أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 يونيو 2023

القواعد الأصولية لابن رجب الحنبلي من خلال كتابه (جامع العلوم والحكم) د. أحمد صلاح شلال بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

القواعد الأصولية لابن رجب الحنبلي

 من خلال كتابه (جامع العلوم والحكم)

د. أحمد صلاح شلال

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ هذ البحث النفيس، حشد فيه واضعه القواعد الأصولية المتعلقة بالأدلة الإجمالية، والتي يتوصل من خلالها الفقهاء إلى طرق الاستدلال، فحشد القواعد والضوابط التي ذكرها الإمام ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) تصريحاً، أو استدلالاً، مع بيان هذه القواعد، وأدلتها التفصيلية، يلي ذلك كلام العلماء فيها، والفروع التي خرجها ابت رجب عليها.

ويقع هذا البحث في أربعة مباحث أصولية، في كل مبحث جملة من هذه القواعد، والتي بلغت بمجموعها عشرون قاعدة، وتفصيل ذلك فيما يلي:

المبحث الأول: القواعد المتعلقة بالأمر والنهي، وفيه سبع قواعد.

المبحث الثاني: القواعد المتعلقة بالعام والخاص، وفيه ثلاث قواعد.

المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بدلالة الألفاظ، وفيه خمس قواعد.

المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بأدلة الأحكام، وفيه خمس قواعد.

وقد أعت صياغتها وكتابتها، وترتيبها بأسلوب يتناسب مع طريقة الملخصات العلمية، ونسأل الله تعالى أن يبارك في هذا العمل.

وخلاصة ما في هذا البحث ما يلي (المؤلف):

١-أن قاعدة يؤتى بالأمر على قدر الاستطاعة يندرج تحتها كثيراً من المسائل في فقه العبادات ابتداءاً من الطهارة حتى كتاب العتق، وقد يأتي إلى أكثر أبواب الفقه.

٢- لقد أجاد الإمام ابن رجب في عرض قواعد النهي، وفي ذلك اختلاف عند كثير من الأصوليين، وقد قسم النهي إلى ما فيه حق الله وحق العبد وما نهي من أجل الرفق بالعباد. 

٣- سلك الإمام ابن رجب مسلك الجمهور في كثير من المسائل من مسائل العام كالعبرة اللفظ لا بخصوص السبب، ويخصص العام بخبر الآحاد، وكذلك في الاستدلال بإشارة النص، والدلالة والاقتضاء ومفهوم المخالفة وفيها كثيراً من التطبيقات الفقهية.

٤- لم يذكر الحافظ ابن رجب ما لا يحمل المطلق على المقيد، إنما ذكر فروعاً فقهية تدل على حمل المطلق على المقيد في اتحاد السبب والحكم.

 ٥- سلك الإمام ابن رجب في أدلة الأحكام مسلكاً واسعاً، بحيث استدل بالإجماع والقياس، وقياس العكس، وسد الذرائع، والاستصحاب، وبنى عليها كثيراً من المسائل الفقهية.

٦- ونجد هنا أن هذه القاعدة الأصولية تبنى عليها مسائل عدة في الفقه حتى ما يستجد من النوازل يمكن أن يدخل تحت القواعد الأصولية.

تعريف عام بالقواعد الأصولية

القواعد هي جوامع الفروع، وأطر الجزئيات، فالقواعد تجمع شتات الفروع ضمن إطار عام يحصرها. والقعدد هو اللئيم لأنه يقعد عن مكارم الأخلاق، والقواعد من النساء: اللاتي يبقين في بيوت أزواجهن.

والقاعدة في الاصطلاح، لها عدة إطلاقات:

١-حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته (الحموي)

٢-الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته (الفيومي).

٣-قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها (الجرجاني)

٤-القواعد الفقهية نوعان: كلية، وأغلبية.

قد يعبر عن القاعدة بألفاظ كثيرة، مثل: الأصل، الأساس، المبدأ، القانون، المسألة، الضابط، القضية، الدليل، الدستور... وغير ذلك.

والمراد بأصول الفقه: الطرق والقواعد الإجمالية التي توصل إلى معرفة الفقه، من حيث المُستدل طريقة الاستدلال والدليل.

المبحث الأول: القواعد المتعلقة بالأمر والنهي

١-القاعدة الأولى: (الأمر يؤتى به على قدر الاستطاعة).

يقول ابن رجب: والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم، ورحمة لهم.

نماذج تطبيقية لابن رجب على القاعدة:

- الطهارة. فإذا قدر على بعضها وعجز عن الباقي: إما لعدم الماء، أو لمرض في بعض أعضائه دون بعض؛ فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.

- الصلاة. فمن عجز عن فعل الفريضة قائماً صلى قاعداً، فان عجز صلاها مضطجعاً.

- زكاة الفطر. فان قدر على إخراج بعض الصاع لزمه ذلك على الصحيح. 

