أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 28 أكتوبر 2021

شرح عقود رسم المفتي للسيد "محمد أمين" بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي المعروف بـ"ابن عابدين" الحنفي

شرح عقود رسم المفتي

للسيد "محمد أمين" بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي

المعروف بـ"ابن عابدين" الحنفي

(١١٩٨ -١٢٥٢ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ يعتبر هذا الكتاب ذا أهمية كبيرة لمن يمارس الفتوى ويشتغل بها على مذهب أبي حنفية، فإن الفتوى لها قواعدها وضوابطها التي يجب التقيُّد بها، فيفترض على القاضي أو المفتي أن يتثبت في الجواب، ولا يُجازف فيه، حذراً من الافتراء على الله تعالى بتحريم حلال، أو تحليل حرام، فليتق الله كلُّ جاهلٍ شقيٍّ يتجاسر على الفتيا -في دين الله تعالى -بغير علم. وكما قال المصنف في نظمه:

فليس يجسر على الأحكام … سوى شقيٍّ خاسر المَرام

ولا شك أن الفتوى بمجرد الرأي دون علم وبدون دليل، بابٌ من أبواب الضلالة، فالفتوى من أخطر الأمور وأشدها في حياتنا العملية، لأنها في الحقيقة توقيعٌ عن ربِّ العالمين كما قال العلماء.

فلا بُدَّ للمفتي أن يكون أهلاً لها، مع تمتعه بدرجةٍ عالية من العلم والأمانة والصدق والالتزام بشرع الله عز وجل. قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43)، قال ابن عباس: أهل الذكر: أهل العلم.

وقال العلامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في  (إعلام الموقعين: ١/ ٨ -٩):

"ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد على العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه.

ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله.

وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ 

فحقيقٌ بمن أُقيمَ في هذا المنصب أن يعدَّ له عُدَّتَه، وأن يتأهَّب له أُهبَتَه، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} (النساء: 127)، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} (النساء: 176)، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسئول غداً، وموقوف بين يدي الله" انتهى.

وهذا الكتاب جمع فيه "ابن عابدين" أهم الضوابط التي يجب على المفتين من الحنفية الالتزام بها، وبيان الكتب المعتمدة في الفتوى والتدريس في المذهب، وأن الفتوى في المذهب على الظاهر، وفيه بيان تخريجات المجتهدين على قواعد الإمام، والترتيب بين روايات المذهب إن حصل التعارض، وعند الاختلاف ما هو معتمد الفتوى في المذهب، استنبطه ابن عابدين من بطون كتب الحنفية، وجعل ذلك منظوماً على صورة أبيات، ثم شرحها.

وأما تسميته برسم المفت؛فباعتبار أن ما ذكره يمثل العلامة التي يعرف بها المفتي كيف يُفتي، لأن الرسم يُطلق في اللغة على الأثر، وعلى العلامة، وقيل: رسم المفتي: هو علمٌ يبحث عن أمورٍ منها: طيقات المذهب، والكتب المعتمدة فيه، والمراحل التي تدرج فيها المذهب، بحيث يُتوصل بذلك كله إلى معتمد المذهب في الفتوى والقضاء.

والمفتي -بطبيعة الحال -مخبرٌ عن الشرع بلا إلزام، خلاف القاضي، الذي هو مخبرٌ عن الشرع مع الإلزام، وهناك إشكالات بسيطة في هذا الكتاب في تقسيم الطبقات عند ابن الهمام، وغير ذلك، لكنها لا تقدح في هذا العلم الذي أفرده ابن عابدين بالتصنيف، والتأليف فيه.

ذكر بعض الضوابط والأصول المتعلقة بالمذهب الحنفي:

أولاً: مراتب مسائل المذهب الحنفي

قال اللكنوي: " واعلم أنهم كما قسموا الفقهاء على طبقات كذلك قسموا المسائل أيضًا على درجات، ليختار المفتي عند التعارض ما هو من الدرجة الأعلى، ولا يرجح الأدنى على الأعلى.

قال الكفوي في "أعلام الأخيار": إن مسائل مذهبنا على ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى: (مسائل الأصول)، وهي مسائل ظاهر الرواية (أي التي اشتهرت روايتها وظهرت، فهو من الظهور بمعناه اللغوي، وليس بالمعنى الاصطلاحي).

والطبقة الثانية: هي مسائل (غير ظاهر الرواية).

والطبقة الثالثة: وتسمى (الواقعات) وهي مسائل استنبطها المتأخرون من أصحاب محمد، وأصحاب أصحابه، ونحوهم فمن بعدهم إلى انقراض عصر الاجتهاد في الواقعات التي لم توجد فيها رواية الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، ومحمد، وأبو يوسف).

وقد تقسم المسائل بوجهٍ آخر، وهو ما ذكره شاه ولي بن عبد الرحيم المحدث الدهلوي في رسالته " عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد " بقوله: 

"اعلم أن القاعدة عند محققي الفقهاء أن المسائل على أربعة أقسام:

1 - قسم تقرر في ظاهر المذهب، وحكمه أنهم يقبلونه في كل حال، وافقت الأصول، أو خالفت.

2 - وقسم هو رواية شاذة عن أبي حنيفة وصاحبيه، وحكمه أنهم لا يقبلونه إلا إذا وافق الأصول.

3 - وقسم هو تخريج المتأخرين، واتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه أنه يفتون به على كل حال.

4 - وقسم هو تخريج المتأخرين، ولم يتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه أن يعرضه المفتي على الأصول والنظائر من كلام السلف، فإن وجده موافقًا لها أخذ به وإلا تركه.. انتهى كلام الدهلوي.

ثانياً: مراتب الكتب في المذهب الحنفي

فهو أن ما في المتون مُقَدَّم على ما في الشروح، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى. ولا يجوز للمفتي أن يرجع إلى أصول الرواية عن الإمام، قبل أن ينظر إلى كتب المتأخرين.

قال اللكنوي: "إلا إذا وجد التصحيح ونحو ذلك في ما في الشروح والفتاوى، ولم يوجد ذلك في المتون، فحينئذ يقدم ما في الطبقة الأدنى على ما في الطبقة الأعلى".

وبناء على ما تقدم من تفصيل المقام في المسائل الفرعية في مذهبنا يمكن تقسيم كتب المذهب على مراتبها، فنقول:

أولاً: كتب مسائل الأصول وهي: 

ظاهر الرواية، وظاهر المذهب، وهي التي اشتملت عليها مؤلفات محمد بن الحسن من "الجَامِعَين"، و "السِّيَرَيْن"، و"الزيادات"، و "المبسوط"، وهذه المسائل هي التي أسندها محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، أو أسندها عن أبي حنيفة فقط رحمهم اللَّه تعالى.

وكتاب " الكافي " للحاكم الشهيد المروزي هو: مجموع كلام محمد في الأصول، فهو في حكمها (له حكم ظاهر الرواية). وقد شرحه كثير من فقهاء الحنفية، ومن أجلِّ شروحه: شرح شمس الأئمة السرخسي في كتابه المشهور (بالمبسوط).

قال الشيخ إسماعيل النابلسي: قال العلامة الطرسوسي: " مبسوط السرخسي لا يُعمل بما يخالفه، ولا يُركن إلا إليه، ولا يُفتي ولا يُعول إلا عليه " اهـ.

ثانياً: كتب النوادر: 

وهي غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم تظهر كما ظهرت الأولى، ولم تُزوَ إلا بطريق الآحاد بين صحيح وضعيف، "كالرَّقِّيَّات"، و"الكَيسَانِيَّات"، و "الجُزجَانِيَّات"، و "الهَارُونِيَّات" من تصانيف محمد التي رواها عنه الآحاد، ولم تبلغ حد التواتر، رلا الشهرة عنه.

وكتاب "المنتقى" للحاكم الشهيد مجموع كتب محمد في غير رواية الأصول، فهو في حكمها، كما أن "الكافي" له أيضًا في حكم رواية الأصول كما سبق.

ومن ذلك: "الأمالي والجوامع" والروايات المتفرقة كنوادر محمد بن سماعة، ونوادر إبراهيم بن رستم المروزي، ونوادر هشام بن عبيد اللَّه الرازي، وغيرهم.

وقد يكون ما في النوادر أصحُّ مما في ظاهر الرواية؛ باعتبار قوة المدرك، وصحة الرواية به، لأن غالب ما في النوادر قد صحت الرواية به، وإن كان بطريق الآحاد، فإذا صحت الرواية به ولو آحادًا وساعدته الدراية: قُدِّمَ على ظاهر الرواية.

فمرتبة كتب الأصول الستة عندنا: كالصحيحين في الحديث، ومرتبة النوادر في مذهبنا: كالسنن الأربعة، والمحيط الرَّضَوِىّ: كالمصابيح والمشكاة، التي جمعت ما في الصحيحين… .

ثالثاً: كتب الفتاوى، وتسمى الواقعات، وهي: 

الكتب التي تحتوي على المسائل التي استنبطها المتأخرون من أصحاب محمد، وأبي يوسف، وزفر، والحسن بن زياد، وأصحابهم، وهلم جرا؛ وقد يخلط بعضهم كتب الأصول بالنوادر بالفتاوى؛ فهي في الأساس فتاوى وتخريجات رويت عن فقهاء الحنفية وليس لها إسناد تروى به.

مثل كتاب: " النوازل " لأبي الليث السمرقندي، فقد جمع فيه فتاوى مشايخه، ومشايخ مشايخه، و"مجموع النوازل والحوادث والواقعات " للكشي، و"الواقعات" للناطفي، و"الواقعات" للصدر الشهيد.

ثالثاً: المتون أو المختصرات المعتمدة في المذهب الحنفي

والمتون المعتمدة في مذهب الفقه الحنفي هي: مختصر الطحاوي، ومختصر الكرخي، ومختصر الحاكم الشهيد، ومختصر القدوري فإنها تصانيف معتبرة، ومؤلفات معتمدة، قد تداولها العلماء حفظًا، ورواية، ودرسًا، وقراءةً، وتفقهًا، ودرايةً. 

فما في هذه المتون والنصوص، وهي مقدمةٌ على ما في الشروح.

وقد شرح مختصر الطحاوي: الكرخي، وأبو بكر الجصاص والوراق، و الصيمري القاضي، وأبو نصر الطبري، وشمس الأئمة السرخسي، والجندي. 

وشرح مختصر الكرخي: أبو بكر الجصاص، وأبو الحسين القدوري، وأبو الفضل الكرماني، وآخرون. 

وشرح مختصر الحاكم، وهو المسمَّى "بالكافي": شمس الأئمة السرخسي، وإسماعيل الأنباري، وأحمد الإسبيجابي.

وأما مختصر القدوري، فهو متن مَتِين، متداول بين الأئمة الأعيان، وهو مراد صاحب الهداية وغيره حيث أطلقوا: "الكتاب"، و "المختصر"، وقد شرحه: أبو نصر الأقطع، ومحمد الرازي، وأبو المعالي الغزنوي، وإبراهيم الرسعني، وخلق كثير.

وليس المراد من المتون عند قول الفقهاء: "يقدم ما في المتون"، إلا مختصرات هؤلاء الذين هم من حذاق الأئمة والفقهاء الأعلام.

وإذا لم يوجد حكم الحادثة في رواية الأصول، ولا رواية النوادر؛ فإنه: يأخذ بما هو الأصح والأثبت من: الواقعات، والفتاوى، والأمثل فالأمثل، إلى ما هو أنزل من التصانيف.

وهناك قسمة أخرى لمتون الفقه الحنفي، فاعتمد بعضهم "المختار"، و"النقاية"، و"الوقاية".

رابعاً: من اصطلاحات السادة الحنفية

-الصحيح، فما جاء فيما قدمناه من المتون المعتمدة "هو الصحيح - أو هو المأخوذ به -أو الظاهر -أو به يُفْتَى -أو عليه الفتوى -الصحيح يُقَدَّم على الأصح -والظاهر مُقَدَّم على الأظهر عند التعارض".

والتصحيح: فإن كانت قد صدرت من العلماء الثقات، ووُجدت في كلام من يعتد به، ويعتمد على ما في كتابه، ولكن وجد منها شيئًا يخالف ظاهره ما هو صحيح فىِ الواقع، ونفس الأمر، رواية ودراية، وأمكن حمله على ذلك الصحيح وجب حمله عليه إصلاحًا لكلامه بالقدر الممكن، وتحسينًا للظن به.

وإن لم يمكن حمله على ذلك الصحيح: وجب العمل بما هو صحيح في الواقع بقطع النظر عن ما قاله ذلك الثقة وصححه؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والثقة ليس بمعصوم من الغلط.

وإن كانت تلك الكلمات صادرة ممن ليسوا كذلك فلا يعتد بها، ولا يلتفت إليها. 

-لفظ "قالوا" يستعمل فيما فيه اختلاف المشايخ، مع ما فيه ضعف.

خامساً: من اصطلاحات السادة الحنفية

السلف - الحلف - المتقدمون -المتأخرون: كثيرًا ما يطلق الحنفية في كتبهم: هذا قول السلف، وهذا قول الخلف، وهذا قول المتقدمين، وهذا قول المتأخرين.

 فيريدون بالسلف من أبي حنيفة إلى محمد، وبالخلف من محمد إلى شمس الأئمة الحلوائي، وبالمتأخرين من الحلوائي إلى حافظ الدين محمد بن محمد البخاري المتوفي سنة ثلاثين وستمائة، كذا في جامع العلوم لعبد النبي الأحمد نكرى، وهذا بحسب الأكثر، لا على الإطلاق.

والأئمة الأربعة - الأئمة الثلاثة: المراد بالأئمة الأربعة في قولهم بإجماع الأئمة الأربعة، ونحو ذلك: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.

وإذا قالوا: "أئمتنا الثلاثة"، فالمراد بهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.

والإمام الأعظم - الإمام: المراد بالإمام الأعظم في كتب أصحابنا: هو إمامنا أبو حنيفة.

وأما في كتب التفسير والأصول والكلام: فالمراد بالإمام حيث أطلق غالبًا هو الإمام فخر الدين الرازي.

-والشيخان - الطرفان

الصاحبان: المراد بالشيخين في كتب أصحابنا هما: أبو حنيفة وأبو يوسف.

وبالطرفين: أبو حنيفة ومحمد، وبالصاحبين: أبو يوسف، ومحمد.

شيخ الإسلام: كان العرف على أن شيخ الإسلام يطلق على من تصدر للإفتاء، وحل المشكلات فيما شجر بينهم من النزاع والخصام، من الفقهاء العظام، والفضلاء الفخام، وهم كثر.

وجملة ما في الكتاب: 

(١) وجوب الإفتاء بالرجاح في المذهب، وعدم العدل عنه إلا في أحوال معينة، وأن الفتوى بالمرجوح خلاف إجماع الفقهاء.

(٢) وجوب معرفة طبقات الفقهاء والمجتهدين في الشرع؛ لمعرفة من يُقدم قوله:

أ- طبقة المجتهدين المطلقين كالأئمة الأربعة...

ب -طبقة المجتهدين المطلقين المنتسبين في المذهب كأبي يوسف ومحمد...

ج-طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها لصاحب المذهب كأبي جعفر الطحاوي ...

د-طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كالرازي وأضرابه...

ه-طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين كأبي الحسن القدروي وصاحب الهداية وأمثالهما...

و-طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والروايات النادرة كأصحاب المتون المعتبرة كصاحب الكنز وصاحب المختار وصاحب الوقاية وصاحب المجمع ...

د-طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ولا بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال من اليمين بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل؛ فالويل لمن قلدهم كل الويل .انتهى .

(٣) وأن هناك من الكتب ما لايجوز الإفتاء به، كـ"شرح النقاية"، و"الدر المختار"، و"الأشباه والنظائر،ونحوها، فإنها لشدة الاختصار والإيجاز، كادت تلحق بالألغاز...وترجيح ما هو خلاف الراجح، ولنقل الأقوال الضعيفة…

(٤) وأنه قد يتفق نقل قولٍ خطأ، في نحو عشرين كتاباً من كتب المتأخرين، ويكون القول خطأ، أخطأ به أول واضعٍ له، فيأتي من بعده وينقله عنه، وهكذا ينقل بعضهم عن بعض...

