أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 يناير 2023

غاية التبجيل في ترك القطع بالتفضيل للشيخ محمود سعيد ممدوح بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

غاية التبجيل في ترك القطع بالتفضيل

للشيخ محمود سعيد ممدوح

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ هذا المؤلف الفريد، يقرر فيه الشيخ محمود ممدوح -وفقه الله -مسألة من فروع الاعتقاد، وهي المفاضلة بين الصحابة رضوان الله عليهم، لا سيما الخلفاء الأربعة، أو بين علي والثلاثة قبله، فبيّن أن الآثار المروية عن الصحابة والسلف آحادية وظنية الدلالة وليست من القطعيات، لوجود ما يعارضها، وأن القطع في الظنيات خطأ كبير وجهل قبيح، كما أنه لا ينبني على المفضّل أحكام التفسيق والتبديع ولا يبلغ صاحبها منزلة البراءة والمعاداة؛ لأنها من المسائل الغيبية التي لا يطلع أحدٌ على حقيقتها، وهذا المنع من القطع بالأفضلية، لا يمنع من اعتقاد أفضلية أحد منهم.

وينقل ممدوح تصريح الأئمة ذوي الرواية والدراية بأن التفضيل يعد من المسائل الظنية لا القطعية، وينقل لذلك كلام الإمام ابن عبد البر المالكي في (الاستيعاب)، والإمام الباقلاني في (المناقب)، والجويني في (الإرشاد)، والغزالي في (الاقتصاد)، والآمدي في (أبكار الأفكار)، والسهروردي في (إعلام الهدى وعقيدة أرباب التقى)، وابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة)، وأبو بكر الحضرمي في (الترياق النافع على جمع الجوامع)، على أن الإمام الباقلاني ذهب إلى صوابية قول من قال: إنهم متساوون في الفضل.

وهذا التقرير صحيح، لكن نقل الخلاف لا يفيد امام تصويب العلماء السابقين لتقديم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، لأن العلماء السابقين بيّنوا آرائهم في هذه القضية، وقرروا أن مذهبهم في ذلك هو مذهب أهل السُّنة، وهو أن ترتيبهم في الفضل هو ترتيبهم في الخلافة، إلا أنهم جعلوها من المسائل الظنية، بينما صرَّح الإمام أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين)، بأن هذا الترتيب قطعيٌّ.

ونقل غير واحدٍ من أهل العلم على أن الإجماع انعقد بأخرة على ذلك؛ كأبي منصور البغدادي في (أصول الدين)، والحافظ في (الفتح)، واستندوا في ذلك إلى نصوص صريحة صحيحة، لكن الشيخ ممدوح يعدها من الروايات الشاذة.

وهذا لا يجعلنا بمعزل عن العلماء الذين توقفوا في هذه القضية، ومنعوا الكلام فيها من أصله، كالإمام داود بن علي الظاهري -إمام الظاهرية، وهو مذهب أهل المدينة والإمام مالك بن أنس، والخطابي في (معالم السنن).

ويوضح "ممدوح" أنه لا تلازم بين الخلافة والأفضلية، وأن التقديم بالخلافة هو تقديم زماني، لا علاقة له بتقدم الفضل والمرتبة، وأن القطع بصحة الإمامة لا يكون قاطعاً في لزوم الأفضلية، بل هو أمر مظنون. وذكر لذلك شواهد من كلام العلماء، ولذلك اختلفوا في تفضيل أحد الشيخين على الآخر، ونقل في ذلك كلام المازري في (المعلم بفوائد مسلم)، والجرجاني في (شرح المواقف)، وأبو العباس القرطبي في (المفهم).

ويُعرِّج المؤلف على مسألة أخرى لها ارتباط وثيق بمسألة التفضيل، وهي: جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وهي قضية قررها علماء أهل السنة؛ كأبي منصور البغدادي.

ويذكر في الفصلين الرابع والخامس -وهما أسُّ الكتاب ولُبه -أقوال العلماء في تعيين الأفضل من الصحابة، وأوصلها إلى عشرين قولاً.

وبعد.هذا التقرير المطول، يوضح الشيخ ممدوح مذهبه في التفضيل تبعاً لشيخه عبد العزيز الغماري في كتابه (الإفادة بطرق حديث النظر إلى علي عبادة)، وشيخه أحمد بن الصديق في كتابه (البحر العميق) اللذين ذهبوا إلى تفضيل علي -رضي الله عنه -على سائر الصحابة بما فيهم الخلفاء الثلاثة قبله، (انظر ص ١٨٧، ١٩٨)،

وقد تبع في ذلك عدداً من العلماء كابن عبد البر، والباقلاني، وابن حزم، وغيرهم.


ويرى الغماري أن الإمام عليّ جامعٌ مانعٌ فهو جامع للخصال التي اجتمعت في غيره، وهو مانع لصفاته أن تذهب لسواه، ونقل ممدوح في ذلك تصريحات كثيرة لمجموعة من علماء أهل السنة ممن ذهبوا إلى تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على جميع الصحابة بلا استثناء، ومذهب الشيخ الغماري -رحمه الله -أن الرجل ما داوم يقول في الشيخين خيراً، ويترضى عنهما، ويثني على جميع الصحابة خيراً؛ فإن هذ التفضيل لا يخدش في دينه وعقيدته، خصوصاً وان المسألة خلافية أو اجتهادية محتملة، ويرجر الرء عليها.

ومعلوم أن مثل هذه المسائل علمية لا ينبني عليها حكم عملي، بل لو أهمل أحد العلماء النظر فيها أصلاً لم يكن عليه حرج ولا إثم، ولا يعد التوقف مخلاً بشيء من الواجبات، ولكن يؤخذ على الشيخ ممدوح أنه جعل تفضيل عليّ مسألة قريبة من القطع، مع ردّه أحاديث الصحيحين بزعمه أنها مخالفة لإجماعه المزعوم.

وهذا المؤلف الجيد لا يُصحح منهج (ممدوح) المنحرف جداً على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وغيره من علماء الإسلام الذين لم يستطع أن يُصرّح بأسمائهم، وزجه إياهم في دائرة النصب ظلماً وعدواناً، ولا يخفى ما في الشيخ من التشيع القلبي والفكري، المتأثر بنهج الغماريين، الذين ساروا في ذات السبيل، بالإضافة إلى اعتداده بالمذهب الزيدي في تثوير فكرة تفضيل عليّ رضي الله عنه -وتدعيمها، ونحن لا ننكر هذا، وإنما ننكر الطريقة التي يطرح بها الموضوع، والأسلوب غير العلمي في النقد والتجريح.

وقد قدم لهذا الكتاب الشيخ علي بن عبد الرحمن الحسني، وقرظه جماعة من العلماء الأعيان، كالشيخ سالم بن عبد الله الشاطري، ويوسف الرفاعي، وأبو بكر العدني، وعمر بن حفيظ باعلوي، وقد جعل ممدوح كتابه هذا في مقدمة، وأحد عشر فصلاً، إليك بيانها إجمالاً:

أولاً: المقدمة، وتشمل على فوائد منها:

١-أن التفضيل بين المخلوقات سنة الله تعالى الماضية في خلقه، سواء بين الرسل والأنبياء أو الملائكة الكرام، والعرب من أجناس الناس، والصحابة عمن جاء بعدهم، وهكذا، وقد حشد المؤلف الأدلة الكثيرة من الكتاب العزيز الدالة على ذلك.

٢- أن أحاديث الفضائل التي تعرض لها المصنفون: منهم من أفردها بمصنف خاص، ومنهم من تعرض لفضل جماعة، كفضائل الخلفاء الأربعة، أو العشرة المبشرين بالجنة، أو أفرد مناقب أحدهم، بل منهم من أفرد جزءاً خاصاً في مناقب صحابيٍّ معيّن، كحديث الموالاة، أو المؤاخاة، أو العلم، أو ردّ الشمس! وأكثر الأحاديث الواردة إنما وردت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

٣-تناولت مصنفات المناقب تعريف الصحبة، وطرق إثباتها، وأنسابهم، وعدالتهم، ومروياتهم، وطبقاتهم، وفضائلهم، وفقههم، وفقهائهم، والمفاضلة بينهم، وذكر أخبارهم، وتجريد أسمائهم، وغير ذلك.

٤-تعرض العلماء للمفاضلة بين الصحابة في مصنفاتهم، ومن ذلك ابن حزم الظاهري في (الفصل في الملل والنحل)، ومحمد معين السندي في (الحجة الجلية في ترك القطع بالأفضلية)، والشيخ علوي بن أحمد الحداد في رسالته (أحسن القول والخطاب في بيان أفضلية الأصحاب أنها ظنية على الصواب)، وأحمد الغماري في (البرهان الجلي في انتساب الصوفية إلى علي)، وغيرهم من الزيدية والإمامية.

الفصل الأول: في بيان أن مسألة التفضيل: ظنية - ليست من مباحث الاعتقاد - لا قطع فيها عند أهل السنة والجماعة. 

وينقل في ذلك الإجماع على ذلك الإمام ابن عبد البر المالكي، كما أنه لا دليل على ثواب من فضّل أحداً على أحد، مع وجوب احترام الجميع وتفضيل الكل، ومن ثمَّ مذاهب أهل العلم في المفاضلة، كما يلي:

١-منهم من قال: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وهو قول جمهور أهل السنة.

٢-وتوقف آخرون وأمسكوا لتعارض الأخبار في الفضل عندهم.

٣-وصرّح أئمة الشيعة وأهل البيت بتفضيل عليّ، وجمهورهم يدخل معه أصحاب الكساء.

٤-وذهب بعض أهل الحديث إلى التوقف في التفضيل بين علي وعثمان، ومنهم من يقدم علي عليه.

٥-وذهب جمهور المعتزلة إلى أفضلية عليّ، إلا أنهم اختلفوا في كون التفضيل قطعي أو ظني؟

الفصل الثاني : مذهب من ذهب إلى التوقف في المفاضلة:

ومن هؤلاء الإمام مالك بن أنس، ونقل ذلك عمن أدركه من أهل المدينة، ثم يطرح سؤالاً لا يمكن عده من الإشكالات التي ترقى إلى كونها معضلةً في نظر جمهور أهل السُّنة.

الفصل الثالث: النظر في دعوى التلازم بين الخلافة والأفضلية.

يرى ممدوح أن التفاضل بالمناصب لا يلزم منه التفاضل في الخصاص، ولكنه ذهل عن كون هذه المناصب دينية، وبالتالي لا بُد أن يختار المسلمون في ذلك الوقت الأجدر والأحق بها، وهذا منه تكلف وبعيد عن الصواب، على أن له بعض التوجيهات لكلام بعض الصحابة، والتي يمكن الإجابة عنها، بل قد أجاب عنها الصحابة أنفسهم، وهي محل نظر؛ كقول أبي بكر في السقيفة (وليت عليكم ولستُ بخيركم)، وقول الصحابة يومها: (منا أمير ومنكم أمير)، واتفاقهم على جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل، ثم جعل عنواناً لإثبات أن الحسن بن علي رضي الله عنه، هو خامس الخلفاء الراشدين.

الفصل الرابع: مذهب من قال: أفضلهم من مات في حياة النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم.

وهذا الفصل أقصر فصول الكتاب، وربما سقط منه شيئاً، ولم أجد مورد هذا القول في هذا الفصل.

الفصل الخامس: مذاهب المعينين للأفضل بعينه

ونقل فيه قول أبي الحسن الأشعري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي وغيرهم، ونقل عنهم أقوالهم والخلاف في مسألة التفضيل، وجملتها: أن هناك من يُفضل أبا بكر وهو القول المعروف المشهور في الصحابة، وهناك من يقول بأفضلية علي بن أبي طالب، وهناك من يُفضّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه (=ومنهم الخطابية)، ومنهم من يُفضل جعفر بن أبي طالب، ومنهم من يفضل عبد الله بن مسعود، ومنهم من قال بأفضلية أبي سلمة بن عبد الأسد، ومنهم من يفضل طلحة بن عبيد الله التميمي، ومنهم من يفضل العباس (= وهم الرواندية)، ومنهم من فضّل عدداً مُعيناً كما فضلت السيدة عائشة -رضي الله عنها -سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر، ومنهم من يفضل أهل الصُّفة على العشرة، وجملة هذه الأقوال عشرة، ثم أتبع ذلك بالقول الحادي عشر، اللذان ضمنهما تحت عنوان (تنوير الأفئدة الذكية بتفضيل البضعة النبوية) =وهي تستحقُّ أن تكون رسالةً مفردة، ومنهم من يقدم أهل الكساء وهو القول الثاني عشر (ونقل تحقيق السيد السمهودي في ذلك، انظر ص ١٠٠ -١٠١)، ومنهم من فضل زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم وانتصر له ابن حزم (انظر ص ١٠٦)، وذهب بعضهم إلى تفضيل عمر بن عبد العزيز وهو قول غريب وهو الموفي القول الرابع عشر، وأما القول الخامس عشر: فهو تفضيل المهدي، والقول السادس عشر: أن الأربعة الخلفاء متساوون في الفضل، والقول السابع عشر: أن العشرة متساوون في الفضل، والقول الثامن عشر: تفضيل عمرو بن عوف على سائر الصحابة، والقول التاسع عشر: من قال بتفضيل عثمان على سائر الصحابة.

الفصل السادس: مذهب القائلين بأفضلية علي عليه السلام.

وفي هذا الفصل يُدافع ممدوح عن المفضلين لأهل البيت النبوي، ويبين الأسباب التي منعت هذا القول من الانتشار، ويعترض على المتسرعين في نقل الإجماع، وعلى من كتب المتون العقدية الذين ضعفوا قولاً له حظٌّ من النظر، وذيل بعنوان نصُّه (توجيه الأنظار إلى جحود بعض الأئمة الأطهار) في الرد على من يؤخر أهل البيت النبوي في الفضل، ووجه الانتقاد هو اعتبارهم أن تقديمهم بدعة، أو أمر يوجب الفسق! وهذا اعتراض وجيه.

وينقل ممدوح عن الزيدية تفضيلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعمه بحديث الطير! ويستدل به على ذلك، ويذكر تتابع جمع من الصحابة على ذلك، ثم يعقد عنواناً نصُّه (عليٌّ أكثر الصحابة صُحبةً) ختمها بأبيات لليافعي في وراثة عليّ= انظر ص ١٣٠ -١٣٤، وذكر من يفضل علياً من الصحابة وغيرهم من التابعين والأئمة المتقدمين والمؤرخين ومن المعاصرين فبلغت تسعة وخمسين قولاً، بالإضافة إلى توجيه كلام الباقلاني في خمسة من النصوص نقلها عنه.

الفصل السابع: تفضيل علي هو مذهب آل البيت عليهم السلام.

وينقل ممدوح في هذا الفصل الكلام عن أهل البيت، وكذلك عن أئمة الزيدية من العلويين، والقول بتفضيل عليّ عندهم قضية مجمعٌ عليها.

الفصل الثامن: النظر في دعاوى الإجماع.

ويناقش ممدوح في هذا الفصل دعوى الإجماع على ترتيب الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وذلك في ضوء تعريف الأصوليين لقضية الإجماع، وردَّ أقوال علماء أهل السنة من الأشاعرة الذين نقلوا هذا الإجماع، ووجه نقلهم لذلك بأنه إجماعٌ داخل المدرسة السُّنية، وممن نقل عنهم الإجماع: الإمام أبو منصور البغدادي، والسعد التفتازاني في (المقاصد)، وكذلك العراقي في (الألفية)، والسخاوي في (فتح المغيث)، والقونوي في (شرح الطحاوية)، والسفاريني في (عقيدته) (ص ٢٠٩ -٢١٠)، وعليه فهذا إجماع خاص، ولا يلزم معتنقي مذهب أهل البيت من الشيعة وغيرهم من محبي آل البيت. ولا شك أن إجماع أهل السنة في العقائد معتبر، وهو طريق الحق والسلامة.

وعلى الرغم من أن السعد التفتازاني قال بالظن في الأفضلية في (شرح النسفية) لكنه نقل الإجماع على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة في كتابه (المقاصد)، ومثله في ذلك أبو منصور البغدادي في (أصول الدين).

الفصل التاسع: النظر في أقوال غير محررة

وفي هذا الفصل يناقش ممدوح عدداً من الأئمة الثقات الأثبات في ذمهم من يغالي في تفضيل عليٍّ -رضي الله عنه -لكون ذلك مُفضٍ إلى الانتقاص من قدر غيره من أكابر الصحابة،أو أن ذلك مخالفٌ لما استقر عليه الأمر في التفضيل، فناقش الحافظ ابن حجر، والإمام ابن تيمية، والحافظ الذهبي، والإمام ابن كثير، وهي اعتراضات في جملتها شكلية متهاوية، ولا تقاوم النصوص الواردة عن الأئمة كأحمد وغيره، وغلط الشيخ ممدوح هو أن يربط بين قبول رواية المبتدع وبين تصحيح بدعته وعدها في جملة البدع.

الفصل العاشر: إمعان النظر في حديث وأثر

وبتكلف واضح يؤول الشيخ ممدوح حديث ابن عمر: (كنا في زمن النبيّ لا نعدل بأبي بكر أحد، ثم عمر، ثم عثمان)؛ وأثر عليّ رضي الله عنه: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت لسميتُ لكم ثالثكم)، ونقل كلام المفضلين لعلي على أن هذا الكلام مردود الظاهر، بالإضافة إلى مخالفة ابن عمر لقوله، وهو أنه فضّل عثمان على عليّ! ومن المصائب أن يدعي ممدوح أن الحديث مخالف للإجماع بتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدهم، وعلى فرض صحة هذا القول، فهذا التعيين لا ينسحب على الشيخين، ولعل ذلك كان في واقعة بعينها، فلا يعم كل المواقف في ذلك التفضيل.

الفصل الحادي عشر: الخلفاء الثلاثة وآل البيت رضوان الله عليهم

وفي هذا الفصل يذكر ممدوح العلاقة الحميمة بين الخلفاء الراشدين وبين أهل بيت النبوة، بالإضافة إلى مناقبهم وخصالهم، وهو فصلٌ جيد في بابه وإن جاء متأخراً.




السبت، 28 يناير 2023

لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة لأبي الفيض محمد مرتضى الزبيدي (ت ١٢٠٥ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة

لأبي الفيض محمد مرتضى الزبيدي

(ت ١٢٠٥ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ إن مثل طالب الحديث في الناس كحامل المزادة، يطلب الماء من النبع ليملأ مزادته، ثم يحملها ليسقي منها غيره، ولهذا سموا حامل الحديث (راوية). الأمر الذي يؤكد على اتصال النسب العلمي بين راوي الشيء وصاحب الشيء المروي، بشهادة الزمن والأقران، وبذلك يثبت العلم بذلك على وجه من الصحة كالدعوى التي تُلقى لا تثبت إلا ببينة.

وهذا الجزء الحديثي النفيس تضمن الأحاديث التي قيل عنها إنها متواترة، مما رواه عشرة من الصحابة فأكثر، وأورد فيه الأحاديث التي رواها عشرة من الصحابة فصاعداً.

وجملة ما في الكتاب من الأحاديث (٧١) حديثاً، وقدَّم الزبيدي كتابه بفصلٍ وجيز بيّن فيه حدَّ التواتر، واخلاتف العلماء في حدِّه، وذكر أن أول من اعتنى بالمتواتر هم الأصوليون، ثم شرع في بيان هذه الأحاديث، فيذكر متن الحديث، ومن رواه من الصحابة، ومن أخرجه من الأئمة عن كل صحابي، وابتدأ بحديث: (إن الحياء من الإيمان)، وختم بحديث: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). 

وقد أتم الحافظ الزبيدي كتابه هذا في الثامن من ربيع الأول، عام ١١٩٢ هـ.

الخبر المتواتر

* تعريف الحديث المتواتر:

الحديث المتواتر: هو الحديث الذي ينقله جمعٌ، لا يتصور تواطؤهم على الكذب، ويحصل العلم الضروري أو النظري بصدقهم قطعاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن فِيه، ثم يسمع من هؤلاء الجمع جمعٌ ثانٍ، لا يتصور تواطؤهم على الكذب، ويحصل العلم بصدقهم، ثم يسمع جمعٌ ثالثٌ من الجمع الثاني كذلك، وهلم جرا إلى آخر الإسناد، فلا بُد من حصول هذا الشرط، وتحققه من الطرفين والوسط، ومثل هذا لا يقع إلا في الأحاديث النبوية.

* شروط المتواتر:

ومن خلال التعريف السابق، نجد أن شروط المتواتر، هي:

١-كثرة الطرق.

٢-إحالة العادة تواطؤهم على الكذب.

٣-أن يروا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.

٤-أن يكون مستند انتهائه المشاهدة أو السماع.

ومنهم من زاد شرطاً خامساً، وهو: إفادة العلم لسامعه.

* اختلاف العلماء في حدود الكثرة:

وقد اختلف العلماء في حدِّ هذه الكثرة، على ثمانية أقوال، والراجح المعتمد: أنه الخبر الذي يرويه جمعٌ كثير من غير تعييين، ولا حصر في عددٍ مُعيَّن، على أن بعضهم قد عين العدد في الأربعة، وبعضهم في الخمسة. وتيقن فيه القاضي أبو بكر الباقلاني وقيل في السبعة، وقال الاصطخري: أقل عدد الجمع الذي يغير خبره العلم عشرة وما دون العشرة آحاد. وقيل في الاثنى عشر، وقيل في العشرين، وقيل في الأربعين، وقيل في السبعين، وقيل أقله ثلاثمائة وثلاثة. ونقل عن إمام الحرمين: «وتمسك كل قائل بدليل جاء فيه من آية وحديث ذلك العدد، فأفاد العلم». وقال الحافظ ابن حجر: وذلك ليس بلازم أن يطرد في غيره لاحتمال الاختصاص». انتهى.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى": "فلفظ المتواتر: يُراد به معانٍ؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم لكن من الناس من لا يسمي متواتراً، إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلاً بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إنَّ كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية وهذا قول ضعيف. والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة. وأيضا فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقا له أو عملاً بموجبه يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف وهذا في معنى المتواتر".

* هل يوجد المتواتر بهذه الشروط في الواقع ؟

يُجيب الحافظ ابن حجر على من أنكر ذلك وهو: ابن حبان وابن الصلاح ، فإنهما قالا يندر وجوده، بقوله: "ومِنْ أحسنِ ما يُقَرَّرُ به كونُ المتواتر موجوداً وجودَ كَثْرةٍ في الأحاديث: أن الكُتَبَ المشهورةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً، المقطوعَ عندهم بصحةِ نسبتِها إلى مصنفِيها، إذا اجتمعتْ على إخراجِ حديثٍ، وتعددتْ طُرقُه تعدّداً تُحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكَذِبِ، إلى آخر الشروط، أفاد العلمَ اليقينيَّ بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"، وخاصة المتواتر المعنوي فهو كثير بخلاف اللفظي .

* وللحديث المتواتر ثلاثة أحكام ذكرها الحافظ ابن حجر، بقوله:

١-أن خبر التواتر يفيد العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يُمكن دفعه.

٢-أنه لا يُبحث عن رجاله بل يُعمل به من غير بحث.

٣-يجب اعتقاد صحته كاعتقاد صحة القرآن الكريم الثابت بالتواتر، وكذلك يجب العمل به فيما يتعلق بالأحكام الشرعية. 

* أقسام الحديث المتواتر:

المتواتر اللفظي، المتواتر المعنوي، المتواتر العملي.

القسم الأول: المتواتر اللفظي: وهو ما تواتر لفظه ومعناه.وهو قليل الوجود. 

مثاله/ حديث: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، رواه بضعة وسبعون صحابياً. ثم استمرت هذه الكثرة -بل زادت- في باقي طبقات السند. جمع طرقه الحافظ الطبراني في جزٍء.

القسم الثاني: المتواتر المعنوي: هو ما تواتر معناه دون لفظه.

مثاله/ تواتر رفع اليدين في الدعاء.

القسم الثالث: المتواتر العملي: وهو أن يعمل به منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم هذا، جم غفير من المسلمين، يستحيل معه التواطؤ على الكذب. 

مثاله/ الصلوات الخمس، اعتقاد فضل أبي بكر .

* من العلماء الذين صنفوا في الحديث المتواتر:

اعتنى العلماء بجمع الأحاديث المتواترة وجعلها في مصنف مستقل؛ ليسهل الرجوع إليها، فمن تلك المصنفات:

أ- محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (ت ٧٤٩ هـ).

ب-والشمس محمد بن عبد الدايم البرماوي (ت ٨٣١ هـ).

ج- الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: السيوطي (ت ٩١١ هـ)، وهو مرتب على الأبواب.

د- اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة لمحمد بن محمد بن طولون الصالحي (ت ٩٥٣ هـ).

هـ-قطف الأزهار: للسيوطي (ت ٩١١ هـ) أيضاً، وهو تلخيص للكتاب السابق.

و- لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة لأبي الفيض الزبيدي (ت ١٢٠٥ هـ).

ز- نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لمحمد بن جعفر الكتاني (ت ١٣٢٧ هـ).

* ما يفيده الحديث المتواتر:

الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، أي العلم اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى التصديق به تصديقا جازماً، كمن يشاهد الأمر بنفسه؛ فإنه لا يتردد في تصديقه، فكذلك الخبر المتواتر، لذلك كان المتواتر كله مقبولا، ولا حاجة إلى البحث عن أحوال رواته.

* أحكام حديث الآحاد:

١- أنه يفيد غلبة الظن، خلافاً للمتواتر فإنه يفيد اليقين.

٢- أنه غير مقطوع بصحته، فقد يكون صحيحاً أو ضعيفاً.

٣- أنه لا يقطع بصحته أو ضعفه، حتى يبحث عن درجته، لكن يجب العمل به قطعا وما يفيده من الأحكام الشرعية، حتى الحسن لغيره عند أهل السنة والجماعة.

والخبر الصحيح -في الاصطلاح هو: "خبر الآحاد: بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، عن مثله، من غير شذوذ ولا علة".

- والاتصال: هو سماع كلِّ راوٍ من شيخة الذي قبله. 

- والعدالة: هي كون الراوي مسلماً، بالغاً، عاقلاً، خالياً من أسباب الفسق وخوارم المروءة. 

- والضبط: إما ضبط صدر أو ضبط كتاب. 

- والشذوذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه. 

- والعلة: سبب غامض خفي، يقدح في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة منه.

* حكم العمل بالحديث الصحيح؟ 

يجب العمل به بإجماع أهل الحديث، ومن يُعتد به من الأصوليين والفقهاء. فهو حجة من حجج الشرع. لا يسع المسلم ترك العمل به.

* الأحاديث المتواترة في الكتاب:

١-(إن الحياء من الإيمان).

٢-(الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).

٣-(من عاد مريضاً خاض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة).

٤-(حنين الجذع له صلى الله عليه وسلم).

٥-(أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى).

٦-(بعثت أنا والساعة كهاتين).

٧-(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).

٨-(لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).

٩-سئل عن البحر؛ فقال: (هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته).

١٠-(الإيمان يمان).

١١-(الماء من الماء).

١٢-(من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عُذرٍ، طبع الله على قلبه).

١٣-(المستشار مؤتمن).

١٤-(لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذتُ أبا بكر خليلاً).

١٥-(من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا).

١٦-(لقنوا موتاكم لا إله إلا الله).

١٧-(اتقوا النار ولو بشق تمرة).

١٨-(عُمرة في رمضان تعدل حجة).

١٩-( من غشّ فليس منا).

٢٠-(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق؛ حتى يأتي أمر الله).

٢١-(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

٢٢-حديث الشفاعة، وترددهم إلى الأنبياء -بطوله.

٢٣-(بشر المشائين بالظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).

٢٤-قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نُصلي عليه (الحديث).

٢٥-(المرء مع من أحب).

٢٦-(لا نورث، ما تركنا صدقة).

٢٧-(الدنيا حُلوة خضرة).

٢٨- (من قتل دون ماله فهو شهيد).

٢٩-(من رآني في المنام فقد رآني حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي).

٣٠-(النهي عن الشفاعة إذا بلغ الإمام).

٣١-من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين).

٣٢-(كان النبيُّ يُخلل لحيته).

٣٣-(توضؤوا مما مست النار).

٣٤-(كان يُسلم عن يمينه حتى يُرى بياض خده).

٣٥-(لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة).

٣٦-(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً).

٣٧-(إن من الشعر حكمة).

٣٨-(اللهم بارك لأمتي في بكورها).

٣٩-(المؤمن يأكل في معى واحدة، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).

٤٠-(كل مسكر حرام).

٤١-(أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).

٤٢-(نوم النبيّ في صلاة الصُّبح في الوادي) الحديث.

٤٣-حديث المدفون ليلاً، والنبيُّ نائم، فلما علم به صلى عليه. الحديث.

٤٤-(لو أن لابن آدم وادياً من ذهب؛ لأحب أن يكون إليه الثاني..).

٤٥-(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).

٤٦-(أفطر الحاجم والمحجوم).

٤٧-قصة ماعز في الزنا ورجمه. الحديث.

٤٨-(نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها إلى من لم يسمع..).

٤٩-(إذا اشتدَّ الحرُّ فأبردوا بالصلاة).

٥٠-(أيام التشريق أيام أكل وشرب).

٥١-(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا قدر ذراع).

٥٢-(قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن).

٥٣-(لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس).

٥٤-(الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة).

٥٥-(الجهر بالبسملة) =ص ١٨٥ -١٨٦.

٥٦-غُسل الجمعة.

٥٧-(من مسّ ذكره فليتوضأ).

٥٨-(يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب).

٥٩-(الولد للفراش وللعاهر الحجر).

٦٠-(من بنى لله مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة).

٦١-(من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه).

٦٢-(رفع اليدين في الصلاة: في الإحرام، والركوع، الاعتدال).

٦٣- سؤال الميت في القبر.

٦٤-التشهد.

٦٥-(تقتل عمار الفئة الباغية).

٦٦-حديث الإسراء (ص ٢٢٤ - ٢٢٩).

٦٧-(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة).

٦٨-(من شهد أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة).

٦٩-(المسح على الخفين).

٧٠-(حديث الحوض) ص ٢٥١ -٢٦٠.

٧١-(من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ص ٢٦١ -٢٨٢.

