حكم بيع العينة في الفقه الإسلامي المقارن وتطبيقاته المعاصرة
محمد خالد منصور
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا البحث يتناول مسألة مهمة من مسائل المعاملات المالية، وهي بيع العينة، وهو أن يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها البائع نفسه بثمن حال أقل منه، ويكون الفرق هو فائدة المبلغ الذي أخذه عاجلاً. وذلك لغرض تحصيل النقود، التي لم يستطع تحصيلها بالاقتراض. فهو قرض في صورة بيع لاستحلال الفضل والزيادة. وبيع العينة نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربا وإن كان في صورة بيع وشراء.
وقد هدف البحث إلى تصوير هذه المسألة، وبيان خلاف الفقهاء فيها، وعرض الأدلة ومناقشتها مناقشة موسعة، وقد خلص البحث إلى أن بيع العينة محرم كما هو قول الجمهور، وأنه تحيل على الربا.
ثم عرض البحث إلى جملة من التطبيقات المعاصرة لمفهوم العينة مبيناً تحقق مناط العينة فيها.
وقد جاء البحث في مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة على النحو الآتي:
أولاً: مفهوم بيع العينة لغةً واصطلاحاً:
ويمكن القول إن بيع العينة: هو: أن يظهر العاقدان فعل ما يجوز، ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، وبينهما سلعة محللة.
شرح التعريف:
(أن يظهرا فعل ما يجوز): أي إظهار صورة البيع بأي صورةٍ كانت.
(ليتوصلا به إلى ما لا يجوز): أي اتخاذ صورة البيع وسيلة متحيل بها إلى الربا، والاقتراض نسيئة بزيادة، (وبينهما سلعة محللة)؛ لبيان إرادة التحيل.
ولذلك صور، أشهرها:
أ- أن يبيع البائع سلعة معينة لطالب العينة بمال له عليه في ذمته إلى أجل، ثم يشتريها منه بثمنٍ أقل، ويُسلمه الثمن الأقل.
ب-أن يشتري البائعُ سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها، ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها إلى أجل مسمى، ثم يبيعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذا كذلك عينة.
التفريق بين العينة والتورق:
التورق: هو أن يشتري سلعة من بائعٍ بثمن أعلى، ثم يبيعها لآخر بثمن أقل، بغرض تحصيل النقود. ويفرق الحنابلة بين العينة والتورق: بأن العينة لابد فيها من رجوع السلعة إلى البائع الأول، بخلاف التورق؛ فإنه ليس فيه رجوع العين إلى البائع الأول.
ثانياً: خلاف الفقهاء في حكم بيع العينة:
1- ذهب جمهور الفقهاء (من الحنفية، والمالكية والحنابلة) إلى تحريم بيع العينة، للأدلة الصحيحة الصريحة في تحريم ذلك.
2- وذهب (الشافعية، والظاهرية، وهو وجهٌ عند الحنفية) إلى جوازه، وذلك لتحقق أركانه، ونظراً إلى ظاهر العقد، وأنه لا عبرة بالنية التي لا يمكن تحققها يقيناً.
بينما التورق ففيه خلاف عند الفقهاء؛ فالبعض يذهب إلى إباحته، والبعض يذهب إلى جوازه مع الكراهة، والبعض يذهب إلى التحريم.
ورجح الباحث أدلة القائلين بالتحريم: لأن أدلتهم صحيحة الثبوت، وصريحة الدلالة على تحريم بيع العينة، وأما أدلة القائلين بالجواز لا تخلو من الضعف والإيراد، وأن حقيقة بيع العينة قرض في صورة بيع أريد به التوسل إلى حل الربا، وأن السلعة وسيلة للتوسل للقرض المؤدي للربا، ومعلومٌ أن الفقهاء شددوا النكير على وسائل الربا وذرائعه.
المبحث الثالث: التطبيقات المعاصرة لبيع العينة
والمقصود بالتطبيقات المعاصرة: هي الصور التطبيقية التي يتحقق فيها مناط بيع العينة المحرم، وهي صور كما تقدم حقيقتها قرض مع الزيادة الربوية، وصورتها صورة بيع، ومن هنا فإن بيع العينة في حقيقته تحيل كما تقدم؛ لأنه يتوسل به إلى حصول القرض بزيادة.
الخاتمة: توصل الباحث إلى النتائج التالية:
1-يعرف بيع العينة باعتبارين، باعتبار التمثيل له: هو أن يبيع غيره شيئاً بثمن مؤجل، ويسلم إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن -بأقل من ذلك الثمن نقداً.
2-العينة والتورق يتفقان في تحصيل النقد الحال فيهما، وإن كان الفرق بينهما يظهر في كون العينة لابد فيها من رجوع السلعة إلى البائع الأول، بخلاف التورق؛ فإنه ليس فيه رجوع العين إلى البائع، وإنما هو تصرف المشتري فيما ملكه كيفما شاء.
3-من باع شيئاً إلى أجلٍ ثم اشتراه قبل الأجل نقداً بمثل الثمن أو أكثر منه فلا خلاف بين الفقهاء أنه بيع صحيح، لأنه لا يكون ذريعة للربا، هذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، ولم تتغير.
4-صورة الخلاف في بيع العينة تنحصر فيمن باع شيئاً إلى أجل ثم اشتراه قبل الأجل نقداً بأقل من الثمن الأول.
5-القول الراجح في المسألة: هو رأي الجمهور.. وهو القول بتحريم بيع العينة، وأن العقد باطل، ولا يترتب عليه أثره الشرعي.
6-هناك ضوابط لإرادة التحيل للتوسل لبيع العينة في الصور التطبيقية المعاصرة، ومنها:
أ- أن التحيل هو بفقدان ركن من أركان البيع الصحيح، وهو الإيجاب والقبول حقيقة وإن كان قد بقي صورة، أو بفقدان شرط من شروط البيع الصحيح كتملك السلعة على الحقيقة، أو انتفاء حقيقة التقابض المقصود شرعاً، أو الصورة الشرعية للثمن أو المثمن.
وفي هذه الحالة تأتي هذه الصيغ المعاصرة لكي تعطي المشروعية لهذا المعاملات المعاصرة، مع كون حقيقة هذه الأركان والشروط لم تتحقق على نحو مقصود ابتداء، وهو نوع تحيل وتهرب من الصورة الشرعية على صور أخرى ظاهرها الشرعية يراد منها الوصول إلى مقصود المتعاقد.
ب- أن التحيل يكون بإضمار نية الوصول إلى القرض مع الزيادة، وهو عين الربا، وإظهار صورة شرعية لا يظهر معها التحريم.
ت- أن التحيل يكون باستغلال حاجة طالب القرض وإرغامه واضطراره إلى أن يتعامل بمعاملة ظاهرها الحل، وباطنها التحريم.
ث- أن التعامل في مثل هذه المعاملات الصورية يؤدي إلى انفصام الارتباط بين النقود وعمليات الإنتاج والتبادل؛ لأن النقود ستصبح عندئذ بحد ذاتها مصدراً لتوليد قيمة مضافة، ولكنها غير حقيقية، فإذا منعت تلك المعاملات أضحت القيمة حقيقية، لأنها تتولد في الإنتاج والتبادل.
7-هناك صور تطبيقية يراها بعض الباحثين لبيع العينة، من أهمها:
أ- التورق كما تجريه البنوك الإسلامية صورة من صور بيوع العينة، حيث إن القصد من بيع التورق هو الحصول على النقد، فيتم شراء سلعة مؤجلة السداد لبيعها بقصد الحصول على النقد لفقدان حقيقة البيع، وأركانه الحقيقية وشروطه الواقعية، والباحث يميل إلي القول بالتحريم.
ب- ومن الصور التي قد يقال بأنها أحد صور بيع العينة عقد الإجارة المنتهية بالتمليك كما تجريه بعض البنوك الإسلامية، حيث إنه يتوسل عن طريق عقد الإجارة لمدة إلى تسييل المال، وإقراضه مدة مع الزيادة، ثم تؤول العين المؤجرة إلى المقترض، ببيع رمزي صوري، ويبدو أن صورة العينة تقوى في هذه الصيغة لكون السلعة محللة للثمن المأخوذ وإن كان البعض يعترض بأن السلعة مقصودة لذاتها بخلاف العينة، وهو الذي رجحه الباحث.
ت- لا يعتبر البيع بالتقسيط صورة من صور العينة لاختلاف حقيقة كل منهما.
ث- لا تعتبر المشاركة المنتهية بالتمليك صورة من صور بيع العينة.
ذكر أدلة الفريقين ومناقشتها:
أولاً: أدلة القائلين بالتحريم:
1 - روى ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم).
صحيح، أخرجه أحمد وأبو يعلي في مسنديهما، وأبو داود في سننه، والطبراني وابن القطان وصححه. وقال الحافظ بن حجر في "التلخيص الحبير": رجاله ثقات، وصححه الزيلعي في "نصب الراية". وصحح إسناده الألباني.
* الشاهد من الحديث: ترتيب الوعيد على هذه الأمور يدل على تحريمها، وذكر منها التبايع بالعينة، وهو إرادة إلى الربا عن طريق صورة البيع، والحقيقة إرادة الزيادة المصاحبة للقرض، فكانت العينة محرمة، لأن ما توعد عليه بالعقوبة فهو حرام.
* واعترض على دلالة الحديث على التحريم: بأنه إنما ثبت بدلالة الاقتران، ولا يخفى ما في دلالة الاقتران من الضعف. فاقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر، والاشتغال بالزرع مع أن المذكورات غير محرمة، فدل ذلك على أن بيع العينة ليس محرماً.
ويجاب على هذا الإيراد: بأن دلالة الاقتران عند جمهور الأصوليين ضعيفة - مع أن التحقيق أن دلالة الاقتران على مراتب متفاوتة قوة وضعفًا، فإن الجمع بين المقترنين لفظا، واشتركا في إطلاقه، وافترقا في تفصيله تظهر حينئذ قوة الاقتران، أما إذا تعددت الجمل، واستقل كل واحد منها في الحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كما هو الشأن في حديث ابن عمر - رضي االله عنهما.. وكذلك فإن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم.
كذلك؛ فإننا لو سلمنا حجية دلالة الاقتران: فإن أقل تقدير - في حالة التسليم بحجيته -فهي متأرجحة بين حكم الإباحة والمنع، والمنع مقدم على الإباحة، ولو سلمنا أن حقيقة الترجيح لتساوي دليلي الحكمين تساقطا، وبطل طريق الاستدلال بها، وآل الأمر على طلب الدليل الخارجي، وهو مؤيد لتحريم العينة.
واعترض أيضاً على دلالة الحديث: بأن التوعد بالذل لا يدل على التحريم.
وأجيب بأنه: لا يسلم بأن التوعد بالذل لا يدل على التحريم؛ لأن العزة الدينية والذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن، وقد توعد على ذلك بإنزال البلاء، وهو لا يكون إلا لذنب شديد.. فكيف وقد صرحت عائشة بأنه من المحبطات للجهاد مع رسول الله صلى االله عليه وسلم كما في الحديث التالي وذلك إنما هو شأن الكبائر.
2 - وقالت العالية بنت أيفع بن شرحبيل -زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي البيعي: (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، ثم اشتريته بستمائة درهم نقداً، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب).
ضعيف، أخرجه مالك والدارقطني، وأحمد في مسنده، ورواه البيهقي، وقال الأرناؤوط: في سنده العالية قال الدارقطني: مجهولة، ورده ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله: العالية معروفة روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في الثقات
وجه الدلالة: أن عائشة -رضي االله عنها - جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الجهاد مع رسول االله – صلى الله عليه وسلم -، وأجزية الأعمال لا تعلم بالرأي، فكان مسموعا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم، والعقد الصحيح لا يجازى بذلك، فكان عقدا فاسداً.
واعترض عليه: بأن إسناده إلى عائشة ضعيف، كما ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 332)، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (5/ 317): "رواه الدارقطني والحديث في إسناده العالية بنت أيفع، وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير". وقال الدارقطني: أم محبة، والعالية مجهولتان لا يحتج بهما. وقال: إنها تروي عن عائشة، وروى حديثها أبو إسحاق السبيعي عن امرأته العالية. وذكره الشافعي وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالاً.
* واعترض على الاستدلال: بهذا الحديث بأنه رأي خاص لعائشة.
ويجاب عنه أن مثل هذا لا يقال بالرأي لأن إبطال الأعمال لا يتواصل إلى معرفتها إلا بالوحي، وعليه فيكون له حكم الرفع.
وقال الشافعي: قد تكون عائشة لو كان هذا ثابتاً عنها عابت عليها بيعاً إلى العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم، هذا مما لا نجيزه، لا أنها عابت عليها ما اشترت منه بنقد وقد باعته إلى أجل.
3-عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا).
صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه.
قال الصنعاني في "سبل السلام" (3/ 31): عني أنه إذا فعل ذلك؛ فهو لا يخلو من أحد الأمرين، إما الأوكس الذي هو أخذ الأقل، أو الربا.
وجه الدلالة: لما كان بيع العينة في حقيقته بيعتين في بيعة: بمعنى أنه باعه في البيعة الأولى أجلاً سلعة، ثم بنقده بأقل منه وهي البيعة الثانية قبل التقابض، دخلت في عموم النهي، وهو كونه ربا، فكانت العينة محرمة أيضاً.
واعترض عليه: بأن الإمام الشافعي جعل لهذا النهي تأويلان:
التأويل الأول: أن يقول: "بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيهما شئت، أخذت"، وهذا بيع فاسد لأنه إيهام وتعليق.
التأويل الثاني: أن يقول: "بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك" وعليه؛ فتفسير الشرطين في بيع أو بيعتين بأنه بيع عينة غير متعين.
وأجيب عن تأويل الإمام الشافعي في التأويل الأول: أنه وإن كان مشتملاً على غرر لعدم استقرار الثمن بسبب التعليق فيهما، إلا أنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا توجد صفقتين في هذا البيع، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
وتأويله الثاني وإن اشتمل على غرر لعدم استقرار العقد لوجود التعليق، إلا أنه مجزوم بشرط واحد لا بشرطين، ومجرد عن صورة النهي عن بيعتين في بيعة.
وعليه: فإن أرجح تفسير لمعنى الحديث الذي لا معنى له غيره هو تفسيره ببيع العينة، لأن فعله لا يخلو من أحد الأمرين: إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول، وهو أوكسهما، فدل على أن الظاهر من الحديث ما كان في ظاهره بيعا، وفي حقيقته ربا.
4-عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن)
صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومالك وأحمد والبيهقي وعبد الرزاق، واللفظ للنسائي، قال ابن حجر في بلوغ المرام: "وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم"، وحسنه الألباني.
وجه الدلالة: أن بيع العينة فيه سلف وبيع، وفيه شرطان في بيع واحد، فكان داخلا في عموم النهي، وبيع العينة أحد أفراد العموم الذي يتحقق فيه مناط التحريم، فكان محرماً.
5-أن بيع العينة فيها صورة البيع، وحقيقة القرض، وهذا أصبح في معنى قرض جر نفعاً، وهو حرام.
ثانياً: استدل المجيزون بأدلة، منها:
1-عموم قوله تعالى: {وأحل االله البيع وحرم الربا} (البقرة: 275)، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (الأنعام: 119).
وجه الدلالة: أن االله سبحانه وتعالى أحل لنا البيع الصحيح المتضمن للإيجاب والقبول، فالبيع حلال بنص القرآن، ولم يأت تفصيل تحريمها في كتاب الله ولا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم، وقد توافر الإيجاب والقبول الصحيحين، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لم يصرح بها، فيكون هذا البيع في ظاهره صحيحا، أن العبرة بعموم الحل، ولا مخرج للحل إلى التحريم.
ويُجاب عن هذا الاستدلال: بأن عموم هذه الآية مخصوصة بما ثبت من أدلة في تحريم بيع العينة، هذا إذا سلم بالعموم، فإن الآية مطلقة.
كذلك فإن البيع الذي أحله الله عز وجل هو المتضمن الإيجاب والقبول الحقيقيين الذي لا حيلة فيهما للتوسل للمحرم، وفي بيع العينة هناك تحيل واضح كما تقدم، فكان الإيجاب والقبول صوريين.
2-بما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: جاء بلال إلى النبي - صلى االله عليه وسلم - بتمر برني (= وهو نوع من التمر أصفر مدور وهو من أجود التمر)؛ فقال له النبي - صلى االله عليه وسلم - (من أين هذا؟).
قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: (أوَّه أوَه عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به) رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري
3-ما روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟) فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين بالثلاثة فقال: (لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.
وجه الدلالة من الحديثين: أنهما يدلان بعمومها في قوله– صلى الله عليه وسلم-: "فبع التمر" و"بع الجمع" على صحة بيع العينة وجوازها ؛ لأن من اشترى منه التمر الرديء هو نفس من باع عليه التمر الطيب، فرجعت دراهمه إليه، ولم يفصل في مقام الاحتمال بين أن يبيعه ممن باعه أو من غيره، ولم يفصل أيضاً بين أن يكون القصد التوصل إلى شراء الأكثر أو لا، فدل ذلك على صحة البيع مطلقاً سواء من البائع أو من المشتري؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
ويُجاب عليه: بأن (بع التمر) هذا اللفظ غير عام، بل هو لفظ مطلق، والأمر المطلق إنما يقتضي صحة البيع؛ لأن البيع الباطل غير مأذون فيه، والأمر المطلق يكتفى للعمل به صورة واحدة، وعلى هذا الأساس يكون عاماً في البيع على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، وهو معنى المطلق، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفا وشرعاً.وعلى اعتبار صحة القول بالعموم فإنه مخصوص بالأدلة الصحيحة على تحريم بيع العينة.
4-الإجماع على جواز البيع من البائع بعد مدة لا لأجل التوصل إلى عوده إليه بالزيادة؛ لأنه لو قال: "أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها، وأمهلك شهراً" فهو غير جائز، بخلاف ما لو قال: "أسلفني دراهم، وأنظرني بها شهراً" جاز، ولا فرق بين الصورتين إلا اختلاف لفظ القرض، وقصده.
ويجاب عليه: بأن الاستدلال بالإجماع، كان في محل صحيح، وهو البيع الصحيح، وأما صورة بيع العينة فهي محرمة، بالنصوص المتقدمة، وهي غير داخلة في محل الإجماع.
5-القياس كما لو باعه من غير البائع بأقل من الثمن أو منه بمثل الثمن الأول، أو أكثر بجامع قيام الملك في كلٍّ.
أما الاستدلال بالقياس، فهو قياس مع الفارق؛ لأن ما ذكروه لا يتحقق فيه معنى الملكية إلا مع حصول التحيل، وأن قيام الملك لا يبيح المحظور، ثم هو قياس في مورد النص الثابت، ودلالته على تحريم العينة صريحة، ولا اجتهاد في مورد النص قطعي الثبوت والدلالة.
ويُرجح الباحث في هذه المسألة القول بتحريم بيع العينة، وأن العقد باطل، ولا يترتب عليه أثره الشرعي، وذلك للأمور التالية:
1-أن أدلة القائلين بالتحريم صحيحة ثبوتا وصريحة دلالة على تحريم بيع العينة، وأن أدلة القائلين بالجواز لا تخلو من الضعف والإيراد كما تقدم.
2-أن حقيقة بيع العينة قرض في صورة بيع أريد به التوسل إلى حل الربا، وأن السلعة وسيلة للتوسل للقرض المؤدي للربا، وقد شدد الفقهاء النكير على وسائل الربا وذرائعه.
3-أن إرادة المكلف من هذا البيع لها أثر في تحريم هذا البيع، فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل تسويغ القرض بربا كان محرما.
4-فإنه من المعلوم أن العينة من يستعملها إنما يسميها بيعا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد عدا إلى المعاملة، وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومكر وخديعة الله تعالى.
5-أن قوله - صلى االله عليه وآله وسلم – "إنما الأعمال بالنيات" أصل في إبطال الحيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق