أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 يونيو 2022

السيرة النبوية الشريفة السيرة النبوية دروس وعبر د. مصطفى السباعي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

السيرة النبوية الشريفة

السيرة النبوية دروس وعبر

د. مصطفى السباعي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

          تمهيد/ تعتبر السيرة النبوية هي الترجمة العملية لما جاء في كتاب الله عز وجل من أوامر ربانية وتكاليف شرعية، وللسيرة النبوية مزايا كثيرة فقد تميزت بالوضوح والتدرج والواقعية والشمول، ثم إن مصادرها صحيحةٌ أيضاً، فنجد أن بعضها مقتبس من القرآن الكريم، وبعضها الآخر مستمدٌ من السنة النبوية المطهرة والشعر العربي والكتب المدونة في السيرة.

وهي سيرة واضحة تحدثنا عن سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في أدق تفاصيل حياته، ثم من البعثة إلى الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة، ثم استقراره في المدينة، والأسس التي قام عليها المجتمع المدني، ثم تبين لنا ما جرى من الأحداث والمعارك التي كان أولها بدر الكبرى، ثم أحد، ثم بني النضير، يليها الأحزاب، وبني قريظة، ثم الحديبية، وفتح خيبر، ثم مؤتة، يليها فتح مكة، وغزوة حُنين، وآخرها تبوك.

ثم نشهد في هذه السيرة الفصول الأخيرة من حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما تضمنته من الأحداث الثلاثة الكبرى، وهي: حجة الوداع، وبعث أسامة، ثم حادثة الوفاة، وأثرها الكبير على المسلمين.

وقد تكلم هذا الكتاب عن كل هذه الأحداث، وبين كل هذه الأمور باختصار وإيجار، وأنا هنا أختصر هذا الكتاب مرة أخرى، ليتجدد الانتفاع بالكتاب، ويسهل على الدارس الوصول إلى مبتغاه من القيم التربوية والسلوكية والعلمية من السيرة النبوية.

                    أولاً: مزايا السيرة النبوية الشريفة:

1.    أنها أصحُّ سيرةٍ لتاريخ نبيٍّ مُرسل، أو عظيمٍ مُصلح، لأنها وردت إلينا بالأسانيد المتصلة، التي رواها الثقات عن الثقات، بخلاف سيرة غيره من الأنبياء عليهم السلام فقد دخلها الكثير من التحريف والتزييف والتغيير؛ لأنها دونت بعدهم بزمانٍ بعيد، بالإضافة إلى أنها لم تُروَ بسندٍ مُتصلٍ إلى كاتبيها.

2.    أنها سيرة واضحة، فحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة كل الوضوح في كل مراحلها بدايةً من حمل أمه آمنة بنت وهب به، وولادته، ونشأته يتيماً في حجر جده عبد المطلب، ورضاعته في بادية بني سعد، وخروجه في التجارة مع عمه أبي طالب، وزواجه من خديجة، وبعثته، وغزواته، والأحداث الكثيرة المذكورة بتفاصيلها إلى يوم موته ووفاته، بخلاف سيرة غيره من الأنبياء الذين لا نعرف عن نشأتهم إلا القليل جداً.

3.     أنها سيرةُ الإنسان الكامل، الذي أكرمه الله بالرسالة؛ فلم نرى في سيرته ما يخرجه عن طور الإنسانية، لأنه من جنس البشر يأكل ويشرب ويمرض، ولم تُضفي عليه خصائص الألوهية كما فعل اليهود والنصارى مع أنبيائهم، والوثنيون مع أوثانهم.

4.    أنها سيرةٌ شاملة لكل النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتروبية في المجتمع، وشاملة لكافة مراحل الإنسان في طفولته وشبابه وشيخوخته، وشاملة لكافة أدوار التي يتقلدها الإنسان، فهي سيرة القائد والإمام ورئيس الدولة والمحارب والسياسي والمربي والمرشد والزوج والأب والصاحب والصديق، وهذا يجعل من سيرته نموذجاً صالحاً للاقتداء والامتثال لجميع الفئات والطبقات وأصحاب الأدوار المختلفة، وهذه الميزة لا نجدها في سيرة غيره من العظماء الذين برزوا في جانبٍ واحد أو جوانب محدودة فقط.

5.    أنها سيرة واقعية تحكي قضايا وأحداث حقيقية، يقبلها العقل ويشعر بصدقها الوجدان، فهي لم تخرج عن نظام الأسباب التي قدرها الله لعباده، فلم تبدأ سيرته بمعجزة خارقة يضطر معها الجميع إلى الإيمان به دفعة واحدة، بل جاءت سيرته متفقةً مع سنن الله في الكون والحياة، بدايةً من دعوته السرية في مكة، ثم جهره بالدعوة وتعرضه وأصحابه للأذى والحصار والتضييق، ورسمه خطة الهجرة بمنتهى العبقرية، ثم انتقاله إلى المدينة وخوضه المعارك والغزوات، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.

ثانياً: مصادر السيرة النبوية:

تنحصر مصادر السيرة النبوية في أربعة مصادر، وهي:

1-القرآن الكريم: الذي تعرّض لشيءٍ من سيرته صلى الله عليه وسلم، من نشأته وعظيم أخلاقه إجمالاً، وما لقيه من أذى، وعن بعض غزواته كبدر وأحد والحديبية والخندق وفتح مكة وغزوة حُنين، ومعجزاته؛ كالإسراء والمعراج.

