الزهر النضر في حال الخضر
لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)
تحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن بركة العلم تكمن في تلقيه عن العلماء الأكابر، والعلماء لا يُمكن أن ينقطعوا في أيِّ زمان، وها نحن نقف مع جوهرةٍ نفيسة من كنوز التراث الإسلامي العظيم، وهو كتاب (الزهر النضر في حال الخضر) لشيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، صاحب "فتح الباري"، الذي فنَّد في كتابه هذا دعوى حياة الخضر -عليه السلام، وبيَّن للناس أبعاد هذه الدسيسة العمياء، وخطرها المستطير على عقيدة الأمة وشريعتها..
وكان أول من أشاع هذه الدعوى بين المسلمين هم المتصوفة (نابتة القرن الثالث الهجري)، وقد أخذوا ذلك عن بعض أهل الكتاب، وفكرة الحياة المستمرة لبعض الأشخاص كالخضر تُشبه عقيدة "المهدي والسرداب" عند الشيعة، فيزعم المتصوفة أن الخضر حيٌّ يسيح في البراري والصحاري والقفار، وأنه يحجُّ كل عامٍ إلى مكة مع إلياس، ويشرب من ماء زمزم فيكون ذلك قوته إلى العام القابل، وأنه تُعرض عليه الأرواح والأرزاق بالغدو والعشي!! وادَّعى بعضهم رؤيته والالتقاء به، والتلقي عنه، ولهم عنه أوراد وأحزاب وتمائم ما أنزل الله بها من سلطان..
وقد سوَّد هؤلاء الخرافيون صفحات متتالية من الرعونة وخفَّة العقل، وكالعادة يكذبون الكِذبة ويصدقونها، ثم يطلبون من الناس تصديقها، وقد ضلَّ بسببهم أناسٌ كثير؛ حتى ظهر فيهم من يزعم أن الولاية أعظم من النبوة.
يقول الحافظ ابن حجر في هذا الكتاب نقلاً عن أكابر علماء عصره (ص 29): "وَكَانَ بعض أكَابِر الْعلمَاء يَقُول: أول عقدَة تحل من الزندقة اعْتِقَاد كَون الْخضر نَبيا، لِأَن الزَّنَادِقَة يتذرعون بِكَوْنِهِ غير نَبِي، إِلَى أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي كَمَا قَالَ قَائِلهمْ:
(مقَام النُّبُوَّة فِي برزخ ... فويق الرَّسُول وَدون الْوَلِيّ)
وكانت دعوى حياة الخضر باباً واسعاً لدى المتصوفة وغيرهم في تحريف معاني الكتاب والسُّنة، وإظهار الفضل والصلاح، فزعموا اختصاصهم بالعلم الباطن، ومن ثمَّ تهافتت الدعاوى في نسبة الآيات لأشياخهم، مثل طي الأرض، والمشي على الماء، ومحادثة الخضر، وكانت مثل هذه الحكايات تستهوي شريحة عريضةً من السُّذج والبسطاء، الذين لا علم لديهم بحقيقة كذب هؤلاء، والشاهد أنهم جعلوا من الخضر مصدرً لاختصاصهم بالعلم الباطن..
ولا تزال تطلع على سوء خباياهم،تارةً في بعض الكتابات، وتارةً في لحن القول، لا سيما طواغيت الشيوخ الطافين على السطح؛ والذين يسيحون في الناس سياحة الدجال، وما على الأرض فتنةٌ أعظم منه، ليأكلوا أموال الناس بالباطل، كل ذلك باسم الكرامات والأولياء ومحبة الصالحين؛ فاستبدلوا العقيدة الصافية بالوثنية الجاهلية…
وأطلق متأخروهم العنان لأنفسهم في وضع الأحاديث في حياة الخضر وإثبات لقائه، مع أنه لم يثبت في حديثٍ واحد أن الخضر على قيد الحياة، بل جميع الأحاديث التي تُثبت حياته واهيةٌ أو موضوعة، وأما الأحاديث التي تُثبت موته فكثيرةٌ وصحيحة، وآيات الكتاب شاهدةٌ لها،
ولم تعدم الأمة موازين الحق التي تُميز به بين الصواب والخطأ، وهذا كتاب الله عز وجل وسُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاضرين بين أيدينا، لم تأفل شمسهما، ولا غار نبعهما، نستدلُّ بهما على الصحيح الموافق، ونردُّ بهما الضعيف الباطل، ولذا نقول ونحن مُطمئنين إننا لم نجد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة النبيِّ الصحيحة ما يدلُّ على استمرار حياة الخضر، ولذا فإننا نرفض أقوال هؤلاء ولا كرامة، مهما زعموا وكابروا …
وفي هذا الكتاب ناقش الإمام الحافظ ابن حجر مسألة حياة الخضر من خلال دراسة الروايات الواردة في ذلك، باستقصاء فريد، وقراءة واعية مستوعبة، يطمئن إليها القلب، وذكر فيه أخيار كثير من يزعمون لقاء الخضر،
وقد ذكر الحافظ ترجمةً موسعة للخضر في كتابه "الإصابة" لأنه اشترط أن يذكر فيه كل من قيل فيه إنه صحابي، وإن لم يثبت عنه ذلك. وقد نشر هذا الكتاب في "مجموعة الرسائل المنبرية"(2/ 195 -234) وقد قال الحافظ في آخرها (ص 234): "والذي تميل إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوام من استمرار حياته".
تعريف مختصر بالخضر عليه السلام
وقبل البدء في هذا الكتاب لا بُد من مُقدمة تُلخص لنا حال الخضر، فنقول: الخضر -بفتح الخاء وكسر الضاد، ويجوز إسكان الضاد - واسمه: بليان بن ملكان على الأشهر، وكنيته: أبو العباس، ولقبه الخضر.
وسُمي الخضر؛ قيل: لنضرته وإشراقه، وقيل: لأنه ما جلس في مكانٍ إلا واخضرَّ من تحته، وهو الذي صاحب موسى بن عمران عليه السلام في القصة المعروفة.
وردت قصة الخضر عليه السلام في القرآن الكريم في سورة الكهف من الآية (60 -82)، وكذلك ورد خبره في السُّنة النبوية المطهرة من طرقٍ عن أُبيِّ بن كعب، عند الشيخين وغيرهما.
وهو نبيٌُّ في قول جماهير المُحققين، قال الثعلبي في "البحر المحيط": "هو نبيٌّ في جميع الأقوال"، وقال القرطبي في "تفسيره": "الخضر نبيٌّ عند الجمهور"،
* من أهم ما نستخصله منها: لا يعلمه هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى:
(1) أن الله تعالى أراد أن يؤدب موسى عليه السلام الذي قال جواباً عن سؤالٍ: (لا أعلم على الأرض أعلم مني): أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله تعالى، فأراه الله سبحانه أن هناك عبداً.
(2) أن الخضر أخبر موسى بأن علمه وعلم موسى بجوار علم الله لا يساوي شيئاً.
(3) أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى عليه السلام، وإنما كان يخفى على موسى الحكمة التي من أجلها فعل الخضر ما فعله.
(4) وجود الخضر على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
هذه هي قصة الخضر عليه السلام في الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً يختلف تماماً عما أراده الله منها، فكانت فتنةً لهم، لأنهم زعموا أن الخضر عليه السلام حيٌّ إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعةٍ وعلمٍ باطني، يختلف عن علوم الشريعة الظاهرة، وأنه وليٌّ وليس بنبي، وأن علمه علم لدنُّي موهوب من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، كما زعموا أن الخضر وهو وليٌّ فقط كان أعلم من موسى؛ فكذلك الأولياء من أمة محمد.
كلام الإمام ابن الجوزي حول حياة الخضر
يقول ابن الجوزي -رحمه الله -فيما نقله عنه ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 69): "والدليل على أن الخضر ليس بباق في الدنيا أربعة أشياء: القرآن والسنة وإجماع المحققين من العلماء والمعقول.
أما القرآن؛ فقوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} (الأنبياء: 34) فلو دام الخضر كان خالداً.
زاد ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/ 265 -267)، عن ابن الجوزي، قال: فالخضر، إن كان بشراً، فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح، والأصل عدمه حتى يثبت، ولم يذكر ما فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله. قال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران: 81)، قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد، وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث محمد وهم أحياء; ليؤمنن به ولينصرنه.(ذكره البخاري).
فالخضر إن كان نبياً أو ولياً؛ فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حياً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم; لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل الله عليه وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه؛ لأنه إن كان ولياً؛ فالصديق أفضل منه، وإن كان نبيا; فموسى أفضل منه.
وقد روى الإمام أحمد في (مسنده): عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة، وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة، أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانوا كلهم أتباعاً له، وتحت أوامره، وفي عموم شرعه.
فإذا علم هذا -وهو معلوم عند كل مؤمن -علم أنه لو كان الخضر حيا، لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وممن يقتدى بشرعه، لا يسعه إلا ذلك.
والمعلوم أن الخضر، لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه، أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد، وهذا يوم بدر، يقول الصادق المصدوق، فيما دعا به لربه، عز وجل، واستنصره، واستفتحه، على من كفره: «اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعدها في الأرض»، وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ، وسادة الملائكة، حتى جبريل، عليه السلام، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له، في بيت يقال: إنه أفخر بيت قالته العرب:
وببئر بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته، وأعظم غزواته. انتهى.
قال: وأما السنة؛ فحديث: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد) متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل: (ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية).
أما إجماع المحققين من العلماء؛ فقد ذكر عن البخاري، وعلي بن موسى الرضا: أن الخضر مات. وأن البخاري سئل عن حياته؟ فقال: "وكيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد).
قال: "وممن قال إن الخضر مات إبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو الحسين بن المنادي وهما إمامان، وكان ابن المنادي يُقَبِّحُ قول من يقول إنه حي.
وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب أحمد، وذكر عن بعض أهل العلم: أنه احتج بإنه لو كان حياً؛ لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: حدثنا أحمد، حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)، فكيف يكون حياً ولا يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة والجماعة ويجاهد معه؟
ألا ترى أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم لئلا يكون ذلك خدشاً في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم!!.
أما الدليل من المعقول فمن عشرة أوجه:
أحدها: أن الذي أثبت حياته يقول إنه ولد آدم لصلبه وهذا فاسد لوجهين: (أحدهما): أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة فيما ذكر في كتاب يوحنا المؤرخ، ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر. (والثاني): أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من ولد ولده -كما زعموا-وإنه كان وزير ذي القرنين فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا بل مفرطٌ في الطول والعرض.
(الوجه الثاني) جاء في الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق الله آدم طوله ستون ذراعاً؛ فلم يزل الخلق ينقص بعد) وما ذكر أحد ممن رأى الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس.
(الوجه الثالث): أنه لو كان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.
(الوجه الرابع): أنه قد اتفق العلماء أن نوحاً لما نزل من السفينة مات من كان معه ثم مات نسلهم ولم يبق غير نسل نوح، والدليل على هذا قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات: 77) وهذا يبطل قول من قال إنه كان قبل نوح.
(والوجه الخامس): أن هذا لو كان صحيحاً أن بشرا من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر ومولده قبل نوح لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكوراً في غير موضع؛ لأنه من أعظم آيات الربوبية، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى من أحياه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وجعله آية فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر، ولهذا قال بعض أهل العلم ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان.
(والوجه السادس): أن القول بحياة الخضر قولٌ على الله بلا علم وذلك حرام بنص القرآن.
أما المقدمة الثانية فظاهرة.
وأما الأولى فإن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة؛ فهذا كتاب الله تعالى: فأين فيه حياة الخضر؟
وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة هل أجمعوا على حياته ؟.
(الوجه السابع): أن غاية ما يتمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر؛ فيا لله العجب: هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟! وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله؛ فأين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟
(الوجه الثامن): أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال له: {هذا فراق بيني وبينك} (الكهف: 78)؛ فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئا؟ وكل منهم يقول قال الخضر وجاءني الخضر وأوصاني الخضر!
فيا عجبا له! يفارق كليم الله تعالى !! ويدور على صحبة الجهال ومن لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي؟!
(الوجه التاسع): أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول: أنا الخضر، لو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا وكذا، لم يُلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين، إلا أن يقال إنه لم يأت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بايعه أو يقول هذا الجاهل إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه.
(الوجه العاشر): أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة، وتعليمه العلم أفضل له بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات، وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه والعيب له؟
جواب شيخ الإسلام ابن تيمية على
من يدَّعي حياة الخضر عليه السلام
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السُّنة النبوية" (4/ 93 -94): واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل على باطل، فمن الذي يسلم لهم بقاء الخضر. والذي عليه سائر العلماء المحققين أنه مات، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة. ولهذا يوجد كثير من الكذابين من الجن والإنس ممن يدعي أنه الخضر ويظن من رآه أنه الخضر، وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا".
ويقول في "مجموع الفتاوى" (27/ 101 -102): " وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل: مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر؛ كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك"
جواب شيخ الإسلام ابن تيمية على من قال
بتفضيل الولاية على النبوة والرسالة
يعتقد كثيرٌ من المتصوفة أن الولي أفضل من النبيّ من كل الوجوه أو من بعضها، ويستدلون على ذلك بقصة الخضر، وهذا باطلٌ بإجماع المسلمين..
في الجواب عن ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 560 -561): "وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مُوسَى أفضل من الْخضر؛ فَمن قَالَ إِن الْخضر أفضل: فقد كفر، وَسَوَاء قيل: إِن الْخضر نَبِي أَو ولي، وَالْجُمْهُور على أَنه لَيْسَ بِنَبِي بل أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل الَّذين ابتعوا التَّوْرَاة وَذكرهمْ الله تَعَالَى كداود وَسليمَان أفضل من الْخضر بل على قَول الْجُمْهُور أَنه لَيْسَ بِنَبِي فَأَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا أفضل مِنْهُ.
وَكَونه يعلم مسَائِل لَا يعلمهَا مُوسَى لَا يُوجب أَن يكون أفضل مِنْهُ مُطلقًا كَمَا أَن الهدهد قَالَ لِسُلَيْمَان {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} (النمل: 22) لم يكن أفضل من سُلَيْمَان.
وكما أَن الَّذين كَانُوا يُلَقِّحُونَ النّخل لما كَانُوا أعلم بتليقحه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجب من ذَلِك أَن يَكُونُوا أفضل مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ لَهُم: (أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم، أما مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإِلَيَّ) /رواه مسلم/.
وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يتعلمون مِمَّن هم دونهم علم الدّين الَّذِي هُوَ عِنْدهم، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لم يبْق بعدِي من النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة) /رواه مسلم/، وَمَعْلُوم أَن ذُرِّيتهمْ فِي الْعلم أفضل مِمَّن حصلت لَهُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة.
وَغَايَة الْخضر أَن يكون عِنْده من الْكَشْف مَا هُوَ جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة فَكيف يكون أفضل من نَبِي فَكيف بالرسول فَكيف بِأولى الْعَزْم".
وقال رحمه الله أيضاً في "مجموع الفتاوى" (27 /100): "ومن قال إنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس".
وقال أيضاً (11/ 422): "فإن من الأولياء من يسوغ لنفسه الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه: إما مطلقاً، وإما من بعض الوجوه على النبي زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات؛ بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر".
وقال رحمه الله في "الفتاوى" (13/ 266): "وقد يحتج بعضهم بقصة موسى والخضر ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة؛ فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروج عن الشريعة وهم في هذا ضالون من وجهين:
(أحدهما) أن الخضر لم يخرج عن الشريعة؛ بل الذي فعله كان جائزاً في شريعة موسى؛ ولهذا لما بين له الأسباب أقره على ذلك.
ولو لم يكن جائزا لما أقره ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك، فظن أن الخضر كالملك الظالم فذكر ذلك له الخضر.
(والثاني) أن الخضر لم يكن من أمة موسى ولا كان يجب عليه متابعته؛ بل قال له: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه.
وذلك أن دعوة موسى لم تكن عامة؛ فإن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة؛ بل بعث إلى الإنس والجن باطناً وظاهراً؛ فليس لأحد أن يخرج عن طاعته ومتابعته لا في الباطن ولا في الظاهر؛ لا من الخواص ولا من العوام".
مقال ابن أبي العزِّ الحنفي شارح الطحاوية في "الخضر"
قال رحمه الله في "شرح الطحاوية" (2/ 774): "وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق: فهو ملحد زنديق.
فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته. ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض، إنما يحكم بشريعة محمد، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة: فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان. وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة".
كتب أخرى حول حياة الخضر:
(1) جزء في أخبار الخضر؛ لأبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي البغدادي ( ت 236 هـ).
(2) جزء في أخبار الخضر؛ لعيد المغيث بن زهير الحربي الحنبلي البغدادي (ت 583 هـ).
(3) عجالة المنتظر في شرح حال الخضر؛ لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ)، وهذا في نقض ما كتبه عبد المغيث الحربي؛ ولابن الجوزي مجلد في موت الخضر، ومختصرٌ له أيضاً.
(4) إرشاد الإخلاص لحياة الخضر وإلياس؛ لمحمد بن أبي الخير أحمد القزويني (ت 620 هـ).
(5) رسالة في الخضر، هل مات، أم هو حي؟؛ لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت 728 هـ).
(6) جزء في وفاة الخضر؛ لمحمد بن علي بن عبد الواحد الدكالي، المعروف بـ"ابن النقاش" (ت 763 هـ).
(7) جزء في حياة الخضر؛ لعبد الله بن أسعد اليافعي (ت 768 هـ).
(8) الروض النضر في أنباء الخضر؛ لأبي الفضل العراقي (ت 806 هـ).
(9) جزء في الخضر؛ للقاضي عليم الدين البساطي (ت 842 هـ).
(10) الزهر النضر في حال الخضر؛ لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ).
(11) القول المنتصر على المقالات الفارغة بدعوى حياة الخضر؛ للحسين بن عبد الرحمن الأهدل (ت 855 هـ).
(12) رسالة في الخضر؛ لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ).
(13) كشف الخدر عن أمر الخضر؛ لملا علي القاري الهروي (ت 1014 هـ).
(14) القول المقبول في الخضر: هل هو نبي أم ملك أم رسول؛ لأحمد بن محمد بن علي المعروف بالغنيمي
(ت 1034 هـ).
(15) القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال؛ لنوح بن مصطفى الحنفي (ت 1070 هـ).