- الفطر في السفر والمرض كما في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخر}.

- قصر الصلاة في السفر، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصلوة}.

____________________________________________

٢- القاعدة الثانية: (لا تكليف على الناسي)

يقول ابن رجب: والأظهر - والله أعلم - أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما، بمعنى رفع الإثم عنهما، لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما، فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.

نماذج تطبيقية ذكرها ابن رجب على القاعدة:

- من نسي الوضوء وصلى ظاناً انه متطهر، فلا إثم عليه بذلك، ثم إن تبين له أنه كان محدثاً فإن عليه الإعادة، وكذلك إذا نسي التسمية في الوضوء فلا حرج.

- من نسي الصلاة ثم ذكرها؛ فيجب عليه القضاء ولا إثم عليه. 

- لو أكل أو شرب ناسياً وهو صائم؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة حيث أنه ليس بمؤاخذ بالنسيان، ولو جامع ناسياً ففيه قولان والجمهور ذهب إلى عدم المؤاخذة.

- لو حلف لا يفعل شيئاً؛ ففعله ناسياً ليمينه أو مخطئاً ظاناً أنه غير المحلوف عليه فهل يحنث في يمينه؟ فيه خلاف مع أنه يستحلف أنه كان ناسيا ليمينه.

___________________________________________

٣- القاعدة الثانية: (تكليف المكره)

أولا:ً الإكراه في الأفعال وهو نوعان:

قال ابن رجب: (أحدهما): إكراه لا إثم على المُكرَه فيه بالاتفاق، لأنه لا اختيار له بالكلية، ولا قدرة له على الامتناع.

ومن أمثلة هذا النوع:

-حلف على الامتناع من دخول مكان، فحمل كرهاً وأدخل إلى المكان؛ لا يحنث بيمينه، عند جمهور العلماء، وقد حكي عن بعض السلف - كالنخعي -فيه خلاف، ووقع مثله في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والصحيح عندهم: أنه لا يحنث بحال.

-حُمل كرهاً وضرب به غيره حتى مات ذلك الغير، ولا قدرة له على الامتناع؛ فلا يأثم بالقتل.

-أضجعت كرهاً، ثم زني بها من غير قدرة لها على الامتناع؛ فلا تأثم بالزنا.

 و(النوع الثاني): إكراه يتعلق به التكليف، فإنه يمكنه أن لا يفعل؛ كمن أكره على ضرب إنسان أو غيره حتى فعل، فهو مختار للفعل، لكن ليس غرضه نفس الفعل، بل غرضه دفع الضرر عنه، فهو مختار من وجه، غير مختار من وجه، ولهذا اختلف الناس: هل هو مكلف أم لا؟

ومن أمثلة هذا النوع:

-الإكراه على قتل المعصوم:

* اتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم، لم يبح له أن يقتله، فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل، (هذا إجماع من العلماء المعتد بهم)، وهذا يدل على اعتباره مكلفاً؛ لأنه يحرم عليه القتل والحالة هذه.

* أما حكم القاتل المُكرَه؟

فإن قتل غيره بالإكراه، فالجمهور على أن القاتل والآمر يشتركان في وجوب القود؛ لاشتراكهما في القتل، وهو قول مالك والشافعي في المشهور وأحمد.

وقيل: يجب على المكره وحده، لأن المكرَه صار كالآلة، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.

وروي عن زفر قولان: أحدهما كالأول، والثاني: أنه يجب القود على المكرَه لمباشرته، وليس هو كالآلة، لأنه آثم بالاتفاق.

وقال أبو يوسف: لا قود على واحد منهما.، وخرّج بعض الحنابلة على قول زفر أنه لا يجب قتل الجماعة بالواحد، وهذا أولى.

-الإكراه على إتلاف مال الغير المعصوم:

ولو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال المعصوم، فهل يباح له ذلك؟ فيه وجهان لأصحابنا. فإن قلنا: يباح له ذلك، فضمنه للمالك، رجع بما ضمنه على المكرِه، وإن قلنا: لا يباح له ذلك، فالضمان عليهما معاً؛ كالقود. وقيل: على المباشر المكرَه وحده وهو ضعيف.

-الإكراه على شرب الخمر:

ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة، ففي إباحته قولان: أحدهما: يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا}، نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، كانت له أمتان يكرههما على الزنا، وهما يأبيان ذلك، وهذا قول الجمهور كالشافعي، وأبي حنيفة، وهو المشهور عن أحمد، وروي نحوه عن الحسن ومكحول، ومسروق وعن عمر بن الخطاب ما يدل عليه.

-الإكراه على فعل الزنا:

ولو أكره على الزنا؛ فمن قال بإباحة الفعل المحرم عند الإكراه؛ اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من قال: لا يصح إكراهه عليه، وإن فعل فلا إثم عليه ولا حد، وهو قول الشافعي، وابن عقيل من أصحابنا، ومنهم من قال: لا يصح إكراهه عليه، وإن فعل فعليه الإثم والحد، وهو قول أبي حنيفة ومنصوص أحمد، وروي عن الحسن. 

ثانياً: الإكراه في الأقوال:

وذلك بأن يصدر منه قولاً لم يرض به، وإنما يكره عليه؛ فلا يترتب عليه حكم من الأحكام في الدنيا ولا الآخرة وقال به بعض العلماء، واستدلوا بقوله: {إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان}؛ فإذا أبيح له التلفظ بالكفر معا لإكراه، وهو أعظم الذنوب، فما دونه أولى بالجواز.

ومن أمثلة هذا النوع:

- عدم المؤاخذة على قول المكره في العقود، وذلك كالبيع والنكاح. 

-وعدم المؤاخذة في الفسوخ، وهي الخلع والطلاق والعتاق. 

-وعدم المؤاخذة في الإيمان والنذور فلو حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله مكرهاً؛ فإنه لا يحنث بذلك، إلا لو رضي المكره بما أكره عليه؛ فإنه يحنث لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه

ثالثاً: الإكراه بحق:

والإكراه بحق مثل أن يُكره الحربي على الإسلام؛ فيسلم ويكون بذلك مسلماً، ويستدل على ذلك بحديث أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله في غزوة فأدركت رجلاً؛ فقال: لا إله إلا الله فطعنته، فوقع في نفسي ذلك، فذكرته للنبي محمد ﷺ، فقال: «أقال لا إله إلا الله وقتلته»، قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح»، قال: «أفشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا»؛ فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت ان أسلمت يومئذ.

- أو أن يكره الحاكم على بيع ماله ليوفي دينه فيصح ذلك الإكراه.

___________________________________________

٤- القاعدة الرابعة: (النهي يفيد التحريم).

قال ابن رجب: وقد يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد، كما في قوله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}.

نماذج تطبيقية على القاعدة: 

-تحريم جلود السباع؛ وذلك لورود النهي عن ذلك. 

-تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه والبيع على بيع أخيه؛ لقول صلى الله عليه وسلم: «لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه».

___________________________________________

٥- القاعدة الخامسة: (النهي المتعلق بحق الله عز وجل)

أن النهي إذا كان يتعلق بحق الله تعالى لا يسقط حتى لو رضي المتعاقدان عليه، أي لا يمكن أن يصحح برضا طرفي العقد.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

-  نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب كنكاح الأمهات والبنات والأخوات قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ}، أو لنسب؛ كحرمة نكاح ام الزوجة قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآبِكُمْ}، أو الجمع بين من يحرم الجمع بينهما كالأخوات قال تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ }؛ فان هذه المحرمات حرمن لذات القربة من سبب أو نسب.

- فوات شرط لا يسقط بالتراضي، وذلك كنكاح المعتدة، وذلك ان النبي ﷺ فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى، وذلك لوقوع الزواج في العدة وهو محرم، ولا يسقط هذا التحريم برضا الطرفين. 

-وكذلك عقود الربا؛ فإنها لا تصحح ولو رضي المتعاقدان لوجود شرط يبطل وهو الزيادة المحرمة في الربا.

-وكذلك بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، لا يصح ولا يحل حتى لو رضي المتعاقدان بذلك.

___________________________________________

٦-القاعدة السادسة: (النهي الموقوف على موافقة صاحب الحق)

إذا ورد النهي عن شيء يتعلق بحق لآدمي معين، ويسقط حقه برضاه له؛ فإنه يتوقف على رضاه به؛ فإن رضي به لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به؛ فإن له حق الفسخ.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

-إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها، لا بغير إذنها، وقد ردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم نکاح امرأة ثيب زوجها أبوها وهي كارهة، وفي رواية أنه خيرها.

- من تصرف في مال غيره بغير إذنه؛ فإن هذا التصرف يقف على إجازة صاحب المال، فإن إجازة مضى وإلا بطل، ودليل ذلك حديث عروه بن جعد، الذي اشترى للنبي صلى الله عليه وسلم، شاتين، وإنما كان عليه ان يشتري شاة واحدة، ثم باع أحدهما وقبل ذلك النبي، أي ان النبي ﷺ أجازه، فصح بذلك شراؤه وبيعه. 

-بيع المدلس؛ فإنه موقوف على رضا من غُبن في البيع؛ فإن صححه صح ذلك البيع، كما في بيع المصراة (وهو حبس اللبن في الضرع لخداع المشتري)، وذلك ان النبي ﷺ جعل مشتري المصراة بالخيار، ومن ذلك أيضاً تلقي الركبان؛ حيث جعل لأهل الركبان الخيار إذا نزلوا السوق، فدل ذلك على أنه يمكن أن يصحح هذا البيع بموافقتهم.

- ومن ذلك تصرف المريض في ماله بأن يوصي أكثر من الثلث؛ فان ذلك موقوف على إجازة الورثة إن شاءوا قبلوا بوصيته وإن شاءوا منعوا ذلك؛ حيث أن النبي ﷺ رفع إليه أن رجلاً اعتق ستة مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم فجزاهم ثلاثة أجزاء، اعتق اثنين وأرق أربعة، وذلك لأن الورثة لم يقروا بأكثر من الثلث.

___________________________________________

٧-القاعدة السابعة: (النهي إذا كان رفقاً بالمنهي عنه، فلم ينته يؤاخذ عليه) 

ومعنى القاعدة هذه القاعدة: أنه إذا كان الله تعالى نهى عن شيء، رفقاً بالعباد وتيسيراً لهم، ولكنهم لم ينتهوا، وفعلوا ذلك المنهي عنه، دون الالتفات إلى النهي، فإنهم مؤاخذون بما ارتكبوا ويترتب عليهم أثر الفعل الذي وقعوا فيه.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

-من صام في السفر أو واصل الصوم 

-أو أخرج جميع ماله وجلس يتكفف الناس.

- صلى قائماً مع تضرره بالقيام للمرض.

- أو اغتسل وهو يخشى على نفسه الضرر أو التلف ولم يأخذ برخصة التيمم.

- إذا جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد مع أنه منهي عنه؛ فإنه يترتب عليه البينونة الكبرى. 

***************************************************************

المبحث الثاني القواعد المتعلقة بالعام والمطلق

١- القاعدة الأولى: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

قال الإمام ابن رجب «إن العام إذا ورد على سبب خاص؛ فانه لا يكون مختصاً بهذا السبب بل يكون الحكم فيه عام، وهذا هو مذهب جمهور العلماء 

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- ينظر المعسر إلى حين حالة اليسر؛ حيث أن المدين إذا كان معسراً، لا يطالب بدينه في حالة إعساره وإنما ينظر إلى حالة يساره؛ قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسرة}، وعلى هذا جمهور العلماء، خلافاً لشريك في قوله إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية، والجمهور أخذوا باللفظ العام.

-لا يفرق بين الأم وولدها، وذلك لما ورد عن النبي ﷺ انه سؤل عن الفرع؛ فقال: (هو حق وإن تتركوه حتى يكون بكراً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة، أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلصق لحمه بوبره، وتكفئ إناءك وتوله ناقتك)، قال ابن رجب «وهو عام في بني آدم وغيرهم، مع انه ورد لسبب خاص وهو ذبح الفرع».

- فضل صلاة العشاء: يستدل بها على فضل قيام الليل، عن أنس أنه قال: «كان -يعني أصحاب النبي ﷺ -ينتظرون بين المغرب والعشاء فنزل قوله تعالى: {تتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَْ}، ولكن نجد النبي ﷺ، قال: (صلاة الرجل في جوف الليل) ثم تلا: {نَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وبذلك يكون النبي ﷺ قد حمل الأجر العظيم المرتب على صلاة العشاء على صلاة الليل (قيام الليل)، وحمله على عمومه دون النظر إلى سبب نزول الآية.

لذلك قال الإمام ابن رجب: وكل هذا يدخل في عموم لفظ الآية، فان الله مدح الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لدعائه، فيشمل ذلك كل من ترك النوم بالليل لذكر الله ودعائه، فيدخل فيه من صلى بين العشائين، ومن انتظر صلاة العشاء فلم ينم حتى يصليها، لا سيما مع حاجته إلى النوم، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، وقد قال النبي ﷺ لمن انتظر صلاة العشاء «إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة»، ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل لتهجده.

___________________________________________

٢- القاعدة الثانية: (تخصيص العام بخبر الآحاد)

رأي الإمام ابن رجب: أن الخبر الخاص إذا كان احاداً يقدم على العام؛ قال رحمه الله: «لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين؛ فلا يبطل الظاهر حكم النص». 

ومعنى قول ابن رجب أن دلالة النص الخاص أقوى من دلالة النص العام؛ حيث أن النص الخاص في دلالته قطعي، وإن كان ظني الثبوت؛ كخبر الآحاد، أما العام فان دلالته ظنية، لاحتمال أن يخصص، وإن كان ثبوته قطعياً؛ كالقرآن والخبر المتواتر وهذا عند الجمهور. ولذلك قال ابن رجب: "عند الأكثرين"، أما الحنفية فلا يخصص عندهم العام بخبر الآحاد، لأن العام عندهم قطعي

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- لا يقتل المسلم بالكافر، سواء أكان ذمياً أو معاهداً؛ حيث أن العام ورد بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس}، وقوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدى ثلاث النفس بالنفس»؛ فالصيغتان الواردتان في الآية الكريمة والحديث الشريف عامتان؛ خُصصتا بقوله: «لا يقتل المسلم بالكافر». 

-حديث: (لا وصية للوارث)، قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَين}؛ فهذه الوصية تشمل الجميع إلا أن الحديث خصص الوارث؛ وأخرجه من عموم من يوصى له، فلا يوصى له وذلك بقوله: (اعط لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث).

___________________________________________

٣-القاعدة الثالثة: (حمل المطلق على المقيد) 

نجد أن الإمام ابن رجب: يحمل المطلق على المقيد في عدة مواضع من كتابه مما يترتب عليه آثار كثيرة.

ومن تلك المواضع:

- أن المرتد الذي يقتل، لابد أن يكون محارباً لله ورسوله، وذلك لورود حديثين: أحداهما مطلق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة)،  وجاء في حديثين آخرين مقيداً بالمحاربة لله ورسوله، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى الخصال: زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الاسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض» وفي حديث عائشة (رضي الله عنها) قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا في احدى ثلاث، زنا بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً الله ورسوله فإنه يقتل او يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها».

 فالحديثين الأخيرين وردا مقيدين للمرتد، بأن يقتل إذا كان محارباً لله ورسوله، أما الأول فورد مطلق بأن المرتد يقتل مطلقاً، وهنا لا بد ان يحمل المطلق على المقيد، قال الإمام ابن رجب «وهذا يدل على أن من وجد منه الحرب من المسلمين خير الإمام فيه مطلقاً»

- إن الذي يقول: (لا إله إلا الله) لا بد أن يقولها مخلصاً وصادقاً من قلبه؛ لتكون سبباً لدخول الجنة، وقد وردت أحاديث مطلقه، بأن الذي يقول: لا إله إلا الله، يدخل بها الجنة، ومنها:

حديث أبي ذر، قال: قال النبي ﷺ: «ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قالها ثلاثاً ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر؛ فخرجت أقول: وإن رغم أنف أبي ذر».

وفي حديث عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله ﷺ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة، على ما كان من العمل»

ومن حديث أبي سعيد: أن النبي ﷺ قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة».

وقد وردت أحاديث مقيدة، ومنها حديث عتبان بن مالك، عن النبي ﷺ: «إن الله قد حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله». فهذا الأحاديث المقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص تقيد ما أطلق في الأحاديث الأولى.

قال: الإمام ابن رجب هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص 

***************************************************************

المبحث الثالث القواعد المتعلقة بدلالة الألفاظ

١- القاعدة الأولى: (إشارة النص حجة) 

إشارة النص: هو دلالة اللفظ على لازم غير مقصود للمتكلم ولا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته.

وبعبارة أخرى: أن يفهم من الكلام أمر خارج لم يُسَق الكلام لأجله، ولكن يعرف من خلال التأمل والنظر؛ فهو ضرب من ضروب البلاغة وموطن من مواطن الإعجاز في القرآن والسنة وقد ذهب الى الاستدلال به جمهور العلماء.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

-ونجد أن الإمام ابن رجب استدل به في قوله ﷺ: (أن تلد الأمة ربتها)؛ فقال: إن أم الولد لا تباع؛ وأنها تعتق بموت سيدها بكل حال، لأنه جعل ولد الامة ربها؛ فكأن ولدها، هو الذي اعتقها فصار عتقهما منسوباً إليه، لأنه سبب عتقهما فصار كأنه مولاها.

فالحديث ذكر علامات الساعة، ولم يقصد بيان حكم أم الولد، ولكن استنبط الإمام ابن رجب ذلك من طريق إشارة النص. 

-وقوله: في الفتن «أن المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي»، قال الإمام ابن رجب: وإن كان هذا وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن، إلا أن المعنى: إلا من كان اقرب الى الاسراع فيها ، فهو شر ممن كان ابعد من ذلك.

_______________________________________

٢- القاعدة الثانية: (مفهوم الموافقة حجة)

مفهوم الموافقة: هو أن يكون اللفظ في محل السكوت، موافقاً لمدلوله في محل النطق.

قال الامام ابن رجب: وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُيْ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}؛ فإن دخول ما هو اعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى ويسمى ذلك مفهوم الموافقة،  وهذه القاعدة حجة عند جمهور العلماء.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- ميراث البنتين الثلثان، وذلك لأن الاختين يرثان الثلثان؛ لقوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُتَانِ ممَا تَرَكَ}؛ فيكون ميراث البنتان الثلثان من باب أولى، وذلك لانهما أقرب إلى المتوفى.

- الكلالة، وهو من لا ولد له ولا والد يرثه، مع أن الذي ذكره في الآية هو نفي الولد، قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ إِنِ امْرُوا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ ترك}، قال ابن رجب: وتنصيصه سبحانه على انتفاء الولد تنبيه على انتفاء الوالد بطريق أولى؛ لان انتساب الولد الى والده أظهر من انتسابه الى ولده.

- وجوب الإحسان الى الصاحب في الحضر: وذلك بناء على قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَنَنَا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنب}، فسر ابن عباس الصاحب بالجنب، بأنه الرفيق في السفر.

قال الإمام ابن رجب: ولم يرد بالصاحب في السفر إخراج الصاحب الملازم في الحضر، إنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى.

_______________________________________

٣-القاعدة الثالثة: (دلالة الاقتضاء حجة)

هي دلالة اللفظ على معنى خارج، يتوقف عليه صدقه أو صحته الشرعية أو العقلية، حيث أن الاقتضاء: هو الطلب، والنص قد يطلب زائداً عليه؛ ليصح المنصوص عليه، فلا يفهم من النص شيءٌ حتى يقدر ذلك المقتضى. 

فإما أن يتوقف عليه صدق الكلام؛ كقول النبي ﷺ: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أي لا يؤاخذون بذلك، ولا يعني رفعه عدم وقوعه، لأنه واقع في الأمة لذلك لابد من تصحيحه لصدق الكلام فيكون التقدير رفع الإثم او رفع الحكم.

أو يتوقف عليه صحته الشرعية؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ} أي نكاح أمهاتكم. أو يتوقف عليه صحته العقلية كقوله تعالى: {وَسَئَلِ الْقَرْيَةَ} أي اسأل أهل القرية.

 نماذج تطبيقية على القاعدة: 

- تحريم ثمن كلب الصيد، وذلك لحديث جابر أن النبي ﷺ «نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد»، ذكر رحمه الله: إن الحديث اشتبه على بعض الرواة فظنوا أن الاستثناء للبيع وهو ليس كذلك وإنما هو للاقتناء؛ فيكون تقدير الحديث: إلا اقتناء كلب صيد وليس تقديره إلا ثمن كلب الصيد.

- وجوب الإحسان بالولاية على كل شيء، وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، والمعنى: أن الله كتب الإحسان في كل شيء أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء؛ فمن تولى ولاية وجب عليه الإحسان فيها، حيث أن المكتوب غير مذكور، والذي ذكر هو المحسن إليه. 

- حرمة الانتفاع بشحوم الميتة، وذلك أن الرسول ﷺ سئل؛ فقيل له: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: (هو حرام)، فالضمير يقدر بالانتفاع بها، وهو ما نقله ابن رجب عن الجمهور وأقرهم.

_______________________________________

القاعدة الرابعة: (مفهوم المخالفة حجة)

تعريف مفهوم المخالفة: هو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق، وذلك لوجود قيد من صفة أو شرط أو عدد.

قال الإمام ابن رجب: وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة ، والضمير في قوله (دلالته) يعود الى اللفظ فهو أصل لمفهوم المخالفة، ثم نجده بناء بعض المسائل الفقهية عليه مما يدل على حجيتها عنده وهو مذهب جمهور العلماء خلافاً للحنفية والظاهرية.

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- لا زكاة في غير السائمة أي المعلوفة، واستدل بقول النبي ﷺ: «في الغنم السائمة زكاة»، فجاءت الغنم بوصف السوم فدل على أن غير السائمة المعلوفة لا زكاة فيها.

- أن العمل الذي جاء موافقا لهدي النبي ﷺ مقبول، قال رحمه الله في شرح الحديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع ، فهو مردود ويدل بمفهومه على أن كل من عليه أمره غیر مردود.

-بوجود فرع وارث لا يكون للأخت نصف الميراث فرضاً، قال تعالى: {إِنِ امْرُوا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}. قال الإمام ابن رجب: يعني إذا لم يكن للميت ولد بالكلية، لا ذكر ولا انثى؛ فللأخت حينئذ النصف مما ترك فرضاً، ومفهوم هذا انه إذا كان له ولد فليس للأخت النصف فرضاً.

_______________________________________

٥-القاعدة الخامسة: (الكناية يشترط فيها النية)

الكناية: هو ما استتر المعنى المراد منه بالاستعمال.

نماذج تطبيقية على القاعدة: 

- لا يقع الطلاق في الكناية ما لم ينو بقلبه الطلاق، قال الامام ابن رجب: وكذلك قد تدخل النية في الطلاق والعتاق؛ فإذا أتى بلفظ من الفاظ الكنايات المحتملة للطلاق او العتاق، فلا بد له من النية. ويدل على ذلك ما روى عن عمر له، أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته شبهني، قال: كأنك ظبية، كأنك حمامة، فقالت لا أرضى، حتى تقول: أنت خلية طالق، فقال ذلك، فقال عمر خذ بيدها فهي امرأتك. 

ونقل الإمام عن أبي عبيد قوله أراد الناقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها ويخلى عنها فهي خلية من العقال وهي طالق، لأنها قد انطلقت منه، فأراد الرجل ذلك فأسقط عنه الطلاق لنيته، قال: وهذا أصل لكل من تكلم بشيء، يشبه لفظ الطلاق والعتاق عمر، وهو ينوي غيره»

- لا يؤاخذ المظلوم بقوله إذا كان مخالفاً؛ لنيته عند استعمال لفظ الكناية، أما حديث رسول الله ﷺ اليمين على نية المستحلف، قال ابن رجب «هذا محمول على الظالم، أما المظلوم فينفعه ذلك، ويستدل له بحديث سويد بن حنظلة قال «خرجنا نريد رسول الله ﷺ ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس يحلفوا، فحلفت أنا انه آخي فخلى سبيله، فأتينا النبي ﷺ قال صدقت المسلم أخو المسلم»

***************************************************************

المبحث الرابع: القواعد المتعلقة بأدلة الأحكام 

١-القاعدة الأولى: (إجماع الصحابة حجة)

تعريف الإجماع لغة الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه، ويطلق على العزم، كما في قوله تعالى: {فَاجْمِعوا أَمْرَكُمْ}، أما تعريف الإجماع اصطلاحاً هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع. 

وإجماع الصحابة: هو ما اتفق عليه اصحاب النبي ﷺ، وهو حجة بالاتفاق، ولم يعرف عن أحد رد إجماع الصحابة إلا ما نسبه الشوكاني عن بعض المبتدعة ورد عليهم بقوله: «وهو قول لا يجوز خلافه، أي اجماع الصحابة؛ لأن الاجماع انما يكون عن توقيف والصحابة، هم الذي شهدوا التوقيف». 

رأي الإمام ابن رجب رحمه الله: وبكل حال، فما جمع عمر عليه الصحابة فاجتمعوا عليه في عصره فلا شك انه الحق، ولو خالف وقد استدل ابن رجب بقول النبي ﷺ إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.

وقوله: ﷺ: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد ذلك من خالف بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- ما قضاه عمر بمحضر من الصحابة ولم يعرف له مخالف، أو ما جمع عليه اصحاب النبي ﷺ ومن ذلك قضاؤه في زوج وأبوين وزوجة وأبوين: أن للأم ثلث الباقي.

- ومن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي.

- وما جمع عليه الناس في الطلاق الثلاث.

- وفي تحريم متعة النساء - زواج المتعة.

- وما وضعه في أرض العنوة يمضي في نسكه جمع من خراج ونحو ذلك.

- وفي عصر عثمان -رضي الله عنه -آذان الجمعة الأول؛ حيث زاده عثمان لحاجة الناس إليه وجمعه الناس على مصحف واحد وإعدامه لمن خالفه خشية تفرق الامة.

_______________________________________

القاعدة الثانية: (القياس حجة):

القياس لغة: هو التقدير، يقال فلان يقاس بفلان ولا يقاس بفلان ويقال قاس الأرض لذا قدرها به، ويأتي ويرد المساواة بين شيئين.

تعريف القياس اصطلاحاً: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما او نفيه عنهما بجامع حكم أو صفة أو نفيهما عنهما؛ فالقياس يتعدى الحكم من الأصل إلى الفرع لوجود العلة وعبر عنه ابن رجب بقوله «فانه يتعدى الحكم الى كل ما وجد في ذلك المعنى وقد ذهب الى جمهور العلماء إلى حجية القياس

رأي الإمام ابن رجب أن الحكم قد تكون دلالته من باب القياس، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عنده، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله وأمر بالاعتبار به».

ونجد أن الإمام ابن رجب ذكر أركان القياس، وهي: 

١. الأصل وذلك بقوله: فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني فجمهور العلماء: ((أن المنصوص عليه هو الأصل)). 

٢. حكم الأصل: هو الحكم الذي نص الشارع عليه.

٣. العلة: وهو المعنى الذي يوجد في الأصل (المنصوص عليه).

٤. الفرع: وهو غير المنصوص عليه، ولكن وجدت العلة فيه وعبر عنها الإمام ابن رجب بالمعنى الموجود في غيره (أي غير الحكم).

نماذج تطبيقية على القاعدة:

- تحريم الحشيشة قياساً على الخمر، وذلك في حديث (كل مسكر خمر)، قال ابن رجب: وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره.

- جعل حد الخمر ثمانين جلدة وذلك قياساً على حد القذف الموجب للجلد ثمانين جلدة وذلك بقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَوْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَلَة فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً} وذلك لان السكر يكون فيه مظنة الافتراء. 

- تحريم جميع أنواع الغش والتدليس في البيع قياساً على النجش المنصوص عليه بنهي النبي ﷺ عن النجش، وقوله ﷺ: (ولا تناجشوا)، قال ابن رجب «فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه، كتدليس العيوب وكتمانها وغش المبيع الجيد بالرديء وغبن المسترسل الذي لا يعرف المماكسة.

- جواز أكل الضيف من المال الذي يقدمه العبد وإن لم يعلم بذلك السيد، وذلك قياساً على جواز إجابة دعوة العبد المأذون له بالتجارة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يجيب دعوة المملوك، وحيث أنه أجاب دعوته وأكل من طعامه بدعوة من العبد، فان نزل به الضيف كان القياس جواز الأكل منه لأن اكرام الضيف في اليوم الاول - يوم الجائزة أوجب من الدعوة.

_______________________________________

٣-القاعدة الثالثة : (الاستدلال بقياس العكس)

تعريف قياس العكس: إثبات عكس حكم شيء لمثله لتعاكسهما في العلة، أو ما يستدل به على نقيض المطلوب، ثم يبطل، فيصح المطلوب.

وقد مثل لها الإمام ابن رجب رحمه الله بقول النبي ﷺ: «وفي بضع أحدكم صدقة؛ فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال ﷺ أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا نعم، قال: فكذلك اذا وضعها في الحلال كان له أجر».

 فقال: هذا عند الأصوليين قياس العكس. ومعنى ذلك أن هناك حكم ثابت وهو الوزر في حالة الوضع في الحرام؛ فالحكم الوزر، والعلة الوضع في الحرام، فإذا انعكست العلة وصار الوضع في الحلال انعكس الحكم وصار ثبوت الأجر.

وقد استدل به بعض العلماء، وقد ورد في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيمَاءَ الهَهُ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا}، وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، وذهب آخرون الى انه دعوة دليل وليس دليلاً (181) ، وما اختاره الامام ابن رجب أنه دليل واحتج به للحديث.

نماذج تطبيقية على قياس العكس:

-دخول الجنة لمن لم يشرك بالله شيء ودخول النار لمن اشرك بالله، قال ابن رجب ومنه قول ابن مسعود له قال النبي ﷺ كلمة وقلت أنا اخرى قال «من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار وقلت: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، وفي رواية «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة » قلت ابن مسعود: من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار.

ففي الحديث الأول، الحكم هو دخول النار والعلة هي الإشراك بالله فرأي ابن مسعود أن الحكم دخول الجنة اذا كانت العلة عدم الإشراك بالله وهذا بعينه قياس العكس

وفي الحديث الثاني: الحكم هو دخول الجنة والعلة هي عدم الإشراك بالله؛ فرأى ابن مسعود هو حكم دخول النار لوجود علة الإشراك بالله.

_______________________________________

٤- القاعدة الرابعة: (حجية سد الذرائع)

الذريعة لغة: لفظ مستعار، ويستعمل في كل أمر ظاهر السلامة يتوصل به إلى المقصود يقال تذرعت بكذا إلى كذا أي اتخذته وسيلة إليه.

الذريعة اصطلاحاً: ما ظاهره مباح يتوصل به إلى محرم، وهو رأي الإمام ابن رجب يرى الإمام ابن رجب على تحريم سد الذرائع قال رحمه الله: (إن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة كعقود البيوع التي يقصد بها الربا ونحوه).

وقال في شرح حديث (من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام) ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها. 

نماذج تطبيقية عن قاعدة سد الذرائع:

 - تحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سداً لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها.

-منع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك الشهوة.

-تحريم الخلوة بالأجنبية.

- منع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها إلا من وراء حائل.

- تحريم قليل ما أسكر كثيره.

_______________________________________

٥-القاعدة الخامسة: (حجية الاستصحاب)

تعريف الاستصحاب لغة: بمعنى طلب الصحبة، وكل شيء لازم شيئاً استصحبه، وهو عبارة عن بقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغير.

تعريف الاستصحاب اصطلاحاً: هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على انه كان ثابتاً في الزمان الأول، في حالة عدم وجود ما يدل على تغيير الحكم، أي أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل.

وهو مأخوذ من المصاحبة وهذا النوع يسمى استصحاب العدم الاصلي وهو الذي احتج به الإمام ابن رجب رحمه الله؛ فقال: ما أصله الاباحة كطهارة الماء والثوب والارض إذا لم يتيقن زوال أصله فيجوز استعماله، ثم قال «وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم  الحيوان، فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد فيبنى ما اصله الحرمة على التحريم، وما أصله الحل الى الحل.

 نماذج تطبيقية على القاعدة:

- طهارة الماء والأرض والثوب والبدن ما لم يحدث نجاسة فيهن فالأصل فيهن الطهارة وما يدل على ذلك أن رجلاً كان يشك في الصلاة يخيل أن يجد الشيء في الصلاة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (لا تنصرف حتى تسمع صوتاً أو تجد ريحاً) وهذا يعم في الصلاة وغيرها.

-حرمة أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه أو کلب غير كلبه، لأن الأصل في الحيوان الحرمة ما لم يقم دليل على اكل ولا يكون ذلك إلا بالصيد بسهم او بكليه.