2-السنة النبوية الصحيحة: وهي التي تضمنت القسم الأكبر من حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وشمائله، وأعماله، ووقائعه وحروبه.

3-الشعر العربي المعاصر لعهد الرسالة: والتي يمكن أن نستنتج من خلالها الحقائق الكثيرة عن البيئة التي كان يعيش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعارك التي جرت، ومثال ذلك ما كان يُلقيه حسّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة من القصائد، وغيرهما.

4-كتب السيرة النبوية: وقد ألف العلماء في السيرة النبوية الكتب الكثيرة، ومن أهمها "المغازي" لابن إسحاق، و"سيرة ابن هشام"، التي شرحها الإمام السُّهيلي والخشني، بالإضافة إلى "طبقات ابن سعد"، و"تاريخ الطبري"، وتطور التأليف في السيرة في عصرنا الحالي، ما بين نظمٍ ونثرٍ، وما بين مختصرٍ ومُطوَّل.

ثالثاً: حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة (الوقائع التاريخية):

1 – أنه صلى الله عليه وسلم، وُلد في أشرف بيتٍ من بيوت العرب، وفي خير البطون، وفي أشرف قبيلة، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول، عام الفيل، وهذا يُفيد أن شرف النسب أدعى لقبول دعوته واستماع الناس له.

2 – ونشأ -صلى الله عليه وسلم يتيماً، فقد مات أبوه وأمه حاملٌ به لشهرين، وهذا جعله أكثر شعوراً بآلام الضعفاء واليتامى ومنحه رصيداً كبيراً من الرحمة والشفقة والتواضع، ونشأ في بادية بني سعد في أول أربع سنوات من عمره، وتعلم في البادية الفصاحة والقوة والصَّبر، ما جعله مؤهلاً بعد ذلك لمركز القيادة والدعوة، لأن القيادة لا يصلح لها إلا النبيه الذكي ذو القوة والصبر.

3- ولما بلغ ستِّ سنوات ماتت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة؛ فكفله جده عبد المطلب، ثم توفي جده وهو ابن ثماني سنوات، فكفله عمه أبو طالب، واشتغل معه بالتجارة، وهذا يُفيد أن تجارب الداعية بالسفر واختلاطه بالناس وتعرفه على عوائدهم له أثرٌ كبيرٌ في نجاح دعوته.

3 -وكان -صلى الله عليه وسلم -يعمل في أوائل شبابه في رعي الغنم، فكان يرعى لأهل مكة بقراريط يأخذها أجراً على ذلك، وهذا يُفيد أن على الداعية الاعتماد على جهده الشخصي، وأن يكون له مورد شريف يجد منه رزقه وطعامه.

4-ولم يُشارك النبيُّ صلى الله عليه وسلم شباب مكة في لهوهم وعبثهم، ولم يشرب خمراً ولم يسجد لصنم، ولا لعب قماراً، وكان في قومه يُعرف بالصادق الأمين؛ لأمانته ووفائه واستقامته، وهذا يُفيد أن استقامة الداعية في شبابه وحسن سيرته أدعى إلى نجاحه في دعوته إلى الله وإصلاح المجتمع، بخلاف من له ماضٍ سيء فإن ذلك مدعاةٌ للشك في صدقه.

5-ولما بلغ خمساً وعشرين سنة عمل لخديجة في التجارة بمالها، ولما اطلعت خديجة بنت خويلد على كرم أخلاقه بإخبار غلامها ميسرة دعاها ذلك إلى الزواج منه وكانت تكبره بخمس عشرة سنة.

6-وكان -صلى الله عليه وسلم -معروفاً برجاحة عقله وصواب رأيه وكرم أخلاقه، ويشهد لذلك حادثة وضع الحجر الأسود في مكانه حينما اختصمت القبائل، وهو في سن الخامسة والثلاثين، وصان الله به دماء العرب من أن تُسفك بسبب ذلك، وهذا يُفيد أن على الداعية أن يكون له رصيدٌ كبير من المعرفة بتجارب الناس وأخلاقهم وعاداتهم وشؤونهم ما يؤهله لفض النزاعات بينهم، ومخاطبتهم على قدر عقولهم.

6-ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم – تسعةً وثلاثين سنة حُبِّب إليه الخلوة، وكان يتحنَّث الليالي ذوات العدد -مقدار شهر -في غار حراء، وهو جبلٌ في الجانب الشمالي الغربي من مكة، وهذا يُفيد أن الداعية إلى الله تعالى يجب أن تكون له أوقاتٌ يخلو فيها برببه سبحانه، وتتصل فيها روحه بالله جل وعلا، يُصفي فيها نفسه من أخلاقه الذميمة.

رابعاً: السيرة منذ البعثة حتى الهجرة إلى الحبشة:

1.    ولما بلغ أربعين سنة جاءه جبريل عليه السلام، بالوحي من ربه، ونزل عليه القرآن الكريم، وكان أول ما نزل منه {اقرأ} وذلك في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان، وفي ذلك: أم محمداً عليه الصلاة والسلام لم يكن يستشرف للنبوة، ولا يحلم بها، وإنما ألهمه الله تعالى الخلوة للعبادة تهيئةً له لتحمل أعباء الرسالة، وبذلك صار نبياً من عند الله تعالى.

