشروط، من أهمها: أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يصرف اللفظ إليه. أما النص الذي يدل على معنى واحد لا يحتمل غيره كشوال فتأويله يصرفه عن المعنى الذي هو نص فيه إلى معنى غيره تحريف له لا تأويل. لهذا كان غير جائز، لأنه إذا جاز تحريف هذا النص عن معناه جاز تحريف نص آخر، ثم تحريف آخر، وهكذا، فلا يبقى لنصوص الشريعة حرمة ولا اعتبار، وجاز حينئذ لمن شاء أن يدعي تأويلها بل تحريفها إلى ما يوافق هواه أو مذهبه كما فعل ابن العربي !!
وإن ادعى مدع جواز تبديل أوقات الصلاة والصيام والحج وصيام عرفة وعاشوراء وغيرها، مما عين له الشارع وقتا محدودا إلى أوقات أخرى، وادعى أن فعلها فيها أفضل، لأن المقصود من فعلها - وهو ترتيب الثواب عليها. حاصل بفعلها في غير أوقاتها التي عينها الشارع، بل فعلها فيه أفضل كما ادعى ابن العربي وعلماؤه ذلك في صيام ستة من شوال، فماذا يكون جوابه وجواب علمائه عن هذا اللازم لخرافته وخرافة علمائه ؟
واستدلاله لكراهية صيامها متصلة برمضان بمخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنها من رمضان استدراك سخيف جدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الاستدراك إنما يجوز على كلام من يحتمل في حقه الخطأ والنسيان، أما رسول الله المبلغ عن الله تعالى، فمحال ذلك في حقه، وهو الذي أنزل عليه (وما كان ربك نسيا)، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فهذه العلة التي تعلل بها ابن العربي لنصر مذهبه لا يقولها عاقل متدين فضلا عن عالم يزعم انه ما اتى احد بمثل ما اتى به من العلم في رحلته !!
ويلزم على العمل بهذه العلة على إطلاقها، ولو في الذريعة التي ألقاها الشارع ولم يعتبرها، إبطال العمل بالسنن المؤكدة كلها، كالوتر، وركعتي الفجر، وصيام عرفة، وعاشوراء وغيرها من السنن، مخافة أن يعتقد أهل الجهالة أنها واجبة !!
ولازم هذه العلة الساقطة هي أن يلغى العمل بالسنن كلها من شريعتنا !! وهذا اللازم باطل عقلا وشرعا، فالملزوم باطل مثله عقلا وشرعا. ولهذا لم يعتبر المحققون من الفقهاء المالكية هذه العلة وقالوا بسنية صيام ستة من شوال، عملا بالنص الصريح الدال على ذلك، كما يُعلم من كتب المذهب.
وقد بينت في كتاب (إقامة الحجة على عدم إحاطة الأئمة الأربعة بالسنة أن مالك قال بكراهة صيامها لاعتبارات خاصة دعته إلى ذلك، ولم يقل بكراهة صيامها مطلقا. ونقلت كلام العلامة المطلع أبي سالم العياشي الذي نص فيه على أن مالكا قال ذلك في مسائل - يعني كراهة فعل بعض السنن العارض في الوقت اقتضى ذلك، ثم ذكر سبب قول مالك بكراهية صيام ستة من شوال.
فمن مجازفات ابن العربي قوله: إن علماء الدين كرهوا أن تصام الأيام الستة من شوال، مع أن المحققين من علماء مذهبه مخالفون له في دعواه، كما أن الكثير من علماء الدين غيرهم قالوا بسنية صيامها، منهم الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل، وداود الظاهري وغيرهم. قال ابن قدامة: وهو مستحب عند كثير من أهل العلم. وقال الشوكاني: وإلى استحباب صيام ستة من شوال ذهب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم، وبه قالت العترة.
وبهذا يتبين أن إطلاقه أن العلماء كرهوا صيامها، قصد به إيهام اتفاقهم على ذلك، مع أن الواقع هو أن الكثير منهم على سنية صيامها. فهل يتفق هذا التمويه في النقل والأمانة العلمية ؟!
ومن أخطائه المفضوحة إنكاره وقوع الخبر بمعنى الأمر والنهي. قال في أحكام القرآن عند كلامه على قوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) ليس نفيا لوجود الرفث بل نفي المشروعية؛ فإن الرفث يوجد في بعض الناس، وأخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ومعناه شرعا لا حسا فإنا نجد مطلقات لا يتربصن فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي وكذا: (لا يمسه إلا المطهرون) أي لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف الشرع. قال وهذه الدفينة التي فاتت العلماء فقالوا إن الخبر يكون بمعنى النهي. وما وجد ذلك قط ولا يصح أن يوجد فإنهما يختلفان حقيقة ويتضادان وصفا انتهى.
وقد خالف بقوله الشاذ إجماع علماء البلاغة الذي قرروا وقوع الخبر بمعنى الأمر أو النهي لنكتة بديعة كما يُعلم من كتب البلاغة، كمفتاح العلوم للسكاكي وتلخيص المفتاح للقزويني، وشروحه، وتبعهم على ذلك علماء التفسير فبينوا ذلك عند تفسيرهم للآيات التي ذكرها ابن العربي، وقالوا إن الخبر فيها بمعنى الأمر في بعضها، ومعنى النهي في البعض الآخر، وهكذا فعلوا في كل خبر دال على إيجاب أو تحريم. راجع كتب التفسير صغيرها وكبيرها تتحقق ذلك، وكذلك علماء الأصول، فإنهم موافقون لعلماء البلاغة في هذا، كما يدل اتفاقهم على أن الخبر لا يدخله النسخ إلا إذا كان بمعنى الأمر أو النهي. ونقل القرطبي عن ابن الشجري أن وقوع الخبر بمعنى الأمر اتفق عليه أهل اللسان من غير خلاف بينهم.
وقد بين علماء البلاغة أن إخراج الأمر في صورة الخبر أبلغ، لما فيه من تأكيد الأمر والإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأن المأمور امتثل الأمر فيخبر عنه موجودا واقعا. وهذه النكتة البديعة لا توجد في طلب الشيء بلفظ الأمر.
وإخراج النهي في صورة الخبر فيه أيضا تأكيد للنهي والإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى ترك المنهى عنه، فكأن المنهي بادر إلى اجتناب المنهي عنه فيخبر عنه منفيا غير موجود. فإخراج النهي في صورة الخبر متضمن لهذه النكتة اللطيفة التي لا توجد في إخراجه بلفظ النهي.
ولم يتنبه ابن العربي لهذه الدفينة على حد تعبيره، فأنكر وقوعه بمعنى الأمر أو النهي !! واحتج لدعواه بأن خبر الله تعالى لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره !! وحجته هذه تدل على أنه لم يفهم معنى هذه القاعدة، ولم يدرك لها مغزى. ولو فهم معناها لاستحيا أن ينطق بهذا الهراء ! ذلك لأن الجملة الخبرية لها نسبتان نسبة كلامية تفهم من الكلام، ونسبة خارجية. فإن طابقت النسبة الكلامية بالنسبة الخارجية في الإيجاب والنفي كان الكلام صدقا وإلا كان كذبا.
والخبر إذا كان بمعنى الإنشاء كالأمر أو النهي، لم يكن لنسبته خارج تطابقه فيكون صدقا، أو تخالفه فيكون كذبا كما هو مقرر في علم البلاغة، وعلم المنطق. فليس للخبر إذا كان بمعنى الأمر أو النهي نسبة خارجية أصلا حتى يكون محتملا للصدق والكذب فيلزم ما قاله من وقوع خبر الله تعالى بخلاف مخبره.
ويدل على هذا أن علماء الأصول منعوا دخول النسخ في الخبر المحض، لما يلزم على ذلك من وقوع خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف الواقع. وأجازوا نسخه إذا كان بمعنى الأمر أو النهي لأنه حينئذ لا يحتمل الصدق والكذب فلا يقع محظور في نسخه.
ثم إن الإضمار خلاف الأصل، فلا يجوز إلا لضرورة توقف صحة الكلام أو صدقه عليه، كما هو مدون في أصول الفقه. وحمل الخبر الدال على إيجاب أو تحريم على أنه بمعنى الأمر أو النهي لا يحتاج معه إلى تقدير شرعا بعد قوله تعالى: (فلا رفث) الآية.
وأمر آخر يبطل تقدير - شرعا - بعد قوله تعالى: (فلا رفث) الآية/ وهو أنه يرد عليه إشكال لا سبيل إلى الجواب عنه، ذلك لأن نفي الرفث والفسوق والجدال في الحج شرعا، يحتمل التحريم، والكراهة، فتكون الآية مجملة، تحتاج إلى قرينة تبين المراد من نفي تلك الأمور شرعا. بخلاف حمل الخبر فيها على النهي، فإنها تكون حينئذ ظاهرة في تحريم ذلك، لأن النهي حقيقة في التحريم، حتى توجد قرينة تصرفه عنه.
-وكذلك تقدير - شرعا - بعد قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) يجعل الآية الكريمة مجملة، لأن إثبات التربص شرعا يحتمل الإيجاب والندب، فتكون دلالتها على وجوبه تحتاج إلى قرينة تبين أنه المراد، بخلاف حملها على أنها بمعنى الأمر، فإنها تكون حينئذ ظاهرة في وجوبه لأن الأمر حقيقة في الوجوب حتى يوجد دليل يصرفه إلى غيره. ولا سبيل للانفصال عن هذا الإشكال إلا بما قاله علماء البلاغة، وتبعهم عليه المفسرون والأصوليون -تناقضه في دعواه !!
ومما يلفت النظر أنه أنكر أولا وقوع الخبر بمعنى الأمر أو النهي في القرآن، واحتج لذلك بعدم جواز وقوع خبر الله تعالى بخلاف مخبره، ثم أنكر ثانيا وقوعه بمعنى الأمر أو النهي مطلقا في القرآن وغيره بدليل قوله: ما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإن الخبر والنهي يختلفان حقيقة، ويتضادان وصفا.
وهذا التعميم بعد ذلك التخصيص يلزم عليه إشكال آخر. وهو ما رأيه في الجمل الخبرية الواقعة بمعنى الأمر أو النهي في الدعاء مثل غفر الله لفلان، ورحمه، وشفاه، وأطال عمره. ولا غفر له ولا رحمه ولا شفاه ؟ فإن إخراج الأمر في الجمل الأولى المثبتة والنهي في الجمل الثانية المنفية في صورة الخبر تفاؤلا باستجابة الدعاء، حتى كأنه محقق يصح الإخبار بتحققه أمر معلوم مركوز في طبائع الناس، لا فرق في ذلك بين عالم وجاهل، ولا بين عربي وعجمي، فكل الناس يدعون بهذه الجمل الخبرية للأحياء والأموات.
ولا يخطر ببال أحد يدعو بها الإخبار بوقوع الرحمة، والمغفرة، وطول العمر، بل لا يريد بها إلا الأمر أو النهي كارحم أو اغفر أو لا تحرم أو لا تغفر. فهل يدعي ابن العربي في تلك الجمل الإخبارية الواقعة بمعنى الأمر أو النهي في الدعاء أنها خبرية حقيقة ؟!
فإن قال: إنها خبرية حقيقة فإن من المعلوم ضرورة أن الدعاء لا يتحقق إلا بالطلب فهل يقدر بعد غفر الله لفلان - لفظ طلبا - ورحمه طلبا كما قدر شرعا بعد كل آية وقعت خبرا بمعنى الأمر أو النهي ؟ فإن التزم هذا التقدير بعد كل -جملة خبرية دعائية فقد التزم ما يضحك الصبيان والعجائز بله العلماء!!
وإن أذعن للحق الواضح الظاهر ظهور الشمس ليس دونها سحاب فقد نقض دعواه وأبطلها لأن الموجبة الجزئية تنقض السالبة الكلية !! أعني أن قوله: ما وجد الخبر بمعنى النهي ولا يصح أن يوجد ينقضه إقراره بأن الجمل الخبرية الدعائية واقعة بمعنى الأمر أو النهي، لأن الدعاء لا يتحقق بالخبر وإنما يتحقق بالطلب، فلا مفر له إذاً من الإقرار بهذا !! على أنه تناقض في دعواه فصرح بوقوع الخبر بمعنى النهي. قال عند كلامه على قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) (سورة آل عمران) فائدتها النهي عن ائتمانهم على مال. فقد تناقض فاعترف وصرح بأن الخبر في هذه الآية الكريمة بمعنى النهي. وهذا كاف وحده في نقض دعواه نقضا محكما لا جواب له عنه. لأن الموجبة الجزئية، هو الذي نطق بها فنقض بها هو نفسه سالبة الكلية المتقدمة !! وكفى بهذا دليلا قاطعا على فساد دعواه وبطلانها.
ومن أخطائه الفاضحة الناشئة عن عدم تطبيقه للقواعد الاستدلالية قوله: إن آية السيف وهي قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) - الآية 5 من سورة التوبة - ناسخة لمائة وأربع عشرة آية. أو مائة وأربع وعشرين آية في الصفح والعفو عنهم.
وزعمه هذا باطل، وعن الدليل عاطل، كما يتبين ذلك من وجوه:
أحدها: أنه مبالغة عظيمة في عدد الآيات المنسوخة لأنه إذا كانت آية واحدة نسخت أربعا وعشرين ومائة آية فإن الآيات المنسوخة إذا أضيف إليها هذا العدد المزعوم صار المنسوخ من القرآن يزيد على أربعين ومائة آية !!
وهذا خلاف الواقع، فإن الحافظ السيوطي عد الآيات التي قيل إنها منسوخة، فذكر إحدى وعشرين آية، ثم استثنى آيتين، وذكر أن الأصح فيهما أنهما محكمتان فصارت الآيات المنسوخة عنده لا تزيد على تسع عشرة آية على خلاف في بعضها. وقال العلامة الحجوي: «إن المتحقق من النسخ في القرآن اثنتا عشرة آية أو نحوها».
ثانيها: أن النسخ لا يثبت بالرأي والاجتهاد، وإنما يثبت بنقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن النسخ يتضمن رفع حكم تقرر في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، وحرمة العمل به، ونفيه عن الشريعة، فلا بد في ثبوته من نقل صريح عن الشارع بتواتر، أو آحاد، على خلاف في ثبوته بنقل الآحاد.
وإذا كان علماء الأصول يرون أن قول الصحابي الذي شاهد التنزيل: هذا ناسخ لذاك لا يثبت به النسخ لاحتمال أن يقول ذلك عن اجتهاد، فكيف يتصور عاقل قبول دعوى نسخ أربع وعشرين ومائة آية بآية واحدة عن ابن العربي الذي كثرت أخطاؤه كثرة كاثرة لا يجوز معها الالتفات إلى دعواه فضلا عن قبولها.
ثالثها: أن من شرط المصير إلى النسخ تعارض الآيتين أو الحديثين على وجه لا يمكن معه الجمع بينهما. وذلك لا يتحقق إلا عند تحقق وجود الوحدات الثمانية التي تشترط عند المناطقة في التناقض، والتي منها اتحاد الوقت والحكم والمحل. وآية القتال وآيات الصفح والعفو عن الكفار لا تعارض بينها بوجه من الوجوه، لأن آيات الصفح والعفو عن الكفار نزلت في وقت قلة المسلمين وضعف عدتهم، وآية السيف نزلت في وقت كثرتهم وقوة عدتهم.
فالآيات الأولى محكمة في كل وقت يكون المسلمون في قلة وضعف عدة.
والثانية محكمة في كل وقت يكونون فيه في كثرة وقوة عدة. فسبب ورود هذه وتلك مختلف غير متحد، فكيف يتصور النسخ الذي هو فرع عن التعارض، مع اختلاف وقت ورودها وعدم اتحاد السبب ؟!
وقد رد الزركشي هذه المبالغة في دعوى النسخ فيما لا دليل على نسخ، فقال: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة، من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس نسخا في الحقيقة، وإنما هو نسئ كما قال تعالى: (أو ننسها) فالمنساً هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما، لعلة توجب ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ليس بنسخ، وإنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا.
وإلى هذا أشار الشافعي في الرسالة إلى أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ثم ورود الإذن فيه، فلم يجعله منسوخا، بل من باب الحكم لزوال علته، حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورة تعلق بأهلها النهي. انتهى.
ووازن بين كلام الزركشي المبني على النظر في القواعد الاستدلالية وكلام ابن العربي الناشئ عن التهور والإعراض عن تحكيم القواعد العلمية فيما ادعاه.
ومن أخطائه العجيبة المخالفة للضروريات التي يعلمها المبتدئون قوله في سراج المريدين - مخطوط - في الاسم السابع والستين: يكفي المتعلق بالادلة في الذب عن الملة أن يعلم آيات التوحيد وهي عشرة آلاف !!.
ونحن نقول يكفي المتعلق بمعرفة أخطاء ابن العربي وتهوراته أن يقف على هذا السخف. فإن العلماء أجمعوا على أن آيات القرآن العظيم ستة آلاف آية. واختلفوا فيما زاد على ذلك. فمنهم من لم يزد على هذا العدد. ومنهم من زاد عليه مائتين وأربع آيات. وقيل وأربع عشرة. وقيل وخمس وعشرون وقيل وست وثلاثون؛ فالمجمع عليه هو ما ذكرناه، والمختلف فيه لا يزيد على مائتين وست وثلاثين آية. وأين هذا العدد من عشرة آلاف آية في التوحيد وحده كما زعم ابن العربي ؟! ولعله لو أضاف إلى آيات التوحيد آيات الأحكام، والقصص، والوعد والوعيد، والأخلاق والأخبار وغير هذا مما اشتمل عليه القرآن لقال إن آياته مائة ألف آية أو تزيد !!
ومن أخطائه الساقطة، قوله في سراج المريدين، في تفسير: (خافضة رافعة) من أسماء يوم القيامة المعنى الحادي عشر ترفع عائشة على فاطمة، وهي الرتبة الثانية عشرة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عائشة، وفاطمة مع علي رضوان الله عليه. أهـ !!
وتفسيره هذا يتضمن أخطاء عديدة:
أحدها: أنه تفسير اخترعه من عند نفسه، ليس له فيه مستند أصلا، كما يدل عليه:
الخطأ الثاني: وهو أن تفسير: (خافضة رافعة) بهذا المعنى المولد المخترع لم يقله أحد من الصحابة والتابعين، ولم يذكره أحد من المفسرين فارجع إلى كتب التفسير على كثرتها، واختلاف مشارب أصحابها، فإنك لن تجد لهذا التفسير الهرائي ذكرا ولا إشارة أو تلويحا إليه.
ثالثها: أنه مخالف لما قاله الصحابة والتابعون والمفسرون تبعا لهم، فإن المعاني التي ذكرها المفسرون في معناها كلها ترجع إلى ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن القيامة خافضة لأعداء الله إلى النار، رافعة لأوليائه إلى الجنة.. انظر تفسير سورة الواقعة في التفاسير كلها، خصوصا تفسير ابن كثير. والدر المنثور للحافظ السيوطي، لأنهما ينقلان تفسير الآيات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة، والتابعين.
رابعها: أن حمل ما جاء في القرآن العظيم عاما أو مطلقا على إنسان معين أو جماعة معينة باطل غير جائز، لأن القرآن الذي أنزله الله لهداية الناس كافة لا يصح نظرا أو شرعا أن يخصص عمومه، أو يقيد مطلقه بإنسان دون آخر، أو جماعة دون أخرى، إلا بنص صحيح صريح من الشارع.
فما زعمه ابن العربي في تفسير: (خافضة رافعة) خطأ مفضوح، بل جهل مكشوف.
خامس أخطائه الدالة على أن له هوى وغرضا في هذا التفسير الخرافي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له زوجات غير عائشة وبنات غير فاطمة؛ فلماذا خص ابن العربي الخفض بفاطمة دون سائر بناته ؟! وخص عائشة بالرفع دون سائر زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
لعل الباعث له على هذا التخصيص أن عائشة رضي الله تعالى عنها حاربت عليا عليه السلام فاخترع هذا التفسير لإغاظة الشيعة وإرضاء النواصب لأنه كان منحرفا عن آل البيت النبوي الكريم !!
وقد أداه انحرافه عن السلالة النبوية الطاهرة المطهرة أن زعم أن الإمام الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته وسيد شباب أهل الجنة قتل بشرع جده !! يعني أنه كان ظالما في قتاله ليزيد بن معاوية.
وقد تصدى لإبطال هذه الفرية العلامة المؤرخ ابن خلدون في مقدمة تاريخه بما يثلج صدور المؤمنين ويغيظ قلوب المنافقين !! وكيف تتفق دعواه، أن الحسين قتل بشرع جده الدالة تصريحا لا تلويحا على أنه ظالم معتد في قتاله اللعين يزيد بن معاوية وإخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الحسين سيد شباب أهل الجنة ؟! فهل يعقل أن يكون الظالم المعتدي سيد شباب أهل الجنة ؟!
وفي مقابل هذا يكون اللعين يزيد من أهل الجنة لأنه كان على الحق في قتاله للإمام الحسين !! فانظر كيف أوقعه انحرافه عن السلالة المشرفة واتباع الهوى في رد حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الحسين سيد شباب أهل الجنة ؟!
ومن يرد خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرد الصريح الواضح لا يجهل عالم حكمه في الشريعة.
ومن مجازفاته ثناؤه ومدحه في " العواصم من القواصم " ليزيد بن معاوية الفاسق الفاجر السكير الذي كان يقضي ليله ونهاره في المتع والملذات والرذائل حتى عم ما كان يفعله من فسوق وعصيان أصحابه وعماله وانتشر بمكة والمدينة وغيرهما الغناء واستعملت الملاهي وأظهر الناس شراب الخمر كما هو مسطور في كتب التاريخ. ويكفيه خزيا ومقتا وعارا أنه قتل سبط رسول الله صلى عليه وسلم وآله وصحبه وسلم واقترف غير هذا من المخازي لعنة الله تعالى عليه.
ومع هذا يثني عليه ابن العربي ويطريه في جرأة ووقاحة بدون حياء من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم !!
الخطأ الخامس: زعمه أن فاطمة مع علي عليهما السلام وليست مع أبيها خاتم المرسلين وهي مناقضة صريحة واضحة لقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) (سورة الطور: 19) فإنه دال دلالة واضحة على أن مطلق المؤمنين يتفضل الله سبحانه عليهم بإلحاق ذريتهم المؤمنة بهم في منازلهم في الجنة ليتم سرورهم ويكمل فرحهم فكيف لا تكون ذرية خاتم الرسل وسيدهم التي منها فاطمة التي كانت أحب الخلق إليه معه في الجنة ويكون زوجها معها أيضا تبعا لها حتى يتم سرورها ؟
قال ابن كثير في تفسيره: يخبر الله سبحانه في هذه الآية عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا أعمالهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذلك، ولهذا قال: (ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)، وعن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية. ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا، قال ابن كثير: هذا قول الشعبي وسعيد بن جبير وابراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد، وهو اختیار ابن جرير. انتهى ملخصاً.
وقد جاء في السنة النصوص الصريحة في أنها وولديها الحسن والحسين وزوجها سيكونون معه صلى الله عليه وآله وسلم في منزلة واحدة في الجنة، وبهذا يتبين أن تفسيره المخترع (لخافضة رافعة) مخالفة للقرآن والسنة وتفسير ابن عباس وجماعة من التابعين.
وما أوقعه في هذا التفسير المولد المبتدع إلا هواه كما نبهنا عليه فيما تقدم وإلا فإنه لا تخفى عليه الآية المتقدمة وما فسرها به ابن عباس والتابعون مما يبطل تفسيره وينقضه نقضا لا سبيل إلى الجواب عنه كما لا تخفى عليه الأحاديث الدالة على أنه اخترع ذلك التفسير لهوى وغرض في نفسه !!
وقد باء بالإثم العظيم بهذا التفسير الذي ليس له فيه مستند مع مخالفته للآية الكريمة والسنة ولقول ابن عباس وجماعة من التابعين كما يدل عليه حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» [رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه]، واتفق العلماء على أن هذا الوعيد الشديد وارد في حق من يفسر القرآن بالرأي الذي يكون له فيه هوى وميل بدون مستند من القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين الذين رووا عنهم التفسير أو بدون دراية بالأصول والقواعد العلمية التي يجب الرجوع إليها في التفسير إذا لم يرد فيه منقول.
فهل فعل ابن العربي شيئا مما قاله العلماء في هذا التفسير المبتدع ؟!
الجواب تعلمه مما ذكرناه فيما مر بك !
ثم بعد هذه الأخطاء الشنيعة التي تضمنها ذلك التفسير فإن فيه خطأ أشنع وغلطاً أقبح من أخطائه تلك. ذلك هو ما فيه من قلة الأدب والإساءة إلى بنت رسول الله سيدة نساء العالمين وسيدة نساء الجنة وأحب الخلق إليه صلى الله عليه وآله وسلم فإنها لو ووجهت بما قاله ابن العربي لوجدت موجدة عظيمة واستاءت أشد الاستياء من كلامه الخالي من الأدب واللياقة.
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني » واستدل به السهيلي على أن من سبها يكفر وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها وقد سوى بين غضبها وغضبه ومن أغضبه صلى الله عليه وآله وسلم يكفر. وغضبها لا يختص بسبها بل يتحقق بكل ما فيه حط وتنقيص لقدرها ومنزلتها السامية لأن هذا الأمر مركوز في طبيعة البشر. وتفسير ابن العربي المفترى متحقق فيه ذلك فإذا لم يكن إغضابها كفرا فهو من أكبر الكبائر.
فكما باء بالإثم وتحقق فيه الوعيد المتقدم في حديث: « من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار » تحقق فيه أيضا ما دل عليه حديث إغضابها من إثم عظيم ووعيد شديد. ومجازفاته وتهوراته في أقواله في التفسير والحديث والأصول والأخبار التي ذكرها في رحلته وكتبه كثيرة وبعضها يشعر أنه كان يزيد في أخباره كما كان يفعل في العلم. وهذا ما دعا علماء عصره الذين رأوه وخبروا أحواله وأقواله إلى صد من أراد الأخذ عنه ونصحه بالأخذ عن غيره.
قال ابن الأبار في " التكملة " في ترجمة عبد الله بن محمد التادلي الفاسي: ودخل الاندلس في آخر الدولة اللمثونية ولقي أبا بكر بن العربي بإشبيلية وهم بالسماع منه قصده عنه الفقهاء للتباعد الذي كان بينهم وأحالوه على أبي بكر بن طاهر راوية أبي علي الغساني. وفي تكملة ابن الأبار أيضا في ترجمة الزاهد أبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن المجاهد: ولازم ابن العربي نحوا من ثلاثة أشهر ثم تخلف عنه !!! فقيل له في ذلك فقال: كان يدرس وبلغته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان !!
وقال القاضي عياض - وقد سمع منه وجالسه - في ترجمته من معجمه المسمى " بالغنية ": ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام وطعنوا في حديثه !!
السبب الباعث على ذكر بعض أخطاء ابن العربي:
من قرأ المقالات المنشورة في المجلات والجرائد الصادرة بالمشرق والمغرب التي أحل كاتبوها اللحم المستورد من أوروبا ولو كان غير مذكى وجد أن كاتبيها جعلوا دعوى ابن العربي حل أكل المسلم للدجاجة التي فتل عنقها الكتابي دليلا قطعيا على حل اللحم المستورد من أوروبا ولو كان ميتة غير مذكى.
وهذا ما دعاني إلى ذكر بعض أخطائه المكشوفة المفضوحة التي لا طب ولا علاج لها تنبيها لأولئك الذين تلقفوا دعواه بالإذعان والتسليم واتخذوها حجة لتحليل المحرم تحريما قطعيا على أن من صدرت منه تلك الأخطاء الواضحة المضحكة التي لا تصدر من المبتدئين في طلب العلم لا يجوز نظراً ولا شرعاً الاعتماد على قوله والاستناد إلى رأيه في مسألة ذات خطر عظيم جسيم؛ لأنها تتعلق بإباحة ما ثبت تحريمه بالقرآن والسنة والإجماع إلا بعد النظر التام والبحث المستوعب في الدليل الذي استند إليه والأدلة التي لها تعلق وارتباط به من أصول الشريعة وعرضها على قواعد التشريع.