(٥) وفيه استحباب مراجعة الكتب المتقدمة التي يعزو إليها المتأخرون المسألة، وذلك بذكر أصل العبارة، وضم النصوص الموافقة لها.

(٦) ضرورة ضبط كتب ظاهر الرواية، والأصول، والنوادر والمسائل والفتاوى، حتى تكون الفتوى بحسب هذه الكتب.

(٧) وعدم الجرأة على الفتيا، إلا بعد الرسوخ في العلم، وأن الفتيا تؤخذ من ظاهر الرواية في المذهب، وهي ست كتب ألفها محمد بن الحسن الشيباني، وسميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات.

(٨) وأن الفتوى تكون بحسب ما يناسب الشخص والمكان والزمان والعُرف، بحيث يمكن إدخال المستفتي في دائرة الطاعة، وأن العُرف يمكن أن يُخصص الأثر والقياس والاستصحاب، ونحو ذلك.

قضية يجبُ على المُفتي التنبُّه إليها، وهي:

الحذَر من التعصُّب المَقِيت للمذاهب الفقهية، والذي ادَّعاه بعضُهم بسبب اعتقاده انسداد باب الاجتهاد ووجوب التقليد، فمن أراد التقليد فله ذلك، ولكن ليس له أن يذمَّ من اختار طريقة الترجيح في الإفتاء في عصرنا الحاضر، سيما إن صدرت من أكابر العلماء المشهود لهم بالاجتهاد، وكانوا أهلاً لذلك، ولا نلتفت إلى تشغيب بعض المتعصبين في ذلك. 

يقول العلاَّمة الشوكاني -رحمه الله - في ردِّه على دعوى سدِّ باب الاجتهاد ووجوب التقليد: إنها -أي هذه الدعوى -رفعٌ للشريعة بأسرها ونسخٌ لها" (راجِع كتاب: "القول المفيد في أدلَّة الاجتهاد والتقليد"؛ للشوكاني)

والناس في هذا الباب - أي: باب التقليد - على ثلاثة أَضرُب:

الضرب الأول: قوم دعوا لمذاهبهم وتعصَّبوا لها، حتى قال بعضهم: "اللامذهبيَّة هي قنطرة اللادينيَّة" وهذا غلو فاحش، حتى بلغ الحال إلى أنَّ الحنفي المتعصِّب لا يصلِّي خلفَ الشافعي، ولا يزوِّجه، وأنه عنده بمترلة الذميِّ، أو كقول أبي الحسن الكرخي من الحنفيَّة": كلُّ آيةٍ تُخالِف ما عليه أصحابُنا فهي مُؤوَّلة أو منسوخة، وكلُّ حديثٍ كذلك فهو مُؤوَّل أو منسوخ" (رسالة الإمام أبي الحسن الكرخي في الأصول"، طبعت ضمن كتاب: "تأسيس النظر"؛ لأبي زيد الدبوسي الحنفي).

وقال الحصكفي في مدح أبي حنيفة، كما في (مقدمة "الدر المختار"؛ للحصكفي، "شرح تنوير الأبصار للتمرتاشي):

فلعنةُ ربنا أعداد رملٍ = على من ردَّ قول أبي حنيفة

وقول قاضي دمشق محمد بن موسى الباساغوني الحنفي": لو كان لي أمرٌ لأخذت الجزية من الشافعي") (ميزان الاعتدال: ٥١/٤).

وقول محمد بن إبراهيم البوشنجي - رحمه االله - كما في (السير: ٧٣/١٠):

وإني شافعيٌّ ما حييتُ وإن أمت= فوصيتي للناس أن يتشفعوا

بل بلَغ التعصُّب ببَعضِهم أنَّه زعَم أنَّ عيسى ابن مريم - عليه السلام - حين يترل يحكُم بالمذهب الحنفي، وقد أشار العلاَّمة محمد سعيد صقر في منظومته( الموسومة بـ"رسالة المهدي ) لذلك؛ فقال: "وَاعْجَبْ لما قالواه مِنْ التَّعَصُّبِ أَنَّ الْمهدي حنفيُّ المذهب".

أو عجب من ذلك ما قاله الصاوي في "حاشيته على الجلالين" (١٨/٣) عند قول االله -تعالى -: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف: ٢٣ -٢٤)- قال: "ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافَقَ قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج من المذاهب الأربعة ضالٌّ مُضِلٌّ، وربما أدَّاه ذلك للكفر؛ لأنَّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنَّة من أصول الكفر"ا.هـ.

فلله ما أبعدَ هؤلاء المتأخرين عن هدي السَّلَف وللهِ درُّ ابن القيِّم إذ يقول: "فياالله العجب! ماتَتْ مذاهب أصحاب رسول االله - صلَّى االله عليه وسلَّم - ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمَّة الإسلام وبطلت جملةً إلا مذاهب أربعة أنفسٍ فقط من بين سائر الأئمَّة الفقهاء! وهل قال ذلك أحدٌ من الأئمَّة أو دعا إليه، أو دلَّت عليه لفظة واحدة من كلامهم عليه؟!".

ثم قال: "ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيَّد بأحدٍ من الأئمَّة الأربعة بإجماع الأمَّة" (إعلام الموقعن: ٩٣١/١، عند قوله: هل يلزم العامي أن يَتمَذهب ببعض المذاهب المعروفة؟ فراجعه وقد أحسن وأجاد - رحمه االله تعالى.

الضرب الثاني: قوم دعوا إلى نبذ التقليد، وعدم الأخْذ من الأئمَّة ألبتَّة وعطَّلوا

اجتهادات العُلَماء وآراءَهم وأقوالهم واعتمدوا على فهومهم، قال الإمام أحمد –رحمه االله -: "... من زعم أنَّه لا يرى التقليد ولا يُقلِّد دينه أحدً ؛ فهو قول فاسق عند االله ورسوله - صلَّى االله عليه وسلَّم - إنما يُرِيد بذلك إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنَّة والتفرُّد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف..." (طبقات الحنابلة"؛ للقاضي أبي يعلى في ترجمة أحمد بن جعفر الإصطخري: ٦٥/١، وراجع كلام الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء: ٢٨٦/١١، و"تاريخ الإسلام"، حول إنكاره نسبةَ هذه الرسالة للإمام أحمد، لكن المعنى المراد صحيحٌ - واالله أعلم).

وقال أيضًا: "الدالُّ االلهُ - عزَّ وجلَّ - والدليل القرآن، والمبيِّنُ الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دِوالمستَ لُّ أولو العلم، هذه قواعد الإسلام") (لمرجع السابق .. وانظر قريباً منه عن الإمام أحمد في"الفقيه والمتفقه"للخطيب البغدادي)

الضرب الثالث: وهم الأكثر - والله الحمد - وهم ما عليه أهلُ الحديث والسنَّة، بأن عرَضُوا المذاهب على الكتاب والسنَّة فما كان من حكمٍ له دليلٌ يقولوه، وما لم يكن له دليلٌ طرَحُوه، مع عدم تعصُّبهم، واحترامهم لأهل العلم، مُتمثِّلين قولَ كلِّ إمام مذهب: "إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي، قلت به أو لم أقل.

على أن معنى هذه الجملة بعد قرأتنا عليه شيخنا الوالد عبد العزيز الراجحي _حفظه الله_ بقوله: هذا إذا لم يكن من أهل الاجتهاد الذين لهم القدرة على استنباط الأحكام من النصوص، فإن كان لديه أهلية في النظر والاجتهاد فإنه يأخذ بما فهمه من كلام االله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما أدى إليه اجتهاده"أ.ه

ولله ما أحسَنَ ما قاله العلاَّمة محمد بن سعيد صقر المدني الحنفي؛ إذ قال في "منظومته":

وَقَوْلُ أَعْلاَمِ الْهُدَى لاَ يُعْمَلُ = بِقَوْلِنَا بِدُونِ نَصٍّ يُقْبَلُ

بِفِيهِ دَلِيلُ الأَخْذِ الْ يثِحَدِ = وَذَاكَ فِي الْ ثِقَدِيمِ وَالْحَدِي

حَنِقَالَ أَبُو ةَيفَ مَالإِ امُ = لاَ يَنْبَغِي ْ لِمَن لَهُ إِسْلاَمُ

أَخْذٌ بِأَ يَقْوَالِ حَتَّى تُعْرَضَا = عَلَى الْ حَكِتَابِ وَالْ دِيْثِ الْمُرْتَضَى

وَمَالِكٌ إِمَامُ دَارِ الْ ةِجْرَهِ = قَالَ وَقَدْ أَشَارَ نَحْوَ الْحُجْرَةِ

كُلُّ كَلاَمٍ مِنْهُ ذُو قَبُولِ = وَمِنْهُ مَرْدُودٌ سِوَى الرَّسُولِ

قَالَعِالشَّافِوَ يُّ : إِنْ رَأَيْتُمُ = قَوْلِي مُخَالِفًا لِمَا رَوَيْتُمُ

مِنَ الْحَدِيثِ فَاضْرِبُوا الجِدَارَا = بِقَوْلِيَ الْمُخَالِفِ ارَخْبَالأَ ا

وَأَحْمَدٌ قَالَ لَهُمْ لاَ تَكْتُبُوا = مَا قُلْتُه،ُ بَلْ أَصْلُ ذَلِكَ اطْلُبُوا

فَاسْمَعْ مَقَالاَتِ الْهُدَاةِ الأَرْبَعَهْ = فَإِوَاعْمَلْ بِهَا نَّ فِيهَا مَنْفَعَهْ

لِقَمْعِهَا لِكُلِّ ذِي تَعَصُّبِ = وَالْمُنْصِفُونَ يَكْتَفُونَ بِالنَّبِي

منظومة رسم المفتي كاملةً:

باسم الإله شارع الاحكام

مع حمده أبدأ في نظامي

ثم الصلاة والسلام سرمدا

على نبي قد أتانا بالهدى

واّله وصحبه الكرام

على ممر الدهر والأعوام

وبعد فالعبد الفقير المذنب

محمد بن عابدين يطلب

توفيق ربه الكريم الواحد

والفوز بالقبول فى المقاصد

وفي نظام جوهر نضيد

وعقد در باهر فريد

سميته عقود رسم المفتي

يحتاجه العامل أو من يفتي

وها أنا أشرع في المقصود

مستمنحاً من فيض بحر الجود

إعلم بأن الواجب اتباع ما

ترجيحه عن أهله قد علما

أو كان ظاهر الرواية ولم

يرجحوا خلاف ذاك فاعلم

علم بأن الواجب اتباع ما

ترجيحه عن أهله قد علما

أو كان ظاهر الرواية ولم

يرجحوا خلاف ذاك فاعلم

وكتب ظاهر الرواية أتت

ستاً لكل ثابت عنهم حوت 

وفي نسخة =وبالأصول أيضا سميت

صنفها محمد الشيباني

حرر فيها المذهب النعماني

الجامع الصغير والكبير

والسير الكبير والصغير

ثم الزيادات مع المبسوط

تواترت بالسند المضبوط

كذا له مسائل النوادر

إسنادها في الكتب غير ظاهر

وبعدها مسائل النوازل

خرّجها الأسياخ بالدلائل

واشتهر المبسوط بالأصل وذا 

لسبقه الستة تصنيفا كذا

الجامع الصغير بعده فما

فيه على الأصل لذا تقدما

واّخر الستة تصنيفا ورد

السير الكبير فهو المعتمد

ويجمع الستَّ كتاب الكافي

للحاكم الشهيد فهو الكافي

أقوى شروحه الذي كالشمس

مبسوط شمس الأمة السَّرخسي

معتمد النُّقول ليس يُعمل

بخُلفه وليس عنه يُعدلُ

واعلم بأن عن أبي حنيفة

جاءت روايات غدت منيفة

فلم يكن لغيره جوابُ

كما عليه أقسم الأصحابُ

وحيثُ لم يوجد له اختيارُ

فقول يعقوبَ هو المختارُ

ثم محمد؛ فقوله الحسن

ثم زُفر وابن زيادٍ الحَسن

وقيل: بالتخيير في فتواه

إن خالف الإمام صاحباه

وقيل من دليله أقوى رُجّح

وذا لمُفتٍ ذي اجتهادٍ الأصح

فالآن لا ترجيح بالدليل

فليس إلا القول بالتفصيل

فإننا نراهُمُوا قد رجَّحوا

مقال بعض صحبه وصحَّحوا

من ذاك ما قد رجَّحوا لزُفَرِ

مقاله في سبعةٍ وعشرِ

ثم إذا لم توجد الروايه

عن علمائنا غير ذوي الدراية

مثل الطَّحاوي وأبي حفصٍ الكبير

وأبوي جعفرٍ والليث الشهير

وحيثُ لم توجد لهؤلاء

مقالةً واحتيجَ للإفتاءِ

فلينظر المفتي بجدٍّ واجتهاد

وليخشَ بطش ربِّه يوم المعاد

فليس يجسرُ على الإحكام 

سوى شقيٍّ خاسرُ المرامِ 

وههنا ضوابطٌ مُحرَّره

غدت لدى أهل النُّهى مُقرّره

في كل أبواب العبادات رُجَّح

قول الإمام مطلقاً ما لم تصح

عنه روايةٌ بها الغيرُ أخذ

مثل تيمُّمٍ لمن تمراً نَبَذ

وكل فرعٍ بالقضا تعلّقا

قول أبي يُوسف فيه يُنتقى

وفي مسائل ذوي الأرحام قدِ

أفتوا بما يقوله مُحمدِ

ورجحوا استحسانهم على القياس

إلا مسائل وما فيها التباس

وظاهر المرويِّ ليس يُعدل

عنه إلى خلافه إذ يُنقل

لا ينبغي العدول عن درايه

إذا أتى بوفقها راويه

وكل قولٍ جاء ينفي الكفرا

عن مُسلمٍ ولو ضعيفاً أحرى

وكل ما رجع عنه المجتهد

صار كمنسوخٍ فغيرُه اعتمد

وكل قولٍ في المتون أثبتا

فذاك ترجيحٌ له ضمناً أتى

فرجَّحت على الشروح والشروح

على الفتاوي القِدَم من ذات رُجوح

ما لم يكن سواه لفظاً صُحِّحا

فالأرجحُ الذي به قد صُرِّحا

وسابقُ الأقوال في الخانيّه

ومُلتقى الأبحُر ذو مزيَّه

وفي سواهما اعتمد ما أخَّروا

دَليله لأنه المُحرَّرُ

كما هو العادةُ في الهداية

ونحوها لراجح الدراسة

كذا إذا ما واحداً قد علَّلوا

له وتعليلٌ سواهُ أهملوا

وحيثما وَجدتَ قولين وقد

صحَّح واحدٌ ذاك المعتمد

بنحو ذا الفتوى عليه الأشبه

والأظهر المختار ذا والأوجهِ

أو الصَّحيحُ، والأصحُّ آكدُ

منه، وقيل: عكسُه المؤكَّد

كذا به يُفتى، عليه الفتوى

وذانِ من جميع تلك أقوى

وإن تجد تصحيح قولين ورد

فاختر لما شئت فكلٌّ معتمد

إلا إذ كانا صحيحاً وأصحّ

أو قيل: ذا يُفتى به؛ وقد رجح

أو كان في المتون أو قول الإمام

أو ظاهر المرويِّ أو جُلّ العظام

قال به، أو كان الاستحسانا

أو زاد للأوقاف نفعاً بانا

أو كان ذا أوفقَ للزَّمانِ

أو كان ذا أوضحَ في البُّرهانِ

هذا إذا تعارض التَّصحيحُ

أو لم يكن أصلاً به تصريحُ

فتأخذ الذي له مُرجَّح

مما علمتَه فهذا الأوضح

واعمل بمفهوم رواياتٍ أتى

ما لم يُخالف لصريحِ ثَبَتا

والعُرفُ في الشَّرعِ له اعتبارُ

لذا عليه الحُكم قد يُدارُ

ولا يجوز بالضعيف العملُ

ولا به يُجاب من جاء يسألُ

إلا لعاملٍ له ضروره

أو من له معرفةٌ مشهوره

لكنَّما القاضي به لا يقضي

وإن قضى فحُكمه لا يمضي

لا سيما قُضاتنا إذ قيَّدوا 

براجح المذهب حين قلَّدوا

وتمَّ ما نظمتُه في سلك

والحمد لله ختامُ مسكٍ