أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 21 ديسمبر 2020

حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم -للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي

 حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم 


للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي 

(384 -458 هـ)


تحقيق: د. أحمد بن عطيَّة الغامديّ

الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة


إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ لا شك أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تثبت ذلك، ولكن حقيقة الحياة التي يقول بها أهل السنة والجماعة غير التي يقول بها أهل البدع والضلال، فحياة الأنبياء هي حياة برزخية خاصة، وليست هي الحياة المعهودة كالتي تكون في الدُّنيا؛ لأنها لو كانت كحياتهم في الدنيا حقيقةً لأدى ذلك إلى ثبوت جميع لوازمها ومقتضياتها من أعمال وتكليف وعبادة، وكلام، وحركة، فيجيب من يسمعه، ويردُّ على من سأله، ويُصافح من مدَّ يده إليه، وغير ذلك من اللوازم الباطلة، وحيث انتفت حقيقة هذه الحياة الدنيوية بانتفاء لوازمها، فإنه يثبت الانتقال من هذه الحياة الدنيوية إلى تلك الحياة البرزخية. 

وهذا الكتاب وضعه الإمام البيهقيِّ رحمه الله من أجل إثبات حياة الأنبياء في قبورهم، وأنها حياةً حقيقية تُماثل حياتهم في الدنيا، وهو بذلك يُخالف مذهب أهل السُّنة والجماعة في حقيقة الحياة التي اختصَّ بها الأنبياء عليهم السلام، ولا شكَّ أن تصور الإمام البيهقي لحياة الأنبياء خاطئ بطبيعة الحال، لأنه لا يتسق مع الفهم الصحيح للأدلة؛ ولأنَّ الأدلة التي أوردها لا تدلُّ على ما ذهب إليه، وقد ذكر في هذا الكتاب عشرين حديثاً مُسنداً في محاولة لإثبات ذلك. 

ولكنه -رحمه الله -أجمل رأيه في هذه القضية ولم يتوسع فيها، لئلا يقع فيما وقع فيه غيره من التجاوز في الحديث عنها، إلى حدّ إثبات إمكان رؤية بعض الناس للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده ومخاطبته، بل ومصافحته، كما ذهب إليه بعض المبتدعة الذين تمادوا في بدعتهم؛ حتى ارتكسوا في أقبح أنواع الزيغ والضلال.

ولا شكَّ أن أهل الغلو والابتداع قد يتخذون من هذا المؤلَّف طريقاً ينصبون به شراكهم لاصطياد ضعاف النفوس من العوام والرعاع، ويتخذونه عُقداً ينفثون به سمومهم، لتشويه عقيدة الأمة بما يتفق مع أهداف أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين.

وتظهر مخالفة الإمام البيهقيّ رحمه الله، لمذهب السلف في هذه المسألة في مواضع من كتابه هذا وغيره.

فيقول في هذا الكتاب -مثلاً: "فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله عز و جل".

ويقول في موطنٍ آخر عند الحديث عن رؤية نبينا للأنبياء ليلة الإسراء في مواضع مختلفة من السماء والأرض؛ معقباً على ذلك: "وفي كل ذلك دلالة على حياتهم"، يعني وأنهم يتعبدون بين يدي الله تعالى كشأن بقيَّة الأحياء، ويقول في موضعٍ آخر: "على أن الله جل ثناؤه رد إلى الأنبياء عليهم السلام أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء". 

ويقول في كتابه "الاعتقاد": "والأنبياء عليهم السلام بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء".

فحياة الأنبياء في قبورهم هي حياة برزخية، والحياة البرزخية من الغيب الذي أخبرنا الله به، ولم نعلم حقيقته وكنهه، ولذلك وجب علينا الإيمان بحياة الأنبياء على هذا الأساس مع الجزم باختلافها عن حياة الدنيا.

الدافع الذي حدا بالمتكلمين إلى القول بحياة الأنبياء 

في قبورهم حياةً حقيقية كالتي في الدُّنيا

ولعل الدافع الذي أدى بالإمام البيهقي ومن وافقه لهذه المقالة هو الفرار من المأزق الخطير الذي وقع فيه المتكلمون من الأشاعرة؛ حينما ادعوا أن الروح عرضٌ من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين، ولا تقوم بنفسها، بل لا بُد لها من جسمٍ تقوم فيه، فعلى هذا يلزمهم القول بفناء الروح، وقد التزموا بهذا اللازم فعلياً، وقالوا بفنائها، ورتبوا عليه القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس رسولاً الآن، ولكنه كان رسولاً.

يقول الإمام أبو محمد  علي بن أحمد بن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل": "حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم ليس هو الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول ذهب إليه الأشعرية… وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام إلى يوم القيامة، وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً، ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قد فنيت وبطلت، ولا روح الآن عند الله تعالى، وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته".

وقال الإمام ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية": "وهذا القول في النبوة بناء على أصل الجهمية وأفراخهم: أن الروح عَرَضٌ من أعراض البدن كالحياة، وصفات الحي مشروطة بها، فإذا زالت بالموت تبعتها صفاته فزالت بزوالها. ونجا متأخروهم من هذا الإلزام وفروا إلى القول بحياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم، فجعلوا لهم معادًا يختص بهم قبل المعاد الأكبر، إذ لم يمكنهم التصريح بأنهم لم يذوقوا الموت".

وبهذا يتبين لنا أنهم إنما لجأوا إلى القول بحياة الأنبياء بسبب قولهم في الروح، وأنها عرضٌ يفنى، فهروباً من نف نبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي صرح به بعض من اشتهر بالجرأة على الله منهم، قالوا: إن الأنبياء أحياء عند الله؛ لتبقى لهم صفة الرسالة.

وهذا ترقيعٌ سخيف أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله، وردَّ عليه رداً مُفحماً قوياً بقوله في "نونيته": 

- إنّا تحملنا الشهادة بالذي ... قلتم نؤديها لدى الرحمن

- ما عندكم في الأرض قرآن كلا ... م الله حقا يا أولي العدوان

- كلا ولا فوق السموات العلى ... رب يطاع بواجب الشكران

- كلا ولا في القبر أيضاً عندكم ... من مرسل والله عند لسان

- هاتيك عورات ثلاث قد بدت ... منكم فغطوها بلا روغان

- فالروح عندكم من الأعراض قا ... ئمة بجسم الحي كالألوان

- وكذا صفات الحي قائمة به ... مشروطة بحياة ذي الجثمان

- فإذا انتفت تلك الحياة فينتفي ... مشروطها بالعقل والبرهان

- ورسالة المبعوث مشروطة بها ... كصفاته بالعام والإيمان

- فإذا انتفت تلك الحياة فكل ... مشروط بها عدم لذي الأذهان

- ولأجل هذا رام ناصر قولكم ... ترقيعه يا كثرة الخلقان

- قال الرسول بقبره حيّ كما ... قد كان فوق الأرض والرجمان

- من فوقه أطباق ذاك الترب واللبنـ ... ـات قد عرضت على الجدران

- لو كان حياً في الضريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقان

- ما كان تحت الأرض بل من فوقها ... والله هذي سنة الرحمن

- أتراه تحت الأرض حيا ثم لا ... يفتيهم بشرائع الإيمان

- ويريح أمته من الآراء ... والخلف العظيم وسائر البهتان

- أم كان حيا عاجزاً عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفان

- وعن الحراك فما الحياة اللات قد ... أثبتموها أوضحوا ببيان

إلى آخر ما أورده رحمه الله من أبيات تضمَّنت تفنيد دعواهم، وكشف تهافت استدلالهم.

الروح جسمٌ مخلوقٌ قائمٌ بذاته 

ومخالفٌ لماهية البدن

ولا ريب أن القول بأن الروح عرضٌ من الأعراض قولٌ باطل، بل هي جسمٌ مخلوقٌ أبدعه الله عز وجل، وهي مخالفةٌ بالماهية لهذا الجسم المحسوس، يقول الإمام ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله -: "والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسمٌ مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي، خفيف حيٌّ متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار، من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.

والدليل على ذلك قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} /الزمر: 42/ الآية. ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها.

وقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم} /الأنعام: 93/ ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها، ووصفها بالإخراج والخروج، والإخبار بعذابها ذلك اليوم، والإخبار عن مجيئها إلى ربها.

وقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه} /الأنعام: 60/ الآية، ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل، وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت.

وقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} /الفجر: 27 - 29/ الآية، ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضا. 

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر). ففيه وصفه بالقبض، وأن البصر يراه… إلى غير ذلك من الصفات. 

وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة، والشبه الفاسدة، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية.

القول الحق في هذه المسألة هو

أن حياة الأنبياء في قبورهم هي حياة برزخية خاصة

في ضوء ما تقدَّم يتضح لنا أن القول الفضل في هذه المسألة الذي تجتمع عليه الأدلة ويتفق مع العقل، هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء قبله قد جرت عليهم سُنَّة الموت كبقيَّة البشر، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، وقال في سورة الأنبياء: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} /الأنبياء: 34/ .

وقال جل وعلا في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } /آل عمران: 144/؛ فهذا قطعٌ بموتهم، إلا أنه قد وردت أدلَّةٌ أخرى حوى كتاب البيهقيُّ هذا بعضاً منها، تصف الأنبياء بالحياة، فما هي هذه الحياة ؟ هل هي حياة حقيقة كالحياة الدنيوية المعروفة ؟ أم ما هي حقيقتها ؟

صفة حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قبره

وهي حياةٌ برزخية لا كالتي في الدنيا

إن تلك الحياة الوارد ذكرها في نصوص هذا الكتاب إنما هي حياةٌ برزخية، تختلف عن الحياة المعروفة في الدنيا، ويقول العلامة الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله -في كتابه "الصواعق المرسلة الشهابية": "ومن المعلوم أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم حياً في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه؛ ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس والنكاح وغير ذلك؛ بل حياته صلى الله عليه وسلم حياة برزخية وروحه في الرفيق الأعلى؛ وكذلك أرواح الأنبياء؛ والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت؛ فمنها أرواح في أعلا عليين في الملأ الأعلى؛ وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم في المنزلة العليا التي هي الوسيلة".

ويزيد الإمام ابن القيم هذا الأمر وضوحاً مُبيناً الفرق بين الروح وبين ما يعهد من الأجسام المخلوقة، وموضحاً منازلها بعد موتها، وعلاقتها بأبدانها التي فارقتها، والمكانة الخاصة لأرواح الأنبياء؛ فيقول رحمه الله في كتابه "الروح" بعد كلامٍ طويل: "وقد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشرافٌ واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده؛ فإن للروح شأنا آخر: تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام وهي في الملأ الأعلى. 

وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وترد إلى القبر فترد السلام، وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك.

وروح رسول الله في الرفيق الأعلى دائماً، ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه، وقد رأى رسول الله موسى قائماً يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة؛ فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء.

وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق وتسجد لله بين يدي العرش ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان. وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي الله فتسجد له ويقضى فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد الله لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه".

فما ورد من نصوص يُستدل بها على حياة الأنبياء في قبورهم ليس فيها ما يُمكن أن يكون قاطعاً في دلالته على ما ذهب إليه القائلون بأنهم أحياء في قبورهم كحياتهم في الدنيا، وإنما هي كما أسلفنا حياةٌ برزخيَّة خاصة، لأن الروح باقية لا تفنى كما قاله من قال إنها عرض، ولها بالدبن خمسة تعلقات كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه "الروح"، وهي:

 الأول: تعلقها في بطن الأم جنيناً.

الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.

الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.

الرابع: تعلقها به في البرزخ؛ فإنه وإن فارقته وتجردت عنه؛ فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفاتٌ إليه ألبتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المُسلِّم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.

الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل معه البدن موتاً، ولا نوماً، ولا فساداً.

وقد جاء في كتاب الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ميِّتٌ؛ كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} /الزمر: 30/، فإذا صحَّ وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فهل جاء أن الله باعثه في القبر قبل يوم القيامة ؟ والجواب أنه لم يرد ذلك، ولم يثبت شيءٌ من ذلك، لأن القول به يقتضي أن للرسل موتاتٌ ثلاث، ولغيرهم موتتين، وهذا غير صحيح، لأنه عند النفخ في الصور لا يبقى على وجه الأرض أحدٌ إلا مات، والقول بأن الأنبياء أحياءٌ يقتضي أنهم يموتون، وهذا باطلٌ.

وفي بيان ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في "نونيته":

- ولقد أبان الله أن رسوله ... ميت كما قد جاء في القرآن

- أفجاء أن الله باعثه لنا ... في القبر قبل قيامة الأبدان

- أثلاث موتات تكون لرسله ... ولغيرهم من خلقه موتان

- إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ ... في الأرض حيا قط بالبرهان

- أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا ... مات الورى أم هل لكم قولان

- فتكلموا بالعلم لا الدعوى واجيبـ ... ـوا بالدليل فنحن ذو أذهان

وبهذا يتبين بطلان قول من قال بأن حياة الأنبياء الثابتة لهم في قبورهم هي حياةٌ حقيقية كالحياة في الدنيا؛ إذ هذا مصادمةٌ للأدلة التي تدلُّ على موتهم كسائر البشر، فما ثبت لهم إنما هي حياة برزخية خاصة، أكمل حتى من حياة الشهداء.

ذكر الأحاديث مختصرة وبيان حالها

(1)  عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" رواه البيهقي من طريق الحسين بن عرفة، عن المستلم بن سعيد، عن حجاج بن الأسود، عن ثابت، عن أنس.

وهذا إسنادٌ ضعيف، قال البيهقيُّ: "هذا يعد في أفراد الحسن بن قتيبة" يعني المدائني، والحسن بن قتيبة، قال عنه ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به"، وعقّب عليه الذهبيُّ في "الميزان" بقوله: "قلتُ: بل هو هالك، قال الدارقطني في رواية البرقاني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الأزديُّ: واهي الحديث، وقال العقيليُّ :كثير الوهم". وقال الألباني: "وأقرَّه الخافظ في اللسان، وبقية رجال الإسناد ثقات". وقال ابن الملقن في "البدر المنير": فيه الحسن بن قتيبة ضعفوه. وقال الصنعاني في "الإنصاف": طرق هذا الحديث مظلمة. وصحح الألباني متنه في "التوسل"، و"أحكام الجنائز".

والمقصود بالحياة هنا الحياة البرزخية، لا الحياة الدنيوية المعروفة، كما قدَّمنا لذلك.

(2) عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون". رواه البيهقي من طريق يحيى بن أبي بكير، عن المستلم بن سعيد، عن حجاج بن الأسود، عن ثابت، عن أنس.

حديث صحيح، أورده الألباني في "الصحيحة"، وقال: هذا إسنادٌ جيد، رجاله كلهم ثقات غير الأزرق هذا (يعني الراوي عن ابن أبي بكير)، قال الحافظ في التقريب: صدوقٌ يُغرب، ولم يتفرد به بل تابعه عبد الله بن إبراهيم بن الصباح عند أبي نُعيم في "أخبار أصبهان".

وهذا الحديث وما في معناه لا حجة فيه للمبتدعة والقبوريين الذين يقولون بأن الأنبياء أحياء في قبورهم كحياتهم في الدنيا ولا فرق! لأن ما أثبته هذا الحديث وغيره إنما هو الحياة البرزخية، وهي ليست من حياة الدنيا في شيء؛ فيجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها، أو البحث في كيفيتها وتشبيهها بما هو معروفٌ عندنا في الحياة الدنيا.

فهي من الغيب الذي يجب علينا الإيمان به، وعدم الخوض في كنهه إلا بقدر ما أطلعنا الله عليه؛ فالواجب في هذا الصدد الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياةً حقيقية يأكل ويشرب ويُجامع نساءه، والحق هو ما قدمناه من أن هذه الحياة برزخية، لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى.

(3)  عن أنس بن مالك، قال: "الأنبياء في قبورهم أحياء يصلون". رواه البيهقي من طريق مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن عبيد الله بن أبي حميد الهذلي، عن أبي المليح، عن أنس به.

إسنادٌ ضعيفٌ جداً، هكذا رواه موقوفاً، وقد تقدم رفعه، ومؤمل ابن إسماعيل "صدوق سيء الحفظ"، وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي "متروك الحديث"، قاله ابن حجر في التقريب؛ فسنده هالكٌ كما ترى.

(4) عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور". رواه البيهقي عن شيخه أبي عبد الله الحاكم، عن أبي حامد الحسنوي، عن محمد بن العباس الحمصي، عن إسماعيل بن طلحة بن يزيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ثابت، عن أنس.

 وهذا إسنادٌ واهٍ جداً، والحسنوي متهم، وقد ضعف الحاكم، فقال: هو في الجملة غير محتجٍّ بحديثه، وقال الخطيب: لم يكن ثقة، وقال الكشيُّ، وأبو عاضم الأصم: هو كذاب، ومحمد بن العباس الحمصي لا نعرفه، وكذا شيخة إسماعيل بن طلحة لم نجد من تجمه، وابن أبي ليلى سيئ الحفظ.

قال البيهقيُّ: "وهذا إن صح بهذا اللفظ فالمراد به والله أعلم لا يتركون لا يصلون إلا هذا المقدار (يعني أربعين ليلة) ثم يكونون مصلين فيها (أي: في القبور) بين يدي الله عز وجل كما روينا في الحديث الأول، وقد يحتمل أن يكون المراد به رفع أجسادهم مع أرواحهم".

وهذا الحديث الذي فيه أنهم يتركون الصلاة هذا المقدار لا يصح، وإيراد البيهقي له بصيغة التمريض، وقوله في التعليق عليه "إن صح" دليلٌ على أنه يرى تضعيفه، وقد سبق أن قلنا: أن هذه الصلاة تكون في الحياة البرزخية، وأن ذلك لا يقتضي أنهم أحياء على الصفة التي كانوا عليها في الدُّنيا.

(5) وروى سفيان الثوري في "الجامع"؛ فقال قال شيخ لنا، عن سعيد بن المسيب، قال: "ما مكث نبي في قبره أكثر من  أربعين ليلة حتى يرفع".

هذا الأثر أورده السيوطي في "إنباء الأذكياء"، ضمن "الحاوي"، وذكره في "الآلئ المصنوعة"، وعزاه إلى الثوري، في "الجامع الصغير"، وإلى "عبد الرزاق"، وهو ضعيف؛ لجهالة شيخ سفيان عيناً وحالاً.

قال البيهقيُّ رحمه الله: "فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء، ويكونون حيث ينزلهم الله عز وجل".

وهذا غلطٌ منه رحمه الله، والصواب أن حياتهم مغايرة لسائر الأحياء، وإلا فإنه يلزم عليه أموراً باطلة في الحس والشرع والعقل، كما قدَّمنا أعلاه.

 قال: "كما روينا في حديث المعراج وغيره أن النبي رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ثم رآه مع سائر الأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس ثم رآهم في السموات والله تبارك وتعالى فعال لما يريد".

قال: "ولحياة الأنبياء بعد موتهم صلوات الله عليهم شواهد من الأحاديث الصحيحة منها:

(6) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخبره "أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره ". حديث صحيح.

قال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" معلقاً على هذا الحديث: "الله جل وعلا قادرٌ على ما يشاء، ربما يعدُ الشيء لوقت معلوم، ثم يقضي كون بعض ذلك الشيء قبل مجيء ذلك الوقت، كوعده إحياء الموتى يوم القيامة وجعله محدوداً، ثم قضى كون مثله في بعض الأحوال، مثل من ذكره الله وجعله الله جل وعلا في كتابه، حيث يقول: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام} إلى آخر الآية، وكإحياء الله -جل وعلا -لعيسى ابن مريم -صلوات الله عليه- بعض الأموات.

 فلما صح وجود كون هذه الحالة في البشر، إذا أراده الله جل وعلا قبل يوم القيامة، لم ينكر أن الله جل وعلا أحيا موسى في قبره حتى مرَّ عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وذاك أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس، فرآه صلى الله عليه وسلم يدعو في قبره إذ الصلاة دعاء، فلما دخل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس وأسري به، أسري بموسى حتى رآه في السماء السادسة، وجرى بينه وبينه من الكلام ما تقدم ذكرنا له".

قال الدكتور الغامدي: إن حصول مثل هذا الأمر لنبي الله موسى عليه السلام ولغيره من الأنبياء إنما كان معجزةً لنبينا صلى الله عليه وسلم، إلا أن ذلك لا يعني أن أرواحهم رُدت إلى أجسادهم؛ فأصبحوا أحياء كحياتهم الدنيا الفانية، أو أن أجسادهم الطاهرة فارقت أماكنها في قبورهم. ولا يعني أنها رُدت إليهم ثم استمرت في أجسادهم كما يقول أرباب الابتداع، وإنما يعني ذلك كما سبق أن هذه الحياة عبارة عن اتصال للروح بالبدن، عندما يُريد الله ذلك بالكيفية التي يُريدها دون علمٍ منا بكنهها وحقيقتها، ولا يجوز لنا قياس ذلك على ما عرفناه في الدنيا، بل يجب علينا الإيمان بما أخبر به الله وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، مع اعتقادنا أن ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم من حياة موسى وغيره ليس كالحياة الدنيا، بل هي حياة برزخية خاصة أكمل من حياة الشهداء كما أسلفتُ.

(7) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره".  حديث صحيح.

(8) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره" قال البيهقي: "أخرجه أبو الحسين مسلم بن الحجاج"، وهو صحيح. 

(9) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وأنا أخبر  قريشاً عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كرباً ما كُرِبت مثله قط، فرفعه الله عز وجل لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني نفسه، فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائلٌ: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام".

قال البيهقيُّ: أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عبد العزيز، وفي حديث سعيد بن المسيب (عند البخاري) وغيره: "أنه لقيهم في مسجد بيت المقدس"، وفي حديث أبي ذر (عند مسلم) ومالك بن صعصعة (المتفق عليه) في قصة المعراج "أنه لقيهم في جماعة من الأنبياء في السموات وكلمهم وكلموه". قال: وكل ذلك صحيح لا يخالف بعضه فقد يُرى موسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره، ثم يسرى بموسى وغيره إلى بيت المقدس كما أسري بنبينا فيراهم فيه، ثم يعرج بهم إلى السموات كما عرج بنبينا فيراهم فيها؛ كما أخبر. قال: وحلولهم في أوقات بمواضع مختلفات جائزٌ في العقل كما ورد به خبر الصادق وفي كل ذلك دلالة على حياتهم. 

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "الروح": "وأما أخبار النبي عن رؤية الأنبياء ليلة أسرى به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، ورأى موسى قائماً في قبره يصلى، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدماً ضرباً طوالاً كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.

ونازعهم في ذلك آخرون؛ وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعاً، إنما تبعث يوم بعث الأجساد ولم تبعث قبل ذلك؛ إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور وهذه موتة ثالثة وهذا باطلٌ قطعاً. ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم الله إليها، بل كانت في الجنة، وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم (أن الله حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو)، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله.

ومعلوم بالضرورة أن جسده -صلى الله عليه وسلم -في الأرض طريٌّ مُطرّا، وقد سأله الصحابة كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب

وقد صح عنه: (أن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام)، وصح عنه: (أنه خرج بين أبي بكر وعمر، وقال: هكذا نبعث).

هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء، وقد صح عنه: (أنه رأى موسى قائماً يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة؛ فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشرافٌ عليه وتعلقٌ به بحيث يصلى في قبره ويرد سلام من سلم عليه وهي في الرفيق الأعلى.

ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب، وان كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين بينهما غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.

وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن؛ فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره، وهو زمنٌ يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله. 

وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها؛ فإنها في السماء وشعاعها في الأرض.

قال شيخنا (يعني ابن تيمية رحمه الله): وليس هذا مثلاً مطابقاً؛ فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس، والجرم المقابل لها والروح نفسها تصعد وتنزل. 

وأما قول الصحابة للنبي في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا ؟ مع إخباره بسماعهم كلامه فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت رداً يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت؛ فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.

وبكلام ابن القيم رحمه الله يزول كل إشكالٍ متوهَّم، فأجساد الأنبياء في قبورهم، ولأرواحهم اتصالٌ بها، وشأن الروح غير شأن الجسد، فلا قياس، ولا توهم، ولا إشكال بحمد الله.

(10) عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ يقولون بليت! فقال: "إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام". 

قال البيهقيّ: أخرجه  أبو داود السجستاني في كتاب السنن وله شواهد منها". وهذا الحديث صحيح، والأحاديث التي تليه إلى رقم (18) ليس فيها ما يدلُّ على ما أراده البيهقيُّ من الاستدلال على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حياةً حقيقية، وإنما تدلُّ على أن من صلّى عليه من أمته فإن صلاته تبلغه وتُعرض عليه.

وقد أورد "ابن السُّبكي" كلام البيهقي في كتابه "شفاء السُّقام" محتجاً به على حياة الأنبياء في قبورهم، وأجاب عليه الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" وفنَّد دعواه، نذكرها عند التعليق على الحديث الخامس عشر، لتكون ملخصاً لكلامنا حول هذا الكتاب. 

وقد علَّق محمد بن أحمد بن عبد الهادي في "الصارم المنكي" على هذا الحديث بقوله: "فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حِسان تصدق بعضها بعضاً، وهي منفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإنه ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلم بنفسه، إنما فيها إن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به، سواءٌ صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه.

وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يُسَلِّم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان".

ثم قال ابن عبد الهادي رحمه الله رداً على من زعم من الجهال أن ليلة الجمعة ويومها يسمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلاة من صلى عليه؛ فقال: فالقول: بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك السلام تبلغه إياه الملائكة.

وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد ممتنع، فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه، فهذه مكابرة، وإن أراد إنه هو يكون بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد، فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} /الزخرف 80/… وليس أحد من البشر، بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى، الذين يقولون إن المسيح هو الله، وإنه يعلم ما يفعله العباد، ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم

(11) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أكثروا الصلاة علي في يوم الجمعة فإنه ليس يصلي عليَّ أحد يوم الجمعة إلا  عرضت علي صلاته" إسناده ضعيف، وهو حديث صحيح بشواهده.

(12) عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا عليّ من الصلاة في كل يوم جمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة".

أورده المنذري في "الترغيب والترهيب"، وقال: "رواه البيهقي بإسنادٍ حسن، إلا أن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة"، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع".

(13) عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا، من صلى علي مائة مرة في يوم الجمعة وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكاً يدخله في قبري كما يدخل عليكم الهدايا يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيضاء". رواه البيهقي من طريق: حكامة بنت عثمان بن دينار، عن أبيها عثمان بن دينار، عن أخيه مالك بن دينار عن أنس به.

وهذا الحديث باطلٌ لا أصل له، في إسناده عثمان بن دينار أخو مالك بن دينار، قال الذهبيُّ في "الميزان" عنه: لا شيء، وقال في اللسان: ذكره اب حبان في الثقات، وقال: يروي عن أخيه، وعنه بنته حكَّامه، وهي لا شيء.وذكره العقيلي في "الضعفاء الكبير"، وقال: تروي عنه حكَّامه ابنته أحاديث بواطيل، ليس لها أصل، وقال أيضاً: أحاديث حكّامة تُشبه حديث القُصاص، ليس لها أصول.

(14) وفي هذا المعنى الحديث…  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم). وإسناده ضعيف، وهو حديثٌ حسنٌ بشواهده.

وليس في هذا الحديث ما يدلُّ على مشروعية الترغيب في السفر لأجل السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما زعم ذلك بعض المبتدعة، وليس فيه مدح امن يفعل ذلك، ولا ذكر أجر له، وإنما المدح واقعٌ على فعل المأمور به الذي هو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وكل مأمورٍ به شرعاً ففاعله محمودٌ مشكور مأجور، ويستوي في هذا القريب والبعيد، فحيثُ صلى الرجل وسلم فإن ذلك يصله صلى الله عليه وسلم.

(15) وفي هذا المعنى الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام". إسناده حسن.

 قال البيهقيُّ: وإنما أراد والله أعلم إلا وقد رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام. وهذا غلطٌ ظاهر من الإمام البيهقي رحمه الله، وقد أجاب الحافظ ابن عبد الهادي على توجيه البيهقي لمعنى الحديث بكلامٍ نفيس، وذلك ضمن ردِّه على التقي السُّبكي الذي احتجَّ بكلام البيهقي في هذا الباب. قال الإمام ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي"

فصلٌ في جواب الإمام ابن عبد الهادي 

على كلام الإمام البيهقي

قال المعترض "ابن السُّبكي" في "شفاء السُّقام": فإن قيل: ما معنى قوله (إلا رد الله علي روحي؟)، قلت "ابن السبكي": فيه جوابان.

أحدهما: ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي: أن المعنى إلا وقد رد الله علي روحي يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات ودفن رد الله عليه روحه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده صلى الله عليه وسلم.

والثاني: يحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روجه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه.

قال ابن عبد الهادي: هذان الجوابان المذكوران في كل واحد منهما نظر، أما الأول وهو الذي ذكره البيهقي في الجزء الذي جمعه في حياة الأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم؛ فمضمونه رد روحه صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى جسده، واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى المذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله: (إلا رد الله علي روحي) بعد قوله: (ما من أحد يسلم علي يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد).

وليُعلم أن رد الروح (إلى البدن)، وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية، لا تزيل عن الميت اسم الموت.

وقد ثبت في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه في شأن الميت وحاله أن روحه تعاد إلى جسده، مع العلم بأنها غير مستمرة فيه، وأن هذه الإعادة ليس مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي أنواع حياة برزخية، الموت كالحياة البرزخية، وإثبات بعض أنواع  الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) /متفق عليه/ .

وتعلُّق الروح بالبدن واتصالها به يتنوع أنواعاً:

أحدهما: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً.

الثاني: تعلقها به في البرزخ:

والأموات متفاوتون في ذلك؛ فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء.

والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر.

ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزامه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس والشرع والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده صلى الله عليه وسلم على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه.

وقال الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم": وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، ولم يقل أحدٌ أن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قال بأنه يستلزم إثبات حياة نظير الحياة المعهودة".

 وقال الحافظ، أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة"، ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام)، وهو صحيح الإسناد.

قال عبد الحق: ويروى من حديث أبي هريرة موقوفاً، فإن لم يعرفه وسلم رد عليه السلام ويروى من حديث عائشة:ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم، انتهى ما ذكره.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن قدامه الجوهري: حدثنا معن بن عيسى القزاز، حدثنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة أنه قال: "إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام".

هكذا رواه موقوفاً على أبي هريرة، ورواية زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قد قيل: إنها مرسلة، وهي مذكورة في جامع الترمذي، وقد روى عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: زيد بن أسلم لم يسمع من أبي هريرة.

وقال ابن أبي حاتم سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: زيد بن أسلم عن أبي هريرة مرسل أدخل بينه وبينه عطاء بن يسار. 

وقال عبد الرزاق في مصنفه: أنبأنا يحيى بن العلاء، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم قال: "مر أبو هريرة وصاحب له على قبر، فقال أبو هريرة: سلم؛ فقال الرجل: أسلم على قبر، فقال أبو هريرة: "إذا كان رآك في الدنيا يوماً قط إنه ليعرفك الآن". 

ويحيى بن العلاء الرازي شيخ عبد الرزاق لا يحتج بروايته 

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محرز بن عون، حدثنا يحيى بن يمان بن عبد الله زياد بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم، هذا إسناد ضعيف جداً وابن سمعان أحد المتروكين)

وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثني اليسع بن أحمد بن اليسع الدمياطي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام).

 هكذا روي مرفوعاً وهو ضعيف، والمحفوظ موقوف وعبد الرحمن بن زيد بن أسلك لا يحتج به، وقد سقط ذكر أبيه بينه وبين عطاء بن يسار.

وقال أبو أحمد بن عدي في "الكامل": حدثنا محمد بن أبان بن ميمون السراج وأحمد بن محمد بن خالد الرائي، قال: حدثنا يحيى الحماني، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سلموا علي إخوانكم هؤلاء الشهداء، فإنهم يردون عليكم) وهذا لا يثبت وعبد الرحمن بن زيد في طريقه.

وقد روى في هذا الباب آثار كثيرة ولذكرها موضع آخر.

وفي الجملة: رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كان نوع حياة برزخية.

 وقول من زعم أها نظير الحياة المعهودة مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقة الروح للرفيق الأعلى وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن، والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطباق التراب والحجارة ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء.

وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله: (إلا رد الله علي روحي)، بأن معناه إلا وقد رد الله علي روحي، وإن ذلك الرد مستمر وأن الله أحياه قبل يوم النشور وأقره تحت التراب واللبن.

فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى؟ واتخذت بيت تحت الأرض مع البدن، أم في الحال الواحد هي في المكانين؟

وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقاه عنه جماعة المتأخرين والتزموا لأجل اعتقادهم له أمور ظاهرة البطلان، والله الموفق للصواب.

وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا ردٌّ معنوي، فإن الروح مشتغلة بالحضرة الشريفة، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم المسلم عليه التفتت إليه لرد سلامه.

فهذا الجواب فيه نوعٌ من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير مع أنه لا يصح على أصل شيوخه ومتبوعيه في علم الكلام.

فإن الروح ليست عندهم ذاتاً قائمة بنفسها منفصلة عن البدن حتى تكون في الملأ الأعلى والبدن في القبر، بل هي عندهم عرض من أعراض البدن كحياته وقدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته، وحياة البدن مشروطة بها وموته قطع هذه الصفة عنه.

وزعم كثير منهم أن العرض لا يبقى زمانين، فعلى هذا لا تزال الأرواح متجددة فتنعدم روح وتحدث أخرى بدلها، وهذا قول باينوا به سائر العقلاء، كما خالفوا به المعلوم يقيناً من أدلة الشرع، وإنما يجيء هذا على قول جمهور العقلاء سواهم.

وقول أهل السنة من الفقهاء المحدثين وغيرهم أن الروح ذاتٌ قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وإنها تفارق البدن وتصعد وتنزل وتقبض وتنعم وتعذب، وتدخل وتخرج، وتذهب وتجيء، وتُسأل وتُحاسب، ويقبضها الملك ويعرج بها إلى السماء، ويُشيعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنها تحس وتدرك، وتأكل وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام على من سلم عليه وهي مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى.

وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة. 

ولا ريب أن موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تنزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها.

ولم تكن صلاة موسى في قبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة وحلولها في القبر، بل هي في مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي حتى حمله على الصلاة.

وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرم البدن وتقيمه وتؤثر فيه؛ فما الظن بأرواح الأنبياء؟ 

وقد ثبت في الصحيح: (أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش)، وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمة المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها وتشعر بها إذا سلم عليه المسلم.

وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتي بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود، ذكره الحافظ أبو عبد الله بن مندة في كتاب "الروح". 

وروى ابن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" عن ابن لهيعة، حدثني عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "إذا نام الإنسان عرج بنفسه، حتى يؤتى بها إلى العرش فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود".

وروى الإمام أحمد في كتاب "الزهد"، عن الحسن البصري رحمه الله -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وهو ساجد لي) وهذا مرسل.

وقال أبو الطيب: محمد بن حميد الحوراني في "جزئه" الذي رواه تمام عنه: حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الأنطاكي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي حماد القطان، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء عن الأزهري بن عبد الله الأودي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد ولا أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب) هكذا روى مرفوعاً وليس بمحفوظ والمعروف وقفه على علي.

قال ابن مردويه في "تفسيره": حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا جعفر بن محمد، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا بقية، قال: حدثني صفوان بن عمرو قال: حدثني سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: "أتعجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤيا كأخذ باليد، ويرى الرجل رؤيا فلا تكون رؤيا شيئاً".

قال فقال علي: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين لأن الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر: 42).

 فالله تبارك وتعالى يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت في أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله.

وقد رواه ابن منده أيضاً في كتاب "الروح والنفس" من رواية بقية بن الوليد، حدثنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الحضرمي، قال: قال عمر بن الخطاب: "عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون كأخذه باليد، ويرى الشي ءفلا يكون شيئاً، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر: 42).

قال: والأرواح يعرج بها في منامها فما رأت وهي في السماء فهو الحق، وإذا ردت إلى أجسادها نقلتها الشياطين في الهواء وكذبتها، فما رأت في ذلك فهو الباطل، قال فجعل عمر يتعجب من قول علي: قال ابن منده: وهذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، وروي عن أبي الدرداء.

فهذه روح النائم متعلقة ببدنه وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أقصر وقت، فروح النائم مستقرها البلد تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك ولم تفارق البدن فراقاً كلياً. 

وعكسه أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء مستقرها في عليين وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان. انتهى كلام ابن عبد الهادي -رحمه الله

(16) قال البيهقيُّ: وفي هذا المعنى الحديث الذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام".  /حديث صحيح/.

(17) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "ليس أحد من أمة محمد يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه، يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة". 

هذا الحديث منكر، فيه أبو يحيى القتات، وهو ضعيفٌ جداً، وقد ضعفوه، وروى الأثرم عن الإمام أحمد أنه قال: روى إسرائيل عن أبي يحيى القتات أحاديث مناكير جداً كثيرة.

(18) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا أبلغته". أخرجه البيهقي من طريق  أبي عبد الرحمن، عن الاعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.

وهذا الحديث ضعيفٌ جداً، وفيه محمد بن مروان السُّدي ضعفوه، وقال ابن نمير: كذاب. قال البيهقيُّ: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر وقد مضى ما يؤكده ، وأورد ابن الجوزي هذا الخبر في "الموضوعات"، أورده العقيلي في الضعفاء، وقال: لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ، ولا يتابعه عليه من هو دونه. 

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الرد على الإخنائي": فأما ذاك الحديث وإن كان معناه صحيحا فإسناده لا يحتجّ به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السّدي الصغير، عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة بالحديث، وهو عندهم موضوع على الأعمش… وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلّى عليه نائيا ليس فيه أنه يسمع ذلك، كما وجدته منقولا عن هذا المعترض، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف في شيء من الحديث، وإنما يقوله بعض المتأخرين الجهال".

(19) عن سليمان بن سحيم، قال: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم؛ فقلتُ يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: "نعم، وأرد عليهم". 

ومثل هذه المنامات حتى وإن صحَّت عن أصحابها؛ فإنها لا تصلح حجَّةً شرعية للاستدلال لا في أمور العقيدة ولا في غيرها.

(20) عن أبي هريرة، قال: استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود؛ فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلمُ عند ذلك يده فلطم اليهودي! فاشتكى اليهودي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله جل وعز" رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان، ورواه مسلم عن عبد الله بن عبد الرحمن وغيره عن أبي اليمان.

(21) وفي الحديث الثابت عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "لا تفضلوا بين أنبياء الله تعالى فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث أو في أول من بعث؛ فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور  أم بعث قبلي". 

قال البيهقيُّ: وهذ إنما يصح على أن الله جل ثناؤه رد إلى الأنبياء عليهم السلام أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء؛ فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا في من صعق، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار فإن كان موسى عليه السلام ممن استثنى الله عز وجل بقوله {إلا من شاء الله}؛ فإنه عز و جل لا يذهب باستشعاره في تلك الحالة ويحاسبه بصعقة يوم الطور، ويقال إن الشهداء من جملة من استثنى الله عز وجل بقوله: {إلا من شاء الله} وروينا فيه خبراً مرفوعاً، وهو مذكورٌ مع سائر ما قيل في كتاب البعث والنشور وبالله التوفيق.

وهذا الاستدلال ذكره البيهقي بشكلٍ أوضح في كتابه "البعث والنشور" حيث يقول: ووجه هذا الحديث عندي، والله أعلم: أن نبينا -صلى الله عليه وسلم -أخبر عن رؤيته جماعة من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، وإنما يصح ذلك على أن الله -جل ثناؤه- رد إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق، ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه، إلا ذهاب الاستشعار، فإن كان موسى - عليه السلام - ممن استثنى الله بقوله: {إلا من شاء الله}، فإنه - عز وجل - لا يذهب استشعاره في تلك الحالة، ويحاسب بصعقة يوم الطور.

إلا أن ما ذهب إليه البيهقي رحمه الله من القول بأن المراد به النفخة الأولى قولٌ مرجوح، لأن الراجح هو ما ذكره العلماء من أن المراد بالصعقة في هذا الحديث هي الصعقة التي يُصعقها الخلائق يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء بين العباد، ويتجلى لهم، فإنهم يُصعقون جميعاً، وأما موسى صلى الله عليه وسلم فإنه إن كان لم يُصعق معهم يكون قد حوسب بصعقة يوم الطور، حين تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة. ذكر ذلك ابن القيم في "الروح"، وابن حجر في "الفتح".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى": والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات: نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} . ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}. 

وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين؛ فإن الجنة ليس فيها موت ومتناول لغيرهم. ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله؛ فإن الله أطلق في كتابه. 

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى آخذا بساق العرش فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله؟)، وهذه الصعقة قد قيل إنها رابعة وقيل إنها من المذكورات في القرآن. 

وبكل حال: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى هل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله: لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء وأمثال ذلك مما لم يخبر به وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

 آخر كتاب حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 

 والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما