إقامة الدليل على حرمة التمثيل
لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري
يليه: إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثيرٌ من الناس
لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: التمثيل مهنة مثل كثير من المهن الأخرى، التي تعتريها الأحكام الخمسة، فإذا كانت في ممارساتها تدعو إلى الخير، وتأمر الناس بمكارم الأخلاق والفضيلة وليس فيها مخالفة لأحكام الشرع فهي جائزة ومالها حلال، وإذا كان الهدف منه الدعوة إلى الرذيلة وفعل الموبقات والمحرمات أو محاولة لإغواء الناس وإغرائهم بفعل الحرام، فهذا من المحرمات القطعية.
وذهب الشيخان الغماريان إلى تحريم التمثيل مطلقاً، ولعل ذلك الحكم كان في وقتٍ كان التمثيل يمثل لوناً من ألوان الابتذال والسفاهة والمجون والكذب، ناهيك عن الاختلاط وكشف العورات، بل وفي بعضها جرأة على الأديان والشرائع، وتمثيل للأنبياء والملائكة والصحابة، وبث السموم التي تشكك الناس في الخالق، وبناءً على ذلك يرى الشيخان أن التمثيل من أعظم المحرمات، وأكبر الكبائر، بل زعما أنه منكر متفق على إنكاره من قبل العقلاء، ، وللأسف بقيت مواد التمثيل مسجلة ومتاحة على كثير من القنوات العربية والأجنبية.
وتناول الشيخان الحديث عن التمثيل من عدة وجوه، ولم يأبها لأغراض هذا التمثيل أو هدفه التربوي أو الديني، ولعل ذلك كان واضحاً في الإزراء على مسرحية مثلتها شعبة الإخوان بدمنهور لقصة الذبيح، ورأيا أن في ذلك مسايرة لهذا المحرم الشنيع، ولكنهما أخطئا التقدير، وبالغا في منع ذلك، وعلى العموم فقد ذكر الشيخان الأدلة على تحريم التمثيل بالعموم، ثم الأدلة على تحريمه بالخصوص.
وبينا في هذه الصفحات أنواع التمثيل، وذلك من وجوه:
الأول: كون هذا العمل من المحدثات التي تضر في الدين:
ذلك أنه مما أبتدعه الكفار الذين نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اتباعهم، فالتمثيل لا يعرف إلا عن طريق الأوربيين، وهم الذين أظهروه فى الشرق.
الثاني: أن التمثيل توافرت فيه جملة من المحرمات، من ثلاثة عشر وجهاً، وهي:
أنه من اللهو الباطل واللعب المذموم، وأنه من العبث والاشتغال بما لا يعني، وأنه من المزاح الباطل، وأنه من قلة الحياء والإخلال بالمروءة والدلالة على السفه وقلة العقل، وأنه من ضياع الوقت النفيس، وأنه لا تقام حفلاته إلا بعد العشاء إلى منتصف الليل وقد ورد نهى الشارع عن السهر بعد العشاء إلا لحاجة، وأن من أصوله التي يتركب منها وينبنى عليها وصل الشعر والتمنيص ووضع المكياج وكل ذلك محرم.
الثالث: الدلائل التي جاءت بتحريم التمثيل على بالعموم:
-أن الحكم بن أبي العاص الأموى، كان يحكى النبي ﷺ ويمثله في مشيته وحركاته، فالتفت النبي ﷺ يوماً فرآه فلعنه ونفاه إلى الطائف، وأنه من الغيبة المحرمة إذا كانت تقليداً لأحد من الناس، وكذلك هو احتقار وسخرية واستهزاء بالمسلمين، وهو أيضاً من إذاية المسلمين وتتبع عوراتهم ونشرها بين الجمهور، وأنه قد يذكر السابقين بما يشينهم، وقد أمرت الشريعة بالثناء على الموتى، والكف عن مساويهم، كما أن فيه كثرة الكذب، وكثرة الكلام، وتشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال، ولبس الحرير والذهب للذكور وهو محرم عليهم، ووجود النساء الممثلات فيه مع الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
المقدمة
الحمد لله كما ينبغي لجلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله، ومن اقتدى بهم، أما بعد: فإن من أشراط الساعة وعلاماتها كثرة الجهل وقلة العلم الذي بينا أنه ليس برفعه من القلوب وانتزاعه من الصدور، ولكنه بقبض العلماء وانقراضهم، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً؛ فأفتوا بغير علم، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا غيرهم ممن أو عمل بفتواهم، لا سيما إذا تولوا بتزلفهم إلى أهل الدنيا مراتب العلم السامية، ومذاهبه العالية، فأحرزوا تلك الألقاب الضخمة كشيخ الإسلام، والشيخ الأكبر، ومفتى الديار، والمفتى الأكبر، ونحوها من الأسماء المبتدعة، والألقاب المخترعة التي تغر العامة، وتوقعهم في شبكة هؤلاء الجهلة؛ فإن الضرر بهم عظيم والخطر بهم جسيم، وبسببهم ذهب الدين أو كاد، وأصبح غريباً كما بدأ، لأنهم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، بل يغرون العوام على المنكرات، ويبيحون لهـم المحرمات، تارة لرقة دينهم وإيثار دنياهم على آخرتهم، وأخرى لفرط جهلهم حتى بالضروريات من الدين، كما هو معروف لأهل العلم والإيمان.
وقد ألجأتنا الضرورة في هذه الأيام إلى الاجتماع ببعض هؤلاء والمذاكرة معه في شأن منكر التمثيل الذي أبتلى به المسلمون بسبب الاستعمار الفرنجي، واستفحل أمره مع الجهل وقلة المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بل انعدامه، حتى صاروا يمثلون كبار العلماء والأولياء، ثم ترقى بهم الحال إلى تمثيل الرسل والأنبياء بل اجترءوا على تمثيل الله تعالى عما يفعلون علواً كبيراً، لعنهم الله، فزعم هذا المشار إليه أن التمثيل مباح وأن حكمه حكم موضوعة، فإن كان شائناً كتمثيل الأنبياء ونحو ذلك فهو ممنوع وإلا فهو مباح.
وإنما جعل تمثيل الأنبياء ممنوعاً؛ لأن موضوع المذاكرة وسبب الاجتماع والمقابلة كان من أجله بعد قيام بعض أهل الفضل والدين -ممن لا ينتسبون إلى العلم - بإنكاره، فقلت له: بل هو في حد ذاته حرام لا يجوز بحال، فقال: هذا رأيك الخاص، أما الواقع فهو أنه مباح، فقلت: ما هو برأى الخاص ولكنه رأى أهل الإسلام ومقتضى نصوص الشريعة، فأعاد قوله أنه رأيك الخاص، فأردت أن أذكر له بعض نصوص الشريعة على حرمته إذ رأيته من أجهل الناس بها، فبادر بالقيام خوفاً من سماعها أمام الحاضرين، لا سيما وقد كان سبق له أن وأفق الطلبة على إقامة حفلة التمثيل في نفس المعهد الديني إن لم يكن هو الأمر به، فلما تفرق المجلس طلب منى بعض الأفاضل من الحاضرين وغيرهم ممن لم يحضر -وبلغته الحكاية ـ أن اذكر تلك الدلائل التي قد يجهلها كثير من الناس لينتفع بها من أراد الله نفعه فأجبتهم إلى ذلك في هذا الجزء الذي سميته " إقامة الدليل على حرمة التمثيل " فقلت وبالله التوفيق:
التمثيل من أعظم المحرمات
فصـلٌ
اعلم أنه لا يختلف اثنان عارفان بأصول دين الإسلام أن التمثيل من أعظم المحرمات وأكبر الكبائر، لا شك في ذلك إلا من لا يعرف شيئاً عن دين الإسلام أو كان من المنحلين المارقين الذين يدسون فيه الدسائس لمحو رسومه وإتلاف معالمه والقضاء عليه بتحليل محرماته وأسقاط واجباته كما هو الواقع من كثيرين، بل لا يشك عاقل.
ولا يمترى فاضل فى أن التمثيل مناف للمروءة والعقل، منابذ للأخلاق والفضيلة، لا يرضاه ذو نفس شريفة ولا همة أبية، فضلاً عن ذى دين ومروءة، بل لا يرضاه لنفسه إلا دنس الأصل، وضيع النفس، ساقط المروءة، فاقد الشعور والكرامة، سخيف العقل، قليل الدين أو ذاهبه بالكلية، كما هو المشاهد من الممثلين، فإنا لا نرى فى دور التمثيل ذا أهل وكرامة ودين ومروءة كما نعلم على يقين أن هذا الشيخ الذي أفتى باباحته لا تسمح نفسه ولا تساعد كرامته أن يقف يوماً ما موقف الممثل، ولو داخل المعهد أمام الطلبة والعلماء، لا أمام العامة وأخلاط الناس وأوباشهم، ويكون موضوع الرواية تعليم الفرائض والسنن الذي هو من قبيل الواجبات لا حكاية الناس والاستهزاء بهم والسخرية منهم كما هو موضوع سائر الروايات.
وإنما نرى في دور التمثيل أولئك السقطاء الذين تسمح لهم نفوسهم الوضيعة بوقوف تلك المواقف الشائنة المخزية وتساعدهم عقليتهم السخيفة أن ينصبوا أنفسهم ضحكة للضاحكين وهزاة للساخرين بائعين بذلك العرض والشرف والكرامة والأخلاق والدين والمروءة والفضيلة، ضاربين بالجميع عرض الحائط، نابذين الكل نبذ النواة، فلو لم يكن إلا هذا لكان أعظم زاجر لذلك المفتى عن القول بإباحة هذا المنكر المتفق عليه من ذوى العقول، فكيف وأصول الشريعة ناطقة بتحريمه ؟؟ لاشتماله على أعظم المفاسد وأكبر المحرمات وذلك بالنظر إلى ذاته، وبقطع النظر عن موضوعاته خلافاً لمزاعم ذلك المفتى، ثم بالنظر إلى ما يحفه ويقترن به مما لا ينفك عنه بحيث هو داخل في حد ذاته أيضاَ.
ثم بعد ذلك يأتي القسم الثالث الذي هو تحريمه بالنظر إلى موضوعه في بعض الأحيان التي يتجاوزون فيها الحد في الفجور فيكفرون بالله جهاراً وإن كانوا كفارًا باعتقاد حليته فيمثلون الأنبياء والمرسلين بل والخالق جلت قدرته وتقدست أسماؤه وصفاته وذلك أن التمثيل لا يخلوا ن أن يمثل أشخاص معينون معلومون أحياء أو أموات، أو يمثل به أشخاص غير معينين ثم هو على كل أما مركب من نساء ورجال كما هو الغالب، أو خاص بالرجال والمراد الشبان، ثم على كل أما أن يكون محترفاً به كما هو الغالب الأكثر، أو خاصاً كما يقع أحياناً من بعض أهل المدارس والجمعيات وهو القليل النادر، بل الأقل الأندر، فهذه أنواعه التي لا يخلوا عنها أصلاً، وكلها محرم باتفاق المسلمين المعلوم ضرورة من تحريمهم كل ما حرم الله ورسوله، وعدهم كل ما يفعل ذلك خارجاً عن دين الإسلام مفارقاً لجماعة المسلمين، لإجماعهم أيضاً على أن من استحل ما حرمه الله فهو كافر كما هو معروف في كتب الفقه وأصول الدين.
********
لماذا هو من المحرمات
فصل
واعلم أنه أيضاً حرم بقطع النظر عن كل ما ذكرناه من اشتماله على المحرمات المجمع عليها فى دين الإسلام، وذلك لأدلة متعددة رأينا أن نقدمها قبل أدلة الأنواع التي فصلناها لأنها عامة لا تخص نوعاً دون الأخر
********
أنواعه والأدلة على أنه من المحرمات
فصـل
۱ - فمن ذلك: أنه من البدع المحدثة، وعهدى بأمثال هذا المفتى أنهم ينهون عن كل خير وصلاح يثقل عليهم فعله؛ لأنه محض قربة إلى الله تعالى لاحظ لنفوسهم فيه، ولا يصل منه نفع مادى إليهم ويخافون مع ذلك أن تسقط حرمتهم بين العامة أو ينظرون إليهم بعين التقصير والتهاون بالقرب، فيشنون الغارة عليها وعلى أهلها ويبالغون في الإنكار عليها والتنفير منها، متمشدقين بالبدعة متمسكين بالنهي الوارد عنها كما يفعلون بالنسبة للموالد التي تقام فيها الحفلات بذكر الله تعالى وقراءة القرآن وإطعام الفقراء وأنواع البر والصدقات، فأين هو الآن من هذه البدعة التى لو نطقت هي نفسها لشهدت بأنها شر بدعة على وجه الأرض، وأمصب مصيبة ابتلي بها المسلمون في دينهم وفساد أخلاقهم، ثم لم يكفه السكوت عنها؛ حتى أصبح آمرا بها موافقاً على فعلها مفتياً بإباحتها، وأين عزبت عنه تلك الأدلة المتكاثرة التي أفردت لكثرتها بالمؤلفات العديدة التي منها ما هو فى مجلد ومنها ما هو مجلدات؟! وهي مشددة للغاية في البدع وارتكابها، ويكفى الأخبار من النبي ﷺ بأنها ضلالة وأنها هي وصاحبها في النار ، وكذلك مبيحها والآمر بها والموافق على فعلها كما هو معلوم، اللهم ألا أن تبلغ بهم الصفاقة إلى حد يدعون فيه أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا يقيمون حفلات التمثيل فلا يكون بدعة، وبخلاف حلق الذكر والاجتماع عليه وعلى قراءة القرآن وغير ذلك من القرب والطاعات الداخلة تحت عموم أدلة القرآن والسنة فأنها بدعة يجب إنكارها فيسقط حينئذ اعتبارهم وعدهم من نوع بني الإنسان.
فصل
٢ -ومن ذلك: أنه مع كونه شر بدعة فهو مما أبتدعه الكفار وقد أخبر النبي أن أمته ستتبعهم في القبائح والمنكرت وأن الذين يحملونهم على ذلك ويبيحون لهم تقليدهم واتباعهم شر هذه الأمة، كما صح عن النبي ﷺ من طرق متعددة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها عن جماعة من الصحابة أنه قال: {لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وباعاً بباع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم جامع أمه لفعلتم}. وقال ﷺ: {ليحملون شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من أهل الكتاب حذو القذة بالقذة }. رواه أحمد والطبراني من حديث شداد بن أوس والمراد بشرار هذه الأمة، هم علماء السوء الجهلة، والملاحدة كما ورد في حديث آخر في وصف آخر الزمان: {أن علماءهم شر من تحت أديم السماء}. فقد برهن هذا المعنى أنه من المذكرين في الأخبار، وأنه من شرار أهل الأرض نسأل الله العافية.
فصل
٣- ومن ذلك التشبه بالكفار وهو محرم في دين الإسلام كما هو معلوم لأهله العارفين بأصوله وفروعه، فإن الدين مبنى على مخالفتهم والابتعاد من التشبه بهم حتى فيما كان من عبادة الله تعالى والقربة إليه فقد بلغ النبي ﷺ في التنفير من ذلك قولا وفعلاً وأخبر أن المتشبه بهم معدود منهم ومحشور يوم القيامة معهم وهذا أشد ما يكون في الوعيد، وأبلغ ما يقع في من التحذير. كما أنه حكم بأن المتشبه بهم ليس من المسلمين فقال: {وليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فان تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وأن تسليم النصارى بالأكف ولا تقصوا النواصي وأحفوا الشوارب وأعفوا اللحى} رواه الترمذي والطبراني واللفظ له، وفي مسند أحمد وسنن أبي داود من حديث بن عمر أن النبي ﷺ، قال: {من تشبه بقوم فهو منهم}. وكذلك سمعه من النبي ﷺ جماعة من الصحابة كحذيفة وأبي هريرة وأنس بن مالك، وغيرهم، وقال أيضاً: {تحشر كل نفس على هواها فمن هوى الكفر فهو مع الكفرة}. ولهذا قال لحسن قلما تشبه رجل بقوم إلا لحق بهم في يعني في الدنيا والآخرة، فإن التشبه يحمل صاحبه على التخلق بأخلاق المتشبه بهم في جميع عوائدهم؛ لأن الباعث عليه حبهم وتعظيمهم واستحسان جميع أحوالهم، وبذلك يتدرج فى الانسلاخ من عوائد الإسلام شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى لديه من الدين إلا أسمه، كما هو الواقع اليوم، فوالله ما أنسخ المسلمون من دينهم ومرقوا منه مروق السهم من الرمية إلا بالتشبه بالكفار، ولهذا كان الدين كما قلنا مبينا من أوله إلى آخره على مخالفتهم في كل شيء فراراً من الوقوع فيما وقعت فيه الأمة الآن بتساهلهم أولاً في التشبيه بهم في الشيء اليسير مخالفين أوامر نبيهم في ذلك، ثم تدرجت بهم الأحوال إلى أن قلدوهم في كل شيء حتى اصبحوا يجهلون من دينهم كل شيء، وأيضاً: فإن التشبيه بهم وترويج مبتدعاتهم والتخلق بأخلاقهم اعلاءٌ لشأنهم، وتعظيمٌ لقدرهم وموالاة لهم وتودد إليهم، وكل ذلك عظيم في الدين، بل مذهب له بالكلية نسأل الله السلامة، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ منهم﴾، (المائدة: ٥١) وقال تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (المجادلة: ۲۲) إلى غيرها من الآيات الكثيرة، والأحاديث المتعددة التي أفردها ابن تيمية بكتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وهو من نفائس الكتب التي يتعين على كل مؤمن قراءته حتى يحذر هذه البلية العظمى والرزية الكبرى التي ابتلى بها أكثر المسلمين، فذهبت بدين الأكثرين منهم، ورجعت بهم إلى جاهليتهم الأولى، ولا مفر من قضاء الله وقدره عصمنا الله بمنه وفضله آمین.
والمقصود تنبيه هذا الجاهل المفتى إلى بعض أدلة تحريم التمثيل دون التوسع في ذلك والله المستعان.
فصل
٤ - ومن ذلك أنه من اللهو الباطل واللعب المذموم شرعاً وعقلاً، وقد قال النبي ﷺ {والذي نفس محمد بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير}. رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والطبري، من حديث أبى إمامة وابن عباس، وهو إشارة إلى هذا اللهو واللعب الذي تنتهك فيه حرمات الشريعة ويحضره الجماهير الغفيرة، فيوشك أن يصبح الممثلون يوماً قردة وخنازير، وكفى هذا زجراً عنه نعوذ بالله من غضبه، وقد قال النبي ﷺ {لست من دد ولا الدد منى ولست من الباطل ولا الباطل منى}. يعنى ليس من شرعى ولا من عمل أمتي المتمسكين بطريقتي وشريعتي، رواه الطبري من حديث معاوية والبيهقي في السنن من حديث أنس، وكذلك هو عند البخارى في الآدب المفرد من حديثه إلا أنه قال: {لست من دد ولا الدد منى بشيء }. یعنی : ليس الباطل مني بشيء.
فصل
٥- ومن ذلك أنه من العبث والاشتغال بما لا يعني، وقد صح عن النبي أنه قال {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعني} . وقال النبي ﷺ {الأشرة شر}. رواه البخارى في الآدب المفرد من حديث البراء بن عازب أثناء حديث، والأشرة هو العبث كما فسره به أبو معاوية راوي الحديث، فإذا كان مطلق العبث شراً فكيف بهذا العبث المحفوف بالجرائم، والمبني على أنواع من الموبقات والعظائم.
فصل
٦ - وكذلك هو مزاح باطل، وقد قال النبي ﷺ {لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والتكذيب ويدع المراء وإن كان محقاً} رواه أبو يعلى من حديث عمر بن الخطاب.
فصل
٧-ومن ذلك أنه من قلة الحياء والإخلال بالمروءة والدلالة على السفه وقلة العقل، وقد أشار النبي ﷺ إلى ظهور التمثيل من هذه الناحية أيضاً كما أشار إليه من نواح أخرى كما سبق ويأتى وجعله من أشراط الساعة وعده من علامات البلاء في هذه الأمة، فروى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال {إن من علامة البلاء وأشراط الساعة أن تعزب العقول وتنقص الأحلام ويكثر القتل وترفع علامات الخير وتظهر الفتن} رواه الطبراني، فقد ظهر مصداق هذا الحديث الشريف وعزبت العقول ونقصت الأحلام، ولا سيما من الممثلين الذين يجلى الحمقى، والله أن يفعلوا بأنفسهم ما يفعله الممثلون ليضحكوا عليهم الناس، فتارة يجعل الممثل نفسه حماراً يمشى على أربع وينهق نهيق الحمير، وتارة يجعل نفسه كلباً يعوى عواء الكلاب ويقلدها في مشيها وحركاتها وجلوسها وأكلها، وتارة يجعل نفسه امرأة حاملاً ذات بطن منتفخة ثم يجلس للولادة وأخرى مجنوناً عارى البدن، مقلداً الأحمق في سائر أفعاله حتى البول على عقبه ونحو ذلك، وأخرى يجعل نفسه سكران مقلدا هيئة السكارى، ثم هو في كل ذلك يفعل بحواجبه ومناخيره وفمه ولسانه وشفايفه حركات شائنة مشوهة للخلقة ما رأينا والله مجنوناً مطبقاً يأتي ربعها بل ولا عشرها، ثم مع كل هذا يعدون هذه السفالة والنذالة وصفاقة الوجه والوقاحة من العلوم والفنون، ويسمون الممثل السفيه الجاهل الأحمق الساقط الفاسق الفاجر، بل الملحد الكافر مفسد أخلاق المسلمين ودينهم ودنياهم، الأستاذ الكبير والمربى القدير ونحو ذلك من الألفاظ الجليلة والألقاب السامية نعوذ بالله من الفجور والجهل، فصدق رسول الله ﷺ فقد سلب الله العقول وصار الناس كالبهائم والأنعام بل أضل سبيلاً كما وصف الله به الكفار الذين هم قادتهم في هذا الجنون فقال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الفرقان : ٤٤) والواقع أن هؤلاء الذين اتبعوهم أضل منهم، لأن أولئك ما اتبعوا هذا الجنون والسفه إلا ليروحوا به عن أنفسهم من تعب الأعمال النافعة لهم ولأنفسهم بل وللعالم أجمع، أما مقلدوهم فأقبلوا على هذا السفه والجنون فعمروا به أوقاتهم وأضاعوا به دينهم ودنياهم وجعلوه مبلغ علمهم ومنتهى آمالهم وأعمالهم، والمقصود أن التمثيل مذهب للحياء، ودال على فقدانه من الممثل، وذلك دليل على فقدان الإيمان وذهاب الدين؛ فقد قال النبي ﷺ: {الحياء والإيمان مقرونان لا يفترقان إلا جميعاً} رواه الطبرانى فى الأوسط والصغير من حديث أبي موسى الأشعري، ورواه فى الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ: {والحياء والإيمان في قرن فإذا سلب أحدهما تبعه الأخر}. ورواه الحاكم وصححه من حديث ابن عمر بلفظ: {الحياء والإيمان قرناء جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الأخر}. وقال النبي ﷺ: {الحياء شعبة من الإيمان ولا إيمان لمن لا حياء له}. رواه أبو الشيخ بهذه الزيادة وهو في الصحيح بدونها، وروى ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق عن النبى ﷺ، أنه قال: {قلة الحياء كفر}. إلى غير ذلك.
فصل
۸ -ومن ذلك أنه من ضياع الوقت النفيس، الذي لا يعوض فيما لا نفع فيه ولا طائل تحته لو كان مجردا عن المناكر المحفوفة به وذلك منهى عنه ومذموم عقلاً وشرعاً..
فصل
٩ -ومن ذلك أنه لا تقام حفلاته إلا بعد العشاء إلى منتصف الليل وقد ورد نهى الشارع عن السهر بعد العشاء إلا لحاجة دينية أو دنيوية مباحة لا محرمة ففي الصحيح من حديث أبي برزة أنه { كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، وعند الطبراني من حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ {نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعدها}. وروى أحمد والبزار في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث شداد بن أوس، قال: قال رسول الله ﷺ: {من فرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة لم تقبل له صلاة تلك الليلة}. وإسناده جيد محتمل التحسين بل هو حديث حسن، فإذا كان هذا في قرض الشعر فما بالك بالتمثيل المشتمل على عدة محرمات.
فصل
١٠- ومن ذلك أن من أصوله التي يتركب منها وينبنى عليها ولا يتم ذلك السفه والفسق والفجور إلا بها، وصل الشعر فى الرأس تارة وفى الوجه أخرى وذلك حرام ملعون صاحبه، ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أسماء أن امرأة سألت النبي ﷺ؛ فقالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمرق شعرها وإني زوجتها أفاصل فيه؟ فقال النبي ﷺ: {لعن الله الواصلة والمستوصلة}. وفى الصحيحين أيضاً من حديث عائشة: أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها فجاءت إلى النبي ﷺ، فذكرت ذلك وقالت أن زوجها أمرني أن اصل شعرها، فقال النبي ﷺ: {لا أنه قد لعن الموصلات}، وفيهما أيضاً من حديث ابن عمر: {أن رسول الله ﷺ لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة}، فإذا كانت المرأة التي تستعمله لزوجها وهو مطلوب لغرض التجميل شرعا ملعونة على ذلك، فكيف بالرجل الذي يستعمله لمجرد اللهو واللعب.
فصل
١١-ومن أصوله أيضاً التنميص وهو نتف شعر الوجه وتحسينه وتلميعه وهو أيضاً حرام ملعون فاعله: ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: {لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله}. فقالت له امرأة فى ذلك، قال: وما لي لأن العن من لعنه رسول الله و وهو في كتاب الله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: ٧) وروى أبو داود من حديث ابن عباس قال: {لعنت الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة من غير داء}، فإذا لعنت المرأة عن التنميص الذي تتجمل به فكيف بالرجل أو المرأة إذا فعلاه لغرض التمثيل للزوج.
فصل
١٢-ومن أصوله أيضاً المكياج المغير للصورة، وهو مما أمر به إبليس لعنه الله وتوعد الله تعالى عليه بالنار فقال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾، قال تعالى متوعداً على طاعة إبليس في ذلك: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيَا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحيصاً﴾ (النساء: ۱۱۹-۱۲۱)، قال الحافظ السيوطي في الإكليل: فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما جرى مجراه من الوصل في الشعر والتفلج وهو برد الأسنان، والتمنص وهو نتف الشعر من الوجه، أى لأن هذا كله داخل في تغيير خلق الله، والمكياج أفحش من جميع ذلك في التغيير المتوعد عليه بالنار.
فصل
۱۳ -ومن ذلك أن فيه تبذير المال وإضاعته في مباطل وما لا يعود على الناس بنفع بل يعود عليهم بالضرر المحقق في هتك الأعراض وفساد الأخلاق، وذهاب المروءة وخسران الدين، فإن التمثيل يستدعى من الملابس المتعددة الكثيرة المختلفة الأشكال والأوضاع ومن الآلات والمعدات اللازمة له، ما ينفق فيه من أموال طائلة يندهش المرء لسماعها وذلك محرماً شرعاً وطبعاً، قال الله تعالى: ﴿إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين﴾ (الإسراء: ۲۷)، قال ابن مسعود وابن عباس: المبذرين هم اللذين ينفقون المال في غير حق، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ، قال: {أن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال}. وإذا كان الإسراف في النفقة المباحة المفيدة منهياً عنه مبغوضاً فاعله إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: ١٤١) فماذا يكون حل الإسراف في معصية الله تعالى.
النصوص الواردة على تحريمه
فصل
فهذا بعض دلائل تحريمه على العموم بقطع النظر عن موضوعاته ولوازمه ومتعلقاته أما مع النظر إلى ذلك فقد قدمنا أنه لا يخلوا أن يمثل به أشخاص معينون أو خير معينين، فإن مثل به أشخاص معينون فالأدلة على تحريمه، متعددة زيادة على ما سبق.
۱ -منها النص الوارد فيه بخصوصه، فقد ثبت فى كتب السير، وخرجه جماعة من المصنفين في أخبار الصحابة أن الحكم بن أبي العاص الأموى، كان يحكى النبي ﷺ ويمثله في مشيته وحركاته، فالتفت النبي ﷺ يوماً فرآه فلعنه ونفاه إلى الطائف، واللعن لا يترتب إلا على كبيرة كما هو مقرر في محله من كتب الفقه والأصول، لا يقال إنما كان كبيرة موجباً للعن؛ لأنه في حق النبي ﷺ الذي له من الحرمة ووجوب التعظيم ما ليس لغيره، لأنا نقول هو في حقه كفر وارتداد؛ لأنه استهزاء، وسخرية واحتقار وذلك بالنبي ﷺ كفر بالإجماع، الذي لا يمترى فيه مسلم وصاحبه يقتل بدون استنابة كما هو الحق، الثابت بالأدلة الناصعة والبراهين القاطعة، وإنما لم يقتل النبي ﷺ الحكم المذكور تنازلا عن حقه، وتألفاً لذلك الكافر المنافق وقرابته، ولذلك قتل غيره ممن كان يهجره ويسخر منه من الذكور والإناث بدون استتابة كما هو معلوم، وإذا ثبت أنه في حقه كفر وارتد فهو في حق غيره من أمته يستحق فاعلها اللعن والإبعاد من رحمة الله، وروى أبو داود والترمذي -وقال حسن صحيح -من حديث عائشة قالت وحكيت له -يعنى النبي ﷺ -إنساناً فقال: {ما أحب أن حكيت لي إنساناً وأن لى كذا وكذا}. فنهاها النبي الله عن حكاية الإنسان وذكر لها أنه لا يحب ذلك منها، وأن له كذا وكذا إشارة إلى عظم الأمر وشدة حرمته.
فصل
٢ - وهو مع ذلك غيبة كما قال النبي ﷺ: {ذكرك أخاك بما يكره}. والتمثيل يكره المرء كذكره باللسان وأشد، ولا سيما في المحافل وأمام الجماهير، وقد عد الفقهاء مجرد الإشارة غيبة كأن يشير بيده إلى الأرض أنه قصير أو إلى ناحية السماء أنه طويل فكيف بتمثيله في ملابسه ومشيته وصورته وكلامه وصورته وكلامه وصوته وسائر حركاته وسكناته؟! فلا شك في أن ذلك أفحش من الاغتياب بمجرد اللسان والغيبة محرمة بإجماع المسلمين كما هو معلوم عن الدين بالضرورة، ثم هى مع ذلك من الكبائر التي لا تكفر حتى بالتوبة المتفق على تكفيرها لسائر الذنوب، لأنها أعنى الغيبة من حقوق الخلق التي لا بد فيها من الإستحلال كما ورد عن النبي ﷺ، أنه قال: {الغيبة أشد من الزنا، قيل وكيف ذلك ؟ قال : الرجل يزنى ثم يتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه} رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب من حديث جابر وأبي سعيد الخدري، ورواه الأخير من وجه أخر من حديث أنس بن مالك، والأحاديث الواردة في ذم الغيبة وذكر الوعيد الشديد فيها كثيرة أفردت بالتأليف لكثرتها كذم الغيبة لابن أبي الدنيا وللآجرى وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث المتداولة بين الناس وأمرها ضرورى بين المسلمين بلا حاجة بنا إلى جلب ذلك هنا، اذ المقصود الإشارة إلى دلائل التحريم وتعريف ما يحويه التمثيل من المحرمات.
فصل
٣ - وكذلك هو احتقار وسخرية واستهزاء بالمسلمين، ولذلك تراهم أعنى الممثلين لا يمثلون من يجلونه أو يخافون سطوته من الملوك الأحياء لأن القانون يمنعهم من ذلك ويفرض عليهم عقوبة صارمة لأنه من الإهانة بمنصب الملك، وإنما يمثلون من الأحياء من يريدون إهانته أو الملوك الأقدمين الذين يمنعهم القانون من تمثيلهم كملوك بني أمية وبنى العباس وملوك الأندلس أو نحوهم، ولا خفي على مسلم أن ذلك بحرام، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْم﴾ (الحجرات: ۱۱) الآية، وقال رسول الله ﷺ {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله}. رواه مسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة، وخرج مسلم أيضا من حديث ابن مسعود أن رسول الله ﷺ، قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر}. فقال رجل: يا رسول الله أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال: { إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي احتقارهم. ورواه الحاكم في الصحيح بلفظ: {ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس}.
فصل
٤-وهو أيضاً من إذاية المسلمين وتتبع عوراتهم ونشرها بين الجمهور بأبلغ نشر وأبين تقرير وهو الحكاية الفعلية، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبينا﴾ (الأحزاب: ٥٨)، وقال عبد الله بن عمر: صعد رسول الله ﷺ المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: {يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة}. ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة، فقال: {ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك}. رواه الترمذي وابن حبان في الصحيح، ورواه أبو داود في السنن ومن حديث أبي برزة الأسلمی بلفظ: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم} الحديث، وكذلك هو عند أبي يعلى من حديث البراء بن عازب فمن هتك حرمة أخيه بتمثيله بين الناس، فهو ممن لم يدخل الإيمان قلبه أو خرج منه بعد دخوله.
فصل
٥ - وهنا نستوقف هذا المفتى ونسأله، هل إذا أبحت التمثيل وجوزته، لغيرك ترضاه لنفسك وتحب أن يمثلوك على مسرح التمثيل أمام الجماهير من الحلق بعد أن يختاروا لذلك شخصاً قريب الشبه بك، مماثل الجسم لجسمك، فيلبس عمامة كعمامتك وكسوة ككسوتك، وربما وضع على وجهـه مكياجاً فجاءت صورته مطابقة لصورتك، ثم صار يقلدك فى كلامك وحركاتك ألا تغضب لذلك وتحتد وربما ترفع عليهم دعوى في المحاكم مطالباً بتأديبهم على إهانتك وهتك حرمتك واجتراء على منصبك وسقوط شرفك والضعة من قدرك، لا شك أن هذا هو الواقع فكيف ترى مع هذا جوازه بغيرك ممن قد يكون أفضل عند الله بل وعند الناس من ملء الأرض منك، وقد قال النبي ﷺ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}. كما في الصحيح.
فصل
٦ - فإذا كان الشخص الممثل من سلف هذه الأمة من الخلفاء والملوك والعلماء والصلحاء فهى معصية أخرى مضافا إلى ما سبق فقد أمرت الشريعة الإسلامية بالثناء على الموتى، والكف عن مساوئهم، كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ، قال: {اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم}، وقالت عائشة قال رسول الله ﷺ: {لا تسبوا الأموات فانهم أفضوا إلى ما قدموا}. وهو مخرج في الصحيح هذا في مجرد الأموات فكيف بأموات السلف الصالح لا سيما العلماء والصالحون منهم الذين آمنا بتعظيمهم واحترامهم والدعاء لهم على أسبقيتهم للإيمان وخدمتهم للدين، وقد أخبر النبى ﷺ بأنه إذا حصل مثل هذا من آخر هذه الأمة مع أولها حل بها البلاء وأمر عند ذلك بنشر العلم وأن من كتم حديثا بذلك فقد كتم ما أنزل الله عز وجل.
فصل
۷ - وإن كان التمثيل بأشخاض غير معينين، فأدلة تحريمه كثيرة أيضاً مع الإضافة إلى ما سبق.
منها: أنهم يمثلون علماء الإسلام ورجال الدين على العموم، فيلبسون ملابسهم وعمائمهم على هيأة منكرة مشوهة، ويلصقون بوجوههم اللحى المصطنعة في حالة مزرية تدل على غاية الاحتقار، والإهانة ويقلدونهم في كلامهم ويحكونهم فى النطق بالقاف، وبعض الكلمات المعربة والحاضرون يضحكون وفيهم اليهود والنصارى، فيسرون بذلك غاية السرور، ويحتقرون هؤلاء الفجرة المارقين أشد الاحتقار؛ إذ يرونهم يمثلون علماءهم فى حين أنهم يجلون أحبارهم غاية الإجلال فتكون المصيبة بهذا التمثيل أعظم لأنه كفر لا يشك فيه إلا كافر أو جاهل بالدين، كهذا المفتى؛ لأن المقصود من ذلك التمثيل هو إهانة العلم والدين الذي ينتمى إليه العلماء، لا نفس الأشخاص ولا نفس الهبات لأن أكثر العوام يشاركونهم في ذلك اللباس، وقد حكم أحمد بن حنبل رحمه الله بكفر من قال لعمامة العالم عميمة بالتصغير بقصد الإهانة والاستخفاف لأن ذلك راجع إلى وصفه الذي هو حمل علم الشريعة، وقد قال رسول الله ﷺ: {ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه}. وهو وارد عن النبي ﷺ من طرق متعددة، وقال له: {ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو علم، وإمام مقسط}، رواه الطبراني من حديث أبى إمامة، وقد استعاذ النبي ﷺ من زماننا هذا الذى صار من شعار أهله الإزدراء بالعلماء وعدم اتباعهم فقال: {اللهم لا يدركني، أو قال لا تدركوا زماناً لا يتبع فيه العليم ولا يستحى فيه الحليم قلوبهم الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب}. رواه أحمد من حديث سهل بن سعد، فقلوب هؤلاء كما ترى قلوب الأعاجم الإفرنجة يتبعونهم في كل ما ابتدعوه مما لا نفع فيه، ويستحسنون كل ما أحدثوه من أنواع الفسوق والفجور والملاهى القاضية على دينهم ومرء وتهم وشرفهم وأخلاقهم وإنسانيتهم وعقليتهم، ثم مع ذلك يسخرون من أهل العلم والدين ويزدرونهم، ومع كل ذلك يأتي أمثال هذا المفتي الجاهل، فيوافقهم على كل ما يمرقون به تزلفا إليهم وتقربا منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فصل
٨- وكذلك يمثلون ذوى اللحى بإلصاق الشعر واللحى المصطنعة، وذلك من حيث وصل الشعر كبيرة ملعون فاعلها كما سبق، ومن حيث السخرية من أهل اللحى كفر وارتداد عن الدين؛ لأنه ازدراء راجع إلى الشريعة الآمرة بإعفاء اللحى ولمخالفة الكفار في حلقها إذ الملتحون متمسكون بدينهم وأوامر نبيهم، فالمزدرى بهم لذلك كفر باتفاق أهل الإسلام.
فصل
٩ - ونجدهم يخصون من أهل اللحى ذوى الشيبة في الإسلام حتى أنهم يلصقون أحياناً قطعاً من نحو الفراء البيضاء مبالغة في التشويه والإهانة والسخرية وهو مع كونه وصلاً ملعونا فاعله كما سبق فهو كفر ونفاق كما قال النبي ﷺ: {ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق ذو الشيبة في الإسلام}. الحديث المار قريباً، وقال النبي ﷺ: {أن من إجلال الله إكرام ذو الشيبة المسلم وحامل القرآن وإكرام ذى السلطان المقسط}، رواه أبو داود من حديث أبي موسى.
فصل
۱۰ - وكذلك يمثلون أولياء الله تعالى وصالحي الأمة على العموم، وقد يخصون بالتمثيل معينا منهم كالقطب البدوى له وأمثاله من الأكابر، وذلك من إهانتهم واذايتهم متى هى عداوة الله تعالى محاربة له كما ورد عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: {من أهان لى وليا فقد بارزني بالمحاربة}، وهو في صحيح البخاري. وفي حديث آخر أن الله تعالى يقول: {من آذى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة}، بل قد جرهم التمثيل والجرأة على الله تعالى إلى تمثيل أنبياء الله تعالى ورسله كموسی وعيسى ويوسف عليهم السلام، بل قد عزموا على تمثيل سيد الخلق وأشرف الرسل له وعليهم أجمعين. وهو السبب الذي من أجله وقع الاجتماع بهذا الشيخ للكلام معه في ذلك، وتمثيل الأنبياء كفر لا يشك فيه إلا ملحد زنديق. بل جرهم التمثيل والتغلغل في الكفر إلى تمثيل الخالق جل وعلا وتقدس وتنزه عن المثيل ولعن الله من مثله ومثل معه الملائكة المقربين، فقد كانت فرقة من هؤلاء الشباب الزنادقة أقامت حفلة تمثيل بمدينة طنجة مثلوا فيها الحق يوم القيامة، ومثلوا الجنة والنار والملائكة، والحق سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس يأمر الملائكة الكرام، بإدخال من شاء الجنة ومن شاء النار، فأتوا والعياذ بالله بما كان يخشى منه أن يخسف الله بطنجه بل والمغرب أجمع لأجل أولئك الكفرة الملاعين لعنهم الله، والعجب أنه كان حاضرا فى ذلك الكفر العظيم قاضى البلد وعلماؤه وعدو له فما تغيرت منهم شعرة لهذا المنكر، بل كانوا مسرورين فرحين مرحين مبتهجين بتمثيل خالقهم الذي ليس كمثله شيء، وأعجب من ذلك أنه لما كتب شقيقنا العلامة الواعية المطلع الغيور على الدين السيد عبد الله مقالاً في مجلة الإسلام تبه فيه على عظيم منكر ما فعلوه فأقاموا لذلك المقال وقعدوا وأبرقوا له وأرعدوا، وما آلوا جهدا في سبه والاستهزاء به والسعي في أذيته، وما جرهم إلى هذا الكفر العظيم، الذي لولا حلم الله تعالى لخسف بجميع أهل الأرض من أجله ولأنزل بهم أليم عقابه إلا التمثيل الملعون وأهله
فصل
۱۱ - والتمثيل مع كل هذا كذب ،وزور وهو محرم في جميع الملل والأديان وفى ديننا من أكبر الكبائر، بل هو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان، فقد قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ (النحل : ١٠٥)، وقال النبي ﷺ: {يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب}. رواه أحمد من حديث أبى إمامة والبزار وأبو يعلى من حديث سعد بن أبي وقاص والطبراني من حديث عبد الله بن عمر وقال النبي ﷺ: {الكذب مجانب للإيمان}. رواه البيهقي من حديث أبي بكر الصديق. وروى أحمد والبزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً قال: يا رسول الله ما عمل النار ؟ قال ﷺ: {الكذب، فإذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار}. وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة، أنه قال: {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان}. ورواه أبو يعلى من حديث أنس، قال: {ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم إذا حدث كذب}. الحديث، والأدلة متضافرة على أن الكذب كفر ونفاق والتمثيل كله كذب فهو كفر ونفاق.
فإن قيل: إنما هو مزاح لا يقصد منه حقيقة؟
قلنا: هو أيضاً حرام منهى عنه؛ فقد قال النبي ﷺ: {لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء وإن كان صادقاً}. رواه أحمد والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، ورواه أبو يعلى من حديث عمر بن الخطاب، وقالت أسماء بنت يزيد: يا رسول الله أن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه يعد ذلك كذباً ؟ قال: {إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة}. رواه أحمد والطبراني في الكبير، وخرج أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال رسول الله ﷺ { من قال لصبي تعالى هاك ثم لم يعطه فهي كذبة}. وروى أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن عامر، قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله ﷺ قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعالى أعطيك، فقال لها رسول الله: {ما أردت أن تعطيه}؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله ﷺ: {أما أنك لو لم تعطيه شيئاً كتب عليك كذبة}. وقد ورد في الترغيب في تركه فخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقى واللفظ له من حديث أبى إمامة أن رسول الله ﷺ قال: {أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً}.
فصل
١٢ - وقد أشار النبي إلى ظهور التمثيل آخر الزمان وسماه كذباً، فروى أحمد في المسند برجال الصحيح بل أصل الحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: {لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق ويتقارب الزمان ويكثر الهرج}. قلت: وما الهرج؟ قال: {القتل}. فكذب الناس في حديثهم وكثرته بينهم لم يخل منه عصر ولا زمان والذي انفرد به عصرنا الذى هو من أشراط الساعة ما ظهر مقروناً بالأمور المذكورة معه، وهو تقارب الأسواق بكثرة العمار ووجود السيارات وبوابير السكك الحديدية ونحوها، وذلك هو الكذب فى التمثيل والروايات التي توجد منها اليوم الألف المجلدات وكلها كذب لا حقيقة لشيء مما فيها أصلاً، وكذلك آلاف الدور المعدة للتمثيل في أقطار الأرض التي تجمع مئات الآلاف من الخلق كل يوم لسماع الكذب ومشاهدته، وكنت قبل هذا أحمل الحديث على الجرائد، ثم رأيت أنها مشتملة على الصدق والكذب، وقد يكون الصدق فيها أكثر من الكذب إنما الكذب البحت في الروايات والتمثيل فهو نص من النبي ﷺ ظاهر في التسمية التمثيل كذباً، وجعله من الكذب المحرم الممنوع الذي هو كفر ونفاق.
فصل
١٣ - ثم هم مع ذلك يضيفون إليه مصيبة أخرى تزيده حرمة ويزدادون بها أثماً، وهو أنهم يحلفون بالله على غالب حوادثه وأدواره بحيث يحلفون بالله على ذلك الكذب في الدور الواحد مراراً متعددة، وذلك كبيرة أخرى مضمومة لإلى كبيرة الكذب، فقد قال النبي ﷺ: {أذن لي أن أحدث عن ديك مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنى تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا، فيرد عليه ما علم ذلك من حلف بي كذباً}. رواه الحكم والطبراني بسند صحيح، وفي صحيح بن حبان من حديث أبي سعيد الخدري قال: مر أعرابي بشاة فقلت تبيعها لى بثلاثة دراهم فقال: لا والله ثم باعها، فذكرت لرسول الله ﷺ فقال: {باع آخرته بدنياه}. وقد ورد من طرق متعددة عن النبي أنه عد اليمين الغموس من الكبائر بل ورد عنه ﷺ: {أكبر الكبائر الشرك بالله واليمين الغموس}. وفسرها بعض الأئمة بأنها التي يحلف بها على الباطل سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، وإن لم يقصد بها اقتطاع حق امرئ مسلم وأى باطل أبطل مما يحلف عليه في التمثيل مما لا وجود له، وإذا كان الله تعالى يبغض البياع الحلاف كما ورد صحيحاً عن النبي ﷺ مع أنه قد يحلف صادقاً وقد يحلف لمنفعة فكيف بمن يكثر الحلف بالله على الكذب الباطل لا لمنفعة ولا شبهة.
فصل
١٤ - وكذلك يدعوهم التمثيل إلى ما هو أعظم من هذا وهو الردة والكفر بالله جهاراً، فترى الممثل إذا جاءه دور الملك الكافر أو القائد الكافر يلبس ملابسهم ويجعل نفسه أنه هو ذلك الكافر، وكذلك يجعل نفسه راهباً أو قسيسا، ويلبس لباس الرهبان ويشد فى وسطه الزنار وينطق بما هو كفر على أن ذلك هو دينه ومعتقده، وعلى أنه كافر مسيحى أو يهودي أو مجوسى، أو ما اقتضته الرواية، وذلك كفر باتفاق لأن الرضى بالكفر كفر كما ورد النص بذلك، فروى أبو هريرة عن النبى ﷺ، أنه قال: {من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال يهودى فهو يهودي وإن قال هو نصراني فهو نصراني، وإن قال هو بريء من الإسلام فهو بريء من الإسلام، ومن ادعى دعاء الجاهلية فإنه من جثاء جهنم}. قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: {وإن صام وصلى} رواه أبو يعلى والحاكم، وقال: صحيح الإسناد وروى ابن ماجة من حديث أنس قال: سمع رسول الله رجلا يقول: أنا يهودي، فقال رسول الله ﷺ: {وجبت}.
فصل
١٥-وفيه أيضاً كثرة الكلام فيما لا يعنى وهو محرم منهي عنه، فقد قال رسول الله ﷺ: {كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكر الله تعالى}. رواه الترمذي وابن ماجه وآخرون من حديث أم حبيبة، وخرج أبو الشيخ من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ، قال: {أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كرباً فيما لا يعنيه}. وقال أنس بن مالك: توفى رجل فقال رجل آخر ورسول الله ﷺ يسمع: أبشر بالجنة فقال رسول الله ﷺ: {ما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه} رواه الترمذي وحسنه، وروى الترمذي وحسنه أيضا من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: {لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وأن أبعد الناس من الله القلب القاسي}.
فصل
١٦ - وكذلك يتكلمون بما يضحك الحاضرين -ولو كان محظوراً أو كفراً، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، ففى الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: {أن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين فيها أي ما يرد بها بالاً، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب}. ورواه الترمذي وابن ماجة بلفظ: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً}. ورواه الحاكم بلفظ: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها سبعين خريفاً في النار}. ورواه البيهقي بلفظ: {إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه}. وروى أبو الشيخ بإسناد حسن من حديث أنس عن النبي ﷺ قال: {ألا عسى رجل يتكلم بالكلمة يضحك بها أصحابه فيسخط الله بها عليه لا يرضى عنه حتى يدخله النار}. وفى الموطأ وسنن الترمذي وصحيحى ابن حبان والحاكم من حديث بلال بن الحارث المزني أن رسول الله ﷺ، قال: {إن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه}.
فصل
١٧ - ومن أصوله إذا لم يحضر فيه النساء أن يتشبه بهن بعض الممثلين في اللباس والكلام والحركات والتخنث حتى كأنه امرأة، وذلك حرام ملعون فاعله، ففي صحيح البخارى والسنن الأربعة من حديث ابن عباس، قال: {لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال}. وفي سنن أبى داود وابن ماجة وصحيحى ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة، قال: {لعن رسول الله ﷺ الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل}، ورأى عبد الله بن عمرو بن العاص أم سعيد ابنة أبي جهل متقلدة سيفاً وهى تمشي مشية الرجل، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: {ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال}. رواه أحمد وروى الطبراني من حديث أبى إمامة أن رسول الله ﷺ قال: {أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة: رجلٌ جعله الله ذكراً فأنَّثَ نفسه وتشبه، وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال}. الحديث.
فصل
۱۸ - ومن أصوله ولوازمه الضرورية أيضاً: تلك الملابس الحريرية والذهبية المزخرفة لمحاكاة الملوك والعظماء وللتزين وتحسين المناظر، ولباس الحرير والذهـب حـرام كمـا هـو معلوم بالضرورة فلا تحتاج إلى ذكر دلائله بل يكفى التنبيه عليه وإيقاظ ذلك المفتى من غفلته.
فصل
١٩ - فإن كان التمثيل محترفاً به كما هو الموجود كل يوم بدور الملاهي والتمثيل يزيد على كل ما ذكرناه بموبيقات أخرى هي أشد حرمة وأفحش خطراً وأعظم مفسدة منها وجود النساء الممثلات فيه مع الرجال؛ فإنه يترتب عليه من المفاسد الهدامة للدين والقاضية على الأخلاق ما لا يمكن أن يتصور شيء زائد عليه:
أول ذلك: اختلاطهن بالممثلين واندماجهن معهم اندماجاً لا يوافق عليه عقل ولا دين وبه يقع التعارف ويجر إلى ارتكاب الفواحش.
الثاني: أنهن يكن مكشوفات الصدر والذراعين والإبطين والساقين والفخذين بل وسائر أجسامهن لأنهن يلبسن الثياب الرقاق الشفافة المظهرة لما تحتها مع زيادة تحسين وتجميل، وقد ورد لعنهن على ذلك، والإخبار بأنهن من أهل النار وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، فروى ابن حبان والحاكم في الصحيح من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: {يكون في آخر الزمان رجال يركبون على سرج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات}. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ، قال: {صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأذناب البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا}. فإذا كان هذا عقابهن على ذلك اللباس وهو شر عقاب بل منتهاه في الشدة لاقتضائه الخلود في النار، أعاذنا الله بمنه، فكيف إذا انضم إليه أنواع الفجور التي يأتيها الممثلات في تمثيلهن.
الثالث: أنهن يزدن على ذلك ما هو أفحش فيكشفن عند الرقص عن سائر أجسامهن حتى العورة المغلظة إلا الفرج وحده، فإنهن يضعن عليه قطعة صغيرة على قدره وأخرى على رؤوس الثديين مرصعة بالجواهر وباقي الجسم عارٍ حتى الدبر وفتحته ويكفى فى هذا سماعه دون التعليق عليه.
الرابع: أن الواحدة منهن تنفرد بالممثل في بعض الأماكن باعتبارها زوجة له في الرواية وهي فاجرة أجنبية عنه.
الخامس: أنه يلمسها ويضمها ويقبلها باعتبارها عشيقته وهو من الفواحش المنكرات والجرائم الموبيقات باتفاق أهل الديانات، وقد قال النبي ﷺ: {لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيراً له من أن يمس امرأة لا تحل له}. رواه البيهقى والطبراني برجال الصحيح من حديث معقل بن يسار، وخرج الطبراني أيضاً من حديث أبى إمامة أن رسول الله ﷺ قال: {إياك والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما، ولأن يزاحم رجل خنزيراً ملطخاً بطين وحمأة خير له من أن يزاحم منكبه منكب امرأة لا تحل له}.
السادس: أنهم يفعلون ذلك بهن أمام الجماهير المتفرجة من رجال ونساء وذلك منتهى الوحشية والهمجية، بحيث لو كانت امرأة في الواقع زوجته المباحة له لمقتهما الله تعالى والناظرين إليهما على ذلك فضلاً عن كونها أجنبية عنه، بل يمقت ذلك كل ذي عقل وإنسانية ولا يقره إلا الهمج الرعاع الأوباش المنسلخون من الدين والعقل والإنسانية، الذين هم في درجة الأنعام بل هم أضل سبيلا كما وصف الله تعالى به إخوانهم من الكفار، وكما أخبر النبي ﷺ أن ذلك من أشراط الساعة التى لا تقوم إلا على شرار الخلق، هؤلاء الوحوش الفجرة، ولأن الساعة لا تقوم حتى يجامع الرجل المرأة بالطريق، وحتى يقول له العاقل منهم: لو تحنيت عن الطريق، وهذا الذى يقع من الممثلين مقدمات ذلك؛ فإنه يقع أمام أعين المئات من الحاضرين رجالا ونساء والكل مبتهج بذلك، راضٍ به غير مستنكر له؛ كأنه شيء عادي مألوف، ومع كل هذا يفتى ذاك المفتى باباحة التمثيل الذى، ولو زعم أنه لا يقصد هذا؛ فإنه ما جر إليه إلا التمثيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما دهى الإسلام وما أصابه من علماء السوء الجهلة الضالين المضلين.
السابع: أنه يجر الممثلات إلى البغاء والفجور؛ إذ لا تكاد توجد ممثلة شريفة العرض طاهرة الذيل بضرورة الحال، فإن المرأة ناقصة العقل والدين فاجرة بالطبع فإذا وجدت الحرية والخروج عن سبيل المروءة ومنهج الصيانة مع الإختلاط بالشبان والفسقة، جرها ذلك إلى الفجور بالضرورة كما هو المشاهد من الممثلات، وكل ممثلة تدعى أنها نقية العرض فهى كاذبة، كاذب معها من يدعى ذلك فيها كذبا مقطوعا به، وكفى بهذا دليلا على حرمة التمثيل.
الثامن: أن تمثيلهن يوقع الممثلين والمتفرجين أيضاً في كبيرة النظر إلى اجسامهن العارية وذلك فيما عدا الوجه والكفين مجمع على تحريمه، وقد قال جابر بن عبد الله سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة؛ فقال: {اصرف بصرك}. رواه مسلم. وقال ﷺ لعلي: {لا تتبع النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية}. رواه أبو داود والترمذى وجمع، وفى الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: {النظرة سهم مسموم من سهام إبليس}. فإذا كان هذا في نظر الفجأة، والنظر الذى لم يقصد، فكيف بالنظر الدائم مدة التمثيل والذي يقصد التلذذ به، ويدفع المال من أجله، وقد قال النبي ﷺ: {لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم أو ليكسفن الله وجوهكم }. رواه الطبراني من حديث أبي أمامة، وقال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ (النور: ٣٠) ، وقال ﷺ: {العينان تزنيان وزناهما النظر }. وهو حديث مخرج في الصحيح ووارد عن النبي ﷺ من طرق متعددة صحيحة، وفي سنن ابن ماجة وصحيح الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: {ما من صباح إلا وملكان يناديان ويل للرجال من النساء، وويل للنساء من الرجال}. وقالت عائشة بينما رسول الله ﷺ جالس في المسجد؛ إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل فى زينته لها فقال النبي ﷺ، {يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساءهم الزينة وتبختروا في المساجد}. رواه ابن ماجة يعنى لبسن الزينة للتبهرج وفتنة الرجال بها كما كانت عادة الجاهلية، حتى نهى الله عنها بقوله: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: ٣٣) فإذا لعنت بنو إسرائيل لمجرد التبهرج فكيف بما ظهر به نساء هذه الأمة من التبهرج مع التعرى فى آن واحد ومن التبختر والرقص فى دور التمثيل بدلاً من التبختر في المساجد الذي لعن من أجله بنو إسرائيل.
التاسع: أنهن يخرجن متعطرات إلى دور التمثيل، وقد قال النبي ﷺ وآله: {كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي زانية}. رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي موسى وقال حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وقالا: {أما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهى زانية وكل عين زانية}. وروى ابن خزيمة من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: {لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل}. فإذا كان هذا لخروجها إلى الصلاة وعبادة الله تعالى وهى متسترة فكيف بخروجها للتمثيل وهتك حرمات الدين، والفتك بأخلاق المسلمين.
فصل
۲۰ - ومنها أكل الناس بالباطل وهى حرام، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَـا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ﴾ (النساء : ٢٩) الآية، ثم قال ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ (النساء: ٣٠) ولا باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل، وقال النبي ﷺ: {من اكتسب مالا من غير حله وأنفقه في غير حله أحله دار الهوان}. رواه البيهقي من حديث ابن عمر، وقال ﷺ: {ولا تغبطن جامع المال من غير حله أو قال من غير حقه فإنه أن تصدق به لم يقبل منه وما بقى كان زاده إلى النار}. رواه الحاكم والبيهقى من حديث ابن عباس، وقال ﷺ: {لا يدخل الجنة جسد غذى بحرام ..} رواه البزار وأبو يعلى والطبراني وآخرون من حديث أبي بكر الصديق له، وقال رسول الله ﷺ: {من اكتسب مالاً من مأثم فوصل أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك كله جميعاً فقذف به في جهنم}. رواه أبو داود في المراسيل من مرسل القاسم بن مخيمرة.
فصل
٢١ - ومنها أنه يستدعى المتفرجين إلى إنفاق المال في الباطل والحرام ورؤية المحرمات وارتكاب المعاصى لأنها لا يدخلونه إلا بالمال، وذلك أيضاً محرم؛ لأنه تبذير وإضاعة مال، وقد قدمنا ما ورد فيه من القرآن والسنة في الإنفاق على إقامته وما يستدعيه من النفقات، وقد عد الفقهاء من جملة الكبائر إنفاق المال، ولو مليماً واحداً فـي محـرم ولو صغيرة كما عدوه سفهاً وتبذيراً، موجباً للحجر، وصرحوا مع ذلك بأن السفيه المحجور عليه لا تجوز شهادته، ولا يلى نحو نكاح ابنته؛ لأنه فاسق واستدلوا بأنه لا أعز عند النفس من المال، فإذا هان عليها صرفه في معصية دل على الانهماك التام في محبة المعاصي، كما هو مسطر في كتب الفروع التي جهل هذا المفتى ما فيها، فأباح للطلبة والعلماء ما يوجب سفههم وفسقهم وسقوط شهادتهم، وولايتهم لنكاح بناتهم ولو لم يذهبوا إلى دور التمثيل فإنه لا يمكن تمثيل بغير نفقة، ولو أقيم داخل المعهد، فكيف بدخولهم دور التمثيل.
فصل
٢٢ - ومنها: أنه يوقع المتفرجين في عدة كبائر أخرى سوى صرف المال في الباطل؛ فإنهم يقرون اغتياب المحكيين وإهانتهم والسخرية منهم، وينظرون إلى النساء مكشوفات عاريات الصدور والأفخاذ، بل والعورة المغلظة كما قدمناه، ويسمعون الغناء منهن وآلات الملاهى وغير ذلك من الكبائر المحرمة، وهم مع ذلك فرحون مسرورون ضاحكون مستبشرون، وقد قال النبي ﷺ: {من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي}. رواه أبو نعيم في الحلية، وإذا كان التمثيل بأشخاص معينين فهو غيبة كما قدمنا، وقد ورد وعيد شديد على حضور غيبة مسلم دون نصرته، فقال النبي ﷺ: {من اغتيب عنده أخوه المسلم ولم ينصره وهو يستطيع نصره أدركه إثمه في الدنيا والآخرة}. رواه أبو الشيخ في التوبيخ من حديث أنس، وروى البخارى فى الأدب المفرد عن ابن مسعود قال: {من اغتيب عنده مؤمن فلم ينصره، جزاه الله بها في الدنيا والآخرة شراً}، وروى أبو داود من حديث جابر وغيره، أن رسول الله ﷺ قال: {ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته}.
فصل
٢٣ - ومنها سماع الغناء، وأصوات النساء، وآلات الطرب المحرمة عند أكثر العلماء، لا سيما في مثل هذه المواطن، فإن ذلك متفق علي تحريمه فيها وإن كان فيه خلاف في غيرها، والكلام في المسألة طويل الذيل جداً، والغرض تنبيه ذلك المفتى على محرمات التمثيل وما يحويه من المفاسد بطريق الاختصار.
فصل
٢٤ - ومنها اختلاط المتفرجين الرجال منهم بالنساء، فيقعد الرجل بجانب المرأة أو وسط النساء والمرأة وسط الرجال فيقع بذلك التعارف الذي يجر إلى الفواحش، بحيث لا تذهب المرأة إلى التمثيل بدون زوجها وتخرج منه طاهرة العرض غالباً، وكم منهن من يجعل ذلك وسيلة إلى الفساد والاتصال بالنساء وكما هو معروف وكفر بهذا ضررا في الدين والأخلاق والمجتمع.
فصل
٢٥ - ومنها أنه أهم عامل فى فساد أخلاق الشباب من الذكور والإناث، بل وفى نشر الكفر والإلحاد والمروق من الدين، وتعلم الفجور وطرق الاحتيال والنصب والسرقة وغير ذلك من الأخلاق الفاسدة، التي انتشرت بين المسلمين فإنه لا سبب لذلك وللكفر والإلحاد بينهم إلا من طريق التمثيل والمجلات ففي التمثيل يشاهدون النساء الفاجرات الجميلات، وطرق المغازلة والتعاشق والحب وكيفية ذلك مفصلة، كما يشاهد النساء كيف يصنع العاشق بعشيقته، وكيف يخضع لها ويتذلل ويتواضع ويتفانى في حبها، وكيف يجالسها ويخاطبها ويضمها ويقبلها ويكاتبها وتكاتبه، فتخرج المرأة من ذلك وهى متشوقة إلى ذلك، راغبة فيه، باحثة عمن يعشقها وتعشقه، ويفعل بها كما رأته من الممثل مع عشيقته ،ولو كانت متزوجة، فإنها تمل الحياة الزوجية، حيث لا ترى فيها من الزوج ما رأته من الصاحب والعاشق، وهكذا يخرج الشبان متشوقين إلى ذلك، باحثين عنه راغبين فيه، كما يشاهدون الإزدراء بالعلماء وأهل اللحى والعمائم والمنتمين إلى الدين وتصويرهم بتلك المظاهر الشائنة المشوهة، مع ما ينسبونه إليهم من الأفعال القبيحة الساقطة، الدالة على دناءة نفوسهم، والميل إلى الركود والخيانة وغير ذلك، فيأخذون عنهم فكرة من أفحش ما يتصوره المرء، فتتشبع روحه ببغضهم والازدراء بهم، فينفر منهم غاية النفور ويبتعد منهم كل الابتعاد فيبقى جاهلاً بدينه من جهة كافراً ملحداً بازدراء الدين وأهله من جهة أخرى، وكذلك يشاهدون طرق النصب والاحتيال والسرقة والقتل والغدر وغير ذلك فتتشوق نفوسهم إلى استعماله وتجربته وتطبيق العلم على العمل، فعمت بكل ذلك المصائب والرزايا، وفسدت الأخلاق وكثر الإجرام وعمرت السجون وذهب الدين وحرمت الناس منه وجهلوا أصوله وفروعه وصاروا يعتقدون الحرام مباحاً والمنكر معروفاً والإلحاد دينا ولا مرشد ولا معلم ولا آمر ولا ،ناهي، لأن أهل الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلماء، وقد اصبحوا يشاركونهم في ذلك، أو يوافقونهم عليه ويداهنونهم بحله والإفتاء بإباحته واختلافات الأدلة من جهلهم على ذلك إن كان معهم نوع معرفة لما يقال ويلبس به على الناس وإلا تمسكوا بجهلهم المجرد عن أي دليل يذكر، كهذا المفتى جاهلا أن فتواه تؤول به إلى الكفر، لأن استحلال المحرمات المجمع عليها والمعلومة من الدين بالضرورة كفر باتفاق المسلمين وقد ذكرنا اشتمال التمثيل على نحو أربعين كبيرة من الكبائر المتفق عليها أدلة مع تحريمه في حد ذاته من الكتاب والسنة ، وبذلك يعلم أن حرمته ليس هو رأينا الخاص كما زعم الشيخ، بل هو رأى أهل الإسلام كافة، لأنه مقتضى نصوص الشريعة من الكتاب والسنة.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على أفضل مرشد إلى الحق وأشرف هاد إلى الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم بحمد الله
إقامة الدليل على حرمة التمثيل
________________________________________________
إزالة الإلباس عما أخطأ فيه كثير من الناس
لأبي الفضل
عبد الله بن الصديق الغماري
بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجوز تمثيل الأنبياء والملائكة والصحابة؟
جاءني سؤال من أحد الأفاضل بدمنهور عن جماعة من المسلمين يمثلون غزوات الصحابة، فيقومون بدور مشاهير الصحابة كعمر وخالد بن الوليد وغيرهم ويقوم البعض بدور الكفار كأبي جهل وابن أبي خلف وغيرهما، ويمثلون أيضاً بعض قصص الأنبياء، فقد مثلوا أخيرا قصة " الذبيح" فقام أفراد منهم بتقليد سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وسيدنا جبريل، وألبسوا شخصاً منهم فروة خروف ليقوم بدور كبش الفداء، وسمع من المسرح صوت يأمر جبريل بإنزال الكبش على إبراهيم! فهل مثل هذه الحفلات جائزة شرعاً، وإذا لم تكن جائزة فما حكم الذاهبين إليها والمتفرجين عليها ؟ نرجو بيان الحكم مفصلا ولكم الشكر .
الجواب: الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الأكرمين ورضى الله عن صحابته الطاهرين.
أما بعد:
فإن مما شاع في هذا العصر الذى قل خيره . وكثر شره بدعة التمثيل التي جاءتنا من الغرب وطغت فيما طغى علينا من عاداته وتقاليده، وأقبل الناس عليها بتلهف كبير شأنهم فى كل ما هو غربي أفرنجي، وهذا ناشئ من ضعف الإيمان وقلة الإيقان وقد كانت بدعة التمثيل منحصرة في دور الملاهي المخصصة لذلك، فكان أمره - على قبحه -هيناً يحاربه العلماء في جملة ما يحاربون من الملاهي والمخازي ولكن جمعى من المتحذلقين والمتفقهين إرتقوا بهذه البدعة عن وضعها الأصلى فأدخلوها في نطاق المسائل الدينية، وسرعان ما انتشرت الفكرة في الجماعات الإسلامية، فأنشئ في كل جماعي ما أسموه (فرقى التمثيل الدينى). وهذا غاية العجب! فمتى كان التمثيل دينياً ؟ ومن ذا الذي جعله من الدين؟ ولكن غلبة الجهل والهوى تصير المنكر معروفا، وتجعل البدعة سنة، والقبيح حسناً، وقد قال الشاعر:
يقضى على المرء في أيام محنته .. حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ولا محنة أشد من محنة الجهل بالدين والإقدام على استحسان الأمور بمجرد الرأى والهوى كما هو حاصل ،مشاهد نشطت فرق التمثيل الديني في تمثيل الحوادث الإسلامية في عهود مختلفة: كعهد صلاح الدين الأيوبي وغيره، حتى ارتقوا إلى عهد الصحابة، فظهر على خشبة المسرح أشخاص: أبي بكر وعمر وبلال، وأبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد وغيرهم، فتوقعنا - مشفقين -أن يتلو هذه الخطوة الجريئة الأنبياء عليهم السلام، وسمعنا أن جماعة ألفت لتمثيل قصص الأنبياء الواردة في القرآن العظيم وظللنا بين مصدق ومكذب، حتى حصل ما توقعناه وصح بعض ما سمعنا : فقد قامت بدمنهور جماعة دينية تمثل قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، ففي ليلة من ليالي الأسبوع المباركة وهى ليلة الجمعة تقربوا إلى الله -في زعمهم -بتمثيل القصة المذكورة وقام أشخاص منهم بتقليد شخص إبراهيم وإسماعيل وجبريل عليهم الصلاة. والسلام - وألبسوا شخصاً فروة خروف ليقوم بدور كبش الفداء، وهكذا تمت المهزلة بهذا اللون من السخرية والاستهزاء فبربك قل لي أي مسلم يرضى بهذا الفعل الشنيع وهل بلغ الاستهتار بأنبياء الله ورسله، وأمناء وحيه أن نقدم أشخاصهم على خشبة المسرح كما تقدم شخصية كليوباترا وأنطونيو، سبحانك هذا بهتان عظيم.
ألا فليعلم أولئك الجماعة المستهترين أنهم أخطئوا خطأ فاحشاً بل أجرموا أجراماً كبيراً وشجعوا الأجانب على تمثيل الأنبياء وإظهارهم في أوضاع مزرية تتفق وأغراضهم الخبيثة التبشيرية من غير أن يستطيع أحد الإنكار عليهم، لأنهم يحتاجون بأن الجماعات الدينية تفعل مثل ذلك وتالله أنه لموقف مخزى غاية الإخزاء، نعوذ بالله من البلاء.
هذا وأن التمثيل يشتمل على مفاسد تقتضى تحريمه وإنكاره:
إحداها: أنه بدعة مستحدثة ليس فى قواعد الدين ما يشهد لها بل هو مشتمل على أمور يحرمها الدين كما سيأتي، وكل بدعة كانت كذلك فهى ضلال، لقوله ﷺ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}. رواه مسلم في صحيحه.
ولا يجوز الاحتجاج بأن جبريل عليه السلام، تمثل لمريم في صورة بشرية، وكان يأتي النبي ﷺ في صورة دحية الكلبي، لأن جبريل فعل ذلك بأمر من الله تعالى وبتكوينه لحكمة ظاهرة هى أن القوى البشرية تضعف من مشاهد الصورة الملكية على حقيقتها، ولهذا لما رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية له ستمائة جناح جناحان منها قد سدا الأفق صعق لهول ما رأي حتى جاء جبريل واحتضنه فأفاق، فالقياس بين المسألتين شاسع بحيث يصح قياس إحداهما على الأخرى.
ثانيتها: أن التمثيل لا يعرف إلا عن طريق الأوربيين، وهم الذين أظهروه في الشرق، وهو كما قلنا من جملة الملاهي التي غزوا بها بلادنا وحيث كان كذلك وجب تركه ومقاطعته لأننا نهينا عن التشبيه بهم في كل ما لا نفع فيه، ففي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: {من تشبه بقوم فهو منهم}. وقالت أم سلمة: كان رسول الله ﷺ أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد ويقول { هما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم}. رواه ابن خزيمة في صحيحه.
ثالثتهما: أن التمثيل لهو كالسينما وغيرها، وكل لهو باطل يحرم الاشتغال به، لأنه عبث لا يليق، وقد ثبت في الحديث: {كل شيء ليس من ذكر الله ل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشى الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة}. رواه الطبراني بإسناد جيد.
والتمثيل ليس واحد من الخصال الأربع، فهو باطل؛ وكون الجماعات الدينية يفعلونه لغرض ديني كما يزعمون لا يخرجه عن وضعه الأصلى وحكمه الأساسي، بل إدخاله في الدين عدوان منهم، لا يجوزه الشرع، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل الذين يجمعون المال بواسطة ورق اليانصيب المحرم للمساعدة أعمال الخير، ونسوا أو تناسوا ما صح في الحديث: {الله طيب لا يقبل إلا طيباً}. وجهلوا ما ورد في الحديث الصحيح: {من جمع مالاً حراماً، ثم تصدق به لم يكن فيه أجر وكان وزره عليه}.
رابعتها: أن التمثيل مبنى على الكذب إذ كل ما يظهر على المسرح من أشخاص وأعمال وأقوال فهو افتراضى بدعوى أنه يمثل عصر كذا أو قصة كذا وكل كذب حرام ملعون فاعله بنص القرآن وليس التمثيل من الأمور التي جوز الشرع الكذب فيها كيف وهو يشتمل على تقليد أناس ماتوا لا يدرى هل يرضون بذلك أولاً، واحتاج أصحاب التمثيل بأنهم يقصدون إظهار عظمة الإسلام ومجد المسلمين الأولين لا ينفع شيئاً:
أما أولاً: فإن عظمة الإسلام تظهر بنشر محاسنه وتعاليمه، وطبع المؤلفات النافعة فيه لا بإقامة رواية تمثيلية بين جدران إحدى دور الملاهي أو الجمعيات يقصد أغلب من يحضرها التسلية لا غير.
وأما ثانياً: فإن المسلمين الأولين لم يكونوا يحبون الإعلان عن أنفسهم وأعمالهم لأنهم كانوا يخلصون العمل لله لا يريدون غيره فإظهاره على خشبة المسرح ينافي غرضهم ويباين مقصودهم.
وأما ثالثاً: فلو كانت هذه الحجة تجيز التمثيل وتسوغه لجازت إقامة هذه التماثيل المنصوبة في ميادين مصر والإسكندرية وغيرهما بحجة تخليد ذكرى العظماء ولاشك أن التماثيل محرمة لا يجوز نصبها في ميدان، بل لا يجوز النظر إليها حسبما صرح به العلامة الدردير المالكي، وتخليد ذكرى العظماء يكون بتسجيل أعمالهم وترجمة حياتهم، وغير ذلك مما لا يتنافى مع الشريعة الغراء.
ورابعها: أن التمثيل يستدعى وجود نساء كما في قصة إسلام عمر رضي الله عنه وغيرها، وفي هذه الحالة إما أن تشترك النساء مع أفراد الفرقة في تمثيل الرواية، وهذا أمر محظور شرعاً أشد الحظر وفيه من الخطر ما لا يخفى، وأما أن يقوم بعض أفراد الفرقة بدور المرأة فيلبس لبسها ويتزين بزيها وهذا أيضا أمر محرم ملعون فاعله بنص الحديث الصحيح
خامستها: أن التمثيل يستدعى تغيير الشكل واللون واستعمال شعر مستعار وغير ذلك مما نهى عنه الشرع ولعن فاعله.
سادستها: أن التمثيل يقتضى من صاحبه أن يقف مواقف شائنة مخزية كمن يقوم بدور إبليس أو الخروف أو الكافر أو غير ذلك مما يستجلب لعنة المتفرجين أو سخريتهم، ولاشك أن الممثل الذى يقبل على نفسه هذا الوضع الشائن أو يقبل أن يكون امرأة أو شيطانا، ساقط المروءة فاقد الشهامة، لأنه ضيع الكرامة التي أكرمه الله بها في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: ٧٠) وموصل إلى هذا الحد المزرى سقطت عدالته، وردت شهادته إلا أن تاب وأناب، وإذا كان الإمام الشافعي الله يقول: (والله لو أعلم أن شرب الماء البارد يخرم مروءتی ما شربته)، فما يقول هؤلاء الذين رضوا أن يكونوا شياطين أو خرفاناً أو كفارا أو نساء ومن يدري؟ فلعلهم في الواقع كذلك!
هذا بعض ما فى مطلق التمثيل من المفاسد التي توجب تحريمه ومحاربته، أما تمثيل الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام فمفسدته أعظم وقبحه أشد وتحريمه أبلغ والقائمون بهذا الفعل القبيح يجب أن يعززوا التعزير البالغ ويؤدبوا الأدب اللائق، وأن يجعلوا نكالا لغيرهم وعبرة حتى لا يتحدث متهوس بمعاودة هذا المنكر. ويجب أن يعلم أولئك المتسمون باسم الدين أن الأنبياء والملائكة بمعزل عن هذه السفاسف والترهات، وأنهم محل إيماننا نجاتنا وهم الوسطاء بيننا وبين خالقنا في تبليغ دينه وإقامة شريعته فإذا اعتدينا على مقامهم العظيم فمن نعظم! وبمن نؤمن ولمن نتبع! ثم من الأمر لجبريل بإنزال الكبش أليس هو الله تعالى! فيمثلوه إن استطاعوا تعالى الله عن جهل الجاهلين به علوا كبيرا، وقد فعلوا فأسمعوا المتفرجين صوتا يأمر جبريل عليه السلام! وتا لله أن هذا لهو منتهى الجهل والكفر والوقاحة.
أما المتفرج على هذه الحفلات المنكرة فهو حرام لأنه أعانه على الضلال والترويج له، واقتناء المال عن هذا الطريق كسب خبيث لا يصح صرفه في المشاريع الخيرية بل رده إلى أربابه واجب شرعاً والله تعالى أعلم.
ألا فلتتقوا الله، ولتراجعوا دينكم، ولتكفروا عن خطيئتكم، ولترجعوا عما أنتم عليه من الغنى والضلال، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق .
ملحوظة: كتبت هذه الفتوى وطبعت منذ عشر سنوات، حين مثلت شعبة الإخوان بدمنهور قصة الذبيح، ثم بعد ذلك أخرجت بعض دور التمثيل بالقاهرة فيلم ظهور الإسلام، فكان ضغثاً على ابالة إذ كان فيه مناظر مؤذية، خرج المتفرجون بنتيجة واحدة هي: سقوط ما كان في أنفسهم من هيبة وقدسية الصحابة الكرام، كما سمعوا صوتا منكرا يمثل صوت الرسول، وهو يقول عن الناقة (دعوها فإنها مأمورة)، وهكذا تعدد الاعتداء على مقام الرسل الصحابة وسائر مقدسات الإسلام.
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وجاء في مجلة الإسلام عدد ٦ سنة سادسة صادر في يوم الجمعة ١٢ صفر سنة ١٣٥٦هـ الموافق ٢٣ أبريل سنة ۱۹۳۷م مقال بهذا العنوان: ماذا في طنجة ؟؟
هناك ـ في طنجة - رهط تعطلوا من جميع الأعمال، وتعلقوا بفارغ الآمال، ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام: ﴿وإذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبُ مُسَنَّدَة﴾ (المنافقون: ٤)
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير لا شغل لهم في مجالسهم سوى التنابز بالألقاب، حتى إذا ما تزودوا من آثامه انتقلوا عنه إلى التغامز والاغتياب. لا يرون الفضيلة فضيلة فيتبعوها، ولا الرذيلة رذيلة فيجتنبوها، ولكنهم على العكس يرون الرذيلة فضيلة فيمعنون فيها، ويرون الفضيلة رذيلة فيبتعدون عنها و﴿أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ (محمد: ۲۳)، إذا رأوا الحق نكبوا عنه، وإذا ظهر لهم شيء من الباطل تهافتوا عليه تهافت الفراش على النار: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا﴾ (الأعراف: ١٤٦).
ذلك بأنهم يأخذوا بطرف من العلم يثقف عقولهم، ولا تمسكوا بخلق فاضل يهذب نفوسهم، فهم أبعد الناس عن العلم، وأشدهم عداوة لأهله، أما الأخلاق الفاضلة فأمتنهم فيها من يعرف أسماءها ليس غير تراهم ما بين متسكع في الطرقات دائر وملتصق بمقاعد المقاهى مشدوه حائر كل منهم يصدق عليه قول عمر: (إني لأكره أن أرى أحدكم ،سبهللا، لا في عمل دنيا ولا في آخره)، نقله صاحب الكشف فى سورة الانشراح، وهؤلاء آفة المجتمع وداؤه الوبيل، كما ينبئ عن ذلك تلك الحكمة السامة التي نطق بها عروة بن الزبير حيث قال: (البطالة شر شيء في العالم).
فكر أولئك الرهط أن يقوموا برواية تمثيلية تدل علي رقيهم وتقدمهم ،ونسوا أنه ليس أدل على الرقى والتقدم من سمو الأخلاق، وحصافة الرأي وهمة وثابة إلى المعالى وأن ضد ذلك يدل على اطراد في الانحطاط، وازدياد في التأخر، وما دروا أن إتقان اللعب والغناء على خشبة المسرح، إن دل على شيء، فإنما يدل على أن اللاعب على المسرح خلع الحياء والوقار، قبل أن يقف ذلك الموقف الشائن، وأنه خلع مع حيائه ووقاره، إيمانه الذي به عزته وشرفه، والذى له مكانه بين أبناء جنسه، إذ الحياء من الإيمان، والوقار عماد الشرف، فأى إيمان لمن خلع الحياء، وأى شرف لمن نبذ الوقار ؟!
نعم فكروا أن يقوموا برواية تمثيلية ونسوا أنهم أنفسهم رواية كونية يمثلون بحالتهم المذكورة على مسرح هذه الحياة دور البطالين المتعطلين، وكيف تدحرجهم البطالة والعطلة فى مزالق الفساد ومهاوى الخسران، ففي حالهم درس بليغ من دروس الحياة، يعتبر به العاقل اللبيب، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الألْبَابِ﴾ (الزمر: ۲۱)، وليتهم فكروا قبل أن يمثلوا رواية أديب من الأدباء، أو ملك من الملوك، أو خليفة من الخلفاء، ولو كان أحد الخلفاء الراشدين فإن هذا -على صعوبته -هين بالنسبة لما فعلوا، وكذا المصائب تهون -ولو عظمت -بالنسبة لما هو أعظم منها، ولكنهم لم يفكروا في شيء من ذلك ولا حاموا حوله، بل فكروا فيم اهو أدهى وأمر.
فكروا فيما يجلب لهم الخزي والعار والمار والشنار وذلك أنهم مثلوا -على ما بلغنا -رب العزة عن هزلهم علوا كبيرا مع ملائكته الكرام ! فأي وقاحة كهذه؟ وأي تلاعب بالدين، وإله العالمين يضارع هذا أو يقاربه؟! ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانُ عَظِيمٌ﴾ (النور: ١٦) ربنا إننا نبرأ إليك مما أقترفه أولئك السفلة الأنذال، مما يتنافى مع مالك من عظمة وجلال فلا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، وأدركنا بلطفك ، وعاملنا بما عودتنا من عوائد برك وعطفك، أنك أنت البر الرحيم.
وقد دل فعلهم ذلك على أنهم على جانب كبير من الجهل بتعاليم الدين، وأنهم في حاجة شديدة إلى دروس أولية، يعرفون منها ربهم خالق كل شيء، ويعرفون ما جب له من الصفات، وما يستحيل في حقه، فإنهم لو عرفوا الله كما عرفه المسلمون بأنه قديم لا أول لوجوده، وأنه مخالف للحوادث كلها، وأنه لا نتصوره الأوهام ولا تكتنه كنهه العقول، لأدركوا -بالبداهة -أنه يستحيل تمثيله في شخص من الأشخاص، إذ لا مناسبة بين قديم وحادث، بل كيف يمكن تمثيل من لا تتصوره الأوهام، ولا تدركه العقول؟ ولو عرفوا الله كما عرفه المسلمون بأنه جبار متكبر وأنه قاهر فوق عباده، وأنه لا شريك له، وأنه منتقم ممن انتهك محارمه، وأنه يغضب على من تسور مقام ربوبيته، ويقصمه، ثم يلقيه في النار البور، لخافوا انتقامه، وتحاموا غضبه، ولمنعهم خوفه من تمثيله إذ ما يؤمنهم أن يأخذهم - وهم في حالتهم تلك - أخذ عزيز مقتدر ؟ فيخسف بهم جانب الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من السماء، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاق ﴾ (الرعد: ٣٤)، ولو عرفوا الله كما عرفه المسلمون بأنه ذو الجلال والإكرام، وأنه المتفضل بالانعام، وأنه المتفرد بالعزة وإن رداءه الكبرياء وأزاره العظمة لهابوه وأجلوه عن أن يمثله شخص وضيع حقير، بوال على عقبيه، لا فرق بينه وبين الحيوان الأعجم إلا أنه متكلم وذلك أيكم فهو كالنسناس!!
نعم ... لو عفروا الله ولو ببعض هذه الصفات، لما حصلت تلك منهم المخزيات المحزنات، ولكنهم ما عرفوا الله وما قدروه حق قدره، فجهلوا فوق جهل الجاهلين ودخلوا تحت ربقه المارقين وقد دل فعلهم ذلك أيضا على أنهم ما اتقنوا فن التمثيل، ولا عرفوا الغرض المقصود من وضعه وذلك أن الغرض الأصلى من بدعة فن التمثيل هو:
أما الكشف عن مغزى تاريخى يحرك الهمم العوالي لاسترجاع مجد الآباء في عزه وإباء، وما عرض داء اجتماعي على أنظار الجمهور وتحويره لهم بصورته البشعة ليعملوا على علاجه وتلافيه وأما آثاره محاولة أدبية تفيد السامعين، وتغذى عقول المتفرجين، إلى غير ذلك مما يعود على المجتمع بفائدة.
ولم يكن قط الغرض من فن التمثيل خلع ربقة الإيمان، والخروج عن الأديان.
ولم يكن قط الغرض من فن التمثيل الاستهزاء برب العالمين، وملائكته المكرمين.
ولم يكن قط الغرض من فن التمثيل نبذ التقاليد الدينية، والتلاعب بأصل عقائدهم الصحيحة الثابتة، فقد رأيت كيف دل فعل أولئك السفلة على خطئهم من حيث الفن كما دل على جهلهم بخالقهم، وجرآتهم على مقام ربوبيته ؟! فلا دينهم أبقوا عليه، ولا فن التمثيل أتقنوه، فباءوا بالخسارتين، ورجعوا بالفضيحتين، وكانوا أسوأ حالاً من ذلك الذي رجع بخفي حنين ﴿إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: ٣٧).
فالحكم في هؤلاء أن يضربوا على قذالهم بالنعال، ويصفوا على أقفيتهم بأكف الرجال ولا تأخذ أحد بهم رأفة ولا رحمة حتى يكونوا نكالا لمن على شاكلتهم وموعظة للمتقين ولكنهم لم يفعل بهم شيئا من ذلك، بل بالغنا -وياللأسف -أن أعيانا من البلد وكبراءهم حضروا فسقهم راضين مسرورين، والعجب أن فيمن حضروا من يدعى العلم ويمت إليه بسبب! فلا أدرى أين كان عقل هؤلاء الحاضرين وأين ذهب دينهم، وأين ضاع على من يدعى العلم منهم ؟!
تالله لقد عم الداء، وطم البلاء ﴿وإذا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَال﴾ (الرعد: ۱۱) هذه عجالة مستوفر أبديناها استنكاراً لذلك الحادث المؤلم، وأجابه للرغبة الملحة من كثير من الأخوان والأصدقاء، وإلا فمذهبنا تنزيه القلم عن الكتابة فى مثل هذه السفاسف الساقطة، لا سيما وأولئك القوم جهلة أغبياء، لا يقبلون إرشاد ! ولا يستمعون لنصيحة ﴿صم بُكُمْ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: ۱۷۱) ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: ٤٤)
فلقد تعب -من قبل -في إرشادهم وإصلاحهم مصلحون، وجهد في تعليمهم وتقويمهم ،مرشدون فكان نصيبهم الفشل، وتولى كل منهم يخاطب نفسه متمثلاً:
لقد أسمعت لو ناديت حياً .. ولكن لا حياة لمن تنادى
تم بحمد الله