2.    وكان أول من آمن به، وصدقه زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم ابن عمه علي وهو ابن عشر سنين، ثم مولاه زيد بن حارثة، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أول من أسلم به من العبيد بلال بن رباح، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خديج آخر يوم الاثنين، وهو أول يومٍ من صلاته وكانت الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وهذا يُفيد: أن على الداعية أن يهتمَّ بإصلاحه وتقويمه هم أهل بيته وأقرابائه، فيبلغهم دعوة الإصلاح، ليكونوا أول من يناصره ويؤازه ويقف معه.

3.    ثم فتر الوحي بعد ذلك ستة أشهر، فحزن النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم عاد الوحي إليه مرةً أخرى، وأمر النبيُّ بالنذارة، وحمي بعدها الوحي وتتابع، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته سراً يلتمس فيها من الرجال والنساء من عُرف برجحان العقل وسلامة النفس، واستمر على ذلك ثلاث سنين.

4.    ولما بلغ عدد الداخلين في الإسلام ثلاثين نفساً، أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجهر في دعوته؛ فناله الأذى من قريش، وابتدأت مرحلة إيذاء المشركين للمؤمنين الجُدد، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجتمع بمن أسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ليتلو عليهم القرآن ويُعلمهم أحكام الإسلام، وهذا يُفيد: أن على الداعية الاجتماع بأنصاره وأتباعه على فترات منتظمة ليزيدهم إيماناً بدعوته، ويعلمهم طرقها وأساليبها.

5.    اشتدَّ أذى المشركين للرسول وصحابته؛ لكنهم ثبتوا حتى مات منهم من مات تحت العذاب، وعمي من عمي، وحاولت قريش ثني النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن دعوته بالإغراء والتهديد فلم تُفلح، وأشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه المضطهدون أن يهاجروا إلى الحبشة؛ فهاجروا في المرة الأولى اثني عشر رجلاً وامرأتين، ثم لما علموا بإسلام عمر رجعوا، ثم هاجروا للمرة الثانية إلى الحبشة وكان عددهم ثمانين رجلاً، وأحد عشر امرأة، وهذا يُفيد: أن ثبات المؤمنين أمام اضطهاد الأشرار والضالين دليلٌ على صدق الإيمان وقوة المعتقد، وبهذا الثبات تنتصر الدعوات وتتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات.

6.    وابتدأ المشركون فصلاً جديداً من الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحاصروا بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب، وقاطعوهم، ومنعوا عنهم الطعام والشراب، واستمرت هذه المقاطعة ثلاث سنوات، ولقي الناس من ذلك جوعاً وضنك، ثم انتهت المقاطعة بسعي العقلاء من قريش.

خامساً: السيرة من الهجرة من الحبشة إلى الهجرة إلى المدينة:

1. مات أبو طالب عم النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من البعثة، وكان شديد الدفاع عن ابن أخيه، يحوطه من كل جانب، حتى لا تصل إليه قريش بأذى، وفيه: أن الداعية يتخذ من عصبية القبيلة وسيلةً لحمايته وحماية الدعوة.

2. وماتت خديجة رضي الله عنها في تلك السنة نفسها، وكانت تخفف عن الرسول همومه وأحزانه لما يلقاه من عداء قريش، وفيه: أن الزوجة الصالحة المؤمنة تذلل لزوجها الصعاب وتشاركهه همومه وآلامه.

3. ولما اشتد على الرسول كيد قريش وأذاها بعد وفاة عمه وزوجه، توجه إلى الطائف لعله يجد في ثقيف حسن الإصغاء لدعوته والانتصار لها، ولكنهم ردوه، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم، وانطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو في شدةٍ وكرب، وفيه: تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في دعوته، وعدم اليأس من عدم استجابة الناس لها، وهذا دليل على صدق الرسول في دعوته.

4. وفي خضم هذه الأحداث وقعت معجزة الإسراء والمعراج، فأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماوات العلا، وفُرضت عليه الصلاة، ورأى من آيات ربه الكبرى، وفي ذلك: بيان سمو المسلم ووجوب أن يرتفع بروحه وهمته ودعوته فوق أهواء الدنيا وشهواتها، ويُحلق بين الناس بحسن سيرته وعبادته وأخلاقه، وأن الصلاة هي معراج المسلم إلى ربه سبحانه.

5. وفي أثناء مرور الرسول صلى الله عليه وسلم على القبائل في موسم الحج -كعادته في كل عام-أخذ يدعوهم إلى الإسلام، وترك عبادة الأوثان، وبينما هو عند العقبة التي ترمى عندها الجمار، لقي رهطا من الأوس والخزرج، فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا وكانوا سبعة، وفي العام الذي يليه حضر من الأنصار وبايعوه عند الجمرة التي سميت ببيعة العقة الثانية، وكان عددهم سبعين رجلاً، وامرأتين، واختار منهم النبيّ اثني عشر نقيباً يخلفونه في الدعوة لأقوامهم وقبائلهم، وفيه: أن الداعية ينبغي له أن ينطلق إلى تجمعات الناس ونواديهم وأماكن تواجدهم لدعوتهم إلى الخير، لعل الله سبحانه أن يُهيئ له من يستجيب لدعوته.

سادساً: السيرة منذ الهجرة حتى استقراره في المدينة:

1.هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم سراً من مكة إلى المدينة بعدما بايعه أهلها على نصرته واحتواء دعوته، وسعت قريشٌ بأحلافها ورصدت فتيانها للقبض على الرسول صلى الله عليه وسلم وقتله لكنهم لم يفلحو، ونجى الله نبيَّه من كيدهم، وفي ذلك: أن الله عز وجل يكيد لأوليائه ضد أعدائه، وفي قصة الهجرة بيان العناية الإلهية بالرسل والدعاة، ومدافعته عنهم، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خطط للهجرة تخطيطاً محكماً، فرتب كيفية الخروج، وقته بحيث لا يشعر به المشركون، وهيأ الرواحل للسفر، واختار من يصحبه، واستأجر دليلاً يدله على الطريق، ورتب موضوع الاختباء في غار ثور، ومن يأتيه بالطعام هناك.

2.وقد وصل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، واستقبله الأنصار في مشهد مهيب، وكان الرسول وهو في طريقه إلى المدينة قد وصل إلى «قباء» وهي قرية جنوب المدينة، فأسس فيها أول مسجد بني في الإسلام، وأقام فيها أربعة أيام، وفي ذلك: أن المسلمون يفرحون بسلامة الدعاة والمصلحين، ويقفون معهم موقف المؤيد والداعم، وأن أول ما ينبغي الاعتناء به هي المساجد التي يُعبد الله فيها، وتتزكى الأخلاق، وتقوى أواصر المجتمع المسلم.

3. ثم سار النبيُّ صلى الله عليه وسلم من قباء صباح الجمعة إلى المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فبنى مسجداً هناك وأقام أول جمعة في الإسلام، وأول خطبة خطبها في الإسلام، وفي ذلك: إظهار أعظم شعائر الإسلام وهي صلاة الجمعة وذلك في منتصف الطريق إلى المدينة النبوية.

4. ثم سار إلى المدينة، فلما وصلها كان أول عمل عمله بعد وصوله أن اختار المكان الذي بركت فيه ناقته ليكون مسجدا له، وكان المكان لغلامين يتيمين من الأنصار، فاشتراه منهما، وأقام مكانه المسجد النبوي الشريف، الذي كان مركزاً انبعث منه نور الإيمان والتوحيد للناس كافة.

5. ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، فاقتسموا الأموال والمتاع والبيوت، وساد التعاون والتسامح بين المهاجرين والأنصار، وفي ذلك: بيان أقوى مظهر من مظاهر الإخوة الإيمانية بين أبناء المجتمع الواحد، وأن الأخ يحتمل أخاه في سبيل الدعوة، بل ويؤثره على مصالح نفسه، طلباً لرضا الله عز وجل.

6. ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود، وأقرهم على دينهم وأموالهم، في مقابل ألا يغدروا ولا يمالئوا عليه عدواً، وأرسى من خلال هذا الكتاب أو الوثيقة مبادئ السلم المجتمعي والتعاون على حماية المجتمع من الأخطار.

سابعاً: في معارك الرسول الحربية والوقائع التاريخية:

1.ما كاد يستقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى بدأت المعارك الحربية بينه وبين قريش ومن والاها من قبائل العرب.

2. غزوة بدر الكبرى:

وكانت أول تلك المعارك هي (غزوة بدر) وذلك في السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة.

ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد قطع طريق التجارة على قريش، فندب جماعة من أصحابه ليتعرضوا لها، لكن القافلة التي كان يقودها أبوسفيان نجت بعد أن كان أرسل إلى قريش يستنفرها لحماية القافلة.

فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل لاستنقاذ القافلة، في ألف مقاتل، منهم ستمائة دارع (لابس للدرع) ومائة فرس، وسبعمائة بعير، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.

أما المسلمون فكانت عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا، وأكثرهم من الأنصار، ولما علم قريش بنجاة قافلة أبي سفيان صممت على قتال المسلمين، فالتقى الفريقان قرب قليب بدر، ونشبت المعركة التي انتهت بانتصار المسلمين، وهزيمة المشركين.

وقد قتل من المشركين نحو من السبعين، فيهم أشركهم أبو جهل وبعض زعمائهم، وأسر منهم نحو السبعين، ثم أمر بدفن القتلى جميعا، وعاد إلى المدينة، ثم استشار أصحابه في أمر الأسرى، وافتداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمال، ونزل عليه العتاب في ذلك.

الدروس المستفادة من هذه الغزوة: بيان مشروعية معاملة الأعداء بالمثل، كما هو الشأن بيننا وبين الكيان الغاصب، فكما استولت قريش على ديار المسلمين وأموالهم وأراضيهم، وأجبرتهم على تركها والرحيل عنها، فكذلك المسلمون يستحقون أموال المشركين واعتراض قوافلهم وتجاراتهم، مع ملاحظة أن الذين خرجوا لاعتراض القافلة كلهم من المهاجرين ولم يكن فيهم أنصاريٌّ واحد. وأن الله تعالى يحيط عباده المؤمنين بجيش من عنده يؤيدهم ويقاتل معهم، الأمر الذي تكرر في معارك عدة. وأن على القائد استشارة أصحابه كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار عليه الحباب بن المنذر بالنزول قريباً من قليب بدر، ليستفيد من الماء ويحرم منه المشركين، ومشاركة الرسول عملياً في المعركة مع إمكانه أن يدعو على المشركين فيهلكم، وهذا يُعلمنا أن هذا الدين لا ينتصر بالمعجزات فقط، وأنه لا يكفي المسلم أن يقعد في زاوية يدعو على أعداء الله بالهلاك، بل لا بد أن يُخطط ويعمل ويعد إعداداً كافياً للقاء أعداء الله تعالى، فيأتيه النصر.