لهذا كان المنهج العلمي لأخذ حكم واقعة من الآية أو الحديث أو منهما معا استيعاب البحث والنظر في النصوص التي لها ارتباط بالآية أو الحديث الذي يريد الباحث أخذ الحكم منهما ثم الرجوع بعد هذا إلى قواعد أصول الفقه والقواعد الكلية الشرعية وتحكيمها فيما دلت عليه تلك النصوص لأنها المعيار الذي يعرف به الاستنباط الصحيح الذي لا يتوجه إليه النقد والاعتراض.
لأن النصوص قد تتعارض ظاهرا فيدل نص على تحريم شيء ويدل آخر على حله مثلا. كما في هذه المسألة التي نحن بصدد البحث فيها؛ فقواعد هذا العلم هي الحصن الحصين لمنع الاضطراب والفوضى في أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية.
فمن لم يتحاكم إليها ويطبقها عند تعارض النصوص وقع في أحد أمور ثلاثة لا مفر منها.:
إما أن يعمل بها مع تعارضها ويلزم عن ذلك أن يكون الفعل محرما مباحا في زمن واحد من شخص واحد. وهذا جمع بين ضدين محال وقوعه في الشريعة. وإما أن يعمل بالنص الموافق لهواه ويلغي ما لا يوافقه. وهذا ما فعله ابن العربي فإنه احتج لدعواه بالآية الموافقة لهواه وأعرض عن الآيات والأحاديث والإجماع الدالة على نقيض دعواه. وقلده المحللون للحم المستورد جاهلين جهلا مكعبا أن فتواه لا يجوز العمل بها عقلا وشرعا لأنها مبنية على ترجيح الدليل الدال على الحل على الأدلة الدالة على الترجيح بدون مرجح وذلك محال عقلا وشرعا. وما توهمه مرجحا لا يساوي شيئا ولا يصح أن يكون مرجحا كما ستراه إن شاء الله تعالى.
وإما أن يشكل عليه أخذ الحكم من الدليل لأنه إذا نظر في دليل وجده دالاً على الإباحة وإذا نظر في آخر الفاه دالا على التحريم فلا يدري طريقاً للانفصال عن هذا الإشكال ! وهذا ما وقع لذلك الأستاذ الذي أفتى بحل اللحم المستورد فإنه رأى الآيات متعارضة في الدلالة على حكمه ففر إلى تسامح الإسلام ليتخلص من التعارض الذي لم يعرف مسلكا للجواب عنه. وقد نبهنا فيما مر بك على أن تسامح الإسلام لا يفيده في ذلك !!
وأنه لو كان يعلم قواعد الأصول، لعلم المخرج من الإشكال الذي دفعه إلى الالتجاء إلى تسامح الإسلام سترا لجهله طريقة الجمع أو الترجيح بين الآيات المتعارضة في مسألة فتواه !!
ولهذا قال بعض العلماء إن للإمام الشافعي منة عظيمة على جميع من جاء بعده من العلماء بوضعه أصول الفقه الذي نظم كيفية استنباط الأحكام من الأدلة وأزاح عنهم كل ما يعرض عنه أخذ الحكم من النصوص من حيرة وإشكال.
فمن أتقن هذا وضبط قواعده وأحكم تطبيقها سلم من التناقض والاضطراب عند العمل بالنصوص. وسترى كيف وقع لابن العربي أخطاء غريبة مثيرة للضحك بإهماله تطبيق قواعد الأصول على ما احتج به لفتياه في مسألة الدجاجة المفتولة العنق !!
والقاضي أبو بكر بن العربي المعافري المالكي أول من أحل للمسلمين أكل لحم الحيوان الذي قتله الكتابي بغير ذكاة.
قال في أحكام القرآن: ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه ؟ فقلت ؟ تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا. ولكن الله أباح طعامهم مطلقا وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا أنهم يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم والأكل دون الوطء في الحل والحرمة ؟ انتهى.
نقض كلامه نقضا مجملاً:
وكلامه هذا يؤيد ما نبهنا عليه مرارا فيما مر بك أنه يتهجم على القول في أحكام الشريعة بدون روية وتأمل وبحث في الأدلة والقواعد الإستدلالية التي لها تعلق وثيق بالمسألة التي يبدي فيها رأيه حتى يتبين له هل رأيه صواب أم خطأ ولهذا اشتمل كلامه على أخطاء متتابعة يأخذ بعضها بحجزة بعض حتى تنتهي إلى مناقضة نتيجة دعواه للدليل الذي احتج به !
والذي اشتمل عليه كلامه أنه لم يشر إلى الآيات الخطأ الأول والأحاديث والإجماع المناقضة المخالفة لدعواه.
الخطأ الثاني: أن احتجاجه بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم (لأن الدجاجة التي فتل عنقها الكتابي طعامه وطعام أحباره ورهبانه يلزمه أن يقول بحل أكل المسلم للحم الخنزير وشرب الخمر وأكل الربا لأنها طعام الكتابي وطعام أحباره ورهبانه.
الخطأ الثالث: قوله - وإن لم يكن قتل العنق ذكاة في ديننا - استدراك ساقط على الله سبحانه فإنه قال في كتابه بعد أن ذكر تحريم الميتة والمنخنقة، وما عطف عليهما: (إلا ما ذكيتم) [سورة المائدة: 3] وهو نص صريح في تحريم أكل المسلمين للحيوان المباح بغير ذكاة. وجعله فتل العنق سببا لحل الدجاجة مخالف لنص الآية الكريمة ووضع لذكاة أخرى يحل بها الحيوان لم يذكرها الله تعالى في كتابه !!!
لهذا تكرم علينا ابن العربي في جرأة عجيبة باستدراكها !! ولعله لم يقرأ في العشرة آلاف آية الخاصة بالتوحيد فيما زعم ونقلناه عنه فيما مر، قوله تعالى: (وما كان ربك نسيا) (سورة مريم: 64].
الخطأ الرابع: قوله - ولكن الله أباح طعامهم مطلقا - فإنه دال - كما نبهنا عليه - على تهجمه على القول في أحكام الشريعة وتفسير القرآن بمجرد رأيه من غير نظر في أصول التفسير وقواعد أصول الفقه كما ستعلمه مفصلا.
الخطأ الخامس: قوله - وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا - فإنه دال على تهوره في دعواه غير عابئ ولا مكترث بالنصوص التي تنقضها وتبطلها لمخالفته المنهج العلمي الذي كان يجب عليه سلوكه على ما نبهنا عليه فيما مر بك !! إذ كيف يقبل قول أهل الكتاب أن الدجاجة المفتولة العنق حلال في دينهم بعد إخبار الله سبحانه أنهم حرفوا وبدلوا كما أخبرت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية !!
وقد ثبت كذبهم بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع علمهم بصدق نبوته وتوقعهم تكذيب الله إياهم فلم يخشوا الفضيحة مع تحقق كذبهم ثم اعترفوا به !!
ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال: « ما تجدون في کتابكم ؟ » فقالوا: نسخم وجوههما ويخزيان قال: « كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين»، فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارىء لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه فقيل له: ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح، فقال أو قالوا: يا محمد إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجما.. فإذا كذبوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرته فكيف لا يكذبون مع غيره حتى يقبل قولهم أن الدجاجة المفتولة العنق حلال في دينهم كما زعم ابن العربي !!
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم». وقد قال العلماء أن ما أخبرنا به أهل الكتاب مما يخالف شريعتنا لا نصدقهم فيه بل يجب تكذيبهم.
قال ابن كثير الأحاديث الإسرائيلية على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا هو من هذا القبيل ولا هو من ذاك، فلا تؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته.
وقال الحافظ في شرح حديث "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم": لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بخلافه. نبه على ذلك الشافعي رحمه الله تعالى، وقد أجمع العلماء على أن شرع من قبلنا لا يجوز العمل به إذا كان شرعنا مخالفا له حتى أن ابن حزم حكم بكفر من قال بذلك وارتداده عن دين الإسلام كما سيأتي في كلامه الذي سننقله في آخر هذا البحث.
فدعوى ابن العربي أن كل ما يراه أهل الكتاب في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه جهل منه أو تجاهل للنصوص المتقدمة وللإجماع الدالة دلالة قطعية على تحريم العمل بما يرونه في دينهم إذا كان مخالفا لشريعتنا وقوله: إلا ما كذبهم الله فيه نقض واضح منه لدعواه أن كل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا، لأن القرآن والسنة والإجماع دلت على تكذيبهم فيما صدقهم ابن العربي في حله فعاد هذا الشرط على دعواه بالنقض والإبطال كما ترى.
وإلا فما وجه تصديقهم في أن المنخنقة ومفتولة العنق والموقوذة حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح والخمر حلال عندهم ؟! فلا جواب له عن هذا الإشكال إلا بأحد أمرين: إما أن يصدقهم في أن جميع هذه المحرمات حلال عندهم فيحل للمسلم أكلها وإما أن يكذبهم في أن جميعها حلال عندهم فيحرم على المسلم أكلها.
أما تصديقهم في أن المنخنقة والدجاجة المفتولة العنق والموقوذة حلال عندهم فيحل لنا أكلها، وتكذيبهم في أن الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح حلال عندهم فيحرم علينا أكلها فهو تحكم واضح لأنه تفريق بين متماثلات في الحكم بالقرآن والسنة والإجماع. وهو باطل عقلا وشرعا وعرفا !!
الخطأ السادس: قوله يعطوننا أولادهم ونساءهم ملكا في الصلح فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم الخ.. فإنه دال على أنه كان فاقدا لعقله عند كتابته هذا السخف وتقريره هذا الهذر كما يتبين ذلك من وجوه:
أحدها: أن من شرط قياس الفرع على الأصل في حكمه أن لا يكون الفرع منصوصا على حكمه بعموم أو خصوص والفرع في قياسه - وهو الحيوان المقتول بغير ذكاة.. منصوص على تحريمه بالعموم والخصوص كما سيأتي بيانه فقياسه قياس في مقابلة النص وهو فاسد غير معتبر بإجماع أهل العلم.
ثانيها: أن من شرط إلحاق الفرع بالأصل في حكمه أن لا يباين موضوع الأصل موضوع الفرع في الأحكام كقياس البيع على النكاح والعكس. وهذا شيء مقرر في أصغر كتب الأصول . وهو من أصغر كتب الأصول على مذهب مالك الذي يقلده ابن العربي وموضوع الأصل وموضوع الفرع في قياسه متباينان كما هو واضح.
ثالثها: أن قياسه لا جامع فيه بين الفرع والأصل لأن العلة في الفرع -وهو تحريم ما قتله الكتابي بغير ذكاة كالخنق - هي كونه خبيثا مضرا. والعلة في الأصل كونه طيبا لأن ما قتله الكتابي بالخنق ونحوه محرم لخبثه ومضرته، ووطء النساء المأخوذات صلحا حلال بالكتاب والسنة والإجماع لطيبه.
فتبين بهذه الوجوه أن قياسه فاسد باطل من أصله لعدم تحقق شرط صحة القياس فيه فكيف يكون قياسا أولويا كما يدل عليه كلامه ؟!
مخالفته لضروريات قواعد الاستدلال:
سلك ابن العربي في تحليله أكل المسلم للدجاجة التي قتل عنقها كتابي مسلكا مخالفا للقواعد الاستدلالية الضرورية !!
ذلك لأنه احتج لرأيه الواهن بعموم قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) (سورة المائدة: 5 ] وأعرض إعراضا كليا عن عموم قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) (سورة البقرة: 172]، وعموم قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) (سورة الأنعام: 145) وعموم قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) (سورة النحل: 115) وقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة) الآية (سورة المائدة: 3).
فهذه العمومات معارضة كلها لعموم الآية التي احتج بها. وترجيحه لعموم آية حل طعام أهل الكتاب على عموم هذه الآيات ترجيح بدون مرجح وذلك تحكم باطل عقلا وشرعاً؛ لأن عموم آية حل طعام أهل الكتاب دال على حل أكل المسلم ما قتله الكتابي بغير ذكاة. وعموم الآيات المتقدمة دال على تحريم أكل المسلم ما قتله الكتابي بغير ذكاة. فعموم الآية التي احتج بها وعموم الآيات المتقدمة تعارضا فيما قتله الكتابي بغير ذكاة والمقرر في أصول الفقه أن العمومين إذا تعارضا في الدلالة على الحكم لا يجوز العمل بأحدهما بدون مرجح إذ ليس العمل بأحدهما أولى من العمل بالآخر.
لقد كان واجبا عليه أن يذكر المرجحات العموم الآية التي احتج بها لرأيه على عموم الآيات الدال على تحريم ما قتله الكتابي بغير ذكاة. لكنه لم يشر مجرد إشارة إلى ذلك. فلست أدرى هل خفيت عليه تلك الآيات المتعددة التي تكرر ذكرها في سور عديدة كما رأيت فيما مر بك أم أنه تغافل عنها عن قصد ليسلم له رأيه الذي أحل به محرما لا خلاف في تحريمه ؟!
فإن كان الإحتمال الثاني هو الصحيح فتلك خيانة علمية عظيمة لا مبرر لها أصلا إلا الإنتصار لرأيه الباطل بالباطل !!
الدلائل المرجحة لآيات التحريم على آية التحليل:
وقبل ذكرها ينبغي أن تعلم أني إنما سأذكرها على تسليم دعوى ابن العربي أن الميتة من طعام أهل الكتاب وإلا فإن الميتة ليست من طعامهم لأنها ليست حلالا في دينهم كما سأبينه؛ لتعلم أنه يتهور في آرائه تهورا غريبا عجيبا فيتهجم على القول فيما لا يحيط به علما !!
الدليل الأول على رجحان عموم الآيات الدالة على تحريم ما قتله الكتابي بغير ذكاة على عموم الآية التي احتج بها تعدد الآيات الدالة على تحريم الميتة مطلقا سواء كان موتها حتف أنفها أم بفعل مسلم أم كتابي أم غيره.
الدليل الثاني على رجحان عموم الآيات المحرمة أن تحريم الميتة تحريما عاما مطلقا مؤكد بأنواع من المؤكدات في الآيات المتقدمة:
(أحدها): حصر التحريم في الميتة وما عطف عليها بـ « أنما » في سورة البقرة وآية سورة النحل. و « لا » و « إلا » في سورة الأنعام.
(ثانيها): تقديم تحريم الميتة في الآيات الثلاث وآية سورة المائدة فإنه دال على العناية بالحكم وذلك دال على تأكيده.
(ثالثها): تكرار النص على تحريمها في الآيات الأربع فإنه دال على تأكيده أيضا.
(رابعها): النص على تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة في آية المائدة والمنخنقة: هي التي تموت خنقا بأي شكل كان. وقال ابن العربي: والمنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد وبغير قصد أو بغير حبل. والموقوذة: التي تقتل ضربا بالحجر أو الخشب أو مسدس أو الكهرباء. والمتردية: هي الساقطة من جبل أو في بئر. والنطيحة: هي التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت.
ففي النص الخاص على تحريم هذه الأشياء مع اندراجها في الميتة لأن كل ما مات بغير ذكاة فهو ميتة تأكيد واضح لعموم آيات التحريم، كما إن فيها النص على تحريم المنخنقة التي زعم ابن العربي حلها إذ لا فرق بين الخنق ولي العنق وقد قال هو نفسه أن المنخنقة داخلة في الميتة، ثم مع اعترافه هذا، يحل للمسلمين الدجاجة التي قتل عنقها الكتابي مع عدم وجود أي فارق بين الخنق وقتل العنق.
الدليل الثالث: على رجحان عموم آيات التحريم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: « هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فقالوا: إنها ميتة. فقال: « إنما حرم أكلها ». (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
فقد حصر صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الشاة الميتة في أكلها « بإنما » وذلك دال دلالة واضحة على تحريم الميتة تحريما عاما مطلقا. وفي ذلك تأكيد لعموم التحريم الذي دلت عليه الآيات المتقدمة.
الدليل الرابع على رجحان عموم الآيات المتقدمة أن عموم آية حل طعام أهل الكتاب وشموله لما قتله الكتابي بغير ذكاة - على تسليم شموله له - عموم عارض لأن الآية جاءت في سياق رفع الحرج عن المؤمنين في أكل طعامهم وذلك يحتمل احتمالا قويا عدم إرادة دخول الميتة فيما يباح من طعامهم بخلاف عموم آيات تحريم الميتة فإنه شامل لما قتله الكتابي شمولا أصليا لأن آيات التحريم سيقت لبيان المحرمات وعدها على سبيل الاستقصاء حتى قال بعض الأئمة بإباحة ما لم يذكر فيها من النملة إلى الفيل لاستيفائها لما أكله.
وفرق يحرم واسع وبون شاسع بين عموم عارض وعموم أصلي لأن الآية التي احتج بها ابن العربي واردة في بيان حل طعام أهل الكتاب، والآيات الدالة على تحريم الميتة واردة في بيان المحرمات وعدها على وجه الاستقصاء. ورجحان العموم الأصلي على العموم العارض لا يجادل فيه إلا مكابر منكر للبديهيات أو جاهل لا يفرق بين النظريات والضروريات !!
الدليل الخامس: أن عموم آية حل طعام أهل الكتاب تطرق إليه التخصيص من جهات، فقد خص منه لحم الخنزير والدم المسفوح وأكل الربا والخمر وغير هذا من المحرمات. أما عموم آيات تحريم الميتة فلم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه لأن في حل ميتة السمك والجراد خلافا معلوما وحل أكلها للمضطر تخصيص للضمير في قوله تعالى: (حرمت عليكم) فهو تخصيص راجع إلى المخاطبين لا إلى الميتة كما توهمه بعض الطلبة الذي سمعني أقول في الدرس: أن آية تحريم الميتة ليس لها مخصص متفق عليه، فأورد علي حلها للمضطر بنص القرآن، فأجبته بأنه مخصص من ضمير الخطاب في قوله تعالى: (حرمت عليكم) فتنبه فإنه يشكل على كثير.
والعموم الذي لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه أقوى وأرجح بالاتفاق من العموم الذي تطرق إليه تخصيص كثير مجمع عليه.
الدليل السادس: أن الميتة في قوله تعالى: (حرمت عليكم) لفظ عام. وقد تقرر في أصول الفقه أن مدلول العام كلية أي محكوم فيه على كل فرد من أفراده مطابقة إثباتا أو سلبا. فيكون معنى قوله تعالى: (حرمت).
ومما يدل على ضعف العام الذي خصص أن الحنفية يشترطون في تخصيص عموم القرآن بحديث الآحاد أو القياس، أن يخصص بآية أو حديث متواتر فحينئذ تضعف دلالته على جميع أفراده، فيجوز تخصيصه بحديث الإحاد أو القياس انظر مبحث التخصيص في كتب أصول الفقه، وآية حل طعام أهل الكتاب خصصت بآيات متعددة وبالإجماع، فضعف دلالتها على جميع الأفراد متفق عليه، بخلاف آية تحريم الميتة فإنها لم تخصص إلا بميتة السمك والجراد على خلاف في تخصيصهما من عموم آية تحريم الميتة، فإن من الأئمة من يحرم ميتتهما كما هو مدون في الفقه وأصوله راجع كتابي "الإهلال بجواب السؤال عن حكم رفع الأغلال"، وفيه تحريم كل فرد من أفرادها سواء كان موتها حتف أنفها أم بخنق أم قتل عنق أم بصعق كهربائي أم بغير ذلك وسواء كان قاتلها مسلما أم كتابيا أم مجوسيا أم غيره. هذا ما يدل عليه عموم الميتة في الآية الكريمة كما تدل عليه القاعدة الأصولية المتقدمة.
يؤيد هذا:
الدليل السابع: وهو أن عموم الأشخاص في قوله تعالى (عليكم) يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع كما هو مدون في مبحث العام من أصول الفقه فيكون تحريمها في حق الأشخاص دالا على تحريمها في كل حال وزمان ومكان، ومن الأحوال حال قتلها بفعل أهل الكتاب بغير ذكاة على ما تدل هذه القاعدة الأصولية.
الدليل الثامن من أدلة رجحان آيات تحريم الميتة تحريما عاما قوله تعالى بعد ذكر تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة الآية: (إلا ما ذكيتم) (سورة المائدة: 3) فإنه دال على أن ما لم يذك يحرم أكله مطلقا سواء قتله مسلم أم كتابي لأن الاستثناء معيار العموم على ما هو مقرر في علم الأصول.
فلا يجوز تخصيص هذا العموم بأي صورة من الصور إلا ما استثناه النص من حل ميتة السمك والجراد فكل حيوان لم يذك الذكاة المعروفة في شريعتنا فهو محرم مطلقا ما عدا الصورتين المذكورتين لقيام الدليل على استثنائهما من تحريم الميتة.
أما حلها للمضطر الذي يخاف على نفسه الهلاك من الجوع فهو ليس مستثنى من الميتة وإنما هو مستثنى من ضمير الخطاب في قوله تعالى: (حرمت عليكم) كما نبهنا عليه فيما سبق.
الإجماع على تخصيص عموم آية حل طعام أهل الكتاب واستثناء ما قتلوه من عمومها:
الدليل الأول الدال على تخصيص الآية التي احتج بها لدعواه دلالة قطعية أنه خالف الإجماع الدال على تخصيصها واتبع غير سبيل المؤمنين قبله !! وإليك البرهان على ذلك:
(1) قال أبو بكر الجصاص الحنفي: ما كان من الحيوان غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره عن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي.
(2) وقال ابن حزم: لا يحل أكل شيء من حيوان البر بفتل عنق ولا بشدخ ولا بغم لقول الله تعالى: (إلا ما ذكيتم) وليس هذه ذكاة.
(3) وقال ابن قدامة: أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار على إباحة الأكل منها في حال الاضطرار.
(4) وقال النووي: وقد أجمعت الأمة على تحريم الميتة غير السمك والجراد وأجمعوا على أنه لا يحل من الحيوان غير السمك والجراد إلا بذكاة.
(5) وقال الحافظ بعد أن ذكر حل الحيوان إذا ند بالعقر في أي موضع من بدنه لحديث رافع بن خديج وأما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح أو النحر إجماعا.
هذه أقوال علماء التفسير والحديث والفقه تدل على أن الحيوان إذا كان غير مذكى لا يحل أكله سواء أماته مسلم أم كتابي أم غيره بإجماع الأمة ولم يخالف هذا الإجماع أحد إلا فيما دل النص على حل ميتته من السمك والجراد. وارجع إلى كتب التفسير والحديث وشروحه وكتب الفقه على اختلاف مذاهب أصحابها فلن تجد فيها نقلا عن أحد من العلماء قبل ابن العربي قال يحل للمسلم أن يأكل ما قتله الكتابي بغير ذكاة
(6) قال الغزالي في "المستصفى" عند كلامه على الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة: يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث في الأدلة السمعية المغيرة فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله. فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على ضلالة. انتهى.
(7) وقال التاج السبكي في مبحث المرجحات ممزوجات بشرح المحلى: ويرجح الإجماع على النص لأنه يؤمن فيه النسخ بخلاف النص.
وقال السبكي في مبحث الإجتهاد ممزوجا بكلام المحلى: (ويعتبر، قال الشيخ الإمام) والد المصنف) لإيقاع الاجتهاد لا لكونه صفة فيه كونه خبيرا بمواقع الإجماع كي لا يخرقه) فإنه إذا لم يكن خبيرا بمواقعه قد يخرقه بمخالفته. وخرقه حرام.
بهذا يتبين أن الإجماع على تحريم ما قتله الكتابي بغير ذكاة دليل قاطع على تخصيص الآية التي احتج بها ابن العربي بغير ما زعم حله جريا على عادته في التهجم على القول في أحكام الدين بدون روية وبحث في الأدلة والقواعد الاستدلالية
الدليل الثاني: على تخصيص عموم الآية التي احتج بها ابن العربي إجماع العلماء على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء شرعنا بخلافه، وحل الحيوان المقتول بغير ذكاة لو سلمنا جدلا أنه حلال في شرع أهل الكتاب لكانت الآيات والأحاديث والإجماع على تحريمه في شرعنا أدلة قطعية الدلالة على نسخه وتخصيص الآية باستثنائه من عموم حل طعامهم.
الدليل الثالث: أن شرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا عند القائلين بذلك إذا بلغنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ولم يكن منسوخا أو مخصوصا في شرعنا؛ فإطلاق من قال أن شرع من قبلنا شرع لنا مقيد بما ذكرناه عند المحققين من علماء الأصول لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل في التوراة والإنجيل.
وحل الحيوان المقتول بغير ذكاة عند أهل الكتاب لم يبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أحد ممن أسلم منهم. وإنما ادعاه ابن العربي بدون حجة بيئة ولا آية نيرة بل ما زعمه مجرد تهجم على القول في شريعة الله بما لا دليل له عليه أصلا وحتى لو أقام الدليل على حله عندهم لما كان في ذلك دليل على حله في شرعنا لما علمت أن العمل بشرعهم لا يجوز إذا كان شرعنا يخالفه كما في هذه المسألة التي أقمنا من الأدلة القاطعة ما لا تبقى معه شبهة في سقوط دعواه لأنه بناها على شفا جرف هار !!
الدليل الرابع: أن ابن العربي قال: إن نكاح الأختين كان شرعا لمن قبلنا فنسخه الله عز وجل فينا (1). ونحن نقول إلزاما له بالحجة نفسها إن حل أكل الدجاجة المفتولة العنق كان شرعا لمن قبلنا فنسخه الله عز وجل فينا !! فهذه الحجة التي احتج بها لتحريم الجمع بين الأختين تبطل دعواه حل الدجاجة التي قتل عنقها الكتابي وإلا كان مفرقا بين مدلولين متماثلين مع دلالة الدليل عليهما معا وذلك تحكم ممتنع عقلا ونقلا !!!
فلا مفر له من أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن يحرم جميع ما حرمه شرعنا وإن كان مباحا في شرع من قبلنا، وإما أن يقول بحل ما كان حلالاً في شرع من قبلنا وإن حرمه شرعنا، أما أن يقول بحل شيء وتحريم آخر مع شمول دليل التحريم الذي احتج به لهما معا فذلك هو الذي أنكره الله سبحانه على المشركين الذين حللوا وحرموا برأيهم ما شاءوا فقال عز وجل: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) [سورة النحل: 116 ].
الدليل الخامس: على تخصيص عموم آية حل طعام أهل الكتاب أنه يلزمه إذا لم يخصص عموم الآية بغير المقتول بغير ذكاة أن يقول بحل أكل المسلم للحم الخنزير والدم المسفوح وأكل الربا وشرب الخمر لأنها من طعامهم وطعام أحبارهم ورهبانهم، فإن قال إنها مخصصة من عموم الآية بالكتاب والسنة والإجماع، قلنا والدجاجة التي فتل عنقها الكتابي وقال يحل للمسلم أكلها مخصصة من عموم الآية بالكتاب والسنة والإجماع لأن فتل عنقها ليس بذكاة وكل ما لم يذك من الحيوان المباح فهو ميتة بالإجماع والميتة محرمة بالإجماع وقد نص القرآن على تحريم المنخنقة، والخنق وقتل العنق مستويان في أن كلا منهما ميتة بإقراره نفسه قال في " أحكام القرآن ": المنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل.
وما الفارق بين الخنق بحبل وقتل العنق باليد حتى يكون الخنق محرما والقتل محللا ؟! وقد اعترف هو نفسه بأن المنخنقة ميتة قال في " أحكام القرآن ": وأما قولهم إن الله حرم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة إلا أنه بين أنواع الميتة وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا يشكل أمرها ويمزج الحلال بالحرام في حكمها. فإن كانت المنخنقة ميتة باعترافه فكيف لا تكون الدجاجة المفتولة العنق ميتة وقتل العنق والخنق شقيقان لأن معناهما واحد عقلا وحسا ومشاهدة ؟!
الدليل السادس: على تخصيص الحيوان المقتول بغير ذكاة من عموم الآية الكريمة أن المعتبر فيما يحل ويحرم من طعامهم هو شرعنا لا شرعهم - بإقرار ابن العربي واعترافه بهذا واحتجاجه به - فإن الله سبحانه حرم على اليهود كل ذي ظفر وهو ما ليس بمنفذ في الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط وحرم عليهم شحوم البقر والغنم وهي حلال في شرعنا ولم يراع ابن العربي الذي أحل المحرم في شرعنا استنادا إلى أنه من طعامهم تحريم هذه الأشياء في شرعهم بل قال:
إن الله أخبر أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة. وقد نسخ الله ذلك كله بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأباح لهم ما كان محرما عليهم عقوبة لهم على طريق التشديد في التكليف لعظم الجرم وزوال الحرج بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرامه وأمره ونهيه فإذا ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله في التوراة وتركوا ما حرم عليهم. فهل يحل لنا ؟ فقال مالك: في كتاب محمد هي محرمة. وقال في " سماع المبسوط " هي محللة وبه قال ابن نافع وقال ابن القاسم: أكرهه. والصحيح أكلها لأن الله رفع ذلك التحريم بالإسلام فإن قيل قد بقي اعتقادهم فيه عند الذكاة قلنا هذا لا يؤثر لأنه اعتقاد فاسد.
وهذه الحجة القاطعة التي احتج بها لتحليل ما حرمه الله سبحانه على أهل الكتاب لازمة له مبطلة لدعواه حل أكل المسلم الدجاجة التي فتل عنقها الكتابي لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه. لأن الله سبحانه نسخ ذلك كله بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحرم ما كان حلالا لهم وألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرامه وأمره ونهيه فإذا قتلوا الحيوان بما ليس ذكاة في شريعتنا حرم على المسلمين أكله لأن الله رفع ذلك التحليل بالإسلام.
الدليل السابع: على التخصيص أن الله سبحانه لا يحرم شيئا على عباده إلا لمضرة ومفسدة فيه في الدين والبدن أعظم من نفعه كما بيناه بدليله في موضع آخر.
ومن لازم قول ابن العربي والمقلدين له في هرائه أن الحيوان إذا قتله الكتابي بالخنق أو الضرب أو الصعق الكهربائي لم تكن فيه مضرة ومفسدة فيكون حلالا !!! وإذا قتله المسلم بهذه الوسائل نفسها كان فيه مضرة ومفسدة فيكون حراما !!
فالمضرة التي حرم لأجلها الحيوان الميت بغير ذكاة تعتبر في القاتل لا في الميتة فإذا كان القاتل للحيوان كتابيا فالحيوان فيه منفعة تحلله !! وليس فيه مضرة ! وإذا كان القاتل مسلما فالحيوان فيه مضرة تحرمه وليس فيه منفعة ! فهل يجوز نسبة هذا الحكم المتناقض مع اتحاد العلة الموجبة لتحريم المقتول بغير ذكاة سواء قتله مسلم أم كتابي أم شيوعي إلى شريعتنا المبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد فيما شرعته من أحكام ؟
إن هذا لا ينسبه إلى الشريعة التي أنزلها أحكم الحاكمين على خاتم رسله إلا من مس عقله جنون !! فتخصيص آية حل طعامهم بغير ما قتلوه بغير ذكاة بالمضرة التي حرمت الميتة من أجلها واجب عقلا وشرعا وطبا لأن الحكم يوجد في كل صورة توجد فيه علته فإذا تخلف عنها في صورة من الصور كانت العلة منقوضة باطلة لا يترتب الحكم عليها في أي صورة. ولازم هذا أن تكون الميتة كلها حلالا. وهذا اللازم باطل عقلا وشرعا فالملزوم باطل مثله عقلا وشرعا.
الدليل الثامن: على التخصيص أن الله عز وجل قال: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) [سورة الأعراف: 157 ] والخبائث هي المحرمات التي كان أهل الكتاب يستحلونها كما قال ابن عباس أعلم الأمة بالتفسير ومعاني التنزيل ومقاصده. قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المأكل التي حرمها الله تعالى، والطيبات هي ما أحله الله سبحانه وتعالى.
وإذا كانت الخبائث في الآية الكريمة هي ما حرمه الله تعالى والطيبات هي ما أحله، لزم لزوما بينا بالمعنى الأخص على دعوى ابن العربي ومقلديه أن ما قتله الكتابي بغير ذكاة فهو طيب لا خبث فيه يوجب تحريمه. وما قتله المسلم بغير ذكاة فهو خبيث يحرم أكله. فهل يشك عاقل في بطلان هذا اللازم الموجب لاختلاف الحكمين، الحل والحرمة مع اتحاد العلة التي هي خبث غير المذكى لكونه ميتة بالإجماع ؟! وإذا كان هذا اللازم باطلا فالملزوم مثله.
الدليل التاسع: أن الله سبحانه بين في آية المائدة المتقدم ذكرها ما يحرم أكله ثم قال: (إلا ما ذكيتم (فدل هذا النص دلالة قطعية على تخصيص عموم آية حل طعام أهل الكتاب باستثناء ما قتلوه بغير ذكاة كالخنق والضرب والصعق بالكهرباء لأن الاستثناء معيار العموم فكل ما لم يذك حرم أكله إلا ما استثناه النص من حل ميتة السمك والجراد وحل أكلها للمضطر.
فكل حيوان قتل بغير ذكاتنا فهو ميتة بالإجماع والميتة محرمة بالإجماع ما عدا الصور الثلاث المتقدمة لقيام الدليل على استثنائها من التحريم.
وقد نبهنا على أن شرع من قبلنا إذا كان مخالفا لشريعتنا لم يجز العمل به بالإجماع القيام البراهين على نسخ شريعتنا لجميع الشرائع قبلنا فقول ابن العربي بحل أكل الدجاجة التي فتل عنقها الكتابي وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا جهل واضح أو عناد فاضح !!
الدليل العاشر: على التخصيص أن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والمفسرين على أن المراد بقوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) الآية ذبائحهم. قال ابن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية: قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل ابن حيان يعني ذبائحهم. اهـ.
وقال أبو بكر الجساس عند كلامه على هذه الآية: روى عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدى أنه ذبائحهم. وقال الحافظ السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) قال ذبائحهم. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب (قال ذبائحهم. وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب) قال ذبائحهم.
هذه أقوال الصحابة والتابعين الذين إليهم المرجع بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان المراد من كلام الله تعالى صريحة في أن المراد بطعام أهل الكتاب ذبائحهم لا ما هو ذكاة عندهم وإن لم يكن ذكاة عندنا كما ادعاه ابن العربي.
إباحة ذبائح أهل الكتاب رخصة على خلاف القياس ما حرم علينا من طعامهم ليس بداخل تحت عموم آية حل طعامهم ما ليس بحيوان يحتاج في حله إلى تذكية حلال سواء كان طعام كتابي أم مشرك أم غيره الذكاة فيها ضرب من التعبد والتقرب إليه سبحانه لأن أهل الجاهلية كانوا يتقربون بذلك لأصنامهم وأنصابهم ويهلون بها لغير الله ويجعلونها قربتهم وعبادتهم، فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له، وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص، وقد ذبح صلى الله عليه وآله وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال مبينا لفائدتها: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»، فإذا لم يتحقق فيها نية ولا محل مخصوص مما بينه رسول الله بقوله وفعله زال منها حظ التعبد. ولهذا كان القياس أن لا تحل ذبائح أهل الكتاب كما لا تصحعبادتهم وصلاتهم لأن النية لا تصح منهم لأن شرط صحتها الإيمان.
لكن لما كانوا على دين في الجملة رخص الله سبحانه في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها النص عن القياس، بخلاف غيرهم من أهل الشرك فلا تحل ذبائحهم لأنهم ليسوا على دين أصلاً. هذا هو ما دعا الصحابة والتابعين إلى بيان أن المراد بطعامهم في الآية ذبائحهم دفعا لشبهة أنها لا تحل لأن من شرط صحة الذكاة النية وهي لا تصح منهم فأشاروا بأقوالهم إلى أن حل ذبائحهم رخصة على خلاف القياس. والرخصة لا يشترط فيها ما يشترط في العزيمة على ما هو معلوم مقرر في أصول الفقه. ولم يقصدوا أن غيرها من أطعمتهم لا يحل.
فإن هذا أمر لا يمكن أن يخطر على بالهم فضلا عن أن يريدوه. وهذه أقوال المفسرين تبين ما ذكرناه وتشرح ما أجملناه.
قال القرطبي: الطعام اسم لما يؤكل وهو خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل. وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب.
وقال أيضا: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله. إذ لا يضر فيه تملك أحد. والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين:
(أحدهما): ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت ونحوه. فهذا إن تجنب من الذمى فعلى وجه التقزز.
(والضرب الثاني): هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج الى الدين والنية فلما كان القياس تجوز ذبائحهم - كما تقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة. وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرنا من قول ابن عباس، وقال أبو بكر الجصاص الحنفي بعد ذكره أقوال الصحابة والتابعين المتقدمة في أن المراد بطعامهم في الآية ذبائحهم ما نصه: وظاهره يقتضي ذلك؛ لأن ذبائحهم من طعامهم، ولو استعملنا اللفظ على عمومه لانتظم جميع طعامهم من الذبائح وغيرها.
والأظهر أن تكون الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه ولا شبهة في ذلك على أحد سواء كان المتولى لصنعه واتخاذه مجوسيا أو كتابيا ولا خلاف فيه بين المسلمين. وما كان منه غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره بمن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي. فلما خص الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولا على الذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان بالملة.
وقال النسفي: المراد بطعامهم ذبائحهم لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها، وقال الفخر الرازي: والأكثرون على أن المراد بطعامهم ذبائحهم ورجحوا ذلك من وجوه:
أحدها: أن الذبائح هي التي تصير طعاما بفعل الذابح.
وثانيها: أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة.
وثالثها: ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.
وقال أبو حيان: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) طعامهم هنا: ذبائحهم. كذا قال معظم أهل التفسير قالوا: لأن ما كان من نوع الخبز والبر والفاكهة وما لا يحتاج إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشر لها كتابيا أم مجوسيا أم غير ذلك. وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.
وقال الألوسي بعد أن ذكر أن المراد بطعامهم في الآية هي ذبائحهم لأن غيرها لم يختلف في حله وأن عليه أكثر المفسرين: فحاصل المعنى: طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم.
وأقوال المفسرين في هذا المعنى كثيرة وفيما ذكرناه غناء عن الإطالة بذكر غيره فإن ما قل وأفاد خير مما طال وأمل، والأصل في الأطعمة والثياب المستوردة من أوروبا الحل والطهارة ما لم تتحقق حرمتها أو نجاستها.
وتقدم في أقوال المفسرين أن ما كان من الأطعمة غير حيوان كالزبدة والدقيق والزيت يحل أكله سواء كان طعام كتابي أم مشرك أم غيره لأن الأطعمة لا يتوقف حلها على الدين والنية كالذبائح ولم أر أحدا منهم ذكر أن الأصل في ثيابهم وصنائعهم الطهارة. ولهذا رأيت أن أذكر الأحاديث الدالة على ذلك دلالة قطعية مع ذكر الأحاديث الدالة على حل أطعمتهم بدون الاستفصال عنها.
أخرج أحمد في مسنده عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. الإهالة: الودك وهو المتحلب من دسم اللحم والشحم والسنخة: المتغيرة الرائحة، وأخرج البخاري وغيره عن أنس أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة مسمومة فأكل منها.
وأخرج أبو داود عن بلال قال: انطلقت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن فاستأذنت فقال لي: أبشر فقد جاءك الله بقضائك قال: ألم تر الركائب الأربع ؟، فقلت: بلى؛ فقال: «إن لك رقابهن وما عليهن. فإن عليهن كسوة وطعاما أهداهن إلى عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك، ففعلت.
وأخرج الترمذي عن علي عليه السلام قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منه وأهدى له قيصر فقبل منه وأهدت له الملوك فقبل منها.
وأخرج البخاري عن المغيرة بن شعبة أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس جبة شامية وصلى فيها. قال الحافظ في الفتح عند كلامه على ترجمة البخاري لهذا الحديث: هذه الترجمة معقودة لجواز الصلاة في ثياب الكفار ما لم تتحقق نجاستها. وإنما عبر البخاري بباب الصلاة في الجبة الشامية مراعاة للفظ الحديث وكانت الشام إذ ذاك دار كفر، ووجه الدلالة منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم لبسها ولم يستفصل.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ من مزادة مشركة.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود أكله صلى الله عليه وآله وسلم من الجبن المجلوب من بلاد الروم.
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم عن عبد الله بن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله مبتسما.
وفي سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي عن ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه وينطلق.
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود عن جابر بن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم ولا يعيب ذلك عليهم.
ومن المعلوم المسطور في كتب السنة وكتب السيرة أن الصحابة كانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفار فيغنمون الطعام والثياب فيأكلون الطعام ويلبسون الثياب.
ولم يرد في هذه الأحاديث وغيرها على ما أذكره أنه صلى الله عليه وآله وسلم استفسر الصحابة وسألهم عن الطعام هل هو حلال ؟ وعن الثياب هل هي طاهرة وذلك دال دلالة لا مجال للشك فيها على أن الأصل في أطعمة الكفار وثيابهم وأوانيهم الطهارة والحل حتى تتحقق حرمتها أو نجاستها. فإذا تحقق ذلك حرم أكلها ولبسها.
وقد رأيت في حديث جابر أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يستعملون في الغزو أواني المشركين وأسقيتهم ولا يعيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عليهم. لأنهم كانوا لا يعلمون أن تلك الأواني يطبخ فيها ما هو محرم، فلم يعب صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عليهم. وقررهم عليه.
ولو أنهم علموا أن تلك الأواني يطبخ فيها خنزيرا أو ميتة لما استغلوها ولو فعلوا لما قررهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك كما يدل عليه حديث أبي ثعلبة قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ؟ قال: «إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها ». (رواه البخاري ومسلم). ولأحمد وأبي داود: إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم، قال: «إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا».
فهذا الحديث دال دلالة واضحة على أن حل طعامهم وطهارة ثيابهم وأوانيهم كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة مقيدان بما إذا لم تتحقق حرمتها أو نجاستها فإذا تحقق ذاك حرم الانتفاع بها.
وقد تقدم قول الحافظ أن الصلاة في ثياب الكفار جائزة ما لم تتحقق نجاستها فهذا القيد لا بد من اعتباره في حل طعامهم وطهارة ثيابهم وأوانيهم. فما يزعمه المحللون للحم المستورد من أوروبا من أن السؤال عنه هل هو مذكى ليس بشرط في حله استنادا إلى أن الأصل فيه الحل كغيره من أطعمتهم جهل مفضوح أو تضليل مكشوف لأن التمسك بهذا الأصل إنما يصح عند عدم وجود الناقل عنه أو المانع من العمل به كما هو معلوم مقرر في أصول الفقه.
واللحم المستورد قد وجد وتحقق المانع من التمسك بهذا الأصل في حله. وهو ما اشتهر وشاع بين الناس في مشرق الأرض ومغربها أن الأوروبيين لا يذكون الحيوان كذكاتنا وإنما يقتلونه بالصعق الكهربائي أو ضربه بمسدس أو غيره. وقد سبق في مقدمة هذا البحث أن جماعة من العمال المغاربة باسبانيا كتبوا إلي يسألون عن اللحم الذي يباع هنالك هل يحل أكله ؟ وذكروا أنهم رأوا الحيوان يقتل ولا يذبح ! وأخبرني عامل آخر ببلجيكا بذلك أيضا. ومنذ شهرين رأيت في التلفزة الاسبانية الأغنام معلقة في مجزرتهم لسلخها وليس في أعناقها أثر الذبح أصلا مما يدل على قتلها بالصعق الكهربائي أو ضربها بمسدس في رأسها وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط بتارخ 1983/9/21 ما يدل على هذا أيضا فكيف يصح أن يقال مع. هذا أن اللحم المستورد حلال والسؤال عن ذكاته لا يشترط ؟! بل الحق هو أنه حرام لا يحل للمسلم أكله لأنه تحقق بالأخبار المتواترة أنهم لا يذبحون وإنما يقتلون بغير ذكاة؛ فالتمسك بحله لأن الأصل في طعامهم الحل دليل على جهل المحتج به أو تضليله بتحليل ما يعلم أنه محرم لما نبهنا عليه أن العمل بهذا الأصل مفيد بما إذا لم يوجد المانع من العمل به فشد يديك على هذا ولا تلتفت لدعوى جاهل أو مضلل !!
تناقض ابن العربي في فتواه:
قول ابن العربي بتحريم ما قتله الكتابي بغير ذكاة:
قال بعد أن ذكر أن ذبائح أهل الكتاب يحل أكلها: وإن لم يسموا عليها اسم الله وسموا عند ذبحها اسم المسيح لأن الله سبحانه رخص في ذلك: فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فالجواب أن هذه ميتة وهي حرام بالنص وإن أكلوها فلا نأكلها معهم كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا.
قوله بنقيض ذلك:
قال: ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل أو تؤخذ طعاما منه ؟ فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله أباح طعامهم مطلقا.
وقد نقلنا كلامه بتمامه فيما سبق عند نقضنا له فارجع إليه إن شئت، وإنما اقتصرنا على نقل بعضه هنا لأنه الدال على تناقضه. فقارن بين قوليه ووازن بين قوله هذا وقوله ذاك تر التناقض بينهما صريحا واضحا لأنه صرح أولا بأن ما خنق أو حطم رأسه ميتة وهي حرام بالنص. ثم تناقض فقال: إن الدجاجة التي قتل عنقها الكتابي حلال وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا !!
جواب الشيخ يوسف القرضاوي عن هذا التناقض:
قال بعد أن نقل القولين المتعارضين اللذين نقلناهما آنفا: ولا تنافي بين القولين فإن المراد أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة. وما لا يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا أكله. والمفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله. وهذا مذهب جماعة من المالكية.
وقبل أن نبين ما في جوابه من أخطاء ومخالفة للقواعد الاستدلالية ولكلام ابن العربي نفسه في تعريف الذكاة نلفت نظر القارئ إلى أنه خالف في جوابه القاعدة التي التزم العمل بها في كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) فإنه قال في أوله: ولم أرض لعقلي أن أقلد مذهبا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب. فإن المقلد - كما قال ابن الجوزي - على غير ثقة فيما قلد فيه. وغير لائق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح أن يكون أسير مذهب واحد أو خاضعا لرأي فقيه معين بل الواجب أن يكون أسير الحجة والدليل.
فهل التزم العمل بما قاله في جوابه عن تناقض ابن العربي ؟!
الجواب كلا ثم كلا، بل إنه قلد ابن العربي تقليدا بواحا وأيد تقليده في الباطل تأييدا صراحا وموه في تعريف الذكاة بما يعلم كل متدين بالإسلام فساده لغة وكتابا وسنة وإجماعا وبما يبطله تعريف ابن العربي نفسه للذكاة إبطالا محكما.
ولم هذا الإمعان في التقليد في باطل محقق والإعراض عن الحق الواضح الأبلج ؟! الجواب: ليبني على الباطل ويرتب عليه باطلا آخر. ذلك هو قوله: وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه. فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية.
هذا هو الباطل الذي مهد له بذلك الجواب الواهي الذي وضع فيه للذكاة حقيقة أخرى لا تمت لحقيقة الذكاة الشرعية بأي صلة. بل إنه تفضل بها على هذه الأمة من كيس فضيلته. بهذا يتضح أنه لم يطبق القاعدة التي ذكر أنه يسير على مقتضاها في كتابه وأنه سيكون أسير الحجة والدليل، بل كان في جوابه أسير التقليد وإليك الدليل على ذلك:
إبطال جوابه عن تناقض ابن العربي:
يتبين بطلان ذلك الجواب الواهي الواهن ومخالفته للإجماع والنصوص والقواعد الأصولية من وجوه::
الوجه الأول: أن الجمع بين المتعارضين إنما يجب في نصوص القرآن والسنة التي لا يأتيها الخطأ والنسيان من بين يديها ولا من خلفها والتي إذا تعارض النصان منها فإنما يتعارضان ظاهرا وفي ظن المجتهد لا في الواقع ونفس الأمر حتى قال الحافظ إمام الأئمة ابن خزيمة: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأتني بهما لأؤلف بينهما.
وقال الإمام الحافظ المجتهد أبو محمد علي بن حزم: لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبين ذلك قول الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). فأخبر عز وجل أن كلام نبيه وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي وفي أن كلا من عند الله عز وجل.
فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى وقد أخبر أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح. أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق كما قلنا، وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض، وضرب الحديث بالقرآن، وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جهله.
وقال الإمام تقي الدين السبكي في جزء أفرده للكلام على قوله الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي: أن الأحاديث الصحيحة ليس فيها شيء معارض (متفق عليه). والذي يقوله الأصوليون من أن خبر الواحد إذا عارضه قرآن أو إجماع أو عقل إنما هو فرض وليس شيء من ذلك واقعا ومن ادعى ذلك فليبينه حتى نرد عليه. وكذلك لا يوجد خبران صحيحان من أخبار الأحاد متعارضان بحيث لا يمكن الجمع بينهما.
والشافعي قد استقرأ الأحاديث وعرف أن الأمر كذلك، وصرح به في غير موضع من كلامه، فلم يكن عنده ما يتوقف عليه العمل بالحديث إلا صحته، فمتى صح وجب العمل به لأنه لا معارض له. فهذا بيان للواقع والذي يقوله الأصوليون مفروض وليس بواقع.
وأقوال العلماء في نفي التعارض بين نصوص الشارع في الواقع وأن التعارض بينها الذي يتوهمه بعض المجتهدين إنما هو في الظاهر فقط، ولهذا نجد بعض الأئمة يترك العمل بالحديثين لتعارضهما في نظره ويلجأ إلى أخذ الحكم من قياس أو أصل من أصول الشريعة الكلية في حين أن إماما آخر قد عمل بهما معا لمعرفته طريق الجمع بينهما. كما يعلم ذلك من الكتب المؤلفة في الجمع بين المتعارض من الأحاديث " كاختلاف الحديث" للإمام الشافعي. و"تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة. ولزكريا الساجي ولابن جرير الطبري كتاب في ذلك أيضا. و" مشكل الآثار " للطحاوي وهو من أجل الكتب المؤلفة في هذا الباب وأوسعها كما يعلم ذلك من شروح كتب الحديث " كالفتح" للحافظ وشرح النووي على مسلم و" نيل الأوطار" للشوكاني وغيره من شروح كتب السنة.
فتقعيد العلماء لقاعدة الجمع بين النصوص التشريعية المتعارضة مبني على انتفاء التعارض بينهما في الواقع فكان الجمع بينهما واجبا متحتما لأن طاعتها كلها واجبة لا عذر لأحد في ترك العمل ببعضها إذا أمكنه الجمع بين ما تعارض منها في ظنه.
ولا يجوز العمل بهذه القاعدة فيما تعارض من أقوال المجتهدين فضلا عما تعارض من أقوال المقلدين. ذلك لأن المجتهد ليس بمعصوم من الخطأ والغلط والنسيان. فمن الجائز بل الواقع فعلا أن يقول الإمام قولا ثم يقول ما يعارضه، خطأ أو غلطا أو نسيانا.
ولهذا كان ما قرره الأصوليون من أن المقلد يجب عليه أن يسلك في القولين المتعارضين المرويين عن إمام المذهب ما يسلكه المجتهد في الحديثين المتعارضين من الجمع بينهما أو نسخ المتأخر منهما للمتقدم أو ترجيح أحدهما على الآخر بمرجح من المرجحات خطأ مردودا مرفوضا لأن قياس أقوال المجتهد على نصوص القرآن والسنة في تطبيق هذه القاعدة قياس باطل فاسد لوجود الفارق العظيم بينهما لأن الشارع معصوم من الخطأ والنسيان في تشريع الأحكام بخلاف المجتهد فإن خطأه ونسيانه في أقواله أمر معلوم مشاهد في كتب الفقه على اختلاف مذاهب أصحابها لا ينكره إلا مقلد جامد لا يفرق بين الخطأ والصواب والحق والباطل كما بيناه بأدلته في كتاب "تبيين المدارك لرجحان سنية تحية المسجد وقت خطبة الجمعة في مذهب مالك". فراجعه فإن فيه أدلة قطعية على ما ذكرناه هنا على سبيل الاختصار.
ومن المعلوم أن للشافعي مذهبين، مذهبا قديما وضعه بالعراق ومذهبا جديدا وضعه بمصر ورجع فيه عن مذهبه القديم للأدلة التي وقف عليها بمصر واقتضت رجوعه من المذهب الأول الذي لا عمل به عند أتباعه ومع هذا فقد نص علماء مذهبه على استثناء مسائل كثيرة نصوا على أن الصحيح فيها هو مذهبه القديم. ولم يستثنوا تلك المسائل إلا لأدلة أوجبت استثناءها وتقديمها على المذهب الجديد وذلك دال على خطأ الإمام فيما ذهب إليه في الجديد. وهذا يبطل تطبيق قاعدة الجمع أو النسخ أو الترجيح في القولين المتعارضين المرويين عن إمام المذهب. إذ لو كان العمل بها صحيحا مطردا كما هي صحيحة مطردة في نصوص الشارع المتعارضة لكان مذهب الشافعي الجديد ناسخا لكل قول قال به في مذهبه القديم. ولما صح لأتباعه استثناء مسألة واحدة فضلا عن مسائل عديدة رجحوا فيها مذهبه القديم لا سيما وقد نص هو نفسه على رجوعه عن المذهب القديم.
وإليك كلمة قيمة تزيد هذه المسألة إيضاحا وبيانا لإمام محقق من أئمة الفقه والأصول. فقد سئل الشريف التلمساني صاحب " مفتاح الوصول " من علماء غرناطة عن قول الإمام المرجوع عنه وما ينقله علماء المذهب عن الإمام في مسألة واحدة من قولين مختلفين وثلاثة فأجاب بجواب نفيس نقتصر منه على ما يدل على عدم جواز تطبيق القاعدة المذكورة على أقوال الأئمة المتعارضة.
قال: وإذا علم المتأخر من قولي الإمام فلا ينبغي اعتقاد أنهما كأقوال الشارع بحيث يلغى الأول البتة لأن الشارع واضع ورافع لا تابع. فإذا نسخ الأول رفع اعتباره أصلا وإمام المذهب لا واضع ولا رافع بل هو في اجتهاده طالب حكم الشرع متبع دليله في اعتقاده وفي اعتقاده ثانيا أنه غالط في اعتقاده الأول ويجوز على نفسه في اعتقاده الثاني من الغلط ما اعتقده في اجتهاده الأول ما لم يرجع لنص قاطع. وكذلك مقلدوه يجوزون عليه في كلا اعتقاديه ما جوزه هو على نفسه من غلط ونسيان.
فلذلك كان لمقلده اختيار أول قوليه إذا رآه أجرى على قواعده وحاصله أن أقوال الشارع إنشاء وأقوال المجتهد إخبار. وبهذا يظهر غلط من اعتقد من الأصوليين أن حكم القول الثاني من المجتهد حكم الناسخ من قولي الشارع. ويظهر صحة ما ذكره ابن أبي جمرة في " إقليد التقليد " من أن المجتهد إذا رجع عن قول فليس رجوعه عنه مما يبطله ما لم يرجع لنص قاطع، قال: لأنه رجع من اجتهاد لاجتهاد عند عدم النص فيرجح أصحابه فيأخذ بعضهم بالأول. وفي المدونة من ذلك مسائل. انتهى.
وفي كلام الشريف التلمساني وابن أبي جمرة من التحقيق المستند إلى الأدلة الواضحة ما يدلك على بطلان تطبيق القاعدة المتقدمة على أقوال الأئمة المتعارضة، وأن الواجب فيما تعارض من أقوالهم هو الترجيح بالدليل فما أيده فهو الراجح المقبول ولو كان قوله الأول الذي رجع عنه. وما خالف الدليل فهو المرجوح المردود ولو كان قوله الثاني الذي رجع إليه. ولا يجوز الجمع بينهما أو نسخ الأول بالثاني الجواز الخطأ عليه في الثاني كما جاز عليه في القول الأول.
وما قاله الأصوليون من أن المقلد يسلك في القولين المتعارضين المرويين عن إمام المذهب ما يسلكه المجتهد في القولين المتعارضين المنقولين عن الشارع من الجمع أو النسخ أو الترجيح باطل مرفوض ناشئ عن تنزيلهم إمام المذهب منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يخطئ ولا ينسى في تبليغ أحكام الشريعة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، (وما كان ربك نسيا). هذا هو الحق الذي يجب أن يكون نصب عينيك، فلا تلتفت لما قاله الأصوليون فإنه خطأ محض ليس له أي مستند.
والذي أوقعهم فيه تقديس إمام المذهب واعتقادهم فيه أنه معصوم من الخطأ والنسيان مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !! حتى ادعى بعض الجامدين منهم أن كل آية خالفت ما عليه مذهبه فهي مؤولة أو منسوخة وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ !! إذا علمت بما قررناه أن الواجب فيما تعارض من قولي المجتهد هو ترجيح أحد القولين على الآخر بالدليل، فلا ينازع منصف أن ترجيح أحد قولي المقلد كابن العربي بالدليل أولى وأحق.
لهذا كان واجبا على الشيخ يوسف القرضاوي ترجيح القول الأول الذي صرح فيه ابن العربي بأن ما أكله أهل الكتاب على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس فهو ميتة وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير إلى آخر ما سبق نقله عنه لأن قوله هذا يدل له القرآن والسنة والإجماع وقواعد الاستدلال وحكمه تحريم الميتة على ما بيناه شافيا كافيا فيما مر بك.
أما قوله الآخر فليس له دليل أصلا إلا عموم الآية التي بينا أنها مخصصة بالدلائل التي تفيد القطع بتخصيص الميتة - وهي كل ما لم يذك - من عمومها أو ترجيح النصوص والإجماع وقواعد التشريع الدالة على تحريم ما لم يذك على عمومها على ما أوضحناه أيضا بأدلة كثيرة فيما تقدم.
بهذا يتضح أن محاولة الشيخ يوسف القرضاوي الجمع بين قوليه محاولة ساقطة لا تساوي شيئا لانبنائها على تطبيق قاعدة لا يصح تطبيقها على أقوال المجتهدين المتعارضة فكيف يصح تطبيقها على قولي ابن العربي المقلد الجامد الذي حمله الجمود على التقليد ونصر مذهبه أن قرر قول علماء مذهبه بكراهية صيام ستة أيام من شوال وادعى أن صيامها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل من صيامها في شوال وهكذا رد بكل صراحة ووقاحة ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأنه يرد قول فقيه من فقهاء مذهبه !! ارجع إلى ما نقضنا به خرافته هذه في مقدمة هذا البحث، وكتابنا " التيمم في الكتاب والسنة " كما نبهنا في مقدمة بحثنا هذا على كثير من أخطائه الفاضحة المضحكة كقوله في آيات التوحيد إنها عشرة آلاف آية !!
وقوله: أن آية السيف نسخت مائة وأربعا وعشرين آية مع أن المنسوخ في القرآن لا يزيد على تسع عشرة آية على ما قاله الحافظ السيوطي في " الاتقان " أو أربع عشرة على ما حققه العلامة الحجوي في " تاريخ الفقه الاسلامي " وهو الصحيح. وأين هذا العدد القليل من نسخ مائة وأربع وعشرين آية بآية واحدة كما زعم ابن العربي ؟!
فهل يصح في نظر عاقل فضلا عن عالم أن يجمع بين قولي من يصدر منه مثل هذه الأخطاء المضحكة !! كلا ثم كلا.
ومن عجيب ما سلكه الأستاذ يوسف القرضاوي أنه نقص وزاد في كلام ابن العربي الدال دلالة صريحة على تحريم أكلنا ما قتله الكتابي بغير ذكاتنا ليتأتى له ذلك الجمع الساقط لأنه رأى أنه لو نقل كلام ابن العربي بنصه لكان كلام ابن العربي نفسه دالا على فساد جمعه ونقضه !!! فضرب بالأمانة العلمية عرض الحائط ليمكنه أن يجمع بين قوليه جمعا أعرض فيه إعراضا تاما عن نصوص القرآن والسنة والإجماع وقواعد الاستدلال الدالة دلالة واضحة وقطعية على تحريم المقتول بغير ذكاة سواء قتله مسلم أو كتابي !!. راجع " أحكام القرآن " لابن العربي، وقارن بين كلامه وما نقله الأستاذ القرضاوي في الحلال والحرام في الإسلام. لتعلم كيف زاد في كلام ابن العربي ونقص منه ليصح له ذلك الجواب المخالف لضروريات النصوص والقواعد !!
وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أنه لم يف بما قاله في مقدمة كتابه أنه سيكون أسير الحجة والدليل بل كان أسير التقليد، ولمن ؟! لمقلد كثير الخطأ كما نص عليه علماء عصره على ما بيناه في مقدمة بحثنا هذا".
الوجه الثاني: أننا لو سلمنا صحة الجمع بين قولي المجتهد أو المقلد المتناقضين لا نسلم صحته في خصوص هذه المسألة لأن من شرط صحة الجمع بين القولين المتعارضين أن يكون ممكنا بلا تعسف ولا تمحل كاستثناء الخاص من العام، وحمل المطلق على المقيد ونحو هذا مما يكون الجمع فيه ممكنا بغير تعسف ولا مخالفة للقواعد الاستدلالية. وهذا الشرط الضروري المعتبر في صحة الجمع بين القولين المتعارضين غير متحقق في قولي ابن العربي لأن أولهما فيه النص الصريح على أن ما قتله الكتابي بغير ذكاتنا كالخنق وحطم الرأس يحرم علينا أكله كالخنزير. وثانيهما: فيه النص الصريح على حل أكلنا لما قتله الكتابي بفتل عنقه.
فهما قولان متعارضان متناقضان نصا وتصريحا كما يعلم من المقارنة بينهما. فكيف ساغ للأستاذ القرضاوي مع هذا أن يدعي أن لا تنافي بينهما ليبني على دعواه ذلك الجمع الذي لم يتوفر فيه شرطه المعتبر عند أهل العلم على ما مر بك. وإذا لم يكن التنافي متحققا بين قول يحرم شيئا وقول يحل ذلك الشيء نفسه فما هو التنافي عند فضيلته ؟ فهل له تعريف آخر كتعريفه الآتي للذكاة ؟!
الوجه الثالث: استدلاله لحل أكلنا ما قتله أهل الكتاب بالصعق الكهربائي بأن المفهوم المشترك للذكاة هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله !!! استدلال عجيب لأنه مستند إلى تعريف غريب للذكاة مخالف لمعناها في لغة العرب التي خاطبنا بها القرآن الكريم ولسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولإجماع الأمة فما سمعنا أن أحدا من العوام فضلا عن العلماء عرف الذكاة بهذا التعريف المخترع الذي لا مستند له أصلا، إلا دعوى ابن العربي حل أكل الدجاجة التي فتل عنقها الكتابي، والتي بينا بالدلائل القطعية أنها من أبطل الباطل ثم هو بعد هذا مخالف لتعريف ابن العربي نفسه للذكاة كما سيأتي بيانه. أما مخالفة هذا التعريف المخترع للغة العرب فإن علماء اللغة متفقون على أن معنى الذكاة هو الذبح.
قال القرطبي في تفسيره عند كلامه على قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم (الذكاة في كلام العرب الذبح. وقال الجوهري في " الصحاح ": التذكية: الذبح. وقال ابن الأثير في النهاية " التذكية: الذبح والنحر والإسم: الذكاة. وقال صاحب لسان العرب: التذكية الذبح كالذكاة والذكا. وقال الفيروز أبادي في " القاموس ": والتذكية الذبح كالذكا والذكاة.
هذه أقوال أئمة اللغة وهي دالة دلالة واضحة على أن معنى الذكاة لغة هو الذبح والنحر. والذكاة تكون في الحلق والنحر في اللبة على خلاف بين العلماء هل يجوز نحر ما يذبح وعكسه أو لا ؟ وذلك لا يعنينا البحث فيه هنا.
وأما مخالفة هذا التعريف للسنة وإجماع الأمة فأمر معلوم للخاصة والعامة فلا داعي للتطويل ببيان ذلك وسيأتي ما يدل على هذا في كلام ابن العربي نفسه.
ومن الجلي البين أن معنى الذكاة الذي اخترعه الأستاذ القرضاوي مخالف مخالفة واضحة لمعناها الذي نص عليه علماء اللغة فإنه معنى خاص. وهذا المعنى الذي ابتدعه الأستاذ القرضاوي عام شامل لقتل الحيوان بالخنق والحطم والصعق الكهربائي بنية تحليل أكله فإلى هذا التعريف الزائف استند في الجمع بين قولي ابن العربي المتناقضين ليرتب على ذلك الجمع الباطل الذي علمت أنه مخالف للقواعد التشريعية تحليل أكل المسلمين اللحم المستورد ولو كان غير مذكى كتذكيتنا !!
الوجه الرابع: أن الله تعالى نص في آية المائدة المتقدم ذكرها على تحريم المنخنقة وأخواتها مع اندراجها في الميتة لإبطال ما كان أهل الجاهلية - وقد كان فيهم مشركون وأهل كتاب ومجوس - يعتقدون أن الميتة التي لا تؤكل هي ما مات حتف أنفه أو بوجع. أما ما مات بالخنق أو الوأد - الضرب - فإنهم كانوا يعتقدون أن قتله بذلك ذكاة. فأبطل الله اعتقادهم الفاسد وبين أن ما قتل بتلك الوسائل ميتة لا يحل أكله إلا ما أدرك بالذكاة وهو حي، فإنه يحل أكله بناء على أن الاستثناء في قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) متصل. وهو الصحيح كما بيناه بدليله في تفسيرنا للآيات التي تدرس في قسم الباكالوريا بالمعهد الإسلامي بطنجة.
وغير خاف أن تعريف الأستاذ القرضاوي للذكاة يدل دلالة واضحة على. ومن أن إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله ولو بالخنق أو الوقذ يحلل أكله الجلي أن هذا رد صريح واضح لما دلت عليه الآية من إبطال كون الخنق والوقد ذكاة يحل بها أكل الحيوان كما كان يعتقد أهل الجاهلية.
الوجه الخامس: نسأله بناء على هذا التعريف الجديد للذكاة هل إذا أزهق مسلم روح الحيوان بنية تحليل أكله بخنقه أو ضربه بحجر أو بالصعق الكهربائي يحل له أكله ؟ فإن قال نعم فقد قال ما يجب به استتابته. وإن قال لا وهو الحق قلنا ما هو الفارق بين قتل الكتابي للحيوان بالصعق الكهربائي بنية تحليل أكله فيحل للمسلمين أكله، وقتل المسلم له بالصعق الكهربائي بنية تحليل أكله فيحل للمسلمين أكله، وقتل المسلم له بالصعق الكهربائي بنية تحليل أكله فيحرم عليه وعلى المسلمين أكله ؟ فإن قال ما قتله المسلم بغير ذكاتنا يحرم عليه أكله بنصوص القرآن والسنة والإجماع قلنا وكذلك ما قتله الكتابي بغير ذكاتنا يحرم على المسلم أكله بنصوص القرآن والسنة والإجماع على ما بيناه البيان الشافي الكافي فيما سبق. وإن كان عنده فارق بينهما لا ندريه فليتفضل ببيانه لتعلم هل هو فارق صحيح مقبول أو فاسد مردود كأصل دعواه.
الوجه السادس: إنا بينا أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئا على عباده الا لخبثه ومضرته في الدين والبدن ومن المحال عقلا وشرعا أن يحرم الله سبحانه على المسلم أكل الحيوان إذا قتله المسلم بالصعق الكهربائي الخبثه ومضرته ويحل أكله للمسلمين إذا قتله أهل الكتاب بتلك الوسيلة نفسها فإن لازم ذلك انتفاء خبث وضرر الحيوان الذي قتله أهل الكتاب بغير ذكاتنا وتحقق الخبث والضرر في الحيوان الذي قتله المسلم بغير ذكاتنا !! وهذا اللازم باطل عقلا وشرعا لما يقتضيه من تناقض واضح لانتفاء علة التحريم فيما قتله أهل الكتاب بغير ذكاتنا وتحققها فيما قتله المسلمون بغير ذكاتنا، وهذا شيء لا يقوله عاقل فضلا عن عالم، فكيف يجوز مع هذا أن ينسب إلى شريعة أحكم الحاكمين ؟ وإذا كان هذا اللازم باطلا عقلا وشرعا فالملزوم باطل عقلا وشرعا أيضا.
الوجه السابع: أن ابن العربي خالف الأستاذ القرضاوي في تعريفه الجديد للذكاة الذي جعله وسيلة للجمع بين قوليه المتناقضين. قال في أحكام القرآن 1: 224: إن الذكاة وإن كان المقصود بها انهار الدم ولكن فيها ضرب من التعبد والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى لأن الجاهلية كانت تتقرب بذلك لأصنامها وأنصابها وتهل لغير الله فيها وتجعلها قربتها وعبادتها فأمر الله تعالى بردها إليه والتعبد بها له، وهذا يقتضي أن يكون لها نية ومحل مخصوص. وقد ذبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال: « إنما الذكاة في الحلق واللبة، فبين محلها وقال مبينا لفائدتها: « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ». فإذا أهمل ذلك ولم يقع بنية ولا شرط ولا صفة مخصوصة زال منها حظ التعبد. أهـ.
فقارن بين كلام ابن العربي الذي يصرح فيه بأن الذكاة لها محل مخصوص مبينا ذلك بذبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلق ونحره في اللبة وتعريف الأستاذ القرضاوي للذكاة بأنها القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله، تجد أن كلام ابن العربي موافقا لإجماع العلماء على أن محل الذكاة في الحيوان المقدور عليه هو الحلق أو اللبة وتعريف القرضاوي لها مخالفا لإجماع الأمة في جعله محلها غير خاص بالحلق واللبة بل هو عام شامل لجميع بدن الحيوان بدليل تفريعه على تعريفه الجديد حل أكل اللحم المستورد من عند أهل الكتاب المذكى بالصعق الكهربائي ما داموا يعتبرونه حلالا مذكى !! فكيف يصح مع هذا التناقض الواضح بين الذكاة عند ابن العربي والذكاة عند القرضاوي الجمع بين قولي ابن العربي المتناقضين ؟!
الوجه الثامن: أن تعريف الذكاة الشرعية بهذا المعنى الذي اخترعه الأستاذ القرضاوي واستدراك على الشارع الذي لا ينسى (وما كان ربك نسيا) إذ لو كان معناها هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله بأي وسيلة كالصعق الكهربائي أو ضربه بمسدس لبينه الشارع ولم يترك الناس جاهلين بهذا المعنى الجديد للذكاة لكنه صلى الله عليه وسلم بين الذكاة التي أحل الله بها في كتابه الحيوان المقدور عليه بالذبح والنحر. وفعله المبين لواجب واجب لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا بنص آخر. يبين هذا ويزيده ظهورا.
الوجه التاسع: وهو أن الذكاة بذبح الحيوان المقدور عليه في حلقه أو نحره في لبته جعلها الشارع سببا محل أكله. ومن المعلوم المسطور في أصول الفقه أن الأسباب التي رتب عليها الشارع أحكاما شرعية تكليفية أحكام شرعية وضعية ليس لأحد غير الشارع وضعها. إذ لو جاز ذلك في سبب من الأسباب كجعل الذكاة هي القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله ولو بالصعق الكهربائي لجاز وضع سبب بل أسباب أخرى لأحكام شرعية تكليفية !
فيجوز أن يجعل لوجوب صلاة الظهر بسبب آخر غير الزوال. ولوجوب صيام رمضان سبب آخر غير رؤية الهلال !!! وهكذا فما من سبب وضعه الشارع الحكم شرعي إلا ويجوز استبداله بسبب آخر ملائم لأغراض الناس وشهواتهم كما وضع الأستاذ القرضاوي سببا آخر لحل أكل الحيوان غير السبب الذي وضعه الشارع لحل أكله. ولازم هذا الهراء هو أن لا يبقى للأسباب الشرعية ولا لترتب مسبباتها عليها اعتبار ولا ضابط يضبطها بل يجوز لكل واحد أن يضع سببا آخر غير السبب الذي وضعه الشارع ورتب عليه حكما تكليفيا وهذا اللازم باطل نظرا وشرعا فالملزوم مثله بطلانا وفسادا نظرا وشرعا أيضاً.
الوجه العاشر: أنه يلزم على تعريفه المخترع للذكاة ليحل به المحرم كتابا وسنة وإجماعا أن لا توجد ميتة يحرم أكلها إلا ما مات حتف أنفه، أما ما قتل بالخنق أو الوقد وغيره من الوسائل التي ليست ذبحا ولا نحرا فلا يكون ميتة ما دام قاتله قصد إزهاق روحه بنية تحليل أكله، وهذا شيء مخالف لإجماع العلماء، على أن ما قتل بغير ذكاة شرعية فهو ميتة لا يحل أكله سواء قتل بالضرب أو الخنق أو غيره. ومخالف لقوله تعالى: (حرمت عليك الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة) الآية (سورة المائدة: 3). وقد قال ابن العربي نفسه أن المنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل.
ونص علماء التفسير على أن الله سبحانه إنما نص على تحريم المنخنقة وما عطف عليها مع اندراجها في الميتة لإبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه أن الميتة هي ما مات حتف أنفه أو بوجع. أما ما قتل بسبب من الأسباب المذكورة في الآية فليس بميتة، فبين الله سبحانه فساد اعتقادهم بالنص الصريح على أنه ميتة لا يحل أكله إلا ما أدرك بالذكاة وهو حي. وقد نقلنا فيما مر بك كلام القرطبي في بيان ذلك.
فبان بهذا أن ذلك التعريف الجديد للذكاة رد صريح لما نصت عليه الآية الكريمة من تحريم الحيوان المقتول بالخنق أو الضرب أو الصعق الكهربائي لأن أهل الجاهلية ما كانوا يخنقونه أو يقذونه إلا بنية تحليل أكله ورد صريح أيضا لما أجمع عليه العلماء أن كل ما مات بغير ذكاة شرعية فهو ميتة لا يحل أكله.
ومن العجيب زعمه أن هذا التعريف المخترع للذكاة هو مذهب جماعة من المالكية، وهذا الزعم لا أرى مسوغا لضياع الوقت في إبطاله بنقل أقوال المالكية الدالة على مخالفته للواقع وإنما أكتفي بإحالة القارئ على باب الذكاة من مختصر خليل وشروحه والرسالة وشروحها، فإنه لن يجد أحدا من المالكية فضلا عن جماعة منهم قال إن الذكاة هي ما زعمه الأستاذ القرضاوي بل إنه سيجد المالكية شددوا في الذكاة التي يحل بها الحيوان باشتراط شروط لا دليل عليها أصلاً المذبوح من القفا لا يحل أكله عند المالكية.
ومما يدل على تشددهم في الذكاة واحتياطهم أنهم حرموا أكل الحيوان المذبوح من القفا مع أن جماعة من الأئمة قالوا بجواز الذبح من القفا منهم النخعي والشعبي وأبو حنيفة والشافعي والظاهرية.
والحق هو ما قاله المالكية من تحريم الحيوان المذبوح من القفا لأن الأدلة تؤيد قولهم ولا داعي لذكرها لأني إنما أشرت إلى تحريم ما ذبح من القفا عند المالكية لبيان تشدّدهم واحتياطهم في الذكاة المحللة لأكل الحيوان مما يدل دلالة قاطعة على أن ما زعمه الأستاذ القرضاوي أن جماعة من المالكية قالوا بمثل قوله في تعريف الذكاة لا يمت إلى الواقع المسطور في كتب المالكية الفقهية بأية صلة !!
الوجه الحادي عشر: من الوجوه الدالة دلالة قطعية على فساد جمعه بين قولي ابن العربي المتناقضين أن علماء الفقه والأصول مجمعون أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ولا يحل العمل به إذا كان شرعنا يخالفه لأن شريعتنا نسخت جميع الشرائع وأوجبت على كل مكلف إنسي أو جني اتباع ما جاء به القرآن الكريم وما سنه خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم.
فكل ما حرمته شريعتنا فهو حرام علينا ولو كان حلالا في شريعة من قبلنا وكل ما أحلته شريعتنا فهو حلال لنا وإن كان محرما في شريعة من قبلنا. والخلاف المذكور في أصول الفقه في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إنما هو فيما لم يرد في حكمه نص في شريعتنا، أما الحكم الذي فيه نص في شريعتنا فيحرم فيه تحريما قطعيا العمل بشريعة من قبلنا.
الوجه الثاني عشر: أن جمعه بين قولي ابن العربي المتناقضين الذي بنى عليه حل ما يراه أهل الكتاب مذكى عندهم وإن لم يكن ذكاة عندنا يبطله وينقضه نقضا لا يحتمل التأويل قول ابن العربي نفسه عند كلامه على قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية: أخبر الله سبحانه وتعالى أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة وقد نسخ ذلك كله بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأباح لهم ما كان محرما عليهم عقوبة لهم على طريق التشديد في التكليف لعظيم الجرم وزوال الحرج بمحمد صلى الله عليه وسلم. وألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه فإذا ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله في التوراة وتركوا ما حرم فهل يحل لنا ؟ فقال مالك في كتاب محمد هي محرمة. وقال في " سماع المبسوط ": هي محللة وبه قال ابن نافع.
وقال ابن القاسم: أكرهه والصحيح أكلها لأن الله رفع ذلك التحريم بالإسلام. فإن قيل فقد بقي اعتقادهم فيه عند الذكاة قلنا هذا لا يؤثر لأنه اعتقاد فاسد. انتهى. فصرح بأن الله تعالى ألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه ورد قول مالك بتحريم أكلنا ما حرم عليهم في التوراة بأن الصحيح أكله لأن الله رفع ذلك التحريم بالإسلام.
فهذا اعتراف وإقرار منه بأن المعتبر فيما يحل ويحرم من ذبائحهم هو شريعتنا لا شريعتهم وهذا الإقرار الصريح ينقض ما نقلناه عنه سابقا أن ما يراه أهل الكتاب مذكى عندهم يحل لنا أكله وإن لم يكن ذكاة عندنا.
فقارن بين قوله المتقدم الذي أبطلناه في هذا البحث وبين قوله: إن الله سبحانه ألزم جميع الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه، تجد التناقض بين قوليه واضحا مكشوفا لا يحتاج إلى تأمل بهذه الوجوه الاثنتي عشرة تعلم علما يقينيا لا يتطرق إليه الشك أن جوابه عن تناقض ابن العربي بمحاولة الجمع بين قوليه المتناقضين فاسد تأصيلا وتفريعا. أما بطلانه تأصيلا فلما قرر بدليله في الوجه الأول أن الجمع بين المتعارضين إنما يجب في نصوص القرآن الكريم والسنة التي لا يأتيها الخطأ والنسيان من بين يديها ولا من خلفها فإن وقع التعارض بين نصين من نصوصهما فإنما هو تعارض في الظاهر وفي ظن المجتهد كما أوضحناه بأدلته فيما مر بك.
أما المتعارضان في أقوال العلماء فلا يجوز الجمع بينهما لأن أقوالهم يأتيها الخطأ والنسيان من بين يديها ومن خلفها ولو كانت أقوال المجتهدين الذين يأخذون الأحكام من مصادرها الشرعية فكيف يجوز الجمع بين المتعارضين في أقوال المقلدين الذين يعملون بقول أئمتهم بدون معرفتهم دليله بل يقدمونه على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى إنهم أصلوا الأصول وقعدوا القواعد لرد الحكم الثابت في الكتاب والسنة إذا كان مخالفا للمذهب. راجع كتابنا " تبيين المدارك" وغيره من كتبنا تر فيه من ذلك ما يثير العجب ويدل على أنهم اتخذوا أئمتهم أربابا من دون الله معرضين كل الإعراض عن وصية الأئمة كلهم بالعمل بالسنة إذا كان قولهم مخالفا لها !!
وأما بطلان جواب الأستاذ القرضاوي تفريعا فيعلم من الوجوه التي قررناها في إبطاله ونقضه خصوصا الوجه الثاني عشر الذي أبطلنا فيه جوابه بكلام ابن العربي نفسه: (فقطعت جهيزة قول كل خطيب) !
المنهج العلمي الذي كان واجباً على الأستاذ القرضاوي أن يسلكه في قولي ابن العربي المتعارضين هو مسلك الترجيح:
تبين من الدلائل القطعية المتعددة التي مرت بك أن جوابه فاسد تأصيلا وتفريعا لهذا كان واجبا عليه أن يسلك المنهج العلمي المؤيد بالقواعد التشريعية في قولي ابن العربي المتعارضين فيرجح قوله بتحريم أكل المسلمين ما قتله أهل الكتاب بغير ذكاتنا المؤيد بنصوص القرآن الكريم والسنة والإجماع وقواعد الأصول والقواعد الكلية الشرعية، وينبه على خطئه في قوله بحل أكل المسلم ما قتله أهل الكتاب بغير ذكاة استنادا إلى عموم الآية الكريمة الواردة في حل ذبائحهم لا في حل ما قتلوه بغير ذكاتنا كما بيناه بالدلائل القطعية الدالة على ذلك. هذا هو المنهج العلمي الذي كان يجب عليه أن يسلكه، وما كان ينبغي له أن يسلك في قوليه المتعارضين تعارضا واضحا مكشوفا مسلك الجمع بينهما ليرتب عليه حل ما قتله أهل الكتاب بالصعق الكهربائي لأنك قد علمت أن من شرط صحة الجمع بين المتعارضين أن يكون ممكنا بغير تعسف ولا تمحل. وجمعه مبني على التعسف المفضوح حتى إنه زاد في كلام ابن العربي وحذف منه ما لا يتأتى معه ذلك الجمع الساقط وتلك خيانة علمية ما كان ينبغي له فعلها !!!
هذا لو كان الجمع بين المتعارضين في أقوال العلماء صحيحا مقبولا فكيف يصح ذلك الجمع الواهي وقد بينا أن الجمع بين أقوالهم المتعارضة باطل مرفوض للأدلة التي مرت بك في كلام الشريف التلمساني وابن أبي جمرة. وإن الواجب فيما تعارض من أقوالهم هو الترجيح بالدليل فما وافقه فهو الصحيح المقبول. وما خالفه فهو الباطل المرفوض. (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
وكم له في كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" من أخطاء واضحة يتعجب الواقف عليها من صدورها منه !!! والسبب في وقوعه في تلك الأخطاء أنه لم يسلك في أبحاثه المنهج الذي نبهنا في مقدمة هذه الرسالة أنه يجب اتباعه على كل باحث يريد أخذ حكم أو واقعة من أدلة الشريعة وهو استيعاب البحث والنظر في نصوص القرآن الكريم والسنة والأدلة التي لها ارتباط وتعلق بالواقعة التي يريد أخذ حكمها ثم الرجوع بعد هذا إلى قواعد أصول الفقه والقواعد الكلية الشرعية وتطبيق النصوص عليها لأنها المعيار الذي يعرف به الإستنباط الصحيح الذي لا يتوجه إليه النقد والاعتراض. راجع مقدمة هذه الرسالة فإنا بينا فيها هذه القاعدة بيانا لا يستغنى عنه من يريد أخذ حكم مسألة من أدلة الشريعة.
والله سبحانه الموفق والهادي إلى سواء السبيل.