الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين
لأبي الفتوح مجد الدين محمد بن محمد بن علي الطائي الهمذاني
(475- 555 هـ)
تحقيق: علي بن نايف الشحوذ
أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
تمهيد/ هذه أربعون حديثاً صحيحاً من جمع الإمام الفقيه أبي الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي الهمذاني، وهو ممن رحل إلى خراسان، وسمع بها، وتفقه بمرو على الإمام محمد السمعاني، وحدث بالأربعين ببلده همذان وببغداد.
وقد حذا الهمذاني في هذه الأربعين، حذو شيخه أبي سعد السمعاني في "أماليه"، فجعلها عن أربعين شيخاً، كل واحدٍ منها عن أحد الصحابة، وبدأ بالعشرة المبشرين بالجنة، وكان يذكر الحديث، ويتكلم على فقهه وفوائده، ومناقب العشرة، ويورد عقب كل حديث حكاية تليق بذلك المعنى، وأبيات شعر تشاكل ذلك.
وقام الباحث الشحوذ بتنسيق هذه الأربعين، وتخريجها من كتب السنة، ولكنه تصرَّف فيها، بأن حذف الأشعار والقصص التي أضافها المؤلف رحمه الله، وجعل لكل حديث عنوان خاص به، وهي بالجملة أربعين حديثاً نافعة.
وقبل ذكر الأربعين مجرَّدةً من الأسانيد، نذكر ما قاله الحافظ ابن عساكر في فضل علم الحديث، قال: "أبرك العلوم وأفضلها، وأ:ثرها نفعاً في الدُّنيا والدين، بعد كتاب الله عز وجل، أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيها من كثرة الصلوات عليه، وإنها كالرياض تجد فيها كل خير وبر، وفضلٍ وذكر".
وهذه الأحاديث كما يلي:
الحديث الأول [دُعَاءُ آخِرِ الصَّلاةِ]
1. عَنْ أَبِي الخَيْرِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِلنَّبِيِّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ». [أخرجه البخاري (٦٣٢٦)، ومسلم (٢٧٠٥)].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل الدعاء، وحث عَلَى الاشتغال بِهِ والإكثار منه، مَعَ الابتهال بالغدو والآصال، لاسيما فِي الصلوات، وعند ظهور الآيات. ولا أجل من الدعاء لأن الدعاء يشتمل عَلَى ذكر المعبود والثناء عَلَيْهِ واعتراف العبد بالذنب عند الالتجاء إِلَيْهِ تَعَالَى وفي ذَلِكَ تحصيل المقصود وطلب الموعود. ومن شرط الدعاء: حضور القلب، ورفع اليدين، وجعل بطون الأكف مما يلي السماء، فإن ذَلِكَ مأثور مشهور، وفي الأحاديث مذكور وينبغي أن يدعو بصلاح الدين والدنيا، ولا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم.
***
الْحَدِيث الثاني [إنما الأعمال بالنيات]
2. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". [أخرجه البخاريُّ ٣٨٩٨، ومسلم 1٩07].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن صحة جميع الأعمال الشرعية، قولها وفعلها، وفرضها ونفلها، بالنية، لأن كلمة إنما ملفقة من نفي وإثبات، فإن للإثبات، وما للنفي، فهي تعمل بركنيها إثباتا ونفيا، تثبت الشيء وتنفي مَا عداه.
***
الحديث الثالث [صفة الوضوء]
3.عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه تَوَضَّأَ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيمنى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ثَلاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ نَحْوَ وَضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وَضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". [أخرجه البخاري (١٩٣٤)، ومسلم (٢٢٦) باختلاف يسير].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى كيفية الوضوء، وبيان لإسباغه وإكماله، فإن السنة فِي غسل هَذِهِ الأعضاء التثليث عدا الرأس، فإنه يُمسح مرَّة واحدة، وفيه نوع دلالة عَلَى وجوب الترتيب، لأن فعل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خرج مخرج البيان، وفيه دليل عَلَى فضل الوضوء، وأنه مكفر للذنوب، وفيه دليل عَلَى شرف الصلاة عقيب الوضوء، وأن الصلاة الَّتِي لم يحدث المرء فِيهَا نفسه من أرجى الصلوات وأقربها إِلَى القبول، وفيه دلالة عَلَى أن العبادة الواحدة قد يرجى مِنْهَا غفران مَا تقدم من الذنوب.
***
الْحَدِيث الرابع [اللعن عَلَى أمور الظلم]
4. عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ، أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» [خرجه مسلم (١٩٧٨)، وأحمد (٩٥٤) واللفظ له].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَا خص أحداً من أصحابه بوصية ولا كتاب. وزعمت الرافضة أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أوصى إِلَى علي وخصه بِذَلِكَ من بين الصحابة وَهُوَ زعم باطل. وفيه دلالة عَلَى جواز كتابه العلم سوى القرآن، من الفقه والحديث. وفيه دلالة عَلَى أن كتمان شيء من الكتاب والسنة لا يجوز لأحد من الصحابة وغيرهم، بخلاف قول بعض أهل البدعة. وفيه دليل عَلَى جواز رواية الْحَدِيث بالإذن والإجازة من كتاب الشَّيْخ. وفيه دلالة عَلَى أن الانتفاء من النسب والولاء، وادعاء نسب آخر وولاء آخر حرام وأن فاعله يبوء بسخط اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ولعنته. وفيه دليل أن الذبح لغير اللَّه حرام. وفيه دلالة عَلَى تحريم تغيير منار الأرض يريد بِذَلِكَ: أعلام الطريق فإن فِيهِ إتعاب المسلمين وإضلالهم ومنعهم عَنِ الجادة وقيل المراد بِهِ إدخال أرض الغير فِي أرضه فيكون فِي معنى الغاصب للأرض.
***
الْحَدِيث الخامس [أركان الإْسِلام والنوافل]
عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ" فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " "أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" [أخرجه البخاري (٤٦)، ومسلم (١١)، وأبو داود (٣٩١)، والنسائي (٥٠٢٨) واللفظ له، وأحمد (١٣٩٠)].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن اسم الإْسِلام يشتمل عَلَى الأعمال، لأن الرجل سأل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -عَنِ الإْسِلام فأجابه الأعمال، وَهُوَ مذهب أهل السنة والجماعة: أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان. وفيه دليل عَلَى أن الفرض والواجب شيء واحد، لأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل بين الفرض والتطوع واسطة ومنزلة، بل مَا أخرجه من الفرائض أدخله فِي التطوعات. وفيه دليل عَلَى أن من داوم عَلَى أداء الفرائض بشرطها ولم يزد عَلَيْهَا ترجى لَهُ النجاة وأما النوافل فشرعت لاكتساب المحبة، وزيادة الدرجة، وجبر مَا يقع فِي الفرائض من الخلل.
فإن قيل: لم لم يذكر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الحج فِي هَذَا الْحَدِيث؟
قلنا: يحتمل أن هَذَا السؤال وقع من السائل قبل وجوب الحج، ويحتمل أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم -بين لَهُ الشرائع الَّتِي لم تكن تعرفها العرب ولم تعتقد وجوبها وفعلها، فأما الحج فكانوا يتعارفونه فيما بينهم، ويدينون بِهِ توارثوه من إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلامُ.
***
الْحَدِيث السادس
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَا، أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ؟ فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ: «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ»،فَقَالَ الزُّبَيْرُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء:65) [صحيح البخاري 2395، وصحيح مسلم: 2357].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن حكم مياه الأودية والسيول الَّتِي لا تملك منابعها ومجاريها: الإباحة، والناس فِي الارتفاق بها شرع سواء، ومن سبق إِلَى شيء مِنْهَا كَانَ أحق بِذَلِكَ من غيره ومن كَانَ أعلى فهو أولى ممن هُوَ أسفل منه، وله أن يسقى زرعه حَتَّى يبلغ الماء إِلَى الكعبين، ثُمَّ لا حق لَهُ فِيهِ بعد مَا أخذ منه حاجته، بل هُوَ لمن كَانَ أسفل منه.
***
الْحَدِيث السابع [فضل الذكر بعد الصلاة]
7. عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» [أخرجه مسلم (٢٦٩٨)، والترمذي (٣٤٦٣)].
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَمْنَعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَبِّرَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا، وَيُحَمِّدُ عَشْرًا، فَذَلِكَ فِي خَمْسِ صَلَوَاتٍ خَمْسُونَ وَمِائَةُ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسِ مِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، وَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كَبَّرَ أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، وَحَمَّدَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، وَسَبَّحَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، فَتِلَّك مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفُ فِي الْمِيزَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَيُّكُمْ يَعْمَلُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِ مِائَةِ سَيِّئَةٍ؟" [صحيح، أخرجه أبو داود (٥٠٦٥)، والترمذي (٣٤١٠)، والنسائي (١٣٤٨)، وابن ماجه (٩٢٦)، وأحمد (٦٩١٠) باختلاف يسير].
فِي الْحَدِيث دلالة عَلَى فضل التسبيح والتكبير والتحميد، وقد جاء فِي تفسير التسبيح أَنَّهُ تنزيه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كل سوء. وفيه دليل عَلَى استحباب هَذَا الأذكار عقيب الصلوات، والحكمة فِي ذَلِكَ أن وقت الفرائض وقت تفتح فِيهِ أبواب السماء، وترفع فِيهِ الأعمال، فكان الذكر حينئذ أرجى ثوابا وأعظم أجراً. وقد سمى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الأذكار خلف الصلوات معقبات لا يخيب قائلهن، أَوْ فاعلهن، ومعني المعقبات: أنها أذكار يأتي بعضها عقيب بعض. وفيه دليل على استحباب هذه الأذكار عند الأوي إلى الفراش، ليكون نومه على ذكر، ويختم يقظته بعبادة وخير.وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى جواز العد والإحصاء للذكر والتسبيح، خلاف قول من كره ذَلِكَ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يعقد التسبيح، وأمر النساء أن يعقدن التسبيح بأناملهن. وفيه دليل عَلَى كون الميزان حقا، توزن بِهِ أعمال العباد يوم القيامة، بخلاف زعم المعتزلة، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}
***
الْحَدِيث الثامن [استشهاد المقتول دفاعا عَنْ ماله أَوْ نفسه أَوْ أهله]
8. عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" [أخرجه البخاري (٢٤٨٠)، ومسلم (١٤١)، والترمذي (١٤١٩)، والنسائي (٤٠٨٤) واللفظ له، وأحمد (٦٥٢٢)].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن الرجل إذا أريد ماله أَوْ دمه أَوْ أهله،كَانَ لَهُ دفع القاصد، ويدفعه بالأحسن فالأحسن، فإن لم يسع إِلا بالمقاتلة فله أن يقاتله، ولا ضمان عليه.
***
الْحَدِيث التاسع [ثواب الصلاة أو السلام عَلَى النَّبِيّ]
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ نَخْلًا فَسَجَدَ، فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى خِفْتُ - أَوْ خَشِيتُ - أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ تَوَفَّاهُ - أَوْ قَبَضَهُ - قَالَ: فَجِئْتُ أَنْظُرُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا لَكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ" قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قال: فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لِي: أَلا أُبَشِّرُكَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ " [مسند أحمد ٣/١٢٩، إسناده صحيح].
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنِّي لَقِيتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَشَّرَنِي وَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ، يَقُولُ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ لِلَّهِ شُكْرًا» [إرواء الغليل ٢/٢٢٨، إسناده ضعيف، وقال المحقق: حسن لغيره].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل الصلاة والسلام عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه أفضل الأعمال وأجل الأذكار، إذ فِيهِ موافقة الجبار عَلَى مَا قَالَ جل وعز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: 56).
***
الْحَدِيث العاشر [عقوبة قاتل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر]
10. عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلٌ أَمَرَ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 22] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [تفسير ابن أبي حاتم، (3332 ) وتفسير الطبري ط هجر (5/ 291) وقال المحقق: حسن، وضعفه الألباني في الضعيفة: ٥٤٦١].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن الأمر بالمعروف والنهي عَنِ المنكر من شعائر الإْسِلام. وأن القتل بغير الحق من أعظم الكبائر والآثام، وإذا صادف متكلماً بالحق والعدل، أَوْ آمرا بالخير أَوْ ناهيا عَنِ الشر كَانَ أغلظ. وينبغي للآمر بالمعروف أن يقصد بِذَلِكَ وجه اللَّه تَعَالَى وإعزاز الدين لينصره اللَّه تَعَالَى.
***
الْحَدِيث الحادي عشر [الجود ومدارسة العلم فِي رمضان]
11. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» [صحيح البخاري ٤٩٩٧].
فِي الْحَدِيث دلالة ظاهرة عَلَى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أسخى الناس، وأشجع الناس، وهما خصلتان تعرف إحداهما من الأخرى، من حيث المعني، لأنهما يدلان عَلَى قوة النفس وعلو الهمة وعظم الثقة بالله تَعَالَى. وفيه دلالة عَلَى استجاب زيادة البذل وتوسيع النفقة فِي رمضان، لما يرجى من القبول والثواب ومضاعفة الأجر، ويسمى رمضان: "شهر الجود"، وفيه دلالة عَلَى أن صحبة الصالحين مؤثرة فِي دين الرجل وعمله، وقد قيل: "لقاء أهل الْخَيْر عمارة القلوب". وفيه دلالة عَلَى استحباب مدارسة العلم بالليل لقلة الشغل وحضور القلب وفراغ النفس. وفيه دلالة عَلَى استحباب قراءة القرآن فِي رمضان، وكثرة درسه وعرضه عَلَى القراء والمعلمين.
***
الْحَدِيث الثاني عشر [أحب الأعمال إِلَى اللَّه]
12. عن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي". [صحيح البخاري ٥٢٧، صحيح مسلم ٨٥].
في هذا الحديث دليل صريح على أن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، وذلك لأنها هي التي يفرق بها بين المؤمن والكافر، ثم أتبعها ببر الوالدين وهو مما يدل على كرم طبع البار، ثم ذكر الجهاد بعد هذا، وذلك أنه يدل على مبدأ الإنسان في حفظه وهو النفس، فإن الإنسان لا يجود بها إلا موقنًا أن وراءه مقرًّا خيرًا من هذا المقر، وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى فضل المحافظة عَلَى الصلوات فِي أوقاتها، وأن هذه الأعمال هي أفضل الأعمال اابدنية بعد وجود أصل الإيمان. فإن العبادات فروعه وهو أساسها. وفيه أن الأعمال ليست في درجة واحدة في الأفضلية، وإنما تتفاوت حسب تقريبها من الله تعالى، ونفعها، ومصلحتها. وأن الأعمال تفضل عن غيرها من أجل محبة الله لها. وفيه إثبات صفة المحبة لله تعالى، إثباتا يليق بجلاله. وفيه فضل السؤال عن العلم، خصوصاً الأشياء الهامة. فقد أفاد هذا السؤال نفعاً عظيماً. وفيه ترك بعض السؤال عن العلم لبعض الأسباب كمخافة الإضجار والهيبة من المسؤول.
***
الْحَدِيث الثالث عشر [استحباب التيامن]
13. عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّهَا حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ e شَاةٌ دَاجِنٌ، وَهِيَ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ البِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم القَدَحَ، فَشَرِبَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا نَزَعَ القَدَحَ مِنْ فِيهِ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ الأَعْرَابِيَّ، أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَكَ، فَأَعْطَاهُ الأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: «الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ» [أخرجه البخاري (٢٥٧١)، ومسلم (٢٠٢٩)].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن التيامن مستحب فِي كل شيء، وأن الأكل والشرب بين ظهراني الجلساء جائز. وفيه دلالة عَلَى أن الجلوس عَلَى يمين الإْمَام والعالم أفضل. وفيه دليل عَلَى تفضيل اليمين عَلَى الشمال. وفيه دليل عَلَى أن من أكل وشرب فِي مجلس فيستحب لَهُ أن يشرك أهل المجلس فِي ذَلِكَ. ويعني بأمهاته: أمه، ومن كان في معناها كالخالة، والعمة، والجدة، على أنه قد كان يدعو سائر النساء بالأم. وقوله: (فحلبنا له من شاة داجن)، والداجن: الشاة المقيمة في المنزل. وفيه أيضاً الندب إلى شوب اللبن بالماء، والذي أراه في هذا أنه نوع من التداوي؛ فإنه شرب اللبن بالماء يخفف غلظه، ويذهب به إلى أعماق البدن لأن الماء مركب للغذاء. وفيه أيضا الحجة على أن صاحب اليمين أحق بالسؤر، ولما اتفق الأعرابي صاحب ذلك الحق قدمه على أبي بكر في تلك المرة.
***
الْحَدِيث الرابع عشر عشر [تقديم الوصية فِي حال الصحة]
14. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» [أخرجه البخاري (٢٧٣٨)، ومسلم (١٦٢٧)].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى استحباب تقديم الوصية فِي حالة الصحة إن كَانَ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ، مَا يوصي فِيهِ، في هذا الحديث ما يدل على استحباب الوصية، وأن لا يبيت الرجل حتى يقدمها، وفيه مشروعية المبادرة إليها، بيانا لها، وامتثالا لأمر الشارع فيها، واستعداداً للموت. وتبصُّراً بها وبمصرفها، قبل أن يشغله عنها شاغل. قال ابن دقيق العيد: والترخيص في الليلتين والثلاث دفع للحرج والعسر.
***
الْحَدِيث الخامس عشر [طاعة أولي الأمر، ولزوم السنة]
15. عن خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَا: أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]، فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرَيْنَ وَمُقْتَبِسَيْنِ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» [صحيح، أخرجه أبو داود (٤٦٠٧)، والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٤)، وأحمد (١٧١٤٤) باختلاف يسير].
وفي الْحَدِيث علوم كثيرة لا يسع الناس جهلها: مِنْهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أمرهم بتقوى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ولا يعلمون تقواه إِلا بالعلم. ومِنْهَا: أَنَّهُ أمرهم بالسمع والطاعة لكل من ولي عليهم. ومِنْهَا: أَنَّهُ أعلمهم أَنَّهُ سيكون اختلاف كثير بين الناس، فأمرهم بلزوم سننه وسنة أصحابه. و"النواجذ": آخر الأضراس، واحدها: ناجذ. ومِنْهَا: أَنَّهُ حذرهم البدع، وصرح بأنها ضلالة، وكل من عمل عملا أَوْ تكلم بكلام لا يوافق كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسنه رَسُول صلى الله عليه وسلم -وسنن الخلفاء الراشدين فهو بدعة مردودة عَلَى قائله أَوْ فاعله. وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى معجزة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهي معرفته بما يكون بعده من الاختلاف فِي أمته. وفيه: دليل عَلَى فضيلة كاملة للخلفاء الأربعة، رضوان اللَّه عليهم، حيث شهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنهم مهديون راشدون.
***
الْحَدِيث السادس عشر [أداء الواجبات واجتناب المحرمات]
16. عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» [حسن لغيره، أخرجه الدارقطني في سننه (4396) والبيهقي في الكبرى (19752)].
هَذَا الْحَدِيث أصل كبير من أصول الدين، قَالَ بعض العلماء: ليس فِي أحاديث رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيث واحد أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه من حَدِيث أَبِي ثعلبة الْخُشَنِيّ رضي الله عنه. ومن عمل بهذا الْحَدِيث وامتثل وصية رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فقد حاز الثواب وأمن العقاب، لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عَنْهُ، فقد استوفى أقسام الفضل وأوفى حقوق الدين، لأن الشرائع لا تخرج عَنْ هَذِهِ الأنواع المذكورة فِي الْحَدِيث. مَا سكت عَنْهُ هُوَ الَّذِي عفا عَنْهُ ووسع الأمر فِيهِ عَلَى العباد.
***
الْحَدِيث السابع عشر [فضل صيام رمضان]
17. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [أخرجه البخاري (٣٨)، ومسلم (٧٦٠) مطولاً].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل رمضان وصيامه، وأنه ينال بِهِ مغفرة مَا تقدم من الذنوب. وفيه دليل عَلَى أن الإيمان هُوَ التصديق والاحتساب، وَهُوَ الطواعية، وشرط لنيل الثواب فِي صوم رمضان فينبغي أن يأتي بِهِ عَلَى نية خالصة وطوية صافية امتثالا لأمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واتكالا عَلَى وعده، من غير كراهية وملالة لما يصيبه من أذى الجوع والعطش، بل يحتسب النصب والتعب فِي طول أيام، ولا يتمنى سرعة انصرافه.
***
الْحَدِيث الثامن عشر [رؤية اللَّه تَعَالَى فِي الجنة، وتفضيل صلاتي الصبح والعصر]
18. عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ - فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} (ق:39)" [صحيح البخاري ٤٨٥١].
وفي الْحَدِيث: دلالة واضحة عَلَى أن المؤمنين يرون ربهم عَزَّ وَجَلَّ فِي الجنة بأبصارهم، وأنه يراهم جميعهم لا يضامون، بالتشديد، والتخفيف فيستوي الكل في الرؤية، وفيه دليل عَلَى أن الرؤية بالعين، ومعنى قوله: " كما ترون القمر " أي: لا يقع لكم شك ولا يخالجكم ريبة فِي رؤيته، كما لا يقع لكم فِي الدنيا رؤية القمر ليلة البدر وقيل: أراد بِهِ استواءهم فِي النظر إِلَيْهِ، فالتشبيه فِي الْحَدِيث للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي.
***
الْحَدِيث التاسع عشر اقتداء المؤمنين من النار بأهل الملل الكافرة]
19. عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دَفَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ" [صحيح مسلم ٢٧٦٧].
وفي الْحَدِيث رجاء عظيم لأهل الإيمان بالله تَعَالَى، وعده أئمة الدين من كنوز الْحَدِيث اعتمادا عَلَى فضل اللَّه تَعَالَى فِيهِ واعتداداً بِهِ. وفيه: دليل عَلَى كمال لطف اللَّه تَعَالَى بعباده المؤمنين وكرامتهم عَلَيْهِ، حيث فدى أولياءه بأعدائه. قَالَ اللَّه تَعَالَى في جزاء المشركين والكافرين: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى"
***
الْحَدِيث العشرون [فضل صيام يوم عرفة]
20. عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» - أَوْ قَالَ - «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟» قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام» قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» [صحيح مسلم ١١٦٢ ].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى استحباب صيام يوم عرفة فِي حق من لم يشهد عرفات من الحجاج، وأما الحاج فيُستحبُّ له الإفطار ليقوى على العبادة. وفيه: دليل عَلَى أن صوم يوم عرفة يكفر سنة قبلها وسنة بعدها. وفيه: دلالة عَلَى أن السيئة اللاحقة يجوز أن تكفرها الحسنة السابقة، وذلك من فضل اللَّه تَعَالَى ولطفه بعباده. وفيه: دليل عَلَى فضل يوم عرفة، وأنه يوم عظيم حرمته، مرجوة بركته، وَهُوَ يوم الحج الأكبر، ويوم المباهاة، ويوم الدنو، ويوم العتق، وكل ذَلِكَ مروي عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقد استجاب اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا اليوم دعاء النَّبِيّ في أمته بالمغفرة.
***
الْحَدِيث الحادي والعشرون [الدعاء لمن يؤتي زكاتهِ]
21. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ»، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» [أخرجه البخاري (١٤٩٧)، ومسلم (١٠٧٨)].
وفي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن المستحب للإمام إذا أتاه الرجل بالصدقة أن يدعو لَهُ ويبارك عَلَيْهِ وقد أمر اللَّه تَعَالَى نبيه صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فِي القرآن، فَقَالَ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}، ولأن ذَلِكَ يتضمن ترغيبا لهم فِي الصدقة.
***
الْحَدِيث الثاني والعشرون [جمع الصلوات فِي السفر]
عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» [صحيح مسلم ٧٠٦] .
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ، " فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا" [صحيح ابن حبان ١٥٩٥].
وفيه جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، وَهُوَ قول ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنه، وبه قَالَ عطاء بْن أَبِي رباح، وسالم بْن عَبْد اللَّهِ، وإليه ذهب الشَّافِعِيّ وأحمد وإسحاق رَضِيَ اللَّهُ عنهم، ولم يجوزه أصحاب الرأي. وأما الجمع بين الظهر والعصر فِي وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء فِي وقت العشاء بالمزدلفة، فمتفق عَلَيْهِ.
***
الْحَدِيث الثالث والعشرون [الهدايا إِلَى الولاة تضم للمال العام]
23. عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -اسْتَعْمَلَ عَامِلًا، فَجَاءَهُ العَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ: «أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ؟» ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ:" أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ العَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَاتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ: هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ " فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ، حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ، قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم، فَسَلُوهُ" [أخرجه البخاري (٢٥٩٧)، ومسلم (١٨٣٢)].
فِي الْحَدِيث دلالة عَلَى أن هدايا العمال والقضاة سحت محض، لأنه إنما يهدى إِلَى العامل ليغمض لَهُ بعض مَا يجب عَلَيْهِ أداؤه أَوْ يبخس بحق المساكين، وكذا الْقَاضِي يهدي إِلَيْهِ ليميل فِي الحكم إِلَى المهدي إِلَيْهِ، ولا يؤمن أن تحمله الهدية عَلَيْهِ. وقوله:" أفلا أهدي إِلَيْهِ فِي بيت أَبِيهِ؟ " دليل عَلَى أن كل أمر يتذرع بِهِ إِلَى محظور فهو محظور، ويدخل فِيهِ القرض يجر المنفعة، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء أَوْ يرتفق بالرهن من غير عوض.
***
الْحَدِيث الرابع والعشرون [ذكر المؤمنين فِي غيبتهم بالخير، والدعاء لهم]
24. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ" [صحيح مسلم ٢٧٣٢].
فِي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن المستحب للمرء المسلم أن يذكر أخاه بالخير فِي الغيبة ويتضمن ذَلِكَ النهي عَنِ الغيبة،
***
الْحَدِيث الخامس والعشرون [استحباب تعجيل الفطر]
25. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ» [صحيح مسلم ١٠٩٨ ].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى استحباب تعجيل الفطر.
***
الْحَدِيث السادس والعشرون [فضل قريش وتقدمها]
26. عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» [صحيح مسلم ١٨١٩].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل قريش عَلَى سائر الناس فِي كل شيء والمراد بـ "الْخَيْر": الدين، فإنه أصل كل خير، وبـ "الشر" الكفر، فإنه أساس كل شر. وفي هَذِهِ الرواية: دليل عَلَى مَا تقدم قريش فِي الدين والعلم والفقه، وأن قريشاً أحقُّ بالإمامة من غيرهم فِي الاقتداء بهم والاقتباس من عملهم.
***
الْحَدِيث السابع والعشرون [إكرام الجار بإهداء الطعام]
27. عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» [أخرجه مسلم (٢٦٢٥)].
فِي الْحَدِيث: دليل عَلَى استحباب الإحسان إِلَى الإخوان، لاسيما إِلَى الجيران. وفيه دلالة عَلَى أن إطعام الطعام من سنن الإْسِلام، وَهُوَ فِي القرآن مندوب إِلَيْهِ، وفي الأخبار محثوث عَلَيْهِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}، وقَالَ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
***
الْحَدِيث الثامن والعشرون [قبض العلم بقبض العلماء]
28. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [أخرجه البخاري ١٠٠، ومسلم ٢٦٧٣].
وفي الْحَدِيث حث عَلَى طلب العلم وتحريض على الاشتغال بِهِ.
***
الْحَدِيث التاسع والعشرون [استمرار القيام بأمر الدين]
29. عن عُمَيْرَ بْنِ هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَاتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ». قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّامِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّامِ" [صحيح البخاري ٣٦٤١].
نقل عَنِ الجم الغفير والعدد الكبير من علماء الأمة، وأعيان الأئمة، مثل: عَبْد اللَّهِ بْن المبارك، وأحمد بْن حنبل، ويزيد بْن هارون، وإبراهيم بْن الْحُسَيْن، ونزيل الهمداني: أن المراد بالطائفة المذكورة فِي الخبر هم أصحاب الْحَدِيث وأهل الآثار، الَّذِي نهجوا الدين القويم، وسلكوا الطريق المستقيم، فتمسكوا بالسبيل الأقوم والمِنْهَاج الأرشد، فشيدوا أعلامها، ونشروا أحكامها، ولم يخافوا فِي اللَّه لومة لائم، وجعلوا المعقول تبعا للمنقول، فِي الشرائع والأحكام، والحلال والحرام.
اعلم أن مذهب أهل السنة أن العقل لا يوجب شيئا عَلَى أحد، ولا يرفع شيئا عَنْهُ، وليس إِلَيْهِ التحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح، ولو لم يرد السمع مَا وجب عَلَى أحد شيء، ولو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم يكن لبعث الرسل وإنزال الكتب فائدة. فتميز بما ذكرناه الفرقة النبوية من الفرق النظرية، وطائفة الاتباع من طائفة الابتداع.
***
الْحَدِيث الثلاثون [فضل التصدق ولو بالقليل]
30. عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [أخرجه البخاري (١٤١٧)، ومسلم (١٠١٦) ]. وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَنْظُرُ إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَيَرَى النَّارَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ عَنْ وَجْهِهِ فَلْيَفْعَلْ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» [أخرجه البخاري (٧٤٤٣)، ومسلم (١٠١٦)].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى استحباب الصدقة وإن قَلَّتْ، وبشارة بأن اللَّه تَعَالَى يقبل القليل، ويعطي الجزيل، وينبغي أن تكون الصدقة من المال الحلال، فإن اللَّه تَعَالَى طيب لا يقبل إِلا الطيب، ولولا عناية الجبار جل جلاله لم يدفع شق التمرة جمرة النار.
***
الْحَدِيث الواحد والثلاثون [مقدار العقوبة التعزيرية]
31. عَنْ أَبِي بُرْدةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» [أخرجه البخاري (٦٨٤٨) واللفظ له، ومسلم (١٧٠٨)].
فِي الْحَدِيث: دليل عَلَى أن التعزير غير مقدر فِي الشرع، بل هُوَ مفوض إِلَى اجتهاد الإْمَام. وذهب أحمد والليث وبعض الشافعية: أنه لا يزيد على عشر جلدات، وهو قول إسحاق بن راهويه. وقال الشعبيُّ: لا يزيد على ثلاثين سوطاً، وقال الشافعيُّ: لا يزيد عن أربعين. وَقَالَ مَالِك: التعزير عَلَى قدر الجرم، فإن كَانَ جرمه أعظم ضرب مائة وأكثر، بما يراه الإمام رادعاً وزاجراً له ولأمثاله. وكذلك قَالَ أَبُو ثور: إنه عَلَى قدر الجناية وتسارع الفاعل فِي الشر وإن جاوز الحد. والأكثرون عَلَى أَنَّهُ ينقص عَنْ أقل الحدود. والذين تندر منهم المعاصي وهم ذوو الهيئات ينبغي التجاوز عنهم؛ فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال والظروف والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، وتكون تعزيراته واقعة موقعها.
***
الْحَدِيث الثاني والثلاثون [فضل الجهاد فِي سبيل اللَّه، والعزلة عند الفتن]
32. عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ»، قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» [أخرجه البخاري (٢٧٨٦)، ومسلم (١٨٨٨) باختلاف يسير].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل الجهاد فِي سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وقد جعله رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تلو الإيمان فِي الفضيلة، وفيه: دليل عَلَى فضل العزلة، وهي مستحبة عند فساد الزمان، وتغير الإخوان، ووقوع الفتن، وتراكم المحن، كما فعله جماعة من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عنهم.
***
الْحَدِيث الثالث والثلاثون [فضل سَعْد بْن معاذ رضي الله عنه]
33. عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه، قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -جُبَّةُ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا».[أخرجه البخاري (٣٨٠٢)، ومسلم (٢٤٦٨)، والترمذي (٣٨٤٧)].
فِي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضائل سَعْد بْن معاذ رضي الله عنه، وشهادة بأنه من أهل الجنة، وأنه يكسى من حللها، وفي ذَلِكَ معجزة ظاهرة لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حيث أَخْبَرَنَا عما لم يكن بعد. وفيه دليل عَلَى أن مَا فِي الجنة من الأشياء أفضل وأحسن مما فِي الدنيا، وإن كَانَ بينهما مشاركة من حيث الاسم والصورة، فإن ثياب الجنة لا تبلى، ونعيمها لا ينفد. وفيه جواز قبول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للهدية خلاف الصدقة فإنها تحرم عليه.
***
الْحَدِيث الرابع والثلاثون [أحكام وآداب الاستنجاء]
34. عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ» [أخرجه مسلم (٢٦٢)، وأبو داود (٧)، والنسائي (٤٩)، وابن ماجه (٣١٦)].
فِي الْحَدِيث: النهى عَنِ استقبال القبلة واستدبارها عَلَى قضاء الحاجة وهذا الأمر يختص بالفضاء والصحراء، فأما الأبنية فلا بأس فِيهَا بالاستقبال والاستدبار، وَهُوَ قول عَبْد اللَّهِ بْن عمر وبه قَالَ الشعبي ومالك والشافعي، والاستنجاء معناه: إزالة النجو، والرجيع: النجاسة. والرمة: العظام البالية، وفيه دليل عَلَى أن الاقتصار عَلَى أقل من ثلاثة أحجار فِي الاستنجاء لا يجوز وإن حصل الإنقاء بما دونها. ويجوز الاستنجاء بما يقوم مقام الحجر فِي الإنقاء إذا لم يكن مأكولاً ولا محترماً ولا نجساً. والنهي عَنِ الاستنجاء باليمين نهي أدب.
***
الْحَدِيث الخامس والثلاثون [جمع المغرب والعشاء فِي مزدلفة]
35. عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الوُضُوءَ فَقُلْتُ الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «الصَّلاَةُ أَمَامَكَ» فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ المُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى المَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ العِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا" [أخرجه البخاري (١٦٦٩)، ومسلم (١٢٨٠)، وأبو داود (١٩٢١)، والنسائي (٦٠٩) باختلاف يسير].
فِي الْحَدِيث: دلالة عَلَى أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، ومن فاته فِي وقته فقد فاته الحج، ووقته إذا زالت الشمس من يوم عرفة إِلَى أن يطلع الفجر من يوم النحر، والجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة متفق عَلَيْهِ بين العلماء مَعَ إمام الحاج. وأجمعت الأئمة عَلَى أَنَّهُ إذا جمع بين الظهر والعصر فِي وقت الظهر؛ فإنه يؤذن ويقيم للظهر ولا يؤذن للعصر. والأكثرون عَلَى أَنَّهُ يقيم لها. أما إذا جمع المغرب والعشاء فِي وقت العشاء، فذهب جماعة إِلَى أَنَّهُ يجمع بينهما بإقامتين، وإليه ذهب الشَّافِعِيّ، وَقَالَ مَالِك: بأذانين وإقامتين.
***
الْحَدِيث السادس والثلاثون [مدة رخصة التيمم وكيفيته]
36. عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ المَاءَ شَهْرًا، أَمَا كَانَ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ المَائِدَةِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (النساء:43)؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ رُخِّصَ لَهُمْ فِي هَذَا لَأَوْشَكُوا إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمُ المَاءُ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا كَرِهْتُمْ هَذَا لِذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا، فَضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟ وَزَادَ يَعْلَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي أَنَا وَأَنْتَ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ بِالصَّعِيدِ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا. وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً» [أخرجه البخاري (٣٤٧)، ومسلم (٣٦٨)، وأبو داود (٣٢١) بنحوه،].
وفي الحديث: جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، وَهُوَ قول عامة أهل العلم وكذلك الحائض والنفساء، وفيه: دليل عَلَى أَنَّهُ إذا ضرب بيده عَلَى التراب فعلق بها تراب كثير فلا بأس أن ينفخ فيها حَتَّى يخف جميع مَا عَلَيْهَا من التراب. وفيه دلالة عَلَى أن التيمم ضربة واحدة، وَهُوَ قول علي وابن عَبَّاس، وإليه ذهب من التابعين الشعبي وعطاء. والذي عَلَيْهِ الجمهور أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إِلَى المرفقين، وَهُوَ قول عَبْد اللَّهِ بْن عمر، وجابر، وإليه صار جمعٌ من التابعين، وبه قَالَ مَالِك وسفيان الثوري، وابن المبارك والشافعي، وأصحاب الرأي: وَهُوَ أشبه بالأصول.
***
الْحَدِيث السابع والثلاثون [من صلى الصبح فهو فِي ذمة اللَّه]
37. عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا الْقَسْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» [صحيح مسلم: ٦٧٥]..
فِي الْحَدِيث: دلالة عَلَى فضل صلاة الصبح فإنها سبب الحفظ والعصمة ودفع الآفات، وفيه دليل عَلَى أن من افتتح يومه بخير، من صلاة أَوْ ذكر اللَّه أَوْ صدقة، فقد اعتصم يومه ذَلِكَ عَنِ الآفات، وصار فِي أمان من البليات. وفيه: التحذير من إيذاء المؤمن وقصده، وأمر باحترام ذمة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وعهده، وبيان أن اللَّه تَعَالَى مطالب بذمامه، ومعاقب بانتقامه.
***
الْحَدِيث الثامن والثلاثون [كيفية الصلاة عَلَى النَّبِيّ]
38. عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ:" قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" [أخرجه البخاري ٣٣٧٠].
وفي الْحَدِيث: دلالة عَلَى كيفية الصلاة عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. واعلم أن عامة العلماء أجمعوا عَلَى أن التشهد الأول ليس محلا للصلاة عَلَى آل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهي سنة مستحبة فِي التشهد الأخير غير واجبة. وذهب الشَّافِعِيّ وحده إِلَى أنها واجبة فِي التشهد الأخير فإن لم يصل لم تصح صلاته.
***
الْحَدِيث التاسع والثلاثون [بعض المحرمات والمكروهات]
39. عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَادَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ". [أخرجه البخاري (١٤٧٧) مختصراً، ومسلم (٥٩٣) باختلاف يسير، وأحمد (١٨١٤٧) واللفظ له].
في الحديث: النهي عَنْ عقوق الوالدين، وأنه من الكبائر، وإنما اقتصر عَلَى الأم اكتفاء بذكر أحدهما. والنهي عَنْ وأد البنات، وَهُوَ فعل أهل الجاهلية. والنهي عن الامتناع عَنْ أداء مَا يجب ويستحب، أو الإقدام عَلَى أخذ مَا يحرم ويكره. وفيه نهي عَنْ شروع المسلم فيما لا يعنيه، وتكلفه لما كفي الخوض فِيهِ. والنهي عن سؤال الناس ما في أيديهم، فأما سؤال المضطر بقدر الحاجة فهو جائز، وكذلك السؤال عما يعني فإنه متعين. فأما إضاعة المال فإنه مكروه، وهو أن يبذل المال فيما لا يكسب أجراً في الآخرة، ولا حمداً في الدنيا، فذلك التبذير، لا للاقتداء ولا لمجرد الإيمان، بل لمجرد حب المدح، فإني لا أرى المال فيه إلا ضائعاً. أما النهي عن قيل وقال، فـ (قيل): فيها إحالة الناطق على قائل غير مسمى، وأما (قال): فإن الناطق يحيل فيه على ناطق مسمى، وقد تكون اللفظتان على معنى واحد، وهو كثرة القول من غير تمييز، والرواية عن كل ما هب، والحكاية لكل من يسمع، وأن يقنع الإنسان من الأعمال بالأقوال. وفيه نهي عَنْ إضاعة المال، وَهُوَ إنفاقه فِي معصية اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: وقيل: أن يصرفه فِي وجه لا يكون فِيهِ مشكوراً ولا مأجوراً.
***
الْحَدِيث الأربعون [من آداب الأكل]
40. عن وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ. [أخرجه البخاري (٥٣٧٦)، ومسلم (٢٠٢٢)].
فِي الْحَدِيث: دلالة عَلَى استحباب ذكر اسم اللَّه تَعَالَى عَلَى الأكل والشرب، وأنه يبارك فِيهِ بالتسمية. وفيه دليل عَلَى أن الأكل والشرب باليمين سنة، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأما الأكل مما يليه ففيه نوع أدب واحترام لمؤاكله.