* رواية هذا الكتاب من طريق العلامة بوخبزة:

قلت (محمد حنونة): أروي هذا الكتاب من طرق، اكتفي بذكر واحدة، وهي إجازة عن شيخنا العلامة محمد بن الأمين بوخبزة التطواني المغربي، عن حافظ العصر ومسند الوقت ومحدثه العلامة أبو الأسعاد وأبو الإقبال محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي الفاسي (صاحب فهرس الفهارس)، عن عبد الله السكري الدمشقي وسعيد الحبال ونصر الله الخطيب، ثلاثتهم عن حامد بن أحمد بن عبيد العطار الدمشقي، عن الإمام الزبيدي.

ترجمة الحافظ الزبيدي

اسمه ونسبه:

هو أبو الفيض السيد محمد مرتضى بن محمد بن أبي عبد الله محمد بن الولي الصالح أبي الضياء محمد بن عبد الرزاق الحسيني نسباً، الواسطي العراقي أصلاً، الهندي مولداً، الزبيدي تعلماً وشهرةً، المصري وفاةً، الحنفي مذهباً.

وهو من ذرية أبي عبد الله محمد المحدث الكبير بن أحمد المختفي بن عيسى بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

مسقط رأسه:

أصله من بلجرام قصبة على خمسة فراسخ من قنوج وراء نهر جنج الهند، وبها ولد سنة ١١٤٥ هـ.

رحلته في طلب العلم:

اشتغل بطلب العلم على المحدث محمد فاخر بن يحيى الإلهاباري، والشاه ولي الله الدهلوي؛ فسمع عليه الحديث وأجازه، وارتحل لطلب العلم فدخل زَبِيد وأقام بها مدة طويلة حتى عُرف (بالزبيدي)، واشتهر بها، وأخذ العلوم النقلية والعقلية عن جماعة من كبار علمائها منهم: العلامة أحمد بن محمد مقبول الأهدل، والشيخ عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي، والشيخ محمد بن علاء الدين المزجاجي، والشيخ سليمان بن يحيى بن عمر بن عبد القادر الأهدل، وغيرهم.

ثم توجه إلى مصر واستكمل فيها العلوم النقلية والعقلية وبرع في جميع العلوم.

قال رحمه الله: «إني حين وصولي إلى مصر افترست المدة، وانتهزت القعدة، فأكببت على تحصيل العلوم وتكميل المنطوق والمفهوم وشرفت بالسماع الصحيح على مسنديها الموجودين».

ثم قال رحمه الله: «رحلت إلى بيت المقدس فحصلت بها جماعة مسندين وفي الرملة وثغر يافا ودمياط ورشيد والمحلة وسمنود والمنصورة وأبو قير ودمنهور وعدة من قرى مصر سمعت بها الحديث بما هو مذكور في المعجم الكبير الذي ذكرت فيه تفصيل ذلك ورحلت إليه -أي الحديث –إلى أسيوط وجرجا وفرشوط وسمعت في كل منها، وأجازني من مدة حلب جماعة ومن مدينة فاس وتونس وتولا وتلمسان جماعة... ».

حجه:

قال شيخ مشايخنا الحافظ الكتاني: «وحج مراراً ».

تدريسه:

أذن له بإلقاء درس الحديث، فشرع في إقراء صحيح البخاري في مسجد شيخون بالصليبية مع إملاء حديث عقيب الدرس على طريقة الحفاظ بسنده والكلام عليه بمقتضى الصناعة الحديثية، وكان يملي كل أسبوع يومين فقط هما يومي الإثنين والخميس، وكان له درس آخر في شمائل الترمذي وذلك في مسجد شمس الدين أبي محمود الحنفي.

سمته الحديثي:

كان مشتغلابً الحديث معروفاً به، فمن ذلك أنه أملى شرح حديث " أم زرع" في أربعة عشر مجلساً في نحو سبعة كراريس، وأحيا إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة وكل من قدم عليه يملي عليه حديث الرحمة المسلسل بالأولية برواته ومخرجيه ويكتب له سنداً بذلك وإجازة وسماع الحاضرين.

وكان رحمه الله دائم البحث عن المسندين في كل مكان، فقد قال عن شيخه سلبق بن رمضان بن عرام الزعبلي الشافعي (١٠٦٨ -١١٧٣): «هذا الرجل أعلى من وجدته سنداً بالديار المصرية وكان له درس لطيف بالجامع الأزهر يحضر عليه الأفراد، ولم ينتبه لعلو سنده إلا القليل لاشتغالهم بأحوالهم.».

وقال عنه تلميذه الجبرتي: «كان إذا دعاه أحد الأعيان من المصريين إلى بيوتهم يذهب مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده، وبناته ونساؤه من خلف الستائر، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ ويكتب الشيخ تحت ذلك "صحيح ذلك"، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمان السالف كما رأيناه في الكتب القديمة».

ومن سمته في الحديث أنه كتب إلى شيخه سليمان بن يحيى الأهدل يستجيزه لنفسه ولجماعة من خواص طلبته ولفتاة بلال الحبشي ولزوجه زبيدة بنت ذي الفقار الدمياطي ولفتياته؛ سعاد ورحمة الحبشيتين.

ثناء العلماء عليه:

قال عنه العلامة عبد الرحمن بن سليمان الأهدل: «أبو الفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني، نزيل مصر شريف النجار،عظيم المقدار، كريم الشمائل، عزيز الفواضل والفضائل».

وقال عنه تلميذه الوجيه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الكزبري المعروف بالكزبري الصغير أو الكزبري الحفيد: «إمام المسندين وخاتمة المحدثين».

وقال عنه شيخ شيوخنا الحافظ الكتاني: «هذا الرجل كان نادرة الدنيا في عصره ومصره ولم يأت بعد الحافظ ابن حجر وتلاميذه أعظم منه اطلاعاً ولا أوسع رواية ولا أعظم شهرة ولا أكثر منه علما بهذه الصناعة الحديثية وما إليها».

وقال عنه تلميذه علامة مكة ومسندها عمر بن عبد الرسول المكي: «شيخ الحفاظ في وقته، ومرجع أهل الأثر، من كثر الأخذ عنه حتى ارتحل إليه من كل فج عميق، وجيء إليه من كل مكان سحيق ».

وقد أفرده بالترجمة من المصريين محمد بن إبراهيم فتى في جزء صغير سماه:"الجوهر المحسوس في ترجمة صاحب شرح القاموس" كما ذكر ذلك الكتاني.

مؤلفاته:

له مؤلفات كثيرة أشهرها:

١- تاج العروس شرح القاموس

٢-شرح إحياء علوم الدين

وله رسائل وكتب وأجزاء حديثية أخرى منها:

١- شرح الصدر في أسماء أهل بدر

٢- الابتهاج بختم صحيح مسلم بن الحجاج

٣- تحفة الودود في ختم سنن أبي داود

٤- القول الصحيح في مراتب التعديل والتجريح

٥- التحبير في الحديث المسلسل بالتكبير

٦-  مناقب أصحاب الحديث وهي منظومة في مائتين وخمسين بيتاً

٧-إكليل الجواهر الغالية في رواية الأحاديث العالية

٨- المربي الكاملي فيمن روى عن البابلي

٩- الفجر البابلي في ترجمة البابلي

١٠- إنجاز وعد السائل في شرح حديث أم زرع من الشمائل

١١- عقد الجوهر الثمين في الحديث المسلسل بالمحمدين

١٢- التغريد في الحديث المسلسل بيوم العيد

١٣- ألفية السند في ألف وخمسمائة بيت

١٤- شرح ألفية السند

١٥- الأمالي الحنفية (في مجلد)

١٦- الأمالي الشيخونية (في مجلدين).

١٧- المعجم الأكبر (في ذكر مشايخه وتلاميذه، اشتمل على نحو ستمائة ترجمة وأغفل كثيراً من شيوخه وتلاميذه لم يترجمهم ولعل هذا الفوت لأنه لم يستحضرهم أو فاته تنقيحه لموته فجأة في الطاعون أو لانشغاله بغيره والله أعلم)، وله غير ذلك من المؤلفات.

تلاميذه:

تلقى عن الزبيدي عدد كبير من العلماء وطلاب العلم ممن لا يكاد يحصى عددهم فمن تلاميذه: الوجيه عبد الرحمن بن سليمان الأهدل صاحب"النفس اليماني"، والشيخ أبورأس المعسكري صاحب "السيف المنتضى في أسانيد الشيخ مرتضى"، وصالح الفلاني، ومحمد السنوسي، وعبد الرحمن بن حسن الجبرتي، والشيخ مصطفى الذهبي المصري، والعلامة الشنواني، وعلي الونائي، وداود القلعي، ومحمد بن أحمد البهي الطندتائي، والشهاب أحمد السجاعي، والوجيه الكزبري، وابن بدير المقدسي وغيرهم.

شهرته في العلم:

قال الحافظ الكتاني: «لعظم شهرته كاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والمغرب والسودان والجزائر واستجازوه، وممن أخذ عنه من ملوك الأرض خليفة الإسلام في وقته السلطان عبد الحميد الأول ووزيره الأكبر محمد باشا بالمكاتبة واستدعى في الأستانة للحضور فاعتذر».

وقال هو عن كتابه "تاج العروس": «اشتهر أمره جداً حتى استكتبه ملك الروم نسخة وسلطان دارفور نسخة وملك المغرب نسخة ونسخة منها موجودة في وقف أمير اللواء محمد بيك بمصر بذل في تحصيله ألف ريال وإلى الآن الطلب من ملوك الأطراف غير منتاةٍ».

وفاته:

توفي رحمه الله في شعبان سنة ١٢٠٥ هـ شهيداً بالطاعون ودفن بالقاهرة ومات ولم يعقب لا ذكراً ولا أنثى ولا رثاه أحد إلا زوجته لاشتغال الناس بأمر الطاعون.

قال عنه محمد بن سعد التلمساني أحد تلاميذه: «لما توفي قومت كتبه بخمسة وعشرين ألفاً، فبلغ الخبر إلى السلطان التركي فقال: لقد بخستموها فجعل لها خمسة وسبعين ألفاً وجعلها حبساً على طلبة العلم بمصر».

رحمه الله رحمة واسعة، وغفر الله لنا وله، وألحقنا به في الصالحين، واسكننا وإياه جنته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه.