الإسناد من الدين
(وصفحة مشرقة من تاريخ سماع الحديث عند المحدثين)
عبد الفتاح أبو غدة
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص الأمة المحمدية، لم يؤتها أحدٌ من الأمم قبلها، وهو أحد الفروض الكفائية، وتبرز أهمية هذه الخصيصة في تبليغ الشريعة المطهرة وعلومها من السلف إلى الخلف، فقد كان الإسناد الشرط الأول في كل علم منقول فيها، حتى في الكلمة الواحدة، يتلقاها الخالف عن السالف، واللاحق عن السابق بالإسناد، حتى إذا مَنَّ الله تعالى على الأمة بتثبيت نصوص الشريعة وعلومها، وأصبحت راسخة ،البنيان محفوظة من التغيير والتبديل، تسامح العلماء في أمر الإسناد، اعتماداً منهم على شيوع التدوين وثبوت معالم الدين.
ولعل كلمة الإمام عبد الله بن المبارك (الإسناد من الدين) من أفضل ما تشخص به منزلة الإسناد، ومكانته من الدين؛ إذ لولا الإسناد لدَرَس مَنَارُ الإسلام، وتمكّن أهل الإلحاد والبدع منه، بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرّت عن وجود الإسنادِ فيها كانت بتراً.
وعبارات الأئمة جميعها تتجه إلى إبراز أهمية (الإسناد)، وفوائده، ومزاياه، ولزوم العناية به، وأنه من خصائص علوم الإسلام، فالإسناد هو الأجنحة، وهو القوائم، وهو السلم، وهو السلاح، وهو الكرامة، وهو نسب هذه الأمة،
وفي العلم بالأسانيد: ضبط للمتون، وعدٌّ لكلماتها، وحفظٌ للألفاظ من الزلل بالزيادة والنقصان، وأمن لها من الإرسال والانقطاع والعضل والوضع، وبها يتميز الصحيح من الضعيف، والمقبول من المردود، والمعروف من المنكر، حيث يضبط اسم كل راوي ونسبه وبلده ورحلته ومولده ووفاته وشيوخه وتلاميذه وعدالته وأمانته وديانته، وحفظه.
وهذا الكتاب الشيّق الممتع تضمن موضوعين هامين من موضوعات علم الحديث: الموضوع الأول: الإسناد، في تعريفه لغة واصطلاحاً، وما يتصل بذلك، وما نُقل عن السلف وأئمة الحديث في تعظيم أمر الإسناد، وبيان موقعه من الدين، وما جاء من أقوال الأئمة المحدثين في طلبه، وشرفه، والحرص عليه، وتفرد الأمة الإسلامية به، وأهميته، وموقعه من سائر العلوم، ودخوله في تحمل الخالفين عن السالفين، وكونه كمالاً وزينة لطالبه، وغير ذلك من الأبحاث المهمة.
وفي أتون ذلك نبّه إلى حديث موضوع استشهد به طائفة من كبار المحدثين على فضل الإسناد، كما نبّه إلى تصحيفات وقعت لبعضهم في كلمة الإمام ابن المبارك (الإسناد من الدين)؛ حيث حذف بعضهم الزيادة الواردة فيها؛ لغموض معناها، وذكر النصوص التي تؤكد صحة هذه العبارة، وتوضيحها، وتوجيه معناها في لغة العرب.
وساق في ذلك نصوصاًً كثيرة مما تحرَّفَتْ فيها، وقعت لكبار العلماء والمحققين، ثم أورد النصوص الجمة، والتي بلغت ۱۸ نصاً شواهد على تصويب هذه العبارة وتوضيحها، وذكرتُ توجيه استعمالها في لغة العرب ومُنَاطَقَاتِهم، وقد فَرَغ من إعادة النظر في هذه الرسالة (الإسنادُ من الدِّين) ضحى يوم الثلاثاء ١٣ من المحرم سنة ١٤١٠ ، في مدينة فانكوفر من كندا.
أما الموضوع الثاني؛ فهو: سماع الحديث، وهو جانب مهم من العلم، تحدث فيه عن العناية الفائقة التي قام بها المحدثون الكبار في رواية الحديث وإسماعه لناقليه عنهم، وما كانوا عليه من الدقة العجيبة والضبط الشديد، والإتقان البالغ، والأمانة التامة في خدمة السُّنة المطهرة ونقلها وحفظها.
___________________________________________
قطوف من الكتاب
١- عرفوا (الإسناد) بقولهم: هو حكاية طريق متن الحديث. وعرفوا (السند) بأنه طريق متن الحديث. وسُمِّي (سَنَداً) لاعتماد الحفاظ عليه في الحكم بصحة الحديث أو ضعفه، أخذاً من معنى (السِّنَد) لغةً، وهو ما استندت إليه من جدارٍ أو غيره.
٢-وعلى هذا: فـ(الإسنادُ) هو قولك أو قول البخاري مثلاً: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان . . . ، و (السِّنَدُ) هو أولئك الرواة الناقلون المذكورون قبل متن الحديث.
٣- ومتن الحديث هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من يَقُلْ على ما لم أقل . . . . . والمحدثون يستعملون كلا من (السَّند) و (الإسناد) في موضع الآخر، ويُعرف المراد بالقرائن,
٤-وقال بعضُهم في فضل الإسناد، يَذْكُرُ قوماً لا رواية لهم:
ومِن بُطُونِ كَرَارِيس رِوَايَتُهُمْ .. لو ناظرُوا بَاقِلا يوماً لَمَا غَلَبُوا
والعلم إن فَاتَهُ إِسنادُ مُسْنِدِهِ .. كالبيت ليس له سَقْفٌ ولا طُنُب
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي (علي بن الحسن)، المتوفى سنة ٥٧١ رحمه الله تعالى كما في ترجمته في الوفيات» لابن خلكان:
ألا إن الحديث أَجَلُ عِلْمٍ. .. وأَشْرَفُهُ: الأحاديثُ العَوَالي
وأنفَعُ كل نوع منه عندي.. وأحسَنُهُ: الفوائد والأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً .. يُحققهُ كَأَفْوَاهِ الرِّجالِ
فكُنْ يا صاح ذَا حِرْص عليهِ … وخُذْهُ عن الرجال بلا ملال
ولا تأخذهُ من صُحُفٍ فترمَى.. من التصحيف بالدَّاءِ العُضَالِ
٥- حدیث موضوع في فضل الإسناد: أما الحديث الموضوع ! فهو ما جاء في شرح المواهب اللدنية»، لخاتمة المحدثين العلامة الزرقاني رحمه الله تعالى وذلك قوله فيها: «أخرج الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر عن علي مرفوعاً: إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده، فإن يك حقاً كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلاً كان وِزْره عليه». وفيه شَرَفُ أصحاب الحديث، ورَدُّ على من كَرِهَ كتابته من السِّلَف. والنهي عنه في خبر آخر: منسوخ أو مؤول. انتهى كلام العلامة الزرقاني.
ونقله عنه العلامة الشيخ عبد الحي اللَّكْنَوِي في كتابه «الأجوبة الفاضلة»، على الاعتمادِ والاستناد إليه دون أي تردد فيه! وسبقهما إلى نقله والاستدلال به على الإذنِ بكتابة الحديث شيخ الإسلام سِرَاجُ الدين البلقيني عُمَرُ بن رَسُلان شيخُ الحافظ ابن حجر في كتابه «محاسن الاصطلاح» المطبوع مع «مقدمة ابن الصلاح»، فقال: فقد جاء عن على مُسنداً مرفوعاً: إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بسَنَدِه». انتهى.
ونقَلَه عنه وتابعَهُ عليه متابعةً تامة الحافظ البقاعي، في «النكت الوفية بما في شرح الألفية للعراقي»، ولم يَعْزُوَاهُ إلى مصدر حديثي.
وهذا منهم رحمهم الله تعالى عجيب فإنهم محدثون وناقدون بصيرون، فكيف غَفَلوا عنه وأقروه في كتبهم؟ والظاهر أنهم نقلوه على المتابعة دون توجه للكشف عنه، وهذا يقعُ مثله لكثير من كبار العلماء والأئمة.
والحديث ذكره السيوطي في «الجامع الصغير»، وقال شارحه العلامة المناوي في «فيض القدير»: قال الذهبي في الميزان: «موضوع ».
٦- أما التحريف العجيب الذي وقع في كلمة الإمام عبد الله بن المبارك، فإليك بيانه وكشفه وشواهده العديدة، وهي على طولها وكثرتها: لطيفة طريفة في مضمون أخبارها، تتضمن جانباً مهماً من تاريخ بعض حياة المحدثين والعلماء، وقوة حفظهم ومباراتهم به.
رَوَى مسلم في مقدمة صحيحه، بسنده إلى عبدانَ بن عثمان يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء».
ورَوَى هذه الكلمةَ أيضاً الترمذي في كتابه «العِلل الصغير» الملحق بآخر كتابه «الجامع»: «السنن»، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»، وابن حبان في كتاب «الضعفاء والمتروكين»، والرَّامَهُرْمُزي في «المحدث الفاصل»، والحاكم في «معرفة علوم الحديث»، وابن عبد البر في «التمهيد». كما رواها الخطيب البغدادي في «شرف أصحاب الحديث»، و«الكفاية»، و«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع»، وابن الصلاح في «علوم الحديث»، وابن تيمية في «منهاج السنة النبوية»، وابن عبد الهادي في «الصارم المنكي»، والذهبي في «تذكرة الحفاظ»، في ترجمة «أبي الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس»، والتاج السبكي في «طبقات الشافعية»، والسخاوي في «فتح المغيث»، والسيوطي في «تدريب الراوي»، والزرقاني في «شرح المواهب اللدنية»
وذكرها بعض هؤلاء الأئمة من غير سند ، وأكثرهم اقتصر على هذا القدر المذكور منها، وأتمها بعضُهم فذكرها بلفظ: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد شاء: ما شاء، فإذا قيل له: من حدَّثك؟ بَقِي!». أي بَقِيَ ساكتاً مُفْحَاً، أو بَقِيَ ساكتاً مبهوتاً منقطعاً عن الكلام.
ولفظ (بَقِي) بصيغة الفعل الماضي، كما جاء في «العلل الصغير» للترمذي ، و«الضعفاء والمتروكين» لابن حبان و«التمهيد لابن عبد البر، و«الكفاية» للخطيب البغدادي، و«تذكرة الحفاظ» للذهبي.
وكما رأيته في أكثر من نسخة مخطوطة موثوقة من سنن الترمذي». ومنها: ثلاث نسخ في المكتبة الظاهرية بدمشق، إحداها كُتِبَتْ سنة ٥٤٠، وفي آخرها سماعات كثيرة جداً، وقد قُرئت هذه النسخة على حافظ الدنيا أبي الحجاج المزي رحمه الله تعالى، ورقمها في المكتبة الظاهرية (ح: ٥٢٨). والثانية كُتبت سنة ،۱۰۹۹ ورقمها (ح: (٧٩٤)، والثالثة كتبت سنة ١٢٠٢ ورقمها عام (٦٣٤٢). والرابعة: نسخة في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة، عليها شرحُ أبي الطيب السندي.
وقد كُتِبَتْ كلمةُ (بَقِي) في جميع النسخ التي رأيتها بصيغة الفعل الماضي واضحةً جلية، لا لبس فيها ولا احتمال . الأسف الشديد قد تلوّن التحريفُ فيها ألواناً شتى من النساخ، وذلك لبعد فهمهم عنها، لانقطاع استعمالها في الأزمان المتأخرة، فتخبط فيها النساخ، ثم تبعهم كثير غيرهم من المصححين والمحققين، واستنكروا صحة هذه الكلمة لعدم وقوفهم على استعمالها ومعناها والإنسانُ ـ كما قيل ـ عَدوُّ ومع ما جَهل.
وأذكر هنا بعض العبارات التي حُرِّفت فيها هذه الكلمة، ليقف القارىء على وجوه التحريف فيها، ثم أسوقُ شواهد صحة استعمالها، ليتضح للقارىء في أيامنا هذه كيف كانت هذه الكلمة شائعةً متداولة قبل أكثر من ألف سنة.
أ- روى الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في «التمهيد»، من طريق الحسين بن الحسن المروزي، عن ابن المبارك، قال: «لولا الإسناد لقال كل من شاء: ما شاء، ولكن إذا قيل له: عمن؟ بقي!». انتهى. ولم يُوفِّق محققا كتاب «التمهيد» لفهم العبارة، فعلقا عليها بقولها: «كذا ورد في النسخ التي بين أيدينا، ولعل في الكلام بَتْراً؟ نشأ عن عدم تثبتِ الناسخين، لأن المعنى غير ظاهر ما بقي التعبير على حاله». انتهى تعليقهما وتغليطهما لصحة الكلمة التي وردت على الصحة في جميع النسخ التي بين يديهما! والتعبير سليم قويم، لا شِيَةَ فيه، ولكن لما فاتهما الوقوف على أصل هذه الكلمة ومعنى استعمالها، غلطاها وقالا: ما قالا !
ب- وعندما أورد الترمذي الكلمة بتمامها في كتابه «العِلل» الصغير آخر كتابه (الجامع)، تردَّد شارحُهُ المباركفوري في «تحفة الأحوذي» في شرح معناها، فقال: «قوله : (فإذا) قيل له: من حدثك؟ بقي!) بفتح الموحدة وكسر القاف، كذا ضُبِطَ بالقلم في النسخة الأحمدية، وقال محشيه: أي سَكت. قلتُ القائل المباركفوري: لم أجد في كتب اللغة: البقاء بمعنى السكوت، والظاهر عندي أن المراد بَقِيَ حيران، أو بَقِيَ ساكتاً. وفي بعض النسخ: يقي بفتح الياء التحتية، وكسر القاف، من وَقَى يَقِي ، أي يَصُونُ نفسه عن التحديث بلا إسناد، قال في «القاموس»: وَقَاه وَقْياً ووَاقِيَةً: صانه» . انتهى
ج- وجاء في «شرح علل الترمذي» للحافظ ابن رجب الحنبلي، من رواية الترمذي في «العِلَل»، من طريق «عَبْدَان، عن ابن المبارك . . . فإذا قيل حدثك؟ نفى». انتهى. ومَرَّ عليه محققه على الإقرار والموافقة له من دون توقف !.
د-ـ وجاء فيه أيضاً وخرج البيهقي من طريق علي بن حجر، قال: قال ابن المبارك: لولا الإسنادُ لذهب الدِّينُ، ولقال امرؤ ما شَاءَ أن يقول، ولكن إذا قلت: عمن؟ يبقى». انتهى. ومَرَّ عليه محققه أيضاً دون تردد أو استشكال !. وعندما وقف الأستاذ عزيز القادري محقق كتاب «الضعفاء والمتروكين» لابن حبان، على هذه الكلمة : (بقي)، توقف فيها، وعلق عليها في الحاشية بقوله: كذا في نسخة ح ونسخة و، وعليه بين السطور حاشية (كذا)». انتهى. وسبب هذا التوقف منه وممن وقف عليه قبله على هذه اللفظة في تينك النسختين: غموض معناها بالنسبة لمخاطبات الناس ومكاتباتهم في معهودهم
ه- وجاء في «مناقب الشافعي» لابن أبي حاتم الرازي: سمعتُ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعتُ الشافعي يقول: اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين - هارون الرشيد ـ ، فتكلموا في الوُقُوفِ وما يُحبسه الناس - فقال يعقوب – أبو يوسف: هذا باطل قال شُرَيحٌ: جاء محمد صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس، فقال مالك: إنما أطلق ما كانوا يُحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة، فأما الوُقُوفُ فهذا وَقْفُ عمر رضي الله عنه، قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال - له: حَبس أصْلَها، وسَبِّلْ ثَمَرتَها ، وهذا وَقْفُ الزُّبَير، فأَعجَبَ الخليفة ذلك منه، ونفى يعقوب». وعلق عليه شيخنا عبد الغني عبد الخالق رحمه الله تعالى بقوله: «قوله : ونَفَى يعقوب كذا بالأصل و «المناقب» - يقصد «مناقب الشافعي» للفخر الرازي ص ١٣ - ١٤، وفي السنن الكبرى للبيهقي ١٦٣:٦ (وبقي)، وهو تصحيف». انتهى.
وما حَكَم عليه بأنه تصحيف هو الصواب، وما صَوَّبه هو تصحيف كما ترى - وجاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض، في ترجمة الإمام ابن عبدوس (محمد بن إبراهيم بن عَبْدُوس القَيْرَوَاني) فقيه المالكية بعد شيخه سحنون، المولود سنة ۲۰۲، والمتوفى سنة ٢٦٠ رحمه الله تعالى: ودَخَل محمد بن عَبْدُوس على سحنون وعنده ابنه محمد، وأبو داود العطار أحمد بن موسى الأزدي وعبد الله بن الطَّبْنَة، وعبد الله بن سَهْل القِبْرِيَاني، وجماعةٌ من كبار أصحابه، وقد ألقى عليهم مسألة، فبقي عليهم في الجواب. فقال: أيش تتكلمون؟ فقال سحنون: أخبروه، فأخبروه، فقال: قال فيها بعض أصحابنا كذا وبعضُهم كذا، وذكر الجواب والاختلاف. فقال سحنون: نعم انظروا من يَدْرُس، وأنتم تركتم الدرس!».
وجاء في أدب الإملاء والاستملاء للإمام أبي سعد السمعاني، بسنده إلى «ضَمْرَةَ بن ربيعة الرَّمْلي، عن عبد الله بنِ شَوْذَب، قال: مَثَلُ الذي يروي عن عالم واحد، كمثلِ رَجُل له امرأة - واحدة ــ إذا حاضَتْ نَقِي». كذا وقع فيه بالنون مشكولاً كله ، وصوابه : (بَقِي) بالباء الموحدة من تحت لا غير.
و-- وجاء في كتاب «الاستقامة» للإمام ابن تيمية قول أبي يزيد البسطامي رحمه الله تعالى: «عَمِلتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدتُ شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلافُ العلماء لتفتت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد». انتهى.
وقوله : (ولولا اختلافُ العلماء لتفتت تحريف عن (لبَقِيتُ) أي لبَقِيتُ في مَشَقَّةٍ وعذاب . وقد جاءت هذه الكلمة على الصحة والصواب في «الرسالة القشيري»: ( ولولا اختلاف العلماء لبقيتُ). وعلق المحقق الدكتور رشاد سالم على كتاب «الاستقامة» بقوله: (لَتَفَتِّتُ، كذا في الأصل. وفي الرسالة القشيرية: لبقيتُ). انتهى. فبقي المحقق متردّداً في صحة إحدى الكلمتين، والصواب: لبَقيتُ.
ز- وجاء في «منهاج السنة النبوية» للشيخ ابن تيمية: «... لولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، فإذا يُسأل عمن لقي»,
ح - وجاء في «الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي المقدسي الحنبلي ... ولكن إذا قيل : من حدَّثك نَفَى» هكذا وقعت العبارة في الطبعة البولاقية. ووقعت هذه العبارة في الكتاب نفسه، في طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، بتحقيق الدكتور رشاد سالم:٣٦٠، على وجه آخر من التغيير والتصرف فجاءت: (لولا الإسناد لقال ما شاء، فإذا سُئِلَ: وَقَف وتحير.
وعلق عليه محققه بقوله: (ن ـ أي في مخطوطة نور عثمانية – فإذا سُئِلَ عمن بقي . س ـ أي في مخطوطة جامعة الإمام الخامسة ــ فإذا سُئِلَ - عمن لقي. ب ــ أي في النسخة المطبوعة البولاقية - فإذا يُسأل عمن لقي). انتهى .
وهذا اضطراب شديد فيه ألوان من التحريف ما عرفت اللفظ المثبت من أي نسخة ؟ ولم يُشر المحقق إلى شيء، فإن كان هو اختيارَهُ وأثبتهُ من عنده فقد زاد الأمرَ بَلْبَلَةً وسُوءاً، فالله أعلم .
هكذا وقع في النسخة المطبوعة بالمطبعة الخيرية ص ٢٦٨. وهكذا وقع أيضاً: (نَفَى)، في ص ٣٧٥ طبعة دار الإفتاء بالرياض سنة ١٤٠٣، بتحقيق العلامة الفاضل المحقق من الشيخ إسماعيل الأنصاري.
وكلُّه تحريف عن لفظ (بقي). كما أن كلمة (يسأل) في «منهاج السنة» تحريف عن (قيل)، وهو مسبب عن تحريف (بقي) لغموض معناها، فتحريف جَرَّ تحريفاً ! والذي يبدو لنظر العبد الضعيف أن هذه الكلمة: (فَبَقِي)، كانت تقال على نحو هذا الوجه: فَبَقِيَ ساكتاً لا يَنطِقُ بحرف، أو: فبقي واجماً لا يَنْبِسُ بكلمة. كما ترى هذا الأسلوب كثيراً منتشراً في الأخبار، في كتب الأدب أو التارخ أو التراجم، وأقربها مني الآن ما جاء في كتاب أعلام النساء لعمر كحالة، في خبر (محبوبة)، وذلك أن الخليفة المتوكل العباسي، «طلب من الشاعر علي بن الجهم أن يقول شيئاً في إحدى جواريه، فبَدرَتْ محبوبة فقالت فيها شعراً من غير فكر ولا رَويَّة، وبَقِي علي بن الجهم واجماً لا يَنطِقُ بحرف». انتهى.
والخبر هناك بتمامه منقول عن «الأغاني» و «مروج الذهب». فلما اشتهرت هذه الجملة وعُرف المراد منها، صار لفظ (فَبَقِي) دالا لسامعه على ما بعده، فطَوَوْا بقية الجملة اكتفاء بفهم المراد، كما يقع دائماً في مخاطبات الناس في كل عصر ومصر: أنهم يطوون من الذكر ما عُرِف، اختصاراً واكتفاء، فحذفوا بقية الجملة للعلم بها وأدباً منهم لأنها تكشف عن ضعف المقولة فيه، كما تقدمت الإشارة إليه، ورحم الله تعالى إمام النحاة ابن مالك الجياني الأندلسي، إذ قال في ألفيته: «الخلاصة»: وحَذْفُ ما يُعلَمُ جائز كما تقولُ: زيدٌ، بَعْدَ مَنْ عِندَكُما؟ وإليك بعد هذا طائفة من نصوص العلماء القدامى، تُؤنِسُك بهذا التعبير، وتُحدد لك معناه، وتُعرّفك بشيوعِهِ واستعمالِهِ في مُناطَقَاتِ علماء القرن الثاني حتى أوائل القرن الخامس مرتبة بتسلسل أزمان قائلي تلك النصوص:
* رَوَى الحافظ الخطيب البغدادي في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع»، بسنده إلى ابن شَوْذَب، عن مَطَرٍ ـ الوراق التابعي البصري المتوفى سنة ١٢٩ رحمه الله تعالى - قال: العِلْمُ أكثر من مَطَرِ السماء، ومَثَلُ الرَّجُلِ الذي يروي عن عالم واحدٍ كرجل له امرأة واحدة، فإذا حاضَتْ بَقِي».
وقد وقع في طبعة الأخ الفاضل الدكتور محمود طحان: (فإذا حاضت هي)، وعلَّقَ عليه بقوله: وهكذا جاء النص في المخطوطة بدون جواب الشرط، وذلك للعلم به، وتقدير الجواب: حاضَ مَعَها حُكْماً). انتهى. وهذا كله خطأ بُني على تحريف (بَقِي) إلى (هي)، لغموض المعنى عند الناسخ ، أو عند الشيخ الراوي للخبر! فأوقع المحقق في هذه الغلطة.
* وروى الحافظ البيهقي في «مناقب الشافعي»، والحافظ ابنُ عبد البر في «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء»، في (باب فصاحة الشافعي واتساعه في فنون العلم)، وذكر أيضاً القاضي عياض في «ترتيب المدارك»، والحافظ ابن حجر في توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس»: «عن المُزَني قال: قَدِمَ الشافعي، وكان بمصر ابن هشام صاحب «المغازي»، وكان عالم مصر بالغريب والشعر، فقيل له: لو أتيت الشافعي، فأَبى أن يأتيه، فلما كان بعد ذلك قيل له: لو أتيته فأتاه فذاكره أنساب الرجال. فقال له الشافعي بعد أن تذاكرا طويلاً: دَعْ عنك أنساب الرجال، فإنها لا تذهَبُ عنا وعنك، وخُذْ بنا في أنساب النساء، فلما أَخَذَا فِيها بَقِي ابن هشام ! أي انقطع ، فكان ابن هشام بعد ذلك يقول: ما ظننتُ أن الله عزّ وجل خَلَقَ مثل هذا. انتهى. قال البيهقي في ختام الخبر في الموضع الأول: «أي انقطع». وقال سكت. يعني ابن حجر.
وجاء في كتاب المُحَدِّث الفَاصِل بين الراوي والواعي»، للرامَهُرْمُزي : حدثني عبد الله بن محمد بن أبان الخياط من أهل رامهرمز، ثنا القاسم بن نصر المُخَرِّمي ، ثنا سليمان بن داود المنقَرِي، قال: وجه المأمون عبد الله بن هارون، إلى محمد بن عبد الله الأنصاري ــ البصري المحدث قاضي البصرة، المولود سنة ١١٨ والمتوفى سنة ٢١٥ رحمه الله تعالى خمسين ألف درهم، وأمَرَهُ أن يقسمها بين الفقهاء بالبصرة، فكان هلالُ بنُ مُسْلِم يَتكلم عن أصحابه، قال الأنصاري: وكنتُ أنا أتكلم عن أصحابي، فقال هلال: هي لي ولأصحابي، وقلت أنا: بل هي لي ولأصحابي، فاختلفنا . فقلت لهلال: كيف تتشهدُ ؟ فقال هلال: أو مثلي يُسأل عن التشهد؟ ! قلتُ: إنما عليك الجواب، والجواب عن الواضح السِّهْل أولى، فتشهد هلال على حديث ابن مسعود، فقال له الأنصاري: من حدثك به؟ ومن أين ثَبَتَ عندك؟ فَبَقِيَ هِلال، ولم يجبه ! فقال الأنصاري: تُصلّي في كل يوم وليلة خمس صلوات، وتُرَدِّدُ فيها هذا الكلام، وأنت لا تدري من رواه عن نبيك صلى الله عليه وسلم؟ قد باعَدَ اللهُ بينك وبين الفقه ! فقسمها الأنصاري في أصحابه.
* وجاء في تاريخ الأمم والملوك للإمام ابن جرير الطبري، في حوادث سنة ٢١٨، في خبر مُحادثة العتابي للمأمون: «... ثم أخذوا في المُفاوَضَةِ والحديث، وغَمَز عليه ـ أي على العتابي - إسحاق بن إبراهيم، فأقبل لا يأخُذُ العتابي في شيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فَبقي متعجباً، ثم قال : يا أمير المؤمنين . . . » . وجاء في الجزء المطبوع من مسند يعقوب بن شيبة»، وهو قسم من (مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، جاء فيه: حدثنا محمد، قال: حدثنا جدي ــ هو يعقوب بن شيبة مؤلفُ المُسْنَد -، قال : سمعتُ علي بن عبد الله هو ابن المديني - يقول: كنت عند سفيان - هو ابنُ عُيَينة - معي ابنُ ابنِ حماد بن زيد، فحدث سفيان بحديث: عمرو - هو ابن دينار ، عن طاوس - في المواقيت، مُرسَل. قال علي: فقلت له: حماد بن زيد يقول: عن ابن عباس، ـــ يعني يرويه عن طاوس عن ابن عباس، فقال سفيان: أُحَرِّجُ عليك بأسماء الله لَمَا صَدَقْتَ: أنا أعلمُ بِعَمْرِو أو حَمَّادُ بنُ زيد؟ فبَقِيتُ! ثم قلتُ: أنت يا أبا محمد أعلَمُ بعَمرو من حماد بن زيد، وابن ابنه حاضر، فلما قُمتُ قال لي ابن ابنه : عَرَّضَتَ جَدِّي حين قلت له : إنَّ حَمَّاد بن زيد يقول: كذا وكذا». انتهى. وواضح من قوله: فَبقيتُ. أي أُفحِمتُ وبَقِيتُ ساكتاً، بدليل قوله بعد: ثم قلت.
* وجاء في «تَقْدِمَةِ الجرح والتعديل»، وفي «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي، في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، و «مناقب الإمام أحمد» لابن الجوزي، قال أحمد بن حنبل: مات هشيم وأنا ابنُ عشرين سنة، وأنا أحفَظُ ما سمعتُ منه ، ولقد جاء إنسان إلى باب ابن عليّة، ومعه كتُبُ هُشَيم، فجعَلَ يُلقيها عليَّ وأنا أقول: إسنادُ هذا كذا، فجاءَ المُعَيْطِيُّ وكان يحفظ، فقلت له: أجِبهُ فيها، فبقي !». انتهى.
وجاء هذا الخبر في «الحلية» لأبي نعيم، بلفظ ( .. فقلتُ له : أحبه فيها، فَسهَا) انتهى. ولفظ (فَسهَا) تحريف عن (فبقي)، ولعله بتصرف من الناسخ أو الطابع؟ إذ لم يفهم معنى (فبقي)، فقدَّرها محرفةً عن (فَسَهَا)، فَسَهَا!
وجاء في «تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، في ترجمة (أحمد بن حنبل)، وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، وفي تاريخ الإسلام للذهبي -مخطوط -من طريق ابن أبي حاتم في ترجمة (أحمد بن حنبل): «قال إسحاق بن راهويه: كنتُ أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم : وطريق كذا، فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع منا؟ فيقولون: نعم فأقول : ما مُرادُه؟ ما تفسيره؟ ما فِقْهُهُ؟ فَيَبْقَوْن. كلهم! إلا أحمد بن حنبل.
ونقل هذا النص شيخنا العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى، في «مقدمته» على مسند الإمام أحمد» ٦٤:١، ووقع فيه: (فيقفون كلهم إلا ...)، وهو تحريف عن (فَيبْقَون)، ووقع محرفاً إلى (فيقفون) أيضاً في مخطوطة دار الكتب المصرية من تقدمة الجرح والتعديل المرموز لها في المطبوعة بحرف (م).
وجاء في «ذيل طبقات الحنابلة» للحافظ ابن رجب، و«المنهج الأحمد» للعليمي، في ترجمة (يحيى بن مَنْدَه الأصبهاني): «قال فوران: ماتت امرأة لبعض أهل العلم: فجاء يحيى بن مَعِين والدورقي، فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائضاً، فجاء أحمد بن حنبل وهم جلوس، فقال ما شأنكم؟ فقال أهل المرأة : ليس نَجِدُ غاسِلةً إلا امرأةً حائضاً، فقال أحمد بن حنبل: أليس تَرْوُون عن النبي صلى الله عليه وسلم «يا عائشة ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدكِ. يجوز أن تغسلها، فخجِلُوا وبَقُوا !»
* وجاء في «سير أعلام النبلاء» للذهبي، في ترجمة الإمام أبي عبد الله البخاري : «قال محمد بن أبي حاتم ورَّاقُ البخاري : قَدِمَ إِلى بُخَارَى رجاءُ بنُ مرجى - الإمام الحافظ الناقد المصنف - فصار إلى أبي عبد الله، فقال لأبي عبد الله: ما أعددت لقدومي حين بلغك؟ وفي أي شيء نظرت؟ فقال: ما أَحْدَثْتُ نظراً، ولم أستعد لذلك، فإن أحببت أن تسأل عن شيء فافعل، فجعل يناظره في أشياء، فبقِيَ رَجَاءٌ لا يَدْرِي أين هو».
* وجاء في تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، «قال عبد الرحمن - هو ابن أبي حاتم -: قيل لأبي زُرْعَة - الرازي عُبَيدِ الله بن عبد الكريم -: بلغنا عنك أنك قلت: لم أرَ أحداً أحفظ من ابن أبي شيبة؟ فقال: نعم في الحفظ، ولكن في الحديث، كأنه لم يَحْمَدُه. فقال: رَوَى مَرَّةً حديثَ حُذَيْفَة في الإزار، فقال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي مُعَلَّى، عن حذيفة. فقلتُ له: إنما هو أبو إسحاق، عن مُسْلِم بن نُذَيْر، عن حُذَيْفَة، وذاك الذي ذكرت عن أبي إسحاق، عن أبي المُعَلَّى، عن حُذَيْفَةَ قَالَ: «كنتُ ذَرِبَ اللسان . . . ». فبقي. فقلت للوراقِ: أحضرُوا «المسنَدَ»، فَأَتَوْا مُسْنَدِ حُذَيْفَة، فأصابه كما قلت.
* وجاء في «تقدمة الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرازي، في ترجمة والده (أبي حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي)، و«طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي: قال عبد الرحمن - هو ابن أبي حاتم -: سمعت أبي يقول: كان محمد بن يزيد الأسْفَاطي يحفظ التفسير، فقال لنا يوماً: ما تحفظون في قول الله عز وجل: {فَنَقَبُوا في البلاد}؟، فبَقِيَ أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى بعض وفي طبقات الشافعية»: فسكتوا، فقلتُ أنا: حدثنا أبو صالح ، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {فنقبوا في البلادِ} قال : ضَرَبُوا في البلاد، فاستَحْسَن».
* وجاء في «مجالس العلماء» للزَّجَّاجي: «أن أبا العباس المبرد قال لأبي إسحاق الزجاج: فإن قيل لك: إذا قلت: شيءٌ أحسن زيداً، فقد أخبرت ولم تتعجب، فإذا وضعت (ما) في موضع (شيء)، فمن أين وقع التعجب؟ قال الزجاج : فبَقِيتُ! ولم يكن عندي جواب».
* وجاء في مناقب الشافعي للبيهقي، في آخر حكاية أوردها البيهقي عن أبي القاسم الأنماطي: (عثمان بن سعيد بن بشار)، أحد أصحاب المزني رحمهما الله تعالى، جاء في آخرها قول أبي القاسم الأنماطي: فقلتُ له ـ أي لرئيس الجهمية الذي اجتمع معه ليناظره: القرآن غير مخلوق، وأدُلُّ عليه بكتاب الله تعالى وسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حُجَجِ العُقول التي ركبها الله في عباده، قال: فأوردت عليه ذلك، فبقي متحيراً». انتهى. وإجماع أمته.قال عبد الفتاح: وهنا قد صرَّح المتكلم بحال الذي (بَقِي)، فقال: (فبقي متحيراً).
* وجاء في تاريخ بغداد للخطيب، في ترجمة (الإمام أبي زُرْعَة الرازي): «... حدثنا صالح الأسدي هو صالحُ جَزَرَة، قال حدثني سلمة بن شَبِيب، حدثني الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا زهير بن معاوية، قال حدثتنا أم عمرو بنتُ شِمْر، قالت: سمعتُ سُويدَ بنَ غَفَلَة يقرأُ وعِيسَ عِين، يُريدُ : حُوْرٌ عِين. قال صالح: القَيْتُ هذا على أبي زُرْعَة فبَقِيَ مُتعجباً، وقال: أنا أحفظ في القراءات عَشَرَةَ آلاف حديث، قلتُ: فتحفَظُ هذا؟ قال: لا.
*ـ وجاء في معرفة علوم الحديث للحاكم، في (النوع الثالث والثلاثون من علوم الحديث: مذاكَرَةُ الحديث)، وفي «تذكرة الحفاظ» للذهبي، في ترجمة (أبي علي عبد الله بن محمد بن علي البلخي الحافظ): «قال الحاكم : سمعت أحمد بن الخضر الشافعي غير مرة يقول : قَدِمَ علينا - نيسابور - أبو علي عبد الله بن محمد بن علي الحافظ البلخي حاجاً، فعجَزَ أهل بلدنا عن مذاكرته الحفظة. فاجتمع معه جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ الحصيري النيسابوري، فذاكره بأحاديث الحج، فكان عبد الله يسردها، فقال له جعفر: تحفظ عن سليمان التيمي، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بحَج وعُمْرَة؟ فبقي أبو علي، فقال جعفر: حدثنا به يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا مُعْتَمِرُ بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، فقطع المجلس بذلك.
* وجاء في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي و«تذكرة الحفاظ» للذهبي، في ترجمة (أبي العباس أحمد بن عُقدة)، وقد كان أحفَظَ مَنْ في عصرِهِ من الحفاظ، قال الخطيب: «قال أبو أحمد - هو الحاكم الكبير النيسابوري ـ قال لي أبو العباس بنُ عُقدة : دخَلَ البَرْدِيجي الكوفة، فزَعَمَ أنه أحفَظُ فقلت: لا تُطَوِّل، تَتقَدَّمُ إلى دُكانِ وَرّاق، وتَضَعُ القَبَّانَ، وتَزِنُ من الكتب ما شِئتَ، ثم تلقى علينا فَنَذكره، فبقي !». انتهى.
* وجاء في «معرفة علوم الحديث» للحاكم، في (النوع الثالث والثلاثون: مُذاكرة الحديث، وفي «تذكرة الحفاظ» للذهبي، في ترجمة (الحافظ المُفِيدِ أبي حفص عُمَرَ البصري، تلميذ ابن عُقدة) ما يلي: «قال الحاكم، سمعتُ عُمر بن حفص البصري، يقول: دخلت الكوفة سنة من السنين وأنا أُريدُ الحج، فالتقيت بأبي العباس بن عُقدة، وبتُ عنده تلك الليلة. وتوقف المصحح لكتاب تاريخ بغداد في صحة هذه الكلمة! فعلَّق عليها بقوله: «هكذا في الأصلين من تاريخ بغداد».
وتوقفه إنما نشأ من عدم معرفته بصحة هذه الكلمة ومعناها ! فأخذ يُذاكرني بشيءٍ لا أهتدي إليه ـ قال الخطيب في «تاريخ بغداد»: وكان أبو العباس أحفظ من في عصرنا للحديث ـ ، فقلت: يا أبا العباس، عند أيوب السختياني عن الحسن؟ فذكر حديثين، فقلتُ : تحفظ: أيوب، عن الحسن، عن أبي بَرْزَة أن رجلاً أغلظ لأبي بكر، فقال عُمَرُ: يا خليفة رسول الله، دَعْني فأضرِبَ عُنُقَه ! فقال: مَهُ يا عمر، ما كانَتْ لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَقِيَ ! وكَبَّرتُ.
* وجاء في «تذكرة الحفاظ» أيضاً، في ترجمة الحاكم أبي عبد الله النيسابوري «قال الحافظ خليل بن عبد الله: دخلت على الحاكم أبي عبد الله، ويُقرأُ عليه في «فوائد العراقيين»: سُفيان الثوري، عن أبي سلمة، عن الزهري، عن سهل بن سعد: حديث الاستئذان ـ أي حديث إنما جُعِلَ الاستئذان أجل البصر، فقال: من أبو سَلَمة؟ قلت: هو المُغيرةُ بنُ مُسْلِم السراج، قال: وكيف يروي المغيرة عن الزهري؟ فبَقِيتُ! - ثم قال: قد أمهلتك أسبوعاً، فتفكّرتُ ليلتي، فلما وقعتُ ـ أي وَصَلتُ بتفكيري إلى أصحاب الجزيرة - تذكَّرتُ محمد بن أبي حَفْصَة، فإذا كُنْيَتُهُ أبو سلمة، فلما أصبحت حضرت مجلسَهُ وقرأتُ عليه نحو مئة حديث، فقال لي: هل تذكَّرت فيما جَرَى؟ فقلتُ: نعم، هو محمد بن أبي حفصة، فتَعَجَّبَ وأثنى علي». انتهى.
فهذه ثمانيةَ عَشَرَ نصَّاً - والنصوص غيرها كثير يراها الباحث المنقب في كتب التاريخ والتراجم والأدب وغيرها - تدلّ أوضح الدلالة على صحة كلمة ابن المبارك رحمه الله تعالى: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قِيلَ له : مَنْ حَدَّثك؟ بَقِي !». أي أفْحِمَ وبَقِي ساكتاً .وإنما أُعْفِلَتْ هذه الجملة في كثير من الكتب، عند نقل كلمة ابن المبارك على توالي العصور، لغموض المعنى المقصود منها شيئاً فشيئاً، استعمال هذا التعبير، ولكنها من تمام المعنى المراد لابن المبارك، في بيان شأن أهمية الإسناد في الدين والله تعالى أعلم. وهكذا يتبدى من هذه الشواهد أن بعض الألفاظ في العربية تعيش في قرون وتموت في قرون كشأن الأفكار وغيرها.
٧-حذف الكلمة المكروهة عند العرب: ولحذف الكلمة المكروهة في مُحاوَرَاتِ العرب - كِيَاسَةً وأدباً وترفعاً ورِفْقاً، واستغناء بذكر ما قبلها عنها ـ شواهد كثيرةً في كلامهم، بل في كلام الناس اليوم من ذلك شيء كثير.
أ- فمن شواهدِ حَذْفِها في كلام الصحابة الكرام، لرعاية ما أشرتُ: ما جاء في تاريخ بغداد للخطيب ٤ : ١٣٥ عن محمد بن السائب بنِ بَرَكة، عن أُمِّهِ قالت: طُفتُ عائشة بالبيت في نسوة من بني المغيرة، فذكَرْنَ حَسَّانَ بنَ ثابتٍ ووَقَعْنَ فيه، فقالت عائشة: ابنُ الفُرَيْعَةِ تَسُبُونَهُ منذ الليلة قُلْنَ يا أم المؤمنين إنه ممن، قالت: أليس هو القائل: - أي في الرد على أبي سفيان قبل إسلامه :
هَجوتَ مُحَمداً وأَجِبتُ .. وعندَ اللهِ في ذاكَ الجَزَاءُ
فإِنْ أَبِي وَوَالِدَهُ وعِرْضِي .. لِعِرْضِ مُحمدٍ منكم وقَاءُ
والله إني لأرجو أن يُدخِلَهُ اللهُ الجنة». انتهى. أي بذَبِّهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسَانِه.
وقَوْهُنَّ: (إِنَّهُ يُنْ، يَعْنِينَ أنه من خاص في خَبَرِ الإفك.
ب - ومن الشواهد أيضاً ما جاء في «صحيح البخاري» ٥٣٢:١، في كتاب الصلاة (باب: نوم المرأة في المسجد) عن عائشة رضي الله عنها أن وَلِيدَةً كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها فكانَتْ معَهُمْ قالَتْ - أي الوليدة -: فخرجَتْ صَبِيَّةٌ لهم عليها وِشَاحٌ أحمر من سُيُور، قالَتْ: فوضَعَتْهُ أو وَقَعَ منها. فمَرَّتْ به حُدَيَّاةً وهو مُلْقَى، فَحَسِبَتْهُ لَحْماً، قالت: فكانت تأتيني عندي، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت فاتهموني به، قالت: فَطَفِقُوا يُفتشون حتى فتشوا قبلها - تعني الوليدة نفسها ولكنها أسندت الكلام بلفظ الغيبة أدباً منها وخجلاً، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مَرَّتْ الحُدَياةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فوقع بينهم: فقلتُ: هذا الذي اتهمتوني بهِ زَعَمْتُم، وأنا منه بَرِيئَةٌ وهُو ذَا هُو. قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خِبَاءٌ في المسجد أو حِفْش - بيت ضيق صغير متواضع من بيوت الأعراب، قالت: فتحدث قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويوم الوشاح من تعاجِيبِ رَبِّنا .. ألا إنه من بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجاني
قالت عائشة: فقلتُ لها: ما شأنك لا تقعدين مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث». انتهى. والشاهد أنها طَوَتْ من الذكرِ مفعول (زَعَمْتُمْ)، وهو (أني سرقته)، كراهة التصريح به ولمعرفته من السياق. وقوله : (من سيور) أي من سُيُورِ الجلد، وهي الخيوط العريضةُ التي تُقَدُّ من الجلد.
وقولها في البيت (أنجاني) روايةً أوردها البخاري هنا، وأورد رواية ثانية: (نَجاني) بتشديد الجيم، في الجزء ٧: ١٤٨، في كتاب مناقب الأنصار (باب أيام الجاهلية). والوشاح بكسر الواو ويجوز ضمها: خَيْطانِ من لؤلؤ وجوهر منظومانِ، يُخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، ونسيج عريض من أديم يُرضعُ بالجواهر، وتَشُدُّه المرأة بين عاتقها وكشحها. ومعذرةً من الإطالة ففي الحديث قصة طريفة، ولذا أوردته بطوله.
ج- ومن الشواهد أيضاً قولُ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حين رَوَى الحديث المرفوع: «الطَّيَرَةُ شرك»، قالَ بعدَهُ: «وما مِنَّا إِلَّا، ولكنَّ اللَّهَ يُذهِبهُ بالتوكل . رواه أبو داود ٤ : ٢٣٠، في كتاب الطب (باب) الطَّيَرَة)، والترمذي ٤ : ١٦٠، في كتاب السِّير (باب ما جاء في الطيرة)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه ۲ : ۱۱۷ في الطب (باب: من كان يُعجِبُهُ الفَأل). قال الإمام الخطابي: قوله : (وما مِنا إلا)، معناه إلا مَنْ يَعتريه التطيرُ، وَيَسبِقُ إلى قلبه الكراهة منه ، فحذف اختصاراً للكلام، واعتماداً على فهم السامع.
٨-قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في فاتحة كتابه اللطيف: «الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ»، مشيراً إلى مَزيَّةِ ما خُصَّتْ به هذه الأمة المحمدية: «أما بعد فإن الله عز وجل خَصَّ أمتنا بحفظ القرآنِ والعِلم، وقد كان مَنْ قبلنا يقرأون كتبهم من الصُّحُف، ولا يَقدِرُون على الحفظ، فلما جاء عُزير فقرأ التوراة من حفظه قالوا : هذا ابن الله . فكيف نقوم - نحن معشر المسلمين ـ بشُكْرِ مَنْ خَوَّلَنَا أَنَّ ابنَ سَبْع سنين منا يَقرأُ القرآنَ عن ظَهْرِ قلب.
ثم ليس في الأمم ممن يَنقُلُ عن نبيه أقواله وأفعاله على وَجْهِ يَحصُلُ به الثقةُ إلا نحن، فإنه يروي الحديثَ مِنَّا خَالِفٌ عن سالِف، وينظرون في ثقة الراوي إلى أن يَصِلَ الأمر إلى رسول الله . وسائر الأمم يَرْوُونَ ما يذكرونه عن صحيفةٍ، لا يُدرَى من كتبها، ولا يُعرَفُ من نَقلَها . وهذه المنحة العظيمة نفتقِرُ إلى حفظها، وحفظها بدوام الدراسةِ ليبقى المحفوظ، وقد كان خَلْقُ كثيرٌ من سَلَفِنا يحفظون الكثير من الأمر ـ كذا، وصوابه : من العِلم - ، قال الأمر إلى أقوام يَفِرُّون من الإعادةِ ميلا إلى الكسل، فإذا احتاج أحدهم إلى محفوظ لم يقدر عليه !. انتهى .
وقال الحافظ الخطيب البغدادي في «الكفاية» ص ۲۳۰: «قال مروان بن محمد : ثلاثة ليس لصاحب الحديث عنها غنى : الحفظ والصدق، وصحة الكتب، فإن أخطأته واحدة وكانت فيه ثنتان لم يَضُره : إن أخطأ الحفظ، ورَجَعَ إلى صِدقٍ وصِحْةِ كتب لم يَضره وقال أيضاً: طال الإسنادُ وسَيَرجِعُ الناس إلى الكتب . انتهى
وقد رسم الإمام ابن الجوزي طريقة إحكام الحفظ وإتقانِهِ في كتابه المذكور، فقال فيه ص ٣٥: الباب الرابع في بيان طَريقِ إحكام المحفوظ: الطريقُ في إحكامه: كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. معه.
وكان أبو إسحاق الشيرازي يُعيدُ الدرسَ مِئَةَ مرَّة، وكان الْكِيَا - الهَرَّاسِي . يُعِيدُ سبعين مرة. وقال لنا الحَسَنُ بنُ أبي بكر النيسابوري الفقيه: لا يحصل الحفظ إلا حتى يُعاد خمسين مرة. وَحَكَى لنا الحسَنُ أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته قد واللهِ حَفِظتُهُ أنا، فقال: أَعِيدِيهِ فأعادَتْهُ، فلما كان بعد أيام قال: يا عجوز، أعيدي ذلك الدرس، فقالت ما أحفَظُهُ قال أنا أكرر هذا الحفظ لئلا يُصِيبَني ما أصابك». انتهى.
فينبغي للإنسان أن يُعيد بعد الحفظ ليثبت معه المحفوظ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعاهَدُوا القرآن فإنه أشَدُّ تَفَصِّياً من صُدُور الرجال من النَّعَم من عُقْلِها» رواه البخاري ومسلم.. وانظر أخبار طائفة ممن كان على هذه الهِمَّة العلياء، من نُبَغاء العلماء، في كتابي «صفحات من صبر العلماء» على شدائد العلم والتحصيل ١٩٤.
ووقفت بعد فراغي من هذه الرسالة على مقال ماتع جامع للعلامة الأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي رئيس المجمع العلمي العراقي، بعنوان (الرِّوَايَةُ والأسانيد وأثرهما في تطور الحركة الفكرية في صَدْرِ الإسلام)، نَشَرَهُ في مجلة المجمع العلمي العراقي، في المجلد ٣١ في العدد ١ عدد صفر سنة ١٤٠٠ كانون الثاني ۱۹۸۰، في ۲۱ صفحة من ص ۱۱ - ۳۳، فأحيل القارىء الباحث إلى الوقوف عليه، ففيه لمحات طيبة في موضوع الإسناد والرواية.
٩-من أغرب ما وقع للعلامة المؤرخ المحقق الزركلي رحمه الله تعالى، في كتابه الماتع النفاع: «الأعلام» ٦: ١٨٣، أنه قال في ترجمة (ابن عبدوس هذا: «ولد سنة ٢٠٢ وتوفي سنة ٢٦٠: فقيه زاهد من أكابر التابعين انتهى. وكيف يكون من أكابر التابعين من يُولَدُ بعد المائتين؟! ولكنها الغفلة التي لا يخلو عنها الإنسان!
وإنما وقع له هذا الغلط بسبب ما جاء في ترجمته عند من ترجموه: «قال أحمد بن زیاد ما أظنُّ كان في التابعين مِثلُه؟». قال القاضي عياض في «ترتيب المدارك»، في ترجمته عقب هذه الكلمة: يعني في الفضل والزهد. وهذا غُلُو». انتهى .
وقع في ترتيب المدارك من طبعة بيروت: (عبد الله بن الطبية)، أي بتقديم الباء الموحدة على الياء! وعلق عليه محققه هنا تخليطاً وتخبيطاً! وأما تحقيقه لهذا الكتاب العظيم فيستحق عليه التعزير! وقد وقع في الطبعة التي حققها تحريفات وتصحيفات لا تعد! ثم نقص وسقط لتراجم عددها ٤١٠ فقط !! اكتفى بالإشارة إليها بقوله في حاشية الجزء: ٢٧٥ بقوله: لعل بالأصل نقصاً من الناسخ». وهذه التراجم الناقصة تراها في طبعة المغرب التامة في الجزء ٤٠٢:٤ حتى ٢٥٣:٥.
وجاء في طبعة المغرب: عبد الله بن الطيبة أي بتقديم الياء المثناة على الباء الموحدة! وكلاهما تحريف وصوابه كما في ترجمته بين أيدي المحققين لهذا الكتاب ١٢٧:٣ و ٤ : ۲۳۱ (عبد الله بن الطبية)، بضم ثم بسكون الباء الموحدة ثم نون ثم تاء مربوطة، وكما جاء في ترجمة ابنه : (حمدون بن عبد الطبنَة) ١٠٠:٥ الطاء الله بن من طبعة المغرب. ووقع نحو هذا التحريف في ترجمة (حمدون) في كتاب «علماء إفريقية» لمحمد بن الحارث الخشني ص ٢١٤، فاعرفه.
١٠- قال عبد الفتاح هذا النص (يعني الذي يخبر فيه عن حفظ الإمام أحمد) يُفيدنا بجلاء أن المعرفة التامة بعلم الحديث ـ ولو من أولئك الأئمة الكبار أركان علم الحديث في أزهى عصور العلم - لا تجعل المحدِّثُ الحافظ (فقيهاً مجتهداً)، إذ لو كان الاشتغال بالحديث يَجعلُ (الحافظ): (فقيهاً مجتهداً)، لكان الحفَّاظُ الذين لا يُحصَى عَدَدُهم، والذين بلغ حفظ كلّ واحدٍ منهم للمتون والأسانيد، ما لا يحفظه أهل الأمصار اليوم: أولى بالاجتهاد ولكنهم صانهم الله فما زعموه مصر من لأنفسهم.
بل إن سَيِّدَ الحفاظِ الإمام (يحيى بن سعيد القطان البصري)، إمام المحدثين، وشيخ الجرح والتعديل : كان لا يجتهد في استنباط الأحكام، بل يأخذ بقول أبي حنيفة، كما في «تذكرة الحفاظ» للحافظ الذهبي ٣٠٧:١، في ترجمة (وكيع بن الجراح).
وفي «تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر ٤٥٠:١٠ قال أحمد بن سعيد القاضي: سمعت يحيى بن معين ـ تلميذ يحيى القطان ـ يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: لا تَكْذِبُ الله، ما سَمِعْنا رأياً أحسَنَ من رأي أبي حنيفة، وقد أَخَذْنا بأكثر أقواله».
وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، محدث العراق، لا يجتهد أيضاً، ويُفتي برأي الإمام أبي حنيفة الكوفي، ففي تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي ۳۰۷:۱، و«تهذيب التهذيب» ١١ : ١٢٦ – ١٢٧ قال حُسَينُ بن حِبَّان، عن ابن مَعِين تلميذ وكيع -: ما رأيتُ أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة».
وكذلك هؤلاء الحفاظ الأئمة الأجلة، الذين عناهم إسحاق بن راهويه في كلمته المذكورة ومنهم يحيى بن معين كانوا لا يجتهدون، وقد أخبر عنهم أنهم كانوا يفيضون في ذكرِ طُرُقِ الحديث الواحِدِ إفاضةً زائدة، فيقول لهم: ما مُراد الحديث؟ ما تفسيره؟ ما فِقهُهُ؟ فَيَبْقَون كلهم إلا أحمد بن حنبل». وهذا عُنوان دينهم وأمانتهم وحَصَافتهم، إذْ وَقَفوا عند ما يُحسنون، ولم يخوضوا فيما لا يُحسنون . وذلك لصعوبة الفقه الذي يعتمد على الدراية، وعُمقِ الفهم للنصوص من الكتاب والسنة والآثار، وعلى معرفة التوفيق بينها، وعلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وما أجمع عليه وما اختلف فيه، وعلى معرفة الجرح والتعديل والترجيح بين الأدلة، ومعرفة العرب ألفاظاً وبلاغة ونحواً ومجازاً وحقيقة.
ومن أجل هذا قال الإمام أحمد لما سأله محمد بن يزيد المستملي، عن المحدث الحافظ الكبير (عبد الرزاق بن هَمَّامٍ الصَّنْعاني) صاحب التصانيف، ومنها «المصنف» في أحد عشر مجلداً ضخماً، وشيخ الإمام أحمد نفسه، وشيخ إسحاق بن راهويه، ويحيي بن معين، ومحمد بن يحيى الذهلي أركان علم الحديث في ذلك العصر، وشيخ سواهم، المتوفى سنة ٢١١ عن ٨٥ سنة: أكان له فقه ؟ فقال الإمام أحمد: ما أقل الفقه في أصحاب الحديث. كما في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ۱ : ۳۲۹، في ترجمة (محمد بن يزيد المستملي).
وقال الحافظ أبو عُمر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ٢ : ١٦٠ ، تعقيباً على قول الإمام أحمد: من أين يَعرِفُ يحيى بن معين الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي، ولا يعرفُ ما يقول الشافعي. قال أبو عمر: صَدَق أحمد بن حنبل رحمه الله: إن ابن معين كان لا يعرفُ ما يقول الشافعي. وقد حكي عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال حدثنا ابن زهير، قال : سُئل يحيى بن معين وأنا حاضر عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها؟ فقال: سَلْ عن هذا أهل العلم. وسيأتي شاهد آخر لعدم معرفته بالفقه في هذا، ولا شك في يُسر الرواية بالنظر لمن توجه للحفظ والتحمل والأداء، وآتاه الله حافظة واعية، فلهذا كان المتأهلون للرواية أكثر جداً المتأهلين للفقه والاجتهاد.
روى الحافظ الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ص ٥٦٠، بسنده عن أنس بن سيرين، قال: أتيتُ الكوفة، فرأيتُ فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربع مئةٍ قد فَقُهُوا». انتهى. وفي هذا ما يَدلُّ على أن وظيفة الفقيه شاقة جداً، فلا يكثر عدده كثرة عدد النقلة الرواة، وإذا كان مثلُ يحيى القطان، ووكيع بن الجراح، وعبد الرزاق، ويحيى بن معين، من وأضرابهم، لم يجرؤا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه فما أجرأ المدعين للاجتهاد في عصرنا هذا؟! مع تجهيل السلف بلا حياء ولا خَجَل ! نعوذُ بالله من الخذلان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق