أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 مايو 2023

الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات عبد الحفيظ الفاسي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات

عبد الحفيظ الفاسي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لقد أتاحت لنا كتب المعاجم والفهارس، فرصةً للتعرف على ما كان عليه علماؤنا الأفذاذ من سؤدد وكمال، واستقامة وتقوى، وما انطوت عليه نفوسهم من صدق اللهجة، ومعالي الأمور، وكيف نهضوا بهذا العلم الشريف إلى أن ارتقوا به إلى معارج الكمال، وكانت هذه الفهارس والمعاجم طريق آخر لدرس التاريخ، والنظر في سير هؤلاء العظماء، ومدى اطلاعهم على العلوم، وتبحرهم في الفنون.

وكان هذا العلم الشريف هو البذرة الأصيلة، التي انطلق منها علماؤنا للرد على طوائف المبطلين والمفسدين، ليكون السد المنيع أمام أصحاب الأنفس الطاغية، والأحلام الطائشة، والألسنة المقذعة، والوجوه التي هي في غير الخير ساعية، فميزوا بواسطته ما في الأحاديث من زخارف وعلل، وبينوا غريب الألفاظ، وكشفوا عن نقاب المعاني، وكل ذلك لعلمهم أن طلبه متصل بطريق السعادة، ولذلك ارتكبوا في سبيل تحصيله الأخطار والشدائد، وارتكبوا المشاق وتحملوا الأهوال.

وقد تناول المؤلف -رحمه الله -جملة من الأحاديث المسلسلة بلغت عدتها تسعة وخمسين حديثاً مسلسلاً، مع ذكر إسنادها، وتخريجها، واختلاف ألفاظها، وفوائدها، وبحث بعض مسائلها بنظر ناقد، وبصيرة متقدة، حتى رجّح بين الأقوال، ومايز بين الآراء، بطريقة فذة عبقرية.

وقسم الكتاب إلى قسمين رئيسين، هما: الأحاديث القولية والتي بلغت (ستاً وثلاثين حديثاً)، صدرها بالمسلسل بالأولية، وختمها بالمسلسل بالعنعنة، ثم ذكر بعد ذلك المسلسلات الفعلية، والتي بلغت عدتها (ثلاة وعشرين حديثاً)، صدرها بالمصافحة الإنسية، وختمها بالمسلسل بالآخرية.

هذا ولم يخل الكتاب من الأخطاء الإملائية والكتابية، منها المؤثر ومنها غير المؤثر، وهي قليلة بالنسبة إلى الكتاب وعدتها لا تتجاوز الأحد عشر خطئاً، أشار إليها في المقدمة.

ترجمة الشيخ المؤلف عبد الحفيظ الفاسي

(١٢٩٦ - ١٣٨٣ هـ = ١٨٧٩- ١٨٦٤ م)

هو عبد الحفيظ بن محمد الطاهر بن عبد الكبير الفهري، أبو الفضل الفاسي: قاض من المعنيين بالتأريخ والتراجم والحديث. أندلسي الأصل، من بني الجد. 

ولد وتعلم بمدينة فاس. وقضى زهاء ١٠ أعوام في القضاء الشرعي ثم كان من أعضاء المحكمة الجنائية العليا. وآخر ما وليه القضاء في بلدة (سطات) قرب الدار البيضاء في الطريق الى مدينة مراكش. وانقطع عن العمل يوم استقل المغرب، فعكف على كتبه وأوراقه في منزله بالرباط إلى أن توفي. 

ومن أشهر كتبه (معجم الشيوخ - ط) في جزأين، سماه (رياض الجنة أو المدهش المطرب)، و(خبايا الزوايا - خ) قال ابن سودة: يخرج في ٤ مجلدات، في التراجم ومراسلات معاصريه. وله (الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات - ط)، و(التاج - ط) مختصر في ذكر من اسمه محمد من ملوك الإسلام، وضعه حينما ولي السلطان محمد بن يوسف عرش المغرب، و(أشهر مشاهير العائلات بالمغرب) أشار اليه في كتابه (معجم الشيوخ) ونشر بعضه في جريدة السعادة قديماً و(الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب) و (أربع رسائل في إبطال المهدوية) و(شذور العسجد في ذيل عناية أولي المجد بذكر الفاسي ابن الجد - خ) فرغ منه سنة ١٣٢٩ هـ و (خاطرات مريض - ط) رسالة و (فلسفة تاريخ دول المغرب) ذكره في حديث له بدمشق.

إسنادي إلى الشيخ عبد الحفيظ الفاسي

أرويه إجازة عن الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري الحسني -وقد أجاز لأهل عصره عامة، وكانت وفاته في العام اثنين وتسعين وتسعمائة وألف، وذكرها في أخر صفحة لرسالته الأربعين حديثا الصديقية ص ٦٥ طبعة مكتبة القاهرة ١٣٧٣ هـ، عن الشيخ عبد الحفيظ بن محمد الطاهر بن عبد الكبير الفاسي رحمه الله تعالى بهذا الفرس.

وإليك بعض التعليقات التي ذكرها المؤلف على هذا الكتاب.

المقدمة

نحمد الله تعالى على ما أولى من النعم وأسدى * ونشكره قولاً وفعلاً على ما إليه هدى * ونسأله أن يواصل وصول الصلوات * ومسلسل التسليمات على سيدنا محمد النعمة العظمى والرحمة المهداة * وعلى آله وأصحابه النجوم الهداة * وأدعوه تعالي بأسمائه الحسنى * وصفاته العلى * أن يختم لنا ولكم بالحسنى * ويبوأنا جميعاً المقر الأسنى * أما بعد:

فقد روينا في جامع الترمذي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (نضر الله امرئ سمع منا شيئاً، فبلغه كما سمعه؛ فرُبَّ مُبَلّغ أوعي من سامع)؛ وفي رواية له عنه: (فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه).

وروينا في المعجم الأوسط للطبراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت علي ابن أبي طالب -كرم الله وجهه -وعليه السلام، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم خلفائي)، قلنا من خلفاؤك؟ قال: (الذين يأتون بعدي يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس).

وإنني اغتناماً، لنيل دعوته صلى لله عليه وسلم -لمن سمع وروى، وقام بالتبليغ والتحديث، ورجاءً للدخول في زمرة خلفائه -صلى الله عليه وسلم -وهم أهل الحديث، أردت أن أجمع ما روينا من المسلسلات، على اختلاف أنواعها، وتكاثر طرقها ولقد كنت بحمد الله منذ بداية الطلب حريصاً على روايتها، وسماعها من رواتها؛ حتى حصلت بعون الله على رواية جميع ما ورد من كافة أنواعها، إما بالسماع بشرطه، أو بالإجازة الخاصة بها، والأذن فيها حسبما يعلم كل ذلك مما يأتي مفصلاً بعدُ إن شاء الله.

وقد جمعها وألف فيها جمعٌ، لا أحصيهم عداً؛ كالإمام أبي نعيم، وأبي بكر بن شاذان، وأبي بكر بن العربي المعافري، وأبي القاسم بن بشكوال، وعبد المؤمن الدمياطي، وأبي بكر بن مسدي، وأبي محمد الديباجي، وأبي سعيد العلامي، وأبي طاهر السلفي، وابن الطيلسان، وأبي الخير ابن الجزري، والشمس السخاوي، والجلال السيوطي، والنجم الغيطي، والتقى بن فهد، والبرهان الكوراني، وأبي سالم العياشي، ومحمد بن عبد الرحمن الفاسي، ومحمد بن الطيب الشركي، ومحمد بن عقيلة، وأبي الفيض مرتضى، ومحمد الامير، ومحمد صالح الرضوي البخاري، ومحمد عابد السندي، وأبي المحاسن القاوقجي، ومحمد بن علي السنوسي، وغيرهم ممن يأتي ذكرهم في هذا الجزء إن شاء الله تعالى؛ وسأوردها هنا علي ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما كان بصفة الرواية القولية كالمسلسل بالأولية، وقراءة سورة الصف، وما شاكلها. 

القسم الثاني: ما كان بصفة الرواية الفعلية؛ كالمسلسل بالمصافحة، والتشبيك ونحوهما.

القسم الثالث: ما كان بصفة الرواة في أسمائهم، ونسبهم، أو ذكر أوطانهم ومذاهبهم، وما قاربها؛ سلكت هذا المسلك وان لم أسبق إليه، جمعاً للنظائر، وتسهيلاً على الباحث للوقوف على ما يريد معرفته منها، ذاكراً عند كل واحد منها مخرجه، وشواهده، وشارحاً متنه ومسائله وفوائده، لا كما يفعله أرباب الفهارس والمسلسلات، فإنهم إنما يذكرونها مجردةً غالباً، وبعضهم يزيد تخريجها.

والله أسأل أن يوفق ويمنّ على التمام بمنه وعونه آمين .

وهاهنا مقدمة في تعريف المسلسل، لابد منها، ألخص فيها مهمات المصطلح فيه حتى يكون الطالب على بينة منه؛ فنقول: 

المسلسل في اللغة والاصطلاح

(المسلسل) في اللغة: المتصل من غير انقطاع، وسلسلته: صببته متصلاً بعضه ببعض، وتسلسل الماء في الحوض: جرى في حدود أو صبب.

(والتسلسل عند أهل الحديث): من نَمَوتُ الإسناد، وهو عبارة عن تتابع رجال الإسناد وتواردهم فيه، واحداً بعد واحد، على صفة واحدة، أو حالة واحدة للرواة تارة، وللرواية تارة أخرى، وصفات الرواة وأحوالهم أيضاً، إما: أقوال أو أفعال، أو هما معاً، وصفات الرواية: إما أن تتعلق بصيغ الأداء، أو زمنها أو مكانها، وله أنواع كثيرة غيرهما.

أنواع الحديث المسلسل

قال ابن الصلاح -في مقدمته علوم الحديث: إن الحافظ ابا عبد الله الحاكم نوعه إلى ثمانية أنواع، ثم قال: والذي ذكره فيها إنما هو صور وأمثلة، ولا انحصار لذلك في ثمانية كما ذكرناه انتهى.

لكن اعترضه الحافظ زين الدين العراقي في شرحه: بأن الحاكم لم. يحصر مطلق أنواع التسلسل إلى ثمانية أنواع، وإنما ذكر أنواع التسلسل الدالة على الاتصال؛ لانطباق التسلسل عليها، ويظهر ذلك بعدِّها، وتعبيره عنها:

فالأول المسلسل بسمعت، والثاني المسلسل بقولهم قم، فصب علي حتى أريك وضوء فلان، والثالث المسلسل بمطلق ما يدل على الاتصال من سمعت أو أنا أو ثنا -وإن اختلفت ألفاظ الرواة في ألفاظ الأداء، والرابع المسلسل بقولهم، فإن قيل لفلان: من أمرك بهذا؟ قال: يقول امرني فلان، والخامس المسلسل بالأخذ باللحية، وقولهم: آمنت بالقدر خيره وشره، والسادس المسلسل بقولهم: وعدهنَّ في يدي، والسابع المسلسل بقولهم: شهدت على فلان، والثامن المسلسل بالتشبيك باليد، ثم قال الحاكم: فهذه أنواع المسلسل من الأسانيد المتصلة، التي لا يشوبها تدنيس وآثار السماع بين الرواة ظاهرة انتهى.

ثم قال العراقي: فلم يذكر الحاكم من المسلسلات، إلا ما دلَّ على الاتصال دون استيعاب بقية المسلسلات انتهى.

بسط أمثلة لأنواع من المسلسلات

وقد بسط أمثلة أنواع المسلسل الإمام النووي في التقريب، وشارحه الجلال السيوطي في التدريب؛ فقإلا بعد ما عرفاه: فالمسلسل بأحوال الرواة الفعلية؛ كمسلسل التشبيك باليد وهو حديث أبي هريرة شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال: خلق الله الأرض يوم السبت الحديث؛ فقد تسلسل لنا تشبيك كل واحد من رواته بيد من رواه عنه، والعد فيها وهو حديث اللهم صلِّ على محمد إلى آخره مسلسل بعد الكلمات الخمس في يد كل راو، وكذلك المسلسل بالمصافحة والأخذ باليد ووضع اليد على رأس الراوي، والمسلسل بأحوالهم القولية؛ كحدیث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا معاذ إني احبك؛ فقل في دبر كل صلاة: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، تسلسل لنا بقول كل من رواته: وأنا أحبك، فقل.

والمسلسل بهما معاً كما في حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على لحيته، وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكذا كل راو من رواة والمسلسل بصفاتهم القولية؛ كالمسلسل بقراءة سورة الصف ونحوه.

قال العراقي: وصفات الرواة القولية وأحوالهم القولية متقاربة، بل متماثل ،والمسلسل بصفاتهم الفعلية كاتفاق أسماء الرواة كالمسلسل بالمحمدين، أو صفاتهم أو نسبتهم؛ فالثاني كأحاديث رويناها كل رجالها دمشقيون، أو مصريون، أو كوفيون، أو عراقيون، والأول كالمسلسل بالفقهاء مطلقاً، أو الشافعيين، أو الحفاظ، أو النحاة، أو الكتاب، أو الشعراء، أو المعمرين، وصفات الرواية المتعلقة بصيغ الأداء؛ كالمسلسل بسمعت فلاناً أو أخبرنا فلان، والله وأشهد بالله سمعت فلاناً يقول ذلك، كل راو منهم.

والمتعلقة بالزمان؛ كالمسلسل بروايته يوم العيد، وقص الأظفار يوم الخميس، ونحو ذلك وبالمكان: المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم انتهى.

أفضل المسلسلات وفضيلتها

وأفضله ما كان فيه دلالة على اتصال السماع، وعدم التدليس.

ومن فضيلته: اشتماله على مزيد الضبط من الرواة؛ فقلما تسلم المسلسلات من ضعف وخلل أي في وصف التسلسل لا في أصل المتن؛ لأن أصله قد يكون صحيحاً، ومثّلوا لذلك بالمسلسل بالمشابكة، وقالوا: إن متنه في صحيح مسلم، والتسلسل فيه مقال لكن سيأتي لنا عند ذكره أن المتن باطل أيضاً، وإن كان في صحيح مسلم.

وقد قال بعضهم: أن الصحة ليست مطلوبة في المسلسلات، بل يكتفي بالحسن والضعف؛ وذلك أن الأئمة يتساهلون في رواية الأحاديث الضعيفة إذا كانت في فضائل الأعمال والرقائق والآداب مثل المسلسلات، وإنما يشددون في أحاديث الأحكام كما هو معلوم انتهى.

قلت: وليس كما قال؛ فإن الكثير من المسلسلات من أحاديث الأحكام صحيحة كما يأتي بيانه، إلا أنهم لما كانوا يذكرونه لأجل التفنن في الرواية والتبرك، تساهلوا في ذلك، ولو كانوا يروونها لأجل الاستنباط كما هي عادة فقهاء أهل الحديث لتشددوا في روايتها.

 وقد استشكل بأن زيادة الضبط تنافي الضعف؟ وأجيب: بأن تلك الفضيلة بحسب الأصل، إلا أنه قد انعكس الأمر، ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في وسط إسناده، أو أوله أو آخره وذلك نقص فيه؛ كالمسلسل بالأولية، فإن التسلسل فيه ينتهي إلى عمرو بن دينار على ما هو الصحيح حسبما سيأتي إيضاحه قريباً إن شاء الله تعالى، ولنشرع في المقصود مستعينا بالله تعالى وحده.

الكلام على المسلسل الأول، وهو الحديث المسلسل بالأولية

(المسألة الأولى: في تسلسل هذا الحديث):

وهذا الحديث يتسلسل إلى سفيان بن عُيينة، ومن سلسله إلى منتهاه فهو إما مخطئ أو كاذب ولقد أحسن الخطيب النويري حيث يقول:

سمعنا حديثاً مسنداً ومسلسلاً … بأول  مسموع لنا قد تسللا

وصحح عن سفيان دون تسلسل… إلى خير مبعوث إلى الناس مرسلا 

بقول ارحموا خلق الإله لترحموا  … ومن يرحم أهل الأرض يرحمه الملا 

وقد جمع طرق هذا الحديث وخصه بالتصنيف جماعة من الأئمة الأعلام؛ كابن الصلاح ومنصور ابن سليم، وأبي القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي، وأبي طاهر السلفي، وحافظ الإسلام الذهبي في جزء سماء العذب المسلسل في الحديث المسلسل، والإمام تقي الدين السبكي، وابن ناصر الدمشقي، وسراج الدين عمر بن الملقن، والحافظ زين الدين العراقي، وولده ولى الدين أبي زرعة، وأبي الفتح اللخمي وسماه العقد المفصل في الحديث المسلسل، والحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن الأبار القضاعي الأندلسي، وسماه المورد المسلسل في حديث الرحمة المسلسل، وأبي البقاء خالد البلوى وغيرهم من المتقدمين، والمتأخرين، ومنهم: الحافظ أبو الفيض مرتضى الزبيدي، وسمى جزأه المرقاة العلية في شرح الحديث المسلسل بالأولية.

(المسألة الثانية في الكلام على بعض ألفاظه ومعانيه)

قوله صلي الله عليه وسلم (يرحمكم)، المشهور في روايته الرفع؛ فالجملة دعائية مستأنفة، قالوا: ولا يمتنع الجزم في جواب الأمر، قال العجلوني في ثبته: ومقتضى قولهم: أن الجزم لا يمتنع أن الرواية الثابتة بالرفع، وعدم امتناع الجزم إنما هو من حيث الصناعة لا الرواية، لكن أخبرني صاحبنا الشيخ محمد الجوهري المصري، أن والده ألّف في هذا الحديث رسالة، ونقل فيها أن الرواية جاءت بالوجهين أهـ.

(قلت المراد بوالده الشهاب أحمد الجوهري، ومقتضى ما نقله عنه الأمير في فهرسته الاقتصار على الرفع فانظره) وقال الشهاب أحمد بن عبيد العطار بعد نقله لكلام الشيخ محمد الجوهرى: وعلى كل فرواية الضم أبلغ، كما يظهر بالتأمل انتهى.

وقال أبو العباس الهلالي في فهرسته: رويته عن شيخنا العجيمي أكرمه الله يعني الشيخ محمد بن الحسن العجيمي بالرفع على الاستئناف، فسألته عن هذا وأمثاله مما يجوز فيه وجهان أو أكثر في العربية؛ فيروي بوجه واحد. 

وهل يجوز عند مانع الرواية بالمعنى أن ينطق بغير الوجه المروي لخفة هذا التعبير، ولأني رأيت الحافظ في (فتح الباري)، يقول في بعض أمثال ما ذكر: الرواية كذا ويجوز كذا أم يمنع عند المانع سداً للذريعة؟ فأجابني بأنه إذا ثبت أحد الوجوه، فلا ينبغي العدول عنه، وإن كان ليس من باب الرواية بالمعنى، وإن لم يثبت فالتخيير.

ثم رويته عن الشيخ عبد الوهاب بالرفع، وسألته عنه فأخبرني أنه يروى بالوجهين: الرفع على الاستئناف، والجزم على أنه جواب الأمر.

(قلت) هو على الثاني خبر لا غير، وعلى الأول يحتمله -وهو الظاهر -ويحتمل الدعاء كقولهم في تشميت العاطس: يرحمك الله، وقوله في الرد: يغفر الله لنا ولكم، ويجري الاحتمالان في قوله، يرحمهم الرحمن على الصحيح، من صحة مجيء خبر المبتدأ طلباً انتهى.

وقوله (يرحمهم الرحمن)، قال الشيخ علي الخواص: إنما قال الرحمن ولم يقل الرحيم؛ لأن محل الرحيم إنما هو في الآخرة دون الدنيا، فلو قال "الرحيم"؛ لفتر عزم الراحم منا لعدم شهود الجزاء له بالرحمة في هذه الدار؛ فلذلك جاء باسم الرحمن المؤذن بمجازاته على تلك الرحمة التي رحم بها غيره في دار الدنيا انتهى.

وقوله (يرحمكم من في السماء) نقل في المنح البادية عن الخطيب أبي علي، أن المراد به الله تعالى، والمعنى بدلك الإشارة إلى أن الله فوق من طريق الصفات لا من طريق الجهة، فإنها مستحيلة على الله تعالى، وقيل معناه من في السماء أمره وملكه.

واختصت السماء بالذكر -وإن كان أمره وملكه ايضاً في الأرض، تنبيهاً على عظمها في النفوس، وأن الذي يتصرف فيها أمره، وفيها سلطانه، هو الذي له الامر والملك في الأرض حقيقة سبحانه لا إله إلا هو، ويمكن أن يراد بمن في السماء: أهل السماء -كما جاء كذلك في رواية أخرى انتهى.

ومثله قول الشيخ على الخواص: يعني الملائكة يرحمون- من رحم أهل البلايا، وتجاوز عنهم في الدنيا، باستغفارهم له في السماء، وهو قوله تعالى {ويستغفرون لمن في الأرض} انتهى.

(قلت) الأول يتمشى على مذهب أهل الحديث والأثر في آيات وأحاديث الصفات فإنهم يتركونها على ظاهرها، ويؤمنون بها كما جاءت من غير تأويل مع اعتقاد التنزيه، وما بعده يتمشى على مذهب المؤولة من المتكلمين من سائر الفرق؛ فإنهم يحملونها على ما عرف من المجازات، والمذهب الأول -وهو مذهب أهل الحديث -هو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة المجتهدون بعده.

ولا يلزم من اثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى على مذهب أهل الحديث القول بالجهة المستلزمة للحد والجسمية فإن أهل الحديث يفرون من ذلك، وينزهون الباري جل جلاله عن الجهة والجسمية وعن مشابهته تعالى للحوادث، وإن ألزمهم المؤولة ذلك يلزم من قبلهم من باب أولى، وأخرى لأن مستند أهل الحديث هو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين لم يكن يخطر ببالهم عند ذكر تلك الصفات تشبيه وتشكيك، بل كانوا يعلمون أن الحق سبحانه لم يكن مشابها للمخلوقات كما في القرآن {ليس كمثله شيء} فكذلك صفاته لا تماثل ولا تشابه صفات المخلوقات؛ فكانوا يؤمنون بها كما وردت لأن الله تعالى وصف بها نفسه.

وهي لائقة بذاته القديمة الكريمة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه انهم أولوا، أو أخرجوا تلك النصوص عن ظواهرهت، بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، قال للجارية السوداء: (أين الله؟)، فأشارت بإصبعها إلى السماء؛ فقال: (إنها مؤمنة)؛ فهل يقدر أحدٌ ينتمى إلى الإسلام أن يقول إنها مجسمة، أو تعتقد الجهة، لما يلزم عليه من كون النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على معتقدها الباطل -ومعاذ الله -أن يقع ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلي الله عليه وسلم ما بعث إلا لتقديس الله تعالي وتوحيده.

فشيء أقره صلى الله عليه وسلم، وشهد لصاحبه بالإيمان، كيف يسوغ لنا أن ننكر علي من يقول به ونقول إنه يعتقد الجهة والجسمية، بل نعتقد أنه هو المذهب الحق، وندين الله به، ولا نتحول عنه وقد أطلق غير واحد من الأئمة ممن حكي إجماع السلف منهم الخطابي: أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه الرحمة والرضوان -في رسالته المدنية ما نصه: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف، أن هذه الأحاديث تمر، كما جاءت ويؤمن بها، وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل انتهى.

وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية -وهو مجدد مذهب الأشعرية -اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر؛ فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب، وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مرادها، وتفويض معانيها إلى الله، ثم قال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة السلف؛ للدليل القاطع على أن اجتماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين عن الإضراب بالتأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى.

فليسعنا ما وسعهم؛ فإنهم هداتنا وقدوتنا، وقد رضيناهم حجة بيننا وبين الله تعالى، وقلدناهم فيما دون هذا وهو الفروع الفقهية العملية؛ فكيف لا نقلدهم في معتقدنا هذا.

وقد رأيت للعلامة السفاريني في شرح عقيدته كلاماً نفيساً في صفة الفوقية والعلو للعلي الأعلى، التي يقول بها أهل الحديث، ومنه يتبين تنزيههم عن القول بالجهة والتجسيم؛ فلنسقه هنا تتميماً للفائدة، وشرحاً لمعتقدهم الطاهر، قال رحمه الله: ذكر الإمام أبو العباس عماد الدين أحمد الواسطي الصوفي المحقق، العارف تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سرهما: الذي قال فيه شيخ الإسلام إنه جنيد زمانه -في رسالته نصيحة الإخوان -ما حاصله في مسألة العلو والفوقية والاستواء، هو: أن الله عز وجل كان ولا مكان ولا عرش ولا ماء ولا فضاء ولا هواء ولا خلاء، ولا ملاء، وأنه كان منفرداُ في قدمه وأزليته، متوحداً في فردانيته، لا يوصف بأنه فوق كذا؛ إذ لا شيء غيره، وهو تعالى سابق التحت والفوق، اللذين هما جهات العالم، وهما لازمان له، وهو تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته.

فلما اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل، وهو تعالى منزه عن صفات الحدث؛ فكوَّن الأكوان، وجعل جهتي العلو والسفل، واقتضت الحكمة الالهية أن يكون الكون في جهة التحت؛ لكونه مربوباً مخلوقاً، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو تعالى فوق الكون، باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته؛ إذ لا فوق فيها ولا تحت، والرب سبحانه وتعالى -كما كان في قدمه وازليته وفردانيته -ولم يحدث له في ذاته ولا في صفاته ما لم يكن في قدمه وأزليته؛ فهو الان كما كان.

ولما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهة والحدود، والملاذ الفوقية والتحتية، كان مقتضى حكم عظمة الربوبية أن يكون فوق ملكه، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون، لا باعتبار القدم المكون؛ فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة، بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله؛ فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة، وتقع على عظمة الله تعالى.

كما يليق لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في إعلاء جزء من الكون؛ فإنها اشارة إلى جسم، وتلك إلى اثبات، إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له سبحانه وتعالى في قدمه، لكن لم يظهر حكمها إلا بعد خلق العرش، كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله، قال: فإذا علم ذلك، فالأمر الذي تهرب المتأولة منه، حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة والاستواء بالاستيلاء، فنحن أشد الناس هرباً من ذلك وتنزيهاً للباري تعالى عن الحد الذي يحصره؛ فلا يحد بحد يحصره، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته، والإشارة إلى الجهة إنما هي بحسب الكون وسفله؛ إذ لا تمكن الاشارة إليه إلا هكذا، وهو في قدمه سبحانه منزه عن صفات الحدث.

وليس القدم فوقية ولا تحتية، وإنما من هو محصور في التحت لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة، وتنتهي الجهات عند العرش، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكيفه الوهم، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملاُ مثبتاُ مكيفاً لا ممثلاً.

قال: فإذا علمنا ذلك واعتقدناه، تخلصنا من شبهة التأويل، وعمادة التعطيل، وحماقة التشبيه والتمثيل، واثبتنا علو ربنا وفوقيته واستوائه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك، والصدر ينشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وغي، مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها، ووقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه، ولا نقف في ذلك.

قال: وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة؛ فمن وقفه الله للإثبات، فلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف، وقع الأمر المطلوب منه أن شاء الله تعالى، والله أعلم انتهى 

(تنبيه) ذكر أهل التاريخ: أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالي من نزغة الخارجية أولاً، والرافضة ثانياً على مذهب أهل السنة مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة في الإيمان بالمتشابه، وعدم التعرض له بالتأويل اعتقاد التنزيه -كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم، أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة.

فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري  من الجزم بعقيدة السلف، مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالي وکلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخارجية والشيعة والفلاسفة حسبما يعلم ذلك، أولاً بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن الأشعري ؛ كالإبانة في أصول الديانة وغيرها، التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من اتباعه، الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانياً بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألّف فيها التآليف العديدة هو واتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها وجزم بتضليل من خالفها، بل وتكفيره، وسمى أصحابه بالموحدين تعريضاً بأن من خالف عقيدته ليس موحداً، بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب -حسبما هو معلوم.

فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم؛ حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درساً وتاليفاً، والناس على دين ملوكهم إلا أنه بعد ذهاب دولتهم، عاد الناس للمذهب الأول، مع تمسكهم بالمذهب الثاني الذي كان قد رسخ، وصار العلماء يحكونه في الدروس والتآليف كمذهب مقابل، مع نصرتهم للثاني.

واستمر الحال على ذلك إلى هذا القرن؛ حيث انتشرت مؤلفات السلف ومستقلي الفكر، وزعماء الإصلاح الديني من الخلف وأهل العصر بسبب كثرة المطابع وكثر اختلاط أهل المغرب بأهل المشرق بسبب تسهيل المواصلات البرية والبحرية، وظهرت هذه النهضة الدينية المباركة الميمونة، واستقلت الأفكار، وطرحت إلى الاصلاح الديني في كافة الممالك الإسلامية؛ فأخذ المغرب حظه منها، وقامت اليوم فئة من علمائه ناصرة لمذهب السلف ومؤيدة له وداعية إليه في مؤلفاتها ودروسها، يلقنونه بحججه الناصعة، وأدلته القاطعة وصار حديث الناس في أنديتهم ومحافلهم، وظعنهم وإقامتهم، مما يبشر بمستقبل زاهر بحول الله.

وإن كان البعض يتخوف من وقوف هذه الحركة الميمونة؛ لأمرين:

الأول: وجود بعض الجامدين والمغتصبين، الذين يوهمون الناس أن ماهم عليه هو الصراط المستقيم.

الثاني: وجود بعض الدخلاء في صف زعماء حزب الإصلاح؛ فإن دعوتهم، ربما تجر إلى الإلحاد ونبذ الدين، وتكون حجة للفريق الأول في حملهم على أهل الحديث عامة، وأنهم من المبتدعة، ومن اعداء الدين، وأنهم يفسدون عقائد المسلمين.

ولكن لاخوف منها، إذا قام الدعاة الصادقون بنشر مباديهم مؤيدة بالأدلة الصحيحة، وثابروا على عملهم، وتمسكوا بالأخلاق الفاضلة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وأرشدوا الناس لتعاليم دينهم، وسنة نبيهم وسيرة سلفهم ونبذوا المتطرفين الجاهلين؛ حتى يبرهنوا على أنهم أهل للاقتداء، وأن ما يدعون هو الصراط المستقيم، وان هذا الامر لايزال أن شاء الله في ظهور إلى أن تقوم الساعة مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) فنطلب من الله تعالى أن يهدينا لصراطه المستقيم، وأن يميتنا على سنة نبيه وخلفائه الراشدين، وأن يقطع عنا الموانع بمنه وكرمه آمين. 

(المسألة الثالثة: في وجوه مناسبات الافتتاح بحديث الرحمة)

من ذلك ما ذكره ابن الأبار في كتابه المورد المسلسل: وهو أن يعلم طالب العلم أن رحمة الله للرحماء من خلقه؛ فينصح الخاص والعام ،ويرحم المبتلى والمعافي، ويشفق على القريب والبعيد وعلى نفسه خاصة، وذلك من أصول الدين كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) وإذا استقام للعبد هذا الأصل في الدين، استقام له سائره انتهى.

قال أبو سالم العياشي في مسالك الهداية -وهو كلام حسن نفيس جداً -ينبغي الانتباه له، والعمل بمقتضاه، ومنها ما أبداه البرهان إبراهيم الكوراني -وهو سبق الرحمة الغضب، وكتابة الحق لسبق الرحمة؛ فقد ورد في الحديث القدسي: (إن رحمتي سبقت غضبي)، وورد: (أول شيء خطه الله في الكتاب الأول: أنا الله، لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي؛ فمن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فله الجنة)، عزاه السيوطي للديلمي عن ابن عباس، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله بعث رحمة للعالمين، ونوره صلى الله عليه وسلم أول مخلوق -كما في حديث جابر؛ فهو أول سلسلة الكائنات فناسب أن يكون حديث الرحمة أول سلسلة الأحاديث وتمت المناسبة بكونه مسلسلا بالأولية.

(المسألة الرابعة): قال الهلالي بعد ما بين أن هذا الحديث عظيم الفائدة، وأن تفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف ما نصه: فينبغي الاعتناء بروايته، وإن فاتت الأولية ولا ينبغي لمن سبقت له رواية غيره عمن أمكنته روايته عنه أن يترك روايته؛ لفوات الأولية لأن المقصود من روايته العمل بمقتضاه من التخلق بالرحمة لخلق الله، وذلك مطلوب من العبد، على أن بعض شيوخنا قال لي: إنهم لم يلتزموا في السلسلة أن يكون الابتداء حقيقياً، بل ما يعمه، والإضافي كأن يكون أول ما سمعته منه في ذلك المجلس أو ذلك اليوم، أو أول ما كتب به إليه أو نحو ذلك انتهى.

وللاعتناء بهذا الحديث وعظم فائدته ضمنه كثير من العلماء؛ فمنها ما رويناه من طرق عديدة إلى الحافظ أبي القاسم ابن عساكر قال رحمه الله: 

بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنما .. ولا تكن عن قليل الخير محتشما 

واشكر لمولاك ما أولاك من نعم  .. فالشكر يستوجب الإفضال والكرما 

وارحم بقلبك خلق الله وارعهمُ .. فإنما يرحم الرحمن من رحما 

المسلسل الثاني بقراءة سورة الصف

هذا حديث صحيح متصل الإسناد والتسلسل ورجال إسناده ثقات، بل قال جماعة من أهل الحديث: إنه أصحُّ مسلسل يروى في الدنيا رواه الإمام أحمد وأبو يعلي في مسنديها، والترمذي في جامعه، والطبراني في المعجم الكبير، والدارمي، والحاكم في المستدرك، وقال على شرط الشيخين ورواه غير هم من طرق عدة.

 المسلسل الثالث بقراءة آية الكرسي 

وقد قدمنا أن تتابع رجال الاسناد في المسلسل على صفة واحدة هو في الأصل والغالب؛ لأنه قلما تسلم المسلسلات من ضعف وخلل في وصف التسلسل؛ كانقطاعه في آخر سند حديث الأولية، وإذا كانوا يرخصون في المسلسلات رواية الأحاديث الحسنة والضعيفة ولم يلتزموا رواية الصحيح منها، فالتساهل في وصف التسلسل أهون والله تعالى أعلم

المسلسل الرابع بقراءة سورة الكوثر

المسلسل الخامس بقراءة سورة النحل (مناماً)

( تنبيه) رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مناماً هي حق؛ لإخباره صلى الله عليه وسلم وعلى آله (بأن من رآه في المنام فقد رآه حقاً)؛ ففي الشمائل وغيرها: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً)، وفي رواية: (فقد رأى الحق)، وفي أخرى: (فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي)، وفي رواية لا يتمثلني)، وفي رواية (لا يتخيل بي)، وفي أخرى: (لا يتصور)، أو قال: (لا يتشبه بي)، وفي غيرها: (لا يتكونني).

ومقتضى هذه الأحاديث: أن رؤياه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في المنام ليست أضغاث أحلام، ولا من تمثيل الشيطان، بل هي من قبل الله تعالى؛ لأن الشيطان -وإن مكنه الله من التصور في أي صورة أراد -فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكما حفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم حال الحياة من تمكن الشيطان منه، وإيصال الوسوسة إليه؛ فكذلك حفظه بعد خروجه من دار التكليف، فلا يقدر أن يتمثل بصورته أو يتشكل بشكله.

 واختلفوا في رؤياه صلى الله عليه وسلم؛ هل لا تكون إلا على صورته المعلومة التي كان صلي الله عليه وسلم عليها في الدنيا، وصحت رواية هذا عن ابن عباس وابن سيرين وجماعة أو تكون في أي صورة وصححه النووي، وغيره؛ لكن قال أبو عيسى محمد المهدي الفاسي في سبط الجوهر الفاخر: وهذا -والله أعلم -بشرط أن يكون لصورته الاصلية الحقيقية بقاء، ورؤيا المصطفي بصفته المعلومة إدراك لذاته، وبغير صفته إدراك لمثاله، والأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثانية لابد فيها من التعبير والتأويل.

للرائي أن يعمل بما دلت عليه الرؤيا، ما لم يكن فيه تغيير حكم شرعي، ولا يثبت بها شيء من الأحكام لعدم ضبط الرائي، لا للشك في الرؤيا، وللعلماء في هذه المباحث كلام طويل فليراجع في مظانه، ولكن لا بأس بنقل سؤال وجوابه لشيخ الإسلام زكريا. وكلام لمحيي الدين النووي في شرح مسلم حررا فيه بعض الفصول المتعلقة بالرؤيا.

فقد سئل الأول عن رجل زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: مر أمتي بصيام ثلاثة أيام، وبكذا، وبكذا، فهل يجب الصوم وما في حكمه؟ وهل يكره أن يقول أحد للناس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم ومستنده الرؤيا التي سمعها من رائيها، أو منه؟ وهل يمتنع أن يتسمى المرئي باسم النبي صلى الله عليه وسلم -ويقول للنائم أنه النبي ويأمره بطاعته ليتوصل بذلك إلى معصية؟ وهل يثبت شيء من الأحكام بالرؤيا النومية؟ وهل المرئي ذاته عليه الصلاة والسلام أو روحه أو مثاله؟ 

فأجاب: لا يجب على أحد الصوم ولا غيره من الأحكام بما ذكر، ولا يندب، بل يكره ولا يحرم، لكن أن غلب على الظن صدق الرؤيا، فله العمل بما دلت عليه، ما لم يكن فيه تغيير حكم شيء، ولا يثبت بها شيء من الأحكام؛ لعدم ضبط الرائي لا للشك في الرؤيا، ويحرم على الشخص أن يقول أمركم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا فيما ذكر، بل يأتي بما يدل على مستنده من الرؤيا، ولا يمتنع عقلاً أن يتسمى إبليس باسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقول للنائم: أنه النبي ويأمره بالطاعة.

والرؤيا الصادقة هي الرؤيا الخالصة من الأضغاث، والاضغاث أنواع:

الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي؛ كمن رأى أنه قلع رأسه.

الثاني: يرى أن بعض الأنبياء يأمره بمحرم أو محال. 

الثالث: ما تتحدث به النفس في اليقظة عيناً؛ فيراه كما في المنام.

ورؤيا المصطفي بصفته المعلومة إدراك لذاته، وبغير صفته إدراك لمثاله؛ فالاولى لا تحتاج إلى تعبير، والثانية تحتاج إليه، وحمل على هذا قول النووي الصحيح: أنه يراه حقيقة سواء كانت بصفته المعروفة أو غيرها، وللعلماء في ذلك كلام كثير ليس هذا محل ذكره، وفيما ذكرته كفاية انتهى جوابه بنقل المناوي، والجد في شرح الحصن رحمهم الله تعالى. 

وقال الإمام النووي نقلا عن القاضي عياض: أنه لا يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت، ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء.

ثم قال النووي: وكذا نقل غيره من اصحابنا الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع، قال: وليس هذا الذي ذكرناه مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً)؛ فإن معنى الحديث: أن رؤيته صحيحة، وليست من أضغاث الأحلام، وتلبيس الشيطان، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي به؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما سمعه الرائي.

وقد اتفق على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته: أن يكون متيقظاً لا مغفلاً ولا سيء الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة؛ فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم علي خلاف ما يحكم به الولاة. أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل مندوب إليه، أو ينهاه عن منهي عنه، أو يرشده إلى فعل مصلحة، فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه؛ لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام، بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء والله أعلم انتهى . 

المسلسل السادس بقراءة سورة الفاتحة

(تنبيه الرواية عن عبد المؤمن الجنّي -أحد الصحابة من الجن!)

وهذه السورة قرأها عبد المؤمن الجني في نفس واحد، قال: سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم في نفس واحد، وهكذا قال كل واحد من الرواة، إلى أن وصل إلينا، وهذا من الأسانيد الغريبة، وقد أنكر ذلك جماعة من أهل الحديث، وإنما أوردنا ذلك، تبعاً للمتأخرين من أرباب الفهارس، وجمعاً للنظائر قال أبو سالم العياشي في مسالك الهداية: جرت عادتهم برواية ما كان مثل هذا، مع إنكاره، كأحاديث المعمر والخضر، قال: وحيث كان القصد التبرك لا الاحتجاج؛ فلا بأس بمثل ذلك أهـ.

وأشار إلى هذا ابن عقيلة في مسلسلاته، قائلاً: إن هذا الأمر، لما لم يكن متعلقاً بشيء من الأحكام، بل هو أمر متبرك به، قبلته الأئمة الأعلام، ولو كان من الأحكام والاستنباطات لما قبل هذا السند، وفيه ما فيه.

وقال الشيخ مرتضى في التعليقة الجليلة على مسلسلات ابن عقيلة: وما رأيت لأحد من الحفاظ المتقدمين كلاماً في القاضي شمهروش، وفي ابنه علي، وفي لقيه به صلى الله عليه وسلم، ولكن الجن كانت تجتمع به صلي الله عليه وسلم وتأخذ عنه، وهذا كله وإن لم يفد شيئاً على طريقة المحدثين وعلماء الظاهر، لكن يفيد عند أرباب الباطن، الذين ألهموا صدق ذلك الجني فيما أخبر به، ويفيد هؤلاء الملهمين التبرك والانتظام في سلك هذا السند أهـ.

(قلت): اجتماع الجى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وسماعهم منه، منصوص عليه في القرآن الكريم، ومذكور في الصحيحين وغيرهما، ولما ذكر أهل الحديث تعريف الصحابي: بمن لقي النبي صلي الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على ذلك. قالوا: فيدخل فيه كل مكلف من الجن والإنس، ويتعين ذكر من حفظ ذكره في الصحابة من الجن، الذين آمنوا بالشرط المذكور، لكن قد توقف في الرواية عن الجن بعض الحفاظ؛ لأن شرط الراوي العدالة والضبط، وكذا مدعي الصحبة شرطه العدالة، والجن لا نعلم عدالتهم، مع أنه ورد الانذار بخروج شياطين يحدثون الناس.

وإثبات صحبة شخص وعدالته من الأمور الشرعية، وليس الإلهام من الطرق عند أهل العلم التي يستدل بها في الشرعيات؛ لأن الإلهام ربما لا يكون صحيحاً، وهو مثل الكشف في ذلك؛ فقد صرح العلماء: أن الكشف يخطئ ويصيب، ويلزم من إثبات صحبة الجني بالإلهام، تصديقه فيما يخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وربما يكون كاذباً في دعواه فنكون قد أثبتنا صحبة شخص للنبي صلى الله عليه وسلم من غير اعتماد شيء يفيد إلا على الإلهام، الذي ليس بحجة في الشرعيات، فندخل في الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار)

المسلسل السابع بقول كل راو بالله العظيم

قال الشيخ عابد السندي بعد إيراد هذا الحديث: أن الفضل الوارد فيه مرتب على مجرد قراءة البسملة متصلة بفاتحة الكتاب في نفس واحد، يعني بدون إتمام السورة كامها في نفس واحد.

 (قلت): ولعل المراد بقراءة البسلمة متصلة بالفاتحة في نفس واحد في التلاوة، خارج الصلاة، أما في الصلاة فالسنة القطع؛ الما رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة: أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: (كان يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العلمين . الرحمن الرحيم . ملك يوم الدين). وفي رواية للدارقطني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين} فقطعها آية آية، وعدها عد الإعراب، وعدّ {بسم الله الرحمن الرحيم} آية، ولم يعد عليهم.

وإيراد الأئمة لهذا الحديث في باب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، واستدلالهم به أيضاً على استحباب الجهر بالبسملة في الصلاة، يدل على أن المراد به القراءة في الصلاة، لا مطلق التلاوة كما هو ظاهر هذا، وقد استشكل قوله في هذا الحديث: (ويلقاني قبل الأنبياء)، بخلاف الرواية الأخرى -التي أوردنا -وهي: (ويلقاني مع الأنبياء)، لكن قال بعض العلماء: لعل ذلك في بعض المواضع، وإن ذلك مزية وهي لا تقتضي التفضيل.

واستشكل الحديث أيضاً: بان ظاهره متناقض لتصديره بقوله (ما من مؤمن)، ثم تعقبه بقوله: (ولو كان كافراً)، وأجاب عنه الخروبي: بأنه أطلق عليه مؤمناً، باعتبار مثاله؛ لما تضمنته الفاتحة من اثباته الكلام واتصافه بالكمال واستحقاقه للثناء، وحصل له الإيمان بمقام المنعم عليهم من العرب ومقابلهم، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) انتهى.

قال العارف أبو زيد عبد الرحمان الفاسي: وهذا بعيد جداً؛ لأنه لا يحسن الاغنياء حينئذ بما على ضرورة أن الإسلام يجب ما قبله، مع أنه لا يبقى مع ذلك خصوصية للفاتحة، بل كل كلام يستلزم حقيقة الإسلام حكمه كذلك على أنه لا تتم الشهادة المتبادر أن يحمل الكفر على كفر النعمة والمنعم ظاهراً والله أعلم انتهى.

وأشار بعضهم إلى أن ما ورد في هذا الحديث من الفضل، هو من باب الاختصاص، الإلهي والفضل، لا من باب أجرك على قدر نصبك، وأفضل الأعمال أحمزها، والله سبحانه يختص ما شاء من الأعمال بخاصية شريفة، لا توجد فيما هو أشق منه؛ لسر يودعه الله في الأخف دون الأشق، كما يختص من شاء من عباده بما شاء من رحمته انتهى.

(قلت): تكفير السيئات بالأعمال الصالحة منصوص عليه في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}، ووردت عدة أحاديث في ذلك؛ كحديث: (إن الله قد غفر لأهل عرفات، وضمن عنهم التبعات)، وحديث: (قيام رمضان، وأنه يغفر ما تقدم من الذنوب)، وحديث: (أبي بن كعب -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: جعلت لك صلاتي كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم وعلى آله: اذاً تٌكفي همك، ويغفر ذنبك)، وهي أحاديث كلها صحيحة.

لكن اختلف العلماء: هل يحمل الغفران والتكفير الواردان في ما ذكرنا من الأحاديث وشبهها على عمومه، بحيث يشمل الكبائر والصغائر أو لا تكفر إلا الصغائر، وأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة، أو عفو الله؟ فذهب قوم إلى أن المطلقات تحمل على المقيد؛ لقوله: (ما اجتنبت الكبائر)، وهو قول كثير من الأئمة؛ حتى إن الشيخ زروق في شرح الرسالة، نقل عن ابن العربي الاجتماع عليه؛ لكنه قال: وفيه نظر.

ونقله أيضاً عنه في محل آخر، وقال: إن ظاهر الأحاديث تقتضي خلافه، سيما حديث: (إن الله غفر لأهل عرفات، وضمن عنهم التبعات)، وهو حديث صحيح.

وقال الشيخ زروق أيضاً -على قوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر): في حديث: (من قام رمضان، قال النووي وغيره: يريد الصغائر، زاد بعضهم: ويخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة.

