تنوير الحلك في إمكان رؤية النبيِّ والملك
(عرض ونقد)
للإمام جلال الدين السيوطي
تمهيد/ هذا الكتاب هو جزء من كتاب "الحاوي للفتاوي" للإمام السيوطي، ويقع في "الجزء الثاني" من الفتاوى الصُّوفية، في القسم الثالث منها، والذي يتناول فيه إمكان رؤية الأنبياء على الحقيقة، وسماه "تنوير الحلك" أي إضاءة السواد "في إمكان رؤية النيِّ والملك"، حيث يعتقد السيوطي رحمه الله (ت 911 هـ) إمكان رؤية الأنبياء حقيقةً يقظةً رأي العين في الحياة الدنيوية.
وهذا الكتاب وقع جواباً عن سؤال ورد للسيوطيُّ، ونصُّه: "قد كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي - صلى الله عليه وسلم -في اليقظة، وإن طائفة من أهل العصر … بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه وادعوا أنه مستحيل، فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها: تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك".
وكانت خلاصة جواب السيوطي: أن الأنبياء أحياءٌ بأرواحهم وأجسامهم، وهم موجودن بين الناس في الدنيا على هيئتهم التي كانوا عليها، غير أنَّهم مُغيَّبون عن الأبصار كالملائكة تماماً، كما أن لهم القدرة على جميع التصرُّفات من الكلام والأخذ والإعطاء والأمر والنهي، كما أنهم يسيرون في جميع أقطار الأرض والسماء، فيحضرون جنائز الصالحين، ويُسلمون عليهم، وكما أنهم يظهرون لمن أراد الله عز وجل إكرامه من الأولياء !! وذلك برفع الحجاب عن الرائي فيراه بهيئته على الحقيقة.
ولا شكَّ أن هذا القول باطلٌ جملةً وتفصيلاً، فالأنبياء عليهم السلام في عالمٍ غيبيٍّ يختلف عن عالمنا؛ ولهم حياتهم البرزخية الخاصة التي تختلف عن حياتنا؛ فلا يمكن لأحدٍ من الناس -كائناً من كان -أن يراهم في اليقظة؛ وحيث أجمعت الأمة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وكذلك الأنبياء قبله ماتوا، وقد قال الله تعالى مخبراً عن موت النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، وأخبر عن موت الأنبياء قبله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} /الأنبياء: 34/. وكذلك فإنه لا بعث للأموات قبل يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} /المؤمنون:15-16/.
وروى البخاريُّ في صحيحه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الْأُولَى).
فيفهم من هذا النقل أن الرسول هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولم يثبت أن الأرض تنشق له قبل يوم القيامة، أو أنه يخرج من قبره ويسير في الأرض، وهذا يوضح بطلان عقيدة "الرجعة" التي يؤمن بها الصُّوفية وتابعهم عليها السيوطيُّ وبعض الفضلاء الذي أخطأوا الطريق !.
قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": واتفقوا أن محمداً عليه السلام وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس. فمن يزعم أنه قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة؛ فإنه يكون قد ادعى أنه أحد صحابته صلى الله عليه وسلم، ويلزم من هذا عدم انقطاع الوحي، وأن الشريعة غير كاملة بدليل أن الوحي ما زال يتنزل بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرى يقظة، وهذه الأمور إنما تلزم على إمكانية رسول الله يرى يقظة.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "الفتح": وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع – يعني الرؤية – بعيني الرأس حقيقة .
وزعم أبو محمد ابن أبي جمرة (ت 675 هـ)، أن رؤيا الأنبياء يقظةً حاصلٌ، وأنه من كرامات الأولياء، وردَّ عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح"؛ فقال: وهذا مُشكلٌ جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة.
وأجاب عليه السيوطيُّ بقوله: إنها رؤيا في عالم الملكوت؛ فلا تُعد صُحبة!! وهذا جوابٌ ضعيف.
وهو قول ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) في "الفتاوى الحديثية"؛ حيث يقول: "أنكر ذَلِك جمَاعَة وجوّزه آخرون وهو الْحق، فقد أخبر بذلك من لقيتهم من الصَّالِحين". ولعل الهيتمي -رحمه الله نقل هذه الأوهام والخيالات عن بعض من ليس عنده علم شرعي ولا عقل ناضج فراح يتخيل ويتصور وجود ما لا حقيقة له!.
ويرى فريقٌ من الأشاعرة أن هذه الرؤيا هي رؤيا مثال لا رؤيا حقيقية، مع إمكان سماع كلام النبيِّ ومخاطبته، وأن هذه الرؤيا تتمُّ للرائي عند دخوله في عالم البرزخ عن طريق حالةٍ وجدانية يصل إليها الرائي فيدخل في جذبةٍ أو خطفةٍ أو غيبة، وأن ما يراه هو مثالٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صفته المعلومة، لا أنه يرى ذاته الحقيقية.
ولا شكَّ أن ما ادَّعاه الفريقان كلامٌ مبتذل، وخرافة لا أصل لها في الشرع ولا في واقع الحال، وقد وقعت للصحابة رضوان الله عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده بينهم، فَلِمَ لمْ يظهر لهم ليفصل بينهم ،وينهي ذلك النزاع القائم بينهم ويمنعهم من الاختلاف والاقتتال !!
ولم يصلنا عن الصحابة الكرام، ولا عمَّن بعدهم من التابعين من القرون الثلاثة المفضلة أن واحداً منهم رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقظةً بعيني رأسه، وهذه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ حزنها على أبيها؛ حتّى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاورٌ لقبره الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه، ولم يحصل ذلك مع أبي بكر أيام الردة، ولا مع عمر أيام القحط والجوع، ولا مع عثمان أيام الفتنة، ولا مع عليٍّ أيام صفِّين والجمل. ذكر معناه السخاويّ، كما نقله عنه القسطلاني في "المواهب".
وحجة كلا الفريقين في هذا الباب إنما هي حكايات وقصص مخترعة، لا تمتُّ إلى الحقيقة بصلة، بل هي من كلام أهل التخييل والجنون، فادِّعاء رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته أمرٌ باطلٌ كذب؛ وعلامات الكذب والوضع على تلك القصص ظاهرةٌ جداً.
وقد حشا الإمام السيوطي كتابه هذا بالخرافات والبدع والأباطيل التي تمجُّها الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ويترفع عن تصديقها العقلاء فضلاً عن أهل العلم والدين والشرف، وتجد فيها من الدعاوي العريضة التي يتنزه عنها الجناب النبوي الكريم، ومما ذكره السيوطي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يكتب مناشر لتعيين الأولياء في الأرض؟!!
وحكي السيوطيُّ عن بعض الأولياء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يحضر مجلس بعض الفقهاء ليُصحح ويُضعف له الحديث، وأن آخر يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة سبع عشرة مرة !! وذكر عن بعضهم أنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في كل ساعة؛ حتى لا تكاد ساعة إلا ويخبر عنه !! ويذكر عن آخر أنه يُصلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مكة بعد وفاته بأكثر من ستة قرون !! وهذه قصص لا يكاد ينقضي منها العجب !!.
بل قد يصل الأمر ببعض المتصوفة إلى الكفر -والعياذ بالله تعالى، ومن ذلك قول بعضهم في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نظر فإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي جميعها مملوءة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم !!
ولا عجب أن نجد مثل هذه القصص المفتراة والمخترعة في كتاب السيوطي، وهي تُنقل عن مثل اليافعي في "روض الرياحين"، وعن مثل أبي اللطائف بن فارس في "المنح الإلهية في مناقب الوفائية"، وعن محمد بن النعمان في "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" لمحمد بن النعمان؛ وعن إسماعيل بن ياطيس في "مزيل الشبهات في إثبات الكرامات"، فإنها محشوَّةٌ كذباً وافتراءً.
ومع قطعنا بكون هذه القصة محض خرافة، إلا أن غرضها واضحٌ جداً من تفضيل علوم التخريف والدجل على علوم الفقه والدين، ولمثل هذه القصص أثرها البالغ على الجُهَّال من العوام والسُّوقة الذين لا يعرفون حقيقة هؤلاء الكذبة من أدعياء الولاية والمعرفة.
وكثيرٌ ممن يدعي رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة تجد في عبارته غموض والتباس وارتباكٌ لأنه يعلم كذبه وعدم ضبطه لذلك الخيال، ولا يدري ذلك المُدَّعي هل رآه في اليقظة أو رآه في المنام أو رآه بين بين!! وغالب كلام هؤلاء إنما هو مبنيٌّ على الكذب والبهتان، لا على اليقين وأهل الحق والعرفان.
وبالجملة: لا يمكن لعاقلٍ أن يجد روايةً صحيحة متصلة عمن يوثق به يُثبت به هذا الأمر، وقد يبدو للرائي خيالاً، أو نوراً فيظنُّه الرسول، وقد يُلبِّس عليه الشيطان ذلك؛ وهذا القول يُدرك بطلانه ببدائه العقول؛ لا سيما من يدَّعي خروجه من القبر ومشيه في الأسواق، وحضوره الموالد والجنائز، ومخاطبتهم، لأن هذا يقتضي خلو قبره منه. وقد أشار إلى ذلك الإمام القرطبي في كلامٍ قريب سيأتي.
والقصص في رؤيا النبيِّ لدى بعض الطرقية والمخرفين مثل شرب الماء، فما أسهل عليهم رواية تلك القصص التي تؤيد بدعهم وبهتانهم؛ ومن ذلك ما ذكره السيوطي عن أبي عبد الله القرشي أنه لقي خليل الله إبراهيم عليه السلام عند قبره!! ونقل ابن الملقن في "طبقات الأولياء" عن الجيلاني أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ورأى بعده عليَّ بن أبي طالب يحضر مجلسه !! ويُروى مثل ذلك عن الشاذلي! ومحمد بن عمر القرطبي "شيخ القسطلاني"!!.
معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:
(فسيراني في اليقظة)
وقد حاول السيوطيُّ ومن وافقه من العلماء التدليل على ذلك بحديث الصحيحين: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)، مؤيداً تلك القولة بما يدعيه أرباب الأحوال من المتصوفة والخرافيين، واصفاً من بالغ في إنكارها بأنه "لا قدم لهم في العلم!!"، وما أورده -رحمه الله -من حكايا وقصص في هذا الكتاب لا دليل عليها من الشرع ولا مستند لها في الواقع، بل لا توجد إلا في أذهان المخرفين من الأدعياء، من أرباب البطالة والجهالة.
وأصحُّ ما يُجاب به على هذه الدعوى الباطلة التي أطلقها الإمام السيوطي، وتبعه عليها بعض أبناء عصره، هو ما قاله الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله (ت 1349 هـ) في كتابه "الصواعق المرسلة الشهابيَّة":
"والجواب أن يُقال: هذا الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"، وأبو داود في "سننه" لا يدل على أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم يرى يقظة في الدنيا كما كان يرى حياً قبل أن يموت، وكذلك ليس بصريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ قبره الحياة المعهودة في الدنيا، ولا فيه دلالة على جواز التوسل به فضلاً عن أن يُدعى ويستغاث به ويرجى في كشف الشدائد والمهمات… قال في السراج الوهاج على قوله: (فسيراني في اليقظة): أي سيراني يوم القيامة رؤيا خاصة في القرب منه؛ أو من رآني في المنام ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة إليَّ والتشرف بلقائي ويكون الله جعل رؤيته في المنام علماً على رؤياه في اليقظة.
وقال النووي في "شرح مسلم": معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فسيراني في اليقظة)، "فيه أقوال: (أحدها): أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً. (وثانيها): أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته . (وثالثها): أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك".
ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ ابن حجر ؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم، وما أنكره الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
وقال في "المصابيح": وعلى الأول (أي الرؤية الخاصة في القرب) ففيه بشارة لرائيه بأنه يموت على الإسلام وكفى بها بشارة، وذلك أنه لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب منه إلا من تحقق منه الوفاة على الإسلام، أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي.
قال العلماء: إن كان الواقع في نفس الأمر "فكأنما رآني" فهو كقوله (فقد رآني)؛ أو (فقد رأى الحق)؛ وإن كان سيراني في اليقظة ففيه أقوال وسيأتي تفسيره: أحدها المراد به أهل عصره. الثاني: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة. الثالث: يراه في الآخرة رؤيا خاصة في القرب منه وحول شفاعته ونحو ذلك والله أعلم.
فغاية ما في هذا الحديث أن من رآه في المنام فسيراه في اليقظة في الآخرة رؤيا خاصة باعتبار القرب منه أو يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة، وليس فيه أنه حيٌّ في قبره كحياته في الدنيا لا تصريحاً ولا تلويحاً؛ وإنما هذه الدعوى المجردة من الدليل من تصرف هؤلاء الغلاة؛ واعتقادهم الباطل المخالف لكتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها.
وما ذكره الشيخ سليمان بن سحمان هو ما جزم به المحققون من أهل العلم بأن هذه الرؤيا غير ممكنة في دار الدنيا، وأولوا ما ورد مما ظاهره إمكانها، لأنه يلزم عليها لوازم باطلة، وقد اشتد إنكار القرطبي على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة، وقد نقل الحافظ ابن حجر قول القرطبي في كتابه "الفتح"؛ وأجاب عليه بقوله: "وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل".
وقال الحافظ ابن حجر بعد سياق كلام العلماء على مدلول هذا الحديث: والحاصل (يعني من كلام العلماء) على هذا الحديث ستة:
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: "فكأنما رآني في اليقظة".
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
ثالثها: أنه خاصٌّ بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك؛ وهذا من أبعد المحامل.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية (لأن كل أمته يرونه يوم القيامة، من رآه منهم ومن لم يره) لا أنها رؤية مطلقة من يراه حينئذ ومن لم يره في المنام.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه؛ وفيه ما تقدم من الإشكال… وقد بيَّن الحافظ ابن حجر هذا الإشكال في "الفتح" عند كلامه على هذا الحديث؛ فقال: "وهذا مشكل جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف..".
وقال الخادمي في بريقة محمودية:" رؤية شخصه صلى الله عليه وسلم بعين الرأس بعد موته، ورؤيته تعالى في الدنيا بعين الرأس غير ممكن، والأول: عقلي، إذ الموتى ما داموا كذلك لا يتصور منهم ذلك ..".
وإذا كان الأمر كذلك؛ لم يبق إلا أن يحمل ما ورد في الحديث على معنى غير المعنى المتبادر، وقد حمله العلماء على محامل نرى أن أقربها إلى الصواب هو أن المقصود التشبيه والتمثيل.
ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرجها مسلم: (فكأنما رآني في اليقظة). ومنهم من قال: إن المراد هو أن من رآه في المنام؛ فإن رؤياه رؤيا صادقة، سيرى في اليقظة تأويلها بطريقة الحقيقة أو التعبير. ومنهم من حمل الحديث على أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه ومنهم من أوله بأن المراد أن يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.
رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام
-أما رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام فإنها ممكنة شرعاً وعقلاً، لكن لا يُقال لأحد إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه إلا لمن رآه على صورته المعروف بها التي جاءت بها الأخبار، قال البخاري بعد الحديث السابق : قال ابن سيرين: إذا رآه على صورته.
وقال ابن حجر في الفتح: "وقد رويناه موصولاً .. عن أيوب قال: كان محمد -يعني ابن سيرين - إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصفه له صفة لا يعرفها، قال لم تره" وسنده صحيح.
وأخرج الحاكم -بإسنادٍ جيِّد -من طريق عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي قال: قلت لابن عباس: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي قال: ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته".
النتائج السلوكية والعقديَّة الخطيرة المترتبة
على دعوى رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة
ويعتقد الصُّوفية عموماً أنه بإمكانهم رؤية الأنبياء يقظةً رؤيا عين كما سمعتُ بعضهم يُحدِّث بذلك هنا في بعض الزويا، وكذلك الديوبندية في "الهند" يعتقدون ذلك، تبعاً لتقرير التفتازاني "الماتريدي"، حيث ادعى رؤيته النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنه تفل في فيه فتضلع علماً ونوراً !!.
ويترتب على هذه المقولة الباطلة نتائج خطيرة، ما أنزل الله بها من سلطان، ليس أقلها تعلق قلوب الرعاع والمرتزقة من مشايخ الطرق بترهات وشركيات وتوسلات واستغاثات بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل تعدى الحال بهم إلى حد اعتقادهم الرجعة إلى الدنيا لمشايخهم، كما اعتقدوا في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنهم في حياتهم الدنيوية الجديدة يملكون القدرة على الإغاثة، والضر والنفع من دون الله، بل وجعلوا التصرف المطلق في الكون كله لهم، فأضفوا عليهم من القداسة ما لا يجوز أن يكون إلا لله عز وجل.
الجواب على دعوى المتصوفة أن هذه المسألة
ممكنة في العقل، وإن لم يأتِ بها الشرع
ويرى بعض المتصوفة أن هذه المسألة ليست من المسائل التشريعية التي ينبني عليها حكم شرعي من ثبوت الصحبة له صلى الله عليه وسلم، ولكنها من المسائل الواقعية التي تحدث لآحاد الناس على سبيل الكرامة! ويُقرر ذلك من طريق العقل بأن رؤيته صلى الله عليه وسلم أمرٌ ممكن عقلاً، وأنه كشفٌ يحصل للولي لا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يكون في مكانين في وقتٍ واحد!
ولكن طريق إثبات هذا الأمر لا يؤخذ بطريق العقل؛ لأن كثيراً من الممكنات العقلية لم يأتِ الشرع بإثباتها، لكونها من الأمور الغيبية، فلا تثبت إلا بالوحي الذي طريقه الشرع، ولم يأتِ في الكتاب ولا في السُّنة ما يُثبت هذا الأمر، بل ولم يأتِ أن أحداً من الصحابة أخبر بذلك، بالإضافة إلى كون هذا الأمر متعلق لديهم بإثبات حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها حياةً حقيقة مماثلة للتي في الدنيا، وهذا أمرٌ دونه خرط القتاد.
دعوى بعض الأشاعرة والمتصوفة أنَّ هذه الرؤيا
إنما هي رؤيا مثال لا رؤيا حقيقة
وقال بعضهم: إنها رؤيا مثال وصورة لا رؤيا حقيقية، بمعنى أن الرائي لشدة تعلُّقه وحبه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يتخيل صورة النبيِّ؛ فتتراءى له كأنها رؤيا عين، ولم يكن بذلك رائياً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) في "المنقذ"، وهو ما اعتمده التقيُّ السُّبكي (ت 756 هـ)، وإليه أشار الفقيه ابن الحاج (ت 737 هـ) في "المدخل".
وهذا القول يبطل دعوى السيوطي ومن تبعه في إمكان رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقظةً، ولا يرد على هذا أن رؤية المثال تدعو إلى إمكان رؤية الذات حقيقة في دار الدنيا، للفرق الكبير بينهما.
ولكن بعد أن أشبع السيوطيُّ رسالته بكلام هؤلاء "المثاليين" نجده يُخالفهم، بقوله: "لا مانع من ذلك -أي الرؤية على وجه الحقيقة في اليقظة -ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال". وقد بينا بطلان قول السيوطي رحمه الله وأن هذا الأمر مُتوهَّم لا يمكن أن يوجد في الخارج.
التعليق على قصّة تقبيل الرفاعي ليد النبيِّ صلى الله عليه وسلم
ولا شكَّ أن أعذب القصص أكذبها، وحيث يروي الصوفيون قصة خيالية، يذكرون فيها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدّ يده للرفاعي؛ فقبلها الرفاعي ! وأقل من ذلك ما ذكره السيوطي عن نور الدين الإنجي أنه سمع سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من داخل القبر! وكذلك الأمر مع أبي بكر الدياربكري.
وأما قصة الرفاعي؛ فذكرها النبهاني في كتابه "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق"، وذكرها السيوطيُّ أيضاً في كتابه هذا حيث زعم: أن أحمد الرفاعي لما جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قام مقابل القبر، وأنشد هذين البيتين:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت... فامدد يمينك كى تحظى بها شفتي
فزعموا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدَّ يده من قبره؛ فقبلها الرفاعي!! وقد شاهد هذه القصة جمعٌ يقارب 90000 شخص!! ولا شكَّ أن هذه القصة من الكذب الظاهر، الذي لا يحتاج إلى تعليق.
ولا شكَّ أن هذه فرية ما فيها مرية، فما أسهل أن يفتري المفترون، ويكذب الكاذبون، وفي المقابل ما أسهل أن تنهار شُبه الباطل أمام دعوة الحق، وقد تصدى للرد على هذه الفرية الإمام العلامة محمود شكري اللألوسي في كتابه النفيس "غاية الأماني في الرد على النبهاني" وقد بيَّن فيه كذب وقوعها أصلاً، وبطلانها من خمسة أوجه، وهي:
(1) أن هذه القصة لم يذكرها أحدٌ ممن ترجم للرفاعي؛ إذ لو كانت ثابتةً لما خفيت عليهم، ولذكروها وعدوها أعظم مناقبه وأكبر مفاخره، حتى السُّبكي الذي يُعد من أبرز المتعصبين للمتصوفة، ولا سيما من كان على مذهبه ونحلته الأشعرية، لم يذكر هذه القصة في ترجمة الرفاعي المذكور، ولو صحَّت -وهي طبعاً لم تصح ولن تصح -لعُدت غرة وجه مناقبه، إذ لو صحت لكانت أحق بالذكر من جميع ما ذكره المتصوفة، فلما لم يذكروها علمنا أنها من اختراع أفّاكٍ أثيم.
(2) أن أحسن من روها وأسندها هو السيوطيُّ؛ حيث أسندها إلى بعض المجاميع، ولم يذكر لها سنداً لا صحيحاً ولا وهياً، مع أن حاله في الرواية معلوم، وهذه القصة لو صحت لتوافرت الدواعي على نقلها، لأنها حادثٌ عظيم، وخارقٌ عجيب، ولم نجد من ذكرها إلا الدجالون والمضلون.
(3) أن رواة هذه الأكذوبة ادعوا أن من حضر القصة وشاهد مدَّ اليد، وسمعوا ردَّ السلام نحو مائة ألف أو يزيدون، وهذا من أكبر شواهد هذا الكذب والبهتان، فأين المحل الذي يسع هذا الجمع الغفير في المسجد، وكلهم يُشاهد ويسمع، فمثل هذه الفرية لا تروج إلا على ضعفاء العقول.
(4) أن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين المذكورين إلى غير أحمد الرفاعي، كما فعل صلاح الدين الصفدي الذي عزاها إلى ابن الفارض، وأنه قالها للسهروردي حين اجتماعه به في مكة. وكذا فعل الشهاب الخفاجي الشافعي في كتابه "طراز المجالس".
(5) أن أحمد الرفاعي قد نقل عنه الرواة الثقات خلاف ما يدعيه من انتمى إليه من المبتدعة والفساق، وأنه لم يزل على النهج المستقيم؛ فحسن الظن به يقتضي عدم مخالفته للسنة!!
وهذا هو حال هذه الأكذوبة وأمثالها.
وفي إبطال القول برؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه بعد وفاته، يقول الإمام الألوسي: "ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نُسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه؛ لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وإلى أبي بكر وعلي ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادّعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره".
وبهذا يتضح بطلان هذه الدعوى التي يترتيب على القول بها خطرٌ عظيم، فهؤلاء أرباب الموالد في ليلتهم المزعومة يُمارسون الطقوس الشيطانية، ويزعمون حضور الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مجلسهم، فيقومون له بزعمهم، وربما ادَّعى بعضهم رؤيته ومشافهته، ومصافحته، كل ذلك بعد هذيانٍ محموم بنباحٍ قبيح، يهون معه نيح الكلاب، في بدعٍ لا حصر لها، وممارسات لا ضابط لها، واعتقادات لا مستند لها، إلا وساوس الشيطان، ودعاوى المرتزقة من أدعياء العلم، الذين ضربوا فيه بأطناب الخزعبلات المضحكة، والضلالات المهلكة، نسأل الله العفو والعافية.
ضوابط العمل بالرؤية المنامية
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم
ومن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته المعروف بها، وزعم أنه أعطاه وِرْداً أو أمره بأمر أو نهاه عنه، فينظر فيه:
(1) فإن كان مما ثبت بالشرع وجاء به الكتاب والسنة فالالتزام به التزام بالشرع وبما جاء به، والرؤيا تأنيس للرائي، وبشارة له، وحث له على ذلك الخير المشروع.
(2) وإن كان مما لم يثبت بالشرع فلا يكون حجة، ولا يثبت به حكم شرعي، ولا شعيرة تعبدية، فإن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قد كمل، والدين قد تم، ولم يرد دليل على أن من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام بعد موته وأمره بأمر أو نهاه عن أمر يكون ذلك دليلا وحجة، بل قبضه الله إليه بعد أن أكمل لهذه الأمة ما شرع، وبعد أن أمرهم بالتمسك به ، وعدم الأخذ بغيره ، ونهاهم عن الإحداث والابتداع فيه.
ذكر بعض الروايات التي ذكرها السيوطي
في كتابه هذا -والتعليق عليها
أ- نقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر في "الفتح"، قال: وذكر ابن أبي جمرة، عن بن عباس أو غيره: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فبقي بعد أن استيقظ متفكراً في هذا الحديث؛ فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها فرأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه!.
هكذا ذكره من غير إسنادٍ، ومثل هذا لا يُعوَّلُ عليه، وأما حديث: (مَن رآني في المنامِ فقد رآني؛ فإنِّي أُرى في كلِّ صورةٍ)؛ فقد ضعفه الحافظ أن حجر في "الفتح"، وقال: "في إسناده صالح مولى التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه وهو من راوية من سمع منه بعد الاختلاط"، وضعفه القسطلاني في "المواهب اللدنية"، والعيني في "عمدة القاري"، والسخاوي في "الأجوبة المرضية"، وقد أخرجه الديلي في "الفردوس".
ب- قال السيوطيُّ نقلاً عن ابن حجر في "الفتح": ونقل عن جماعة من الصالحين -وقد حرفها السيوطي إلى "ذكر السَّلف والخلف" -أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مشكل جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. ويعكر عليه أن جمعا جماً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف. وبذلك يظهر بطلان دعوى السيوطي من إمكان رؤية الأنبياء في اليقظة.
قال السيوطيُّ رحمه الله: ومراده بقوله (من رآني في المنام فسيراني في اليقطة) وقوع الرؤية الموعود بها في اليقظة على الرؤية في المنام ولو مرة واحدة تحقيقاً لوعده الشريف الذي لا يخلف، وأكثر ما يقع ذلك للعامة قُبيل الموت عند الاحتضار، فلا يخرج روحه من جسده حتى يراه وفاءً بوعده، وأما غيرهم فتحصل لهم الرؤية في طول حياتهم إما كثيراً وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، والإخلال بالسنة مانعٌ كبير من الرؤية.
ج- وفي حديث ابن عباس: «سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بين مكة والمدينة فمررنا بواد؛ فقال: أي واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية ماراً بهذا الوادي ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، قال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف ماراً بهذا الوادي ملبياً».
والجواب: أن هذا الإخبارُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما هو إلَّا إخبارٌ عن أفعالِ الأنبياءِ في حياتِهم وسابِقِ أيَّامِهم، وحَكَاهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أَعْلَمَهُ اللهُ مِن أخْبارِهِمْ. وليس فيه دليل على أن الأنبياء يخرجون من قبورهم، ليفعلوا هذه الأمور كما حاول السيوطيُّ صرف هذا الحديث لذلك المعنى البعيد.
إمكان رؤية المؤمنين للملائكة عند تشكلهم
بصور الآدميين، لا بصورهم الحقيقية
وقد ثبت بالدليل إمكان رؤية المؤمنين للملائكة الكرام عليهم السلام، متشكلين على هيئة بشرية وأما صورهم الحقيقية فلا يراها إلا الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة كانت تُصافح عمران بن الحصين: وتُسلم عليه ثلاثين سنة، كما أخبر بذلك مُطرِّفٌ عنه. ثم لما اكتوى تركت الملائكة السلام عليه، قال السيوطيُّ: فانظر كيف حجب عمران عن سماع تسليم الملائكة، لكونه اكتوى مع شدة الضرورة الداعية إلى ذلك؛ لأن الكي خلاف السنة ! وقال البيهقي في "شعب الإيمان": لو كان النهي عن الكي على طريق التحريم لم يكتو عمران مع علمه بالنهي، غير أنه ركب المكروه ففارقه ملك كان يسلم عليه فحزن على ذلك، ثم قد روي أنه عاد إليه قبل موته.
وثبت ذلك لسعد بن أبي وقاص، الذي رأى عن يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ملكاً، وعن شماله ملكاً يوم أحد، وكانا يُقاتلان حوله، وكذلك لرجل من الأنصار رأى جبريل على صورة رجلٍ يُخاطبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وممن يُروى عنه أنه رأى جبريل أو سمعه: تميم بن سلمة، وحارثة بن النعمان، وعبد الله بن عباس، وأبو بكر، وحذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأُسيد بن حضير، وأبو أُسيد الساعدي،