أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 يونيو 2020

رقِصَصٌ لَا حُجَّة للمبتدعة والقبوريين فيها -(11) حديث (بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشايَ هذا)

قِصَصٌ لَا حُجَّة للمبتدعة والقبوريين فيها

(11)  حديث (بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشايَ هذا)

مِن كَلامِ شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله تعالى-

إعداد:

أ. محمَّد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا هو الجزء التاسع من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين، وأهل السِّير، ويستندون إلى بعض القصص المنكرة والحكايات المكذوبة في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال. 

والموضوع الذي نحنُ بصدده: هو حديث "أسألك بحق السائلين عليك"، والرد على من قاس التوسُّل البدعي على قول القائل: أسألك بحق فلان، أو السؤال بحق الرحم.

أولاً: حديث: (أسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحق ممشاي)

* نصُّ الحديث

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (1/ 209):

وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده ([1])، وابن ماجه ([2])، عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك) ([3]).

 *تخريج الحديث:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (1/ 287): والحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وفيه: "بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا". 

رواه أحمد عن وكيع، عن فضيل بن مرزوق ([4])، عن عطية ([5])، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي، هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته".

* بيان ضعف هذا الحديث:

وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم ([6])، وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف ([7]) أيضاً.

* وقال في "الفتاوى" (1/ 340): وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف.

* وعلى فرض صحَّة الحديث: 

1-أن حقَّ السائلين في الحديث هو أن يُثيبهم على أعمالهم:

* قال شيخ الإسلام في "الفتاوى" (1/ 209): فإن كان هذا صحيحاً؛ فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم؛ فالسؤال هنا كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سبباً لإجابة الدعاء.

* وقال في "الفتاوى" (1/ 340): وفي الحديث السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئاً

2-أن الحقَّ الذي سألوه به هو حقٌّ أوجبه الله على نفسه

وقال في "الفتاوى"(1/ 288): ولفظه -أي لفظ الحديث -لا حجة فيه؛ فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حقٌّ أحقَّهُ الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك

ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 64)

وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47). وفي حديث معاذ: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم" أخرجه البخاري، واللفظ له، ومسلم ([8]).

3-أن حقَّ السائلين عليه هو إثباتهم، وهذا فيه سؤال الله بصفاته الفعلية:

          *   قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 341): وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ برضاك من سخطك" ([9])؛ فالإستعاذة بمعافاته التي هي فعله، كالسؤال بإثابته التي هي فعله..

4-أن جملة ذلك الدُّعاء بمنزلة من يدعو الله بعمله الصالح: من المشي إلى المسجد، وبصفة من صفات الله عز وجل: وهي "إجابة السائلين":

قال رحمه الله: وهذا الدُّعاء بمنزلة دعاء الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم؛ فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة، لأن هذه الأعمال أمر الله بها، ووعد الجزاء لأصحابها؛ فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} (النساء: 193)

5-أن العمل الصالح سببٌ مشروعٌ يُسأل الله عز وجل به:

قال في "الفتاوى" (1/ 342): وقد تقدم أن الدعاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح إما أن يكون إقساماً به، أو سبباً به، فإن كان قوله: "بحق السائلين عليك" إقساماً؛ فلا يقسم على الله إلا به، وإن كان سبباً فهو سبب بما جعله هو سبحانه سبباً، وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضاً، وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولا عمل صالح منا.

6-وهو يُشبه قول ابن مسعود الذي كان يقوله في السَّحَر: "اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي ([10]).

ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فأووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ماثبت في الصحيحين ([11]).

 

* الردُّ على من قاس هذا الأمر على السؤال بحقِّ فلان

وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين:

(أحدهما): ما لفلان من الحق عند الله؟

(والثاني): هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة؟ 

أما الأول: فهل لفلان على الله حقٌّ واجب؟ 

على ثلاثة أقوال

1- فمن الناس من يقول: للمخلوق على الخالق حقٌ يُعلم بالعقل، ويَحْرُمُ عليه محرمات بالعقل أيضاً، وقاس المخلوق على الخالق -كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم

2-ومن الناس من يقول: لا حقَّ للمخلوق على الخالق بحال، لكن يَعلمُ ما يفعله به بحكم وعده وخبره -كما يقول ذلك من يقوله -من أتباع جهم والأشعري وغيرهما ممن ينتسب إلى السنة

3-ومنهم من يقول: الحقُّ الثابت للمخلوق هو ما أوجبه الله على نفسه بالشرع: فقد كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقاً لعباده المؤمنين بالنصر والتأييد؛ كما حرَّم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوقٌ عليه، ولا يُقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرَّم على نفسه الظلم

فمن قال: ليس للمخلوق على الخالق حقٌّ يُسأل به:

فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حقٌ بالقياس والاعتبار على خلقه -كما يجب للمخلوق على المخلوق -وهذا كما يظنه جُهَّال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقاً بعبادتهم (يعني من جنس حقِّ المخلوق على المخلوق)

وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل: أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حقٌّ من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق؛ كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنهم مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم أفعل كذا؟ يمنُّ عليه بما يفعله معه وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه

وتخيُّلُ مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه؛ ولهذا بيَّنَ سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق.. 

ومن قال: بل للمخلوق على الله حقٌ يسألُ به

فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه من النَّصر التأييد والمغفرة والاستجابة؛ فإن الله صادق لا يُخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54)، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)

وهذا المُسْتَحِقُّ لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به -يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة أن يُنجز له وعده فهذا مناسب

وأما غير المستحق لهذا الحق من الرحمة والمغفرة؛ فهو إذا سأله بحق ذلك الشخص -لأنه ليس سبباً شرعياً لحصول الإجابة؛ كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤالٌ بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسببٍ يناسب إجابة دعائه

وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر. فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به

فقول المنازع: لا يُسأل بحق الأنبياء؛ فإنه لا حقَّ للمخلوق على الخالق: ممنوع؛ لأن للخلق حقٌّ على الله إذا جاءوا بالأسباب المشروعة

ويقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين

(أحدهما) في حق العباد على الله

(والثاني) في سؤاله بذلك الحق

أما الأول: فلا ريب أن الله تعالى وعد "المطيعين" بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد؛ فهذا مما يجب وقوعه، بحكم الوعد باتفاق المسلمين

وأما المقام الثاني: فإنه يقال: ما بيَّنَ الله ورسوله أنه حقٌ للعباد على الله فهو حقٌّ؛ لكن الكلام في السؤال بذلك؛ فيُقال

1-إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال: حَسُنَ السؤال به كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه

2-وأما إذا قال السائل: "بحق فلان وفلان"؛ فأولئك إذا كان لهم عند الله حقٌ أن لا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم - كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه -فليس في استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله -ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل؛ فإن ذلك استحق ما استحقَّه بما يسرَّه الله له من الإيمان والطاعة. وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك، فليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا

وإن قال (المعترض): السببُ هو شفاعته ودعاؤه؛ فهذا حق إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب

وإن قال (المعترض): السببُ هو مَحبَّتِي له، وإيماني به، وموالاتي له؛ فهذا سبب شرعيٌّ؛ وهو سؤال الله وتوسلٌ إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله، وطاعته لله ورسوله

فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين -تارةً يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته -وهذا أعظم الوسائل -وتارةً يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره -فيُحمَلُ قول القائل: "أسألك بنبيك مُحَمَّد" على أنه أراد: أني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، ونحو ذلك وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع

قيل: من أراد هذا المعنى فهو مُصيبٌ في ذلك بلا نزاع؛ وإذا حُمِلَ -على هذا المعنى -كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف -كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين، وعن الإمام أحمد وغيره كان هذا حسناً

وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع

ولكن كثيراً من العوام يُطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى "المشروع"؛ فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر

وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به (يعني) التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائزٌ بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ

* السؤال بحقِّ الرحم:

قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء: 1).

قال في "الفتاوى" (1/ 339):

1-فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله.

2- وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبارٌ عن سؤالهم. وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه

فإن كان دليلاً على جوازه، فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم -والقسم هنا لا يسوغ -لكن بسبب الرحم (وهو حقٌّ لله أوجبه على عباده)، أي: لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته

قال: ومن هذا الباب ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحقِّ جعفر أعطاه

وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم من الإقسام به، بل هذا من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي

 

           * وقال في "الفتاوى" (1/ 221):

فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره بحق الرحم؟ 

قيل: الرحم توجب على صاحبها حقاً لذي الرحم أن يصلها ويبرَّها -وهذا من العمل الصالح؛ كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (النساء: 1)

وقد رُوِيَ عن علي أنه كان إذا سأله ابن أخيه بحقِّ جعفرٍ أبيه أعطاه لحق جعفر على عليّ

وحقُّ ذي الرحم باقٍ بعد موته؛ كما في الحديث: (أن رجلا قال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال نعم الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما)، فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره



[1])) أخرجه أحمد في مسنده (3 /21) قال: ثنا يزيد، أنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري

[2])) من طريق الفضل بن الموفق أبي الجهم، ثنا فضيل بن مرزوق به (1/ 256) حديث (778). وأورده البوصيري في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/98) وقال: هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية هو العوفي، وفضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده. أقول: ثم ماذا ؟، فإذا اعتقد ابن خزيمة صحته وهو ضعيف، فماذا يغني عنه لا سيما وأنت تعلم أن إسناده مسلسل بالضعفاء ثم إني بحثت عنه في صحيح ابن خزيمة فلم أجده، وأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص 42).

[3])) ضعيف، أخرجه أحمد في مسنده (11156)، وابن ماجه (778)، ضعفه ابن تيمية في الردِّ على البكري (122)، وقال: في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف -وسيأتي كلامه هنا، وقال في مجموع الفتاوى (1/ 228، 340، 369): من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد وهو ضعيف بإجماع أهل العلم ، وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف أيضاً. وضعفه علاء الدين مغلطاي في شرح سنن ابن ماجه (2/ 225)، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (2/ 32)، والنوويُّ في الأذكار (45)، وكذلك ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (152)، وضعيف الجامع (5571)، والتوسُّل (92)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج الطحاوية (295)، وابن باز في التحفة الكريمة (175)، وحسَّنه بعض أهل العلم؛ كالدمياطي في المتجر الرابح (231)، وابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 268)، والعراقي في تخريج الإحياء (1/ 426).

[4])) قال الحافظ: صدوق يهم، ورمى بالتشيع، من السابعة / ي م 4. تقريب (2/ 113).

[5])) هو عطية بن سعد بن جنادة الكوفي، قال الحافظ: "صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعيا مدلساً/ بخ د، ت ق، تقريب (2/ 24)

قال الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1 /37) بعد أن وضح ضعف الحديث توضيحاً علمياً، وردَّ شُبَهَ من أراد أن يقويه: "ثم بدا لي وجهٌ ثالث في تضعيف الحديث، وهو اضطراب عطية أو ابن مرزوق في روايته حيث إنه رواه تارة مرفوعاً كما تقدم، وأخرى موقوفاً على أبي سعيد، كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12 /110/1) عن ابن مرزوق به موقوفاً. وفي رواية البغوي عن ابن فضيل قال: "أحسبه قد رفعه"، وقال ابن أبي حاتم في العلل (2 /184): "موقوف أشبه".

[6])) انظر ترجمته في الميزان (3/ 79 -80).

[7])) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليل" من طريق الوازع بن نافع العقيلي، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والوازع، قال فيه البخاري: "منكر الحديث". الضعفاء (ص 245) وقال النسائي: "متروك". الضعفاء (ص 239). وقال أحمد وابن معين: "ليس بثقة". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ" انظر المغني (2/ 718)، والميزان (4/ 327) ، واللسان (6/ 213).

[8])) أخرجه البخاري (6500)، ومسلم ().

[9])) أخرجه مسلم (٤٨٦)، والترمذي (٣٤٩٣)، وابن ماجه (٣٨٤١)، وأحمد (٢٥٦٩٦) باختلاف يسير، وأبو داود (٨٧٩)، والنسائي (١٧٤٧) واللفظ لهما

[10])) في مختصر قيام الليل، (ص 81). وتفسير ابن جرير (12 /64).

[11])) أخرجه البخاري (٥٩٧٤)، ومسلم (٢٧٤٣) واللفظ له.

السبت، 13 يونيو 2020

قِصَصٌ لَا حُجَّة للمبتدعة والقبوريين فيها

(8) قِصَةُ توسُّل الأعمى بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم

مِن كَلامِ شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله تعالى-

بتعليقات الشَّيخ العَلّامة
ربيع بن هادي عُمير المدخلي


اعتنى به: أ. محمَّد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد هذا هو الجزء الثامن من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين، وأهل السِّير، ويستندون إلى بعض القصص المنكرة والحكايات المكذوبة في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال..



وفي هذا البحث نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يستوعب روايات هذا الحديث، واختلاف ألفاظه، وذكر الزيادات والمتابعات والشواهد المتعلقة به، وبيان شذوذ بعض الروايات بل ونكارتها لفظاً ومعنىً، كما سيأتي.
قلتُ (محمد): وقد وضعت مشجرة لأسانيد الأعمى تقريباً للفهم.

والقصَّة التي نحنُ بصدد ذكرها: هي حديث الأعمى الذي جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتوسَّل بدعائه، وبيان الرواية الصحيحة، ونقد الرواية التي استدلَّ به المبتدعة على التوسُّل البِدعيِّ المُحرَّم.

* أهمية هذا البحث:
1- بيان من أخرج قصة الضرير الذي توسَّل بدعاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم من الأئمة وأصحاب السُّنن: كالبيهقيّ في "الدلائل"، و"الدعوات"، وأحمد في "المسند"، والترمذي وابن ماجه "في السنن"، والنسائي في "الكبرى"، والطبراني في "الكبير"، وابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير"، والحاكم في "المستدرك".

2-بيان اختلاف ألفاظ الحديث وثبوتها بالشواهد والمتابعات، فبعضهم رواها إلى قوله (اللهم فشفعه فيَّ)، وزاد بعضهم (وشفعني فيه)، وراوها بعضهم: (وتشفعني فيه وتُشفعه فيَّ)، وروها بعضهم: (شفِّعهُ فيَّ وشفِّعني في نفسي)، وحكم ابن تيمية على بعض هذه الروايات بالاضطراب؛ لاختلاف ألفاظها، وعلَّلها بذلك.

3-بيان بطلان القصَّة التي قد يستدلُّ بها المبتدعة على التوسُّل المُحرَّم، وبيان نكارتها، وتفرُّد شبيب بن سعيد بذكر هذه القصة المنكرة عن روح بن القاسم، سنداً ومتناً.

4-أن التوسُّل بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وسلم خاصٌّ بحياته، وأما بعد موته فلا يُشرع ذلك لأحدٍ من النَّاس، وذلك معروف من كلام الصحابة وفعلهم، وإجماعهم التقريري، وهم حُجَّةٌ على من سواهم.



* نقدُ هذه الحكاية:

أولاً: بيان هذه القصَّة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "الفتاوى" (1/ 265):
وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي (1) والنسائي (2) هو من القسم الثاني: من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره. فقال له: "إن شئتَ صبرت وإن شئت دعوت". فقال: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: "اللهم إني أسألك بنَبِيِّكَ نبيِّ الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه فيَّ".
[صحيح، صححه ابن تيمية في مجموع الرسائل والمسائل: (1/ 18)، والشوكاني في تحفة الذاكرين: (230)، وصحح إسناده الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (2429)، وقال: إسناده صحيح، أخرجه الترمذي (٣٥٧٨)، وابن ماجه (١٣٨٥)، وأحمد (١٧٢٧٩)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٠٤٩٥) ].

فهذا توسَّلَ بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "وشفعه فيَّ"، فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه.

وهذا الحديث ذكره العلماء في "معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات"، فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره.

ثانياً: تخريجُ هذا الحديث:
وهذا الحديث - حديث الأعمى - قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره:
1- رواه البيهقي (3): من حديث عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت، يحدث عن عثمان ابن حنيف: 
أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. 
فقال له: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت". 
قال: فادعُه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه". 
قال: فقام وقد أبصر".
ومن هذا الطريق: رواه الترمذي من حديث عثمان بن عمر.
ومنها: رواه النسائي، وابن ماجه (4) أيضاً.
[صحيح، وقد تقدَّم باختلافٍ يسير].

2- وقال الترمذي (6): حدثنا محمود ابن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني.
قال: "إن شئت صبرت فهو خير لك". قال: فادعه.
قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء:
"اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبيِّ الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم شفعه فيَّ".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي (5) .
هكذا وقع في الترمذي، وسائر العلماء قالوا: هو أبو جعفر الخطمي، وهو الصواب.
وأيضاً -فالترمذيُّ ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء (وشفِّعني فيه)، بل رووه إلى قوله "اللهم شفعه فيَّ".

3- قال البيهقي -يعني في الدلائل-: رُوِّينَاهُ -يعني حديث الترمذي -في كتاب "الدعوات" بإسناد صحيح، عن روح بن عبادة، عن شعبة، قال: ففعل الرجل فبرأ (7) .

[وفي الدَّعوات له (1/ 325، برقم: 235)، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن داود الرزاز ببغداد، حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا أحمد بن الوليد الفحام، حدثنا روح بن عبادة به، ولفظه: يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل في حاجتي هذه، فَتُقَضَي لي وتشفعني فيه وتشفعه في].

قال (يعني البيهقيُّ -في الدلائل): وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي (8) .
[يُشير بذلك إلى رواية الإمام أحمد في مسنده (ح: 17241): حدثنا مؤمل، قال: حدثنا حماد يعني ابن سلمة، قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب بصره، فذكر الحديث. وصححَّ إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج المُسند: 17241]. 

4- قلتُ (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن روح بن عُبادة كما ذكره البيهقي.
قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت، يُحَدِّثُ عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك". قال: لا بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه، فتقضي لي وتشفعني فيه وتشفعه في". قال: ففعل الرجل فبرئ (9) .
[صحيح، وقد تقدَّم باختلافٍ يسير].

5- ورواه البيهقي أيضاً: من حديث شبيب بن سعيد الحبطي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني - وهو الخطمي (10) - عن أبي أمامة [ابن] سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير يشتكي إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شق عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي عن بصري، اللهم فشفعه فيَّ، وشفعني في نفسي". قال عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا ولاطال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضُرٌّ قط (11).
[إسناده صحيح، وقد تقدَّم باختلافٍ يسير].

قال: فرواية شبيب، عن روح، عن أبي جعفر الخطمي، خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة -عن أحمد - في الإسناد والمتن:
- فإن في تلك أنه رواه أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حُنيف، وفي هذه أنه رواه عن أبي أمامة [بن] سهل.
وفي تلك الرواية أنه قال: "فشفعه فيَّ وشفعني فيه"، وفي هذه "وشفعني في نفسي".
لكن هذا الإسناد له شاهد آخر من رواية هشام الدستوائي عن أبي جعفر (12).

6-ورواه البيهقي من هذه الطريق، وفيه قصةُ قد يَحتَجُّ بها من توسل به بعد موته ! - إن كانت صحيحة - رواه من حديث إسماعيل ابن شبيب بن سعيد الحبطي، عن شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني، عن أبي أمامة [بن] سهل بن حنيف، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف، فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة، فتوضأ، ثم إئت المسجد، فصل ركعتين، ثم قل: 
"اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيِِّك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي، فيقضي لي حاجتي". ثم اذكر حاجتك ثم رح حتى أروح.
فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتى بعدُ عثمان بن عفان، فجاء البواب، فأخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطِّنْفِسَة، وقال: انظر ما كانت لك من حاجة، فذكر حاجته، فقضاها له.
ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ. 
فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وجاءه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أو تصبر؟". فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال: إئت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في، وشفعني في نفسي". 
قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وما طال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط (13) .

قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه بطوله.
وساقه (يعني البيهقيُّ) من رواية يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن شبيب بن سعيد.
قال: ورواه أيضاً هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه - وهو عثمان بن حنيف - ولم يذكر إسناد هذه الطريق (14) .

قلتُ (ابن تيمية): وقد رواه النسائي في كتاب "عمل اليوم والليلة" (15) من هذه الطريق، من حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف.

ورواه -النسائيُّ -أيضاً: من حديث شعبة وحماد بن سلمة، كلاهما عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة.

ولم يروه أحدٌ من هؤلاء - لا الترمذي، ولا النسائي، ولا ابن ماجه - من تلك الطريق الغريبة، التي فيها هذه الزيادة، (يعني القصة التي يستدلُّ بها المُبتدعة) طريق شبيب ابن سعيد، عن روح بن القاسم.


7- لكن رواه الحاكم في مستدركه من كلا الطريقين:
* فرواه من حديث: عثمان بن عمر: حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني، سمعت عمارة بن خزيمة يحدث، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدع الله أن يعافيني فقال: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت". قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، اللهم فشفعه في وشفعني فيه". قال الحاكم: على شرطهما.
* ثم رواه من طريق: شبيب بن سعيد الحبطي، وعون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره وقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال: "ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي، فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي"
قال عثمان فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث، حتى دخل الرجل، وكأنه لم يكن به ضر قط. قال الحاكم: على شرط البخاري (16).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وشبيب بن سعيد هذا صدوق (17)، روى له البخاري، لكنه قد رُوي له عن روح بن القاسم (18) أحاديث مناكير، رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غُلِطَ عليه.

ولكن قد يقال مثل هذا إذا انفرد عن الثقات - الذين هم أحفظ منه، مثل: شعبة وحماد بن سلمة، وهشام الدستوائي - بزيادةٍ، كان ذلك عليه في الحديث، لا سيما وفي هذه الرواية أنه قال: "فشفعه فيَّ، وشفعني في نفسي".
وأولئك قالوا: "فشفعه فيَّ وشفعني فيه".
ومعنى قوله: "وشفعني فيه" أي في دعائه، وسؤاله لي، فيطابق قوله: "وشفعه فيَّ" (19) .

قال أبو أحمد بن عدي في كتابه المسمى "بالكامل في أسماء الرجال" -ولم يُصَنَّف في فنه مثله-: شبيب بن سعيد الحبطي أبو سعيد البصري التميمي، حدَّث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدَّث عن يونس، عن الزهري بنسخة الزهري أحاديث مستقيمة.
وذكر عن علي ابن المديني أنه قال: هو بصري ثقة كان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وجاء بكتاب صحيح.
قال (يعني ابن المديني): وقد كتبتها عن ابنه أحمد بن شبيب (20).

وروى ابن عديٍّ حديثين عن ابن وهب، عن شبيب هذا -عن روح ابن القاسم:
أحدهما: عن أبي عقيل (21)، عن سابق بن ناجية، عن أبي سلام (22)، قال: مر بنا رجل فقالوا: إن هذا قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: عنه (أحمد بن شبيب)، عن روح بن القاسم، عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد.
قال ابن عدي: كذا قيل في الحديث عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عدي: ولشبيب بن سعيد نسخة الزهري عنده، عن يونس، عن الزهري، وهي أحاديث مستقيمة. حدَّث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير.
وإن حديثي روح بن القاسم اللذين أمليتهما، يرويهما ابن وهب عن شبيب.

وكان شبيب بن سعيد إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب - نسخة الزهري: ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه.

ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم - وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب (23).

قلت (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): هذان الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدي عليه، رواهما عن روح بن القاسم. 
وكذلك هذا الحديث، حديث الأعمى رواه عن روح بن القاسم؛ (فهو من مناكيره).

وهذا الحديث (يعني حديث الأعمى) مما رواه عنه ابن وهب أيضاً، كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يُتقن لفظه كما أتقنه ابناه، وهذا يُصَحِّحُ ما ذكره ابن عدي، فعُلم أنه -يعني كلام ابن عَدِي -محفوظٌ عنه.

وابن عدي أحالَ الغلط عليه (يعني على شبيب) لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم في ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث.

وروح بن القاسم ثقةٌ مشهور، روى له الجماعة؛ فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه.

والرجل قد يكون حافظاً لما يرويه عن شيخ، وغير حافظ لما يرويه عن آخر، مثل إسماعيل بن عياش فيما يرويه عن الحجازيين، فإنه يغلط فيه، بخلاف ما يرويه عن الشاميين.
ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهري.
ومثل هذا كثير، فيحتمل أن يكون هذا يغلط فيما يرويه عن روح بن القاسم - إن كان الأمر كما قاله ابن عدي - وهذا محل نظر.

7- وقد روى الطبراني (24) هذا الحديث في "المعجم"، من حديث ابن وهب، عن شبيب بن سعيد. رواه من حديث أصبغ بن الفرج.
قال الطبرانيُّ: حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري المقرئ، ثنا أصبغ بن الفرج: حدثنا عبد الله بن وهب، عن شبيب بن سعيد المكي، عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف:
أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له؛ فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك"، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له. ثم أتى باب عثمان بن عفان؛ فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له. ثم قال له: ماذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا. 
ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيَّ.
فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضريرٌ؛ فشكا إليه ذهاب بصره؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "افتصبر؟"، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق [علي]، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات". فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.

قال الطبرانيُّ (25): روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر -واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر، عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسي: والحديث صحيح.

قلت (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): والطبراني ذكر تفرُّدَهُ بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة، عن شعبة (كما في الدعوات للبيهقي: 235، والمسند لأحمد: 17241). وذلك إسناد صحيح، يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر.

وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدي، فإنه لم يُحَرِّر لفظ الرواية كما حرَّرَها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك بل في حديث الأعمى أنه قال: "اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه - أو قال - في نفسي".
وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته، فيشبه أن يكون حدَّث ابن وهب من حفظه -كما قال ابن عدي، فلم يتقن الرواية.

8-وقد روى أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" حديث حماد بن سلمة؛ فقال:
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، نا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت في بصري، فادع الله لي. قال: "اذهب فتوضأ، وصل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أستشفع بك على ربي في رد بصري، اللهم فشفعني في نفسي، وشفع نبيي في رد بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك". فرد الله عليه بصره.
قال ابن أبي خيثمة: وأبو جعفر هذا - الذي حدث عنه حمَّاد بن سلمة - اسمه عُمير بن يزيد، وهو أبو جعفر، الذي يروي عنه شعبة.
ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة.
 قلت (يعني ابن تيمية): وهذه الطريق فيها: "فشفعني في نفسي" مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهي قوله: "وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك - أو قال - فعل مثل ذلك".

وهذه قد يقال: إنها توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى.

وقوله: "وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك": قد يكون مدرجاً من كلام عثمان، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقل: "وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك" بل قال: "وإن كانت حاجةٌ فعل مثل ذلك".

ثالثاً: على فرض ثبوت هذه الزيادات في الأحاديث التي ليس فيها القصَّة المخترعة:

وبالجملة فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم تكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان بن حنيف ظنَّ أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع بل ببعضه، فظن أن هذا مشروع بعد موته صلى الله عليه وسلم.

ولفظ الحديث يُناقض ذلك (الفهم)؛ فإن في الحديث: أن الأعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وأنه علَّم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول: "اللهم فشفعه فيَّ".

وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً شافعاً له بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم.

وفيه أيضاً أنه قال: "وشفعني فيه"، وليس المراد أن يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة.
ففي صحيح البخاري (ح: 4719)، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال إذا سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة".

رابعاً: تجليَة معنى الشَّفاعة في عموم الأحاديث:

 وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاءٌ له، وهو معنى الشفاعة، ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه صلاةً، صلى عليه الله بها عشراً، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته، شفع له صلى الله عليه وسلم، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة، فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة، وهو كالشفاعة في الشفاعة. فلهذا قال: "اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه".

 وذلك أن قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه، ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق، ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: "فشفعه في وشفعني فيه".
بخلاف قوله: "وشفعني في نفسي"؛ فإن هذا اللفظ لم يروِه أحدٌ إلا من هذا الطريق الغريب.

وقوله: "وشفعني فيه": رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة. وشعبة أجلُّ من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر، عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذي والنسائي وابن ماجه.
رواه الترمذي (26)، عن محمود بن غيلان، عن عثمان بن عمر، عن شعبة.
ورواه ابن ماجه (27)، عن أحمد بن يسار، عن عثمان بن عمر.
وقد رواه أحمد في "المسند" (28) عن روح بن عبادة، عن شعبة، فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث.

مع أن قوله: "وشفعني في نفسي"، إن كان محفوظاً مثل ماذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه، مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين.

ولا يسمى مثل هذا شفاعةً، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يُشَفِّع غيره.

خامساً: تضعيف ابن تيمية رحمه الله لبعض طرق حديث شُعبة التي فيها: "وشفّعني في نفسي":

فهذه الزيادة "وشفِّعني في نفسي" فيها عدة علل: انفراد هذا بها عن من هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له - عن روح هذا - أحاديث منكرة.

ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حجة فيها؛ إذ الاعتبار بما رواه الصحابي، لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه، بل على خلافه.

سادساً: بطلان كلام من توسَّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد موته شرعاً؛ لعدم إمكانية دعائه له:

ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: "اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه" - مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعُ له - كان هذا كلاماً باطلاً، هذا مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول "فشفعه فيَّ"، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: "فشفعه فيَّ" لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان.

والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به أحداً آخر غير الضرير، والذي فيه أنه -يعني عثمان بنحُنيف -أمر به  ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سابعاً: الجواب على من فرض ثبوت أمر عثمان بهذا الدُّعاء -ولا يثبت عنه ذلك كما قرَّرناه:

ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة، في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب ردُّهُ إلى الله والرسول [وقد عُلم أن التوسُّل بالذوات غير مشروع].

ولهذا نظائر كثيرة: مثل ما كان عمر (29) يدخل الماء في عينيه في الوضوء (30) ، ويأخذ لأذنيه ماءً جديداً (31) .
وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضد في الوضوء ويقول: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل.
وروي عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل.
فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعاً لهما، فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضئون هكذا...
 بل هذا من كلام أبي هريرة، جاء مدرجاً في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء".
وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها.
ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحباً، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحباً، لفعلوه، كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.

وذلك لأن المتابعة: أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة، شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة، خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.

وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان، ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه.
فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب.
كما ثبت في الإسناد الصحيح عن عمر، قال: "إنما هلك أهل الكتاب، أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً".
[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: 2734، بإسناد صحيح].

فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه؛ لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب، التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب.
ولما اشتبه على بعض الصحابة: هل فعله لأنه كان أسمح وأيسر، أو لكونه سنة؟

ومن هذا: وضعُ ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم (32) .
وغايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.... وبعد أن ساق أمثلةً كثيرة لاجتهادات انفرد بها بعض الصحابة، قال: فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له ولا شافعاً فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته، كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا.

سابعاً: إجماع الصَّحابة يُبطل أثر التوسُّل المبتدع المرويِّ عن عثمان بن حُنيف، وغيره من التوسُّل بالذوات:

بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيسقون .

وهذا دعاءٌ أقره عليه جميع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس.

فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟.

فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته.

ثامناً: بيان أن حديث الضرير حُجَّةٌ في التوسُّل المشروع:

 وحديث الأعمى حُجَّةٌ لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء: قل "اللهم شفعه فيَّ".

تاسعاً: قول عُمر وفعله حُجَّة على غيره من الصَّحابة، ومن خالف فهو محجوجٌ بالكتاب والسُّنة والإجماع:

وإذا قُدِّرَ أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المخالف لعمر محجوجاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له. والله أعلم.

خلاصة ما سبق:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (1/ 223):
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل بذاته كله ضعيف بل موضوع.
وليس عنه حديث ثابت قد يُظَنُّ أن لهم فيه حجة إلا حديثين:
الأول: حديث الأعمى الذي علمه النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم أن يقول: (أسألُكَ وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة) (33).
قال: وحديثُ الأعمى لا حجة لهم فيه؛ فإنه صريحٌ في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم شفعه فيَّ)، ولهذا ردَّ الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يُعدُّ من آيات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله. 

الثاني: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار: وقوله: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا) (34). 
وهذا يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس
فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة؛ لقالوا لعمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته -وهو التوسل بأفضل الخلق -إلى أن نتوسل ببعض أقاربه وفي ذلك ترك السنة المشروعة، وعدولٌ عن الأفضل وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما - ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب.

















_______________________________

(1) سنن الترمذي في "السنن" حديث (3578)، وتحفة الأحوذي (10/ 32 -34).

(2) النسائي في "عمل اليوم والليلة" (ص 417، 718) ، حديث (658 - 660) .
(3) في دلائل النبوة (6/ 166 - 168) ، باب ما في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة. وأخرجه الإمام أحمد (4/ 138) ، والحاكم، في المستدرك (1/313) . (4) (1/ 441) ، 5 - كتاب إقامة الصلاة، 189 - باب ما جاء في صلاة الحاجة، حديث (1385) .
(5) انظر: تحفة الأحوذي (10 /34).
(6) سنن الترمذي (5/569) ، حديث (3578).
(7) الدلائل (6 /167) ..
(8)  ورواية حماد بن سلمة - أيضاً - في مسند أحمد (4/ 138) 
(9) مسند أحمد (4/ 138).
(10) واسمه عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري.
(11) الدلائل للبيهقي: (6 /167، 168) من طريق محمد بن علي بن يزيد الصائغ، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي، قال: حدثني أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر به.
(12) الاختلاف في الإسناد، ذكره النسائي، في "عمل اليوم والليلة" (ص 418) قال - بعد أن روى الحديث من طريق حماد بن سلمة وشعبة، عن أبي جعفر -: "وخالفهما هشام الدستوائي، وروح بن القاسم، فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة، عن أبي أمامة بن سهل، عن عثمان بن حنيف، ثم قال: أخبرني زكريا بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه، أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وذكر الحديث، وفيه: "وشفعني في نفسي". وكذلك في رواية حماد، عند النسائي: "وشفعني في نفسي". وكذلك عند البيهقي في الدلائل.
أقول (يعني الشيخ ربيع بن هادي المدخلي): من أئمة الحديث من وثق أبا جعفر عمير بن يزيد الخطمي وقال الحافظ فيه: "صدوق"، وفي النفس من الاختلاف عليه في إسناد هذا الحديث ومتنه، وفي النفس شيء من تفرده بهذا الحديث؛ فإنه يدور عليه وحده، فليس له متابعات ولا شواهد. 
(13) الدلائل (6 /167 - 168) .
(14) الدلائل (6/ 168) ، والأمر كما قال شيخ الإسلام؛ فإنه لم يذكر إسناد هذه الطريق.
(15) عمل اليوم والليلة (ص 418) ، حديث رقم (658 - 660) .
(16) المستدرك (1 /313، 519، 526) من الطرق التي ذكرها شيخ الإسلام.
(17) قال الحافظ: شبيب بن سعيد الحبطي البصري. أبو سعيد، لا بأس بحديثه، من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب/ خ، خد، س. تقريب (1 /346) . (18) "روح بن الفرج" كذا في الأصل وجميع النسخ المطبوعة، والصواب هنا وفيما يأتي روح بن القاسم؛ إذ ليس لشبيب شيخٌ يسمى روح ابن الفرج راجع ترجمته في تهذيب الكمال. وانظر هذا في الكامل لابن عدي إذ هذا الكلام الذي نقله شيخ الإسلام إنما هو لابن عدي وليس فيه إلا روح ابن القاسم. (19) الذي وقفت عليه من اختلاف في رواية هذه الألفاظ: أ - من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في". عند الترمذي، وأحمد، والنسائي، في عمل اليوم والليلة. ب - عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر. وشبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في وشفعني في نفسي". ويمكن أن يكون هذا وهماً من البيهقي، أو من أحد رجال الإسناد. والله أعلم. ج - من طريق هشام الدستوائي، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في وشفعني في نفسي". عند النسائي، في عمل اليوم والليلة.
د - روحِ، عن شعبة، عن أبي جعفر. وحماد بن سلمة، عن أبي جعفر: "اللهم شفعني فيه، وشفعه في". عند الإمام أحمد.
(20) هذا قول ابن المديني. انظر الكامل لابن عدي المخطوط 2/ ق1، 162، وتهذيب الكمال للمزي (12 /321).
(21) في الأصل "ابن عقيل" والصواب أبي عقيل، انظر: الكامل (2/ ق/162) .
(22) في الأصل "ابن سلام" والصواب أبي سلام، انظر: الكامل (2/ ق 162) . وانظر الكنى للدولابي (2 /33) ، والجرح والتعديل (4/ 307).
(23) الكامل لابن عدي (4/1347 - 1348) من قوله: قال أبو أحمد بن عدي إلى هنا.
(24) الطبراني في المعجم الصغير (1 /183 - 184)، والكبير (9/ 30) بالإسناد والمتن اللذين ذكرهما شيخ الإسلام وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 234) ، حديث (633) .
(25) المعجم الصغير (1/ 184) .
(26) تقدم تخريجه.
(27) تقدم تخريجه.
(28) تقدم تخريجه
(29) في خ وسائر النسخ والصواب ابن عمر ويؤكده نسبة ذلك إليه ما في مصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للبيهقي.
(30) في السنن الكبرى للبيهقي (1/177) ، من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "كان إذا اغتسل من الجنابة نضح الماء في عينيه، وأدخل أصبعه في سرته".
(31) وفي السنن الكبرى للبيهقي أيضاً (1/65) ، من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، "كان يعيد أصبعه في الماء فيمسح بها أذنيه". وانظر المصنف لعبد الرزاق (1/11 - 13) .
(32) الشفاء للقاضي عياض (2/ 53 - 54) بدون إسناد، بلفظ: "ورؤي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه".
(33) وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: منهم ابن عباس، وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم ولشُفِيَ، وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عَمِيَ عِتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ابن أم مكتوم.

(34) أخرجه البخاري- كتاب الاستسقاء- باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث (1010)، وفي كتاب فضائل الصحابة- باب ذكر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حديث (3710) . وابن سعد في الطبقات (4/ 28 - 29).


الأسانيد الصحيحة لحديث الأعمى كما في الشكل أسفل:
الأسانيد الأخرى لحديث الأعمى كما في الشكل أسفل:


غلاف الرسالة