(قلت): ظاهر الحديث العموم فالتخصيص بالصغائر يفتقر إلى دليل فانظر دليله هـ كلام الشيخ زروق.

قال الشيخ الإمام العارف بالله، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد رضي الله عنه: ربما يشهد لما ذهب إليه هؤلاء المانعون من تكفير الكبائر، جملة أحاديث الترغيب، مع جملة أحاديث الترهيب أيضاً؛ فإن مقتضى عدم إهمال كل منها، أن يقتصر بها على إفادة الرجاء، وغلبة الظن، خاصة في جانب الترغيب، وعلى إفادة الزجر والوعظ في جانب الترهيب خاصة، وإلا أدى إلى رفض كثير من القواعد الشرعية والله أعلم.

وانظر القلشاني؛ فإنه أرشد إلى التخصيص في كل بكل، والمعتمد (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وبذلك يسلم من الإرجاء، وقد ذكر في كتاب المحاسبة من القوت في وصية أبي بكر لعمر: إنك لو عدلت على الناس كلهم، وجُرت على واحد منهم؛ لمال جورك بعدلك أهـ.

 وذهب آخرون: إلى أنه يجوز أن تكفر الكبائر بالأعمال الصالحة؛ كالصغائر، ونقله ابن التين، وصرّح به جماعة، ونقله الولي العراقي وغيره، عن ابن المنذر في الأشراف، وابن حجر، عن أبي نعيم، وقيده بالذنوب، التي لا توجب على مرتكبها حكماً في نفس ولا مال، وعن الإمام الفخر، والقرطبي، والنووي، والأبي وغيرهم -ما يوافق هذا القول.

وحكاه ابن عبد البر في التمهيد، عن بعض معاصريه، قيل: وأراد به أبا محمد الأصيلي المحدث، قال ابن عبد البر: وهو جهل بيّن، وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعموا لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون أنها فرض، والفروض لا تصح بقصد أهـ,

ونقل صاحب المعيار، عن الإمام العلامة ابن مرزوق الحفيد، كلاماً بالغ فيه في الإنكار على هذا القول؛ فقال المعتقد السني: أن الكبائر لا يمحوها إلا التوبة وفضل الله تعالى، هذا نص أئمتنا المتكلمين قاطبة؛ كالباجي، وابن عبد البر، وابن العربي، وعياض، وابن بطال، وخلائق يطول عدهم.

وأن القول بالموازنة والإحباط مذهب معتزلي كالجبائي ومن تبعهما، على تفصيل بينهم ومذهب الخوارج أيضاً في وجه، وإنما يحملها على الإطلاق من لا علم له بما يعتقد، ولا أخذ العلم عمن إليه شرعاً يستند، وإنما علمه من الصحف المذموم شرعاً، المستحق فاعله في الفروع الأدب الوجيع، وطول السجن كما نص عليه سحنون، ومن قبله، فكيف في الأصول والمعتقدات.

وقد يتمسك البدعي بشيء من كلام من لاتدري منزلته في العلم، من أهل التقاييد التي لا أصل لها؛ كتقاييد الرسالة وشيء وقع للنووي وناصر الدين انتهى محصل كلامه بنقل الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد القادر الفاسي في شرح الحصن الحصين.

وقال أثره ما نصه -وفي عبارته تشديد وتشنيع وتهويل -أكثر من هذا، وأنت خبير بأن أئمة السنة يتبرأون من القول بالإحباط والموازنة والإرجاء؛ فإن وقع في كلام أحد منهم ما يوهم شيئاً من ذلك، التمس له العذر والتأويل على مذهب أهل السنة، والرد إلى قواعدهم إن أمكن -كما في هذه المسألة، وإلا حمل على الغفلة والذهول عن أصله؛ فما قالوه من تكفير الكبائر ببعض الأعمال إنما هو على معنى: أن المؤمن العاصي لا ييأس، بل يرجو المغفرة اما بمحض الفضل من غير ترتب على عمل، وإما بالتفضل بترتبها على عمل من الأعمال.

قال الأبي رحمه الله: والجاري على مذهب الأشعري ة في أنه تجوز مغفرة الكبائر دون توبة، وصحة تكفير الحج لها. قال العارف الفاسي المذكور قبل: يعني ومذهب المعتزلة لا تجوز مغفرتها إلا مع التوبة، وهو خلاف قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، ومقتضى الأحاديث خصوصاً الواردة في الحج والجهاد.

وكذا ما ورد في الحدود من أنها مكفرة، خلاف ما ذهب إليه هؤلاء الذين منعوا بغير التوبة من الأعمال، وما قيل من أنه لو كانت الحسنات تذهبن السيئات؛ لكان الإيمان أولى بذلك، وذلك مذهب المرجئة قد لا يلزم، أما أولاً فلأنه يَرِدُ حتى على التوبة والتكفير بها مُسلّم، وأما ثانياً؛ فلأن حكمة الترغيب والترهيب تأبى ذلك، إلا إذا كان طارئاً؛ فإنه يجب ما قبله مع الحكمة الترغيب فيه أيضاً، أما حصوله؛ فالحكمة تقتضي عدم تكفيره، تنفيراً من السيئة، وتحذيراً، وتكفير غيره من الحسنات ترغيباً في فعلها، وتحصيلاً لها والله أعلم.

ثم قال شارح الحصن: وما تمسك به أهل القول الأول، من حمل المطلق على المقيد، لا يتم؛ لأن من النصوص الواردة ما فيه التصريح بمغفرة الكبائر؛ كحديث الحج وغيره، فلا تقيد بالمقيد المنافي لغيرها، وبعضها وإن كان مطلقاً؛ فإن موجبها مخالف لموجب المقيد، وفي ذلك من الخلاف ما قد عُلم في الأصول؛ ففي "جمع الجوامع": وإن اختلف السبب؛ فقال أبو حنيفة: لا يحمل، وقيل يحمل لفظاً. وقال الشافعي: قياساً، وبالجملة فكلام العلامة ابن مرزوق المتقدم -وإن بالغ في الإنكار -لم يأت فيه بحجة واضحة.

وما أشار إليه من المعتقد السني نقول بموجبه، ولا يكون القول بتكفير الكبائر منافياً؛ لاندراجه في باب الفضل؛ فهو مشمول لقولهم لا يكفرها إلا التوبة، أو فضل الله، ومن فضل الله ترتب التكفير على عمل ما تفضلاً، وقد دل عليه النقل بظواهر النصوص، ولم ينفه العقل، ولا عارضته قاعدة من أصول أهل السنة، والموازنة والإحباط المنسوبين لأهل الاعتزال لا تعريج لنا عليها، ولا هما لازمين لنا، فإنا لا نقول بالاستحقاق الذي بنوا عليه، بل أجمع أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم، على أنه إذا اجتمع للمؤمن طاعات وزلات، لا يجب على الله سبحانه إثابته، ولا معاقبته، فإن أثابه فبفضله وإن عاقبه فبعدله، بل له إثابة العاصي وعقاب المطيع ايضاً، وذهب المرجئة إلى أن الإيمان يحبط الزلات؛ فلا عقاب على زلة مع الإيمان. وقالت المعتزلة: كبيرة واحدة تحبط ثواب جميع الطاعات. وذهب الجبائي وابنه إلى الموازنة، فزعما أن من زادت طاعته على زلاته أحبطت عقاب زلاته وكفرتها، ومن زادت زلاته على طاعته أحبطت ثواب طاعته.

وقال الإمام الرازي: مذهب الجبائي إن الطارئ من الطاعة أو المعصية يبقي بحاله، ويسقط من السابق بقدره، ومذهب ابنه أنه بقابل اجزاء الثواب باجزاء العقاب؛ فيسقط المتساويان،، ويبقى الزائد.

قال في المواقف وشرحها: ولما أبطلنا الأصل، الذي هو استحقاق العقاب والثواب، بالمعصية والطاعة، بظل الفرع المبني علي -وهو الإحباط، مطلقاً سواء كان بطريق الموازنة، أو غيرها هم قال شارح الحصن.

 (قلت): إذا كان مذهب أهل السنة أن لا موازنة ولا إحباط؛ فما معنى وزن الأعمال.

(قلت): ذكر صاحب المسايرة -تبعاً لأصله -أن وجهه أنه تعالى يُحدث في صحائف الأعمال ثقلاً بحسب درجاتها عنده تعالى.

قال شارحه العلامة ابن أبي شريف: وعبارة حجة الإسلام في عقائده، يحدث في صحائف الأعمال وزناً الخ، وعبارته في الاقتصاد: فإذا وضعت في الميزان خلق الله تعالى في كفتها مَيلاً بقدر رتبة الطاعة، وهو على ما يشاء قدير انتهت.

وهي مصرحة بأنه الذي يخلق ميل في الكفة، وهو لا يستلزم خلق ثقل في جرم الصحيفة والله سبحانه أعلم بحقيقته {وربك يخلق ما يشاء} سبحانه وتعالى.

قال في الاقتصاد: فإن قيل: فأي فائدة في الوزن؟ وما معنى هذه المحاسبة؟ قلنا: لا يطلب لفعل الله تعالى فائدة، {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون}، وقد دلنا على هذا فيما مر من كلامه، قال: ثم -أي بعد -أن تكون الفائدة فيه، أن يشاهد العبد مقدار أعماله، ويعلم أنه مجازى بعمله بالعدل، أو متجاوز عنه باللطف أهـ.

وقال الشيخ أبو عبد الله السنوسي في جواب له: ليس معني وزن الأعمال مقابلة السيئة بالحسنة؛ فتذهب إحداهما بالأخرى، والزائد ينتفع به إن كان حسنة، ويتضرر به إن كان سيئة؛ فإن هذا مذهب بعض المعتزلة، ولا قائل به من أهل السنة، والذي نص عليه أهل السنة أن من عمل كبيرة ولم يتب منها، ثم عمل مثل الأرض حسنات؛ فهو مرتهن في الآخرة بتلك الكبيرة، لا ينجيه إلا محض عفو الله، ولهذا قال علي بن دهاق: إن فائدة الوزن عند أهل السنة، معرفة مقادير ثواب الحسنات، ومقادير عقاب السيئات.

ثم قال الشيخ السنوسي رحمه الله -بعد كلام: ثم مع هذا ليس من البعيد أن يجعل الله سبحانه علامة عفوه تثقيل كفات الحسنات على كفة السيئات، وعلامة نفوذ الوعيد وقدر العقاب تثقيل كفة السيئات، وتكون الحسنات مغلوبة، ومقادير ثوابها موقوفة لهذا العبد؛ حتى يخرج من النار، ولا تسقط بما قابلها وغلبها كما يقول المعتزلة؛ فالثقل والخفة على هذا مجرد علامة على العفو والمواخذة.

ولهذا نقول: قد يثقل الله الحسنة الواحدة على مليء الأرض كبائر، إذا أراد الله سبحانه العفو بمحض فضله، وقد يخفف ملء الأرض حسنات ويرجح عليها سيئة واحدة إذا أراد إنفاد الوعيد بمحض عدله، ولهذا أمر المؤمن أن لا يحتقر شيئاً من الحسنات؛ إذ لعل رضي مولانا العظيم يكون فيه، ولا شيناً من السيئات؛ إذ لعل غضب مولانا عز وجل يكون فيه.

ثم قال: والحاصل أنه لا تنحصر فائدة الوزن فيما قاله ابن دهاق، بل من فوائده معرفة من يتفضل عليه مولانا الكريم بالعفو أو يعدل فيه بالمؤاخذة، والله سبحانه أعلم بما يكون، والذي يجب على المؤمن أن لا يعتقد ما قاله بعض المعتزلة على ما سبق شرحه، ولا يجب عليه التعرض لما وراء ذلك، بل له أن يترك الخوض فيه، ويكل علمه إلى الله سبحانه انتهى باختصار من كلامه.

قال شارح الحصن: ولعله مع ما تقدم من كلام حجة الإسلام ينحل به الإشكال، ويتوجه ما دلت عليه ظواهر الأحاديث من عموم التكفير ببعض الأعمال، وأنه لا مانع أن يتفضل الله سبحانه بترتيب ترك المؤاخذة بالذنب على بعض الأعمال، تفضلاً على من شاء، من غير وجوب ولا لزوم، وكذا يتجه أيضاً ما وقع في كلام بعض أهل السنة: من الموازنة؛ فيحمل على ما أن مرادهم أن ذلك يجوز أن يفعله الله سبحانه لمن شاء من غير لزوم على الوجه الذي قرره والله أعلم انتهى.

وقد أطال في المسألة وناقش أيضاً الشيخ أحمد بابا السوداني في تأليف له في المسألة بما يعلم بالوقوف عليه، وقد ألف جمع من الحفاظ أجزاء في الخصال المكفرة؛ كابن حجر، والسيوطي والقابوني.

المسلسل الثامن: المسلسل بقول كل راوٍ أشهد بالله، وأشهد لله

وقال ابن الجزري بعد إيراده: هذا حديث جليل المقدار، من رواية هؤلاء السادات الأئمة الأطهار انتهى.

 وقال جار الله ابن فهد -بعد إيراده: وقد ورد في حديث عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، وقد تكلم السخاوي على تسلسله، ونفى عنه الصحة، وقال: في المتن مقال، وُتعقب بكون التسلسل غير صحيح ليس بمطلوب في المسلسلات، ويكفي فيها الحسن والضعف، كيف -وقد قال الحافظ أبو نعيم بصحته، وأما المتن؛ فله شواهد عند الإمام أحمد: عن أبي هريرة، وعند الحاكم: عن عبد الله بن عمر، وعند ابن حبان في صحيحه: عن ابن عباس انتهى.

 (قلت): وأخرجه بن ماجه عن أبي هريرة -بإسناد رجاله ثقات -وأخرجه الشيرازي في كتاب الألقاب، والرافعي عن علي أيضاً، وقوله (أشهد بالله) هو بفتح الهمزة فعل مضارع، أي: أشهد والله؛ فهو قسم (وأشهد لله) أي لأجله، وقوله (مدمن الخمر)، قيل: المراد بمدمن الخمر من يستحله -ولو لم يشربه في عمره، وهو غير صواب.

قال ابن الأثير في النهاية: هو الذي يعاقر شربها ويلازمها، ولا ينفك عنها، وهذا تغليظ في أمرها وتحريمها انتهى. وقال العزيزي: أي الملازم لشربها، (كعابد وثن) أي: صنم إن استحلها.

وقال الحفني: والقصد بذلك التنفير والزجر إن لم يستحل ذلك، وإلا فهو على حقيقته انتهى.

وقال الشوكاني في نيل الاطار: هذا وعيد شديد، و تهدید ما عليه مزيد؛ لأن عابد الوثن أشد الكافرين كفراً؛ فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهـو شهيد انتهى.

المسلسل التاسع بقول كل راو أشهد علي فلان 

المسلسل العاشر بقول كل راو أشهدنا على نفسه فلان، وفيه الأكل من ميتة البحر

قال الحافظ ابن حجر: والغرض من إيراده قصة الحوت؛ فإنه يستفاد منها جواز أكل ميتة البحر؛ لتصريحه في الحديث، بقوله (فألقى البحر حوتاً ميتاً، لم ير مثله، يقال له العنبر)، وتقدم في المغازي: أن في بعض طرقه في الصحيح (أن النبي صلي الله عليه وسلم أكل منه)، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه -وهم في حالة المجاعة -قد يقال إنه الاضطرار، ولاسيما وفيه قول أبي عبيدة رضي الله عنه (ميتة)، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله، وقد اضطررتم.

وتبين من آخر الحديث: أن جهة كونها حلالاً، ليست لسبب الاضطرار، بل كونها من صيد البحر؛ ففي آخره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا رزقاً أخرجه الله، أطعمونا فأكله)، فتبين لهم أنه حلالاً مطلقاً. وبالغ في البيان بأكله منه؛ لأنه لم يكن مضطراً، فيستفاد منه حل ميتة البحر سواء مات بنفسه أو مات بالاصطياد وهو قول الجمهور، وعن الحنفية يكره انتهى ملخصاً.

وقال الإمام أبو بكر ابن العربي في أحكامه الكبرى -عند قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} الآية بعدما أورد حديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان؛ فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال)، مانصه: ومع اختلاف الناس في جواز تخصيص عموم الكتاب بالسنة؛ فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، وهذا الحديث يروي عن ابن عمر، وغيره مما لا يصح سنده ولكنه ورد في السمك حديث صحيح جداً في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله فذكره.

ثم قال: فهذا الحديث يخصص بصحة سنده عموم القرآن في تحريم الميتة، على قول من يرى ذلك، وهو نصٌّ في المسألة ويعضده قول قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} انتهى.

المسلسل الحادي عشر بقول كل راو أشهد بالله 

وقد زعم بعض العلماء أن هذا الحديث موضوع، ورُدّ بما يبعده عن الوضع، ويقربه إلى الحسن لتعدد طرقه؛ لأنه جاء من جماعة من الصحابة؛ كأبي بكر، ومعاذ، وابن عمر، وجابر، وكثرة طرقه تفيد بأن له اصلاً انظر السندي على ابن ماجه (ص ۱۷ ج ل).

قال المفسرون: المراد بالضلال في الآيات المشار إليها في الأحاديث السابقة الهلاك، أو الضلال عن الحق، والسعر: النيران المسعرة في الآخرة والسحب: الجر، والسقر: علم لجهنم أي يجرون في النار علي وجوههم، ويقال لهم حين الجر: {ذوقوا مسَّ سقر}.

وجوزوا أن يكون متعلقاً بمقدر أي يعذبون ويهانون أو نحوه، والمراد بمس سقر: ألمُها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية؛ فإن مسها سبب للتألم بها، وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال.

وفي الكشاف: {مس سقر}؛ كقولك: وجد الحمى، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرها، ولحقتهم بايلامها؛ فكأنها تمسهم مساً بذلك -كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم.

قال الآلوسي: وهو مشعرٌ بأن في الكلام استعارة مكنية، نحو: {وينقضون عهد الله}، ويحتمل غير ذلك، وقوله تعالي: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، أي: مقدراً مكتوباً في اللوح قبل وقوعه؛ فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف، وتشهد له الأحاديث السابقة وغيرها، وجوزوا كون المعنى إنا كل شيء، خلقناه مقدراً محكماً، مستوفي فيه مقتضى الحكمة، التي يدور عليها أمر التكوين؛ فالآية من باب {وخلق كل شيء فقدره تقدیراً} وانظر ابن عطية والآلوسي.

والمراد بالقدرية الذين أنكروا القدر، وخالفوا الملة أجمع في إثبات القدر الله تعالى؛ فزعموا أنه سبحانه لم يقدر الأشياء في سابق الأزل، وأنه لم يتقدم له علم بها، ولم تتعلق إرادته بها، وأن الأمر أنف -أي مستانف -بمعنى أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها.

قال عياض والخطابي: وقد انقرض هؤلاء القدرية، ولم يبق أحدٌ منهم، وصارت القدرية في الأزمنة المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم هذا.

وقد ورد ذم القدرية في غير ما حديث، منها: ما قدمناه سابقاً، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) أخرجه الإمام أحمد، وأبو داوود، والطبراني، والحاكم في المستدرك، وقال: على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر.

وأخرج ابن عدي، عن ابن عمر: (من كذّب بالقدر؛ فقد كذّب بما جئتُ به)، وقد اختلف العلماء في تكفير القدرية؛ فذهب قوم إلى عدم التكفير. قال التوربشتي: والصواب أن لا يسارع إلى تكفير أهل القبلة المتأولين؛ لأنهم لا يقصدون بذلك اختيار الكفر، وقد بذلوا وسعهم في إصابة الحق، فلم يحصل لهم غير ما زعموا؛ فهم إذاً بمنزلة الجاهل والمجتهد المخطئ، قال: وهذا القول هو الذي يذهب إليه المحققون من علماء الأمة نظراً واحتياطاً، وذهب قوم إلى التكفير وهو ظاهر ما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث السابقة، وهو ظاهر قول ابن عمر رضى الله عنها، ((والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً؛ فأنفقه ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر)).

لكن قال القاضي عياض: هذا في القدرية الأول، الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بذلك كافر بلا خلاف انتهى، يعني وقد انقرضوا كما أسلفنا عنه.

 وعن الخطابي وسيأتينا إن شاء الله في شرح الحديث بعده مزيد كلام في مسألة القضاء والقدر وشرح خير القدر وشره.

 المسلسل الثاني عشر بقول كل راو حدثني والله

وفي عدة أحاديث زيادة: (حلوه ومره)، قالوا: إن خير القدر هو الأعمال الصالحة من إيمان وغيره، وحلوه: ما يلائم الطبع ويوافق النفس؛ كالتنعم واستلذاذ جميع الملاذ الحسية والمعنوية، وأما شره: فجميع المعاصي؛ كالكفر وغيره، ومُرّه: ما ينافر الطبع ويخالفه؛ كالآلام، والأسقام الحسية والمعنوية كذلك. وقيل: حلوه لذات الطاعات أو ثوابها، ومُرّه: مشقات المعاصي أو عقابها؛ فهذه الأشياء كلها سواء كانت خيراً أو شراً من قضاء الله وقدره.

وقد دل حديث الباب وغيره من الأحاديث المتكاثرة على أنه يجب الإيمان بالقضاء والقدر، بمعنى: أنه يصدق ويذعن بأن كل الكائنات مقضية مقدرة له، ويرضى بها، وأن لا يعترض على شيء منها، سواء كان خيراً أو شراً، ويعتقد أنها عين الحكمة.

هذا وقد ذكروا في كتب "علماء الكلام" عدة أقوال في القضاء والقدر؛ فقيل: إن القضاء هوإرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه، فيما لا يزال، وأن القدر: إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص ووجه معين، أراده الله تعالى، وقيل: إن القدر إيجاد الله الأشياء مع الإحكام والإتقان على الوجه الأكمل، وأن القدر تحديد الله أزلاً كل مخلوق بحدّه الذي يوجد عليه، من حسن وقبح وغير ذلك، أي القدر هو علمه أزلاً بما تكون عليه المخلوقات فيما لا يزال، وقيل غير ذلك.

قال بعض النظار: إن المذهب الأول في معنى القضاء مبني على أن لإرادته تعالى تعلقاً تنجيزياً بالأشياء في الأزل، وقد علمت أن ذلك يقتضي: إما أزلية الحوادث إن وجدت أيضاً في الأزل لما تعلقت به فيه، أو تخلف المراد عن تعلق الإرادة التنجيزي الأزلي إن لم يوجد في الأزل لما تعلقت به فيه، ويكون هذا التعلق غير كاف للترجيح والتخصيص، وإن لم يكن كافياً عنه تحققه فلا يصير كافياً أصلاً إلا بمرجح آخر ينضم إليه وهو باطل؛ لأن ذلك المرجح إن كان أزلياً ايضاً كان ما تعلقت به الإرادة أزلياً ايضاً.

وان كان حادثاً، احتاج تعلق الإرادة به فيما لا يزال إلى مرجح آخر؛ فننقل الكلام إليه وهكذا حتى يدور أو يتسلسل، وذلك أيضاً ينافي القول بالاختيار بالمعنى الأخص، بالنظر إلى تعلق الإرادة؛ فتعين أن يكون القضاء هو تعلق إرادة الله تعالى بالأشياء فيما لا يزال تعلقاً تنجيزياً حادثاً؛ فيرجع إلى المذهب الثاني.

ومتى جعلنا القضاء بهذا المعنى، تعيّن أيضاً أن يكون القدر بمعنى المذهب الثاني، هذا كله إن كان نقل الخلاف صحيحاً؛ فهو في تفسير لفظي القضاء والقدر، على حسب اختلاف الاصطلاح، ولا مشاحة فيه انتهى كلامه.

وقد اشتهر هنا سؤال من قبل المعتزلة، وهو: أنه لو كان الكفر بقضاء الله تعالى؛ لوجب الرضى به؛ لأن الرضا بالقضاء واجب، واللازم باطل؛ لأن الرضا بالكفر كفر، وأجاب عنه أهل السنة بعدة أجوبة، والذي ارتضاه المتأخرون منها هو أن معنى الرضى، فيما ذكر من الكفر والعصيان: هو ترك المنازعة، وعدم الاعتراض، واعتقاد ثبوت الحكمة والعدل، وذلك لا يقتضى محبة العبد له، ولا ينافي وجوب سميه في الانتقال عنه. انتهى.

قال ابن زكري في شرح الحكم بعد ذلك: ولا حاجة مع هذا إلى اختلاف الاعتبار، وأن الشيء السيئ من حيث ذاته يكرهه العبد، ومن حيث كونه مقضياً يرضي به؛ لأنه لا يكفه بمحبته، ولو من حيث أنه مقضي، وإنما هو مكلف بترك الاعتراض، واعتقاد الحكمة، والعدل انتهى.

وانظر حاشية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده علي الخيالي في أجوبته عن الاشكال المذكور، وانظر القول المفيد للشيخ بخيت، وانظر بقية الاجوبة في شرح السيد على العضد، وجسوس علي عقيدة الرسالة، والشيخ الطيب في شرح المرشد، أما بقية الكلام على مسائل القضاء والقدر؛ فأعظم مؤلف جامع لمسائله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل تاليف الإمام ابن القيم؛ فارجع إليه، وإلى تفسير الإمام الآلوسي في عدة مواضع ففيها الكفاية وبالله التوفيق.

المسلسل الثالث عشر يقول كل راو أخبرنا والله

وقد اختلف أهل العلم هل الأفضل لمتبع الجنازة أن يمشي أمامها أو خلفها؛ فقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد والجمهور وجماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبو هريرة أن المشي أمامها أفضل، واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور، وقال أبو حنيفة وأصحابه وحكاه الترمذي في جامعه عن سفيان الثوري واسحاق أن المشي خلفها أفضل، ويروى عن علي عليه السلام واستدلوا بحديث ابن مسعود عند الترمذي وأبي داود سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة؛ فقال: (ما دون الخبب) قالوا: فقد رد قولهم خلف الجنازة ولم ينكره ولكن لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله إنما أجابهم عن كيفية المشي لا سيما ويعارضه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر المروي عنهم بالسند الصحيح وهو الذي استدل به أهل القول الأول لما يعارضه حديث المغيرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها عن يمينها أو يسارها)، وهو عند اصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم وبهذا قال الثوري ومالك أيضاً وهو القول المشهور في مذهبه وعليه درج في المختصر؛ حيث قال عاطفاً على المندوبات: ومشىُ مشيّعٍ واسراعه وتقدمه وتأخر راكب قال شراحه أي عن الجنازة لا عن الماشي الصادق بتقدمه على الجنازة (وانظر النيل للشوكاني).

المسلسل الرابع عشر بقول كل راو والله أنه الحق 

وفي بعضها أيضاً: (ثم يستغفر الله عز وجل من ذلك الذنب إلا غفر له)، وفي رواية عند البيهقي عن الحسن مرسلاً: (وما أذنب عبد ذنباً ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى فيه ركعتين، واستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفر له)؛ فزاد الخروج إلى براز من الأرض، وعند أبي داود والترمذي وغيرهما أثره، ثم تلى هذه الآية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} الآية.

(قلت) لا مناسبة بين آية {من يعمل سوءا يجز به} وبين الآية التي أوردوها في الحديث وهي قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة} الآية، وأحسب أنهم غلطوا في ذلك أيضاً، ولعل المراد بالآية التي شك فيها شعبة هي قوله تعالى {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} فهي المناسبة للآية المستشهد بها، التي اتفق سائر الرواة على ذكرها عدا شعبة.

وقد ورد الجمع بينهما في حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عنه -أنه قال (إن في كتاب الله آيتين ما أذنب عبد ذنباً فقر أهما واستغفر الله إلا غفر له: {والذين إذا فعلوا فاحشة} الآية وقوله {من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الآية).

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب (فتوضاً) فائدة الوضوء هذا ليجمع بين الطهارة الحسية والمعنوية التي هي طهارة القلب من المعاصي، التي أزمع على الإقلاع عنها بالتوبة والاستغفار منها، وذلك ليتأهب لمناجاة الله تعالى والخضوع بين يديه ليغفر له.

وأما قوله (ثم صلى ركعتين) قال شراح الحديث: أن هذه الكيفية من الصلاة هي على جهة الكمال وليست شرطاً في التوبة كما هو معلوم ولم يذكروها في شروط التوبة انتهى.

(قلت) كانهم لم ينظروا إلى فائدتها هنا، وسر مطلوبتها من العبد المشار إليه في الحديث، وذلك أن حالته تقتضي جمع قلبه وتوجهه إلى الله تعالى وتعلقه به وحده جل وعلا وقد تضمنت الصلاة صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله تعالى والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم، وجمع القلب على التوجه إليه تعالى.

وقد ورد أن (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ ولان الله تعالى يقول أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال الإمام أبو بكر بن العربي رضي الله عنه في كتاب الطهارة من العارضة ما نصه: لو وقعت الطهارة باطناً بتطهير القلب عن أوضار المعاصي وظاهراً باستعمال الماء على الجوارح بشرط الشرع واقترنت به صلاة جرد فيها القلب عن علائق الدنيا وطردت الخواطر واجتمع الفكر على إجزاء العبادة كما انعقد عليه احرامها، واستمرت الحال كذلك حتى خرج بالتسليم عنها؛ فإن الكبائر تغفر وجملة المعاصي والحالة هذه تكفر.

وكذلك كان وضوء جماعة السلف منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روي عنه أنه كان إذا توضأ امتقع فيقال له في ذلك فيقول تعلمون من اناجي وهذه العبادة هي المخبر عنها بقوله تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} انتهى.

ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها تقول لما يأتي بها: لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص رباً هو أهل لما اتيت به وكيف يليق لك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت بما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به أن عصيت وجعلت الفحشاء والمنكر كالمتناقض مع هذا.

وقد قال المفسرون أن النهي يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة؛ فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لا يبتلي فيها مع الإتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالهم. وقد يضعف النهي فيها حتى كأنها لا تنهي كما في الصلاة التي تؤدي في حالة الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهذه هي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها؛ فتقول له: ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد في الحديث.

وكأن مراد القائل أن المراد بالصلاة التي تنهي عما ذكر الصلاة المقبولة، قال بعض الأئمة: من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر؛ فبقدر ما منعته قبلت منه انتهى.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الحسن مرسلاً، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له)، وفي لفظ: (لم يزدد من الله إلا بعداً)، وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود، أنه قيل له: إن فلاناً يطيل الصلاة؛ فقال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ هذه الآية.

وأخرج أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلي الله عليه وسلم؛ فقال: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، قال: (سينهاه ماتقول) وانظر الدر المنثور للسيوطي وروح المعاني للآلوسي.

وقوله في مرسل الحسن الذي ذكرنا (ثم خرج إلى براز من الأرض)، ورد مثله في حديث أبي الدرداء عند الحاكم في المستدرك والطبراني بلفظ: (فليأت بقعة مرتفعة)، قال السهيلي: هذا الحديث وما أشبهه من أحاديث الخروج إلى براز من الأرض واتيان بقعة مرتفعة؛ لعل المراد به مفارقة موضع المعصية، فإنه موضع سوء، واهله كذلك انتهى.

وقال المناوي في شرح الجامع: ومما يشير إلى الخروج الأمر بالإسراع في ديار ثمود؛ فهو إشارة إلى أن هجر موضع المعصية من توابع التوبة؛ لأن التوبة طهارة من الذنب، ولابد في الطهارة من طهارة القلب والجوارح وطهارة موضع التوبة؛ كموضع الصلاة والثوب والبدن انتهى.

أما الآية التي وردت في الحديث المتكلم عليه، وهي قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة} الآية؛ فقد ذكر المفسرون في سبب نزولها عن الكلبي: أن رجلاً من الأنصار قبَّل امرأة، ثم استحيا وفرَّ هائماً، ثم أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تائباً، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية عطاء، عن ابن عباس: أن تيّهان النجار ضمَّ إليه امرأة حسناء، وقبّلها، ثم ندم وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائباً؛ فنزلت.

ولا مانع من تعدد سبب النزول، وقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة} هذا مبتدأ وخبره {أولئك جزاؤهم} الآتي بعد، وقيل: معطوف على المتقين المذكورين في الآية قبلها.

قال الشوكاني في تفسيره: والأول أولى، وهؤلاء هم صنف دون الصنف الأول، ملحقين بهم وهم التوابون، والفاحشة وصف لموصوف محذوف أي فعلة فاحشة، وأصل الفحش: مجاوزة الحد في السوء؛ فلعل المراد هنا المعصية البالغة في القبح، وكثيراً ما ترد في الشرع بمعنى الزنى وعليه درج الجلال؛ فقال: ذنباً قبيحاً كالزنا، {أو ظلموا انفسهم} أو هنا بمعنى الواو أي وظلموا انفسهم باقترافهم ذنباً من الذنوب مطلقاً، وقيل: بالمعاصي القولية، وقيل: الصغائر.

{ذكروا الله} هـو جواب قوله إذا فعلوا ومعناه تذكروا حقه العظيم، ووعيده، أو ذكروا العرض عليه أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة، أو نهيه أو غفرانه، وقيل ذكروا جماله فاستحيوا أو جلاله فهابوا، وقيل: اذكروا ذاته المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة إليه بالتطهير من المآثم. قال الالوسي: وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد الذكر.

{فاستغفرو لذنوبهم} مفعول استغفروا محذوف؛ لفهم المعنى أي: لما ذكروا الله تعالى استغفروه، أي طلبوا المغفرة منه تعالى لذنوبهم كيفما كانت.

قال الشوكاني في تفسيره: وتفسير بعضهم للاستغفار هنا بالتوبة خلاف معناه لغة لكن قال الآلوسي ليس المراد مجرد طلب المغفرة بدون توبة، بل لابد منها لأن طلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب جل شأنه، ولذا قالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار وراجع تفسير المنار في تفسير الآية ( ص ١٣٥ ج ٤ ).

وفي الاستفهام بقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} من الإنكار ما يتضمنه من الدلالة، على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره أي لا يغفر الذنوب كلها إلا الله لاغيره، ولا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله ورحمته التي وسعت كل شيء.

وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وقوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} عطف على {فاستغفروا} أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على قبيح فعلهم، بل أقلعوا عنه {وهم يعلمون} جملة حالية -أي لم يصروا على فعلهم، عالمين بقبحه، وأنه معصية وقيل جملة معترضة، والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب، عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم، وهو إيذان بأنهم لا ييأسون من روح الله.

والإشارة في قوله جل ذكره {أولئك} إلى المذكورين بقوله {والذين إذا فعلوا فاحشة}، الموصوفين بما ذكر أخيراً، من الصفات الحميدة {جزاؤهم} بدل اشتمال من اسم الإشارة و{مغفرة} خبر {أولئك}، والجملة خبر {والذين إذا فعلوا فاحشة} بناء على أنه قسم مستقل، ويصح أن يكون {والذين إذا فعلوا فاحشة} معطوف على المتقين، لموصوفين بالأوصاف الخمسة قبله؛ فتكون الإشارة إلى الجميع.

وقوله جل وعلا {من ربهم} متعلق بمحذوف وقع صفة المغفرة، أي مغفرة عظيمة كائنة من ربهم. {وجنات تجري من تحتها الأنهار} عطف على المغفرة، والتنوين للتعظيم، والجنات في اللغة: البساتين، سميت بذلك لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها، والأنهار: جمع نهر وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازاً، أو الجاري في الحقيقة هو الماء، والضمير في قوله {من تحتها} عائد إلى الجنات؛ لاشتمالها على الأشجار أي تجري من تحت أشجارها؛ لأن البساتين حياتها بالماء، وليس المراد بالجنات هنا مفهومها اللغوي فقط، وإنما هي دار الجزاء والخلود في النشأة الآخرة، وهي مشتملة على جنات كثيرة.

قال الآلوسي: والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر عنها سبحانه في الآية السابقة: أن عرضها السموات والأرض، ونص هنا على وصفها بما يزيدها بهجة من الأنهار، وقد توقف الإمام الشيخ محمد عبده: هل سمیت دار النعيم جنة وجنات على سبيل التشبيه، وذكرت الأنهار ترشيحاً له أم سميت بذلك لأنها مشتملة على الجنات تسمية الكل باسم البعض؟

لكن تعقبه تلميذه منار الإسلام بأنه لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات؛ لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر، وذكر الثمرات؛ فقد تعين ترجيح الشق الثاني، وإلا كان هربنا من تشبيه أسرى الألفاظ عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه إلى تأويلات الباطنية المعطلين لدلالتها من كل وجه.

{خالدين فيها} الخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع وبعبارة أخرى الدوام الأبدي، وقد استعمل مجازًا فيما يطول، ومن كلامهم خلد في السجن، أي بقي فيه مدة طويلة.

أما الشفاعة؛ فقد جاءت في الحديث عن أنس بن مالك وحلف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أنس، وابن حبان والحاكم عنه وعن جابر، وأخرجه الطبراني عن ابن عباس، والخرائطي عن ابن عمر وكعب بن عجرة

قال ابن رسلان: لعل هذه الاضافة بمعنى "أل" التي للعهد، والتقدير: الشفاعة التي أعطانيها الله تعالى، ووعدني بها ادخرتها لأهل الكبائر، الذين استوجبوا النار بذنوبهم الكبائر من أمتي، ومن شاء الله فلا يدخلون النار، وأخرج بها من أدخلته كبائر ذنوبه النار ممن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله انتهى.

وقد تكرر ذكر الشفاعة في القرآن في أمور الدنيا والآخرة، ومنه: {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً}، و{لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن}. و{لا تغني شفاعتهم شيئاً}،و{فما تنفعهم شفاعة الشافعين}، و{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}.

وهي في اللغة: السعي في حال المشفوع فيه عند المشفوع له، وقيل السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، وقيل الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو على حرمة ورتبة إلى من هو أدنى.

ومنه الشفاعة يوم القيامة، وقيل طلب حصول النفع للغير؛ فهي أعم من أن تكون للتخلص من الذنب أو تحصيل منفعة أخرى. قال الإمام الشيخ محمد عبده في تفسير الشفاعة المعروفة عند الناس: هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك لكن أراد غيره؛ فلا تحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة وفسخه لأجل الشفيع وذلك محال على الله تعالي؛ لأن إرادته تعالى على حسب علمه، وعلمه أزلي، لا يتغير، فما ورد في إثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات، وفيه يقضى مذهب السلف بالتفويض والتسليم، وأنها مزية يختص الله تعالى بها من يشاء يوم القيامة، عبر عنها بهذه العبارة ولا تحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي.

وأما مذهب الخلف في التاويل؛ فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنها دعاء يستجيبه الله تعالى، والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا؛ ففي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله يسجد يوم القيامة، ويثني على الله تعالى بثناء يلهمه يومئذ؛ فيقال له: (ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، وليس في الشفاعة بهذا المعنى أن الله سبحانه يرجع عن إرادة كان أرادها لاأل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ الإرادة الأزلية عقب دعائه انتهى.

(قلت): الإشكال غير وارد؛ لأن من جملة ما أراده في أزله نفس الشفاعة؛ فقد قدر في سابق أزله أن الناس يحصرون في عرصات القيامة؛ فلا يؤذن في الحساب إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقدر أن طائفة ينفذ فيهم الوعيد فيدخلون النار، ويشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيخرجون منها، وقدر أن طائفة يستحقون الدخول للنار بسبب معاصيهم ويشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيغفر لهم؛ فلا يدخلون النار فكل ما ذكر قد قدر في سابق أزله فالأولى إبقاء معناها على ظاهرها وعدم تأويلها، واعتقاد أنها كرامة له صلى الله عليه وسلم وعلى آله ولبقية الشفعاء، خصهم الله بها، وأراد إظهارها في تلك المواقف العصيبة.

هذا ولا خلاف في ثبوت الشفاعة حتى أن المعتزلة لا ينفونها مطلقاً وإنما ينفون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار، ويثبتونها في فصل القضاء كما نص عليه في مجمع البحار ونقله في روح المعاني، وقد استدل المعتزلة على ما قالوا بكثير من الآيات القرآنية؛ لقوله تعالى: {يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة}.

وأجاب أهل السنة أن هذه الآية وأمثالها وإن كانت قطعية الثبوت؛ لكنها ليست قطعية الدلالة، فإنها إن دلت على العموم في الأشخاص، لكن لا تدل على العموم في الأحوال والأوقات، وعلى فرض التسليم فليس العموم مراداً قطعاً، بل يجب تخصيصها وحملها على الكفار، جمعاً بين الأدلة؛ فإن كثيراً من الآيات والأحاديث دالٌ على حصول الشفاعة بعد إذن الله ورضاه، قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، وقال تعالى: {وكم من ملك في السماوات} الآية.

ولذلك قال الرازي: دلائلهم في نفي الشفاعة عامة في الأشخاص والأوقات، ودلائلنا في إثباتها خاصة بها؛ لأنا لا نثبت الشفاعة في حق كل شخص، ولا في جميع الأوقات، والخاص مقدم على العام؛ فالترجيح معنا، والأجوبة التفصيلية في التفسير الكبير اهـ.

واستظهر بعض المتأخرين أن الشفاعة التي نفاها المعتزلة هي الشفاعة التي تلجئي المشفوع لديه على تخليص المشفوع فيه من العقاب كما تعطيه الآية التي تدل على نفي الشفاعة والشفاعة التي أثبتها أهل السنة هي الشفاعة تكون من الشفيع بعد إذن المشفوع لديه؛ كما تعطيه الآيات والأحاديث التي استدل بها أهل السنة؛ فهي شفاعة بحسب الظاهر، إظهاراً لكرامة الشفيع وعلو منزلته عند الله تعالى، وهي في الواقع عفو من الله تعالى عن المشفوع فيه، ومن مّنه تعالى؛ فلعل الخلاف لفظي انتهى.

إلا أن قوله أن الخلاف لفظي -غير صحيح؛ بل الخلاف حقيقي كما يؤخذ من كلامهم، ثم أعلم أن شفاعته صلى الله عليه وسلم وعلى آله مما يجب الإيمان به لثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب؛ فقوله جل وعلا: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}، {ولسوف يعطيك ربك فترضى}، أما الآية الأولى: فالجمهور من أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن المقام المحمود هو الشفاعة، وقيل غيرها. 

قال القاضي عياض في الإكمال ما ملخصه: اختلفت الأحاديث في المقام المحمود، فذكر في حديث جابر أنه خروج العصاة بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن عمر ما ظاهره أنه الشفاعة في تعجيل الحساب، وفي حديث كعب ابن مالك يحشر الناس على تل فتكسي حلة خضراء ثم ينادى بي فاقول ماشاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود، ويخرج من جملة الأحاديث أن المقام المحمود كون آدم عليه السلام وذريته تحت لوائه في عرصات القيامة من من أول اليوم إلى دخول الجنة، وخروج من يخرج من النار، وأول ذلك إجابة المنادي وحمده الله عز وجل بما ألهمه، ثم الشفاعة في تعجيل الحساب واراحة الناس من كرب المحشر وهو مقامه المحمود، الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، ثم شفاعته فيمن لا حساب عليه من أمته، ثم فيمن يخرج من أمته، ثم فيمن يخرج من النار؛ حتى لا يبقى فيها من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ثم يأمر الله عز وجل بإخراج من قال لا إله إلا الله؛ حتى لا يبقى في النار إلا المخلدون، وهو آخر عرصات القيامة انتهى.

وأما قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}، فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم وعليهم السلام، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: أي والله حدثني محمد بن الحنفية، عن علي كرم الله وجهه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، قال: (أشفع لأمتي حتى ينادي ربي، أرضيت يا محمد، فأقول: نعم يارب رضيت).

ثم أقبل علي، وقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق: أرجي آية في كتاب الله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}، قلتُ إنا لنقول ذلك، قال فكلنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله {ولسوف ربك يعطيك فترضى}، قال هي الشفاعة.

 وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: رضاه صلى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم في الجنة، وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه: لا يرضي محمد صلى الله عليه وسلم وواحد من أمته في النار، وإن كان ورد في تفسير الآية ما يفيد أنها أعم من الشفاعة فتعم خير الدنيا والآخرة له صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

ولآل بيته ولأمته الشفاعة من أفراد ذلك العموم، وأما الأحاديث فهي كثيرة، منها ما تقدم آنفاً، ومنها حديث الصحيحين الطويل، ومنها حديث الباب الذي أسندنا، ومنها حديث (شفاعتي يوم القيامة حق، فمن لم يؤمن بها لم يكن من أهلها) أخرجه ابن منيع عن زيد بن أرقم وبضعة عشر صحابياً.

والأحاديث المشار إليها كلها صحيحة، وقد نص كثير من العلماء على أن أحاديث الشفاعة متواترة المعنى، بل قال الحافظ جلال الدين السيوطي عند ذكر حديث زيد ابن أرقم: أنه متواتر.

 وأما الإجماع فحكاه الفاكهاني وغيره، والوارد شفاعات كثيرة؛ فمنها وهي أعظمها الشفاعة الكبرى في فصل القضاء لإراحة جميع الخلق من طول الموقف ومشقته، الواردة في الحديث الطويل المذكور في الصحيحين عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، وفيه: (أن الناس يطوفون على الأنبياء آدم فمن دونه وكل واحد يردهم إلى من بعده إلى أن يصلوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم؛ فيقول: أنا لها ويتقدم؛ فيسجد بين يدي الله تعالى؛ فيقول له: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم دون غيره إجماعاً.

ومنها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، واختلف: هل هي مختصة به صلى الله عليه وسلم وعلى آله؟ تردد في ذلك السبكي وابن دقيق العيد، وقال النووي مختصة به.

ومنها: الشفاعة فيمن يستحقون الدخول النار فلا يدخلونها، قال عياض: غير مختصة به، وتردد في ذلك النووي؛ لأنه لم يرد تصريح بأحد الأمرين، والدليل على هذه الشفاعة حديث الباب الذي أسندتا وهو صحيح كما أسلفنا.

ومنها: الشفاعة في إخراج من دخل النار من المؤمنين، ويشاركه فيها صلى الله عليه وسلم الأنبياء والملائكة وصالحو المؤمنين، إلا من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فخاصة به صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

ومنها: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها، وجوّز النووي اختصاصها به صلى الله عليه وسلم.

ومنها: شفاعته صلي الله عليه وسلم في تخفيف العذاب على الكفار، وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم.

ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لدفين المدينة، ويشهد لها ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنه: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها؛ فإني أشفع لمن يموت بها).

ومنها: شفاعته صلي الله عليه وسلم، لمن زار قبره الشريف؛ فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن عدى في الكامل، عن ابن عمر أيضاً: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وأخرج البيهقي أيضاً عن أنس رضي الله عنه: (من زارني بالمدينة محتسباً، كنت له شهيداً وشفيعا يوم القيامة).

ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لسائر المؤمنين؛ ففي الحديث: (أسعد الناس يوم القيامة بشفاعتي من قال لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه).

ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم من قال حين يسمع النداء، أي الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)؛ فقد أخرج البخاري، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قالها حلت له شفاعتي يوم القيامة).

ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم، لمن صلى عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ثم قال: (اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة)؛ فقد أخرجه البزار في المسند والطبراني في الكبير عن رويبع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من قال ذلك وجبت له شفاعتي)، قال المنذري وبعض أسانيده حسان.

 وله صلى الله عليه وسلم شفاعات غير ما تقدم فانظرها في كتب الحديث، اللهم اجعلنا من أهل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، الذين لا يعذبون بسببها، واجعلنا من الفائزين السابقين بها برحمتك يا أرحم الراحمين.

المسلسل السادس عشر بسماع تفسير كلمة التقوى بلا إله إلا الله

وأضيفت هذه الكلمة إلى التقوى؛ لأنها بها يتقي من الشرك، وقال ابن عطية: لأنها تقي من النار، وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، أنه قال: هي رأس كل تقوى.

والضمير في {وألزمهم} للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن معه، كما هو ظاهر كلام عمر رضي الله عنه السابق. {وألزمهم} إياها بالحكم والأمر بها، وقيل في تفسيرها غير ما ذكر، أخرج عبد الرزاق والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم، عن علي كرم الله وجهه أيضاً: أنه قال هي لا إله إلا الله والله اكبر.

وروي عن ابن عمر أيضاً وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد، عن المسور بن مخرمة: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأخرجا أيضاً، عن عن عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً نحوه بزيادة: وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير. قال ابن عطية وهذه أقوال متقاربة حسان؛ لأن هذه الكلمة تقي من النار؛ فهي كلمة التقوى.

وقيل: أن المراد بها بسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن الزهري، وضم بعضهم إليها: محمد رسول الله، والمراد بإلزامهم إياها على هذا اختيارها، دون من عدل عنها إلى: باسمك اللهم، ومحمد بن عبد الله كما في قصة صلح الحديبية المذكورة في هذه السورة؛ حيث أبت قريش بكتابتها.

لكن قال ابن عطية أن لا إله إلا الله هي أحقُّ باسم كلمة التقوى من بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل في تفسيرها غير ذلك، لكن أرجح الأقوال هو ما ذكرناه أولاً، وهو الوارد مرفوعاً، وذهب إليه الجم الغفير كما أسلفنا.

وقوله تعالى: {وكانوا أحق بها وأهلها} أن المؤمنين كانوا في علمه تعالى متصفين بمزيد استحقاق لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله من كفار مكة؛ لأن الله اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقيل: أحق من اليهود والنصارى، وقيل: أحق بها وأهلها في الآخرة بالثواب جعلنا الله من أهلها المستحقين لها ولثوابها بمنه وكرمه آمين .

(تنبيه) ما ذكر في الأخبار السالفة، من تفسير كلمة التقوى بلا إله إلا الله -هو من باب الاكتفاء، والمراد لا إله إلا الله ومحمد رسول الله؛ فقد قال الشيخ خليل في التوضيح عند الكلام على تلقين الميت لا اله إلا الله: أن مراد الشرع والأصحاب الشهادتان، ومثله لابن المنيّر، وأبي زيد الثعالبي في العلوم الفاخرة، نقلاً عن الفاكهاني، قائلاً: وهذا امر لا ينبغي أن يختلف فيه، ومثله للحافظ ابن حجر في الفتح، عند قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).

وقد صرح بلزومها في سائر الأذكار السنوسي كما في آخر شرح صغراه، وزروق كما في كتابه أصول الطريقة، والحروبي حسبما نقل عنه الوجوب أبو حامد العربي الفاسي في شرح دلائل الخيرات، والجد أبو المحاسن كما في ابتهاج القلوب، وغيره وأبو العباس أحمد بن المبارك السجلماسي صاحب الإبريز في كتابه إزالة اللبس عن المسائل الخمس، وقد نقلت كلامهم في كتابي الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب.

وبعد فيؤيد ما ذكرنا ما أخرجه الإمام الشافعي في الرسالة، وعبد الرزاق وسعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} أن لا أذكر إلا إذا ذكرت معي: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله).

وأخرج البغوي والثعلبي والواحدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى عليه وسلم وعلى آله: أنه سأل جبريل عن هذه الآية؛ فقال: قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي وفي شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وضم الإله اسم النبي مع اسمه .. إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

المسلسل السابع عشر بالسماع أيضاً

قال العلقمي من استحل ما حرم الله فقد كفر فحص ذكر القرآن لعظمته وجلالته.

(قلت) المعول عليه عند المحققين أن الكفر إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله به، مما اشتهر حتى عرفه الخاص والعام؛ وعليه فمن جحد مجمعاً عليه فيه نص قطعي وهو من الأمور الظاهرة، التي يشترك في معرفتها سائر الناس؛ كوجوب الصلاة، وبقية الخمس أو استحل القتل أو الخمر والزنى؛ فهو كافر بالإجماع.

ويشهد له حديث الباب؛ لأن القرآن نص متواتر قطعي، ومثله من أنكر مجمع عليه منه، ولا بالتواتر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ككون الصلاة خمساً وکعدد ركعاتها وسجداتها أو ترتيب أفعالها.

قال القاضي عياض في الشفا: أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر والزنا، مما حرم الله بعد علمه بتحريمه؛ كأصحاب الإباحة من الغرائطة، وبعص غلاة المتصوفة، وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب بما ذكر أو أنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه؛ كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس وعدد ركعاتها وسجداتها.

ويقول: إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة، وكونها خمساً، وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه؛ إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي، والخبر به عن الرسول خبر واحد انتهى.

ومن أنكر مجمعاً عليه أيضاً، وليس طريقه النقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأكثر المتكلمين والفقهاء والنظار في هذا الباب قالوا كما في الشفا بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع، المتفق عليه عموماً.

وحجتهم قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من خالف الجماعة قيد شبر؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع انتهى.

وأما من أنكر مجمعاً عليه يختص بنقله العلماء كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب؛ فليس بكافر عند الشافعية، وحكى القاضي عياض التوقف وهو المعول عليه عندنا المالكية والشافعية وأما الحنفية فلم يشترطوا في هذا الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بل العلم به حد الضرورة.

قال العلماء في مذهبهم هذا حرج عظیم وكأنه لذلك قال الكمال بن الهمام: يجب حمله على ما إذا على المنكر ثبوته قطعاً؛ لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف انتهى.

(تنبيهان):

الأول: قالوا أن المراد بالإنكار المذكور في تعريف الكفر الذي قدمنا هو عدم التصديق والإذعان؛ فيشمل من يشك أو يكون خالياً عن التصديق والتكذيب وأما الذي يؤمن بكل ما علم من الملك ضرورة وأجمعت عليه الامة قطعاً، وعلم كذلك ولكن ترك شيئاً من ذلك؛ كالذي يترك الصلاة كسلاً مع الإيمان بفرضيتها؛ فهذا لا يكفر في قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وكافة فقهاء الأمصار، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حنبل في احدى الروايتين عنه، وابن حبيب من المالكية، وإن كان ابن بطة من الحنابلة أنكر الرواية عن أحمد بذلك، وانتصر لقول الجمهور، وذكر أن مذهبهم عليه وأنه لم يجد فيه خلافه كما في المغني لابن قدامة (ص ٣٠٠ ج ٢).

وقد أجاب الجمهور عن الأحاديث الواردة في كفر من تركها، بأنها على سبيل التغليظ والتشديد في الوعيد والتشبيه له بالكفر لا على الحقيقة، وانظر الأحكام لابن العربي عند قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (ص ۱۸ ۱۹۰ . ج . ل).

(التنبيه الثاني): لا يرد علي ذكر الإنكار في تعريف الكفر حكم الفقهاء على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكاراً من فاعلها ظاهرا ضرورة أن الانكار فعل القاب والأفعال والأقوال فعل الجوارح؛ لان الفقهاء انفسهم صرحوا بأنها ليست كفراً وإنما هي دالة عليه.

ومن قواعدهم أن يبنوا أحكامهم على المظنات والأمارات؛ فلذلك أقاموا الدوال مقام المداولات، وذلك منهم الحماية حريم الدين وصيانة شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله. 

قال القاضي عياض في الشفا: وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل؛ كالسجود للصنم أو للشمس والقمر والصليب والنار والسعي إلى الكنائس والبيع مع أهلها بزيهم من شدّ الزنانير، وفحص الرؤوس؛ فقد أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر، وأن هذه الأفعال علامة على الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام انتهى. 

وإنما كانت علامة على الكفر؛ لأنها تنم عن أمر باطن وهو التكذيب؛ لأن الظاهر أن من يصدق الرسول لا يفعل ذلك، فحيث أتى به دل على عدم التصديق، وهذا ما لم تقم قرينة على جميع ما بينا في تلك الدلالة؛ كمن لبس شعارهم الديني كشد الزنار سخرية و استهزاء فليس بكفر، كما في شروح المختصر وغيرها.

قال الخفاجي في حواشي البيضاوي: وليس ببعيد إذا قامت القرينة، نعم يحرم ذلك كما نقله بناني عن ابن مرزوق، وهذا كله في اللباس الديني، أما اللباس العادي فلا يحرم؛ فقد لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله جبة رومية ضيقة الكمين، ولبس خفين أسودين أهداهما له المقوقس مسح عليها صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصلى بها، وأما البرنيطة؛ فإن كانت عادة قوم في بلادهم يلبسها الناس، لا فرق بين المسلم وغيره؛ فهي جائزة كما في الفتوى الترنسفالية للإمام محمد عبده، وكذا إن لُبست الحر أو برد، أما أن لبست عناداً أو تعززاً بها واستخفافا باللباس الوطني؛ فتحرم.

والقاعدة أن الأحكام في الأمور الدنيوية تتبع الملة وجوداً وعدماً كما ينظر فيها إلى المصالح الاجتماعية للأمة لا للأفراد والله تعالى أعلم.

 المسلسل الثامن عشر بالسماع في يوم العيد 

وأعلم أنه قد شرعت صلاة العيدين شكراً لله تعالى على إتمام الصوم، على العبادة الواقعة في عشري ذي الحجة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب؛ فقول الله عز وجل: {فصل لربك وانحر}، المشهور في التفسير أن المراد بذلك صلاة العيد.

وأما السنة؛ فثبت بالتواثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله كان يصليها.

وانعقد إجماع المسلمين عليها، وإنما اختلفوا في حكمها على ثلاثة أقوال: 

الأول: سنة مؤكدة وهو قول مالك وأكثر اصحاب الشافعي ثم اختلفوا إذا امتنع الناس من فعلها قاتلهم الأمام عليها لانها شعار ظاهر وقيل لا يقاتلون عليها وقال ابن رشد يأثم من تركها لغير عذر يبيح التخلف عن الجمعة.

الثاني: أنها واجبة على الأعيان وهو قول أبي حنيفة وابن حبيب من المالكية.

الثالث: فرض كفاية وهو قول أحمد وحكاه الاصطخري من الشافعية واختاره جمع من المالكية كما لابن رشد في المقدمات وغيره، وعلى أنها فرض كفاية فإن امتنع أهل البلد منها قوتلوا عليها كغيرها من فروض الكفاية.

واستدل القائلون بسنيتها: بجواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال له: هل علي غيرهن؟ وهو قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (لا، إلا أن تطوع)، وبقوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد)، وبأنها صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تكن واجبة كصلاة الاستسقاء والكسوف.

أما القائلون بالوجوب أو فرض الكفاية؛ فاستدلوا بكونها المراد في قول الله عز وجل: {فصل لربك وانحر}، والأمر يقتضي الوجوب، وبأنها من أعلام الدين الظاهرة؛ فكانت واجبة كالجمعة، وبمواظبته صلى الله عليه وسلم علي فعلها كما في الأحاديث الصحيحة، وبأمره صلي الله عليه وسلم الجميع بالخروج إليها كما في حديث أمره صلى الله عليه وسلم أن يغدوا إلى مصلاهم بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال، وهو حديث صحيح.

وثبت في الصحيح من حديث أم عطية، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين)؛ فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر له بفحوى الخطاب، والرجال أولى من النساء بذلك؛ لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه.

ومن الادلة على وجوبها: أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد -كما ورد في بعض الآثار الصحيحة، وروي ذلك عن ابن الزبير وعلي، وبه قال عطاء وأحمد، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً، وبأنها لو لم تجب لما وجب قتال تاركيها؛ كسائر السنن يحققه أن القتال عقوبة لا تتوجه إلى تارك مندوب؛ كالقتل والضرب.

وأجاب الحنابلة ومن وافقهم في القول بأنها فرض كفاية عن حديث الأعرابي الذي استدل به القائلون بكونها سنة، بأن الأعراب لا تلزمهم الجمعة؛ لعدم الاستيطان فالعيد أولي، أو يقال أنه كان قبل وجوبها.

وعن الحديث الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد)؛ بأنه مخصوص بما ذكر، على أنه إنما صرح بوجوب الخمس وخصها بالذكر لتأكيدها ووجوبها على الأعيان، ووجوبها على الدوام في كل يوم وليلة، وغيرها يجب نادراً أو لعارض كصلاة الجنازة والمنذورة والصلاة المختلف فيها فلم يذكرها.

وعن قياسهم بأنه لا يصح؛ لأن كونها ذات ركوع وسجود لا أثر له، بدليل أن النوافل كلها فيها ركوع وسجود وهي غير واجبة؛ فيجب حذف هذا الوصف لعدم أثره، ثم ينقض قياسهم بصلاة الجنازة وينتقض على كل حال بالمنذورة.

واحتجوا على الحنفية وابن حبيب القائلين بوجوبها على الأعيان بأنها لا يشرع لها أذان، فلم تجب على الأعيان؛ كصلاة الجنازة، ولأن الخبر الذي ذكره مالك -ومن وافقه -يقتضي نفي وجوب صلاة سوى الخمس، وإنما خولف بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صلى معه فيختص من كان مثلهم، وبأنها لو وجبت لا تلزمهم علي الأعيان؛ إذ لو وجبت، لوجبت خطبتها ووجب استعمالها الجمعة هذا ملخص ما لأئمة المذاهب وأهل الأثر في حكم صلاة العيدين.

وأما الخطبة فليست واجبة باتفاق أهل العلم؛ وهي سنة أو مندوبة على خلاف بين أئمة المذاهب، والقولان مما عند المالكية، ويشهد لعدم وجوبها حديثنا المسلسل الذي به افتتحنا؛ فلو كانت واجبة لوجب استماعها، ولما خيرهم صلى الله عليه وسلم بين الجلوس لها وبين الذهاب.

والحديث المذكور وكافة الأحاديث تدل على أن المشروع فيها تأخيرها عن الصلاة، وهو أمر متفق عليه بين علماء الأمصار وأئمة الفتوى، ولا خلاف بين الأئمة فيه كما صرح به ابن قدامة وعياض وغيرهما؛ لأنها لما لم تكن واجبة، جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها، بخلاف خطبة الجمعة وأول من أخرها مروان بن الحكم، وقيل معاوية، وقيل زياد في مدة معاوية والصحيح الأول.

وما روي من أن عمر وعثمان وابن الزبير قدموها لم يصح -كما صرح به ابن العربي وعياض وابن قدامة والعراقي وغيرهم؛ قال ابن قدامة: ولا يمتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم و مخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفاً للسنة انتهى.

روى الجماعة إلا أبا داود، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة، وفي الباب: عن جابر عند البخاري ومسلم، وعن ابن عباس عند الجماعة إلا الترمذي، وعن أنس عند البخاري ومسلم، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة غيرهم، وعليه فإن قدمت على الصلاة فاختلفت أنظار الأئمة في ذلك؛ ففي مختصر المزني عن الشافعي: ما يدل على عدم الاعتداد بها، وقال النووي في شرح المهذب أن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها قال وهو الصواب. 

وقال ابن قدامة في كتابيه المغنى والشرح الكبير: أن من خطب قبل الصلاة كان كمن لم يخطب؛ لأنه خطب في غير محل الخطبة فأشبه ما لو خطب في الجمعة بعد الصلاة.

أما مذهب المالكية فاستحباب إعادتها في الوقت لا غير؛ ففي المختصر وشرحه عطفاً على المندوبات: وأعيدتا إن قدمتا وقرب ذلك، أي كالقرب الذي يبني معه في الصلاة. ومقتضى هذا صحة الصلاة، وهو الذي يشهد له حديث أبي سعيد: أنه خرج مع مروان حتى أتى المصلى؛ فإذا مروان يجره نحو المنبر وهو يجره نحو الصلاة، ثم انصرف عنه أبو سعيد كما في صحيح مسلم، قال شراحه: أنه انصرف عن المنبر إلى محل الصلاة لا أنه خرج ولم يصل؛ لما في البخاري من أنه صلى معه، وكلمه في الأمر بعد الصلاة/ ولو كان يرى أن الصلاة لا تجزئ مع تقدم الخطبة لم يصل معه.

المسلسل التاسع عشر بالسماع في يوم عاشوراء 

وأخرجه باللفظ المذكور ابن حبان في صحيحه وأخرجه الطيالسي بلفظ: (إني لأحتسب)، ومعنى احتسب: أرجو من الله أن يجعل أجره، أو يبقي ثوابه ذخيرة عنده، كفارة السنة الماضية، واستشكل بعضهم هذا؛ بأنه ورد في نفس الحديث (أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)؛ فما الذي يكفره صيام يوم عاشوراء؟ وأجيب بأنه يعطى حسنات ويرفع درجات عوضاً عن تكفير السيئات.

 وقوله: (يوم عاشوراء) هو اليوم العاشر من محرم -كما هو ظاهر الأحاديث، ومقتضى الاشتقاق والتسمية والاستعمال، وقد ورد في صيام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله له وأمر بصيامه عدة أحاديث، ومقتضاها أن قريشاً كانت تصومه في الجاهلية؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه صامه أيضاً ورغب في صيامه، وأمر من أذن في الناس: (أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم)، وأنهم كانوا يصومون الصبيان الصغار، ويذهبون بهم إلى المسجد؛ فيجعلون لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه اياها حتى يتم صومهم.

وأنه لما فرض صيام شهر رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اليوم لم يفرض عليكم صيامه وأنا صائم؛ فمن شاء صام ومن شاء فليفطر)، وأنه صلى الله عليه وسلم، قال في السنة الأخيرة: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)، فمات صلى الله عليه وسلم وعلى آله في تلك السنة، وهذه الأحاديث متفق عليها، وأكثرها يدل على أن صومه كان واجباً، ثم نسخ.

وفيه رد على من قال ببقاء فرضيته -كما نقله القاضي عياض في الإكمال -عن بعض السلف، ونقل ابن عبد البر الإجماع على عدم بقاء فرضيته، وأن ابن عمر كان يكره قصده بالصوم إلا إذا صادف صوماً كان يصومه. 

ثم انعقد الاجتماع على تأكيد استحبابه، وذلك لاستمرار اهتمام النبي صلي الله عليه وسلم به حتى في عام وفاته، ولترغيبه فيه صلى الله عليه وسلم، وإخباره أنه يكفر سنة قبله كما يشهد له حديث المسلسل الصحيح، وانظر الفتح والإكمال والأبي والشوكاني.

(تنبيه): لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يفعل يوم عاشوراء إلا الصيام، كما تقتضيه الأحاديث السابقة، وحسنت التوسعة على العيال؛ لحديث: (من وسّع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)، واختلف في هذا الحديث من الصحة إلى الوضع، والصواب أنه حسن؛ فقد اورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الزركشي: لا يثبت، لكن قال الجلال السيوطي: أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن مسعود و جابر رضي الله عنهم، وقال: أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفادت قوة.

وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في أماليه: حديث أبي هريرة هذا ورد من طرق، صحح بعضها أبو الفضل ابن ناصر، وقال: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول، لكن ذكره ابن حبان في الثقات؛ فالحديث حسن، وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار من رواية أبي الزبير عنه، وهي أصح طرقه، وورد أيضاً من حديث ابن عمر وأخرجه الدارقطني في الأفراد موقوفاً على ابن عمر؛ قال الحافظ العراقي وقد جمعت طرقه في جزء انتهى.

وقد لخص الخبر المذكور جلال الدين السيوطي في التعقبات على الموضوعات فانظره، وانظر اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة له؛ فقد أطال فيه.

أما الاكتحال، ولبس الجديد وغير ذلك من أنواع التجمل؛ فكله مما ابتدعه ملاعنة بني امية فرحاً بمقتل سيدنا الحسين الشهيد -نفسي له الفداء -وعليه وعلى أبيه أزکی الصلاة والسلام، والآثار الواردة في ذلك موضوعة لا تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يعتمد علي شيء منها، وكذلك بقية الخصال التي تذكر في كتب الفقهاء ونظمها كثير ممن لا علم له بالسنة.

ولهذا قال علي الأجهوري: ولم يرد من ذا سوى الصوم، كذا توسعة وغير هذا انتبذوا، وأما ما يفعله بعض بدو العرب عندنا من النياحة والندب أيام عاشوراء على المسمى عيشور، وكذا إيقاد النار التي يسمونها بالشمالة عند طلوع فجر يوم عاشوراء، وإلقاء شبح من الكتان والقش مكفناً فيها، وبعضهم يسميه باليزيد؛ فكل ذلك من بقايا آثار بني عبيد من الرافضة، لأن كل العرب الذين ببادية المغرب هم الذين سرحوهم من صعيد مصر إلى المغرب ليكتسحوه، انتقاماً من أهله؛ لما رفضوا دعوتهم الرافضية، وتمسكوا بمذهب أهل السنة، فنقلوا معهم جرائمهم التي أفسدوا بها أخلاق أهل المغرب وعوائدهم ولغتهم العربية الصحيحة.

ومازالت بعض الفرق منهم على عقيدتهم الفاسدة من الحلول والزندقة والإباحة؛ كفرقة الشراقة التي كانت ادعت ألوهية الشيخ أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني، وكان قاتلهم عليها رحمه الله كما في مرآة المحاسن وغيرها؛ وكفرقة المكاكرة التي كانت ظهرت في أحواز العاشرة وما بعدها وهي التي ألف فيها أبو علي اليوسي رسالته المشهورة، وكالفرقة المعروفة اليوم بالبضاضوه وأصلها من أحواز مليانه من الجزائر، وليلتهم التي يختلطون فيها رجالاً ونساء في الظلام مشهورة؛ فقد كانوا يقيمونها بقبيلة أولاد عيسى حيث جمهورهم إلى الآن لكنهم تركوها اليوم لما كثر اختلاط الناس بهم.

المسلسل العشرون بقول كل راو إني أحبك فقل اللهم أعني على شكرك وذكرك (الحديث)

(قلت) الذكر بعد الصلاة من الأمور المشروعة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله والترغيب فيه، وقد وردت عدة أحاديث في بيان ما يقال من الأذكار والتحديد لأعدادها؛ فينبغي للمرء أن يقدم ما دلت الأحاديث على المبادرة فيه؛ فإذا صلى فليقرأ أو ليقل ما أشار إليه الحديث على المبادرة كقوله دبر الصلاة أو عقب الصلاة، وينظر ما كان دليله صحيحاً فليقدمه على غيره.

وكذلك ينبغي أن لا يزيد على الأعداد الواردة في الاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير وغيرها؛ لأن لتلك الأعداد حكمة خاصة ولا يعدل عن الألفاظ النبوية إلى غيرها للتعبد بتلك الألفاظ الشريفة، ولأن العدول إلى غيرها لا يتحقق معه الامتثال ولأن الفضل الوارد هو مرتب على تلك الألفاظ والدعوات الواردة عن النبي صلي الله عليه وسلم بألفاظها المحفوظة في كتب الحديث لا على غيرها.

 فمن استبدلها لم ينل الأجر الوارد فيها، ولما في ذلك من التقدم بين يدي الله ورسوله؛ لأن الأذكار المؤقتة وفضائلها إنما تتلقى من النبوءة بوحي من الله تعالى، بل قال أبو بكر بن العربي في الأحكام عند قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، ما نصه: ولا يدعون أحدٌ منكم إلا بما في الكتب الخمسة وهي كتاب البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي؛ فهذه الكتب هي بدء الإسلام، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف وذروا سواها، ولا يقولن أحد اختار دعاء كذا؛ فإن الله قد اختار له وارسل بذلك إلى الخلق رسوله انتهى.

ونقل الحافظ أبو زيد الفاسي في أزهار البستان والمحقق ابن زكري في شرح المشيشية من جواب للجد أبي السعود عبد القادر الفاسي ما نصه: لا يعمد أحدٌ إلى ذكر أو دعاء يخترعه ويرتب عليه ثواباً وأجراً أخروياً؛ فإن ذلك إنما يكون بتوقيف من النبوءة انتهى. وهذا في مطلق الأذكار فكيف بالأذكار المؤقتة كالأذكار عقب الصلاة 

( المسلسل الواحد والعشرون بقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )

وقوله فيه: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو الذي عليه الجمهور، ولتضافر الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ كذلك، إلا أنه أخرج أبو داود والبيهقي، عن عائشة رضي الله عنها -في ذكر الإفك -قالت: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف على وجهه، وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، {إن الذين جاءوا بالإفك} الآية).

 وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلي عليه وسلم (كان إذا قام إلى الصلاة كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول الله أكبر كبيرًا ثلاثا، ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)، هذا لفظ أبي داود والترمذي، وقد أدخل حديثين بعضهما في بعض.

وقال الإمام أحمد في رواية عنه أن القارئ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، وانظر وجهها في كتاب اغاثة اللهفان لابن القيم (ص ٥٢ ج ل).

والأصل في مشروعية الاستعاذة قول الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}، والأمر فيها للندب عند الجمهور، وروي عن عطاء والثوري الوجوب لكل قراءة وصلاة مجملاً وأن الأمر على الوجوب نظراً إلى أنه حقيقة فيه، إلا أنه رد بما هو مفصل في كتب الخلاف.

ثم اختلفوا فذهب الثوري وابن راهويه وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في احد قوليه إلى أن محله في الصلاة بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة في الركعة الأولى فقط، وذهب الحسن وعطاء وابن سيرين والنخعي والشافعي في القول الآخر إلى أنه يشرع في كل ركعة؛ لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره -كما في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا}.

ورد بان الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها إلا أنه كان يفعل ذلك في الركعة الأولى فقط؛ ففعل النبي هو المقدم والأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة؛ لأن أقوال وأفعال الصلاة توقيفية، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيها.

أما مالك؛ فقال: لا يتعوذ في الفريضة ويتعوذ في النافلة، وفي رواية: في قيام رمضان، ولعله كان يرى ذلك خيفة اعتقاد وجوبه -الذي قال به عطاء والثوري -وله اسوة في ذلك فقد أخرج ابن العربي في الأحكام، بسنده إلى عامر بن حذيفة بن السيد، قال: لقد رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان عن أهلهما خشية أن يستن بها؛ فهذا ملحظ مالك عندنا.

ولا يخفى أن مذهبه مبني على سد الذرائع، ولا يقال: أنه لم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ فقد ذكر ابن العربي في الأحكام أنه كان في نفسه يقرأ دعاء الاستفتاح الوارد في حديث أبي سعيد المتقدم، ومن جملته الاستعاذة؛ فلو لم يبلغه ما تعبد الله به.

وقول فقهاء المذهب أنه مكروه من ابشع ما يسمع؛ لأنه لا يقال لشيء فعله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله: أنه مكروه وبعدما رد ابن العربي هذا القول -قال: ما أحقنا بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لولا غلبة العامة على الحق، وتعلق من اخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل، ولم يثبت عندنا أن أحداً من ائمة الأمة ترك الاستعاذة وهو أمر يفعل سراً؛ فكيف يعرف جهراً انتهى، وهو صادق فيما قال.

والاولى للمالكي قوله تبعاً للسنة وقد كان جماعة من متأخري الأندلسيين يقولون: نحن على مذهب الفقهاء في أحكام الحلال والحرام، وعلى مذهب أهل الحديث في السنن والآداب نقله المواق في سنن المهتدين، وأيده من بعده، بل قال أبو زيد الفاسي في الأقنوم عند ذكر علم الأصول ما نصه: 

فإن يكن مكلف مقلداً .. بلغه حديث ضعيف سندا

قول إمام وهو ليس يعرف .. دليل ذاك القول حيث يوصف

أخذ بالضعيف من حديث … ويترك القول من المبحوث

 أما إذا صح فلا سبيل لقول غيره … ولا عدول، إلى أن قال :

ولا يجوز ترك آي أو خبر  ..صح لقول صاحب أو ذي نظر 

(تتميم) قد أبدي العلماء وجوها لافتتاح القراءة بالاستعاذة؛ فمن مكثر ومن مقل، وأجمع ما رأيت في هذا المعنى ما ذكره الإمام ابن القيم عليه الرحمة في كتابه إغاثة اللهفان:

فمنها أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب بما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة؛ فهو دواء لما أمره فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلي منها القلب ليصادف الدواء محلاً خالياً؛ فيتمكن منه ويؤثر فيه؛ فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.

ومنها أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولاً؛ فكلما احس بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه؛ فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها، وكأن من قال أن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى وهو لعمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الامة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين.

ومنها أن الملائكة تدنو من قارئي القرآن وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ وكانت مثل الظلة فيها مثل المصابيح؛ فقال عليه السلام تلك الملائكة والشيطان ضد الملك وعدوه؛ فأمر القاري الله مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاصة ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.

ومنها أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القاري به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.

ومنها أن القارئ مناج الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءتها الشعر والغناء؛ فأمر القارني أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته الله تعالى واستماع الرب قراءته.

ومنها أن الله تعالى أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في امنيته، والسلف كلهم على أن المعنى إذا تليَ ألقي الشيطان في تلاوته، قال الشاعر في عثمان:

تمنى كتاب الله أول ليله .. وآخره لاقى حمام المقادر 

فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم؛ ولهذا يغلط القاري تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه، ويخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه فهمه وقلبه؛ فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا فربما جمع باله، فكان من أهم الأمور استعاذته بالله منه.

ومنها: أن الشيطان من أحرص ما يكون علي إحباط الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي الصحيح عنه صلي الله تعالى عليه وسلم وعلى آله: أن شيطاناً تفلت عليَّ البارحة، فأراد أن يقطع علي صلاتي الحديث. 

وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر، وفي مسند الأمام أحمد من حديث سبرة ابن أبي الفاكهة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقول: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه؛ فقعد له بطريق الإسلام؛ فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فاسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد؛ فقال له: أتقاتل وهو جهد النفس والمال؛ فقاتل تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؛ فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير).

وقال منصور، عن مجاهد رحمه الله: ما من رفقة تخرج من ملة، إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره؛ فهو بالرصد، ولاسيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالي منه أولها، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره.

ومنها أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بان المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه السامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعادة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شرع ذلك القاري وإن كان وحده لما ذكرنا من الحكم وغيرها فهذه بعض فوائد الاستعاذة والله الموفق وبه الاستعاذة. 

المسلسل الثاني والعشرون بالسؤال عن السن 

وقد نظمه بعضهم بقوله: 

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب 

 فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة .. بمكفر وبجاسد ومكذب 

والمكفر راجع للمذهب، والحاسد للمال، والمكذب للسن.

 وأخذه أبو حفص الفاسي فقال :

المرء يسأل دائماً عن سنه …  والرأي والمال المسود من يسود

فإذا سئلت فلا تجب عن واحد …  خوف المكذب والمكفر والحسود 

( قلت ) إذا انتفت العلة التي أبداها مالك رحمه الله لم يبق مانع من الجواب عن السؤال؛ لما ينبني عليه من الفائدة؛ فإن معرفة تاريخ مواليد الرواة هو فن مهم في علوم الحديث، به يعرف اتصال الحديث وانقطاعه، وقد ادعى قوم الرواية عن قوم فنظر في التاريخ فظهر انهم زعموا الرواية عنهم بعد وفاتهم بسنين.

قال حفص بن غياث القاضي: إذا اتهمتم الشيخ محاسبوه بالسنين، يعني سنه وسن من كتب عنه، وقال سفيان الثوري: لما استعمل قوم الكذب استعملنا لهم التاريخ، وقد أشبع علماء الحديث الكلام على هذا المعنى في مؤلفاتهم انظر التقريب والتدريب للنووي والسيوطي (ص ٢٥٤)

المسلسل الثالث والعشرون بالسؤال عن الاسم وتوابعه 

وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا أحببت رجلاً؛ فاسأله عن اسمه واسم أبيه، فإن كان غائباً حفظته، وإن كان مريضا عدته، وإن مات شهدته)، وهذا فن من فنون علم الحديث؛ فإن معرفة الاسم والبلد وتوابعها مما يفتقر إليه حفاظ الحديث في مصنفاتهم وتصرفاتهم؛ لأنه بذلك يميز بين الاسمين المتفقين في اللفظ.

ولم يزل المشارقة إلى الآن على هذه فمهما اجتمع شخصان لاسيما إذا كان أحدهما غريباً، فأول شيء يفعلونه أن يعرف الاول الثاني بنفسه، ثم يسأله عن اسمه وبلده وتوابعهما، وبهذا يحصل التعارف والتعاون، ومن ها هنا يتكون تاريخ الرجال.

أما المغاربة؛ فمنذ كانوا وعنايتهم بهذا ضعيفة؛ حتى ضاعت اخبار كثير من علمائهم، وقد ذكروا في ترجمة أبي حامد العربي الفاسي صاحب المرآة: أنه كان شديد الاعتناء بالأخبار والوقائع، وأنه كان إذا أتي شخصاً، سأله عن اسمه ونسبه و مولده وبلده، وقيد ذلك فوراً، وأنه كان يصف المغاربة بالإهمال، ويقول: قد ضاع في المغرب عدة أفاضل بسبب عدم الاعتناء بالتاريخ.

وعبارته في طالعة المرآة: وقد وصفوا المغاربة بالإهمال، ودفنهم فضلائهم في قبر تراب الإهمال، فكم فيهم من فاضل نبيه طوى ذكره عدم التنبيه فصار اسمه مهجوراً، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً؛ وقد كنت منذ بداية الطلب معتنيا بهذا فكل من لقيته أسأله عن ما ذكر، بل كنت اكتب إلى نواحي الديار المشرقية اسأل من لي غرض في معرفة أحواله؛ حتى اجتمع لي من ذلك شيء المعجم الذي طبعنا.

وقد كان وما زال البعض من الذين لم يذوقوا لذة العلم يسخرون مني لأجل ذلك ويقولون إنني أضيع الوقت فيما لا نفع فيه، ولكنهم قوم لا يفقهون ونحن نسخر منهم كما يسخرون؛ فإننا لم نشتغل بما ذكر وغيره لاجل الفائدة الدنيوية، بل كان قصدنا هو العلم لذاته.

أما النفع المادي فمع ضمانة الله تعالي له وكفالته به؛ فإنه تعالى قد هيأ له أبواباً كثيرة من أهمها وأعظمها العلم وبه يتوصل لكل شيء من أمور الدين والدنيا والآخرة والمحروم من حرم حسن القصد، وهب أنه لا نفع لنا مادياً فيما نشتغل به؛ فإننا من الوجهة الأدبية لسنا بخاسرين، وقد قال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}.

المسلسل الرابع والعشرون بالسؤال عن الاخلاص 

وهو حديث قدسي شريف، أخرجه أبو القاسم بن الطيلسان في مسلسلاته وقال حديث غريب، وقد ذكر في حصن الشارد أن الدارقطني صرح بأن الجهيمي متروك، وأن الحسن لم يسمع من حذيفة، بل ما لقيه اصلاً، والراوي عنه مجمع على ضعفه انتهى.

(قلت): طعنهم في رواية الحسن البصري، إنما هو في روايته عن علي بن أبي طالب عليه السلام، أما روايته عن حذيفة بن اليمان فقد صرح جماعة بروايته عنه، بل قال الحافظ أبو العباس أحمد بن يوسف المادي في المنح الصافية أنه كان مختصا به، وعليه اعتمد وعلى ما تلقى منه عول وإليه استند، كما اخبر هو بذلك عن نفسه؛ حين سئل وذكر أبو طالب المكي في كتاب العلم من القوت، أنه قيل له: يا ابا سعيد إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك؛ فممن أخذت هذا العلم؟ فقال رضي الله عنه: من حذيفة بن اليمان.

وقد وقع ذكر الإخلاص في غير ما آية وحديث، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا الله الدين الخالص}، وقال: {قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}، وفي الصحيح من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).

وقد قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي فيها أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل؛ حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}.

وقال المفسرون في قوله تعالى: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن}، إن إسلام الوجه هو اخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وقد تنوعت عباراتهم في الإخلاص والقصد واحد، فقيل: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، والصدق التنقي من مطالعة النفس؛ فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق، ولا الصدق إلا بالإخلاص، ولا يتمان إلا بالصبر.

وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره، ومن كلام الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من اجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب، وقال بعضهم: الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سواه، وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء. 

وقال شيخ الإسلام المروزي في كتاب منازل السائرين: الإخلاص تصفية العمل من كل شوب، قال شارحه ابن القيم في مدارج السالكين: أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس، أما طلب التزين في قلوب الخلق، وأما طالب مدحهم والحرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله تعالى بعمله، كائناً ما كان انتهى.

وهو على ثلاث درجات -كما بينه في منازل السائرين -الدرجة الأولى: إخراج رؤية العمل عن العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنزول عن الرضاء بالعمل.

الدرجة الثانية: الخجل من العمل مع بذل المجهود، وتوفير الجهد بالاحتماء من الشهود ورؤية العمل في نور التوفيق من عين الجود.

الدرجة الثالثة: إخلاص العمل بالخلاص من العلم تدعه يسير سير العمل وتسير أنت مشاهداً للحكم حراً من حق الرسم انتهى. وانظر شرح هذه الدرجات في مدارج السالكين (ص ٥٠ ج ٢) 

وبما قررنا يتبين لك وجه كونه سراً من أسرار الله استودعه قلب من أحب من عباده؛ ولهذا قال الجنيد: أنه سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.

(المسلسل الخامس والعشرون بقول كل راو يرحم الله فلانا لو أدرك زماننا) 

وليد المذكور هو ابن أبي ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، يكنى أبا عقيل عد في الطبقة الثالثة من شعراء الجاهلية، وهو معدود في عدة طبقات من طبقات الناس في الشعراء والأجواد والمعمرين والزهاد والنساك وأشعاره جيدة ومن أجودها معلقته الشهيرة التي مدح بها النعمان بن المنذر حين وفد عليه، أدرك الإسلام وقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وافي وفد من قومه مستسقياً حين اشتد الجدب على مضر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم وحسن إسلامه، ورجع مع قومه إلى ديارهم، ثم قدم الكوفة فأقام بها إلى أن مات في خلافة معاوية، وله مائة وخمسون سنة أو أكثر أو اقل، على خلاف معلوم في ذلك.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله بالكوفة سل لبيد والاغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران، وفي رواية: أنه قال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة؛ فزاد عمر في عطائه خمسمائة درهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: أصدق كلمة قالها الشاعر: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل).

ووقع في معجم الشعراء للمرزباني: أن النبي صلي الله عليه وسلم قالها على المنبر، وكان لبيد شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان نذر أن لا تهب الصبا إلا نحر وأطعم، ولما نزل الكوفة كان أميرها المغيرة بن شعبة إذا هبت الصبا يقول: أعينوا أبا عقيل على مروءته، وذكر المبرد وغيره أن الصبا هبت يوماً وهو معلق.

وفعل ذلك الوليد بن عقبة وكان أميراً عليها لعثمان بن عفان فخطب الناس؛ وقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل وما وأكد على نفسه فأعينوا أخاكم، ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة وبعث الناس إليه فو في نذره وكتب إليه الوليد بأبيات مع الإبل: 

أرى الجزار يشحذ شفرتيه .. إذا هبت رياح أبي عقيل 

أغر الوجه أبيض عامري .. طويل الباع كالسيف الصقيل 

وفي ابن الجعفري بحلفتيه .. على العلات والمال القليل

بندر الكوم إذ سحبت عليه ذيول  … صبا تجاوب بالأصيل 

فلما أتاه الشعر وكان قد ترك الشعر منذ أسلم، قال لابنته أجيبيه، فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر، فقالت : 

إذا هبت رياح أبي عقيل ..  دعونا عند هبتها الوليدا

أشم الأنف أصيد عبشمياً .. أعان على مروءته لبيدا 

بأمثال الهضاب كأنّ ركباً ... عليها من بني حام قعودا 

أبا وهب جزاك الله خيراً .. نحرناها وأطعمنا الثريدا 

فعُدْ إن الكريم له معاد .. وظني بان أروى أن تعودا 

تم عرضت الشعر علي أبيها؛ فقال: أحسنت لولا أنك استزدته؛ فقالت: والله ما استزدته إلا لأنه مالك، ولو كان سوقة لم أفعل.

وأخبار لبيد شهيرة، وترجمته في كتب الرجال طويلة؛ فإذا شئت أن تستزد فانظر الاستيعاب لابن عبد البر، والإصابة لابن حجر، وشرح المعلقات: أما الحديث الذي أسندنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر حكمة)؛ فكذلك روينا قوله: (حكمة) بدون لام في مسلسلنا، وكذلك أورده الشمس بن مفلح في كتاب الآداب الشرعية، ونسبه لأحمد والبخاري عن أبي ابن كعب (ص ١٠٢ ج) وأورده كذلك شراح الشمائل ونسبوه للبخاري انظر شرح جسوس (ص ٢٣٦)، ونسبه له صاحب كتاب أسنى المطالب بزيادة اللام (ص ٦٧).

وأخرجه باللام أيضاً الديلمي، عن بكر الاسدي وأبو زيد في الجمهرة، بسنده من طريق مالك عن هشام بن عروة والسيوطي في المسلسلات الجياد، ووقعت لنا روايته كذلك في الأربعين المسلسلة بالعترة الطاهرة عليها السلام حسبما يأتي لنا في القسم الثالث إن شاء الله.

وأخرجه الأمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس بلفظ: (أن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً)، وأخرجه أبو داود أيضاً بزيادة عن بريدة بن الخصيب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حكماً، وإن من القول عيالاً).

أما وروده فذكر السيوطي في الجامع الكبير، ونقله ابن حمزة الدمشقي في كتاب أسباب ورود الحديث عن أحمد بن بكر الأسدي، قال: حدثني أبي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى فصاحته قال: ويدلك ياسر هل قرأت القرآن مع ما أرى من فصاحتك، قال: لا ولكني قلت شعراً فأيس مني؛ فقال قل فقال:

وحيِّ ذوي الأضغان تسبِ عقولهم .. تحيتك الأدنى فقد ترفع السفل

وان اعلنوا بالشر فاعلن مثله .. وإن وجموا عنك الحديث فلا تسل

وإن الذي يؤذيك معه سماعه .. فإن الذي قد قالوا بعدك لم يقل 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً، ثم أقرأه {قل هو الله احد})؛ وأنشد أبيات بكر هذه ببعض تغيير صاحب الجمهرة بسنده إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله قال لبعض من حضر أنشدني كلمتك التي تقول فيها: 

وحي جميع الناس تسب عقولهم تحيتك ... الادنى فقد ترفع النفل 

فإن أظهروا بشرا فأظهر جزاءه .. وإن ستروا عنك القبيح فلا تسل 

فإن الذي يؤذيك منهم سماعه .. وإن الذي قد قيل خلفك لم يقل 

ولفظ حكما في رواية أحمد وأبي داود هو بكسر ففتح جمع حكمة بكسر فسكون، وهو لفظ مسلسلنا، والحكمة: القول الصادق المطابق للواقع الموافق للحق، المشتمل على المواعظ والأمثال التي يتعظ بها، وعلى ذم الدنيا والركون إليها، والتحذير من غرورها، وإيثارها على الآخرة فالشعر منه ما يكون منها إذا كان مشتملاً على بعض ما ذكروا -مقتضى ما لابن الأثير -أن لفظ حكماً هو بضم الحاء وسكون الكاف؛ فإنه قال على حديث أبي داود الحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل، وهو مصدر حكم يحكم.

وقال على حديث أحمد والبخاري: الشعر حكمة، هي بمعني الحكم، ومنه الحديث: (الصمت حكم، وقليل فاعله) انتهى، وتأكيده في رواية باللام (الحكمة) وفي أخرى بأن: (إن من الشعر الحكمة) رد على من أطلق كراهة الشعر واستقبحه.

وقد روى الدارقطني -بسند حسن -من حديث عائشة، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، والشافعي عن عروة مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الشعر؟ فقال: (الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وقد ثبث في غير ما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه، ويستنشده، ويتمثل به، إلا أنه يغيره لكونه لا ينبغي له.

ففي الشمائل وغيرها، عن جابر بن سمرة، قال: جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما تبسم، ولما أنشده كعب بن زهير لاميته المشهورة من قد عليه مسلماً، وقد جاء فيها من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، كان صلى الله عليه وسلم يستمع ولم ينكر عليه شيئاً؛ حتى في تشبيه ريق سعاد بالراح حيث يقول:

 تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت  .. كأنه منهل بالراح معلول 

مع أن الخمر كانت حرمت قبل وفادته، وكان صلي الله عليه وسلم يثيب قائله على مدحه كما في قضية كعب حين مدحه بلاميته المذكورة، ولما مدحه العباس رضي الله عنه بقوله:

من قبلها طبت في الظلال .. وفي مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر .. أنت ولا مضغة ولا علق 

بل نطفة تركب السفين وقد .. ألجم نسرا وأهله الغرق

 تنقل من صالب إلى .. رحم إذا مضى عالم بدا طبق 

حتى احتوى بيتك المهيمن .. خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما بعثت أشرقت … الأرض وضاءت بنورك الأفق 

 فنحن في ذلك الضياء وفي .. النور وسبل الرشاد نخترق

قال له صلى الله عليه وسلم: (لا ينفض الله فيك)، وروى الترمذي وصححه والنسائي، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة في عمرة القضاء، كان عبد الله بن رواحة يمشي بين يديه صلى الله عليه وسلم وعلى آله ويقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله .. اليوم نضربكم على تنزيله 

ضربا يزيل الهام عن مقيله .. ويذهل الخليل عن خليله 

فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله عز وجل تقول الشعر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح الخيل)، وروى أحمد والشيخان، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لحسان يوم قريظة: (أُهجُ المشركين؛ فإن جبريل معك).

وروى الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً، يفاخر أو قال ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ويقول: (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قال العلماء في هذا الحديث حل إنشاد الشعر في المسجد، بل ندبه إذا اشتمل على مدح الإسلام وأهله والدفاع عنه، وفيه ندب الدعاء لمن قال شعراً في ذلك، وفيه رد على من كره الشعر مطلقاً، وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: تعلموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى ومساوي تتقى، ولا يعارض هذا ما رواه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة: (لأن يمتلئ جوف أحدكم فيها خير له من أن يمتلئ، شعراً)؛ فإن ذلك محمول على الشعر المشتمل على الكذب وقول الزور، وتصوير الباطل بصورة الحق وعكسه ومدح من لا يستحق المدح، وعكسه ونسبة المفاخر والمحامد والمزايا للخالي منها، وعلى ما يورث الضغائن بين الناس، ويلقي بينهم الشقاق ويمين على تفرق كلتهم، ويفصل عرى الاتحاد بينهم، وعلى الهجو بغير حق، والطعن في الأبرياء.

وقصدهم على التغزل والتشبيب في المغنيات ومدح الفسق ونشر الأفكار التي تجر إلى فساد الاخلاق وسقوط الهمم، وبث العقائد الفاسدة، والآراء المضللة، وغير ذلك من النقائص والمساوئ؛ فهذا هو الشعر المذموم.

أما ما كان منه مشتملاً على توحيد الله تعالى والثناء عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، ونشر محاسنه ومعجزات، وما جاء به من هداية البشر وتأييد سنته، وعلى الحكمة والموعظة وبان محاسن الإسلام، والحث على ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق والإرشاد إلى تربية الناشئة على المبادئ الصحيحة والعقائد القويمة ومقاومة البدع وإصلاح الحالة الاجتماعية، وتقوية عزائم الأمة للنهوض من سباتها، والأخذ بما يعينها على رقيها ونقدها من وهدة سقوطها وغير ذلك.

فلا يقول احد بذمه، ولا ينطبق الحديث السابق عليه، وأما قوله تعالى جل ذكره في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}؛ فلا تقتضي غضاضة على الشعر، ولست من عيبه كما لم يكن قوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} من عيب؛ فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر.

وإنما جاءت الآية مبينة أن الله تعالى حجب عن نبيه صلى الله عليه وسلم الشعر مع أنه أفصح بني آدم؛ لما كان الله قد ادخر من جعل فصاحة القرآن معجزة له، ودلالة على صدقه؛ لما هو عليه من أسلوب البلاغة وعجيب الفصاحة الخارجة عن أنواع كلام العرب اللسن البلغاء الفصح المتشدقين اللذة؛ كما سلب عنه الكتابة وإبقاء النبي على حكم الأمية تحقيقاً لهذه الحالة وتأكيدا لها وذلك قوله: {وما ينبغي له} لأجل معجزته التي بينا أن صفتها من صفته، ثم هي بزيادة عظمى على رتبته انظر الأحكام لابن العربي.

وأما قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} الاية؛ فإنها تدل على ما قدمنا من كون الشعر والشعراء على قسمين: ممدوح، ومذموم، وذلك أن الله تعالى بعد ماذم الشعراء ووصفهم بكونهم، إنما يتبعهم الغاوون الضالون عن سنن الحق، وإنهم في كل وادٍ من أودية الجهل والغي هائمون، يقولون ما لا يفعلون، حائرون فيما يأتون وما يذرون، استثنى بقوله طائفة من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق، الثابتين عليه، المدافعين عنه، وبين أن أقوالهم وأشعارهم هي من الأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة، معرفاً بذلك أن الاوصاف المذمومة المسابقة لا تنطبق عليهم، ولا تجر ذيلها على أشعارهم.

ويؤيد هذا، ما ذكره المفسرون في أسباب نزول هذه الآية: أنه لما نزل قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون}، جاء عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يبكون؛ فقالوا: يا رسول الله قد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أننا شعراء هلكنا، فأنزل الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله فتلاها عليهم.

والإشارة في بيتي لبيد وقول عائشة إلى فساد الوقت بذهاب أهل الفضل والعلم والدين، وظهور خلف لهم ممن لا دين له، ولا على عهد ولا ذمة فلا هم ينفعون ولا يرجى خيرهم لتعاملهم بالخيانة وتركهم الأمانة، وعدم انصياعهم للحق، وعيبهم لقائله؛ حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفاً، ومثله ما عند أبي داود والخطابي في العزلة، من حديث سفيان بن أبي جريج، عن أبي هريرة: (ذهب الناس وبقي النساس)؛ فقيل له: ما النسناس؟ قال: قوم يتشبهون بالناس وليسوا بناس، وهو عند أبي نعيم من كلام ابن عباس مثله، وفي المحاسن الدينوري عن الحسن البصري مثله، بدون تفسير.

وزاد: لو تكاشفتم ما تدافنتم، وأنشدوا لأبي نعيم: 

ذهب الناس واستقلوا .. وصاروا خلفا في اراذل النسناس 

في اناس نعدهم من بعيد .. فإذا فتشوا فليسوا بناس 

كلما جيت ابتغى النيل منهم  .. بدروني قبل السؤال بياس 

وبكوني حتى تمنيت أني .. منهم قد أقلت راسا براس 

وانظر الكلام على النسناس في النهاية لابن الأثير، وقد وردت الأحاديث محددة بذلك ومرشدة لما يفعله الإنسان إذا وقع في ذلك. أخرج ابن حبان في صحيحه من طريق العلاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا عبد الله بن عمرو، إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه الكريمة)، قال: فما تأمرني، قال: (عليك بخاصتك، ودع عنك عوامهم).

وفي رواية لأبي يعلى وحنبل بن اسحاق في كتاب الفتن: فكيف تأمرني؟ قال: (تأخذ بما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدع عوامهم)، وأخرجه الطبراني من حديث سهل بن سعيد، وفيه: (وإياكم والتلون في دين الله).

وأخرج البخاري في كتاب الفتن، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا (أن الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة)، وحدثنا عن رفعها: (قال ينام الرجل فتقبض الأمانة من قلبه؛ فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة، فيظل أثرها مثل أثر المجل؛ كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبراً، وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة؛ فيقال في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان ولا أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلماً، رده على الإسلام، وإن كان نصرانياً رده علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً).

وقول حذيفة رضي الله عنه: (الوكت) هـو بفتح فسكون، وهو سواد في اللون، وقوله (المجل) هو بفتح فسكون أيضاً، أثر العمل في اليد، وقوله (ولا أبالي أيكم بايعت) مراده المبايعة في الشراء لا المبايعة بالخلافة، قال ابن العربي في شرح البخاري: قال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين، فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكنى عن الإيمان بالأمانة وعما يخالف أحكامه بالخيانة، وانظر فتح الباري في كتاب الفتن وكتاب الرقاق.

وأخرج البخاري، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعاً: (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه)، وأخرجه الطبراني بسند جيد، عن ابن مسعود موقوفاً عليه، وفيه: (ليس عام إلا والذي بعده شر منه)، وله عنه بسند صحيح قال: (أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة).

قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل هذا الاطلاق، مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز، بل لو قيل: إن الشر اضمحل في زمانه لما كان بعيداً، فضلاً عن أن يكون شراً للزمان، الذي قبله.

وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب؛ فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس، وأجاب بعضهم: بأن المراد تفضيل مجموع المصر علي مجموع المصر؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، وهو في الصحيحين.

وقوله: (أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، أخرجه مسلم، ووجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع؛ فأخرج يعقوب بن شيبة، من طريق الحارث بن حصيرة، عن زيد ابن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: (لا يأتي عليكم يوم، إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله؛ حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا ما لا يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله؛ فإذا ذهب العلماء، استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر؛ فعند ذلك يهلكون).

ومن طريق أبي اسحاق عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود إلى قوله: (شر منه)، قال: فأصابتنا سنة؛ فقال: ليس ذلك اعني إنما اعني ذهاب العلماء.

ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه، قال: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرا خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاً ويجيء قوم يفتون برأيهم)، وفي لفظ عنه من هذا الوجه: وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم؛ فيشلمون الإسلام ويهدمونه انتهى. وهذا ما قصدت أم المؤمنين رضي الله عنها، بدليل: أن لبيد تأسف على ذهاب أهل الفضل وبقائه في خلفهم الموصوفين بالخيانة والرذالة.

(المسلسل السادس والعشرون بقول كل راو في العزلة سلامة)

(قلت) في الباب عن ابن عمر عند الطبراني، والصبان بن صيفي ومحمد ابن سلمة عند أحمد والترمذي، وأبي ذر عند أحمد و أبي داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم، انظر الجامع الكبير للسيوطي، ومنهج العمال لنور الدين ابن المتقي.

وفي حديث الباب وما في معناه: التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، قال الحافظ ابن حجر: والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك، حيث لا يعلم المحق من المبطل، قال الطبري: اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم -وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقاً؛ كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في الآخرين، و تمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها.

ثم اختلف هؤلاء؛ فقالت طائفة: بلزوم البيوت، وقالت طائفة أخرى: بل بالتحول عن بلد الفتن اصلاً، ثم اختلفوا؛ فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده، ولو قتل، ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله وأهله، وهو معذور إن قتل أو قتل، وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب علي كل قادر الاخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور.

وفصل آخرون؛ فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة؛ فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، قال الطبري: والصواب أن يقال أن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه؛ فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.

وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حق أناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك، وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الدنيا.

قال الحافظ: والحق حمل عمل كل أحد من الصحابة المذكورين على السداد؛ فمن لابس القتال اتضح له الدليل لثبوت الأمر بقتال الفئة الباغية، وكانت له قدرة على ذلك، ومن قعد لم يتضح له أي الفنتين هي الباغية إذا لم يكن له قدرة على القتال، وقد وقع لخزيمة بن ثابت، أنه كان مع علي، وكان مع ذلك لا يقاتل؛ فلما قتل عمار قاتل حينئذ، وحدث بحديث: (يقتل عمار الفئة الباغية)، أخرجه أحمد و غيره انتهى.

وقول أبي موسى خرجنا وندمنا يشير إلى قضية خروجه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه و عليه السلام و حضوره معه في صفين، ولا يخفي عليك أن ما قدمنا عن ابن حجر من أقوال الأئمة لا ينطبق على قضية أبي موسى حتى يحتج بالحديث السابق؛ لان أبا موسى كان بايع أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه، وكان في جملته يوم صفين وما بايعه وخرج معه حتى ثبت عنده أنه أهل للخلافة.

ومعلوم أن الإمام عليا هو الإمام الحق بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ لكونه بويع قبل معاوية فيفي عليه ومنع أهل الشام من مبايعته، فتفرقت جماعة المسلمين بسببه وكاتبه أمير المؤمنين ونصحه، فعاند ولم يرجع عن بغيه، وتأيد بغيه بقتله عمار، الذي كان في صف الأمام علي، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله له، أنه قال: (تقتله الفئة الباغية)، والله تعالى يقول:{فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله}.

وفي الحديث: (إذا بويع لإمامين فاقتلوا الثاني منهما)؛ فلم يبق محل لعدم قتال من بغى عليه بعد مبايعته، وثبوت أهليته للخلافة؛ فأحرى الندم على الخروج معه، ولم يصدر ما يوجب عزله.

(فإن قلت): هل لا وسع أبا موسى ما وسع من قعد عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه من الصحابة كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، واسامة بن زيد رضي الله عنهم وما وسع أم المؤمنين عائشة الصديقية رضي الله عنها في خروجها في قضية الجمل؟

فالجواب: أن من ذكر من الصحابة لما وقعت الفتنة وبلغتهم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الانعزال عن الفتنة أداهم اجتهادهم إلى التمسك بظواهرها وحملها على القعود عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقاً، أو لم يتضح لهم لزوم القتال أو لم يعلموا المحق من المبطل فلم يبايعوا أحداً ولازموا بيوتهم إلى أن تنجلي الفتنة.

ولهذا لم يلمهم امير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما الصديقية رضي الله عنها فمعلوم أنها كانت خرجت من المدينة حاجة، والخليفة عثمان رضي الله عنه محصور، ثم صدرت عن الحج، فلما كانت بسرف لقيها الخبر بقتل عثمان رضي الله عنه، ومبايعة علي فرجعت إلى مكة، فاجتمع عليها الناس يطلبون دم عثمان رضي الله عنه، والاقتصاص من قتلته؛ فخرجت معهم ولم تكن في عنقها بيعة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ فلم تحتج إلى إذنه في التوجه معهم، ولم تكن هي ولا من خرج معها من الصحابة كطلحة والزبير رضي الله عنهما يريدون قتاله، وإنما خرجوا للمطالبة بدم الخليفة الشهيد فحسب.

والقتال الذي وقع في يوم الجمل لم يكن بامر الثلاثة المذكورين ولا بأمر علي بل أوقعه سماسرة السوء الذين كانوا في الجيشين، بدليل أنه لما وقع القتال اعتزل الناس طلحة والزبير، ولما انجلت الحرب ذهب عليٌّ عند عائشة رضي الله عنها وقابلها وقابلته بما يجب لكل واحد منهما من الإجلال والغعظام ولم يلمها ولا لامته علي ماصدر من اتباعهما حسبما كل ما ذكرنا مفصل في كتب التاريخ.

فتبين من كل ما ذكرنا أن حالة أبي موسى غير حالة من ذكرنا من الصحابة رضوان الله عليهم، وأن ندمه في غير محله، وأن ما صدر منه من خلع الإمام علي يوم صفين غير معذور فيه، وإن كان هو مجتهداً في ذلك؛ فالحق أن المجتهد يخطئ ويصيب.

فإن قلت: إن العلماء قد نصوا على أنه يجب الإمساك عما شجر بين الصحابة؟

فالجواب أن المسلسل الذي ذكرنا اقتضى أن نبين هل ندم أبي موسى في محله أم لا، وكون الامساك عما شجر بين الصحابة واجباً، ليس هو امراً مجمعاً عليه، بل قول فريق من العلماء رأوا عدم الخوض في ذلك هو الأولى، لكن هناك فريق آخر يرى أن لا مانع من الخوض فيه، وأن لا بأس بــــه لتمحيص الحق؛ ليكون المسالة قد شغلت جانباً كبيراً من التاريخ؛ حتى أصبحت من أهم المسائل المدونة فيه، وذكرت في كتب الأصول والفقه والكلام، وتشعبت مسائلها فلا مانع حينئذ من الخوص والنظر فيها؛ لتمحيص الحق واستنباط المسائل عليها واستخراجها، واندراج الجزئيات في كلياتها؛ فلو لم يخض فيها وتركوا أخبارها وتدوينها في الكتب وأمسك عنها لما عرفت أحكام الباغية.

حيث أنه لم يرد في كتاب الله آية ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله خبر صحيح يعتمد عليها في استنباط الأحكام الراجعة إلى احوال البغاة وسبيهم وأرضهم، وإنما استفيد ذلك من آثار عليٍّ حين قاتل من بغى عليه من أهل الشام والنهروان والبصرة.

وما ورد عن الصحابة فيما يرجع لذلك، قال أبو الطيب القنوجي في الروضة عند الكلام على قتال البغاة: أعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من روى عنه في ذلك علي كرم الله وجهه، ولم يثبت في ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم شيء انتهى فانظره في (ص ٣٥٨ ج ۲).

وإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ فلا معنى للقول بوجوب الإمساك عن الخوض فيها بعد تدوينها في مؤلفات السلف، وما نفعل يا ترى بتلك المؤلفات هل نعدمها أم تعدم المحلات التي ذكرت فيها أو نغمر عليها فلا نتمعنها ولا نترك لفكرنا حرية التفكير فيها.

ولكن من يقول أن القرآن الذي ما نزل إلا لهداية البشر، والحديث الذي ما ورد إلا لبيانه لا يقرآن اليوم إلا لأجل التبرك والتعبد لا يستغرب منه أن يؤيد القول بوجوب عدم الخوض في هذه المسائل ووجوب الإمساك عنها.

ويرد ما ذكرنا من الحجج الساطعة والبراهين القاطعة هذا، ومن أراد الاطلاع علي هذه المسائل علي حقيقتها فعليه بتاريخ الأمام الطبري؛ فقد تتبع علي عادته الروايات الصحيحة وتباعد عن روايات أهل النصب والرفض، وتبعه في ذلك ابن الأثير في تاريخه، كما تكلم عليها ونقل الحجج الشهرستاني في الملل والنحل، وابن حزم في الفصل، وابن تيمية في منهاج السنة، والغزالي في الاقتصاد وغيرهم من فحول النقاد. 

(المسلسل السابع والعشرون بقول كل راو اشتكيت عيني فشكوت إلى فلان )

(تنبيهان): 

الأول: روينا من طريق الحاكم مسلسلاً يشابه هذا، قال في معجم شيوخه: حدثني أبو طاهر عبد الواحد بن علي بن محمد بن ثابت النجار ببغداد، وأنا سألته؛ فقلت له: قد اشتكى ضرسي وأنا أريد الحج، فقال لي: إني اتيت عبد الله بن اسحاق المدائني وقد اشتكيت ضرسي؛ فقال أتيت أبا هاشم الرفاعي فشكوت إليه؛ فقال لي: اقرأ عليه القرآن، وكل عليه التمر، فاني اشتكى ضرسي، فأتيت أبا بكر بن عياش؛ فشكوت إليه؛ فقال لي اقرأ عليه القرآن وكل عليه التمر ففعلت فبرئ، فجئت إليه، فقلت له: عمن أخذت هذا، فقال لي: اشتكيتُ ضرسي فأتيت عاصم بن أبي النجود فشكوت إليه فقال لي اقرأ عليه القرآن وكل عليه التمر؛ ففعلته فبرئت؛ فأتيت عاصماً، فقلت له عمن أخذت هذا؛ فقال: اشتکی ضرسي فأتيت زر بن حبيش، فشكوت إليه فقال: لي اقرأ عليه القرآن وكل عليه التمر، ففعلت فبرئت، فأتيت زر؛ فقلت عمن أخذت هذا؛ فقال أشتكي ضرسي؛ فأتيت عبد الله بن مسعود فشكوت إليه، فقال لي اقرأ عليه القرآن وكل عليه التمر، فأتيت ابن مسعود؛ فقلت له عمن أخذت هذا، فقال: (اشتكى ضرسي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فشكوت إليه؛ فقال لي أقرأ عليه القرآن وكل عليه التمر ففعلته، فيرئ).

وقد أخرجه ابن النجار في تاريخه -من طريق الحاكم، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: هذا خبر موضوع، ورجاله كلهم ثقات غير عبد الواحد شيخ الحاكم أهـ.

قال الحافظ جلال الدين السيوطي في الذيل على الموضوعات، قلت: أخرجه السلفي في الطيوريات: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن سلمان الفاسي املاء، حدثنا أبو الحسن علي بن عتيق ابن يوسف العطار، حدثنا أبو عبد الله المدائني، حدثنا أبو هشام الرفاعي ببه انتهى

ويعني السيوطي بهذا أنه حيث كان رجال سند الحاكم كلهم ثقات غير شيخه عبد الواحد، ورواه غيره من غير طريقه فقد برئت ذمته منه، ولا يحكم عليه حينئذ بالوضع لأجله.

وأما ما رواه الديلمي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل اشتكى ضرسه ضع اصبعك السبابة على ضرسك، ثم اقرأ: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} الآية؛ فقال السيوطي في سنده الحسين بن علوان وعمر بن صبح وهما مشهوران بالوضع.

(التنبيه الثاني) القراءة في المصحف أفضل؛ لما في الأولى من جمع الهمة وحصر الفكر والتدبر في معاني الآيات، وبما فيها من زيادة الأجر؛ لأن النظر في المصحف من غير قراءة عبادة مستقلة كما رواه ابن أبي داود عن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر في وجه الوالدين عبادة، والنظر في المصحف عبادة)؛ فيجتمع للقاري في المصحف فضيلة القراءة وفضيلة النظر والتدبر.

وقد أخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (قراءة الرجل القرآن في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك إلى ألفي درجة)، وأخرج ابن مردويه عن عمر بن أوس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (قراءتك نظراً تضاعف على قراءتك ظاهراً، كفضل المكتوبة على النافلة).

وأخرج أبو عبيد في الفضائل مرفوعاً فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرؤه ظاهراً، كفضل الفريضة على النافلة، وأخرج أبو نعيم في الحلية، والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)، وذكر الغزالي في الإحياء: أن كثيراً من الصحابة كانوا يقرءون في المصحف، ويكرهون أن يخرجوا يوماً ولم ينظروا فيه انتهى.

وروى ابن أبي داود، عن ابن عباس: كان عمر بن الخطاب إذا دخل البيت نشر المصحف؛ فقراً فيه. وعن ابن مسعود وعائشة معنى ذلك. وعن ابن عمر الحث عليه، وقال ابن الجوزي: وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة لئلا يكون مهجوراً انتهى. 

(المسلسل الثامن والعشرون بالأمر بوضع اليد على الرأس عند آخر سورة الحشر)

(تنبيهان):

(الأول): لما أسند ابن جزى الحديث في تفسيره من طريق ابن مسعود، زاد فيه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله افتتح القرآن فضرب فيه، فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر الملائكة أن تضع ايديها على رؤوسها؛ فقالت: يا ربنا ولم ذلك؟ قال: لأنه شفاء من كل داء إلا السلام والسام الموت).

(الثاني) وقع في حصر الشارد ما يوهم أن الخطيب لم يرو هذا الحديث عن أبي نعيم مباشرة، وإنما نقله عنه؛ فإنه قال عن الخطيب: قال أبو نعيم وهو بلا شك تصحيف من النساخ، فقد رواه من طريقه عنه الصدفي كما أسندناه عنه بواسطة المنح البادية، وأورده من طريقه أيضاً الجلال السيوطي في الدر المنثور، وصرح بما يدل على ذلك؛ حيث قال أنبأنا أبو نعيم.

وكذلك أسنده الشيخ يوسف الحلبي في ثبته كفاية الراوي من رواية الفخر بن البخاري (ص ۲۷)، وهي الطريق التي أوردها في حصر الشارد، وما ذكرنا من أن خلف يرويه عن سليم عن حمزة عن الاعمش عن يحيى عن علقمة هو الصواب خلافا لصاحب حصر الشارد حيث أسقط حمزة بين سليم وبين الأعمش، وخلافاً لصاحب المنح حيث اسقط يحيى بين الأعمش وبين علقمة.

ويؤيد ما ذكرنا ما أورده السيوطي في الذيل من طريق الديلمي (ص ۲۲) وما أورده من طريق الخطيب عند المسلسل بعقد الخمس (ص ٢٦) إلا أنه في (ص ۲۲) سمى سليماً بسليمان، وذكره على الصواب في سند الخطيب، والأول تصحيف من المطبعة لا غير، بل وقع فيها ما هو أفحش من ذلك؛ فقد سقط منها ما بين غلام ابن شنبود وبين الأعمش، وذلك يوهم أنه يروي عنه وهو بعيد، وقد اغتر بذلك المدارسي في كشفه؛ فصرح بسماعه منه والعذر له لأنه صرح في أوله بأنه لم يقف إلا على كتابين من كتب هذا الشأن كما سقط في سند الديلمي، الثاني ما بين حمزة بن حبيب وبين علي بن أبي طالب.

واعلم أن هذه الآيات: {لو أنزلنا هذا القرآن} إلى آخر السورة، هي موعظة للإنسان وذم لأخلاقه في غفلته وإعراضه عن داعي الله تعالى، وذلك أن القرآن نزل عليهم وفهموه وأعرضوا عنه، وهو: لو نزل على جبل وفهم الجبل منه ما فهم لخشع واستكان وتصدع خشية الله تعالى، وإذا كان الجبل على عظمه وقوته وقسوته وعدم تأثره بما يصادفه يفعل هذا فما عسى أن يحتاج ابن آدم يفعل، لكنه يعرض على حقارته وضعفه، وفي ذلك تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر.

قال ابن عطية: وقد ضرب الله هذا المثل ليتفكر فيه العاقل ويخشى ويلين قلبه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} انتهى.

ولما كان الخشوع ناشئاً من خشية الله تعالى، جاء سبحانه بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية؛ فقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة} إلى آخر السورة؛ فإن هذه الأسماء تقتضي جلال الله وعظمته وكبرياءه، وأنه لا معبود إلا هو، وأنه عالم بجميع المعلومات، وخالق لكل الأشياء بالاختيار، والمقدر لها على مقتضى الحكمة والمبدع لها من غير أصل، ولا احتذاء والموجد لصورها وكيفياتها وخصائص كل نوع منها، كما أراد أنه المتصرف بالأمر والنهي في جميعها لكونه تعالي هو المالك لذلك والمنفرد بالعز والغلبة والسلطان والجبروت؛ فيعز من يشاء ويذل من يشاء ولا ترجى السلامة إلا منه، ولا تحصل لعبادة الطمأنينة من الفزع إلا بخلقه سبحانه لما في قلوبهم لهيمنته على كل شيء، وعلمه بجميع المعلومات؛ فإذا كان الإنسان متيقنا لما ذكر واستولت خشية الله الموصوف بهذه الأوصاف العظيمة عليه لا محالة يلين قلبه ويخشع ويتأثر بمواعظ القرآن الكريم، ويتدبر ما فيه من الأوامر والنواهي.

 وقوله تعالي: {له الأسماء الحسني} أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو وهذه الأسماء هي التي حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، بقوله: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة) كما عند أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد ذكرها الترمذي بسنده، وأوردها الحاكم من طريق الترمذي ومن طريق أخر كما للحافظ ابن حجر في ترتيب مسند الفردوس.

وقد وردت عدة أحاديث في فضل هذه الآية؛ فمن ذلك ما أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني والبيهقي في الشعب، عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، أنه قال: (من قال حين يصبح -ثلاث مرات -أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه؛ حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة).

وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب، عن أبي أمامة: (من قرأ خواتم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة)، وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً: (اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر).

هذا وما جاء في حديثنا المسلسل من كون هذه الآيات شفاءٌ من كل داء، يؤيده القرآن الكريم، قال تعالى: {وننزل من القرءان ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين}، والمختار أن من في هذه الآية للتبعيض، ومعناه على ما في الكشاف: وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء، قال الآلوسي: وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء كما وهم من أنكر جواز إرادة التبعيض، وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين؛ لعدم الاطلاع، وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص، يتجدد نزول الشفاء؛ كفاء تجدد الداء.

وفيه أيضاً: أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام، وهو بعيد ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني، وهو من خواص بعض دون بعض انتهى.

ومن البعض أول الفاتحة وكثير من الآيات وقد ورد في ذلك آثار مشهورة، أخرج البيهقي في الشعب عن عبد الملك بن عمير مرسلاً: (فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)، وفي رواية له والطبراني في الصغير، عن أبي سعيد وأبي الشيخ في الثواب عن أبي هريرة وأبي سعيد: (شفاء من السهم)، واخرج الديلمي في مسند الفردوس من أبي هريرة مرفوعاً: (آيتان هما قرآن وهما يشفيان وهما مما يحبهما الله: الآيتان من آخر سورة البقرة)، وحديث الرقية من اللدغ بالفاتحة مذكور في الصحيح وغيره.

ومن ذلك آيات الشفاء وهي ست {ويشف صدور قوم مؤمنين}، {شفاء لما في الصدور}، {فيه شفاء للناس}، {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، {وإذا مرضت فهو يشفين}، {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}؛ فقد ثبت نفسها.

قال السبكي جرب ذلك كثيراً، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقى ما ينشي بخاصية روحانية كما في المفردات وذيل التذكرة، ومن ينكره لا يعبأ به لمخالفته للواقع، وللشواهد الكثيرة الواردة في السنة، واختلف أهل العلم في جواز كتابة شيء من القرآن وأسماء الله الحسنى ثم يغسل بالماء فيمسح به المريض أو يسقى ما محيت به؛ فمنع ذلك الحسن والتخمي ومجاهد، وذهب ابن المسيب وابن سيرين ومحمد الباقر إلى جواز كتابة شيء من القرآن وتعليقه على وجه التبرك والاستشفاء، وقال مالك لا بأس بذلك بعد وقوع المرض كالرقي التي وردت السنة بها من العين، وأما قبل فلا.

 وأما ما أخرجه أبو داود، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؛ فقال (إنها عمل من عمل الشيطان)، فالمراد بالنشرة المذكورة ما كان يفعل في الجاهلية، وهي أنواع منها كلمات شركية كانت شائعة عند العرب، يتعوذ بها. 

ومنها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى كالطلسمات والاستخدامات وتعلق ذلك بعلم الطبيعة ومناسبات الأعداد والأوفاق وغير ذلك مما هو معلوم فهذا هو المنهي عنه.

ويؤيده ما في صحيح مسلم من حديث عوف ابن مالك، قال: (كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أعرضوا وقاكم علي، لا بأس برقاكم، ما لم يكن فيه شرك)، قال النووي في شرح مسلم: وكان المراد بالرقى المنهي عنها هي التي من كلام الكفار والرقى المجهولة التي بغير العربية، وما لا يعرف معناها؛ فهي مذمومة لاحتمال أن معناها مكروه وقريب من المكروه، وأما الرقى التي بالقرآن والأذكار المعروفة، فلا نهي فيها بل هي سنة انتهى.

(المسلسل التاسع والعشرون بقول كل راو جربته فوجدته كذلك)

وكل واحد من الرواة أنه جربه فوجده كذلك، إلا ابن الجوزي؛ فإنه قال: إني لم أسمع ابن ناصر يقول شيئاً، وإلا عمي؛ فإنه قال: ماجربته. وهذا حديث جليل القدر، أخرجه الديلمي ورواه ابن الجوزي مسلسلاً من طريق هؤلاء السادات الكرام عليهم السلام، وقال ابن الجوزي: أنه حديث حسن، وتعقبه السخاوي في السلمي وشيخه بكلام الذهبي في الميزان، وكأنه لهذا قيل أنه حديث ضعيف، لكن قال ابن الطيب: وهو لا ينهض في القدح في السلمي؛ فقد برأه البيهقي وأضرابه من النقاد انتهى.

وقال الشيخ عبد الغني الدهلوي -فيما رأيته بخطه: عادة الذهبي الاعتراض على الصوفية ولا راوي منهم، إلا وقال فيه ما قال والإمام ابن حجر بعكسه، فكل من طعن فيه منهم برأه، انتهى. والهم يجمع على هموم، وما يهم به في نفسه، وهمه الأمر هماً ومهمة أحزنه كأهمه فاهتم، والحزن بضم فسكون اسم من الحزن بفتحتين وجمعه أحزان، وهو ضد السرور.

قال المناوي: والهم يكون في أمر متوقع والحزن فيما وقع فليس العطف لاختلاف اللفظين المعنى اهـ.

وقال النووي: الهم كل أمر يهم الإنسان، والحزن هو الذي يظهر منه في القلب خشونة وضيق، يقال: مكان حزن أي خشن، وقيل: الهم والغم والحزن من واد واحد، وهو ما يصيب القلب من الألم بفوت محبوب إلا أن الغم اشرها والحزن أيسرها انتهى.

واعلم أن الهم والحزن من أدواء القلوب، وأسبابها الذنوب والغفلة عن الله تعالى، وترك التفويض إليه، وعدم الاعتماد عليه، والركون إلى ما سواه، والسخط بمقدوره، والشك في وعده ووعيده، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول في الصلاة: (اللهم أذهب عني الهم والحزن)، كما أورده في الحصن الحصين، وعزاه لمسند البزار والطبراني في الأوسط.

وثبت أنه صلى الله عليه وسلم، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)، كما في مسند أحمد والصحيحين وغيرها، وورد عنه صلي الله عليه وسلم عدة أدعية في علاج الهم والحزن والغم والكرب، وقد جمعها ابن القيم في الهدي النبوي.

 أما ما أشار إليه مسلسلنا من علاج الهم والحزن بالأذان؛ فلعل السر في ذلك أنه ما كان سبب الهم والحزن ما قررناها وكان الأذان مشتملاً على التكبير والتهليل المنبئين عن عظمة الله وجلاله وكبريائه، وكون كل شيء في الوجود إنما هو بقدرته تعالى وإرادته، ولا فاعل لشيء ما سواه جلت عظمته وكون أحكامه تعالى نافذة في العوالم بأسرها، لا انفكاك عنها ولا حيلة في دفعها، وناصية العباد بيده يصرفها كيف شاء، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً أمر الحزين بالاذان ليستحضر ماذكر، وينفتح لقلبه باب الفرج والسرور واللذة والابتهاج بأفعاله تعالى والرضى بقضائه وقدره؛ فإذا خامر ما ذكر قلبه وتملا به فکره، زال همه وحزنه.

وفي الأذان أيضاً التباعد عن الشيطان ووساوسه وغوائله؛ ففي الحديث: (إذا أذن للصلاة ادير الشيطان وله ضراط وفيه أيضاً الدعاء إلى الصلاة ولا يخفى ما فيها من تقوية القلب وانشراحه وقربه من الله والتنعم بذكره وابتهاجه بمناجاته والوقوف بين يديه واستعمال جميع بدنه في طاعته قال تعالى ( أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) 

وفي الحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ فهي على ما قررنا من أعظم الأسباب الدافعة للهم والحزن، والجالبة للفرح والسرور؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وأمر اهلك بها، ويقول: (بهذا امرني ربي)، قال تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}، وقال: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، وفي الحديث الشريف: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، هذا بعض ما يظهر من مناسبة جعل الأذان دافعاً للهم والحزن والمقام يستدعي زيادة ولكن فيما ذكر كفاية وبالله التوفيق. 

(المسلسل الثلاثون باستجابة الدعاء في الملتزم وقول كل راو: وأنا ما دعوت الله فيه إلا استجاب لي منذ سمعت هذا الحديث)

والملتزم بضم الميم وفتح الزاي هو الموضع الذي يقف فيه الناس بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين باب الكعبة، وما ورد عن ابن الزبير أن الملتزم دير البيت رده عليه ابن عباس بان ذلك ملتزم عجائز قريش وإنما سعى ملتزما لان الناس يلزمونه في حوائجهم لتقضي وقد استفيد من رسالة الحسن البصري إلى أهل مكة أنه من المواضع الخمسة عشر بمكة التي يستجاب فيها الدعاء وقد بينها النووي في المهذب وابن الجزري في الحصن وغيرهما قال الجد في شرح الحصن

والعمل على التجربة في مثل هذا لأنها تفيد ظناً من طریق آخر، كما هو مقرر في كتب هذا الشأن، والملتزم بضم الميم وفتح الزاي هو الموضع الذي يقف فيه الناس بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين باب الكعبة، وما ورد عن ابن الزبير أن الملتزم دبر البيت رده عليه ابن عباس، بأن ذلك ملتزم عجائز قريش، وإنما سعى ملتزماً؛ لأن الناس يلزمونه في حوائجهم، لتقضي.

 وقد استفيد من رسالة الحسن البصري إلى أهل مكة أنه من المواضع الخمسة عشر بمكة التي يستجاب فيها الدعاء، وقد بينها النووي في المهذب، وابن الجزري في الحصن وغيرهما.

قال الجد في شرح الحصن: والعمل على التجربة في مثل هذا لأنها تفيد ظناً للجد ووقت التزامه عند مالك بعد صلاة ركعتي الطواف وقبل

استلام الحجر وهو قول الحنفية والقول الثاني عندهم أنه يقدم علي ركعتي الطواف و مذهب الشافعي ومجاهد أن محله بعد طواف الوداع .

(المسلسل الواحد والثلاثون بقول كل راو مازلت بالاشواق )

( قلت) هذا المسلسل اشتمل على حديثين:

(الأول) حديث الديك الذي تحت العرش والثاني حديث الديك الأبيض أما الأول فلم نقف على من أخرجه بهذا اللفظ، ولا من رواه من طريق أبي الدرداء رضي الله عنه إلا في كتب المسلسلات التي بين أيدينا، وإن كان روي مختصراً من غير طريق أبي الدرداء.

وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وتبعه السخاوي فحكم عليه بالبطلان، وقال ابن الطيب الشركي: أن الوهاء ظاهر عليه وهو كذلك، وفي أكثر ألفاظه ركاكة لا رونق عليها، ولا تشبه كلام النبوءة؛ لكن  السيوطي لم يسلم هذا، بل تعقب كلام ابن الجوزي في كتابيه اللآلي والتعقبات بأن له من الشواهد من حديث عائشة وثوبان وابن عمر وابن عباس أخرجها أبو الشيخ في العظمة.

ومن حديث صفوان أخرجه الطبراني موقوفاً، وهو حسن صحيح، وهو عند الطبراني أيضاً من حديث أبي هريرة ونحوه، أخرجه الحاكم وصححه، وله شواهد موقوفة، وقد ساق السيوطي الأحاديث المذكورة من طريق مخرجيها بأسانيدهم في اللآلي (ص ٣٥)؛ وفي كتاب أخبار الملائكة فانظرهما. إلا أن ثبوت الحديث من هذه الطرق التي ذكرنا لا يلزم منه ثبوته من الطريق التي أوردنا باللفظ المذكور عن أبي الدرداء.

 وأما الحديث الثاني وهو حديث الديك الابيض؛ فلم نقف أيضاً على من أخرجه باللفظ الذي روينا، ولا من رواه من طريق أبي الدرداء وقد ورد بالفاظ مختلفة ،عن جمع من الصحابة؛ فقد أخرجه الحارث بن أبي اسامة، وأبو نعيم، عن عائشة وأنس مرفوعاً، بلفظ: (الديك الابيض صديقي وصديق صديقي، وعدو عدو الله)، ومثله للبغوى في المعجم عن خالد بن معدان مرسلاً، بلفظ: (وعدو عدوي) وإسناده ضعيف كما في المناوى.

وأخرجه أبو نعيم، وأبو الشيخ في العظمة، والمقبلي في الضعفاء، عن أنس بلفظ: (الديك الأبيض إلا فرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وسبعة عشر بيتاً من جيرانه، أربعة عن اليمين، وأربعة عن الشمال، وأربعة من قدام، وأربعة من خلف)، وهو حديث منكر كما في الدرر.

وأخرجه الطبراني في الاوسط، عن أنس أيضاً، بلفظ: (اتخذوا الديك الأبيض؛ فإن داراً فيها ديك أبيض، لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها)، لكن قالوا في سنده كذاب، وفي رواية عند البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً: (الديك يؤذن بالصلاة من اتخذ ديكاً أبيض حفظ من ثلاثة: من شر كل شيطان وساحر وكاهن)، قالوا: والأشبه إرساله.

ورواه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: (لا تجو الديك فانه صديقي وأنا صديقه وعدوه عدوي)، وأخرجه الواحدي باللفظ الأول لكن بزيادة، قالوا: فما يقول إذا صاح؟ قال يقول: (اذكروا الله يا غافلين). 

وأخرجه أبو نعيم وأبو بكر البرقي عن أبي زيد الأنصاري مرفوعاً: (الديك الأبيض أخي وصديقي وعدو عدو الله إبليس)، زاد أبو نعيم وكان النبي صلى الله عليه وسلم: (يبيته معه في البيت)، ورواه الحارث بن أبي اسامة من هذا الوجه، وزاد فيه: (يحرس دار صاحبه، وتسع دور حولها)، وروى من حديث أبي هريرة إلا أن في سنده ضعفاء، وأخرجه ابن قائع من حديث ثواب بن عتبة لكن في إسناده كذاب، ولهذا قال الخطيب: لا يصح، وقال أحمد: حديث منكر لا يصح إسناده، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات.

وقال السخاوي: في أكثر الفاظه ركاكة لا رونق عليها، ثم نقل عن الحافظ ابن حجر: أنه لم يتبين له الحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه السيوطي لما له من الشواهد لكن قد رأيت أن الشواهد المذكورة لم يسلم أكثرها من الطعن، فانظر ذلك وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي (ص ١٠٣)، والجامع الصغير للسيوطي وشراحه.

وقوله في الحديث الذي سلسلنا: (يحرس داره وعشراً عن يمينه إلى آخره) لا منافاة بينه إن صح وبين الروايات التي لخصنا التي ليس فيها إلا سبعة عشر أو سبعة أو أربعة؛ لأن الاقل لا ينفي الأكثر، أو يكون كل عدد لنوع خاص، وقوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيته معه)، أي لأنه يوقظ للصلاة كما بينه حديث عائشة؛ فقد اخرج الشيخان عن مسروق، أنه قيل لعائشة: أي حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، قالت: (كان إذا سمع الصارخ قام فصلى)، قال النووي: الصارخ هذا الديك باتفاق العلماء، سمي بذلك لكثرة صراخه في الليل، قال في الإحياء: وهذا الوقت يكون سدس الليل الأخير فما دونه انتهى

وفي حديث ابن عباس عند ابن حبان، وأبي الشيخ في كتاب العظمة: أن دیکاً صرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله فسبه رجل ولعنه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (لا تلعنه ولا تسبه فانه يدعو إلى الصلاة)، وهو عند أحمد و أبي داود وابن ماجه، قال السيوطي: بسند جيد عن زيد بن خالد الجهني مرفوعاً: (لا تسبوا الديك؛ فانه يوقظ. للصلاة)، وفي حديث ابن عمر عند البيهقي: (الديك يؤذن للصلاة)، قال المناوي: أي يعلم بدخول وقتها؛ فيجوز الاعتماد عليه إذا كان مجرباً انتهى.

والمعروف عند أهل التجارب المولود في مارس لا يخطئ اوقات الصلاة ومن أصبح ما ورد في الديك ما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم صراخ الديك فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً)؛ فهذا الحديث والأحاديث التي قبله هي أصح وأنقي من الأحاديث السابقة.

(تحذير) نقل السيوطي في الوديك والمناوي في التيسير، عن الحافظ ابن حجر: أن أهل التجربة زعموا أن ذابح الديك الأبيض الأفرق لم يزل ينكب في ماله هذا، وقد أفرد الحافظ أبو نعيم أخبار الديك في جزء، وتبعه السيوطي فألف (الوديك في فضل الديك) أودعه ما لأبي نعيم مع زيادات كثيرة وهو مطبوع.

المسلسل الثاني والثلاثون بالقنوت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، وقول كل راو أخبرني به فلان وكان يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح) 

والقنوت في اللغة له معان عشرة، نقل ذلك الحافظ في فتح الباري عن ابن العربي، ومنها: الدعاء سواء كان بخير أو شر، والمراد به هنا عند أهل الشرع اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، وهو مطلوب في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، سواء نزلت نازلة أم لا، وذلك لأجل ما شرع فيها من الطول، ولا تصلها بصلاة الليل، وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها الله وملائكته وملائكة الليل والنهار كما ورد في الأحاديث.

وورد في تفسير قوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً}، وبمشروعيته في صلاة الصبح يقول أكثر السلف ومن بعدهم، أو كثير منهم، وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والبراء بن عازب رضي الله عنهم، رواه البيهقي بأسانيد صحيحة، وقال به من التابعين فمن بعدهم خلائق وهو مذهب ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح ومالك والشافعي وداود.

وخالف في هذا الشعبي وأبو حنيفة والثوري في رواية والليث وأحمد ويحيى بن يحيى؛ فقالوا لا قنوت في الصبح، وقال أحمد: إلا الإمام فيقنت إذا بعث الجيوش، وقال إسحاق: يقنت للنازلة خاصة، وانتصر لهذا ابن القيم في الهدي النبوي؛ وقال: الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جهر وأسر وقنت وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، وإنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا عليهم وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاءوا تائبين؛ فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، وقد أطال في تقرير هذا والاستدلال عليه بما يعلم بالوقوف عليه في (ص ٦٩ ج ل).

ونقله الشوكاني ملخصاً وسلمه حسبما في (ص ٣٩٦ ج ۲)؛ لكن لما نقله الجد في شرح الحصن لم يرتضه، وقال: لا يخلو ما احتج به من نظر، وأشار إليه ابن علان في شرح الأذكار، وقال: في بعضه نظر، ومما احتج به أصحاب هذا القول حديث سعد بن طارق، قلت لأبي: إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ فكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني محدث رواه النسائي والترمذي، وقال حسن صحيح.

واحتجوا أيضاً بحديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع يدعو علي أحياء من العرب ثم تركه رواه البخاري ومسلم، ومثله عن أبي هريرة. وبما ورد عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود من نفيه، وبما روي عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى القنوت في الصبح.

 واحتج المثبتون بحديث أنس المذكور أولاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله قنت شهراً يدعو عليهم ثم ترك؛ فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، وقد تقدم ذكر من أخرجه ومن صححه.

وبما رواه مسلم عن البراء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله كان يقنت في الصبح والمغرب. وبما رواه البيهقي بإسناد حسن عن العوام بن حمزة، عن أبي عثمان أن ابا بكر وعمر وعثمان كانوا يقنتون في الفجر. وروى أيضاً عن علي كذلك، وقال: صحيح مشهور.

أما ما احتج به النافون؛ فقد أجاب النووي عن حديث سعد بن طارق، بأن رواية الذين اثبتوا القنوت معهم زيادة علم، وهم أكثر فوجب تقديمهم انتهى. ومثله لابن حجر في شرح المشكاة، ثم قال: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذكر بعده أسروه؛ فلا يسمعه أو كان بعيداً أو نسي انتهى.

وأجاب النووي عن حديث أنس -الذي عند البخاري -بانأالمراد هو كون النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ترك الدعاء على الكفار الذين كان يدعو عليهم فقط؛ لأنه ترك جميع القنوات أو ترك القنوت في غير الصبح، قال: وهذا التأويل متعين؛ لأن حديث أنس في قوله (لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)، صحیح صريح؛ فيجب الجمع بينهما.

وهذا الذي ذكرنا متعين للجمع، وقد روى البيهقي بإسناده، عن عبد الرحمن بن مهدي: أنه قال إنما ترك اللعن، ويوضح هذا التأويل رواية أبي هريرة، وهى قوله: (ثم ترك الدعاء عليهم) انتهى.

ومثله في شرح المشكاة، ونصه: أما رواية تركه، فالمراد ترك الدعاء عليهم لا ترك جميع القنوات، أو ترك القنوت في غير الصبح -كما بينه خبر أنس -فإنه مفصل فيقضي به على هذا المجمل، وزاد في شرح العباب: ويوافقه أي خبر أنس المذكور روايتها عن أبي هريرة رضي الله عنه ثم ترك الدعاء عليهم اهـ.

وأما حديث ابن مسعود فأجاب عنه النووي بأنه ضعيف جداً؛ لأنه من رواية محمد بن جابر وهو شديد الضعف متروك ولأنه نفي، وحديث أنس إثبات، فقدم لزيادة العلم وعن حديث ابن عمر أنه لم يحفظه أو نسيه، وقد حفظه أنس والبراء بن عازب وغيرهما؛ فقدم من حفظ.

وعن حديث ابن عباس أنه ضعيف جداً؛ وقد رواه البيهقي من رواية أبي ليلى الكوفي، وقال: هذا لا يصح، وأبو ليلي متروك، وقد روينا عن ابن عباس أنه قنت في الصبح.

وعن حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله نهى عن القنوت في الصبح أنه ضعيف؛ لأنه من رواية محمد بن يعلى عن عنبسة ابن عبد الرحمن، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن أم سلمة، قال: الدارقطني هؤلاء الثلاثة ضعفاء ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة انتهى.

وقال الحافظ: وما روى عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم لم يقنت في شيء. من صلاته إلا في الوتر، وكان إذا حارب قنت في الصلوات كلها يدعو على المشركين ضعيف جداً، وكذا ماروي عن ابن عباس أنه بدعة، وعن أم سلمة أنه نهي عن القنوت في الصبح فإنها كلها ضعيفة.

 ومما يرد ما ذكر عن ابن عباس، ما رواه البيهقي عنه من طرق: (أنه كان يعلمهم اللهم اهدني) الخ؛ ليدعو به في قنوت الصبح، وقول ابن عمر: ما أحفظه عن احد من الصحابة معارض بمن حفظه وهو أسن منه، وأكثر عدداً؛ فقدم عليه لا سيما وهو ناف وغيره مثبت انتهى

واختلف الأئمة في محل القنوت في الصبح؛ فقيل قبل الركوع وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، ورواه البيهقي عنهم وعن أنس، وهو قول الشافعي وحكاه الخطابي عن مالك، قال عياض: وهو قول ابن حبيب، وقيل: قبل الركوع.

 وحكاه ابن المنذر أيضاً، عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى الأشعرى، والبراء بن عازب وأنس رضي الله عنهم وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وابن أبي ليلى، وهو القول المعروف لمالك، وبه يقول اسحاق، وقيل بالتخيير قبل الركوع أو بعده، وحكاه ابن المنذر أيضاً عن أنس وأيوب السختياني وأحمد، وحكاه ابن عبد البر عن مالك، قال في المدونة: فعله بعد الركوع وقبله سواء قال النووي في المهذب وقد جاءت الأحاديث بالأمرين ثم نقلها فانظرها أن شئت في ( ص ٥٠٤ ج ٣ ) 

(تكميل) استحب مالك والكوفيون أنه يقنت بما ورد عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وهو: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، وقد روى هذا الدعاء البيهقي بأطول من هذا وببعض مخالفة، ولا بأس بالجمع بين الروايات.

واستحب الشافعي أن يكون بالدعاء الذي علمه النبي صلي الله عليه وسلم لسيدنا الحسن عليه السلام، ولعبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، ليقنتا به، وهو: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وأنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك اللهم ربنا ونتوب إليك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم)، وقد ورد هذا من طرق صحيحة، وفي هذا كسابقه بعض مخالفة في الروايات.

فينبغي الجمع بينها أيضاً -وقد نص العلماء على أن قنوت سيدنا الحسن هذا هو أحسن شيء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله في القنوت. قال القاضي عياض: اختار بعض شيوخنا الجمع بين قنوت عمر والحسن رضي الله عنهما؛ وقال النووي: قال أصحابنا: يستحب الجمع بينهما؛ فإن جمع فالأصح تقديم قنوت الحسن، وفي وجه استحب تقديم قنوت عمر، وان اقتصر يقتصر على الأول، وإنما يستحب الجمع بينهما إذا كان منفرداً أو أمام منفردين يرضون بالتطويل والله أعلم

المسلسل الثالث والثلاثون بقول كل راو رأيته يقص أظفاره يوم الخميس 

والأمور الستة المذكورة به هي من الخصال المحمودة المرغب فيها؛ لما فيها من النظافة المبني عليها الإسلام، قال في التيسير: دلت الأخبار الصحيحة على حصول سنة القص والنتف والخلق في أي وقت كان، لكن الاولى كون الثلاثة الأولى يوم الخميس والثاني يوم الجمعة، والضابط الحاجة، وجاء في بعض الأخبار الصحيحة: أنه يفعل كل أربعين، وفي بعضها كل أسبوع، ولا تعارض لأن الأربعين أكثر المدة، والأسبوع أقلها، واختلف فيه اختلافاً كثيراً انتهى

 وأخرج الحكيم الترمذي، عن عبد الله بن بسر المزني مرفوعاً: (قصوا أظافركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم، ونظفوا الثائكم من الطعام، ولا تدخلوا على تحرا بخرا)؛ الأول بقاف وفاء والثاني بياء فاء، أي مصفرة اسنانكم ورائحة نكهتكم منتنة منكرة لعدم تعهد الفم بالغسل، إلا أنه لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس، ولا في كيفيته حديث كما للحافظ ابن حجر؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة جداً كما في شرح المواهب.

وقال السخاوي في المقاصد عند ذكر حديث من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمداً؛ لم أجده؛ لكن نص الإمام أحمد على استحبابه، وكان الشرف الدمياطي يأثر ذلك عن بعض شيوخه، وقال عند ذكر حديث قص الأظفار يوم الخميس: وما يعزى من النظم في ذلك لعلي رضي الله عنه؛ فقال شيخنا يعني ابن حجر: باطل عنهما، ولعل الحفني لم يقف على ما نقلنا في نفي ما ورد في مخالفة قص الأظفار؛ فصار يوضح ذلك ويوجهه بما يعلم بالوقوف عليه في حاشيته على الجامع الصغير. 

(تنبيه وتحذير) رأيت في فهرسة بصري المكناسي المسماة (إتحاف أهل البداية والتوفيق والسداد؛ بما يهمهم من فضل العلم وآدابه والتلقين وطرق الإسناد) روايته لهذا المسلسل عن الشيخ عبد الوهاب الشبراوي، قال: رأيت شيخنا الملوي يقص اظفاره يوم الخميس رأيت أحمد الحريشي رأيت أحمد بن محمد العجيمي رأيت إبراهيم اللقاني رأيت سالم السنهوري رأيت النجم الغيطي رأيت زكريا رأيت عبد الرحيم بن الفرات رأيت ابن جماعة رأيت ابن الزبير رأيت ابن خليل رأيت ابن زرقون رأيت الخولاني رأيت الطلمنكي رأيت يحيى ابن يحيى الليثي رأيت عم أبي عبيد الله بن يحيى رأيت أبي يحيى بن يحيى رأيت مالك بن أنس رأيت ربيعة رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقص أظفاره يوم الخميس.

وكذلك أورد عن كافة الرواة، وهذا كذب وبهتان؛ فإن السند المذكور، إنما تروى به الموطأ، ولم يقل أحد من المتقدمين ولا المتأخرين أن المسلسل المذكور يروى بهذا السند اصلاً، ولاروي عن مالك، ولا رواه مالك عن ربيعة، ولا ربيعة عن أنس، ولا أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم وعلى آله، وحاشا الشبراوي الذي روى عنه بصري ما ذكر أن يكون هو واحداً من رجال السند، أو قد اختلق رواية المسلسل به، وإنما أراد بصري أن يغرب بفوائد رحلته فافترى على الله الكذب ففضحه الله تعالى.

ولم يقتصر على هذا بل زاد وقاحة وجرأة فساق بالسند المذكور إلى منتهاه حديث علي كرم الله وجهه وعليه السلام -في صلاة التوبة -المسلسل بقولهم: والله إنه لحق إن شاء الله ،وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (ما من عبد أذنب ذنباً ثم توضأ فأحسن الوضوء، وصلى ركعتين إلا غفر له)، ثم أورده بالسند المذكور مع تغيير في أوله حديثاً وضعه مسلسلاً بقول كل واحد من رواته (جعل فلان فمه في أذني اليمنى، وقال: جعلك الله نوراً يستضاء به في المشارق والمغارب)، إلى أن وصل السند إلى أنس؛ فقال: جعل رسول الله الله صلى الله عليه وسلم فمه في أذني اليمنى وقال لي جعلك الله نوراً يستضاء بك في المشارق والمغارب والقول في هذين المسلسلين بالسند إلى مالك كالقول في سابقه قبح الله واضعهما، وعامله ما يستحق.

وقد أذكرني بهذا ما في كتاب المدخل في أصول الحديث للحاكم، عند ذكر المجروحين وطبقاتهم ونصه: ومنهم قوم من السوّال والمتكدين، يقفون في الأسواق والمساجد والمحافل؛ فيضعون في الوقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله بأسانيد صحيحة قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد، ثم ذكر أن الإمام أحمد ويحيى بن معين صليا يوماً في مسجد الرصافة؛ فقام بين أيديهما قاص؛ فقال: 

حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طير، منقاره من ذهب، وريشه من مرجان..) وأخذ في قصة نحواً من عشرين ورقة؛فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا، فقال والله ما سمعت به إلا هذه الساعة، فسكتا جميعا حتى فرغ من قصته؛ فقال له يحيى بيده -أي تعال -فجاء متوهماً لنوال يجيزه؛ فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟ فقال: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا؛ فقال له أنت يحيى بن معين قال نعم قال لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما علمته إلا الساعة، فقال له: وكيف علمت إنني أحمق فقال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، كتبتُ عن تسعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما؛ فوضع أحمد كمه في وجهه وقال دعه يقوم؛ فقام كالمستهزئ به فهذه حالة مسند مكناسة ومحدثها في القرن الثالث عشر، لكن من لطف الله أن مصري هذا مجهول الحال فلا تعرف له ترجمة ولا ذكر له في شيء من كتب التراجم، ولا يعرف خبره إلا من فهرسته ومن يطالعها يعلم أنه كحاطب ليل جاهل بفن الرواية والإسناد.

فليحذر الغير العارف بهذا الشأن الاعتماد عليه فيما يذكره؛ لأن من لا يستحي من وضع ما أشرنا إليه ليس له ما يمنعه من التجرؤ على كذب غير ذلك، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز الاعتماد على الكتب التي لا تعلم صحة ما فيها، ولا تعلم عدالة مؤلفيها، وهذا فيمن جهلت عدالته، أما من ثبت كذبه كبصري المذكور فهو من باب أولى، والله تعالى يحفظنا من الزلل بمنه وكرمه آمین. 

المسلسل الرابع والثلاثون بقول كل راو كتبته فها هو في جيبي 

وقوله في رواية الديلمي هذه: (كان إذا حزبه أمر) هو بفتح الحاء المهملة والزاي والموحدة، أي هجم عليه أو غلب أمر هم أو غم وهو معنى قوله في الرواية الأولى: (إذا حزنه)، وجاء في روايته قوله: (ولا تكلني إلى نفسي فيما حظرته علي)، بالظاء المشالة من الحظر وهو المنع.

ومعناه كما في الزرقاني على المواهب لا تكلني إلى نفسي فيما منعته علي، بل إلى توفيقك لئلا أقم فيما حظرته ومنعته، أما في روايتنا فوقع بلفظ (حضرت) بالضاد، وهو من الحضور ضد الغيبة، وكذلك هو في فهرس الكاملي والشراباتي وابن عابدين وغيرهم من أرباب الفهارس، ومثله في رواية ابن أبي الدنيا والمنح إلا أنهما قالا: (حضرته) بزيادة الماء، وسقط اللفظ في مسلسلات ابن عقيلة وعوض بقوله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وهو غلط لاغير، ولا مستند له في ذكره في هذا الحديث، وإن كان وارداً في بعض أدعية النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله والجمع كما ترى بين حضرت بالضاد وحظرته علي بالظاء المشالة لا يمكن في مرة واحدة؛ لاختلاف معناهما.

فهذا مما ينبغى فيه تكرار الدعاء، وقوله في الرواية الأولى: (هب لي ما لا يضرك واغفر لي ما لا ينقصك)، قال ابن عابدين هكذا فيما روينا من لفظ الحديث، وكان مقتضى الظن أن يقال هب لي ما لا ينقصك واغفر لي ما لا يضرك كما يقتضيه ما قبله انتهى.

(قلت) وما اقتضاه ظنه هو لفظ رواية الديلمي الأخيرة ثم قال ويمكن أن يقال المراد به على ما لا يضرك الذنوب؛ فإنها لا تضر المولى سبحانه وتعالى، ولا تنقصه والمعنى هب لي الذنوب التي لا تضرك، أي أسقطها عني وامحها ولا تؤاخذني بها وإن استوجبت العقاب عليها والمراد باغفر لي ما لا ينقصك: اغفر لي غفراً لا ينقصك، أي: لا ينقص خزائن جودك المليء، فما مفعول مطلق بمعنى الغفر مصدر غفر يغفر، ويحتمل معنى آخر وهو أنه سبحانه كما أن الذنوب لا تضره فهي لا تنقصه، وكما أن المغفرة لا تنقصه فكذلك لانضره.

فوصف الذنوب أولاً بكونها لا تضره وسكت عن وصفها الآخر وكذا وصف المغفرة بكونها لا تنقصه وسكت عن وصفها الآخر، ثم صرح بعد ذلك بوصف كل منها بما سكت عنه تكميلاً وتفنناً، إشارة إلى اتصاف كل من الموصوفين بكل من الصفتين بألطف إشارة وارشق عبارة انتهى.

وعباره الزرقاني في شرح المواهب هب لي ما لا ينقصك وصوله إلى وهو عفوك، وفي نسخة ما لا ينفعك والمعنى عليها هب لي ما لا ينقص شيئاً من قدرك، ولا ينفعك شيء منه لو لم توصله لي انتهى وانظر شرح بقية الفاظ الدعاء فيه (ص ١٠٦ ج ٧).

(تكميل) قال أبو علي ابن أبي الأحوص: عند إيراد الحديث من الطريق الأول الذي سلسلنا ما نصه: لا يسند إلا من هذا الوجه ورجاله لا بأس بهم، ومحمد بن هارون الهاشمي قال فيه أبو حاتم البستي: قد رأيته ببغداد وهو صادق اللهجة والتجربة له أن شاء الله تغني عن التشديد في رجاله، مع أنه ليس من أحاديث الأحكام.

وقال ابن الطيلسان: قد جربت بركته في غير ماشيء من الشدائد النازلة وجربه غير واحد من كتبه عني فوجدنا نفعه والحمد لله، وفي ثبت الكاملي الذي جمعه الملا الياس الكوراني، هو: حديث ودعاء وتميمة، أي حرز وقد وجد فيه ما يرغب في الاعتناء به، وفيه ما يدل علي أنه مشتمل على اسم الله الأعظم انتهى 

( قلت) وقضية الإمام جعفر الصادق تكفي في تجربته؛ فقد كان قتله متوقفا على ما يصدر من بين شفتي ذلك الملك الجبار، ولكنه حين اضطر ووقع في ذلك المضيق الحرج ،وتوسل إلى الله تعالى بهذا الدعاء النبوي فرج الله عنه وأنقذه من بين مخالبه، وأبدل غضبه رضا وعفواً.

واعلم أن المضطر إذا أحوجته الشدائد، وأحاطت به نوازل الدهر وقوارع الحدثان وخطوب الزمان، وأيس من النجاة، وتعذر عليه المهرب، وانقطع منه الرجاء وتيقن أنه لا ملجأ له ولا منجا، ثم التجأ في هذه الحالة إلى الله تعالى، متحصناً بما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة، بإخلاص وحضور قلب وخضوع، وعدم غفلة عن الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا محالة يستجيب دعائه، ويجعل له من همه فرجاً، ومن شدته مخرجاً، ويهزم عدوه أمام جيوش ادعيته الصادقة؛ فترتشق سهامها في نحره ويعود وباله عليه، قال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.

وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم: (واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه)، أي لا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه مشغول بما أهمه من أمر دنياه، قال الإمام الرازي: أجمعت الامة على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل النفع عديم الأثر، قال: وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة ولا بحالة مخصوصة وهو في المواهب.

ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما ينوب الإنسان، قال الزرقاني بشرط غلبة ظن الإجابة بحيث تكون أغلب على القلب من الرد؛ لأن الداعي إذا لم يكن جازماً، لم يكن رجاؤه صادقاً، وإذا لم يصدق الرجاء لم يخلص الدعاء؛ إذ الرجاء هو الباعث على الطلب ولا يتحقق الفزع بدون تحقق الأصل، ولأن الداعي إذا لم يدع الله تعالى علي يقين أنه يجيبه؛ فعدم إجابته إما لعجز المدعو أو بخله أو عدم علمه بالابتهال وذلك كله على الحق تقدس محال، ولذا ورد (ادعوا وأنتم موقنون بالاجابة) انتهى والكلام في هذا الموضوع طويل الذيل متشعب المباحث وفيما ذكرناه هنا كفاية وبالله الاعانة في البداية والنهاية . 

(المسلسل الخامس والثلاثون بنفي الكذب)

قوله في روايتنا: (اختصمت)، مثله في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري، وهو بمعنى احتجت وتحاجت في الروايات الأخرى، قال الطيبي: تحاجت أصله تحاججت وهو مفاعلة من المحاججة وهو الخصام وزنه ومعناه، يقال: حاججته محاججة ومحاجة وحجاجة أي غالبته بالحجة انتهى.

 قال الأبي: المحاججة بمعنى المغالبة؛ فإن كانت حقيقة فهو في جهنم من حيث أنها اشتملت علي الأرفع، أو من حيث انها انتقمت من أعداء الله تعالي، وهو في الجنة من حيث أنها مقر الصالحين وأولياء الله تعالى انتهى.

وقال ابن بطال: إن حاصل اختصامهما افتخار إحداهما علي الأخرى بمن يسكنها؛ فتظن النار أنها بمن ألقى فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة، وتظن الجنة إنها بمن أسكنها من أولياء الله تعالى أبر عند الله؛ فأجيبتا بأنه لا فضل لإحداهما على الأخرى من طريق من يسكنهما، وفي كلامهما شائبة شكاية؛ إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت بما فيها، بما اقتضته مشيئته.

واختلف في تخاصمها، هل هو حقيقة أو مجاز؟ قال ابن بطال: عن المهلب يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة، بأن يخلق الله فيهما حياة وفهماً وكلاماً، والله تعالى قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجاز والمراد أن لهم امتلأ.

الحوض، وقال الدارقطني: والحوض لا يتكلم، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو كان مما ينطق لقال ذلك وكذا في قول النار انتهى -نقله في فتح الباري، ومثله للقرطبي في شرح مسلم وقال: الأول أولى، وبه جزم النووي؛ فقال: هو على ظاهره، وإن الله جعل في النار والجنة تمييزاً تدركان به فتحاجتا، ولا يلزم أن يكون ذلك التمييز فيهما دواماً انتهى.

ولا مانع منه؛ فإن قدرة الله تعالى لا يتمانعها شيء، والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وأمور الآخرة لا تقاس علي شئون الأولى، وقوله: (الجبارون والمتكبرون)، قيل: هما بمعنى واحد، وقيل المتكبر المتعاظم بما ليس فيه، والمتجبر الممنوع الذي لا يوصل إليه، وقيل الذي لا يكترث بأمر.

وقوله: (فمالي لا يدخلني ضعفاء الناس وسقطهم)، الضعفاء جميع ضعيف وهو الخاضع لله تعالى، المذل نفسه له سبحانه ضد المتجبر المتكبر، ومثله حديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف)، والسقط بفتحتين جمع ساقط وأصله مى سقط المتاع، وهو رديئه والمراد به المحتقر بين الناس، النازل القدر عندهم، الساقط بين أعينهم وهو الذي عبر عنه في حديث آخر: (بالذي لا يؤبه به)، قال الحافظ: هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس، أما بالنسبة إلى ما عند الله فهم عظماء رفعاء الدرجات لكنهم بالنسبة إلى ما عند انفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم في غاية التواضع لله والذلة في عباده؛ فوصفهم بالضعف، والسقط بهذا المعنى صحيح، أو المراد بالحصر في قول الجنة إلا ضعفاء الناس انتهى.

وأما قوله في الروايات الأخرى التي حكينا (وعجزهم)؛ فهو بعين مهملة وجيم مفتوحتين وزاي جمع عاجز كذا ضبطه عياض، ورد بأنه يلزم أن يكون وعجزتهم؛ ككتاب وكتبة، وسقوط التاء في هذا الجمع قليل، إلا أن يذهب به مذهب الجنس كما فعلوا في سقطهم، قال في المفهم: وصوابه أن يكون وعجزهم بضم العين وشد الجيم مثل شاهد وشهد قال وأظن أنى كذلك قرأته اهـ.

والمراد هنا العاجزون عن طلب الدنيا وعن التمكن فيها وعن الثروة والشوكة، وقوله في رواية همام بن منبه: (وغرتم) فيه وجهان حكاهما القاضي عياض. الأول: بغين معجمة وراء مفتوحتين ثم ثاء مثلثة ونسبها للأكثر، والغرث الجوع والمراد أهل الحاجة والفاقة والجوع وهو قريب من معنى ضعفائهم، أي مجاويعهم. والثاني بغين معجمة مكسورة وراء مشددة وتاء مثناة من فوق وهي رواية الطبراني ومعناها البُله الغافلون ،الذين ليس لهم حذق ولا معرفة بأمور الدنيا، والمراد به هنا أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه الموقعة في البدع والأهواء، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك؛ فهم ثابتوا الإيمان، وأهل عقائد صحيحة، وهم جمهور الأمة وسواد الناس وعامتهم.

ومنه حديث: (أكثر أهل الجنة البله)، أي: الأغلب، وأما العلماء الكاملون والحكماء العارفون فهم الأقل بالنسبة إليهم؛ إلا أنهم في الجنة أصحاب الدرجات العلى والمراتب الزلفي، جعلنا الله منهم في الدنيا والآخرة ووفقنا للنهج على طريقهم بمنه وكرمه آمين.

وقوله: (حتى يضع فيها قدمه)، كذا في مسلسلنا، وقد قدمنا أن في بعض رواياته: (يضع رب العزة قدمه عليها)، وفي بعضها: (رجله)، وقد أنكر بعضهم هذه الرواية؛ فقال ابن فورك كما في الاكمال: إنها غير ثابتة، وقال ابن الجوزي كما في الفتح: إنها تحريف من بعض الرواة لظنه أن المراد بالقدم الجارحة؛ فرواها بالمعنى فأخطأ.

ورد زعمهما لثبوتها في الصحيحين: (وإنما يضع رب العزة قدمه فيها، أو عليها إذلالاً لها)، لما جاء أنها تتغيظ وتتهيج حنقاً على الكفرة والعصاة كما قال تعالى: {تتميز من الغيظ} {وتقول هل من مزيد}، وتعلو وتعظم حتى تتجاوز الحد.

وفي بعض الأحاديث، أنها تكاد تلتقم أهل المحشر؛ فيكسر الله حدتها ويذلها بوضع قدمه أو رجله فيها أو عليها على الكيفية التي يريدها اللائقة بذاته العلية، وهذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات ومعلوم ما فيها من الخلاف بين السلف والمتكلمين.

وقد تفرق المؤولة في تأويل القدم والرجل هنا إلى طرائق، واختلفوا في ذلك اختلافاً متبايناً حتى أن بعضهم قد أبعد النجعة؛ فقال: أن المراد بالقدم المتقدم أي من قدمه لها من أهل العذاب، وإن الرجل عبارة عمن يتأخر دخوله للنار؛ لأنهم يلقون فيها فوجاً بعد فوج انتهى وهو بعيد عن تركيب الحديث ولا يمكن إلا بزيادة حرف (من)، وتغيير للفظ القدم والنطق به؛ لأن قوله من قدمه لها هو بالدال المشددة، وهو افتيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وتغيير للفظه الذي تكلم به، والذي لا يحتمل المعنى المؤول به.

والتأويل إنما يكون على مذهبهم بمعنى يحتمله اللفظ المراد تأويله ولو مجازاً؛ كالاستواء مثلاً؛ فإنه لما كان يطلق مجازاً على الاستيلاء والقهر والغلبة أولوا به معناه اللغوي فراراً مما توهموا أن ظاهره يقتضيه ولا يخفى أن كل ذلك تكلف وتقدم بين يدي الله ورسوله، وغفلة عن كون النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع فصاحته وبيانه وإرشاده للأمة ونصحه في تبليغه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره، أو يخاطب الامة بما يوقعها في التشبيه، وهو ما بعثه الله تعالى إلا للتوحيد وهداية البشر من الشرك، وغفلة أيضاً عن كون ذات الحق تعالي وتقدس هي مجردة عن الماهية العدمية، وجامعة لجميع الكمالات.

وما بالذات لا يزول وكل ما لم يكن مغيراً لم يكن منافياً للتنزيه؛ فلا يشبه بشيء من المخلوقات، وقد ثبت مجامعته للتنزيه بـ{ليس كمثله شيء}، وإذا كان الأمر كما ذكر، فلا حاجة إلى تأويل شيء من المتشابهات مما ورد في القرآن والسنة الصحيحة، بل يؤمن بها كما وردت، ويرد علم المراد منها إلى الله تعالى.

وقد صح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (وآمنوا بمتشابهه)، قال الشهرزوري فيما كتبه على أول  كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: والأمر بالإيمان بصفة الله تعالى منه صلى الله عليه وسلم وعلى آله دليل على اتصاف الحق تعالى بتلك الصفة في نفس الأمر، وأن لم يدركه العقل بنظره، وهو عين الدليل علي أن الدليل العقلي المعارض للدليل النقلي منتفٍ في نفس الأمر، وأن اتصاف الحق بذلك مجامع للتنزيه؛ فإن العقل لا يستقل بإدراك نسبة المتشابه إلى الله تعالى على وجه مجامع للتنزيه؛ فما ظنه بالفكر دليلاً معارض شبهة لا دليل، فاجراء المتشابهات الواردة في الكتاب والأحاديث الصحيحة على ظواهرها كما هو مذهب السلف لا ينافي التنزيه عند الراسخين في العلم انتهى.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من المتشابهات، ولا المنع من ذكره.

ومن المحال أن يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وينزل عليه اليوم {أكملت لكم دينكم}، ثم يترك هذا الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إليه تعالى مما لا يجوز مع حثه على التبليغ عنه بقوله (ليبلغ الشاهد الغائب)؛ حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله.

وما فعل بحضرته؛ فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله تعالى ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم انتهى.

وقد قدمنا الكلام على هذا المعنى في شرح حديث الرحمة المسلسل بالأولية، واعدناه هنا زيادة في إيضاحه وتأييده، ومن أراد زيادة التوسع في الموضوع؛ فعليه بكتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، تاليف الإمام ابن القيم عليه الرحمة، المطبوع أخيراً بمكة المشرفة.

وقوله {وتقول هل من مزيد}، قال الحافظ: اختلف النقل عن قول جهنم هل من مزيد؟ وظاهر الأحاديث أن هذا القول منها لطلب المزيد، وجاء عن بعض السلف أنه استفهام إنكاري؛ كأنها تقول: ما بقي في موضع للزيادة.

وروى الطبري عن عكرمة ومجاهد، أن معناه: أى هل من مدخل قد امتلأت. قال الإسماعيلي: وهو موجه، فيحمل على أنها قد تزاد، وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد، لكن الذي رجحه الطبري أنه لطلب الزيادة كما قدمناه، وهو الذي تدل عليه الأحاديث المرفوعة.

وقوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (فيزوي بعضها إلى بعض، وتقول قط قط)، يزوي وينزوي روايتان، أي: يضم بعضها إلى بعض؛ فتجتمع وتلتقى وتنطبق على من فيها، وتشتغل بعذابهم، وإذ ذاك تكف عن طلب المزيد، و(قط قط) كذا في مسلسلنا بالطاء مرتين، وكذا في أكثر روايات الصحيحين، وفي بعضها ثلاثة، وفي رواية فيهما بالدال بدل الطاء، وفي رواية عند أحمد من حديث أبي سعيد: (قدني قدني) بالنون مع الإشباع.

وفي قط لغات: بتخفيف الطاء ساكنة، وبالكسر منونة، وغير منونة، وبالكسر مع الإشباع منونة وغير منونة، وكلها بمعنى حسبي، أى يكفيني، ومنه قوله امتلأ الحوض، وقال قطني: قال الحافظ: وقيل قط صوت جهنم، والأول هو الصواب عند الجمهور.

واحتج بهذا القائلون: بأن الثواب والعقاب غير مستحقين بالعمل؛ لأن قوله: (ينشئ الله خلقاً)، يدل على أنهم لم يوجدوا، وإنما يخلقون بعد، ففريق الجنة وفريق للسعير بدون عمل صالح عملوه، ولا ذنب اجترموه، وأنه تعالى غير ظالم لأحدٍ في ذلك، سواء كان طائعاً أو عاصياً؛ فله أن يعذب من يشاء ويرحم من يشاء؛ لأن الجميع ملكه؟

(قلت) ما قدّروا من إثابة العاصي وتعذيب المطيع، هو بحسب الجواز العقلي فقط، أي أن ذلك ممكن في ذاته عقلاً، والحق أن تعذيب الموفق طول حياته إلى أن مات مستحيل شرعاً، كما أن عدم تعذيب من مات كافراً هو مستحيل شرعاً، أما غيرهما وهو المؤمن العاصي فهو الذي في المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ لأنه تعالي لما وعد المطيعين بالثواب، وأخبرنا على لسان رسوله الصادق الأمين في كتابه العزيز أنه لا يخلف الميعاد، ولا يبدل القول لديه، وجب من هذا الطريق إثابة المطيع، ولما توعد العصاة بالعذاب الشديد، وأخبرنا في كتابه المبين أيضاً على لسان رسوله الصادق، أنه لا يغفران يشرك له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وخبره صدق لا يقبل التغيير والتبديل، وجب من هذا الطريق أيضاً أن يقطع بتعذيب من يموت كافراً، أو بتخليده في النار، ويجوز غفران ما عدا الكفر من المعاصي، ويكفي في صدق خبر الوعيد أن يتحقق في بعض العصاة وهم الذين يموتون كفار فقط. 

وإذا أحطت خيراً بهذا، فاعلم أن الزيادة الثانية، وهي قوله (وإنه ينشئ للنار من شاء)، الذي احتجوا بها على أن الله يعذب من شاء بإدخاله النار ولو لم يعمل بعمل أهل النار لا توجد في شيء من الأحاديث إلا في رواية في هذا الموضع، كما نقله في الفتح عن أبي الحسن القابسي، وفيه: أن جماعة من الأئمة، قالوا: أن هذا الموضع مقلوب، وأما ابن القيم فجزم بأنه غلط. 

واحتج بأن الله أخبر بان جهنم تمتلئ من ابليس وأتباعه، وأن شيخه البلقيني أنكر هذه الرواية، واحتج بقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا}، قال الحافظ: وليس في الحديث حجة للاختلاف في لفظه ولقبوله التأويل انتهى 

(قلت): لما كانت النار تمتلئ بوضع الله قدمه فيها؛ فإنها لا تحتاج لإنشاء خلق يدخله لها، فالزيادة على هذا وعلى ما قدمنا عن ابن حجر من إنكارها لا تعكر على ما قررنا، ولا تحتاج لتأويل، ولا تكلف الجواب عنها؛ أما الرواية المشهورة، وهي قوله (ولا يزال في الجنة فضل فينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة)؛ فهي على ظاهرها، وتدل على أنهم لم يوجدوا، وإنما يخلقون بعد، ويعطون في الجنة ما يعطون بغير عمل، ولا مانع من هذا.

قالوا ويحمل على هذا أمر الأطفال، الذين لم يعملوا طاعة قط؛ فهم في الجنة برحمة الله وفضله، أما قوله: (ولا ينظر الله من خلقه أحداً)؛ فالصواب في معناه أن من كان عاملاً بعمل أهل النار لا يكون ظالماً له، إذا أدخله النار؛ لأنه صدر منه ما استحق به الدخول، كما أن من كان من أهل الأعمال الصالحة لا يظلمه فيدخله النار، بل يدخله الجنة التي أعدها للمتقين برحمته.

وفي هذا تلميح بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}؛ فعبّر عن ترك تضييع الأجر بترك الظلم، هذا ويؤخذ من ظاهر الحديث وجود الجنة والنار الآن؛ لأنهما لو لم تكونا موجودتين ما اختصمتا واحتجتا.

والمسألة فيها خلاف كبير بين علماء الإسلام وأدلة الفريقين متعارضة، وملخص ذلك: أن أهل السنة قالوا بوجودهما، واستدلوا بقوله تعالى في الجنة: {أعدت للمتقين}، وفي النار بقوله سبحانه: {أعدت للكافرين}، قالوا ولا يمكن أن يعد ويهيأ إلا ما كان موجوداً، وأن الجنة فوق السماء السابعة وتحت العرش؛ لقوله تعالى: {عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (سقف الجنة عرش الرحمن وإن النار تحت سبع أرضين).

 وأن المعتزلة قالوا: إنهما غير موجودتين الآن، ولكنهما ستوجدان في الآخرة، ووافقهم على هذا منذر بن سعيد البلوطي، كما نقله عنه ابن عطية في تفسيره، واستدلوا على ذلك بأنهما دارا جزاء للطائع والعاصي؛ فوجودهما قبل يوم الجزاء عبث لا فائدة فيه، وبأنها لو كانتا موجودتين فإما في عالم الافلاك أو في عالم العناصر أو في عالم آخر، والكل باطل.

أما الأول والثاني؛ فلأنه ورد في التنزيل أن عرض الجنة كعرض السماوات والأرض، فكيف توجد الجنة والنار معاً فيهما.

وأما الثالث؛ فلأنه يستلزم وجود الخلاء، لأن الفلك البسيط كروي، فلو وجد عالم آخر فيه الجنة والنار؛ لكان مشتملاً كهذا العالم على الأفلاك والعناصر ضرورة، أنه إذا وجد عالم لزم أن تكون له جهات مختلفة؛ فيلزم أن تحدد بمحيط فيكون كرة وأفلاك هذا العالم كروية أيضاً، فيلزم أن يكون بينهما فرجة سواء تماسا أو انفصلا؛ لأنه لا يمكن التماس بين الكرتين، إلا بنقطة واحدة.

وأجاب أهل السنة عن الأول: بأن نعيم القبر وعذابه كافيان في تحقق الفائدة من وجودهما عبثاً. وعن الثاني: باختيار أنهما في عالم آخر، وجواز أن العالمين متماسان أو منفصلان وأنه لا مانع أن يكون بينهما فرجة، والقول باستحالة وجود الخلاء ممنوع من حيث لم يقم دليل صحيح على استحالته، وعلى فرض تسليم امتناعه يمكن أن تكون الفرجة مملوءة بجسم آخر، وباختيار أنهما في هذا العالم وحتى كانت الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش يكون عرضها كعرض السماوات والأرض من غير إشكال. 

(فإن قيل) إذا كانت الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش؛ فيحتمل أن تكون فوق الكرسى تحت العرش مباشرة، ويحتمل أن تكون تحت ثم العرش فوقها؛ فعلى الأول لا يكون عرضها كعرض السماوات والأرض، بل أعظم بكثير؛ لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع مع الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة).

وعلى فرض أنها فوق السماوات السبع وتحت الكرسي يكون عرضها أعظم أيضاً بناء على أن قوله تعالى: {على سرر متقابلين}، يدل بظاهره على كون الجنة كروية، فتكون كرة محيطة بالسماوات والأرض فتكون اعرض منهما ؟

(فالجواب) أن الجنة تحت العرش مباشرة؛ للحديث المصرح بذلك، ولا محذور في كونها فوق الكرسي الذي هو فوق السماوات؛ لقوله تعالى: {عرضها كعرض السماوات والأرض} من قبيل الكناية عن زيادة اتساعها جداً، بدليل أنه لو فرض لها عرضاً، وكان عرضها مساوياً لعرض السماوات والأرض، لكان لها طول، ويكون طولها أعظم من عرضها لا محالة، فتكون أوسع من السماوات والأرض؛ فالمراد من الآية أنها أوسع منهما وإن لم يكن لها ولا لهما طول ولا عرض في الواقع ونفس الأمر، إذا كانت هي كرة كما أنهما كرتان.

ولا يجب في الكناية إمكان المعنى الحقيقي؛ هذا ملخص ما للفريقين ونحن مع الأول حملاً على الحقيقة، وإبقاءً للأدلة على ظاهرها، وما دام ذلك ممكناً، فلا معنى للعدول عنه إلى التأويل بدون موجب.

(فإن قلت): أن ظاهر قصة آدم وحواء وأمره تعالى لهما بسكنى الجنة، يقتضي وجودها؛ لأنها لو لم تكن موجودة ما أمرهما بسكناها؟

(فالجواب): أن كون جنة آدم هي دار الثواب غير متفق عليه؛ حتى بين أهل السنة، فجمهورهم قالوا: إنها هي؛ لأنها المتبادرة عند الإطلاق، وفي ظواهر الأحاديث ما يدل على ذلك، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم موسى عليهما الصلاة والسلام.

 وقال المعتزلة وأبو مسلم الأصبهاني وأبو القاسم البلخي كما للرزاي، وأبي حيان في تفسيرهما، ومنذر بن سعيد البلوطي، كما للصنهاجي في كتابه كثر الأسرار واناس آخرون كما في الرازي أيضاً: أنها جنة اخرى غير جنة الخلد.

ولما توعد العصاة بالعذاب الشديد، وأخبرنا في كتابه المبين أيضاً على لسان رسوله الصادق: أنه لا يغفران يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وخبره صدق لا يقبل التغيير والتبديل، وجب من هذا الطريق أيضاً: أن يقطع بتعذيب من يموت كافراً، أو بتخليده في النار، ويجوز غفران ما عدا الكفر من المعاصي، ويكفي في صدق خبر الوعيد أن يتحقق في بعض العصاة، وهم الذين يموتون كفار فقط. 

وإذا أحطت خيرا بهذا فأعلم أن الزيادة الثانية وهي قوله وإنه ينشئ للنار من شاء الذي احتجوا بها على أن الله يعذب من شاء بإدخاله النار ولو لم يعمل بعمل أهل النار لا توجد في شيء من الأحاديث إلا في رواية في هذا الموضع كما نقله في الفتح عن أبي الحسن القابسي وفيه أن جماعة من الأئمة قالوا أن هذا الموضع مقلوب وان ابن القيم جزم بأنه غلط.

 وبأنها الجنة المعهودة خلقها الله امتحاناً لآدم عليه السلام، وكانت بستاناً في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بأرض عدن، وقيل بفلسطين، ونقل الآلوسي عن بعض الصوفية: أنها بالأرض عند جبل ياقوت تحت خط الاستواء، ويسمونها جنة البرزخ، وأنها موجودة إلى الآن، وأنهم يدخلونها بأرواحهم لا بأجسادهم.

وقد حمل القائلون بأنها غير الجنة المعهودة الهبوط في قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً} على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهبطوا مصراً، وعلى ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع واستدلوا بأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها، ولم يذكر في قصته نقله إلى السماء 

ولو كان الله تعالى نقله إلى السماء وأدخله جنة الخلد لكان ذلك أولى بالذكر صريحاً في قصته في القرآن مما ذكر فيها؛ لأنه اقوى في الدلالة على زيادة الشرف وعظيم المنة، وأما قوله تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة}؛ فلا يقتضي إلا أنه أمر بسكنى الجنة، وكون المراد بها جنة الثواب حتى يكون الأمر بسكناها مستلزماً للنقل إلى مكان جنة الخلد، هو محل النزاع.

وبأنه تعالى قال في شأن جنة الخلد وأهلها: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً، سلاماً سلاماً}، {لا لغو فيها ولا تأثيم}، {وما هم منها بمخرجين}، وقد لغا إبليس في جنة آدم وغش وكذب وحلف بالله كاذباً كما هو صريح القرآن، وقد أخرج منها آدم وحواء بعد إدخالهما فيها على وجه السكنى، لا كإدخال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله فيها ليلة المعراج.

ودعوى أن عدم الإخراج من الجنة بعد الإدخال فيها على السكني خاص بيوم الجزاء لم يقم عليه دليل، وبأن جنة الخلد دار النعيم والرحمة بنص القرآن؛ فلا تكون دار تكليف وإلزام بما فيه كلفة ومشقة، وقد كلف فيها آدم وزوجته فنهاهما أن لا يأكلا من الشجرة علي أن جنة الخلد هي دار الجزاء على العمل الصالح، وهو صريح الآية والأحاديث النبوية؛ فلا يدخلها أحدٌ من البشر على وجه السكني إلا للجزاء على عمله الصالح، وذلك إنما يكون يوم الجزاء، فلا يكون قبله.

وبأن إبليس كان من الكافرين بنص القرآن، وأنتم تقولون قد دخلها للوسوسة والإضلال، ولو كانت دار الخلد ما دخلها، ولا يكاد يدخلها بحال؛ لأنها بنص القرآن {أعدت للمتقين}، فلا يدخلها سواهم من الكافرين.

وتخصيص ذلك بيوم الجزاء لا دليل عليه، ومخالف لإطلاق القرآن، كما أن دعوى دخول إبليس بها متستراً مع حية على ما فيها من الشناعة لا تفيد؛ فإن دخوله فيها مع كونه كافرًا ممنوع مطلقاً، وجنة الخلد دار تطهير من دنس المعاصي؛ فكيف يقع العصيان من آدم عليه السلام.

وبأن المنقول في بعض الآثار: أن أول  حمل لحواء عليها السلام كان في تلك الجنة، ولم يرد في الشرع أن طعام جنة الخلد اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف.

وما جاء في خبر محاجة آدم و موسى عليهما السلام، قالوا: يمكن حمله على جنة الأرض التي كان بها آدم، على أن هذا الخبر آحاد، وهو ظني فلا يفيد القطع، والقول بأن حمل جنة آدم على غير الجنة المعهودة يجري مجرى الملاعبة في الدين والمراغمة؛ لإجماع المسلمين -قول غير مسلم كما للألوسي.

ولا يخفى أن الجواب عن كل ما تقدم من الأدلة لا يخلو عن تكلف والتزام ما لا يلزم، وقد أطال ابن القيم في بيان أدلة الفريقين واستشكالاتهم وأجوبتهم في كتابه حادي الأرواح ولم يرجح شيئاً فانظره وانظر تفسير أبي حيان (ص ١٥٧ ج ١)، والآلوسي (ص ۱۹٥ ج ۱).

وحيث أن الادلة متعارضة، وكلا الأمرين ممكن عقلاً وشرعاً؛ فالاحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها، وعدم القطع في ذلك بشيء، وقد مال إلى هذا كثير من المحققين؛ كأبي منصور الماتريدي تابعاً في ذلك أبا حنيفة، قال فى التأويلات: تعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها وليس علينا تعيينها أو البحث عن مكانها انتهى. 

(المسلسل السادس والثلاثون بالعنعنة)

قوله (كلمتان) قالوا فيه إطلاق كلمة على الكلام، وهو مثل كلمة الإخلاص، وكلمة الشهادة، وكلمتان خبر، و(حبيبتان) وما بعدها صفة، والمبتدأ (سبحان) إلى آخره والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه؛ لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقاً.

(حبيبتان) أي محبوبتان، والمعنى محبوب قائلها، ومحبة الله تعالى لعبده إرادته الخير له، وهدايته له وإنعامه عليه، وكراهته له على الضد من ذلك، وخص لفظ الرحمان بالذكر لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده؛ حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير.

(خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان) (فإن قلت): فعيل بمعنى مفعول استوى فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه معه؛ فلم عدل عن التذكير إلى التأنيث؟

(أجاب) الكرماني كما نقله الحافظ في الفتح: أن ذلك جائز لا واجب، وأيضاً فهو في المفرد لا المثنى سلمنا، لكن أتت لمناسبة الثقيلتين والخفيفتين أو لانهما بمعنى الفاعل لا المفعول والتاء لنقل اللفظة من الوصفية إلى الاسمية، وقد يطلق على ما لم يقع، لكنه متوقع؛ كمن يقول: خذ ذبيحتك للشاة التي تذبح؛ فإذا وقع عليها الفعل، فهي ذبيح حقيقة، ووصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب.

قال الطيبي الخفة: مستعارة للسهولة وشبه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من بعض الأمتعة، فلا تتعبه كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صفته شاقة على النفس ثقيلة، وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل الميزان كثقل الشاق من التكاليف.

وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة؛ فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت، فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها.

 (والميزان) هو ما توزن به أعمال العباد يوم القيامة، وقد ورد أنه قبل الصراط، وهو مما دل عليه القرآن في آيات متعددة؛ كقوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامةْ}، كما وردت به أحاديث كثيرة بلغ القدر المشترك منها حد التواتر، والحمل على الحقيقة ممكن، فيجب الإيمان بذلك بلا تأويل؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، بمعنى أنه يجب الإيمان بأن لله تعالى ميزاناً توزن به أعمال العباد يوم القيامة، وإن كنا لا نعرف حقيقة جوهره.

ولا يجب علينا البحث عن ذلك ولا عن كيفيته، بل نؤمن به ونفوض العلم بحقيقته وكيفيته إلى العليم الخبير؛ فإن كل ما في الآخرة هو من عالم الملكوت الخارج عن دائرة عقول البشر، وأما تأويله بتمام العدل؛ فعناد ومكابرة وعدول عن ظاهر القرآن والأحاديث بغير حاجة.

أما إن أردت إلا أن تعرفي كيفيته؛ وهل له كفتان ولسان كالموازين المعروفة، وما يوزن فيه هل الأعمال أو صحائفها أو تجعل الأعمال اجساماً؟ وما فائدة الوزن مع أن مقادير الأعمال معلومة لله تعالى وغير ذلك من المباحث فعليك بمراجعة ذلك في مظانه فإن الكلام عليه شهير والأولى أن تترك الخوض في ذلك وسترد فتعلم.

 وقوله (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من كل نقص؛ فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل، وسبحان: اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف تقديره سبحت الله سبحاناً؛ كسبحت الله تسبيحاً، ولا يستعمل غالباً إلا مضافاً، وهو مضاف إلى المفعول، أي سبحت الله.

ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل، أي: نزه الله نفسه، قال الحافظ: والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر كقوله (سبحانه ثم سبحانا أنزهه).

والواو في وبحمده أورد فيها شراح الحديث أقوالاً عدة؛ فقيل: للحال والتقدير أسبح الله متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة والتقدير أسبح الله، والتبس بحمده، ويحتمل أن يكون الحمد مضافاً للفاعل، والمراد من الحمد لازمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده؛ فيكون سبحان الله جملة مستقلة وبحمده جملة أخرى، ويحتمل أن يكون مما أقيم فيه السبب مقام المسبب، أي بقوتك التي هي نعمة توجب عليَّ حمدك سبحتك، لا حولي وقوتي.

قال في فتح الباري -ما ملخصه -صفات الله وجودية: كالعلم والقدرة وهي صفات الإكرام، وعدمية كلا شريك له ولا مثل له، وهي صفات الجلال؛ فالتسبيح اشارة إلى صفات الجلال، والتحميد اشارة إلى صفات الإكرام، وترك التقييد مشعر بالتعميم، والمعنى أنزهه عن جميع النقائص وأحمده على جميع الكمالات، والنظم الطبيعي يقتضي تقديم التخلية على التحلية؛ فقدم التسبيح الدال على التخلي على التحميد الدال على التحلي، وقدم لفظ الله؛ لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات والأسماء الحسنى، ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسلب مالايليق به وإثبات مايليق به؛ اذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك.

وذكر التسبيح متلبساً بالحمد؛ ليعلم ثبوت الكمال له نفياً وإثباتاً، وکرره تأكيداً، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو {سبحان} و{سبح} بلفظ الأمر و{سبح} بلفظ الماضي، و{يسبح} بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقل، بخلاف الكمالات فإنها تقصر عن إدراك حقائقها كما قال بعض المحققين: الحقائق الالهية لا تعرف إلا بطريق السلب، كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجأهل وأما معرفة حقيقة عالمه، فلا سبيل إليه.

وفي الحديث من الفوائد -غير ما تقدم -الحث على إدامة هذا الذكر، وقد تقدم حديث آخر لفظه: (من قال سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، وإذا ثبت هذا في قول (سبحان الله وبحمده)، فإذا انضمت إليها الكلمة الأخرى؛ فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها؛ كما أن من قال الكلمة الاولى وليست له خطايا مثلاً؛ فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك، وفيه إيراد الحكم المرغب فيه بلفظ الخبر؛ لأن المقصود من سياق هذا الحديث: الأمر بملازمة الذكر المذكور.

وفيه اشارة امتثال قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك}، وقد أخبرنا الله عن الملائكة في عدة آيات انهم يسبحون بحمد ربهم، وفي الصحيح عن أبي ذر، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أي الكلام أحب إلى الله؟ قال: (ما اصطفى الله لملائكته سبحان ربي وبحمده سبحان ربي وبحمده)، وفي لفظ له: (أن أحب الكلام إلى الله سبحانه سبحان الله وبحمده) انتهى. وانظر الكلام على التسبيح في شرح الحصن والأذكار وغيرها . 

(تنبيه) نقل في الفتح عن ابن بطال :أن هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام؛ فلا تظن أن من أدمن الذكر وأصر على ماشاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح انتهى.

وإذا كان هكذا في الفضائل الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما عسى أن يقال فيما يشيعه أرباب الزوايا، من: أن من قرأ صلاة الشيخ الفلاني تغفر له سائر الذنوب، أو تقوم مقام عبادة السنين العديدة، فذلك من باب أولى وأحرى؛ لكون ذلك يجر إلى تعطيل الكلف الشرعية ومشاق العبادات.

وقد كان الصوفية الصادقون رضي الله عنهم متباعدين عن أمثال هذا، وما كان التصوف إلا تمسكاً بالسنة، وحمل النفس على المجاهدة والتقرب إلى الله تعالى، بأداء الفرائض قبل النوافل، والتخلي عن الرذائل والهوى. وأما هذا إنما هو زندقة وإلحاد في الدين وتغرير للعوام الجاهلين وشبكة لاصطياد أموال الغافلين وأكل للسحت باسم الدين. 

القسم الثاني في ذكر المسلسلات الفعلية

قد انتهى بنا القول فيما أردنا ذكره من المسلسلات القولية، وسنشرع بحول الله وإعانته في ذكر المسلسلات الفعلية فنقول.

(المسلسل الأول: بالمصافحة الإنسية)

والمتن صحيح فقد أخرجه أحمد والشيخان والترمذي كلهم من حديث أنس، ومعناه ظاهر، وله شواهد؛ فقد أخرج الترمذي وغيره من حديث علي كرم الله وجهه وعليه السلام: (أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله كان شئن الكفين والقدمين) أي ممتلئهما مع ليونة، وفي حديث هند (أنه كان سائل الأطرف)، أي طويل الأصابع ممتدها،( ليست بمنعقدة، ولا متقصفة)، أي متكسرة وفيه (كان رحب الراحة) أي واسع الكف حساً ومعنىً.

(المسلسل الثانى بالمصافحة العلوية) 

وذكر هذه المصافحة أيضاً صاحب المنح: من طريق ابن عباد، وأشار إليها الحافظ أبو العباس أحمد بن يوسف الفاسي في المنح الصفية في الأسانيد اليوسفية، وذكر أن هذا السند تروي به الخرقة أيضاً ،وهو مذكور في كتب المسلسلات عند ذكر سند التلقين؛ كالسمط المجيد لصفي الدين القشاشي وغيره.

وفي السند أخذ أمام الحرمين أبي المعالي الجويني، عن أبي طالب المكي، وهو كذلك مصرح به في أنس الفقير لابن تنقذ القسنطيني؛ فقال: وهو من أصحاب أبي القاسم القشيري، وأخذ عن أبي طالب المكي.

(قلت): وهذا لا يصح؛ لأن أبا طالب توفي سنة ۳۸٦ هـ، وإمام الحرمين ولد سنة ٤١٩ هـ، فبين وفاة الأول وولادة الثاني ٣٣ سنة، وقد رأيت القشاشي وابن عقيلة وغيرهما لما أوردا سند التلقين، قالوا: أن إمام الحرمين عن والده أبي محمد عبد الله بن يوسف عن أبي طالب؛ فالتاريخ يقبله، ويكون قد سقط في السند السابق لا غير.

وفي السند أيضاً والسند الذي قبله مصافحة الحسن البصري لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه السلام، وقد أنكر لقيه له كثير من المحدثين واثبته غيرهم، وعليه الصوفية قاطبة، قال الحافظ جلال الدين السيوطي في فتاويه: أنكر جماعة من الحفاظ سماع الحسن البصري من علي بن أبي طالب، وتمسك بهذا بعض المتأخرين؛ فخدش به طريق لبس الحرقة وأثبته جماعة وهو الراجح عندي؛ لوجوه، وقد رجحه أيضاً الحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة.

الوجه الأول: أن العلماء ذكروا في الأصول في وجوه الترجيح: أن المثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم.

الثاني: أن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر باتفاق، وكانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة رضي الله عنها، وكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر فدعا له: (اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس)، ذكره الحافظ جمال الدين المزي في التهذيب، وأخرجه المسكري في كتاب المواعظ بسنده، وذكر المزي أنه حضر يوم الدار وله اربع عشرة سنة، ومن المعلوم أنه من حين بلغ سبع سنين أمر بالصلاة؛ فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان إلى أن قتل عثمان وعليٌّ إذ ذاك بالمدينة؛ فإنه لم يخرج منها إلى الكوفة إلا بعد قتل عثمان؛ فكيف يستنكر سماعه منه وهو كل يوم يجتمع به في المسجد خمس مرات من حين ميز الي أن بلغ اربع عشرة سنة،  وزيادة على ذلك أن علياً كان يزور أمهات المؤمنين، ومنهن أم سلمة والحسن في بيتها هو وأمه.

الثالث: أنه ورد عن الحسن ما يدل على سماعه منه، أورد المزي في التهذيب من طريق أبي نعيم يرفعه إلى يونس بن عبيد، قال: سألت الحسن قلت: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وإنك لم تدركه، قال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك منى ما أخبرتك، إني في زمان كما ترون، وكان في عمل الحجاج كل شيء سمعتني أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو من علي بن أبي طالب، غير أنني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً، ثم ذكر ما وقع له من الأحاديث من رواية الحسن عن علي، ومنها حديث: (رفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المصاب حتى يكشف عنه) أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه الضياء المقدسي في المختارة وأحمد في مسنده.

وقال الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي عند الكلام على هذا الحديث، قال الحسن: رأيت الزبير يبايع علياً، وقال أبو زرعة: كان الحسن يوم بويع لعلي ابن أربع عشرة سنة ورأى علياً بالمدينة، ثم خرج إلى الكوفة والبصرة ولم يلقه الحسن بعد ذلك انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر: ووقع في مسند أبي يعلى، قال حدثنا جويرية بن أشرس، قال: أخبرنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت الحسن يقول سمعت علياً يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر) الحديث، قال محمد بن الحسن الصيرفي -شيخ شيوخنا -هذا نصٌّ صريح في سماع الحسن من علي، ورجاله ثقات؛ فجويرية وثقه ابن حبان، وعقبة وثقه أحمد انتهى كلام السيوطي وفيه كفاية.

وإن أردت إلا أن تستزيد فعليك بعوارف المعارف لشهاب الدين السهروردي، والسمط المجيد في شأن البيعة والذكر والتلقين وسلاسل أهل التوحيد لصفي الدين القشاشي، والمنح الصفية في الأسانيد اليوسفية للحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف الفاسي، ومرآة المحاسن في أخبار الشيخ أبي المحاسن لأخيه أبي حامد العربي، وتحفة أهل الصديقية في أسانيد الجزولية والزروقية لحفيد أخيه أبي عيسى محمد المهدي صاحب مطالع المسرات ففيها البغية,

المسلسل الثالث بالمصافحة المعمرية 

ذكر أصحاب الفهارس والمسلسلات رواية المصافحة من طريق المعمر وأبي سعيد الحبشي والخضر وشمهروش وعبد المؤمن الجني وغيرهم وإن أهل الحديث، وإن كانوا ينكرون ما كان مثل هذا من المرويات؛ فقد جرت عادتهم بذكره على سبيل التبرك، والتفنن في الرواية، لا بقصد الاحتجاج.

المسلسل الرابع بالمصافحة الحبشية

وأبو سعيد الحبشي هذا لا يُعرف في الصحابة، ولا ذكر له في الكتب المؤلفة فيهم، ولم يعرف اسمه إلا في المئتين المتأخرة، واحتمال وجوده عقلاً وتعميره وعدم مخالطته للناس أو سكناه في محل بعيد؛ فلم يشتهر إلى أن عرف أخيراً، لا يفيد مع ورد الشرع بنفيه كما قدمنا عن الحافظ ابن حجر في المعمر، والذي يظهر أنه كان له اجتماع روحاني أو مثالي في اليقظة وصافحه صلى الله عليه وسلم؛ فأطلق عنه الأخبار ولم يبين الحالة التي عليها حالة المصافحة.

ولما سمع ذلك من لم يعرف حقيقة الواقعة، قال أنه صحابي، وهذا هو اللائق في هذا المقام؛ فإن الشيخ محمود الإسفرائيني، والسيد الأمير علي الهمداني اللذين رويا المصافحة عنه لا يكونان قد اختلقا هـذا؛ لما ثبت من ثقتهما وعدالتهما وصلاحهما نفع الله بهما وبأمثالهما من الصادقين.

ولا يخفى أن كثيراً من الأولياء الكاملين والعلماء العاملين وأرباب القلوب الصادقين يرونه صلى الله عليه وسلم في يقظتهم، ويسمعون خطابه الكريم، وقد يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويستفيدون منهم فوائد كما نص عليه الغزالي وغيره.

قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه قانون التأويل: ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية حدث لها علماً دائماً، وعملاً مستمرا كشفت له القلوب، ورأى الملائكة وسمع أقوالهم، واطلع على أرواح الأنبياء، وسمع كلامهم انتهى بنقل علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي صاحب غاية الأماني في كتابه الفتوحات الإلهية، وهي رؤيا روحانية وجمعية حالية، وحالة برزخية، وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، خلافاً لمن ظن أنها رؤية بصرية جسمانية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض.

ولكونها روحانية يراها البعض دون البعض في المكان الواحد، ولو كانت جسمانية لرآها كل أحد؛ لأن رؤية الجسم لا تتوقف على صلاح وتقوى، بل رآه الكافر في حياته صلى الله عليه وسلم وشرار الخلق وخيارهم.

وقد صرح بهذا الغزالي؛ فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه، بل مثال له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه، قال: والالة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير غير المثال المتخيل؛ فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق.

ومثال ذلك من يرى الله تعالى في المنام؛ فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف؛ فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام، لا يعني أنه رأى ذات الله -كما يقول في حق غيره انتهى.

وهو في غاية الحسن، ويؤيد هذا الاكتشافات المصرية -كمسألة استحضار الأرواح وما يسمونه بالإسبرتزم التي قضت على الماديين، وزحزحت شبههم وأبانت جهلهم، وبذلك يرتفع الإشكال عن مسائل كثيرة من هذا الباب.

وبه يفهم معنى اجتماع الأولياء بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ورؤيتهم له وسماعهم منه، وما أشبه ذلك؛ فلا تتسارع بالإنكار لأول وهلة، لكن اتخذ ما قدمنا لك عن القاضي أبي بكر بن العربي قانوناً، ومّيز به حال من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والاجتماع به يقظة.

فإن كان على الشرط الذي ذكرنا والحالة التي وصفنا، فلا تستبعد ذلك، بل سلمه واجهد جهدك أن تكون على شاكلته، وإن لم يكن على ذلك الصراط المستقيم، وكان كمشايخ المصر، ومن نقل لنا بالسند الصحيح أنه كان مثلهم من الماضين الذين غاية مقصودهم، والحور الذي يدور عليه أمرهم هو التكالب على الدنيا، ولا حديث لهم ولا عمل ،إلا الاحتيال للتوصل بما في أيدي الناس، وسلب أموالهم، ونسبة الفضائل لأنفسهم، وتبشير اتباعهم بالنجاة، والفوز بالحسنات، ونيل أعلى المراتب وأسمى الدرجات، وغير ذلك مما يثبطهم عن القيام بالفرائض والواجبات، ولا ينقذهم من المعاصي والمهلكات، مع تنقيص من لم ينتسب إلى طريقتهم، واحتقار من لم يحصل في شبكتهم؛ فأولئك ضالون مضلون، ولا لوم عليك إذا لم تسلم مدعاهم، وقمت بما يفرضه عليك دينك من كشف مساويهم، ونصح الناس، وتحذيرهم من مخالطتهم، مخافة أن يقعوا في شباك ضلالهم؛ فيخسروا الدنيا والآخرة بصحبتهم وهؤلاء هم الصوفية الذين ننكر أمرهم 

ومعاذ الله أن تشكر أحوال الصوفية الصادقين المتمسكين بالسنة المحمدية، المدافعين عنها العاملين بها، القائمين بها علماً وعملاً؛ لأن العمل على مقتضى العلم واتباع السنة هو التصوف الحقيقي، والقائمون به والناهجون منهجه، وإن لم يكونوا من الصوفية شكلاً، وأسماهم الأولياء حقاً، وإن لم يكونوا هم أولياء الله؛ فليس لله من ولي.

وقد أخرج ابن ماجه والدارمي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده؛ فقال: (كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما أحدهما فيدعون الله ويرغبون إليه؛ فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون العلم والفقه، ويعلمون الجاهل؛ فهم أفضل، وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم).

فهذا الحديث يدل بصراحة على أن العلماء هم أفضل من الأولياء المنقطعين إلى العبادة؛ لأن نفع العلماء عام لكافة الأمة، بخلاف الأولياء؛ فإن نفعهم قاصر على أنفسهم إن كانوا صادقين مخلصين، والمراد بالفقه والشرائع ما يكون مستنبطاً ومطابقاً للكتاب والسنة، دون الآراء المناقضة لهما والمتباينة معهما، كما أن المراد بأهل العلم هم العلماء المخلصون القائمون بإرشاد الأمة، وتفهيمها أمر دينها، وتعليمها حقيقة شريعتها، وبأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وبمحاربة البدع والضلالات التي ليست من الدين في شيء.

 وليس في محاربتها إيذاء لأدنى ناموس من نواميس الشريعة ولا أدنى خروج عن نطاق تعاليمها السمحاء؛ فهم بهذا يؤدون ما يفرضه عليهم دينهم وبه كانوا ورثة الأنبياء وفضلوا غيرهم من الأولياء الذين لم يقوموا بمثل ما قاموا هم به واقتصروا على العبادة.

ولا يدخل في هذا أولئك المزيفون المبطلون، الذين يقومون دائماً في وجه هؤلاء العلماء الصادقين، ويتظاهرون بالعداوة لهم، ولكل من يدعو للتمسك بالكتاب والسنة وهدايتهما، ويوهموا العامة بان أولئك الهداة المهديين هم مشوشون، ساعون في تشتيت شمل الأمة، والقضاء على الدين: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا انفسهم وما يشعرون، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}؛ فهؤلاء لا يعدون في قبيل ولا دبير، ولا يستحقون أن يطلق عليهم لفظ العالم، فضلاً عن أن يكونوا أفضل من غيرهم من الأولياء الصادقين .

(المسلسل الخامس بالمصافحة الحضرية)

واختلف في حياة الخضر عليه السلام فنفاها الجمهور، واستدلوا بالحديث السابق في انخرام القرن، وأجاب المثبتون عنه بان المراد منه الأرض التي نشأ بها ومنها بعث كجزيرة العرب المشتملة على الحجاز وتهامة ونجد فليست (أل) للاستغراق ولئن سلم فقوله أحد عموم محتمل؛ إذ على وجه الأرض الجن والإنس، والعموميات يدخلها التخصيص بأدنى قرينة، وإذا احتمل الكلام وجوها سقط به الاستدلال انتهى.

(قلت) وهو غير وجيه كما لا يخفي؛ لأن التخصيص لا بد له من مخصص، ولا وجود له هنا، وإخراج الحديث عن ظاهره بمجرد الاحتمال غير مقبول، والجن وكذا الشياطين قد خرجوا بدليل آخر فليسوا من المرادين، ولم يرد ما يدل على حياته في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولو ورد لما خفي علينا؛ لأنه من الأمور الغريبة.

ولو كان حياً لما وسعه إلا الحضور عند النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، والقتال معه، والدفاع عنه؛ لقول الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه}. 

والخضر عليه السلام نبي على المشهور، وإن لم يكن نبياً؛ فهو تابع لنبي، فيجب عليه نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم لو كان حياً، وينضم لهذا قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض)؛ فلو كان الخضر حياً لكان يعبده سبحانه وتعالى.

أما ما ورد من أنه اجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه حضر عند موته صلى الله عليه وسلم وعزى فيه الصحابة، وأنه يجتمع في كل سنة مع إلياس بالموسم؛ فكل ذلك باطل موضوع حسبما نص عليه أئمة هذا الشأن كالذهبي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وقد أطال السيوطي في هذا المبحث في اللآلي المصنوعة انظر (ص۹۹ ).

وأما اجتماعه بالكُمّل من الأولياء الصالحين حقاً؛ فهو امر بلغ مبلغ التواتر وصرّح الحافظ ابن حجر بصحة اجتماع عمر بن عبد العزيز به، بل قال أنه أصح ما ورد في شأنه، وعليه فيحمل على روحه وأنها تتشكل وتتمثل بصورته ومثاله -كما قررنا في رؤية الأولياء للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة -والأرواح لها تصرف بعد الموت كالحياة، ويدل لهذا أن من يراه من الناس يراه هو وحده لا غير، ولو كان جسماً لرآه كل حي مر به؛ لأنه آدمي لا ملك ولا جني فرؤيته لبعض الأولياء جهاراً رؤية نورانية، وهي من رؤية المثال لا في عالم الشهود؛ لأنه لو كان في عالم شهود الشخص لكان من جملة الخيال والحدس أو حديث النفس.

وللأولياء أحوال لا يقدرون أن يعبروا عنها؛ فكيف يعبر عنها غيرهم، ولا نظن بالصادق منهم وهذا من جملة البشرى التي وعدهم الله بها في قوله جل ذكره: {ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة}. فلا يرون إلا الخير رضي الله عنهم.

(المسلسل السادس بالمصافحة الشمهروشية)

(قلت): تقدم لنا في المسلسل السادس بقراءة الفاتحة أن هذا من الأسانيد الغريبة، وأن أهل الحديث ينكرون ما كان مثله من المرويات، إلا أنه جرت عادتهم بروايته مع انكاره حيث لا يروى بقصد الاحتجاج، وقررنا الطعن في رواية الجن بعدم معرفة عدالتهم التي هي الشرط في مدعي الصحبة، وبورود الإنذار بخروج شياطين يحدثون الناس، ونزيد هنا أن الذين ألفو في أسماء الصحابة قد ذكروا من حفظ ذكره من الجن فلم يذکروا شمهروش من جملتهم، ولا سمعوا بذكره.

ومن المعلوم أن همم الناس ودواعيهم متوفرة على نقل نوادر الأخبار وأين كان شمهروش قبل المائة العاشرة؛ فلو كان موجوداً لاشتهر إذ ذاك، ولكنه لم ينقل عنه شيء ولم يعرف اسمه إلا في المائة العاشرة فما بعدها ؛وهكذا القول في عبد المؤمن الذي انفرد بالرواية عنه ابن ناصر حسبما يأتي.

والذي يظهر أنه كان شيطاناً، سولت له نفسه ادعاء الصحبة، وظهر لبعض الناس مدلساً عليهم بافترائه، الاجتماع مع النبي صلى الله عليه وسلم وسماعه منه؛ فصدقوه في مدعاه بغير حجة شرعية، وقول من قال: أن الذين اجتمعوا به قد الهموا صدقه فيما أخبر به هو مستند لا ينهض بهم من وهدة السقوط، ولا يكفيهم في تصديقه في مدعاه؛ لما قررنا أن الإلهام غير حجة في الشرعيات لأنه يخطئي ويصيب، وربما يكون ذلك الإلهام من الشيطان.

قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}، فاعلم ذلك، ولا تغتر برواية من ادعى الرواية عنه ولقياه، ولو بلغت جلالته ما بلغت؛ فقد لبس عليه، والغالب أن الذين رووا عنهم هم من الصوفية، ومبنى طريقهم على حسن الظن، ولهذا حذر الأئمة النقاد من روايتهم -كما هو مصرح به في أول  صحيح مسلم شراحه، وتكلم عليه ابن الجوزي في أول الموضوعات، وأشار إليه في صفوة الصفوة الذي اختصر فيه كتاب الحلية.

وقد لخصنا ذلك في كتابنا المهدوية والمهدويون، أما ما أشرنا إليه من ورود الإنذار بخروج شياطين يحدثون الناس؛ فقد أخرج ابن عدي والبيهقي عن واثلة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله لا تقوم الساعة حتى يطوف ابليس في الاسواق ويقول حدثني فلان بن فلان بكذا وكذا وأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، قال: (يوشك أن يظهر فيكم شياطين كان سليمان بن داود أوثقها في البحر يصلون معكم في مساجدكم ويقرون معكم القرآن ويجادلونكم في الدين وأنهم الشياطين في صورة إنسان).

وأخرج المقبلي وابى عدى عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (إذا كان سنة خمس وثلاثين ومائة خرجت شياطين كان حبسهم سليمان بن داود في جزائر البحر، فذهب منهم تسعة أعشارهم إلى العراق يجادلونهم بالقرآن وعشر بالشام). 

(تكميل) المصافحة المعروفة فلا نطيل الكلام على تعريفها واشتق منها؛ لأن ذلك مشهور في كتب اللغة، ولكن لا بأس بنقل ما ذكره السيوطي في حاشية سنن أبي داود ونصه: ويمكن أن تكون مأخوذة من الصفح بمعني العفو، وبكون أخذ اليد دالاً عليه، كما أن تركه مشعر بالإعراض عنه انتهى وهو كلام حسن.

وهي سنة كما صرح به النووي في الأذكار، وذلك لما فيها من داعية التألف المطلوب بين المؤمنين، قال الشيخ زروق في شرح الرسالة عند قولها: والمصافحة حسنة؛ لأنها تزيل الوغر من القلب، وتشعر بالتناصر والتعاضد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء) رواه مالك في جامع الموطأ عن عطاء الخراساني مرسلاً.

وفي جامع العتبية رواية أشهب عن مالك كراهتها، والمشهور عنه أنها مستحبة، وهو مقتضى مذهبه في الموطأ بإدخال حديث عطاء الخراساني السابق، قال ابن عبد البر في التمهيد: وعلى جوازها العلماء سلفا وخلفا قال الباجي في المنتقى لما ذكر رواية أشهب عن مالك بالكراهة، فعليها فيحتمل أن يريد -والله أعلم -في الحديث بالمصافحة الصفيح وهو التجاوز والغفران، وهو أشبه؛ لأنه يذهب الغل في الأغلب انتهى.

وبمعنى بالحديث ما قدمنا عن عطاء الخراساني والأصل في المصافحة ما أخرجه أبو داود -قال النووي بإسناد صحيح -عن أنس رضي الله عنه، قال: (لما جاء أهل اليمن، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول  من جاء بالمصافحة)، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريقين كلاهما عن أنس، وفي ثانيهما قال:( يقدم عليكم قوم أرقُّ منكم قلوباً)، فقدم علينا الأشعريون فيهم أبو موسى؛ فكانوا أول من أظهر المصافحة في الإسلام.

قال أهل الحديث: ويستفاد من هذه الرواية الثانية أن المراد من مجيئهم بالمصافحة في الرواية الأولى هو إظهارها، ويؤيد ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن وهب في جامعه عن أنس أيضاً: (أول من أظهر المصافحة أهل اليمن).

وقد وردت المصافحة من فعله صلى الله عليه وسلم؛ ففي سنن أبي داود، عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر حيث سير إلى الشام: إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم، قال: إذن أخبرك به، إلا أن يكون سراً، قلت: ليس بسر، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: (مالقيته قط إلا صافحني، وبعث لي ذات يوم ولم اكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إليَّ، فأتيته وهو على سريره، فالتزمني)، وكانت تلك أجود وأجود. وأخرجه الإمام أحمد من طريق آخر نحوه.

 وأخرج أبو بكر الروياني في مسنده، وابن عبد البر في التمهيد، عن البراء، قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحني، قلت يا رسول الله: كنت أحسب أن هذا من زي العجم، قال نحن أحق بالمصافحة). 

وورد حديث البراء بن عازب: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، والضياء في المختارة، وابن عبد البر في التمهيد، قال الترمذي في جامعه: حديث حسن غريب.

وفي سنن أبي داود -في رواية أخرى -زيادة اعتبار (الحمد والاستغفار) في حصول الغفران، وأخرج عن البراء مرفوعاً: (إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله، واستغفراه، غفر لهما)، قال ابن علان في شرح الأذكار: فيحتمل أن يكون ذلك قيداً؛ لحصول أصل المغفرة المستفاد من الرواية الاولى، أو إفادة لكمالها، بأن يكون مستوعباً لجميع ذنوبهما.

وعند ابن السني من حديث البراء: (إذا التقى المسلمان فتصافحا وتكاشرا بود ونصيحة، تناثرت خطاياهما بينهما)، وعند الطبراني: (ويضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه)، قال العلقمي: والمراد به التبسم وطلاقة الوجه وحسن الاستبشار والسرور بقلبه انتهى.

وروى الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن عمر مرفوعاً (إذا التقى المسلمان فسلم أحدهما على صاحبه كان أحبهما إلى الله أحسنهما بشراً لصاحبه، فإذا تصافحا أنزل الله عليهما مائة رحمة للبادئ تسعون وللمصافح عشرة).

وفي جزء المصافحة للضياء، عن البراء: (صافحني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فغمز على كفي، وقال لي: يا براء أتدري لم غمزت على كفك؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: إذا صافح المؤمن المؤمن نزلت عليهما رحمة تسعة وتسعون لأبشهما وأحسنهما خلقاً) وفي الباب أحاديث كثيرة فانظرها في كتب الأحاديث وانظر الأحكام المتعلقة بالمصافحة في كتب الفقه كشراح الرسالة وغيرها ..

(المسلسل السابع: المسلسل بالمشابكة )

قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} بعد إيراده الحديث المذكور ما نصه: وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً انتهى.

وقال أيضاً في تاريخه المسمى بالبداية والنهاية- بعد كلام على الحديث -: وقد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ، قال البخاري في التاريخ: وقال بعضهم عن كعب وهو أصح، يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه عن كعب الأحبار فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث؛ فهذا يحدثه عن صحفه، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكد رفعه بقوله أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي انتهى.

وقد قدمنا أن حجاج الاعور الذي في سنده قد اختلط عقله وثبت أنه حدث بعد اختلاطه؛ فالغالب أن هذا الحديث مما حدث به بعد اختلاطه فنسب رفعه لأبي هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحالة أن أبا هريرة لم يحدث به إلا عن كتب وروايات أبي هريرة عن كعب كثيرة، كما أن أخبار كعب الاحبار الإسرائيلية معلوم ما فيها من الكلام، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديق أهل الكتاب وعن تكذيهم، أي فيما لم تتبين لنا حقيقته، وإلا فيرد.

وقد روى البخارى في الصحيح، من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار؛ فقال: إن كان من اصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب انتهى.

وجل ما يروى في التفسير من الإسرائيليات مما يخالف أصول الدين والأمور الكونية وجعله اللامزون لتعاليم الدين حجة للطعن في الدين، إنما يروي عنه وعن وهب بن منبه، الذي كان على شاكلته، وقد ثبت أن كثيراً مما كان ينسب كعب للتوراة، لا أصل له، وإنما كان يفتريه تضليلاً للمسلمين كما هو معلوم من حاله، ولا تتريب علينا في الطعن فيه، وفي ما يروى عنه؛ لأنه ليس بصحابي، وإنما هو معدود من التابعين؛ لأنه لم يظهر إسلامه إلا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهب أن الحديث غير مروى عنه بل عن غيره من الصحابة، ووجدت فيه معارضة للقرآن، ولم يمكن الجواب عنه؛ فإنه يرد كما عليه النظار من أهل الحديث والأصول قال فخر الإسلام: السيد رشيد رضا أعلى الله مناره، إن الذين يمنون بأصول الدين ودلائله القطعية أكثر من الروايات والدلائل الظنية إذا وجدوا حديثاً معارضاً للقرآن، ولم يجدوا ما يجيبون به عن التعارض فإنهم يحكمون بعدم صحة الحديث.

ولو من جهة متنه وفي مقدمة هؤلاء القاضي الباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي، وأما الذين يعنون بالأسانيد أكثر من عنايتهم بالمتون، وبالفروع أكثر من الأصول؛ فإنهم يتكلفون في الأجوبة.

ثم قال: ومن الأصول المتفق عليها أن ما كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً، وما كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح، وإنما يعول على صحة السند إذا لم يعارض المتن ما هو قطعي في الواقع أو في النصوص، وأن القرآن مقدم على الأحاديث عند التعارض وعدم إمكان الجمع انتهى ملخصاً.

وهذا مبحث معروف في كتب الحديث والأصول وإنما هو بقلم صاحب المنار أحلى، وقد اختلفت أنظار العلماء في الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وما بينهما، هل هي من أيامنا المعروفة أم لا؟ كما اختلفت أنظارهم في خلق السموات والأرض وما بينهما.

وفي وصف أصل تكوينه، ومادتها المكونتين منها، وأطال كل فريق في تأييد نظره على قدر تمكنه في العلوم الشرعية والكونية، وهم ما بين مصيب ومخطئ ومقارب، والصواب أن المراد باليوم الوقت مطلقاً لا المتعارف؛ إذ لا يتصور ذلك حيث لا شمس ولا أرض.

قال في كشف الأسرار القرآنية: المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام -أي ستة مقادير متساوية من الزمن، وهو كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً}، والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا؛ لأنه لا ليل ثم ولا نهار اهـ.

وقد بسط القول في تأييد هذا المعنى، وفي خلق السموات والأرض في تفسير المنار بما يغنى عن غيره؛ فقال: أطال الله بقاءه نفعاً للإسلام عند قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} الآية، ما نصه: وأما هذه الأيام الستة فهي من أيام الله التى يتحدد اليوم منها بعمل من أعماله يكون فيه؛ فإن اليوم في اللغة: هو الزمن الذي يمتاز فيه من غيره؛ كامتياز أيامنا بما يحدها من النور والظلام، وأيام العرب بما كان فيها من الحرب والخصام، وأيام الله التي أمر موسى أن يذكر قومه بها، أي أزمنة نعمة عليهم.

وقد قال تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}، ووصف القيامة بقوله: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}، ولا يعقل أن تكون هذه الأيام من أيام أرضنا التي بعد ليل اليوم ونهاره منها، بأربع وعشرين ساعة من الساعات المعروفة عندنا؛ فإن هذه الأيام إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض؛ فكيف يكون أصل خلقتها في أيام منها.

وقد وصف تعالي خلقها وخلق السماء في سورة {حم السجدة} بما يدل على هذه الأيام فقال: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العلمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ايتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم}.

ووصف أصل تكوينها، وحال مادتها في سورة الانبياء، بقوله: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون}؛ فيؤخذ من هذه الآيات مسائل: 

(۱) أن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخاناً؛ أي مثل الدخان كما قال الراغب في مفردات القرآن وفسر الجلال الدخان بالبخار المرتفع وذهب البيضاوي إلى أنه جوهر ظلمانى قال ولعله اراد به مادتها أو الأجزاء المتصفرة التي ركبت منها.

(۲) أن هذه المادة الدخانية كانت واحدة، ثم فتق الله رتقها أي فصل بعضها من بعض فخلق منها هذه الأرض والسموات العلى.

(۳) أن خلق الأرض كان في يومين وتكون اليابسة والجبال الرواسي فيها ومصادر القوت وهي أنواع النبات والحيوان في يومين آخرين تتمة أربعة أيام.

(٤) أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء؛ فيؤخذ من هذا أن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان، حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء مباشرة أو غير مباشرة، وأن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية، وأن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها، وأن اليوم الرابع الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهي النبات والحيوان. فهذه أزمنة الأطوار من الخلق قد تكون متداخلة. 

وأما الأسماء العامة وهي العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض؛ فقد سوى أجرامها من مادتها الدخانية في يومين، أي زمنين كالزمنيين اللذين خلق فيهما جرم الأرض. 

هذا التفصيل الذي يؤخذ من مجموع الآيات يتفق مع المختار عند علماء الكون في هذا العصر، من أن المادة التي خلقت منها هذه الأجرام السماوية، وهذه الأرض كانت كالدخان ويسمونها السديم، وكانت مادة واحدة رتقاً ثم انفصل بعضها من بعض، ويصورون ذلك تصويراً مستنبطاً مما عرفوا من سنن الخلق إذا صبح كان بياناً لما أجمل من الآيات.

وإذا لم يصح كله أو بعضه لم يكن ناقضا لشيء منها فهم يقولون أن تلك المادة السديمية كانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة، وأنها قد تجمع بعضها وانجذب إلى بعض تقتضي سنة الجاذبية العامة فكان منها كرة عظيمة تدور على محور نفسها، وأن شدة الحركة أحدثت فيها اشتعالاً؛ فكانت ضياءً أي نوراً ذا حرارة.

وهذه الكرة الأولى من عالمنا هي التي نسميها الشمس، ويقولون أيضاً أن الكواكب الدراري التابعة لهذه الشمس فيما نشاهد من نظام عالمنا هذا قد انفتقت من رتقها، وانفصلت من جرمها وصارت تدور على محاورها مثلها. 

ومنها أرضنا هذه؛ فقد كانت مشتعلة مثلها، ثم انتقلت من طور الغازات المشتعلة إلى طور المائية في زمن طويل بنظام مقدر بكثرة ما فيها من المصريين، الذين يتكون منهما بخار الماء فكانا يرتفعان؛ منها في الجو فیبردان فيكونان بخاراً؛ فماء ينجذب إليها.

ثم يتبخر منها حتى غلب عليها طور المائية، ثم تكونت اليابسة في هذا الماء بتجمع موادها طبقة بعد طبقة وتولدت فيها المعادن و الأحياء الحيوانية والنباتية بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها على بعض بنسب ومقادير مخصوصة، وقد ظهر بالبحث والحفر أن بعض طبقات الأرض خالية من آثار الحيوان والنبات جميعاً؛ فعلم أن تكونها كان قبل وجودهما فيها؛ فهذه الأقوال وما فصلوها به مما رأوه أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة كتها. 

وتكون المعادن منها و المادة الزلالية ذات القوى التي بها كانت أصل العوالم الحية كالتغذي والانقسام والتولد وهي التي يسمونها (بورتو بلازما) وصفة تكون الخلايا التي تركبت منها الأجسام العضوية كل ذلك تفصيل الخلق العوالم أطواراً بسنين ثابتة وتقدير منظم، لم يكن منه شيء جزافاً. 

وقد أرشد الكتاب الحكيم إلى هذه الحقائق العامة (الثابتة في نفسها وإن لم يثبت كل ما قالوه من فروعها ومسائلها، بمثل قوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}، وقوله حكاية عن رسوله نوح عليه السلام مخاطبا لقومه: {مالكم لا ترجون الله وقارا، وقد خلقكم أطوارا، ألم تروا كيف خالق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجا، والله أنبتكم من الأرض نباتاً}.

فمن دلائل إعجاز القرآن أنه يبين الحقائق التي لم يكن يعرفها أحد من المخاطبين بها في زمن تنزيله بعبارة لا يتحيرون في فهمها والاستفادة منها مجملة. وإن كان فهم ما وراءها من التفصيل الذي يعلمه ولا يعلمونه يتوقف على ترقي البشر في العلوم والفنون الخاصة بذلك.

وقد سبق علماء الإسلام إلى كثير مما يظن أن علماء الإفرنج قد انفردوا به من مسائل نظام الخلق، ومن ذلك قول الفخر الرازي: الأشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الزمان معمورة في البحار؛ فحصل فيها طين لزج كثير فتحجر بعد الانكشاف، وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح، ولذلك كثرت فيها الجبال، ومما يؤكد هذا الظن أنّا نجد في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف والحيتان انتهى.

ويظن بعض قصيري النظر وضعيفي الفكر أن الخلق الذي لا تقدير فيه ولا تدريج نظام أدل على وجود الخالق وعلى عظمة قدرته، ويقوي هذا الظن عند بعض الناس ما علم من كفر بعض الباحثين في نظام الخلق والتكوين وسننه بالخالق عز وجل، وإن كان كفرهم ذهولاً واشتغالاً عن الصانع بدقة الصنعة، وتجويزاً لحصول النظام فيها بنفسه مصادفة واتفاقاً.

والصواب المعقول أن النظام من أدل الدلائل على الإرادة والاختيار والعلم والحكمة في آثار القدرة وعلى وحدانية الخالق؛ فإن وحدته في العالم أظهر البراهين على وحدة الرب تعالى، وما لا نظام فيه هو الذي قد يخطر في بال رائيه أن وضعه أمر اتفاقي، أو من قذفات الضرورة العمياء، أو بفعل أكثر من واحد  

وأي عاقل لا يفرق بين كومة من الحصى يراها في الصحراء وبين قصر مشيد فيه جميع ما يحتاج إليه مترفو الأغنياء من حجرات ومرافق أفيعقل أن يكون النظام العام في العالم الاكبر ووحدة السنن التي قام بها بالمصادفة أو أثر إرادات متعددة انتهى كلامه ولا عطر بعد عروس.

المسلسل الثامن: المسلسل بالمشابكة الباغوزارية 

فمن شابكني دخل الجنة انتهى، وهكذا قال كل واحد من الرواة إلى أن وصل الينا تفاؤلاً، وهذه رؤيا منامية لا نحتاج إلى الكلام عليها لتقدم الكلام على الرؤيا النبوية مرتين، كما أننا لا نحتاج لتاويل ماورد فيها أو شرحه؛ لكونه إنما قيل فيها مناماً، وإنما روينا ذلك على سبيل التبرك وجمعا للنظائر.

المسلسل التاسع: المسلسل بمناولة السبحة

وتفسير بعضهم للسبحة في حديث علي بصلاة النافلة هو تأويل بعيد؛ والسبحة من معنى تسبيح الصحابة بالنوى والحصى الذي وردت به آثار كثيرة في جزء هلال الحفار والبغوي في المعجم، وابن عساكر في التاريخ، من طريق معتمر بن سليمان عن أبي صفية -مولى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، أنه: (كان يجاء له بزنبيل فيه حصى به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح حتى يمسى).

وأخرجه أحمد في الزهد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس بن أمه، قال: رأيت أبا صفية رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله يسمح بالحصى.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالنوى أو الحصى؛ وأخرج أحمد في الزهد قال حدثنا مسكين بن بكير أن ثابت بن عجلان عن عبد الرحمن، قال: كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس؛ فإذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح فيهن حتى ينفذن.

وأخرج ابن سعد أن أبا هريرة كان يسبح بالنوى المجموع، وأخرجه ابوداود بلفظ: كان له كيس فيه حصى نوى يسبح بها، وأخرج ابن أبي شيبة أن أبا سعيد الخدري كان يسبح بالحصى؛ والآثار في هذا المعنى كثيرة، ولا فرق بين السبحة وبين ما ذكر إلا أن السبحة منظومة في خيط وما ذكر منثور.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله رأي الصحابة يسبحون بما ذكر من الحصى والنوى وأقرهم علي ذلك، ولم ينكر عليهم، أخرج الترمذي من حديث القاسم بن عبيد عن صفية أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله دخل عليها وبين يديها أربعة آلاف نوى تسبح بها؛ فقال: (لقد سبحت بهذا إلا أعلمك بأكثر مما سبحت به)؛ فقالت: علمني. فقال: (قولي سبحان الله عدد خلقه)، ورواه الترمذي أيضاً وأبو داود بلفظ آخر ولم يسميا المرأة التي دخلا عليها.

 قال الشوكاني في النيل: والحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنوي والحصى وكذا بالسبحة لعدم وجود الفارق؛ فيسبح لتقريره صلى الله عليه وسلم وعلى آله للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز انتهى انظر (ص ٣٥٨ ج ۲).

وقال أبو عبد الله الساحلي في مسلك حداق المحققين -عند الكلام على السبحة بعد ما ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي -عن يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل وأن يعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات ما نصه: فهذا أمر منه بالعد؛ فإن قلت إنما قال بالأنامل ولم يقل بالسبحة، فاعلم أن العقد بالأنامل إنما يكون في الأذكار القليلة، والأوراد اليسيرة من العشرة إلى المائة، وأما أهل الأوراد الكثيرة والأذكار المتصلة؛ فلو عدوا بأصابعهم لداخلهم الخلط في أورادهم واستولى عليهم الشغل بالأصابع انتهى.

 ومثله لابن علان في المصابيح، وحاصله: أن استعمالها في أعداد الأذكار الكثيرة التي يلهي الاشتغال عن التوجه للذكر أفضل من العقد بالأنامل ونحوه والعقد بالأنامل فيما لا يحصل فيه سيما الأذكار عقب الصلاة ونحوها أفضل انتهى.

ونقل في شرح الأذكار النووية عند ذكر الحديث المذكور عن شرح المشكاة لابن حجر الهيتمي مانصه: ويستفاد من الأمر بالعقد المذكور في الحديث ندب اتخاذ السبحة، وزعم أنها بدعة غير صحيح إلا أن يحمل على تلك الكيفيات التي اخترعها السفهاء مما يمحضها للزينة أو الرياء أو اللعب انتهى.

ثم قال ابن علان بعده: وجرى في الحرز على كونها بدعة قال لكنها مستحبة؛ لما سيأتي من حديث جويرية: أنها كانت تسبح بنوی أو حصى وقد قررها صلى الله عليه وسلم وعلى آله على فعلها، والسبحة في معناها؛ إذ لا يختلف الغرض من كونها منظومة أو منشورة. 

وما ذكره من إقرار جويرية علي التسبيح بالحصى أو النوى، وهي التي دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت تسبح بذلك -وصفية في رواية، وامرأة مبهمة في رواية أخرى، وليس في حديث جويرية التسبيح بحصى أو نوى؛ ثم قوله إنها بدعة يخالف نقله إقرار المصطفى صلى الله عليه وعلى آله عليها.

والبدعة كما في التهذيب وغيره: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهذا ليس منه لموافقته على إقراره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وصرح غير واحد من المحدثين بان محل الخلاف في وقف أو رفع قول الصحابي: كنا نفعل أو نقول كذا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يصرح في الخبر باطلاعه صلى الله عليه وسلم وعلى آله عليه وإلا فمرفوع جزماً -كما ورد عن ابن عمر: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر وعثمان، فيسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره) رواه البخاري، وما نحن فيه من هذا القبيل فيه من الإقرار على التسبيح بتلك النوي وصغار الأحجار؛ بل ورد من الاخبار ما فيها التصريح برؤيته صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذلك مع الإقرار والله أعلم.

ثم رأيته خالف في المرقاة وسلك طريق الصواب؛ فقال في حديث سعد السابق وهذا أصل صحيح بتجويز السبحة بتقريره صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ فإنه في معناها إذ لا فرق بين المنظومة والمنثورة فيما يعد به، ولا يعتد بقول من قال إنها بدعة اهـ (ص ٢٥١ ج ١).

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه "المنحة في استعمال السبحة" ما نصه: لم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروها انتهى وقد ساق في التأليف المذكور آثاراً كثيرة تشهد لها وعنه نقلنا ما ذكرنا، تلقين الكلمة المشرفة لمن يريد الدخول للإسلام ولم يكن عالماً كان لا محالة كتلقين الإمام علي كرم الله وجهه للحسن البصري كذلك في محل خاص.

ولهذا لم يشتهر تلقينه منه كما لم يشتهر التلقين والإلباس وأخذ العهد والبيعة المعروفة عند الصوفية بين السلف من أئمة أهل الحديث، أما الصوفية فقد اشتهر ذلك بينهم وتلقوه بالقبول سلفاً وخلفاً، وفيهم من يقتدى به ممن جمع بين التصوف والفقه والحديث؛ كالشيخ الكبير أبي محمد عبد القادر الجيلاني والشيخ عبد الكريم بن هوازن القشيري والشيخ عبد القاهر السهروردي وابن أخيه شهاب الدين عمر صاحب عوارف المعارف وغيرهم ممن هو مقبول ثقة عند الفريقين -كما يعلم بمراجعة تراجمهم في كتب التاريخ المعتمدة كالطبقات الكبرى للسبكي وأمثالها.

وحيث أن المثبت مقدم على النافي؛ لما معه من مزيد العلم، ووجدنا روايته عمن ذكر من الثقات المقبولين؛ فإنه لا معنى للطعن في تلقين الحسن من الإمام علي، ولا إنكار على أصل التلقين وما عطف عليه. 

(تنبيه) ما ذكرنا من كون الشيخ أبي محمد عبد السلام بن مشيش أخذ عن الزيات عن ابن بونة عن أبي مدين هو المعروف والمذكور في كتب التاريخ والأسانيد، إلا أن الشيخ صفي الدين القشاشي ذكر في سمعه أن أبا محمد عبد السلام بن مشيش تلقن من أبى مدين بدون واسطة، ويعضده ما ذكره أبو حامد الفاسي في المرآة عند ذكر ابن مشيش وأخذه عن الزيات ونصه: ولو ادعى مدع أنه أخذ عن أبي مدين بلا واسطة لمكان الزمان صالحاً لذلك ولا يبعد انتهى.

 المسلسل الحادي عشر بلبس الخرقة

وألف ابن علان جزءاً سماه "إيقاد المصابيح لمشروعية التسابيح"، أشار إليه في شرح الأذكار، وقد أورد فيه ما يتعلق بها من الأخبار والآثار والاختلاف في تفاضل الاشتغال بها أو بعقد الاصابع في الأذكار وغير ذلك مما له تعلق بالمسألة، وقد أنشد السيوطي في تأليفه المذكور لعماد الدين المناوي

 ومنظومة الشمل يخلو بها … اللبيب فتجمع من همته

 إذا ذكر الله جل اسمه …  عليها تفرق من هيبته

المسلسل العاشر بتلقين الكلمة المشرفة لا إله إلا الله 

جعلها الله آخر كلامنا مع التيقن لمعناها بمنه وكرمه (آمين) 

قال صفي الدين القشاشي في "السمط المجيد" بعد ما ذكر الحديث المذكور أن في أمره صلى الله عليه وسلم وعلى آله بإغلاق الباب، تنبيهاً على أن هذا أمر خاص لا ينبغي أن يشرع فيه مع حضور منكر، ثم إنه يصان أن يدخل عليهم من ليس منهم، ولو من غير أهل الكتاب لئلا يشوش عليهم فإن الأجنبي المنكر يتغير برؤيته منهم ما ينكره فيقبضهم بتغيره؛ فتفوت البركة المطلوبة من هذا الأمر -كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الحديث الصحيح: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت) انتهى.

ولما كان التلقين المذكور على هذه الكيفية أمراً خاصاً بالخواص من الناس، ومن شرطه الحفظ والامانة، ويستدعى الإخفاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كرواية الأحاديث ونقل الأحكام الشرعية التي يراد بها العموم.

وقد أنكر جماعة لبس الحرقة على الصورة المصطلح عليها بين الصوفية، وقالوا: أنه لم يرد كون النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ألبسها لأحد من الصحابة، ولا أمر أحدٌ من أصحابه بفعلها، وأن كل ما يروى في ذلك فباطل، لكن قال تقي الدين ابن الصلاح: أنها من القرب، وأن بعض المشايخ استخرج لها أصلاً من السنة، وهو حديث أم خالد التي ألبسها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله خميصة سوداء انتهى.

ويعني ببعض المشايخ السهروردي؛ فإنه ذكر ذلك في عوارف المعارف، وحديث أم خالد هو في الصحيحين قالت أتى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء، قال: من ترون نكسوا هذه الخميصة فأسكت القوم؛ فقال: ائتوني بأم خالد فأتي بي فألبسنيها صلى الله عليه وسلم وعلى آله بيده، وقال: أبلي وأخلقي مرتين.

قال الحافظ جلال الدين السيوطي في حاشيته على سنن أبي داود، وفي رسالته في الخرقة عند ذكر ما تقدم عن ابن الصلاح مانصه: وقد استنبطت للخرقة أصلاً أوضح من هذا الحديث، وهو ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من طريق عطاء الخراساني: أن رجلا أتى ابن عمر يسأله عن إرخاء طرف العمامة؛ فقال له عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وأمر عليهم عبد الرحمن بن عوف، وعقد له لواء، وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة من كرابيس مصبوغة سوداء؛ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فحل عمامته ثم عممه بيده، وأفضل من عمامته أربع اصابع أو نحو ذلك؛ فقال: هكذا فاعتم فإنه أحسن وأجمل انتهى.

(قلت) حديث عبد الرحمن بن عوف هذا أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله عبد الرحمن بن عوف وأرخى موضع أربع أصابع)، وهو عند ابن عساكر عنها أيضاً بلفظ: (عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا وترك من عمامته مثل ورق العشر، ثم قال: رأيت الملائكة معتمين هكذا).

وأخرجه أبو داود والترمذي، عن عبد الرحمن ابن عوف، قال: (عممني رسول صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي)، ثم قال السيوطي في حاشية السنن بعد ذكر الحديث المذكور: فهذا أوضح في كونه أصلاً للخرقة، من حيث أن الصوفية إنما يلبسون من يلبسونه طاقاً لا ثوباً عاماً لجميع البدن، وأن حديث أم خالد في إلباس عطاء كسوة، وهذا في إلباس تشريف وهو الأنسب بلبس الحرقة، فيه نوع من المساومة كما قال السهروردي، وأم خالد كانت صغيرة لا تصلح للمبايعة، بخلاف حديث عبد الرحمن بن عوف انتهى. باختصار .

ومن مناسبة ما فيه من اثبات الكيفية، وكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بيده، وقال صفي الدين القشاشي في السمط بعد ذكر استنباط السيوطي: أن الاستدلال بتعميم النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنسب؛ لكون سلاسل لبس الحرقة لا تنتهى لابن عوف وإنما ينتهي أكثرها لأمير المؤمنين علي عليه السلام وإن كان حديث ابن عوف أثبت أصل الإلباس.

أما حديث تعميم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله لعلي؛ فأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا بكر بن سهيل، نا عبد الله بن يونس نا يحيى بن حمزة، أنا أبو عبيد الحمصي، عن عبد الله بن بشر، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء، ثم أرسلها من ورائه أو قال على كتفه اليسرى) وأخرجه ابن أبي شيبة والطيالسي والبيهقي عن علي كرم الله وجهه قال: (عممني رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى آله يوم غدير خم بعمامة فسدلها خلفي)، وفي لفظ: (فسدل طرفها على منكبي، ثم قال: إن الله أمدني يوم بدر وحنين بملائكة يعتمون هذه العمة) انتهى

 (قلت): وفي مشيخة ابن شاذان: أخبرنا عبد الباقي بن مانع بن مرزوق القاضي، حدثنا محمد بن عبد الله بن مهران، حدثنا عبد العزيز الآلوسي، حدثنا علي بن أبي علي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عن علي كرم الله وجهه وعليه السلام: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عممه بيده؛ فذنب العمامة من ورائه ومن بين يديه)، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم وعلى آله على أصحابه؛ فقال: (هكذا تكون تيجان الملائكة)، قال على القاري في رسالته في العمامة: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كانت له عمامة تسمى السحاب فألبسها إياه وأرخى طرفها اهـ. 

(قلت): ومما يناسب الاستدلال للبس الحرقة، ماثبت من أنه لما نزل قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}، دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله بضمته الطاهرة سيدتنا فاطمة الزهراء وزوجها سيدنا علي والسبطين الكريمين سيدنا الحسن وسيدنا الحسين عليهم السلام، ونشر رداءه عليهم، وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)، فهذا الحديث أنسب أيضاً للعلة التي أبداها السيوطي والقشاشي والله تعالى أعلم.

(تنبيه) ليست الحرقة المذكورة هي المرقعة التي كان يلبسها بعض السلف من الصوفية وغيرهم بل المرقعة غيرها، وسبب اتخاذهم لها الميل إلى التواضع والجري على ما تقتضيه حالة العبودية، ولم يكن اتخاذهم لها من المرقع والخرق المختلفة من أول  مرة، بل كانوا يلبسون الثوب جديداً صحيحاً؛ فإذا تمزق من كثرة البلى رقعوا ماتمزق منه. 

وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (إذا أردت اللحوق بي فلتكن بلغتك من الدنيا كزاد الراكب ولا تستبدلي ثوباً حتى ترقعيه وإياك ومجالسة الأغنياء)؛ ولما كانت المرقعة المذكورة من شعار أهل الفضل من السلف وتسلط الدخلاء على التصوف في افضل اوضاعه اتخذوا المرقعة وسيلة للسؤال وجعلوها شبكة يصطادون بها أموال الناس والتكالب على جمع المال والتفنن في الحيل على غصبه وأخذه بتلك لخديعة {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا انفسهم وما يشعرون}.

مع أن من شأن لابس المرقعة الزهد فيما في أيدي الناس، وعدم التشوف إلى الدنيا وترك الحرص عليها، بل وبذل ما عنده وقد تفطن لهذا الشيخ أبو حامد الدرقاوي؛ فحذر منه وبين حالة بعض من سولت له نفسه التسارع إلى لبس المرقعة؛ ليتوصل إلى السؤال فقال حسبما في رسائله المطبوعة بفاس: ترى كثيراً مما صحبنا وأخذ عنا الورد قد بادر من حينه إلى لبس المرقعة؛ إذ كان بنية المبادرة إلى السؤال وكان هو المقصود عنده؛ فلذلك توسط له بأخذ الورد، ولبس المرقعة انظر تمامه .

(المسلسل الثاني عشر بالعد في اليد)

واعلم أن الكلام على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة معناها واشتقاقها أو احكامها وفضائلها هو شهير مبسوط في كتب الحديث والتفسير والفقه ومؤلفات مخصوصة فلا نطيل الكلام به هنا؛ لضيق المجال وعدم وجود الوقت الكافي، فليرجع إليه في مظانه ولكننا سنقتصر هنا على مبحث يتعلق بما في حديثنا: من زيادة الدعاء له صلى الله عليه وسلم وعلى آله بالرحمة.

فنقول اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يجوز؛ لايهامه التقصير، وذلك أن الرحمة إنما تكون غالباً عن فعل ما يلام عليه، وقد حماه الله تعالى منه، ونحن قد أمرنا بتعظيمه. قال ابن دحية: ينبغي لمن ذكره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، أن يصلي عليه، ولا يجوز أن يترحم عليه؛ لآية: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}، وان كانت الصلاة بمعني الرحمة؛ فكأنه خص بذلك تعظيماً له اهـ 

ومثله لابن عبد البر -كما في الشفا للقاضي عياض، قال: وإنما يُدعى له بالصلاة والبركة التى تختص به، ويدعي لغيره بالرحمة والمغفرة اهـ 

قال شراح الشفا: ولا يرد على هذا أن الصلاة معناها الرحمة؛ فإنه لا يلزم من كون لفظ بمعني لفظ أنه يستعمل في محله؛ فإن الصلاة فيها معنى التعظيم، ولو كانت مطلق الرحمة لزم استعمالها في حق غيره، وليس كذلك اهـ 

وبالغ ابن العربي في العارضة في إنكار القول بجوازها، وتخطئة ابن أبي زيد في زيادتها في صلاة التشهد، ونقله الرافعي عن الصيدلاني أيضاً، وقال النووي في الأذكار: إنها بدعة، وبعد ما ذكر الولي العراقي قول من أجازها وقول من منعها، قال: ولعل الصواب ترجيح القول الثاني وهو الجواز؛ لأن رحمة الله لا يستغني عنها أحد.

قالوا: وزعم أنهـا لا تكون غالباً إلا على ما يلام عليه ممنوع، وأي دليل لذلك، بل الادلة قاضية برده، ولا ينافي الدعاء بالرحمة أنه عينها بنص: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؛ لان كونه كذلك من جملة رحمة الله وتفضله؛ إذ هي في حقه تعالى بمعنى إرادة الخير للعبد، وإقداره طلبه، وهو صلى الله عليه وسلم أجزل الخلق حظا من تلك الإرادة، وحصول ذلك لا يمنع طلب الزيادة؛ إذ فضل الله لا يتناهى، والكامل يقبل الكمال.

ويدل للجواز: السلام المروى في التشهد، وهو صحيح؛ فإنه لا فرق بينهما، وكذا آية: {رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت} المشبهة بها، وأحاديث أخر مصرحة بالرحمة كقول الأعرابي حسبما في الصحيحين -وهو ذو الخويصرة اليماني -: (اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً)؛ فقد أقره صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع أنه غير مسلم على ذلك.

ولم ينكر عليه إلا تحجيره رحمة الله الواسعة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في أدعية كثيرة الدعاء لنفسه بالرحمة؛ ففي سنن أبي داود: (اللهم اغفر لي وارحمني) في الدعاء بين السجدتين، وفي حديث ابن عباس: (أسألك رحمة من عندك)، وفي الحديث أيضاً: (استغفرك لذنبي وأسألك رحمة)، وفيه: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث).

وقد ذهب ابن أبي زيد القيرواني: إلى استحباب زيادتها في صلاة التشهد في الصلاة، حسبما في الرسالة، ومثله لبعض الشافعية -كما في الأذكار -وأبى جعفر والسرخسي من الحنفية كما في الخفاجي، وإنكار ابن العربي في المعارضة والنووي في الأذكار والصيدلاني والرافعي حسبما في الشرح الكبير لزيادتها غير مسلم لهم.

فقد قال الحافظ ابن حجر: أنه غير جيد، وغلّطهم غيره -كما في حواشي الشفا للبرهان الحلبي -لأنها وردت من حديث أبي هريرة، ولفظه: (من قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت)، أخرجه أبو جعفر الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، إلا واحداً فلم يعرف فيه جرح ولا تعديل، وقد ذكره ابن حبان في الثقاة على عادته، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر وغيره: أنه حديث حسن.

ووردت من حديث أبي هريرة أيضاً، قال: قيل يا رسول الله، أمرنا الله بالصلاة عليك؛ فكيف نقول؟ قال: (قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وارحم محمداً وآل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل ابراهيم، والسلام كما قد علمتم)، وفي رواية عنه: قال (قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك؛ فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على آل ابراهيم إنك حميد مجيد)، قال الحافظ: أخرجه العمري واسماعيل القاضي وفي سنده راو ضعيف.

ومن حديث ابن مسعود مرفوعاً: (إذا تشهد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: اللهم على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد)، أخرجه الحاكم المستدرك، وقال الحافظ ابن حجر: رجاله رجال الصحيح إلا اثنين؛ فذكر إحداهما ابن حبان في ثقاته والآخر لم يعرف اسمه ولا حاله.

(قلت): ومنها حديث علي الذي سلسلنا، وهو لا يقل عن هذه الأحاديث التي ذكرنا، وهي شاهدة لبعضها بعضاً، وتقوت باجتماعها، ويؤيدها شاهد من حديث ابن مسعود موقوفاً، قال الحافظ: أخرجه عبد ابن حميد في التفسير، وابن ماجه والعمري، فهي صالحة للاحتجاج لتعدد طرقها ومخرجيها.

وفيها دلالة على جواز الدعاء بالرحمة له صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ويستفاد من حديثي ابن مسعود المرفوع والموقوف جواب من أنكر على ابن أبي زيد زيادة الرحمة مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد في الصلاة وقال أنه بدعة لم يرد.

فلعل من أنكر جواز الدعاء بالرحمة له صلى الله عليه وسلم وعلى آله مطلقاً، أو أنكر زيادتها في التشهد لم يستحضر هذه الأحاديث، أو لم يعتد بها والعلم عند الله تعالى.

القول الثالث التفصيل: وهو جواز الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالرحمة علي سبيل التبعية لذكر الصلاة والسلام؛ كما في التشهد على وجه الإطناب والخطابة، وأما على وجه الأفراد كما يقال قال النبي رحمه الله؛ فلا شك في منع مثل هذا، بل هو خلاف الأدب، وخلاف المأمورية عند ذكره صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ولا ورد ما يدل عليه ألبتة، ورب شيء يجوز تبعاً ولا يجوز استقلالاً، وهذا قول الجمهور كما نقله عياض في الاكمال وقال القرطبي أنه الصحيح وأجيب عن الأحاديث الواردة في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، التي فيها ذكر الرحمة كحديثنا المسلسل، وعن سلام التشهد وغيرها بأنها وقعت فيها على سبيل التبعية، وعن الأحاديث الواردة في دعائه صلى الله عليه وسلم آله لنفسه بها؛ بأنه كان يدعوا بها على سبيل التواضع لربه عز وجل، وأن ذلك سيق مساق التشريع للامة.

ويجب علينا نحن أن تخصه بما يشير إلى تفخيمه وتعظيمه اللائق بمنصبه الشريف قال الشهاب في شرح الشفا والتحرير، أن يقال: دعاؤه صلى الله عليه وسلم لنفسه بالرحمة لا مانع منه أصلاً، وأما دعاء غيره له فيما لم يؤثر؛ فعلى الأفراد مكروه وبالتبع للصلاة ونحوها لا كراهة فيه، وهذا هو الحق عندي انتهى وهذا القول الثالث هو الصواب. 

(تنبيه) ما يستعمل من لفظ السيد والمولى قبل اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه صلي الله عليه وسلم وعلى آله قد استحسنه قوم وأنكره آخرون.

 قال الأبي في شرح مسلم: أنه حسن وإن لم يرد، والمستند ما صح من قوله صلي الله عليه وسلم وعلى آله: (أنا سيد ولد آدم)، وهم القاضي ابن عبد السلام بعقاب طالب قال: لا تزاد وإنما يقال على محمد اهـ.

واستظهر ابن الخطاب زيادتها، وقال: الذي يظهر لي واجعله في الصلاة وغيرها الإتيان بلفظ السيد اهـ.

وتردد الأسنوي في كون الزيادة أفضل، قال ابن علان نقلاً عن غيره: أن زيادتها فيه الإتيان بما أمرنا به وزيادة الإخبار بالواقع الذي هو أدب؛ فهو أفضل من تركه فيما يظهر وإن تردد في أفضليته الاسنوي اهـ

وذكر السخاوى و العارف الفاسي عن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف: هل الاولى امتثال الأمر أو سلوك الادب؟ اهـ

فعلى الثاني يستحب دون الأول، قالوا: ويشهد لسلوك الأدب تأخير الصديق رضي الله عنه لما ائتم به صلى الله عليه وسلم مع قوله مكانك، وإقراره علي ذلك.

وامتناع أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في وقعة الحديبية من محوه لاسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع أمره له بمحوه؛ فقال: والله لا أمحوه.

قال ابن علان: وهو متجه، وان قال بعضهم الاشبه الاتباع، ولا يعرف إسناد ذلك إلى أحد من السلف اهـ

والمستند ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وفي رواية: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وحديث: (من كنت مولاه فعلى مولاه) حجة في الموضوع، وهو حديث متواتر كما للسيوطي، وقد أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما.

وجاء عن ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً -وهو أصح: (احسنوا الصلاة على نبيكم)، وذكر كيفية منها: (اللهم صل على سيد المرسلين) وإنكاره صلى الله عليه وعلى آله على من خاطبه بذلك، إنما هو لكونه ضم إليه ألفاظاً من الفاظ الجاهلية، وتحيتهم كما يعرف ذلك بمراجتعه الحديث.

وقد سئل السيوطي، عن حديث: (لا تسيدوني في الصلاة)؟ فأجاب: بأنه لم يرد ذلك، قال: وإنما لم يتلفظ به صلي الله عليه وسلم من كراهيته للخفر؛ ولهذا قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وأما نحن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره، ولهذا نهى الله أن ينادي باسمه كما ينادى بعضنا بعضاً انتهى.

يشير إلى آية: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}، والذي اختاره المجد الفيروزابادي، ميلاً إلى ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية هو ترك ذلك في الصلاة، اتباعا للفظ الحديث والإتيان به في غير الصلاة.

وذهب الشيخ زروق إلى نحو ما اختاره المجد، قال في قواعده: اختلف في زيادة سيدنا في الوارد من كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والوجه أن يقتصر على لفظه حيث تعبد به ويزاد حيث يراد الفضل في الجملة انتهى.

المسلسل الثالث عشر بالأخذ باليد

وقوله: (جاء رجل من الحرة) كذا في مسلسلها، ووقع بلفظ الرجل أيضاً، عن أنس في عدة مواضع من الصحيح، وفيه عنه: أنه من أهل البادية، ومن طريق آخر أنه اعرابي، ووقع عند الطبراني من حديث ابن مسعود: أنه الأعرابي الذي بال في المسجد، وجاء التصريح في كتاب الطهارة من الصحيح أن الأعرابي الذي بال في المسجد اسمه ذو الخويصرة اليماني، وذكر اسمه كذلك أبو موسى المديني في دلائل معرفة الصحابة.

ومن زعم أن السائل هو أبو موسى أو أبو ذر؛ فقد وهم كما في الفتح، قائلاً: فإنهما وإن اشتركا في معنى الجواب -وهو أن المرء مع من أحب -فقد اختلف سؤالهما؛ فإن كلاً من ابى موسى وأبي ذر إنما سأل عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم، وهذا سأل متى الساعة.

وقوله: (متى الساعة) هو كذلك في بعض روايات البخاري، وفيه أيضاً من رواية قتادة عن أنس بلفظ: متى الساعة قائمة، وفي مسلم من رواية ثابت، عن أنس: (متى تقوم الساعة)، واللام للعهد، والمراد يوم القيامة، ولكون الحق استنكر كثرة سؤال المشركين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله عنها، ورد منتهى عامها إليه جل شأنه.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم وعلى آله عالماً بوقت وقوعها؛ لعدم اطلاع الله له عليه، وكانت وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله إنما هي الإنذار ببيان اقترابها، وتفصيل ما يقع قبلها، وفيها من الأهوال والإرشاد للأعمال الصالحة التي تنجي فيها، حسبما يرشد إلى كل ذلك قوله تعالى: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها}؛ لأجل كل ما ذكر أجاب صلى الله عليه وسلم وعلى آله سائله في حديثنا، بقوله: (ما أعددت لها)، أي من الأعمال الصالحة التي تنجي من أهوالها حين قيامها.

بدليل قول السائل ثانياً: (ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام) الحديث؛ لأن وظيفته صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا هي الإنذار بها وهو لها لا بيان وقتها، قال الكرماني: إن النبي صلي الله عليه وسلم وعلى آله سلك مع السائل أسلوب الحكيم -وهو تلقي السائل بغير ما طلب مما يهمه -أو هو أهم انتهى.

وقد وقع مثل السؤال الذي في حديثنا من جبريل عليه السلام -كما في حديثه الواقع في الصحيحين؛ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)؛ قال الحافظ في الفتح علي قوله: بأعلم الباء زائدة لتاكيد النفي، وهذا وان كان مشعراً بالتساوي في العالم لكن المراد بالتساوي في العلم، لأن الله تعالى استاثر بعلمها؛ لقوله بعد في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية.

وفي حديث ابن عباس -هنا -فقال: (سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية أي قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس أي أرض تموت إن الله عليم خبير} كما هو مصرح به في الأحاديث في عدة مواضع من الصحيح وغيره.

وروى أحمد والبزار وصححه وابن حبان والحاكم، من حديث بريدة رفعه، قال: (خمس لا يعلمهن إلا الله، إن الله عنده علم الساعة) الآية، وجاء عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم صلي الله عليه وسلم وعلى آله علم كل شيء سوى هذه الخمس، قال في الفتح: وعن ابن عمر مرفوعاً نحوه أخرجها أحمد أهـ.

 وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله قول الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} بهذه الخمس، وهو في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، وورد في رواية من حديث ابن مسعود السابق -عند الطبري -قال: (أعطي نبيكم صلى الله عليه وسلم على كل شيء إلا مفاتيح الغيب)، وظاهر هذه الآيات والأحاديث أن هذه المسائل الخمس هي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ فلم يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين)؛ وكذلك إخباره بأشراطها؛ فإن ذلك كله لا يدل علي أكثر من العلم الإجمالي، لا علي وجه يحاكي ما استاثر الله به، وهو علمه تعالى بها علي وجه الإحاطة والشمول كلياً وجزئياً وتفصيلياً لأحوال كل منها؛ فإن ذلك هو المنفي.

وأما ماعدا الخمس من الغيب فقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله علي ما أطلعه منه وأخبرنا صلي الله عليه وسلم، بما اقتضت المصلحة أن يطلعنا عليه منه سواء مما وقع في بداية الوجود أو أحوال الأمم السالفة، أو ما سيقع بعده لأمته وغيرها أو أشراط الساعة ونحوها أو ما يقع في الآخرة، وذلك في كثير من الأحاديث حسبما يعلم ذلك من راجع نحو كتاب الشفا والمواهب اللدنية مما ذكر فيه معجزات النبي صلي الله عليه وسلم وإخباره بالمغيبات.

ويشهد لهذا قوله تعالي: {عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول}، قال في فتح الباري عند ذكر هذه الآية: وأما ما ثبت بنص القرآن أن عيسى عليه السلام قال: إنه يخبرهم بما ياكلون وما يدخرون، وأن يوسف قال: إنه ينبئهم بتأويل الطعام قبل أن يأتي إلى غير ذلك مما ظهر من المعجزات والكرامات؛ فكل ذلك يمكن أن يستفاد من الاستثناء في قوله تعالى: {إلا من ارتضى من رسول}، فانه يقتضي اطلاع الرسول علي بعض الغيب أهـ.

وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والبخاري في الأدب، عن ربعي بن خراش، قال: حدثني رجل من بني عامر، أنه قال: يارسول الله هل بقي من العلم شيء لا نعلمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد علمني الله تعالى خيراً، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى الخمس {إن الله عنده علم الساعة} الآية.

وأخرج ابن زنجويه عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه؛ فقال: إنما الغيب خمس، وتلا: {إن الله عنده علم الساعة}، ثم قال: وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله آخرون.

والكلام في هذه المسألة طويل الذيل متشعب الأطراف، وفيها خوض كثير بين المتقدمين والمتأخرين وما قررنا هـو الصواب أن شاء الله تعالى، استناداً للادلة التي سطرنا، ومن أراد زيادة بسط فليرجع إلى كتب الحديث والتفسير وما ألف في المسألة بالخصوص.

وقد ألف فيها أخيراً بعض من عاصرنا من علماء الهند وهو العلامة الكبير عين القضاة الحيدرابادي عدة تأليف أفاض فيها القول وحرر الكلام بما لا مزيد عليه منها «إبراز المكنون * في مبحث العلم بما كان ويكون» ومنها «إزاحة العيب * عن مسألة علم الغيب» ومنها «البيان الصائب * في تفسير علم الغائب»، وألف في المسألة أيضاً العلامة المحقق عبد الحي اللكنوي الشهير تأليفا سماه «الغيب المجتبى * في غيب المصطفى» وكلها مطبوعة بالهند

وقوله: (إلا أني أحب الله ورسوله) أعلم أن المحبة هي ميل المحب إلى المحبوب، أو إلى أمر ما، واختلف المتكلمون هل يصح الميل إلى الله تعالى أم لا؟ واختلفوا أيضاً هل المحبة الطاعة للمحبوب أو إبثاره له؟ وأطال كل فريق بما يؤكد نظره والرد على مخالفه وتحقيق هذا المقام أن شاء الله تعالى على ما ذكره ابن المنير في الانصاف: أنه لاشك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر، وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها؛ فلنمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهى ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا؟

والمحبة لغة: ميل المتصف بها إلى أمر ما، واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس؛ كلذة الذوق في المطعوم، ولدة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها؛ فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضاً متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق.

فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة بل واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد الله عزوجل بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها.

ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها؟ قال ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)؛ فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة الله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات؛ لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم أثبت إجراء محبة العبد الله تعالى على حقيقتها لغة.

والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً؛ فهو المحبة البالغة المتأكدة، والقول بأنها عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب؛ فيكفر من قال: أنا عاشق الله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم كما قاله بعض الحنفية، وهو في حيز المنع، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز وجل بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فانكروا؛ كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك.

وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد انهم مشغولون في غير شيء، قال حجة الإسلام الغزالي روح الله تعالى روحه: والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} انتهى مع زيادة من الآلوسي وأما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ فهي كمال الإيمان الذي هو أصل كل سعادة وهي من محبة الله تعالى.

وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) الحديث؛ فإن ذكر محبته صلى الله عليه وسلم مع محبة الله تعالى، ثم إضافته إليه إضافة تشعر بعظيم منزلته عنده، ثم الجمع بينهما في ضمير واحد يدل على أن حبه من معنى حب الله تعالى، وأنه لأجله.

ولهذا لم يذكر في هذه الجملة ما ذكره في الجملة بعدها، وهي قوله: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، ولأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث كونه رسولاُ لا تكون إلا لله عزوجل، وقد رتب الحكم عليها فيما سبق، وترتب الحكم على الوصف مشعر بمليته من باب الايماء، لم يشترط فيها أن لا يحبه إلا لله تعالي؛ لأنه من باب تحصيل الحاصل.

واعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم هي الميل إليه وإيثاره على كل شيء حتى على نفس المحب وذلك مستلزم لحصول أعلى مراتب الإيمان، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده).

وفيه عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع. وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة؛ فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلي الله عليه وسلم وعلى آله راجحاً، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس.

وفي كلام القاضي عياض: أن ذلك شرط الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال، وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مراداً هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزماً للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان اعظام شيء مع خلوه من محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه.

وإلى هذا يومئ قول عمر -الذي رواه البخاري من حديث عبد الله بن هشام -أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)؛ فقال: (والذي نفسي بيده حتى أكون أحب اليك من نفسك)؛ فقال له عمر فإنك والله أحب إليّ من نفسي؛ فقال: (الآن يا عمر) انتهى.

قال الحافظ: فهذه المحبة ليست باعتقاد الاعظمية فقط؛ فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعاً، ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خُيّر بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله أن لو كانت ممكنة؛ فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبيّة المذكورة، ومن لا فلا.

وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته وقمع مخالفيها ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر فإن الاحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه، وأما غيره أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره فإذا حقق الامر فيه فانما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالاً ومآلاً.

 فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الابدي في النعيم السرمدي وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه ولاشك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم من هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم. انتهى . 

قال القرطبي كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً، لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون؛ فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى؛ كمن كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الغفلات في أكثر الأوقات؛ لأن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر؛ لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات انتهى.

وفي محبتنا له صلى الله عليه وسلم منن عظيمة علينا: من أعظمها أنها موجبة لمعيته المشار إليها بحديثنا المسلسل (المرء مع من أحب)، وفي رواية: (أنت مع من أحببت)، وذلك مستلزم لحصول الموت على الإيمان والنجاة؛ لأنه لا يكون معه في الآخرة إلا إذا مات مؤمناً. 

وروى أبو نعيم، عن مسعر بن كدام، عن عطية، قال: كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنها جالساً؛ فقال له رجل: يا ابا عبد الرحمن وددت أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ فقال له ابن عمر: فكنت تصنع ماذا؟ فقال: والله كنت أومن به، وأقبل بين عينيه؛ فقال له ابن عمر: ألا أبشرك! قال: بلى يا أبا عبد الرحمن، قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم، يقول: (ما اختلط حبي بقلب أحد فأحبنى إلا حرم الله جلده على النار).

وقوله: (المرء مع من أحب)، معناه أنه ملحق به؛ حتى يكون في زمرته ولو لم يكن من أصحاب الأعمال الكثيرة ومداومة العبادات؛ فإن محبة النبي صلي الله عليه وسلم يكفي من باب التفضل على المحب لكونه معه صلى الله عليه وسلم، وذلك علامة النجاة كما قدمنا، والمحبة هي من أعمال القلوب، فأثاب الله محبه صلى الله عليه وسلم وعلي اله على معتقده بمعيته؛ إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها.

 فإن قيل: إن درجة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله أعلي من درجة غيره، ومنازل الجنة بقدر الأعمال، والسائل ليس له كثرة صلاة ولا صيام؛ فكيف تحصل له المعية مع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله؟

أجيب: بان المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما، وليس من لازمها الاستواء في الدرجات، وعليه فليس المراد من الحديث: أن المرء يكون مع من أحب في درجته ويساويه في مرتبته، بل المراد أن يكون معه بحيث يتمكن من رؤيته وزيارته متى أراد، والله المستعان .

المسلسل الرابع عشر بوضع اليد على الرأس

وقوله: (ينجيه)، النجاة من الشيء التخلص و(التغمد): الستر مأخوذ من غمد السيف لأنك إذا أغمدت السيف؛ فقد ألبسته الغمد وسترته به.

ومعنى الحديث: أن الإنسان مهما عمل من الصالحات؛ فإنه لا يستحق بعمله النجاة من النار وما فيها من انواع العذاب وشديد العقاب، ولا الدخول للجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، حسبما وصفهما الله تعالى في غير ما آية، وإنما ينال ذلك بفضل الله الذي جعل الجزاء الكبير علي العمل القليل، وهو الذي هدى ووفق إليه وأقدر وأعان عليه وجعله صالحاً مقبولاً بفضله ورحمته وجوده ونعمته. {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}، {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين}.

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، أي إذا سترني وجعل عملي مقبولاً صالحاً لدخولي الجنة، التي وعد العاملين للصالحات أن يدخلهم بها الجنة، وبما قررنا يندفع الاشكال والتعارض بين الحديث المذكور وبين الآيات الكثيرة الواردة في كون دخول الجنة بالأعمال الصالحات؛ كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات} الآية، {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}، {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}، {سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}.

فإن هذه الآيات وأمثالها تدل بصراحة على أن الله تعالى جعل دخول الجنة جزاء على الأعمال الصالحة، وأنه جل ذكره لا يظلم العاملين من أجورهم شيئاً، كما قال في الآية الثانية: {ولا يظلمون نقيرا}؛ واذ كان لا تعارض بين الآيات المذكورة والحديث المتكلم عليه؛ فلا حاجة إلى ما تكلف به المفسرون وشراح الحديث من الأجوبة، وما ذكروا من الاحتمالات في الباء في الآيتين الثالثة والرابعة: هل هي للإلصاق أو المصاحبة أو للمقابلة والمعارضة؟ وهل في الآيات حذف أو مجاز؟ وغير ذلك مما أطالوا به كما يعلم بمراجعة كتب التفسير وشراح البخاري، وخصوصاً فتح الباري فقد لخص لهم في ذلك فانظره في (ص ٢٥٢ ج ١١). 

المسلسل الخامس عشر بوضع اليد على الكتف

(قلت): ولم يتعرض السيوطي للحارث الأعور راويه عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه؛ فإن لم تكن الآفة من أحمد بن موسى، الذي ليس في سندنا؛ فمن الحارث المذكور؛ فقد قال الحافظ في التقريب: أنه من كبار الشيعة ونقل عن الشعبي وابن المديني أنه كذاب فانظر بقية كلامه.

وأكثر الأحاديث المروية عن آل البيت التي قيل بوضعها رواتها من الشيعة والروافض، وهم لا يستحيون من الكذب والوضع علي علي كرم الله وجهه، وعلى بنيه الطاهرين، وقد جزم السخاوي أيضاً ببطلان السند والمتن، وقال غيره: أنه في غاية الضعف قال في حصر الشارد، وأما المتن فلا شبهة في صحة معناه انتهى.

(قلت): الكلام على هذا مثل ما لهم في قوله تعالى: {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}، وقد اختلفت أنظار العلماء في ذلك هل يحمل على حقيقته أم لا؟ وهل فيه استعارة تمثيلية أو تصريحية؟ وأطالوا في ذلك حسبما يعلم بمراجعة كتب التفسير والكلام وملخص ما لهم ما ذكره المحقق الآلوسي عند هذه الآية، وهو قوله: {وإذا قضى أمراً} أي أراد شيئاً، بقرينة قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً}.

وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولاً وفعلاً، وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال لفظ المسبب في السبب؛ فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجب وساوى ابن السيد بينه وبين القدرو المشهور التفرقة بينهما يجعل القدر تقدير الأمور قبل أن تقع، والقضاء انفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل.

وصحيح ذلك الجمهور؛ لأنه قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، مرّ بكهف مائل للسقوط؛ فأسرع المشي حتى جاوزه، فقيل له: أتفر من قضاء الله تعالى، فقال: (أفر من قضائه تعالى إلى قدره)؛ ففرق صلى الله عليه وسلم بين القضاء والقدر، {فإنما يقول له كن فيكون}، والظاهر أن الفعلين من "كان" التامة؛ لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث، فيحدث وهي تدل على معنى الناقصة؛ لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره، والأمر محمول على حقيقته كما ذهب إليه محققو الحنفية.

والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمراد الكلام الأزلي؛ لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى، ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل، وتأخره عن الإرادة، وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق.

ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد، جاز تعلقه بالمعدوم، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعاقبه الإرادة بلامهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف؛ فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة وامتناع، بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصوير الحال الغائب بصورة الشاهد، ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته، وكان أصل الكلام: إذا قضى أمراً يحصل عقيبه دفعة فكأنما يقول له كن فيكون؛ ثم حذف المشبه واستعمل المشبه به مقامه انتهى.

وانظر بقية كلامه ففيه أن بعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال بقال، وذكر ثمة الوجوه التي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه؛ ثم ردها بما هو موضح هناك فانظر (ص ٣٥١ ج ١).

المسلسل السادس عشر بمسيح الأرض باليد

وحديث (من كذب عليَّ متعمداً) قال فيه ابن الجوزي: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وتسعون صحابياً، منهم العشرة، ولا يعرف ذلك لغيره، وخرجه الطبراني عن نحو هذا العدد، وذكر ابن دحية أنه أخرج من نحو أربعمائة طريق، وقال بعضهم بل رواه مائتان من الصحابة وألفاظهم متقاربة والمعني واحد.

ومنها: (من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار)، قالوا وذا اصعب ألفاظه، وأشقها لشموله للمصحف، واللحان، والمحرف، وقال ابن الصلاح: ليس في مرتبته من المتواتر غيره انتهى.

وقد أفرد جمع من الحفاظ جمع طرقه بالتأليف، وأورد القاري في أول موضوعاته سائر ألفاظه مع نسبتها لمخرجيها وأطال الكلام على ذلك من (ص ١ إلي ص ۸) 

هذا واعلم أن الكذب عند أهل السنة هو الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه محمداً كان أو سهواً، وشرط فيه النظام واتباعه من المعتزلة العمد، ورد: وإنما الحمد شرط في حصول الإثم بالكذب لا في تسميته كذباً.

وتقييد الكذب بالعمد في حديث الباب حجة عليهم؛ إذ لو اختص الكذب بالعمد لم يكن لتقييده فائدة ومن المعلوم من الدين ضرورة أن الكذب عمداً كله حرام، إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره، ومن أعظمه الكذب عمداً في الخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

بل قال الحافظ جلال الدين السيوطي: لا أعلم شيئاً من الكبائر أقبح منه، قال أحد من أهل السنة؛ فتكفير مرتكبه إلا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله بان الشيخ أبا محمد الجويني والد إمام الحرمين، قال بكفره، وتبعه علي ذلك طائفة منهم ناصر الدين ابن المنير من أئمة المالكية نتهى والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حليته. 

(قلت): هذا جارٍ في كل من استحل شيئاً مما حرم الله مما على ضرورة، وقد فصلنا القول فيه عند شرح حديث: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)، وما ذهب إليه الجويني من تكفير المتعمد للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وجهه ابن المنير بان الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله واستحلال الحرام كفر والحمل على الكفر كفر. 

وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (فليتبوأ مقعده من النار) يقتضي كفره؛ لأن تبوأه في النار من شأنه طول الإقامة والتأبيد والخلود فيها، وعدم الخروج منها حيث أفاد أنها صارت مسكناً له، ولم يجعل له داراً ومنزلاً سواها، وهذا خاص بالكافر؛ فلو كان مؤمناً، لم تكن متبوءاً ومسكناً له؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار، ويؤيد هذا أمره صلى الله عليه وسلم وعلى آله بقتل من كذب عليه، وإحراقه بعد موته.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (لا تكذبوا علي فانه كذب علي ككذب على غيري) -كما للطبراني والدارقطني -وهو عند البخاري بلفظ: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد)؛ فالكذب عليه كذب على الله جل وعلا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله إنما هو مخبر عن الله تعالى {وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى} وقد اشتد النكير على من كذب على الله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته}؛ فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر المكذب لا يأته {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله}، أي الكذب على الله وعلى رسوله؛ لأن الكذب على غيرهما لا يخرجه عن الإيمان بإجماع أهل السنة.

وبما قررنا يتبين لك أنه: لا احتياج بما قرره شراح الصحيحين وغيرهم من الاحتمالات في حديث الباب، وهل يحمل على حقيقته أم لا؟ وهل هو خبر أو تهدید أو دعاء أم تهكم، فإن الذي احوجهم لذلك هو إخراج الحديث عن ظاهره ليوافق القول بعدم كفر المتعمد للمكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

 وما كان أغناهم عن ذلك؛ لأن الآراء هي التي يجب أن ترد؛ إذا لم توافق قول المشرع صلى الله عليه وسلم وعلى آله هذا، والوعيـــد الوارد في هذا الحديث والنهي الوارد في حديث: (لا تكذبوا علي)، هما عامان في كل كذب عليه صلى الله عليه وسلم مطلقان في كل نوع من الكذب.

قال الحافظ في الفتح: لا مفهوم لقوله (عليَّ)؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له؛ لنهيه عن مطلق الكذب/ وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله يقتضي الكذب على الله تعالى؛ لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الايجاب أو الندب، وكذا مقابلها وهو الحرام والمكروه.

ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية؛ حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب وفي تثبيت ما ورد في القرآن والسنة، واحتجوا بانه كذب له لا عليه، وهذا جهل باللغة العربية انتهى.

وقال محي الدين النووي: وقد سلك مسلكهم بعض المتوسمين بسمة الزهادة ترغيباً في الخير بزعمهم الباطل وهذه غباوة ظاهرة وجهالة متناهية انتهى.

(قلت): ومن ذلك افتراء بعضهم كون النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله خص أصحابه بمزايا دون سائر الأمة، وجعل لصلواتهم وأورادهم فضائل تقوم مقام العبادات في السنين العديدة، وتكفر ما ضيعوا من الصلوات، وتغفر من غير توبة ما اجترموا من المعاصي والسيئات، وأمثال هذا مما يضللون به الجهال، الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام وشرائعه، تشويقاً لهم وترغيباً لدخول في طريقتهم؛ لأن النفوس متشوفة إلى نيل الأجور الكثيرة على الأعمال الصغيرة، وميالة إلى ترك المشاق من الطاعات، والتهاون بالمحرمات والعياذ بالله.

ولا شك أن مدعي هذا داخل في الوعيد المذكور في حديثنا المنكر عليه؛ لما في تلك البشائر والخصائص من الكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى آله، بدليل ما فيها من مخالفة قواعد الدين وتشريع عبادات لم يشرعها، وإبطال فرائض قد أوجبها مع أن باب التشريع قد انسد بموته صلى الله عليه وسلم وعلى آله.

(تنبيه) نقل ابن الصلاح وغيره عن الأصمعي: أنه كان يقول أن أخوف ما أخاف على طالب العلم؛ إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)؛ لأنه لم يكن يلحن فمهما رويت عنه، ولحنت فيه كذبت عليه انتهى.

وقد تقدم أن الحديث ورد بلفظ: (من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار)؛ قالوا: وهذا أصعب ألفاظه وأشقها؛ لشموله للمصحف واللحان والمحرف والله سبحانه وتعالى أعلم.

والكلام على هذا الحديث ومباحثه طويل الذيل انظر شراح مقدمة صحيح مسلم وانظر فتح الباري في كتاب العلم وكتاب الجنائز وكتاب المناقب، وقد تكلم على مباحثه في كل باب بما يناسبه والله سبحانه وتعالى المستعان. 

(المسلسل السابع عشر بالقبض على اللحية وقول آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره)

ومعنى الحديث: أن العبد لا يكمل إيمانه؛ حتى يكون مستحلياً، راضياً بكل ما قضاه الله تعالى من خير أو شر، عالماً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، مستسلماً له سبحانه في كافة الأحوال، طيب النفس مبتهج القلب مسروراً بالمقضى من غير أن يعترض باطناً أو ظاهراً على حكم الله وتقديره، أو يجد في نفسه حرجاً مما وقع، أو يتمنى أنه لم يقع فإذا تحقق هذا ووجد حلاوته كمل ايمانه، ولا يكمل إيمان العبد إذا لم يذق هذه الحلاوة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم وعلى آله في دعائه كما عند البزار -عن ابن عمر رضي الله عنهما: (اللهم انى أسألك ايماناً يباشر قلبي؛ حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ماكتبت لي، ورضني بما قسمت لي).

قال مرتضى الفريقين الشيخ زروق: وقد مثل علماؤنا الإيمان بشجرة كما ذكر الله تعالى {أصلها ثابت وفرعها في السماء}، أصلها الاعتقاد، وعمودها الشهادتان، وفرعها الأركان، وقضبانها السنن، وورقها المستحبات والأدب، وثمرتها الرضى بقضاء الحق، تكليفاً وتصريفاً، وطيبها الصبر على ذلك، وفيه وحلاوتها بالرضى بالمقضى، والاغتباط حتى تسقط كلف التكاليف باستحلائها، ويتلقى المهالك بوجه ضاحك، وإليه الإشارة بحديث العباس -رضي الله عنه -في مسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً) انتهى.

والرضا كما قال شيخ الإسلام زكرياء في شرح رسالة القشيرية: مصدر رضيت يقال رضيت عنه وبه وعليه كلها بمعنى قال، وهو لغة: المراقبة والقبول للأمر بسهولة، واصطلاحاً: ترك الاختيار، ويقال الوقوف الصادق حيث وقف العبد لا يلتمس متقدماً ولا متأخراً ولا يستزيد مزيداً ولا يستبدل حالاً، وسبيه تفكر العبد في تفاصيل منن الله تعالى عليه، وما خصه به من غير عمل منه، وثمرته عدم الاعتراض على شيء من المقدور، والسلامة من كراهيته؛ فلا يتمنى أنه لم يقع، ولا زواله بعد وقوعه. وهذا لا يمنع الدعاء بما لم يقع من الخيرات إذا الدعاء بالممكن لا يمنع الرضا بالحاصل وإن زال ضمناً؛ فهو غير مقصود انتهى.

 وقال حجة الإسلام الغزالي: الرضا طيب النفس بقضاء الله تعالى، ثم قد يكون ذلك مع عدم الإحساس بالألم، بسبب الاستغراق في المحبة.

قال ابن عباد: وتتفاوت مراتب الناس بين هاذين المعنيين تفاوتاً لا ينحصر، كما يتفاوتون في اليقين؛ فمن قوي يقينه جداً لم يجد لما أصابه من البلاء ألماً، بل ربما استحلاه واستطابه وهذا أمر من أعلى مقامات المحبة والرضى وأنكر الرضي جماعة وقالوا لا يتصور الرضى بما يخالف الهوى، وإنما هو الصبر.

قال الغزالي: وإنما أوتوا من إنكارهم المحبة التي هي السبب، ثم تبين أن الرضى بما يخالف الهوى يتصور من ثلاثة أوجه: 

الأول أن تدهشه شدة الحب عن الإحساس بالآلام وذلك موجود في حب المخلوقين في غلبة الشهوة والغضب؛ حتى أن الغضبان تصيبه الجراحة ولا يحس (وقد أطال في بيان هذا المعنى وامثلته). 

الثاني: أن يحس بالآلام ويكرهه بالطبع، ولكن يرضي به بعقله، وإيمانه لمعرفته بحصول الثواب على البلا، كما يرضى بالقصد وشرب الدواء المر لعلمه أنه سبب الشفاء الثالث أن الله تعالي تحت كل شيء اعجوبة لطيفة وذلك يخرج عن قلبه الاعتراض بل وكيف حتى لا يتعجب مما يجري عن العالم من مخاطبة الجاهل.

ويعلم أن تعجبه كتعجب موسى من الخضر عليهما السلام ولما كشف الخضر عن الستر الذي أطلع عليه سقط تعجبه وها هنا وجوه اربع تتشعب عن محض المعرفة بكمال الوجود والحكمة وبكيفية ترتيب الأسباب المتوجهة إلى المسببات ومعرفة القضاء الأول الذي هو كلمح البصر ومعرفة القدر الذي هـو سبب ظهور تفاصيل القضاء وأنها رتبت على اكمل الوجود وأحسنها وليس في الامكان احسن منها وأكمل، وينطوي تحت الكل معرفة سر القدر كما أن من اتقن ذلك لم ينطو ضميره إلا على الرضى فكذلك يجري امر الله تعالى وسر ذلك ولا رخصة فيه فلنتجاوزه.

(فإن قلت): كيف جمعوا بين الرضى بقضاء الله وبين كراهة أهل الكفر والعصيان وقد تعبد به شرعا وذلك مراد الله تعالى منهم؟

(فالجواب): أن طائفة من الضعفاء تو هموا أن ترك الأمر بالمعروف من جملة الرضى بالقضاء وسموه حسن الخلق وهو جهل محض بل يجب عليك أن ترضي وأن تكره ولا تضاد إذ لم يتواردا على جهة واحدة؛ فللمعصية وجهان: وجه لله تعالى من حيث أنها بقضائه ومشيئته، ووجه إلى العاصي من حيث إنها صفته وكسبه وعلامة مقته فالفعل من الوجه الأول مرضي و من الوجه الثاني مكروه.

ولا تظنن أن من الرضى بالقضاء ترك الدعاء بل ترك الدفع عن نفسك، بل تعبدك الله سبحانه بالدعاء ليستخرج به من قلبك صفاء الذكر وخشوع القلب المستعد لقبول الألطاف والأنوار ومن الرضى بقضائه أن تتوسل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله سبباً له بل في ترك الأسباب مخالفة محبوبه ومناقضة لرضاه وليس في الرضا بالقضاء ما يوجب الخروج من حدود الشرع بل معناه ترك الاعتراض على الله تعالى عز و جل إظهاراً وإضماراً مع بذل الجهد في التوصل إلى محاب الله تعالى انتهى.

وقد حرر الجد في شرح الحصن الحصين الكلام على هذه المسألة وجلب مذاهب العلماء فيها ووضح، وناقش الشهاب القرافي في ما قرره فيها في الفرق الثاني والستين والمائتين من فروقه وأطال بنا يعلم بالوقوف عليه في الباب الثالث عند شرح حديث رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا .

(المسلسل الثامن عشر بعض السبابة)

والمراد أنهم عضوا أيديهم، وهذا لا ينافي مارويناه مسلسلاً؛ لأن من عض موضعاً من اليد يقال حقيقة أنه عض اليد وقوله تعالى: {فردوا أيديهم في أفواههم} هي جملة من آية: {ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب}، وهذه الآية يحتمل أن تكون خطاباً من موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لقومه لأنها ذكرت اثناء حكاية تذكيره قومه، ويحتمل أنها جاءت خطاباً لهذه الأمة المحمدية بعدما ذكر إرساله عليه وعلى آله الصلاة والسلام بالقرآن المبين وقص عليهم من قصص موسى مع أمته مذكراً لهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم إليهم، ومشيراً إلى أن إهلاكه تعالى الظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه.

وقوله تعالى: {إنا كفرنا بما أرسلتم به}، أي على زعمكم وما أرسلوا به هو البينات التي أظهرها الرسل حجة على صحة رسالتهم، والمراد بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو يكون المراد بما أرسلوا به الكتب والشرائع.

وأما قوله جل ذكره {فردوا أيديهم في أفواههم}؛ فقد أورد المفسرون احتمالات كثيرة في معنى هذه الجملة، وهل الرد على حقيقته مثل ما قدمنا في الأثر المسلسل أو فيه استعارة؟ وهل الضمير راجع إلى الكفار أو إلى الرسل؟ وأطالوا في ذلك؛ وملخص ما لابن عطية وأبي حيان والآلوسي: أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا؛ كأنهم قالوا هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق، وهذا كما يقع في كلام المخاطبين أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقررونه ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب؛ فضمير أيديهم وأفواههم إلى الكفار.

والأيدي على حقيقتها والرد مجاز عن الاشارة، وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر؛ وقال أبو صالح: المراد أنهم وضعوا ايديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام أن يكفوا ويسكتوا عن كأنهم قالوا اسكتوا فلا ينفعكم الإكثار ونحن مصرون على الكفر لا نعلم عنه فالضميران للكفار أيضاً، وسائر ما في النظم على حقيقته.

وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا ايديهم غيظا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم؛ فالضميران أيضاً كما تقدم واليد والفهم على حقيقتها، والرد كناية عن العض ولا ينافي كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى: {عضوا عليكم الانامل من الغيظ}، أو كون المعضوض هو السبابة فقط كما قدمنا؛ فإن من عض موضعاً من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أنهم وضعوا ايديهم على أفواههم تعجباً مما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه؛ فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني، وجوز أن يرجع الضمير في ايديهم إلى الكفار وفي افواههم إلى الرسل وفيه احتمالات، الأول: أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم الصلاة والسلام أن اسكنوا، والآخر أنهم وضعوا ايديهم على أفواه الرسل منعاً لهم من الكلام وروي هذا عن الحسن.

والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بان يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لا إسكاته.

قال أبو حيان: وهذا أشنع في الرد، وأذهب في الاستطالة على الرسل عليهم السلام والنيل منهم، ثم قال: فعلى هذا يكون الضمير في أيديهم للكفار، وضمير أفواههم للرسل، والأيدي جمع يد بمعنى النعمة، أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم ويكون ذلك مثلاً لردها وتكذيبها، بأن يشبه رد الكفار ذلك برد الكلام الخارج الفم.

فقيل: ردوا ايديهم أي مواعظهم في افواههم. والمراد عدم قبولها وقيل المراد بالأيدي النعم والضمير الأول للرسل أيضاً، لكن الضمير الثاني للكفار علي معنى كذبوا ما جاءوا به بأفواههم أي تكذيباً لا مستند له، وفي بمعني الباء، يقال جلست في البيت وبالبيت، وضعف حمل الأيدي علي النعم بأن مجيئها بمعني ذلك قليل في الاستعمال؛ حتى أنكره بعض أهل اللغة، وإن كان الصحيح خلافه، والمعروف في ذلك الأيادي؛ وبأن الرد والافواه يناسب إرادة الجارحة.

وقال أبو عبيدة والاخفش: الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك: رد يده في فيه، وتعقبه القتبي بأننا لم نسمع احداً من العرب يقول رد فلان يده في فيه إذا سكت وترك ما أمر به، وفيه أنها سمعا ذلك ومن سمع حجة علي من لم يسمع.

قال أبو حيان: وعلى ما ذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده علي فيه ورده الطبري بأنهم قد أجابوا بالتكذيب؛ لأنهم قالوا إنا كفرنا الخ. وأجيب: بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام إليهم بالبينات، وهو الاعتراف والتصديق.

وقال ابن عطية: الضميران للكفار، ويحتمل أن يتجوز في الأيدي ويراد منها ما يشمل أنواع المدافعة، والمعني ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم -أي إلى ما قالوا بافواههم من التكذيب؛ وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به کلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض وعبروا عن جميع المدافعة بالأيدي إذ هي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى.

وقيل: المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل السنتهم، على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الإيذاء بالأيدي؛ قال الآلوسي: والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الاول ونص غير واحد على أنه الوجه القوي؛ لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل عليهم السلام كل الإنكار؛ فجمعوا في الإنكار بين الفعل والقول؛ ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بأن، ويلي ذلك على ما في الكشف الوجه الثاني ولا يخفى ما في أكثر الوجوه الباقية فتأمل اهـ 

{وإنا لفي شك} عظيم {مما تدعوننا إليه} من الإيمان والتوحيد وبهذا، وتفسير ما أرسلتم به بما ذكر أولاً، يندفع ما يتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا، وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلق الكفر والشك واحداً: أن الواو بمعني أو أي أن أحد الأمرين لازم، وهو {إنا كفرنا جزما بما أرسلتم به}؛ فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه، وأياً ما كان فلا سبيل إلى الاقرار والتصديق؛ وقيل إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه فكفرنا بمعنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ وذلك لا ينافي الشك.

وفي البحر أنهم بادروا أولاً إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر، اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد، أو هما قولان من طائفتين طائفة بالتكذيب والكفر والأخرى شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر هـ قال الألوسي وهذا أولى من قرينه.

وهذا دليل على مشروعية سجود التلاوة وقد أجمع العلماء على إثباته؛ كما للنووي في شرح مسلم، وهو عند الجمهور سنة، وعند أبي حنيفة واجب وليس بفرض.

واستدل الجمهور: بما رواه مالك والبخاري، عن عمر رضي الله تعالى عنه -أنه قرأ على المنبر يوم الجمعة؛ حتى جاء السجدة فنزل وسجد وسجد الناس، حتى إذا كان الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة، قال: (أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، وفي لفظ: (إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء).

وأجاب الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب، بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب، قال في الفتح: وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه).

وتعقب أيضاً بقوله: (إلا أن نشاء)؛ فإنه يدل على أن المرء مخير في السجود، فلا يكون واجباً، وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فتجب؛ قال في الفتح: ولا يخفى بعده، ويرده أيضاً قوله: فلا إثم عليه؛ فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارا يدل على عدم وجوبه وتصريح عمر رضى الله عنه بعدم الفرضية علي المنبر بحضور الصحابة من دون صدور إنكار عليه يدل على إجماع الصحابة على ذلك كما للشوكاني.

والحديث يدل أيضاً: على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة؛ لأن ظاهر سياقه أن سجوده صلي الله عليه وسلم كان في الصلاة، بل رواية أبي الأشعث التي رواها ابن خزيمة وأبو عوانة فيها التصريح بأن سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها كان داخل الصلاة، وإلى هذا ذهب الجمهور، ولم يفرقوا بين صلاة الفريضة والنافلة، وقال مالك: بكراهته في الفريضة، وعنه أيضاً وعن أبي حنيفة وأحمد كراهته في السرية دون الجهرية.

وذهب جماعة من ائمة الزيدية -كما للشوكاني -إلى أنه لا يسجد في الفرض؛ فإن فعل فسدت، قال ابن المنير: ولا حجة في حديث أبي هريرة؛ لأنه ليس بمرفوع ويعني بحديث أبي هريرة الرواية التي في البخاري -قال في الفتح: وغفل عن رواية أبي الأشعث عن معتمر المتقدمة عند ابن خزيمة؛ لأن فيها تصريح أبي هريرة بكونه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فسجد فيها، ومثلها رواية يزيد بن هارون عند أبي عوانة وتمسك من ترك السجود في الصلاة أيضاً بقول أبي سلمة لأبي هريرة: ألم أرك تسجد، وحمل ذلك منه على استفهام الإنكار.

قـال الشوكاني: ويجاب عن ذلك بان أبا رافع وأبا سلمة لم ينكرا علي أبي هريرة بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة، ولا احتجا عليه بالعمل على خلاف ذلك.

قال ابن عبد البر: وأي عمل يدعى مع مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله والخلفاء الراشدين بعده وقد اختلف العلماء في مواضع السجود وعددها فذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب المالكية وابن المنذر وابن سريج من الشافعية، وطائفة إلى أن مواضع السجود خمسة عشر؛ فأثبتوا في الحج سجدتين، وفي ص، وذهب أبو حنيفة وداود إلى أنها أربع عشرة سجدة إلا أن أبا حنيفة لم يعد في سورة الحج إلا واحدة، وعد سجدة ص.

وذهب الشافعي في القديم والمالكية إلى أنها احدى عشرة، وأخرجوا سجدات المفصل وهي ثلاث سجدة النجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك.

وروى المدنيون عن مالك أن سورة الانشقاق من عزائم السجود، قال ابن العربي في الأحكام: والصحيح أنها منه، وقد اعتضد فيها القرآن بالسنة.

وذهب الشافعي في قوله الجديد إلى أنها أربع عشرة سجدة وعد منها سجدات المفصل ولم يعد سجدة ص وحكى الحافظ في الفتح غير ما ذكر أقوالاً، فانظرها في (ص ٤٥٥ ج ٢).

وما ذهب إليه الأولون هو الذي يشهد له حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها: ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان رواه أبو داود وابن ماجه.

ومثله حديث ابن مسعود في سجود النبي صلى الله عليه وسلم في سورة والنجم، وهـو متفق عليه، ومثله حديث ابن عباس أخرجه الجماعة إلا البخاري، ومـن ذلك حديث الباب عن أبي هريرة في السجود في سورة {إذا السماء انشقت}.

واحتج من نفي سجدات المفصل بحديث ابن عباس عند أبي داود، بلفظ: (لم يسجد صلى الله عليه وسلم في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة)؛ لكن قال النووي إنه ضعيف الإسناد لا يحتج به اهـ 

قال الشوكاني: وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج؛ فالأحاديث المتقدمة مثبتة، وهي مقدمة على النفي ولا سيما مع إجماع العلماء علي أن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة، وهو يقول في حديثه سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت انتهى .

(المسلسل العشرون بالاتكاء)

والخلق الأول في لفظ حديثنا المسلسل وغيره هو بضمتين، والثاني بفتح فسكون وقوله: رجل وصف طردي، والمراد إنسان وقد ورد في بعض رواياته بلفظ: أحد، وقوله: فيطعمه النار هو في روايتنا بالياء وورد بالتاء، أي فيحرقه بالنار، أو فتحرقه للنار، واستعار الطعم للإحراق مبالغة؛ كأن الإنسان طعامها تتغذى به؛ ومعناه أن من جعل الله اخلاقه حسنة وخلقه كذلك أي صورته جميلة كان ذلك دليلاً على عدم دخوله النار، وهذا بالنسبة للخلق الحسن لا إشكال فيه؛ فقد وردت عدة أحاديث تشهد بأن صاحب الخلق الحسن من الناجين.

وأما كون الصورة الجميلة تكون سبباً للنجاة من النار فيحتاج إلى دليل؛ أما حديثنا المذكور فلا يصلح للاحتجاج به في مثل هذا؛ لضعفه والقول بوضعه كما قدمنا، وقد نص العلماء على أن كل ما ورد من أن الله يستحيي أن يعذب وجهاً جميلاً بالنار وما شاكله من الأحاديث في الوجه الحسن هو موضوع، انظر اللآلي وغيرها.

(المسلسل الواحد والعشرون بالضيافة على الأسودين)

قال السخاوي: أثر ما تقدم عنه لكن المحدثين مع كثرة كلامهم فيه ومبالغتهم في تضعيفه ورميه بالوضع لا يزالون يذكرونه ويسلسلونه للتبرك وحسن النية انتهى.

(قلت) هذا ما يتعلق بهذا الحديث وأما ما فيه من ضيافته صلى الله عليه وسلم وعلى آله لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه على الأسودين التمر والماء؛ فلا يخفى أن هذا كان أكثر طعام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وطعام أزواجه وأهله.

وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: كنا آل محمد نمكث شهراً، ما نستوقد بنار وما هو إلا التمر والماء، وفي رواية: ليمر بنا الشهر ونصف الشهر وما توقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار المصباح ولا غيره، وفي أخرى أنها قالت لعروة يا ابن أختي: إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى آله نار، قال عروة يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، زاد ابن سعد في رواية: إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله من ألبانها.

قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين هذه الروايات بأن الأمر وقع مكرراً في عهده صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ونقلت عائشة كل ذلك لمروة في مجالس متعددة أهـ.

وإنما كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله هذه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقتصر في مأكله ومشربه على ما تدعو إليه ضرورة الحياة، ويتخلى عن وصول الترفعات زهداً في الدنيا ونعيمها، وجرياً على ما تقتضيه حالة العبودية التي هي أشرف أحوال الإنسان.

قال الشيخ جسوس في شرح الشمائل: وإنما آثر صلى الله عليه وسلم هذه الحالة مع أنه يستوي في حقه الغني والفقر، أن استغنى شكراً، بل كان أشكر الشاكرين وإن افتقر صبر، بل كان أفضل الصابرين.

وإذا كان من أمته من لا يبالي بإقبال الدنيا ولا بإدبارها؛ فكيف به صلى الله عليه وسلم تواضعاً وميلاً إلى ما يناسب حالة العبودية، وامتالاً لقوله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجاُ منهم زهرة الحياة الدنيا} الآية؛ ومخالفة لكسرى وقيصر اشارة إلى أنهم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، وإظهاراً لحقارة الدنيا حيث أعرض عنها بالكلية، وليتأسى به الضعفاء؛ لأنه في مقام التشريع والاقتداء، وإشارة إلى أن الغنى هو غنى النفس، وهو الذي يحصل منه اطمئنان النفس وسكونها، وراحة البدن بالقناعة ورفع الهمة، وتعلقها بالملك الحق والرضا بالقسمة انتهى بتلخيص.

وحالته صلى الله عليه وسلم هذه كانت في الغالب، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم وعلى آله يتوسع في بعض الأحيان؛ فيأكل الطيبات من اللحوم والفواكه والحلويات وخالص البر والمرقق من الخبز، وتحمل إليه المياه العذبة الباردة، ويلبس الرفيع من الثياب، ويكثر من الطيب كل ذلك إظهاراً لنعمة الله عليه، وارشاداً للأمة وتعليماً لها أن ذلك مما يباح، قال تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}؛ لأن المعتقد كما للإمام السبكي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله لم يكن فقيرا قط، ولا كانت حالته حالة الفقراء بل كان أغنى الناس بالله وكان الله تعالى قد كفاه أمر دنياه في نفسه وعياله ومعاشه، وقد جاءت إليه مفاتح خزائن الأرض، وكان قادراً على تناول ما فيها كل لحظة وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وكان لا يرد سائلاً صلى الله عليه وسلم وعلى آله. 

(تنبيه) مما قررنا يتبين ما عليه حالتنا في الولائم والضيافات وما فيها من البدع والإسراف لا سيما في الوقت الحاضر الذي قلّت فيه الموارد وضاقت فيه السبل؛ فينبغي للإنسان أن يسلك مسلك الاقتصاد ويتباعد عن التكلف فضلا عن الإسراف، ويجتنب مظاهر الغنى والثروة ويتوخي المعيشة البسيطة ويربي عليها أولاده ويحض عليها شعبه زيادة على ما في الأطعمة الدسمة وكثرة أكل اللحوم المضار للمعدة وفسادها؛ فقد نص الأطباء على أن كثرة أكل اللحوم مضرة بالصحة وجالبة لكثير من الملل وبعكسها الفواكه والخضر والبقول فإنها معينة على الصحة؛ وقد فصلنا القول في هذا في رسالتنا الداء والدواء المطبوعة بفاس فانظرها تستفد وانظر ما ألفه أهل العصر في الإسراف وبدع الولائم فإنه كثير مفيد. 

(المسلسل الثاني والعشرون بالتلقيم)

وقد نقل المناوي في شرح الجامع عند حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، عن كتاب المنتخب من الفردوس، عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا أكل أحدكم مع الضيف فليلقمه بيده؛ فإذا فعل ذلك كتب له به عمل سنة صيام نهارها وقيام ليلها).

وأخرج الطبراني عن زيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، قال: (من لقم أخاه لقمة حلوة صرف الله تعالي عنه مرارة الموقف)، وذكره القرطبي في تذكرته فانظره.

(المسلسل الثالث والعشرون بالآخرية)

حديث: (حتى أنه ليقاد للجماء من القرناء تنطحها)، وما ذكر في حديثنا من أنه لا تقوم الساعة حتى لا تنطح ذات قرن جماء، سيقع عند ما ينتشر المال، ويرتفع الظلم بعد نزول عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فتشعر حتى الحيوانات بذلك، فلا يقع منها تعدٍ.

ويشهد لها ما في سنن أبي داود، من حديث في نزول عيسى عليه السلام: (ويضع الله الأمانة في الأرض، فلا يبقى بين اثنين عداوة؛ فترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب والغلمان بالحيات لا يضرب بعضها بعضاً).

ومثله في مسند أحمد من حديث زياد بن سعد، عن أبي هريرة مرفوعاً: ينزل ابن مريم إماماً إلي أن قال: (وتخرج الأرض بركتها حتى يلعب الصبي بالثعبان ولا يضره، ويرعى الذئب الغنم ولا يضرها، والبقر الأسد ولا يضرها) وإسناده جيد. 

(تنبيه) اختلف في معنى قوله تعالى -خطابا لعيسى: {إني متوفيك ورافعك إلي}، هل المراد بالتوفي الموت حقيقة أو المراد النوم أو الخروج من عالم الأرض أو المراد الموت في المستقبل بعد الرفع؟ فاستظهر بعض المفسرين كأبي حيان في النهر أن المراد بالتوفي الموت حقيقة، ونقلوا القول بذلك عن ابن عباس ووهب ابن منبه، ونقل في العتبية عن مالك القول بموته، وخالف الأكثرون في ذلك؛ فقال بعضهم: أن المراد بالتوفي النوم، وقال آخرون: المراد الخروج من عالم الأرض، وقال آخرون: المراد الموت حقيقة ولكنه رفعه الله حياً، ثم يموت في المستقبل.

وقالوا أن الواو لا تفيد الترتيب؛ فيكون المعنى رافعك الآن ومتوفيك في المستقبل (قلت): وظاهر الآية يقتضي موته حقيقة أولاً، ثم رفعه الله بعد موته، والذي أحوج الأكثر لمخالفة ظاهر الآية هو تواتر الأحاديث بنزوله آخر الزمان حكماً عدلاً، وإجماع الامة على مضمون ذلك، ولا يكون ذلك إلا إذا كان حياً، ونحن نقول أن الله أماته حقيقة إبقاءً للآية على ظاهرها، وقدرة الله صالحة لإحيائه بعد رفعه معجزة له، مثلما خلقه بدون أب معجزة.

وقد نقل المفسرون عن وهب بن منبه أن الله أحياه بعد رفعه، ونقل الأبي عن ابن رشد احتمال موته حقيقة وحياته آخر الزمان وهو راجع لما تقدم، وبكل ذلك يرتفع الاشكال، والله أعلم بالصواب.

هذا آخر ما تيسر لنا ذكره في هذا القسم من المسلسلات الفعلية وقد تركنا الكثير مما روينا اكتفاءً بما جلبنا؛ كما أننا استوفينا الكلام كما اشترطنا إلا أننا لما أوردنا المسلسلات الثاني والثالث والرابع لم أسلك فيها مسلك غيرها لكوني كنت اذ ذاك في ضيافة الله تعالى فاكتفيت بما كان مقيّداً عندي من تخريج أحاديثها زمن روايتها، وأرسلتها للطبع على حالتها، وربما نفيض القول عليها بعد إن شاء الله تعالى.

وأما مابقي علينا مما وعدنا به من ذكر القسم الثالث وهو قسم المسلسلات الوصفية؛ فإننا سنفرد له جزءا مستقلاً؛ لكونها أكثر من القسمين السابقين، وهو المسئول جل جلاله أن يعيننا على ذلك بمنه وكرمه، لارب غيره، ولا خير إلا خيره، نعم المولى ونعم النصير.

وكان الفراغ من تخريجه صبيحة يوم الجمعة ثاني جمادى الثانية عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف رزقنا الله خيره ووقانا ضيره بمنه وكرمه آمين.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله؛ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العلمين.

تعاليق

(١) ذكرنا في مبحث سير مذهب السلف في العقائد في المغرب عند الكلام على حديث الأولية أن الموحدين كانوا حملوا الناس بالسيف على مذهب المؤولة، وأن الناس بعد ذهاب دولتهم رجعوا لمذهب السلف مع تمسكهم بالمذهب الثاني، وأن العلماء صاروا يحكون القولين، وأن الحال استمر على ذلك إلى هذا القرن حسبما كل ذلك مبين في (ص ١٥-  ١٦)، وفاتنا أن نبين هناك أن الإمام أبا عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي ثم الفاسي من علماء القرن الحادي عشر والثاني قام بنصرة مذهب السلف، وألف كتابه (جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبد القادر)، لطعن الناس في عقيدته الحنبلية، وتتبع ما قيل فيه، وفي شيخ الإسلام ابن تيمية ونصرهما بما يعلم بالوقوف على تأليفه المذكور.

ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن اسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب، وصرح في أول كتابه الفتوحات الكبرى بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة.

وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة لكونها على مذهب السلف وعقد في آخره باباً بيّن فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره، ولم يزل معلناً بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية، وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوماً حديث النزول فنزل عن كرسيه وقال كنزولي هذا ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية.

ولما أفضت الخلافة إلى ولده أبي الربيع سليمان نهج منهجه في ذلك واتصلت المكاتبة بينه وبين الأمير سعود ناصر المذهب الوهابي الحنبلي حين افتتح الحجاز وطهره مما كان فيه من البدع وأرسل وفداً مؤلفاً من أولاده وبعض علماء حضرته ووجه له قصيدة من إنشاء شاعر حضرته العلامة المحدث الصوفي الأديب أبي الفيض حمدون بن الحاج مجيباً له عن كتابه ومادحاً له ولمذهبهم السني السني.

 ولم يقتصر على ذلك بل تعداه إلى إنكار ما أدخله أرباب الزوايا في التصوف من البدع مع أنه كان ناصري (الطريقة) وأمر بقطع المواسم التي هي كمية المبتدعة والفاسقين، وكتب رسالته المشهورة وأمر سائر خطباء ولايته بالخطبة بها على سائر المنابر إرشاداً للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع، ولولا مقاومة مشايخ الزوايا من أهل عصره له، وبثهم الفتنة في كافة المغرب وتعضيد من خرج عليه من قرابته وغيرهم واشتغاله بمقاتلتهم وانكساره أمامهم، لولا كل ذلك لعمت دعوته الإصلاحية كافة المغرب، ولكن بوجودهم ذهبت مساعيه أدراج الرياح؛ فذهبت فكرة الإصلاح ونصرة مذهب السلف بموته. 

ولما حج شيخنا أبو سالم عبد الله بن ادريس السنوسي ورجع إلى المغرب محدثا بما تحمله عمن لقي من أهل الحديث والأثر كمحمد تدير حسين الهندي، المحدث الأثري المشهور وأضرابه ووفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى، قربه وأدناه وأمره بحضور مجالسه الحديثية فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد.

واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده، إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه بكونه معتزلياً وخارجياً وبدعياً، بل كان في الحقيقة ناصراً له ما كان يخصه به من العطايا والصلات زيادة على سهمه معهم في جوائزه المعتادة، وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته فنشره في كافة أنحاء المغرب، وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ اوائل هذا القرن إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالي، حسبما استوفينا الكلام على ذلك في ترجمته من المعجم (ص ۸۱ ج ۲).

هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به وتأييده بالأدلة الصحيحة وسيزداد اليوم ظهوراً 

(۲) ذكرنا عند الكلام على المسلسل بقراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" متصلة بفاتحة الكتاب المذكور في (ص ۳۷) أن بعضهم أشار إلى أن ما ورد في ذلك الحديث من الفضل هو من باب الاختصاص الإلهي والفضل لا من باب أجرك على قدر نصبك، وأن الله تعالى يختص بعض ما شاء من الأعمال بخاصية شريفة لا توجد فيها أشق منه؛ لسرٍ يُودعه في الأخف دون الأشق كما يختص من شاء من عباده بما شاء من رحمته، ولا باس أن توضح هذا المبحث حتى يكون القاري على بصيرة فنقول: البعض المشار إليه هو صفي الدين القشاشي قدس سره ذكر ذلك في كتابه السمط المجيد (ص ١٦٢) وقال بعده أن بعضهم قال أن مجرد اتصال قراءة البسملة بفاتحة الكتاب وصورة التلفظ بها لا يخفي على كل عاقل أنه لا يوجب هذا الترجيح والشرف الباذخ.

ثم اعترضه بأنه إنما يأتي إذا كان الامر محصورا في مقتضى حديث أجرك على قدر نصبك وسمة الحق تأبى ذلك والظاهر المتبادر من الاقسام المسلسلة من الله والملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ أن الدفع استبعاد كون الخبر على ظاهره من كون العمل اليسير يستوجب فضلاً كثيراً وخيرا غزيرا ثم كون التالي يلقى الله قبل الأنبياء والأولياء أجمعين، أي الذين لم يقروها على الوجه المذكور من باب حديث: يا بلال حدثني بارجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة الحديث. 

ولا محذور في ذلك كما لا يخفي عند الالتفات إذ السبق إنما وقع له باتباعه لشريعته فيه عمل وهو في ميزانه وبه سبق لا نفسه وكلما كان سبق التابع له به صلى الله عليه وسلم؛ فالسبق له صلى الله عليه وسلم وعلى آله حقيقة عنده، وإنما كشف بسؤاله عن خواص الأعمال ليبين للطالب أن بعض الأعمال إذا عملوا بها ظهر عليهم أثرها كما في البسملة والفاتحة وما ذكره بلال من أنه كلما بال توضأ، وكلما توضأ صلى ركعتين؛ فقال له هو ذلك أو كما قال فهو مما يؤيده لمن نظر والله المرشد إلى الجد ببركة الاتباع ويظهر الأولوية بما انتهى ملخصاً انظره في ( ص ١٦٢).

ومما يوضح هذا حديث البخاري إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا؛ حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأُعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الانجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين؛ فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطاً، ونحن كنا أكثر عملاً، قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء، قالوا: لا، قال: هو فضلي أُوتيه من أشاء.

ومما يوضحه أيضاً ما ورد فيمن قال: جزى الله عنا نبينا محمداً ما هو أهله، أتعب سبعين كاتباً ألف صباح يعني يكتبون أجره. 

وورد أيضاً من قاد أعمى أربعين خطوة وجبت له الجنة، قال الشيخ جسوس في شرح عقيدة الرسالة -عند قولها وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين بين أنواع المضاعفة -ما نصه: والظاهر في مقدار التضعيف في كل حسنة إلى ما ورد عن الشارع صلى الله عليه وسلم.

وبتتبع أنواع المضاعفة المتقدمة يعلم أن الأجر ليس هو على قدر المشقة في كل حال فإن العمل قد يكون يسيراً، ويترتب عليه ثواب عظيم، وفي شرحهـا وفي عدة المريد للشيخ زروق الأجر على قدر الاتباع ولو كان على قدر المشقة لزم أن لا يكون شيء من الأعمال أفضل من الإيمان والمعرفة والذكر وهذه أفضل الأعمال إجماعاً، وقوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (أجرك على قدر نصبك)، خاص في خاص فلا يحتج به انتهى.

وعليه يحمل حديث: (ما صدقة أفضل من ذكر الله تعالى) ما نصه قال الدماميني: لا يمتنع أن يفوق الذكر مع سهولته الأعمال الشاقة الصعبة من الجهاد ونحوه وإن ورد افضل الأعمال احمزها لان في الإخلاص في الذكر من الحمد حال الفقد ما يصير به أعظم الأعمال أهـ.

وقال السخاوي في المقاصد الحسنة عند حديث: (الأجر على قدر النصب)، ما نصه، قال النووي: وظاهره أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة.

قال شيخنا يعني الحافظ ابن حجر -وهو كما قال -ولكنه ليس بمطرد؛ فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهي أكثر فضلاً وثواباً، بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة رمضان بالنسبة لقيام ليالي رمضان وغيرها وبالنسبة إلى المكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر منه من التطوع، أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في القواعد.

قال: وقد كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على غيره وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مطلقاً والله أعلم أهـ كلام السخاوي.

(۳) ذكرت عند الكلام على وجود الجنة الآن، هل هي الجنة التي كان يسكنها آدم عليه السلام أم كان يسكن جنة أخرى؟ وأفضت القول في المسألة وتلخصت ما عرفت فيها حسبما هو مبسوط في (ص ١٧٩) وبعد ما نشير ذلك وقفت على تاريخ الإمام الحافظ العماد ابن كثير المسمى بالبداية والنهاية الذي شرع في طبعه بمصر فوجدته تكلم على المسألة وأوضحها بادلتها وفيه تأييد فالمرجو من طالب الافادة مراجعته في (ص ۲۰ ج ل).

فهرست الموضوعات

مقدمة في تعريف المسلسل ۲

القسم الاول المسلسلات القولية وذكر المسلسل بالأولية وتخريجه وشرحه، وذكر مذهب السلف في آيات الصفات ومعتقد أهل المغرب فيها منذ كانوا إلى الآن ٥

المسلسل بقراءة سورة الصف ١٧

المسلسل بقراءة آية الكرسي ٢٠

المسلسل بقراءة سورة الكوثر ٢٢

المسلسل بقراءة سورة النحل والكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناماً ٢٤

المسلسل بقراءة سورة الفاتحة والكلام على محبة الجن والطعن فيها لعدم معرفة عدالتهم وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بخروج شياطين يحدثون الناس ٢٧

المسلسل بقول كل راو بالله العظيم، والكلام على سنده والجواب عما يريد على متنه من الإشكال وأن مافيه من الفضل هو من باب الاختصاص لا من باب أجرك على قدر نصبك والكلام على تكفير السيئات بالأعمال الصالحة وترجيح عموم الكبائر والصغائر ٣١ 

المسلسل بأشهد بالله وأشهد الله والوعيد الوارد في مدمن الخمر ٤٣

المسلسل بأشهـد على فلان ٤٥ 

المسلسل بأشهدنا على لقبه، والكلام على حلية ميتة البحر وجواز تخصيص القرآن بالسنة، ما لم يكن الحديث ضعيفاً ٤٦

المسلسل بأشهد بالله وتفسير آية إن المجرمين في ضلال وسعر والكلام على القدرية ٤٩

المسلسل بحدثنى والله وتعريف القضاء والقدر والجمع بين خلاف المتكلمين فيه ٥٣

المسلسل بأخبرنا والله وبيان أن المشى أمام الجنازة هو السنة ٥٦

المسلسل بوالله أنه الحق والكلام على صلاة التوبة والسر في الوضوء والصلاة عند إرادة الأسفار ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر وتفسير آية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} إلى آخرها والكلام على الجنة والخلود، وأن جزاء الأعمال الصالحة غفران الذنوب، والخلود في الجنة لإخبار الله بذلك وهو لا يخلف الميعاد ٥٨

 المسلسل بوحلف والكلام على الشفاعة وأنواعها، والرد على من قال إن المراد بها الدعاء لا المعنى المتعارف في معنى الشفاعة، وذلك فراراً عن اعتقاد أن الله سبحانه يرفع -عــــن إرادة أرادها -لأجل الشافع، وبيان أن الشفاعة مما قدره الله في أزله وبيان أن المعتزلة لا ينكرون الشفاعة مطلقاً ٦٧

المسلسل بكلمة التقوى -وبيان انها لا إله إلا الله -وزيادة محمد رسول الله ومعنى كونها كلمة التقوى ٧٤ 

المسلسل بالسماع والكلام على حديث (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)، وتعريف الكفر، وكفر من جحد مجمعاً عليه مما يعلم ضرورة، وأن الإنكار هو عدم التصديق والإذعان، وحكم الفقهاء على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر لكونها لا تصدر إلا من كافر؛ كالسجود للصنم وشد الزنار، وأن لباس الكفار العادي لا يحرم، كما لا تحرم البرنيطة إذا كانت شعار قوم في بلادهم يلبسها الكافر والمسلم، وأنها تحرم إذا لبست تعززاً واحتقاراً للباس الوطني ٧٧

المسلسل بيوم العيد والكلام على العيد والكلام على حكم صلاة العيد وهل واجبة أم لا وكذا الخطبة ٨٠ 

المسلسل بيوم عاشوراء وتعريف عاشوراء وأنه اليوم العاشر وبيان مطلوبية صومه وأنه لم يرد في السنة فيما يفعل إلا الصيام والتوسعة على العيال والكلام على ما يفعله بدو العرب عندنا من البدع في ذلك اليوم، وأنه من مذهب الرافضة، نقله العرب معهم حين انتقلوا إلى المغرب وبيان بعض فرقهم عندنا إلى اليوم ٨٧

المسلسل بأني احبك والكلام على الأذكار عقب الصلاة، وأن الأولى الاختصار على ما ورد دون زيادة لانها من التقدم بين يدي الله ورسوله ٩٢

المسلسل بقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والكلام على الاستعاذة في الصلاة، وأنها السنة وأن الأولى للمالكى الاستعاذة تبعاً للسنة وقول جماعة من متأخري الأندلسيين نحن على مذهب الفقهاء في أحكام الحلال والحرام على مذهب أهل الحديث في السنن والآداب، وترجيح اتباع الحديث على أقوال المذهب، ونقل كلام الأقنوم في ذلك وتوجيه الافتتاح بالاستعاذة عند التلاوة ٩٥

المسلسل بالسؤال عن السن، وأنه لا مانع من ذلك لما عليه من معرفة اعمار الرواة، ليعرف اتصال الحديث وانقطاعه ١٠٠

المسلسل بالسؤال عن الاسم والمولد والبلد وأن ذلك من السنة وهو ما يفتقر إليه حفاظ الحديث للتمييز بين الاسمين المتفقين في اللفظ وأن المشارقة لم يزالوا على ذلك بخلاف المغاربة ۱۰۰ 

المسلسل بالسؤال عن الاخلاص وشرحه وبيان مراتبه ومعنى كونه سراً من أسرار، وشرحه وبيان الله تعالى ١٠٤

المسلسل يرحم الله فلاناً لو أدرك زماننا، وترجمة لبيد، وبيان طرق حديث إن من الشعر لحكمة والكلام على الشعر وما يستحسن منه وما يمنع وبيان ما يفعله الإنسان إذا تركت الامانة وذهب أهل الفضل والدين ١٠٨

المسلسل بقولهم في العزلة سلامة وفيه الكلام على ما يفعله الإنسان زمن الفتن والاختلاف في طلب الملك وبيان حال الصحابة والإنكار على أبى موسى الأشعرى في قوله (خرجنا وندمنا على خروجه مع علي)؛ لأنه كان على الحتى وأنه كان يجب عليه قال معاوية الباغي عليه والاعتذار عن عائشة وطلحة والزبير في قتال يوم الجمل وأنه لم يكن یأمرهم ١٢٠

المسلسل بقولهم اشتكت عينى، والأمر بالنظر في المصحف، وأن القراءة في المصحف المسلسل أفضل ١٢٥

المسلسل بوضع اليد على الرأس عند آخر سورة الحشر وتفسير {لو أنزلنا هذا القرآن} الآيات وفضلها والكلام على آية و{ننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين} وأن من للتبعيض وتوجيهه باعتبار الشفاء الجسماني وبيان حكم الرقى بالقرآن  ١٢٩

المسلسل بقول كل راو جربته فوجدته كذلك والكلام على الأذان في أذن الحزين وبيان أن أسباب الهم والحزن هو الذنوب والإعراض عن الله تعالى، وبيان ما ورد في السنة مما يذهبهما، وبيان السر في كون الأذان في الأذن يذهبهما ١٣٧

المسلسل باستجابة الدعاء في الملتزم وبيان محله وكيفية التزامه ووقته ١٣٩

المسلسل بما زلت في الأشواق والكلام على الحديثين به وذكر ما ورد في الديك من الأحاديث وبيان مرتبتها ١٤٤

المسلسل بالقنوت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح واختلاف الأئمة فيه وفي محله وفي أي صلاة يكون ولفظه ١٤٨ 

المسلسل بقص الأظفار يوم الخميس وحكمه والطعن في السند الذي وضعه بصرى المكناسي في فهرسته ١٥٤ 

المسلسل بقول كل راو كتبته فها هو في جيبى ودعاء جعفر الصادق والكلام على رواياته وألفاظه وانفراج أزمات المضطر إذا رجع إلى الله تعالى ١٥٩

المسلسل بنفي الكذب والكلام على حديث تحاجت الجنة والنار والكلام على آيات الصفات وترجيح مذهب السلف وأن ما يقال من أن الله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي هو من باب التجويز العقلي لا غير وإلا فإن الله تعالى أخبر عن نفسه في كتابه أنه لا يظلم أحداً وذكر اختلاف أهل السنة والمعتزلة في وجود الجنة والنار الآن أم لا واختيار وجودها واختلافهما في جنة آدم هل هي جنة الخلد أم جنة أخرى واختيار الوقف ١٦٧ 

المسلسل بالعنعنة وشرح حديث كلمتان حبيبتان إلى الرحمن وفضل التسبيح وبيان أن فضائل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين لا للمُصرين على المعاصي وانتهاك حرمات الدين وأن مايذكره أرباب الزوايا من الفضائل يجرُّ إلى التعطيل وأن التصوف الحقيقى هو التمسك بالسنة وحمل النفس والمجاهدة والتقرب إلى الله تعالى باداء الفرائض والتخلي عن الرذائل والهوى ١٨٢

(القسم الثاني) المسلسلات الفعلية ١٨٦

المسلسل بالمصافحة الإنسية والكلام على راحة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ۱۸۷ 

المسلسل بالمصافحة العلوية والكلام على أتى الحسن البصري لعلي كرم الله وجهه وترجيحه ١٩٠

المصافحة المعمرية والطعن في المعمر وأنه كذاب ١٩٤

المصافحة الحبشية وبيان أن أبا سعد الحبشي المنسوبة إليه ليس بصحابي وأنه إنما حصل له اجتماع روحانى أو مثالي بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والكلام على اجتماع الأولياء بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ليس بذاته وإنما هو بمثاله وتأييد ذلك بأقوال الغزالي وغيره وأن من كان على الصراط المستقيم ومن ادعى ذلك يسلم له وإلا فيرد على قائله والكلام على أفضلية العالم السنى على الولي العابد وأن من جمع بين الولاية لصادقة والعلم الصحيح المتبع للسنة هو أفضل منهما وأن علماء السوء الذين يقفون في طريق العلماء المخلصين المتبعين للسنة لا يدخلون في هذا بل هم مخادعون ولا يستحقون أن يطلق عليهم لفظ العالم  ١٩٩

المصافحة الخضرية وذكر الخلاف في حياة الخضر وترجيح موته وإن اجتماع الأولياء الصادقين كعمر بن عبد العزيز هو بمثاله لا في عالم الشهود ٢٠٤

المصافحة الشمهروشية وأن شمهروش لا ذكر له في أسماء الصحابة ولا يعرف اسمه إلا في حدود الألف وبيان أنه شيطان من الشياطين الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم آخر الزمان يحدون الناس والرد على من احتج على صحبته بالالهام بان الإلهام يخطئ ويصيب وربما يكون من الشيطان والكلام على المصافحة وأصلها وفضلها وحكمها ٢٠٧

المسلسل بالمشابكة والطعن في حديث أبي هريرة (شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم) لمعارضته بالقرآن وأن ذلك من دليل بطلانه والكلام على الستة أيام التي خلق الله العوالم فيها وأنها ليست من ايامنا المعروفة بل هى من ايام الله تعالى تبعاً لما قرره صاحب المنار  ۲۱۳

المشابكة الباغوزارية ٢٢٣

المسلسل بمناولة السبحة وأن لها أصولاً من السنة وأنها غير بدعة ٢٢٤

المسلسل بالتلقين والأصل فيه من السنة ٢٣١

المسلسل بلبس الخرقة وبيان أصلها من السنة وأن المرقعة ليست منها والتحذير من الذين يلبسونها للتوصل إلى السؤل وأخذ أموال الناس بالباطل ٢٣٤

 المسلسل بالعد في اليد والكلام على سنده وأن الحديث غير موضوع وأن القاعدة عنــد أهل الحديث أن الحكم ببطلان سند لا يلزم منه بطلان الحديث إذا ورد من طريق آخر وفائدة تعدد الطرق والخلاف في الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة وأن الصواب جوازها تبعا لما هو وارد ومنعها على الانفراد وحكم ما يزاد من لفظ السيد والمولى واختيار ترك ذلك في اللفظ الوارد والإتيان به في غيره ٢٤٠

 المسلسل بالأخذ باليد والكلام على قول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة وجوابه صلى الله عليه وسلم له بقوله ما أعددت لها وكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم وقتها كبقية الخمس وأن ما عدى الخمس من الغيب أطلعه الله عليه والكلام على محبة الله ورسوله وأنهما سببان في معية المحب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وأنها علامة على الموت على الإيمان ٢٥١ 

المسلسل بوضع اليد على الرأس وفيه الكلام على حديث ما منكم من أحد ينجيه عمله من النار ويدخله الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتغمدني الله برحمته وأن معناه أن الإنسان لا يستحق النجاة بالعمل الصالح من النار والدخول للجنة إلا بفضل الله الذي وفقه للعمل الصالح وجعل الجزاء الكبير على العمل الصغير وبيان أنه لا معارضة بين الحديثين وبين الآيات الواردة في كون دخول الجنة بالأعمال ٢٦١

 المسلسل بوضع اليد على الكتف والكلام على آية {وإذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون} ٢٦٥

 المسلسل بمسح الأرض باليد والكلام على حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار والكلام على مخرجيه و أنه متواتر وبيان كفر الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم لأنه كاذب على الله تعالى في الحقيقة ودخول بشائر المتصوفة في الوعيد المذكور لما فيها من مخالفة قواعد الدين وتشريع عبادات لم يشرعها وإبطال فرائض قد أوجبها ٢٦٩

المسلسل بالقبض على اللحية وحديث آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره والكلام عليه وأنه لا يكمل ايمان العبد حتى يجد حلاوته ويكون مستسلماً لقضاء الله وقدره والكلام على الرضى وكيف يجمع بين الرضا بالقضاء وكراهة الكفر والمعاصي ٢٦٩

المسلسل بعض السبابة وتفسير آية {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود} الآية وفيه الكلام على كيفية عض الكفار أيديهم وأن الضمير في أيديهم وأفواههم راجع إلى الكفار والأيدي على حقيقتها ٢٧٤

المسلسل بالسجود في سورة الانشقاق وفيه الكلام على محلات السجود في القرآن ومشروعيته عند التلاوة وفي الصلاة واختلاف الأئمة في حكمه فيها وبيان أدلة الفريقين ٢٧٩

المسلسل بالاتكاء وفيه الكلام على حديث ماحسن الله خلق رحل ولا خلقه فيطعمه النار وأنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج وأن ماورد من أن الله يستحيي أن يعذب وجها جميلا وما شاكله كله موضوع ٢٨٤

المسلسل بالضيافة على الأسودين والطعن في الحديث المسلسل بذلك وأنه موضوع والكلام على كون الأسودين كانا أكثر طعام النبي صلى الله عليه وسلم وطعام أهله وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقتصر في مأكله ومشربه على ما تدعو إليه الضرورة وتقتضيه حالة العبودية وليتأسى به الضعفاء وأنه كان في بعض الأحيان يتوسع في الطيبات والمآكل اللذيذة اظهاراً لنعمة الله عليه واشاداً للامة وتعليماً وأنه لم يكن فقيراً قط والتنبيه على حالة ولائمنا وضيافاتنا وما فيها من البدع والإسراف وبيان ما في الاطعمة الدسمة وكثرة أكل اللحوم من المضار للمعدة وأن الفواكه والخضر والبقول بعكسها ۴٩٠

 المسلسل بالتلقيم ٢٩٤

المسلسل بالاخرية وفيه الكلام على العدل والأمن زمن نزول عيسى واختلاف أهل العلم في رفعه ميتاً أو حياً واختيار أن الله أماته ورفعه ثم أحياه بعد رفعه جمعاً بين ظاهر الآية وبين ما صح من نزوله آخر الزمان ٢٩٦