3.غزو أحد:

وفي يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العام الثالث للهجرة حدثت معركة (أحد)، وسببها أن قريشاً أرادت أن تثأر ليوم بدر، فما زالت تستعد حتى تجهزت لغزو الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل، ثم ساروا حتى وصلوا بطن الوادي من قبل أحد (وهو جبل مرتفع يقع شمال المدينة على بعد ميلين منها) مقابل المدينة، واستشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الخروج إليهم، فأشاروا عليه بقتالهم فلبس لأمته، وتقلد سيفه، وخرج في نحو ألف فارس بينهم مائة دارع.

وفي منتصف الطريق انخذل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول هو وجماعةٌ من المنافقين، وجعل النبيُّ عدداً من الرماة على جبل أحد، وأمرهم ألا ينزلوا عنه، فانتصر المسلمو نفي بداية المعركة على أعدائهم، وقتلوا منهم عدداً.

 ثم لما رأى المسلمون انهزام المشركين انغمسوا في جمع الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة، فانفتل جماعةٌ من الرماة نحو الغنائم وتركوا الجبل، فالتف المشركون من خلف الجبل بقيادة خالد بن الوليد وانقضوا على المسلمين وقتل سبعون من خيار الصحابة، وانتهت المعركة، وقتل من المشركين نحو ثلاثة وعشرين رجلاً.

ومن الدروس المستفادة في هذه المعركة: أن مخالفة أوامر القائد الحازم البصير يؤدي إلى خسارة المعركة، وأن الطمع في الغنائم وغيرها يؤدي إلى الفضل والهزيمة، وأن الأخطاء البسيطة قد تكون نتائجها وخيمة، وأن على القائد ألا يُكره جيشه على القتال إذا كانوا غير راغبين ولا متحمسين للقتال، وفي إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد عزاءٌ للدعاة فيما ينالهم من أذى في سبيل الله في أجسامهم وأموالهم.

4.غزوة بني النضير:

وبينما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسير مع أصحابه في بني النضير، وقد استند إلى جدار من جدرهم، همَّ بعضهم بإلقاء صخرة من ظهر البيت عليه ليقتله، فعلم صلى الله عليه وسلم بذلك، فنهض سريعا متوجهاً إلى المدينة، ولحقه أصحابه.

ثم أرسل إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم محمد ابن مسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بالغدر، ثم أمهلهم صلى الله عليه وسلم عشرة أيام للخروج، ولكن عبد الله بن أبيِّ رأس المنافقين أرسل إليهم ينهاهم عن الخروج، ويعدهم بإرسال ألفين من جماعته يدافعون عنهم، فعدلوا عن النزوح، وتحصنوا في حصونهم.

فخرج إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في جيش المسلمين وقطع نخيلهم، وخذلهم عبد الله بن أبي بن سلول، فاضطر إلى الاستسلام، واشترط عليهم صلى الله عليه وسلم ألا يخرجوا معهم السلاح، ولهم أن يخرجوا معهم من أموالهم ما حملته الإبل، ودماؤهم مصونة، فلما أرادوا الخروج أخذوا كل شيء يستطيعونه، وهدموا بيوتهم كيلا يستفيد منها المسلمون، وساروا، فمنهم من نزل خيبر على بعد مائة ميل من المدينة، ومنهم من نزل في ناحية «جرش» بجنوب الشام، ولم يُسلم منهم إلا اثنان، وفيهم نزلت آيات الحشر.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: أنها كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وأن الله هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم إلى الشام، حيث أول الحشر في حين أن كل الأسباب المادية معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها. وفي هذا بيانٌ لجميع الأمة أن نصر الله قريب، وأن الله عز وجل لا تقف أمام قدرته العظيمة لا الأسباب ولا المسببات، فهو القادر على كل شيء، فعلى الناس أن يؤمنوا به تعالى ويصلحوا أحوالهم، فإذا اتبعوا أمر الله أصلح الله لهم كل شيء، وأخرج أعداءهم من حيث لم يحتسبوا.

5.غزوة الأحزاب:

وتسمى غزوة (الخندق)، وقد وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أنه لما تم إجلاء بني النضير، قدم عدد من حلفائهم إلى مكة والقبائل يدعونها ويحرضونها على قتال الرسول، فأجابت قريش وغطفان، وبنو فزارة وبنو مرة، وأشجع واتجهوا نحو المدينة.

فلما سمع صلى الله عليه وسلم بخروجهم، استشار أصحابه فأشار عليه سلمان بحفر خندق حول المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره وعمل فيه بنفسه، ولما وصلت قريش ومن معها من الأحزاب راعها ما رأت من أمر الخندق، إذ لا عهد للعرب بمثله، وكانت عدتهم عشرة آلاف، وعدة المسلمين ثلاثة آلاف.

وذهب حُيي بن أخطب -أحد بني النضير -إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة يطلب إليه نقض عهد السلم بينه وبين المسلمين، فنقضت قريظة عهدها.

وتمكن نُعيم بن مسعود من تخذيلهم، وأوقع في نفوس كل من الفريقين الشك في الآخر، وأرسل الله على الأحزاب ريحا شديدة في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتمزق خيامهم، فارتحل الأحزاب خائبين لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان نصراً جديداً للمسلمين.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: أن الخديعة في حرب الأعداء مشروعة كما فعل نُعيم بن مسعود، وأن القائد يقبل مشورة أصحابه إن كان فيها مصلحة كحفر الخندق. وقد أنشأ المسلمون في هذه المعركة أول مستشفى إسلامي حربي في المسجد النبوي الشريف شاركت فيه النساء في تطبيب الجرحى ومداواتهم، وكانت رفيدة الأسلمية رئيسة تلك المشفى، وهذا يوضح لنا الدور الهام والأساسي للمرأة في الدعوة الإسلامية.

6.غزوة بني قريظة:

وقد وقعت في السنة الخامسة للهجرة عقب غزوة الأحزاب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى ما انطوت عليه نفوس يهود بني قريظة من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها، وبعد أن أعلنت له إبان اشتداد معركة الأحزاب أنها نقضت عهدها معه، وكاد هذا الأمر أن يقضي على المسلمين جميعاً لولا انتهاء معركة الأحزاب بمثل ما انتهت إليه، ولذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدب هؤلاء الخائنين الغادرين، ويطهر منهم المدينة مقر جهاده ودعوته حتى لا تواتيهم الظروف مرة أخرى، فينقضوا على جيرانهم المسلمين ويبيدوهم كما هي طبيعة الغدر اليهودي اللئيم.

فخرج إليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفرضوا عليهم حصاراً استمر خمسةً وعشرين ليلة، فلما ضاق بهم الأمر نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس، فحكم سعد بأن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم، فنفذ الرسول حكمه، وبذلك قضى على مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته قضاء مبرما في المدينة وما حولها.

ومن الدروس المستفادة: رأينا في هذه المعركة أدب اختلاف الصحابة فيما بينهم، حينما أمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يُصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)؛ فبعضهم أخذ الكلام على ظاهره، وبعضهم فهم أن مراد النبيِّ صلى الله عليه وسلم التعجيل في السير، فمن الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيها: أن جزاء من يهدد أمن المسلمين ويخونهم مع أعدائهم هو القتل والتنكيل ليكون عبرةً لغيره.

7. غزوة الحديبية:

وقعت في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، وكان من أمرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون شيئا، فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين، لا يريد حربا لقريش ولا قتالا، فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حرموا من ذلك ست سنوات.

فلما وصل الحديبية - وهي مكان قريب من مكة - جاءه بعض رجال من خزاعة يسألونه عن سبب قدومه، فأخبرهم أنه لم يأت إلا ليزور البيت ويعتمر، فرجعوا وقالوا لهم: إنكم تعجلون على محمد، لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، وجاءت وفادة قريش تفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرجوع عن مكة.

ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليؤكد لهم الغرض من مجيء الرسول وصحابته، وأبطأ عثمان، فأشيع بين المسلمين أنه قد قتل، فجمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبايعهم عند الشجرة بيعة الرضوان، التي حثهم فيها على الجهاد والقتال، فلما رأوا عثمان قد عاد سالماً لم ينشبوا حرباً.

وأرسلت قريش سهيل بن عمرو ليتم الصلح بينهم وبين المسلمين، وتم هذا الصلح، على ما رغبت قريش، وعلى وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، وأن من أتى من عند محمد إلى مكة لم يردوه، وأن من أتى محمدا من مكة ردوه إليهم، وقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم -هذا الصلح، وتحلل من العمرة، فتبعه المسلمون جميعاً.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة المدينة كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى؛ لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه. ووجوب الامتثال للقيادة الحكيمة والانقياد لأوامرها وإن خالف ظاهر ذلك القياس أو كراهته النفوس.

8.غزوة خيبر:

وكانت في أواخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة، وخيببر هي واحة كبيرة تقع شمال المدينة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمن جانب قريش بالصلح الذي تم في الحديبية، قرر تصفية مشكلة التجمعات اليهودية فيما حول المدينة بعد أن صفى اليهود من المدينة نفسها.

وقد كان لليهود في خيبر حصون منيعة، وكان فيها نحو من عشرة آلاف مقاتل، وعندهم مقادير كبيرة من السلاح والعتاد، وكانوا أهل مكر وخبث وخداع، فلا بد من تصفية مشكلتهم قبل أن يصبحوا مصدر اضطراب وقلق للمسلمين في عاصمتهم (المدينة) ولذلك أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم في أواخر المحرم.

فخرج إليهم في ألف وستمائة مقاتل، منهم مائتا فارس، واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية، وسار حتى إذا أشرف على خيبر وحاصرها.

وبدأت المعركة وفتحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصناً حصناً، إلا الحصنين الأخيرين فقد رغب أهلها في الصلح على حقن دماء المقاتلة، وترك الذرية والخروج إلى أرض خيبر بذراريهم، وألا يصحب أحد منهم إلا ثوبا واحدا، فصالحهم على ذلك، وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم إن كتموا شيئا. وقد بلغ عدد قتلى اليهود في هذه المعركة ثلاثة وتسعين، واستشهد من المسلمين خمسة عشر.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: خبرة المسلمين العسكرية في فرض معادلات جديدة تُظهر قوة الدولة الإسلامية في الميدان، وتلغي كل المخططات التي تحاول النيل من هيبتها، ولذا لما رأت قبائل الجزيرة سقوط خيبر رغم قوتها وكثرتها وارتفاعها، توجهت مباشرةً إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، وبالتالي تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق له من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي.

9. غزوة مؤتة:

كانت في جمادى الأولى للسنة الثامنة من الهجرة، و (مؤتة) قرية على مشارف الشام، وتعرف الآن بـ (الكرك) جنوب شرق البحر الميت، وكان سببها أن الرسول كان قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بُصرى من جهة هرقل، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه فيه إلى الإسلام - وكان ذلك من جملة كتبه التي بعث بها عليه السلام إلى ملوك العالم وامراء العرب بعد صلح الحديبية. فقام ذلك الغساني بضرب عنق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه الأمر إذ لم يقتل له رسول غيره، وجهز لهم جيشاً من المسلمين عدته ثلاثة آلاف مقاتل، وأمر عليهم زيد بن حارثة، وأوصاهم إن أصيب زيد فليؤمروا جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فليؤمروا عليهم عبد الله بن رواحة، وشيعهم الرسول بنفسه، وسار الجيش، حتى بلغهم أن هرقل قد جمع لهم جمعا عظيما، ونزل في أرض البلقاء (قرب عمان) وكان جيش الروم مؤلفا منهم ومن العرب المتنصرة، فتشاور المسلمون فيما بينهم، ورأوا أن يطلبوا من الرسول مدداً، أو يأمرهم بأمر آخر فيمضون له، فانتدب عبد الله بن رواحة الجيش للقتال، وذكرهم بعظيم ثواب الجهاد.

فالتحمت الصفوف وكان أول من قتل زيد بن حارثة، ثم استلم اللواء بعده جعفر بن أبي طالب، فقاتل على فرسه حتى قُتل، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل، ثم اتفق المسلمون على إمرة خالد بن الوليد للجيش - وكانت هذه أول معركة يحضرها في الإسلام- فما زال يستعمل دهاءه الحربي حتى أنقذ الجيش الإسلامي من الفناء، ثم عاد به إلى المدينة، وأطلق الرسول على خادل لقب (سيف الله المسلول).

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: أنها شكلت تهديداً مباشراً لمستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لسقوطها، وفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان، حيث هزت هيبة الرومان في نفوس العرب، وأكسبت المسلمين فرصة للتعرف إلى قوات الروم وأساليبهم القتالية. وهي درس تربوي في احترام القيادة، والامتثال لأمرها لا سيما في حالات الضرورة الملجئة، وفيها أن كل مسلم يتحمل مسؤولياته تجاه أفراد المسلمين، ويتجلى في موقف خالد الذي استطاع أن يدير المعركة، وينقذ المسلمين من معركة تستنزف فيها طاقاته وشبابه.

10. غزوة الفتح (فتح مكة):

وكانت في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، وسببها أن صلح الحديبية أباح لكل قبيلة عربية أن تدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاءت، أو تدخل في عقد قريش، فارتضت بنو بكر أن تدخل في عقد قريش، وارتضت خزاعة أن تدخل في عقد سول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تلك السنة (الثامنة) اعتدت بنو بكر على خزاعة، فقتلت منها نحو عشرين رجلاً، وأمدت قريشاً بني بكر بالمال والسلاح.

فلما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك غضب غضباً شديداً، وجهز لقتال أهل مكة، فخرج من المدينة بعشرة آلاف مقاتل، وانضم إليه من لقيه في طريقه من العرب، وفي الطريق عثروا على أبي سفيان واثنين معه، فأسروهم، وأسلم أبو سفيان أثناء ذلك.

ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة من جميع جهاتها، وأزال الأصنام، وعفا عن محاربة قريش، وسماهم الطلقاء، وجلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند الصفاء، وجتمع الناس لمبايعته على الإسلام، وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن بالظهر على سطح الكعبة.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: تحقق وعد الله بالتمكين لعباده المؤمنين بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس، وبذلوا المهج والأموال والأولاد، وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسباب النصر، وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، وغيرها من سنن الله الكونية.

11. غزوة حُنين:

وكانت في العاشر من شوال للسنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة بأيام، وسببها أن الله لما فتح مكة لرسوله ظن زعماء هوازن وثقيف أن رسول الله سيتوجه إليهم بعد الانتهاء من أمر مكة، فعزموا على أن يبدؤوه بالقتال، فأمروا عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأمرهم أن يسوقوا معهم إلى المعركة أموالهم ونساءهم وأبناءهم ومواشيهم ليكون ذلك أدعى إلى ثباتهم في القتال، وبلغ عدد المقاتلين منهم ما بين عشرين ألفا إلى ثلاثين.

فأعلن رسول الله عزمه على الخروج لقتاله، فخرج كل من كان بمكة؛ أصحابه الذين قدموا معه في المعركة، ومن انضم إليهم بعد ذلك ممن أسلم حديثا وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان في وادي حنين خرجت عليهم هوازن وحلفاؤها في غبش الصبح، فحمل عليهم المسلمون فانكمشوا وانهزموا، فانشغل المسلمون بجمع الغنائم فاستقبلهم المشركون بالسهام فانفرط عقدهم، وفر أهل مكة والمسلمون الجدد، ولكن نفرا من المهاجرين والأنصار ثبتوا حوله، وتكاثر المؤمنون حتى استطاعوا أن ينتصروا كرة أخرى، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وبلغت غنائم العدو مبلغا كبيرا، فرَّقه اولاً على المؤلفة قلوبهم من حديثي الإسلام، ولم يعط منها الأنصار شيئا اعتمادا على إيمانهم وصدق إسلامهم.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: بيان أن النصر لا يكون بكثرة العدد ووفرة السلاح، وإنما يتمثل في العقيدة القوية، والإيمان الراسخ لدى الجيش، ونبذ الفرقة والاختلاف، وعدم الانغماس في الملذات.

12. غزوة تبوك:

تسمى غزوة العسرة، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة. و(تبوك) موضع بين الحجاز وبين الشام، وسببها أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام ضمت قبائل لخم، وجذام، وعاملة، وغسان، وهي من نصارى العرب، وكان قصد هرقل من ذلك، الهجوم على المدينة والقضاء على الدولة الناشئة في جزيرة العرب التي أخذت تتمدد وتتسع.

فندب رسول الله الناس للخروج، وكان الوقت وقت عسر شديد وحر شديد، فانتدب المؤمنون الصاقون عن طيب نفس، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ومعه ثلاثون ألف مقاتل، ومن الخيل عشرة آلاف، وكان هذا أعظم ما رأته العرب حتى ذاك، ثم واصل سيره حتى بلغ تبوك، فأقام فيها نحوا من عشرين ليلة، ولم يلق فيها كيداً، ولم يدخل حرباً، وكانت هذه هي آخر غزواته.

ومن الدروس المستفادة من هذه المعركة: أنها تفسر لنا طبيعة الحرب في الاسلام، فهي ليست عدوانية، ولا استفزازية، ولكنها للدفاع عن الدين والبلاد، وردع المعتدين، ومنعهم عن الأذى والفساد.

ثامناً: أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

أولاً: تحطيم الأصنام:

لقد أنهى نبينا الكريم محمد بن عبد الله مأساة العرب الفكرية التي استمرت زهاء خمسمائة عام أو تزيد من عبادة الأوثان والأصانم، وحرر العقل العربي من أغلال الوثنية وخرافاتها، وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها، وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم لا يخرجون.

قال ابن عباس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده الى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} (الاسراء: 81) فما أشار الى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.

ثانياً: حجة الوداع:

كانت حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، ولما تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحج في تلك السنة، توافدوا إلى الحج من مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا مائة وأربعة عشر ألفاً، وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطتبه الشهيرة التي أعلن فيها المبادئ العامة للإسلام.

ثالثاً: بعث أسامة:

إن آخر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة وحمايتها، ورد غارة المعتدين على الدولة الجديدة والمتربصين بها أن جهز جيشاً الى الشام تحت قيادة أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء من أرض فلسطين، وقد كان في هذا الجيش جميع المهاجرين والأنصار، ومن كان حول المدينة من المسلمين، لم يتخلف منهم أحد.

وفي جعل الرسول قيادة الجيش لأسامة بن زيد وهو شاب في سن العشرين وتحت لوائه شيوخ المهاجرين والأنصار، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهم من هم في سبقهم الى الاسلام، وحسن بلائهم فيه، وتقدمهم في السن والمكانة على أسامة، أن في هذا سنة حميدة من سنن الاسلام في الغاء الفوارق بين الناس من جاه وسنٍّ وفضل، وتقديم الكفء الصالح لها مهما يكن سنِّه ومكانته، وإفساحٌ المجال لكفاءات الشباب وعبقرياتهم.

ثم في رضى هؤلاء العظماء الذين أثبت التاريخ من بعد أن التاريخ لم ينجب مثلهم في عظمتهم وكفاءاتهم، على أن يكونوا تحت إمرة أسامة الشاب، ما يدل على مدى التهذيب النفسي والخلقي الذين وصلوا اليه بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدايته وتربيته وإرشاده.

رابعاً: وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الوحي يخبره بقرب أجله، فودع الناس في حجة الوداع، ولما حانت لحظة مفارقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لبى داعي ربه وغادر هذه الدنيا، ولما أشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب الصحابة جميعاً لهول الكارثة، وزلزلت المدينة زلزالها، حتى أشهر عمر سيفه، ينهى الناس عن قول ذلك، وقال: إنه ذهب للقاء ربه وسيرجع.

حتى دخل أبو بكر على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتيقن من وفاته، ثم خرج الى الناس، فخطب فيهم وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً، فان محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فان الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران: 144).

فلما تلاها أبو بكر أفاقوا من هول الصدمة، وكأنهم لم يسمعوها من قبل، قال أبو هريرة: قال عمر: فوالله ما هو الا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت - أي دهشت وتحيرت - حتى وقعت الى الأرض وما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق