أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 10 يونيو 2020

قصصٌ وآثارٌ باطلةٌ لا تثبت في السُّنة النبويَّة

 (6) قضية التوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلَّم لأجل حفظ القرآن والعلم

من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

إعداد

أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

تمهيد/ هذا هو الجزء السادس من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين وأهل السِّير في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال.

           والقصة التي نحن بصدد نقدها: هي دعوى التوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأجل حفظ القرآن وأصناف العلم.

 * نصُّ القصة:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 258):  ومن هذا الباب حديث ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب "التفسير"  ([1]) بإسناده، عن ابن عباس مرفوعاً، أنه قال: "من سرَّهُ أن يُوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم؛ فليكتب هذا الدعاء في إناءٍ نظيف، أو في صحفٍ قوارير بعسلٍ وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق وليَصُم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه ويدعو به في إدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك مسئول، لم يُسأل مثلك ولا يُسأل، وأسألك بحقِّ مُحَمَّدٍ نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيُّكَ، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك"، ([2])، وذكر تمام الدعاء.

* والكلام على هذا الخبر من وجوه:

الوجه الأول: من جهة إسناده:

قال رحمه الله: وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين.

قال أبو أحمد بن عدي فيه: منكر الحديث ([3]).

وقال أبو حاتم بن حبان: دجالٌ يضع الحديث، وضع على ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس كتاباً في التفسير، جمعه من كلام الكلبي ومقاتل ([4]).

ويُروى نحو هذا -دون الصوم -عن ابن مسعود ([5]): من طريق موسى بن إبراهيم المروزي، حدثنا وكيع، عن عبيدة، عن شقيق، عن ابن مسعود

وموسى بن إبراهيم هذا قال فيه يحيى بن معين: كذاب ([6]).

وقال الدارقطني: متروك ([7]).

وقال ابن حبان: كان مغفلا يلقن فيتلقن فاستحق الترك ([8]).

ويُروى هذا (يعني الأثر) عن عمر بن عبد العزيز، عن مجاهد بن جبر، عن ابن مسعود بطريقٍ أضعفَ من الأول ([9]).

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني، من حديث أحمد بن إسحاق الجوهري: حدثنا أبو الأشعث، حدثنا زهير بن العلاء العتبي ([10])، حدثنا يوسف بن يزيد، عن الزهري ورفع الحديث، قال: "من سره أن يحفظ؛ فليَصُم سبعة أيامٍ، وليكن إفطاره في آخر الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات" ([11]).

قلتُ (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): وهذه أسانيد مظلمة لا يثبت بها شيء

وقد رواه أبو موسى المديني في "أماليه" وأبو عبد الله المقدسي على عادة أمثالهم في رواية ما يروى في الباب سواء كان صحيحاً أو ضعيفا؛ كما اعتاده أكثر المتأخرين من المحدثين: أنهم يروون ما روى به الفضائل، ويجعلون العهدة في ذلك على الناقل، كما هي عادة المصنفين في فضائل الأوقات والأمكنة والأشخاص والعبادات والعادات.

كما يرويه أبو الشيخ الأصبهانيفي "فضائل الأعمال" وغيره، حيث يجمعُ أحاديث كثيرة لكثرة روايته، وفيها أحاديث كثيرة قوية صحيحة وحسنة، وأحاديث كثيرة ضعيفة موضوعة وواهية.

وكذلك ما يرويه خيثمة بن سليمان في "فضائل الصحابة".

وما يرويه أبو نعيم الأصبهاني في "فضائل الخلفاء" في كتاب مفرد، وفي أول "حلية الأولياء".

وما يرويه أبو الليث السمرقندي، وعبد العزيز الكناني، وأبو علي بن البناء وأمثالهم من الشيوخ، وما يرويه أبو بكر الخطيب، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو موسى المديني، وأبو القاسم بن عساكر، والحافظ عبد الغني، وأمثالهم ممن له معرفة بالحديث، فإنهم كثيراً ما يروون في تصانيفهم ما رُوي مطلقاً على عادتهم الجارية؛ ليُعرَفَ ما رُوي في ذلك الباب لا ليحتج بكل ما روي، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ويقول: غريب، ومنكر، وضعيف. وقد لا يتكلم.

وهذا بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به ويبنون عليه دينهم؛ مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري، وغير هؤلاء، فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها، وتمييز رجالها.

وكذلك الذين تكلموا في الحديث والرجال ليميزوا بين هذا وهذا؛ لأجل معرفة الحديث، كما يفعل أبو أحمد بن عدي، وأبو حاتم البستي، وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر الإسماعيلي، وكما قد يفعل ذلك، أبو بكر البيهقي، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو عمر ابن عبد البر، وأبو محمد بن حزم، وأمثال هؤلاء، فإن بسط هذه الأمور له موضع آخر.

ولم نذكر من لا يُروِي بإسنادٍ -مثل كتاب "وسيلة المتعبدين" لعمر الملا الموصلي، وكتاب "الفردوس" لشهريار الديلمي، وأمثال ذلك -فإن هؤلاء دون هؤلاء الطبقات، وفيما يذكرونه من الأكاذيب أمر كبير.

والمقصود هنا: أنه ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه في مسألة شرعية، باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المرويُّ في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات؛ إما تعمداً من واضعه، وإما غلطاً منه.



[1])) قال الذهبي: معروف ليس بثقة، فإن ابن حبان قال فيه: دجال، وضع على ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير. وقال ابن عدي منكر الحديث. الميزان (4/ 211)، وانظر ترجمته في: الكامل (6/ 2348).

[2])) لم أجده في كتب الموضوعات منسوباً لابن عباس، وإنما يُنسب إلى ابن مسعود كما سيأتي، ولعل المصنفين في الموضوعات لم يعثروا على كتاب موسى بن عبد الرحمن. ثم وجدته في كتاب الدعاء للطبراني (3 /1422) رقم: (1334).

[3])) لم أجد هذه العبارة في المطبوع من "الكامل"، وقد سقطت ترجمته مع عدد من التراجم من المخطوطة التي عندي، والذي في المطبوع (6 /2348) بعد أن ساق في ترجمته أربعة أحاديث، قال: "وموسى بن عبد الرحمن هذا لا أعلم له أحاديث غير ما ذكرته، وقد يقبل بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذه الأحاديث بواطيل".

وأعتقد أنه قد وقع تحريف في قوله، وقد يقبل، فهذه العبارة لا تتناسب مع قوله: وهذه الأحاديث بواطيل. والأحاديث إنما أوردها من روايته، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباسوإذا كان ابن عدي لا يعلم له إلا هذه الأحاديث الأربعة، وقد حكم عليها بأنها بواطيل، فكيف يستقيم القول بأنه قد يُقبل بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس.

والعبارة التي نقلها شيخ الإسلام عن ابن عدي، نقلها الذهبي. الميزان (4/ 211). مما يؤكد صدق نقله رحمه الله، ويؤكده كلام ابن حبان الآتي.

[4])) كتاب المجروحين (2 /242) ، وبعد هذا الكلام الذي نقله شيخ الإسلام بالحرف: "وألزقه بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس".

[5])) أورده السيوطي، في اللآلئ المصنوعة (2 /356)، من طريق فيها عمر بن صبح، ثم قال: "موضوع، والمتهم به عمر بن صبح"، ثم قال في (ص 357): "قلت وله طريق آخر أخرجه الخطيب في الجامع، ثم ساقه بالإسناد الذي ذكره شيخ الإسلام. وهو في الجامع للخطيب (2/ 261)، برقم (1793)، بالإسناد المذكور.

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/174)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 322)، من طريق عمر بن صبح، وزاد ابن عراق قوله: "ورواه أبو الشيخ في الثواب، من حديث أبي بكر الصديق، من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني الدجال، مع ما في سنده من الإعضال".

[6])) قاله الذهبي في الميزان (4/ 199).

[7])) ذكره الدارقطني في الرواة عن مالك، ساق له حديثاً وقال: "باطل منكر، وموسى بن إبراهيم ومن دونه ضعفاء". اللسان (5/ 405) في ترجمة محمد بن نصر بن عيسى.

[8])) لم أجد ترجمته في المجروحين، ولا يبعد أن تكون قد سقطت، وفي الميزان (4/ 199) ، واللسان (6 /111) "كذّبه يحيى وقال الدارقطني وغيره متروك"، ثم قال فمن بلاياه ثم ذكر طرفاً من حديث ابن مسعود. وقال العقيلي في الضعفاء (4/ 166): "منكر الحديث"، وساق له حديثاً وقال: حديثٌ باطل (4/ 167).

[9])) في اللآلئ المصنوعة، وتنزيه الشريعة، في الموضعين المذكورين سابقاً.

[10])) قال أبو حاتم: "أحاديثه موضوعة". الميزان (2/ 83).

[11])) لم أجده؛ فليبحث عنه. 

الثلاثاء، 9 يونيو 2020

قصصٌ باطلةٌ لا تثبت في السِّيرة النبويَّة
(5) قصَّةُ توسُّل آدم عليه السلام بالنبيِّ صلى الله عليه وسلَّم
من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

بتعليقات الشيخ العلامة
ربيع بن هادي عُمير المدخلي
اعتنى به
أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة

تمهيد/ هذا هو الجزء الخامس من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين وأهل السِّير في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال..

* والقصة التي نحن بصدد نقدها: هي ما يُروِّجُه لمتصوفة من قصَّةِ توسُّل آدم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما اقترف الخطيئة، وأن الله غفر الله له بسبب ذلك.

* نصُّ القصة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 253- 254): ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً وموقوفاً عليه: "أنه لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربِّ أسأُلكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غفرتَ لي. قال: وكيف عرفت محمداً [ولم أخلقْهُ] ؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك، رفعتُ رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقتك".

* ونقدُ هذا الخبر من وجوه:

الوجه الأول: من جهة السَّند:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا الحديث:
- رواه الحاكم في مستدركه (1) من حديث عبد الله بن مسلم الفهري (2) عن إسماعيل بن مسلمة (3) عنه (أي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به).
وقال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن في هذا الكتاب (4).
وقال الحاكم: هو صحيح (5).

- ورواه الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" (6) موقوفاً على عمر: من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفاً عليه.

- ورواه الآجري -أيضاً -من طريقٍ آخر، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه موقوفاً عليه. وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبو عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال: "من الكلمات التي تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحقِّ مُحَمَّدٍ عليك. قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يا رب رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنه أكرم خلقك".

قلتُ (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أُنكِرَ عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل (7) إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.

قلت (يعني ابن تيمية): وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل (8)، وأبو زرعة وأبو حاتم (9)، والنسائي (10)، والدارقطني (11) وغيرهم. وقال أبو حاتم بن حبان: كان يُقَلِّبُ الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك (12) .

وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يُصَحِّحُ أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. كما صحح حديث زُرَيب بن ثرملا (13) الذي فيه ذكر وصيِّ المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقيُّ (14) وابن الجوزيِّ (15) وغيرهما (16).
وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة. ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه.

ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه. وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه.
بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً. وكذلك تصحيح الترمذي، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن منده، وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم (17).

وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد: وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال: وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي (18) وغيرهما: "أن آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي"- قال: ويروى "تقبل توبتي" - فقال الله له: "من أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله".
قال: ويُروى -يعني أنه رأى مكتوباً-: "محمدٌ عبدي ورسولي. فعلمتُ أنه أكرم خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له" (19) .
ومثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يُعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: من جهة المتن:
وهذه (القصة) لو نقلها مثلُ كعب الأحبار، ووهب ابن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ، وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب: لم يَجُز أن يُحتجَّ بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين. فكيف إذا نقلها: من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب، ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروحٌ ضعيفٌ لا يُحتَجُّ بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطراباً يُعرَفُ [به] أنه لم يحفظ ذلك.
ولم يَنقُل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يُعتَمَدُ على نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر (20) وأمثاله في كتب "المبتدأ".

الوجه الثالث: على فرض ثبوتها وهي غير ثابتة:
وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور.
لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرعٌ لمن قبلنا، مِن نقلٍ ثابتٍ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بما تواتر عنهم، لا بما يُروى على هذا الوجه (الموضوع)، فإن هذا لا يجوز أن يحتجَّ به في شرع المسلمين أحدٌ من المسلمين.
 ____________________________

(1) (2/ 615) وقال عَقبهُ: وهذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ؛ فتعقبه الذهبيُّ بقوله: "بل موضوع وعبد الرحمن واهٍ".
(2) أبو الحارث، روى عن اسماعيل بن مسلمة بن قعنب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً، فيه: يا آدم، لولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي في دلائل النبوة، الميزان للذهبي (2 /504) ، قال الحافظ ابن حجر في اللسان (3 /360) بعد نقله لكلام الذهبي السابق: "قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله، فإنه من طبقته"، والذي قبله هو: عبد الله بن مسلم بن رشيد، عن الليث -ذكره ابن حبان وقال: متَّهمٌ بوضع الحديث، وقال: حدثنا عنه جماعة يضع على ليث، ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه. انتهى. وبقيةُ كلامه: "وهذا شيخ لا يعرفه أصحابنا، وإنما ذكرته لئلا يحتج له من أصحاب الرأي، لأنهم كتبوا عنه، فيتوهم من لم يتبحر في العلم أنه ثقة، وهو الذي روى عن ابن هدبة نسخة كأنها معمولة". وانظر كتاب المجروحين (2 /44) وعبارته: "وإنما ذكرته لئلا يحتج به واحد من أصحاب الرأي على من لم يتبحر في العلم من أصحابنا فيوهمه أنه كان ثقة" إلخ. وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك" (2/ 615) تعليقاً على هذا الحديث: "قلت: رواه بن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا عن إسماعيل بن مسلمة عنه".
(3) ابن قعنب الحارثي القعنبي، أبو بشر المدني، نزيل مصر صدوق يخطىء من التاسعة / ق. تقريب. (4) المستدرك (2 /516) . (5) وقال الذهبيُّ: بل هو موضوع، وقد مرَّ.
(6) الشريعة للآجرِّي ص (427) .
(7) انظر: المدخل إلى علوم الحديث؛ للحاكم (1 /154) ، رقم (97).
(8) انظر: العلل (1 /265) ، والجرح والتعديل (5/ 233، 234) .
(9) الجرح والتعديل، الموضع السابق.
(10) الضعفاء والمتروكين، (ص 158) ، رقم (377) .
(11) الضعفاء والمتروكين، ص (270) ، رقم (331) .
(12) الجرح والتعديل (2 /57) .
(13) قال الحافظ في الإصابة (1 /561): "زُريب -بالتصغير - ابن ثرملا، ذكره الطبري في الصحابة، وروى البارودي من طريق عبد الله بن معروف، عن أبي عبد الرحمن الأنصاري، عن محمد بن حسين بن علي، أن سعد بن أبي وقاص لما فتح حلوان، مرَّ رجلٌ من الأنصار يُقال له: جعونة بن نضلة بشعبٍ، فحضرت الصلاة، فتوضأ، ثم أذَّن، فأجابه صوتٌ، فنظر فلم ير شيئاً، فأشرف عليه رجلٌ من كهفٍ، شديدُ بياض الرأس واللحية، فقال: من أنتَ؟ قال: أنا زُرَيب بن ثرملا، من حواري عيسى ابن مريم، وقد أردت الوصول إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحالت بيني وبينه فارس. فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فانطلق جعونة، فأخبر سعداً، فكتب سعد إلى عمر، فكتب عمر: أطلب الرجل، فابعث به إليَّ، فتتبعوا الشعاب والأودية، فلم يروا له أثراً. 
(14) الدلائل، للبيهقيِّ (5 /425 - 428) . وهي قصة طويلة، رواها من طريقين: الأولى: إلى عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر.
والثانية: من طريق ابن لهيعة، عن مالك بن أزهر عن نافع به.
قال البيهقي عقب الرواية الأولى: "قال أبو عبد الله الحافظ: كذا قال عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك بن أنس، ولم يتابع عليه. وإنما يعرف هذا الحديث لمالك بن الأزهر، عن نافع؛ فهو رجل مجهول لا يسمع بذكره في غير هذا الحديث".
ثم قال عقب الثانية: "هذا الحديث بهذا الإسناد أشبه وهو ضعيف بمرَّةٍ".
(15) أوردهما ابن الجوزي في: الموضوعات (1 /209 - 213). من الطريقين السابقين، ثم رواه من طريق: عبيد الله بن يحيى، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: لما ظهر سعدٌ على حلوان العراق، وذكر القصة، وعبيد الله بن يحي، لم أقف له على ترجمة. ثم قال ابن الجوزي: "ورواه أبو بكر الأنباري من حديث عبد الله بن عمرو بن عبد الرحمن، وهو مجهول. وحديث زريب حديث باطل، لا أصل له وأكثر رواته مجاهيل لا يُعرفون. أما رواية الراسبي عن مالك، فليس من حديث مالك. قال أبو بكر الخطيب: روى الراسبي عن مالك هذا الحديث المنكر". ثم نقل عن الأئمة كلامهم في ابن لهيعة. وذكر القصة ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1 /239 - 241) ونقل في نقدها كلام العلماء.
(16) منهم أبو نعيم في الدلائل (1/ 124 - 126)، من طريق عبد الرحمن الراسبي ولم أرَ له تعقُّبَاً على القصة، لكن ابن عراق قال: "وقال أبو نعيم في الراسبي: فيه ضعف ولين". وقال الذهبي: "عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك أتى بخبرٍ باطل طويل، وهو المتهم به، وذكر طرفاً من القصة". الميزان (2 /545 - 546) .
(17) وتتمَّةُ كلامه: "ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم. ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب. والبخاريُّ من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه" (وانظر: كتاب العلل: 5/ 837)، وقال فيه: "ولم أر أحداً، بالعراق ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل". قال هذا بعد أن ذكر أبا زرعة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي".
(18) هو الإمام الفقيه المحدث الزاهد أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم، السمرقندي الحنفي صاحب كتاب "تنبيه الغافلين"، تروج عليه الأحاديث الموضوعة، مات سنة (375 هـ) . انظر: سير أعلام النبلاء (16 /322 - 323) .
(19) الشفاء (1 /133) ، والقصة كما تراها بغير إسناد.
(20) أبو حذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدأ، تركوه، وكذبه علي بن المديني، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب، وقال الدارقطني: كذاب متروك. قلت: يروي العظائم عن ابن إسحاق، والثوري، وابن جريج. الميزان (1/ 184) ، واللسان (1 /345).